مستخدمة:Nadia Ahmed/التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين

التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين، كتاب من تأليف مارك كورتيس، ترجمة كمال السيد، نشره المشروع القومي للترجمة في 2012.

مقدمة

مقدمة تقول وكالات المخابرات البريطانية إنها حالت دون تنفيذ اثنتي عشرة مؤامرة إرهابية في بريطانيا عبر العقد الماضي، وتدعي أنه كان يوجد بها 2000 إرهابي مشتبه به معروف في 200 شبكة. ويحذر المسؤلون عن محاربة الإرهاب من احتمال وقوع غارات هائلة مذهلة وعمليات إطلاق للنيران وأسر للرهائن ينخرط فيها قتلة محترفون مزودون بالقنابل. والواقع أنه تسهل المبالغة في مدى التهديد الإرهابي لأسباب سياسية – فعلى سبيل المثال، اتهمت المديرة السابقة، بجهاز المخابرات الداخلية ستيللا رمنجتون، الحكومة "بترويع الناس بغية التمكن من إصدار قوانين تقيد الحريات المدنية. لكن من الواضح أن بريطانيا، إلى جانب بلدان غريبة كثيرة أخرى تواجه تهديداً من الجماعات الإسلامية المتطرفة. فقد شكل تفجير القنابل في لندن في يوليو 2005، الذي قتل 52 شخصاً وجرح مايقرب على 700، أسوأ الفظائع الإرهابية التي ارتكبت على الأرض البريطانية وأول هجوم "ناجح يشنه الإسلميون في بريطانيا. وقد أدانت المحاكم البريطانية ما يربو على 80 شخصاً خططوا لقتل مواطنين بريطانيين في أعمال إرهابية. وفي الوقت نفسه، فإن أبرز شخصية عسكرية في بريطانيا أسمت التهديد الذي يشكله التطرف الإسلامي" صراع جيلنا – وأنه ربما يشكل حرب الثلاثين عاماً الخاصة بنا.

وقد كانت الكيفية التي وصلنا بها لهذا الحد موضع بحث وتأمل في وسائل الإعلام. وقدمت إجابات شتى عن كيف "يمكن لمواطنين بريطانيين تربوا في الداخل أن يتحولوا للعنف الإرهابي ويصبحوا مستعدين لتفجير أنفسهم؟" وينحى معلقو الجناح اليميني باللائمة على نحو نموذجي، على الثقافة الليبرالية البريطانية، محاجين بأن القوانين لم تكن متشددة بما يكفي لدحر التطرف، بل ويدعون حتى إن التعددية الثقافية قد حعلت من المستحيل التصدي لأشخاص يدينون بعقيدة مختلفة. لقد تعرضت الحكومة لهجوم واسع منذ 7 يوليو لفشلها على مر السنين في دحر عدد من المتطرفين الإسلاميين في بريطانيا – وأشهرهم أبو حمزة، الخطيب السابق لجامع فنسبري بارك في شمال لندن، الذي سمح له بأن يدعو علانية شباناً مسلمين كثيرين للجهاد العنيف.

ويرى آخرون، وكثيرون منهم من اليسار السياسي أن التهديد الإرهابي أذكته التدخلات العسكرية البريطانية في العراق وأفغانستان وتحيز هوايتهول لإسرائيل في النزاع في فلسطين المحتلة. فلا ريب أن تلك عوامل أساسية، يدركها تماماً المسئولون البريطانيون، ففي ابريل 2005 مثلاً، ذكرت لجنة المخابرات المشتركة في تقرير تم تسريبه في العام التالي، أن النزاع في العراق "فاق خطر الإرهاب الدولي وأنه يواصل تأثيره في الأجل الطويل. ذلك أنه قوى عزيمة الإرهابيين الذين كانوا قد التزموا بالفعل بمهاجمة الغرب وحفز آخرين لم يكونوا كذلك". وقد أعقب هذا تقرير مشترك لوزارتي الداخلية والخارجية بعنوان "المسلمون الشبان والتطرف" جرى تسريبه بدوره وذكر أن هناك "ازدواجاً في المعايير" يتصوره كثيرون من المسلمين في بريطانيا، ممن يعتقدون أن السياسة الخارجية البريطانية في أماكن مثل العراق وأفغانستان وكشمير والشيشان "تعادي الإسلام".

لكن هناك حلقة كبيرة مفقودة في هذا التعليق، فإسهام بريطانيا في صعود التهديد الإرهابي يتجاوز كثيراً تدخلاتها الحالية التي تعد كارثة في الشرق الأوسط. فالقصة الأكثر أهمية التي يسعى هذا الكتاب إلى روايتها، هي أن الحكومات البريطانية، من العمال والمحافظين على حد سواء في سعيها لتحقيق ما يسمى "المصلحة الوطنية" في الخارج، تواطأت عقوداً طويلة مع القوى الإسلامية الممتطرفة، بما في ذلك التنظيمات الإرهابية، فقد تسترت عليها، وعملت إلى جانبها وأحياناً دربتها ومولتها، بغية الترويج لأهداف محددة للسياسة الخارجية. وغالباً ما فعلت الحكومات ذلك في محاولات يائسة للحفاظ على قوة بريطانيا العالمية التي عانت من أوجه ضعف متزايدة في مناطق أساسية من العالم، نظراً لعجزها عن أن تفرض إرادتها من جانب واحد وافتقارها لحلفاء آخرين. ومن ثم فالقصة ترتبط في الصميم بقصة انهيار الإمبراطورية البريطانية ومحاولة الإبقاء على نفوذها في العالم.

وقد أقامت بريطانيا مع بعض هذه القوى الإسلامية، المتطرفة تحالفاً استراتيجياً دائماً لضمان تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأساسية طويلة الأجل. وقد أشار بعض المحللين إلى أن الولايات المتحدة تعهدت أسامة بن لادن والقاعدة، لكن هذه التقارير خلت من الحديث عن دور بريطانيا في تشجيع الإرهاب الإسلامي على الدوام، ولم تجر رواية القصة كاملة مطلقاً. ومع ذلك فقد كان تأثير هذا التواطؤ على صعود التهديد الإرهابي أشد من تأثير الثقافة الليبرالية البريطانية أو الإلهام بالجهاد الذي أثاره احتلال العراق.

وكان أقرب مدى وصلت إليه وسائل الإعلام السيارة لهذه القصة في الفترة التي تلت 7 يوليو مباشرة، عندما كشفت التقارير المتفرقة، الصلة بين أجهزة الأمن البريطانية والمتشددين المتأسلمين الذي كانوا يعيشون في لندن. فقد توارد أن بعضنا من هؤلاء الأشخاص كانوا يعملون عملاء او مخبرين لبريطانيا إبان انخراطهم في أعمال الإرهاب في الخارج. ومن الجلي أن البعض منهم كانت تحميه أجهزة الأمن البريطانية عندما كان مطلوباً من قبل حكومات أجنبية. ذلك جزء مهم لكنه صغير فحسب من صوره أكبر كثيراً تتعلق أساساً بسياسة بريطانيا الخارجية.

لقد تواطأت هوايتهول مع مجموعتين من القوى الفاعلة المتأسلمة كانت لهما ارتباطات قوية ببعضهما البعض. تضم المجموعة الأولى دولاً أساسية راعية للإرهاب المتأسلم، وأهم دولتين منها هما حليفتا بريطانيا الرئيستان اللتان ترتبط معهما لندن بشراكة استراتيجية قديمة العهد – باكستان والسعودية. فقد تستر مخططو السياسة الخارجية بصورة دائمة على سياسة السعوديين والباكستانيين الخارجية، واعتبروا أن هاتين الدولتين حليفتان رئيسيتان حالياً فيما كان يوصف حتى وقت قريب بأنه الحرب على الإرهاب. ومع ذلك، فإن مدى رعاية الرياض وإسلام أباد للإسلام المتطرف في شتى أنحاء العالم يخسف تعهد البلدان الأخرى له، خاصة الأعداء الرسميين مثل إيران وسوريا. وكما سنرى، فقد كانت السعودية، خاصة بعد ازدهار أسعار النفط في 1973 التي دفع بها إلى وضع الدولة عالمية التأثير، مصدر مليارات الدولارات التي تدفقت لدعم قضية الإسلام المتطرف، بما في ذلك المجموعات الإرهابية العاملة في شتى انحاء العالم. ويمكن المحاجة بمثال جيد هو أن القاعدة هي جزئياً من خلق السعودية حليفاً لبريطانيا، نظراً للروابط المباشرة التي قامت بين المخابرات السعودية وبن لادن منذ السنوات الأولى للجهاد ضد السوفيت في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي.

وفي الوقت نفسه، كانت باكستان راعياً رئيسياً لمجموعات إرهابية شتى منذ استيلاء الجنرال ضياء الحق على السلطة في انقلاب عسكري وقع في 1977، فقد أخرج الدعم العسكري بعض الجماعات إلى حيز الوجود، وبعد ذلك جرى تعهدها بالسلاح والتدريب. إن مفجري قنابل 7 يوليو وغيرهم ممن أصبحوا إرهابيين بريطانيين هم جزئياً نتاج لعقود متتالية من الرعاية الباكستانية الرسمية لهذه الجماعات. وحالياً، فإن الشبكات التي تتخذ من باكستان مقراً لها هي التي تمثل أكبر خطر على بريطانيا وتحتل موقع المركز بالنسبة للإرهاب العالمي، وربما أضحت حتى أكثر أهمية من القاعدة، رغم تركيز الإعلام الغربي على بن لادن.

إن كلاً من باكستان والسعودية صنيعتان بريطانيتان، فقد تشكلت السعودية بصورة دموية في عشرينيات القرن الماضي بدعم عسكري ودبلوماسي بريطاني، في حين اقتطعت باكستان من الهند في 1947 بمساعدة المخططين البريطانيين. ويتقاسم هذان البلدان، وإن اختلفا تماماً بطرق كثيره، افتقاراً أسياسياً للمشروعية غير كونهما "دولتين إسلاميتين". وقد كان الثمن الذي تكبده العالم لرعايتهما للصيغ المتطرفة على نحو خاص من الإسلام – والدهم البريطاني لهما – باهظاً جداً حقاً. وفي ضوء تحالفهما مع بريطانيا، لاغرو في أن الزعماء البريطانيين لم يدعوا إلى قصف إسلام أباد والرياض بالقنابل أسوة بكابول وبغداد، حيث إن من الواضح أن الحرب على الإرهاب لاتتم بهذا القصد، وإنما هي نزاع مع أعداء حددتهم واشنطن ولندن بصفة خاصة. وقد ترك هذا قدراً كيراً من البنية الأساسية العالمية للإرهاب سليماً لم يمس، مما يثير مزيداً من الأخطار بالنسبة للعامة في بريطانيا والعالم.

والمجموعة الثانية من القوى الفاعلة المتأسلمة التي تواطأت معها بريطانيا هي الحركات والمنظمات المتطرفة. ومن بين أكثر هذه الحركات نفوذاً التي تظهر طوال هذا الكتاب، الإخوان المسلمون، التي تأسست في مصر في 1928 وتطورت لشبكة لها تأثير على النطاق العالمي، والجماعة الإسلامية اتي تأسست في الهند البريطانية في 1941، وأصبحت قوة سياسية وأيديولوجية كبرى في باكستان. كما عملت بريطانيا سراً إلى جانب حركة دار السلام في اندونسيا، والتي وفرت مرتكزات أيديولوجية مهمة لتطور الإرهاب في هذا البلد. ورغم أن بريطانيا تعاونت أساساً مع الحركات السنية في الترويج لسياستها الخارجية، فإنها لم تنفر في بعض الأوقات من التستر على القوى الشعبية، مثل المتطرفين الشيعة الإيرانيين في خمسينيات القرن الماضي، وقبل الثورة الإسلامية في 1979 وبعدها.

بيد أن بريطانيا شاركت أيضاً في عمليات وحروب سرية إلى جانب تشكيلة من المجموعات الجهادية الصراح، وارتبطت في بعض الأحيان بالحركات التي ذكرناها تواً. وقد روجت هذه الجماعات لأشد جداول الأعمال الدينية والسياسية رجعية، وارتكبت على نحو روتيني فظائع مروعة ضد المدنيين. وقد بدأ التواطؤ من هذا النوع في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، عندما ساندت بريطانيا سراً إلى جانب الولايات المتحدة والسعودية وبسكتان، المقاومة من أجل هزيمة الإحتلال السوڤيتي لهذا البلد. وجرى تقديم دعم عسكري ومالي ودبلوماسي للقوى الإسلامية التي سرعان ما نظمت نفسها وهي تجبر السوڤيت على الإنسحاب، في شبكات إرهابية جاهزة لضرب أهداف غريبة. وبعد الجهاد في أفغانستان، أجرت بريطانيا تعاملات سرية من نوع أو آخر مع متشددين في منظمات إرهابية شتى، ، بما في ذلك حركة أنصار الباكستانية، والجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية، وجيش تحرير كوسوفو، وكانت لها جميعها روابط قوية مع قاعدة بن لادن. وجرى الإضطلاع بعمليات سرية مع هذه القوى وغيرها في آسيا الوسطى، وشمال افريقيا وشرقي أوروربا.

ورغم أن الدعوى التي أقدمها هي أن بريطانيا قد أسهمت بصورة تاريخية في تطور الإرهاب العالمي، فإن التهديد الحالي الذي يواجه بريطانيا ليس ببساطة ارتداد على الأعاقب، حيث أن تواطؤ هوايتهول مع الإسلام المتطرف مستمر، وإن كان في شكل مختلف. فالمخططون لايواصلون علاقاتهم الخاصة مع الرياض وإسلام اباد فحسب، بل يتآمرون أيضاً مع جماعات مثل الإخوان المسلمين في مصر، والشيعة الإسماعيلية في العراق، ويتآمرون في الواقع مع عناصر من طالبان في أفغانستان في مسعى يائس للتصدي للتحديات الكثيرة الراهنة التي تواجه وضع بريطانيا في الشرق الأوسط.

وترجع جذور تعاون بريطانيا مع الإسلام المتطرف كما سنرى في الفصل الأول إلى سياسات فرق تسد التي اتبعت في عهد الإمبراطورية، عندما كان المسئولون البريطانيون يسعون بانتظام إلى تعهد مجموعات إسلامية أو أفراد مسلمين للتصدي للقوى الوطنية الناهضة التي كانت تتحدى الهيمنة البريطانية. فمن المعروف أن المخططين البريطانيين ساعدوا في خلق الشرق الأوسط الحديث إبان الحرب العالمية الأولى وبعدها بتنصيب حكام في أراض أيضاً حددها المخططون البريطانيون. لكن السياسة البريطانية انطوت أيضاً على السعي إلى إعادة الخلافة في قيادة العالم الإسلامي إلى السعودية الخاضعة للسيطرة ال بريطانية، وهي استراتيجية كان لها أهمية هائلة بالنسبة لمستقبل المملكة السعودية وباقي العالم.

وبعد الحرب العالمية الثانية، واجه المخططون البريطانيون خسارة وشيكة للإمبراطورية وصعود قوتين عظيمتين جديدتين، لكنهم كانوا قد عقدوا العزم على الحفاظ على أقصى ما يمكن من النفوذ السياسي والتجاري في العالم. ورغم أن جنوب شرق آسيا وأفريقيا كانا مهيمن بالنسبة للمخططين البريطانيين، أساساً بسبب مواردهما من المواد الهام، فقد كان الشرق الأوسط هو الذي تريد لندن ممارسة نفوذها عليه، بسبب احتياطاته الهائلة من النفط. ومع ذلك، فقد ظهر فيه عدو رئيسي اتخذ شكل القومية العربية الرائجة بقيادة جمال عبد الناصر في مصر، التي سعت للنهوض بسياسة خارجية مستقلة وإنهاء اعتماد دول الشرق الأوسط على الغرب. ولاحتواء هذا التهديد، لم تساند بريطانيا والولايات المتحدة ملكيات وقيادات إقطاعية محافظة موالية للغرب فحسب، وإنما أقامتا أبضاً علاقات سرية مع قوى متأسلمة، خاصة الإخوان المسلمين، لزعزعة استقرار الحكومات ذات النزعة القومية والإطاحة بها.

ومع سحب بريطانيا لقواتها العسكرية من الشرق الأوسط في أواخر الستينيات، اعتبرت قوى متأسلمة مثل النظام السعودي، ومرة أخرى الإخوان المسلمون، قائمة مقامها في الحفاظ على مصالح بريطانيا في المنطقة، لمواصلة زعزعة النظم الشيوعية والقومية، أو "كقوة عضلية تدعم حكومات الجناح اليميني الموالية للبريطانيين. وبحلول سبعينيات القرن الماضي، كانت القومية العربية قد هزمت فعلياً باعتبارها قوة سياسية جزيئاً بفضل المعارضة الأنجلوأمريكية لها، وحلت محلها لحد كبير قوة الإسلام المتطرف الصاعدة، التي اعتبرتها لندن ثانية سلاحاً تحت الطلب لدحر باقيا القومية العلمانية واشليوعية في دول رئيسية مثل مصر والأردن.

وبعد أن أفرغت حرب أفغانستان في الثمانينيات من القرن الماضي تشكيلة من القوى الإرهابية، بما في ذلك القاعدة، بدأ ارتكاب الأعمال الوحشية الإرهابية أولاً في البلدان الإسلامية، ثم في أوروبا والولايات المتحدة في التسعينيات. ومع ذلك، فالأمر الحاسم في هذه القصة هو أن بريطانيا استمرت تعتبر أن بعض هذه الجماعات مفيدة، أساساً بوصفها قوات لحرب العصابات نقوم مقامها في أماكن جد مختلفة على غرار البوسنة وأذربيجان وكوسوفو وليبيا، وهناك استخدمت إما للمساعدة في تحطيم الإتحاد السوڤيتي وتأمين المصالح الكبرى في النفط أو لمحاربة النظم القومية، والتي تمثلت هذه المرة في نظام سلوبودان ميلوسفتش في يوغوسلاڤيا ومعمر القذافي في ليبيا.

وطوال هذه الفترة، وجدت جماعات جهادية ومجاهدون أفراداً ملاذاً آمناً في بريطانيا، وحصل البعض منهم على حق اللجوء السياسي، مع مواصلة الإنخراط في اعمال الإرهاب في الخارج، ولم تتسامح هوايتهول فحسب مع تطور "لندنستان" – العاصمة التي تعمل قاعدة ومركز تنظيم لجماعات جهادية كثيرة، بل وشجعت ذلك – حتى وإن وفر هذا "ضوءاً أخضر" بجكم المر الواقع لذلك الإرهاب. وأظن أن بعض العناصر، على الأقل في المؤسسة البريطانية، سمحت للجماعات المتأسلمة بأن تعمل انطلاقاً من لندن ليس فقط لأنها كانت تقدم معلومات لأجهزة الأمن ولكن أيضاً لأنها كانت تعد مفيدة بالنسبة للسيساة الخارجية البريطانية، خاصة في الحفاظ على شرق أوسط منقسم سياسياً – وهو هدف قديم العهد للمخططين في عصر الإمبراطورية وفيما بعد الحرب – وكرافعة للتأثير على سياسات الحكومات الخارجية.

وقد اعتبرت القوة الإسلامية المتطرفة مفيدة بالنسبة لهوايتهول بخمسة طرق، بصفتها قوة عالمية مضادة تتصدى للأيدولوجيات القومية العلمانية والشيوعية السوڤيتية، في حالتي السعودية وباكستان، وبصفتها قوة عضلية محافظة داخل البلدان لدحر القوميين العلمانيين ومساندة النظم الموالية للغرب، وبصفتها قوة صدام تزعزع استقرار الحكومات وتطيح بها، وبوصفها قائم مقام قوة عسكرية لخوض الحربو، وبوسفها أدوات سياسية لدفع الحكومات للتغيير.

ورغم أن بريطانيا أقامت علاقات خاصة قديمة العهد مع السعودية وباكستان، فإنها لم تقم تحالفاً استراتيجياً مع الإسلام المتطرف في حد ذاته. ففيما وارء هاتين الدولتين، تمثلت سياسة بريطانيا في التعاون مغ القوى المتأسلمة في اعتبارها مسألة تتعلق بفرص تحقق غرضاً معيناً، رعم أنه ينبغي القول إن هذا كان على الأصح تعاوناً منتظماً. ومرة تلو الآخرى، نكشف وثائق التخطيط التي ترفع عنها السرية أن المسئولين البريطانيين كانوا يدركون تماماً أن المتعاونين معهم معادون للغرب وللإمبرالية ولا يتحلون بالقيم الإجتماعية الليبرالية أو أنهم إرهابيون فعلاً. لم تتعاون هوايتهول مع هذه القوى لأنها تتفق معها لكن لمجرد أنها كانت مفيدة في لحظات معينة. ويبدو أن الجماعات المتأسلمة قد تعاونت مع بريطانيا للأسباب نفسها المتعلقة بتحقيق المصلحة الخارجية ولنها كانت تقاسمها نفس الكراهية للقومية الرائجة. وقد عارضت هذه القوى المتأسلمة الإمبريالية البريطانية في الشرق الأوسط مثلما تعارض الإحتلال الراهن للعراق وأفغانستان، لكنها لم تعارض بأية حال السوق الحرة أو السياسات الإقتصادية الليبرالية الجديدة التي تتبعها الحكومات الموالية للغرب التي تساندها بريطانيا في المنطقة.

والأمر الحاسم، هو أن التواطؤ البريطاني مع الإسلام المتطرف ساعد أيضاً في الترويج لهدفين استراتيجيين جغرافيين كبيرين للسياسة الخارجية. الأول هو ضمان النفوذ والسيطرة على موارد رئيسية للطاقة، والتي تعتبر دوماً في وثائق التخطيط البريطانية الأولية الأولى في الشرق الأوسط مثلاً. وقد هدفت العمليات البريطانية لدعم القوى المتأسلمة والإنحياز لها بصفة عامة إلى الإبقاء على حكومات في السلطة أو تنصيب حكومات تتبع سياسات نفطية ودية تجاه الغرب. وكان الهدف الثاني هو الحفاظ على مكانة بريطانيا في نظام مالي دولي موال للغرب. فقد استثمر السعوديون مليارات الدولارات في اقتصادي الولايات المتحدة وبريطانيا ونظمها المصرفية، وبالمثل فإن لبريطانيا والولايات المتحدة استثمارات وتجارة ضخمة مع السعودية، وهذا هو ما يحميه التحالف الإستراتيجي مع الرياض. ومنذ الفترة 73-1975، عندما أجرلا المسئولون البريطانيون سراً طائفة متنوعة من الصفقات مع السعوديين لإستثمار إيراداتهم من النفط في بريطانيا، كما سنرى، كان هناك ميثاق أنجلو أمريكي سعودي ضمني للحفاظ على هذا النظام، مما استلزم غض لندن وواشنطن الطرف عن أي شئ آخر ينفق السعوديون أموالهم عليه. وقد اصطحب هذا من الجانب السعودي، باستراتجية لتمويل القضايا الإسلامية والجهادية و"بسياسة خارجية إسلامية ترمي إلى الإبقاء على أسرة سعود في السلطة".

وفي الترويج لهذه الإستراتيجية، تعاونت بريطانيا بصورة روتينية مع الولايات المتحدة، التي لها تاريخ مماثل من التواطؤ مع الإسلام المتطرف. وفي ضوء انهيار القوة البريطانية، تحولت العمليات الأنجلو أمريكية من أن تكون مشروعات مشتركة حقاً في السنوات الأولى التي أعقبت الحرب إلى مشروعات تشغل فيها هوايتهول مكان الشريك الأدنى منزلة، الذي يقدم عادة القوات المتخصصة السرية في عمليات تديرها واشنطن. وفي بعض الأوقات حلت بريطانيا باعتبارها الذراع السرية في واقع الأمر للحكومة الأمريكية، وقامت بالأعمال القذرة التي لم تكن تستطيع واشنطن القيام بها، أو لاتريد القيام بذلك. وبذكر ذلك، نؤكد أن استخدام بريطانيا للقوى الإسلامية لتحقيق أهداف سياسية يسبق في تاريخه استخدام الولايات المتحدة لها، وأن ذلك يرجع بصورة مستقلة أحياناُ عن واشنطن، وذلك لتحقيق مصالح بريطانية على نحو مستقل، مثل مؤمراتها للإطاحة بعبد الناصر في الخمسينيات أو إقامة لندنستان في التسعينيات.

وليست الحجة التي أسوقها هي أن الإسلام المتطرف أو الجهاد العنيف صنيعة بريطانية أو غربية، حيث إن ذلك يبالغ في تقدير النفوذ الغربي في مناطق مثل الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، حيث شكلت عوامل محلية ودولية كثيرة هذه القوى عبر فترة طويلة. لكن السياسة البريطانية أسهمت في خلق خطر الإرهاب الراهن، رغم أن ذلك امر لا تتوافر الجرأة لذكره في الثقافة البريطانية السائدة. فالمعروف تماماً أن الجهاد ضد السوفيت في أفغانستان في الثمانينات هو الذي ساهم في نشوء الجماعات الإرهابية. وحتى في هذا، تم إعطاء اهتمام بدور الولايات المتحدة السري أكبر كثيراً من الإهتمام بالدور البريطاني. وفيما يتعلق بباقي الحكاية يسود صمت تام عملياً، مماثل للغموض الذي يسود بشان فصول أخرى في السياسة الخارجية البريطانية الحديثة، حيث لايتبدى الكثير غير النوايا النبيلة. والرأي العام البريطانية ليس في وضع جيد ليفهم جذور الإرهاب الحالي، والمؤسسات الحكومية التي تطرح نفسها حامية لنا حقاً التي عرضتنا للمخاطر.

ويستند فهمي للإسلام الراديكالي على تعريف أوليڤر روي، الخبير الفرنسي الذي يحظى باحترام واسع، بأنه يعني عودة المسلمين جميعاً للأحكام الحقيقية للإسلام (وتدعى عادة "السلفية – "درب الأسلاف" – أو"الأصولية") ويعني تشدداً سياسياً يدعو للجهاد بمعنى "الحرب المقدسة" على أعداء الإسلام، الذين يشملون الحكام المسلمين. ويخدد روي التأسلم باعتباره ضرباً من الأصولية المعاصرة التي تسعى من خلال العمل السياسي إلى إقامة دولة إسلامية عن طريق فرض الشريعة الإسلامية أساساً لكافة قوانين المجتمع. ويرى المتأسلمون أن الإسلام ليس مجرد دين، وإنما هو أيديولوجية سياسية ينبغي أن تتدرج في كافة مناحي المجتمع. ومع وضع هذا في الإعتبار، فإنني طوال هذا الكتاب استخدم مصطلحات "الإسلامي الراديكالي" و"المتأٍلم" و"الأصولي" مترادفات بالتبادل. والجهاديون هم الأشخاص الذين انخرطوا في أنشطة عنيفة لإقامة الدولة الإسلامية.

ويصدر هذا الكتاب جزيئاً ثمرة لبحوث استمرت أشهراً كثيرة في المحفوظات الوطنية في لندن، حيث فحصت الملفات البريطانية التي رفعت السرية عنها تجاه بلدان العالم الإسلامي. ربما لايكون البحث من أجل موضوع واسع النطاق كهذا شاملاً مطلقاً، فهناك أيضاً أشياء غير معروفة في السياسة البريطانية في بعض الوقائع المدروسة هنا. وأهيب بالآخرين أن يستكملو الصورة في هذه المجالات.

الفصل الأول - سياسة فرق تسد الإمبريالية

تكمن جذور التعاون البريطاني مع القوى الإسلامية المتطرفة في عالم ما بعد الحرب في سياسات الإمبراطورية. وقد جاءت الخطوة الأولى نحو إقامة الإمبراطورية البريطانية في العالم الإسلامي في 1765 عندما منح إمبراطور المغول في إقليم البنغال الغني، شركة الهند الشرقية البريطانية حق حمع الإيرادات وإدارة العدالة هناك. وبعد ذلك سيطرت بريطانيا على شبه القارة الهندية، وهزمت سلطان تيبو، آخر الحكام الأقوياء الكبار في الهند في فيما وراء الهند، وأصبحت صاحبة نفوذ كبير على المسلمين في العالم. وشملت الإمبراطورية الرسمية، إلى جانب المحميات البريطانية (وهي مستعمرات فيما عدا الإسم حيث كانت بريطانيا تسيطر على الدفاع والعلاقات الخارجية) أكثر من نصف الشعوب الإسلامية في العالم. وقد لاحظ ونستون تشرشل، وكان حينذاك وزير الدولة لشئون الحرب في 1919، أنه مع وجود 20 مليون مسلم في الهند كانت بريطانيا هي أكبر قوة إسلامية.

وكثيراً ما تصادمت الإمبرالية البريطانية مع المسلمين والقوة الإسلامية، وتحدتها بصورة منتظمة الحركات الجهادية، مثل رجال الدين القبليين، أو ممن يسمون بالغزاة، الذين حاربوا بريطانيا خلال الحرب الأفغانية الثانية في 1880، أو الحركة المهدية وهي حركة للإحياء الإسلامي في السودان، نظمت في 1881 انتفاضة ضد الطبقة المصرية الحاكمة واستولت على الخرطوم من الجنرال گوردون البريطاني وأقامت حكماً دينياً مسلحاً. وقد أورد تشرشل في كتابه الأول الذي أصدره في 1899 عن إعادة فتح بريطانيا للسودان، عن الإسلام أنه "لا توجد قوة أكثر رجعية منه في العالم" وأن "الدعوة المحمدية هي عقيدة متشددة مياله للحرب وصابئة". وقد نشأت بعض الحركات الإسلامية كرد فعل مباشر للحكم البريطاني، ومضت اثنتان منها إلى حد أن أًبح لها تأثير جم في تطور الإسلام المتطرف المعاصر إحداهما هي حركة ديوباندي للإحياء الديني السنية والتي سميت باسم مدينة في ولاية أوتار براديش المعاصرة في شمال الهند، حيث تم تأسيس حلقة دراسية أو مدرسة في 1866، جمعت معاً رجال الدين المعاديين للحكم البريطاني في الهند الذين كانوا قد عقدوا العزم على تعزيز التعليم الديني بعيداً عن التأثير المفسد للتغريب. ونشأت منظمة دينية أخرى هي الإخوان المسلمون التي أقمامها في مصر في 1928 حسن البنا وهو معلم يبلغ من العمر اثنين وعشرين عاماً، والذي رفضت أيديولوجيته الإحتلال البريطاني للبلاد والنفوذ الثقافي والسياسي الغربي، داعياً إلى الإلتزام الصارم بالقرآن في كل مناحي حياة البشر.

ولم يخش البريطانيون التطرف الإسلامي فحسب لكنهم خشوا أيضاً من الدعوى لإتحاد لعموم المسلمين، الجامعة الإسلامية، مما ينطوي على إمكانية القيام بعمل إسلامي موحد ضد الإمبراطورية البريطانية. وفي الهند تجسدت الدعوى للجامعة الإسلامية في المحل الأول في حركة الخلافة، التي ظهرت في 1919 بقيادة رجال الدين المسلمين الساعين لتحدي الحكم البريطاني للهند ومساندة الإمبراطورية العثمانية الإسلامية المتداعية بعد الحرب العالمية الأولى. كذلك فإنه بالتضافر مع القوميين الهنود، أصبحت حركة الخلافة لفترة أكبر حركة معارضة للحكم البريطاني منذ تمرد القوات الهندية والمدنيين الهنود في حركة العصيان، أو الحرب الأهلية في 1857.

يد أن الأمر الحاسم هو أن الإمبراطورية البريطانية لم تكن دوماً في حالة موادهة مع القوى الإسلامية، ولكنها حكمت عادة أيضاً من خلالها، بالنيابة عنها. وبعد أن هزمت مدافع ماكسيم البريطانية خلافة سوكوتو الإسلامية في شمالي نيجيريا بصورة وحشية في السنوات الأولى من القرن العشرين، حكم البريطانيون من خلال سلطان سوكوتو، وأمرائه وهيكل الحكومة الإسلامية الذي قام تحت سلطانهم. ووفرت نيجيريا الشمالية نموذجاً "للحكم غير المباشر" مثلما وصفه الحاكم اللورد لوجارد والذي جرى تصديره بعد ذلك لمستعمرات أخرى. وفي السودان، تمت هزيمة الدولة التي أقامتها الحركة المهدية في نهاية المطاف على أيدي البريطانيين في 1898، وبحلول عشرينيات القرن الماضي، أصبحت بريطانيا تعتبر زعيم المهديين، السيد عبد الرحمن، حليفاً يمكن أن يكفل لها ولاء سودانيين كثيرين. وفي مستعمرات ومحميات شتى أخرى، سعت بريطانيا لدعم سلطة إسلامية "تقليدية" كحصن لإستمرار سلطتها، وكثيراً ما سمح باستمرار الشريعة الإسلامية في أشكالها الأكثر اتساماً بالطابع المحافظ. وحتى في الهند التي كان البريطانيون يحكمونها حكماً مباشراً، استمر قانون الأحوال الشخصية الإسلامي، وهو جانب مهم من الشريعة، في الإزدهار. وكانت لهذه الإستمالة للعناصر الإسلامية عواقب عميقة، وهي تساعد في تفسير تقاعس المسلمين في كثير من البلاد الإسلامية التي كان البريطانيون يحكومنها عن الإستجابة لدعوة الإمبراطورية العثمانية في تركيا للجهاد ضد البريطانيين في بداية الحرب العالمية الأولى.

وفي "المباراة الكبرى" للتنافس مع روسيا على النفوذ في آسيا في القرن التاسع عشر، دعمت بريطانيا نظم الحكم الإسلامية المتداعية في المنطقة بعتبارها حاجزاً بين روسيا والهند البريطانية، وهي أهم ممتلكاتها. وسعت بريطانيا بصفة خاصة إلى إبعاد روسيا عن أفغانستان. وبعد ذلك، كان الشواغل استرتيجية في الأساس وتتعلق بوضع بريطانيا "بوصفها دولة عظمى"، وبحلول أوائل القرن العشرين، دلف النفط إلى الصورة، وأحيت السيطرة على الموارد الشاسعة للشرق الأوسط "المباراة الكبرى".

وفي الهند، أقام البريطانيون مئات من دول الأمراء الخاضعة، وكانت هندسية في معظمها، باعتبارها قوات لتحقيق النزعة المحافظة والإستقرار. لكن في الوقت نفسه أغدق الحكم البريطاني للهند رعاية رسمية على القلادة المسلمين الأثيرين في الطائفة، معتبراً الهند المسلمة جزيئاً مصداً للقومية الهندوسية. وطالت المحاجة بأن عملية بناء المعرفة البريطانية بشأن الهند، بما في ذلك البحوث الأكاديمية، كانت طائفية على نحو متعمد، وزادت الفروق بين الهندوس والمسلمين، وبان ظهور المسلمين كفئة، كان جزئياً نتاجاً لخطاب الدولة الإستعمارية. وقد كتب جورج فرنسيس هاملتون، وزير الدولة لشئون الهند، ذات مرة إلى اللورد كورزون الحاكم العام من 1895 إلى 1904 والذي أصبح بعد ذلك نائباً للملك، قائلاً: إنه ينبغي تصميم الكتب الدراسية التي تقوي الفروق بين طائفة وأخرى. وإذا استطعنا تقسيم الهنود المتعلمين إلى قسمين يعتنقان آراء مختلفة على نطاق واسع، فإننا بمثل هذا التقسيم سنقوي مركزنا ضد الهجوم الماكر والمستمر الذي يخلقه انتشار التعليم على نظام حكمنا.

وقد تحدث حركات الإحياء والجهاد الإسلامية الحكم البريطاني في الهند في ا لقرن التاسع عشر، وأسهمت لمدى أكبر في التصوير البريطاني للهند بعبارات دينية، مما فاقم التصورات عن الفروق الطائفي الذي بلغ ذروته في تمرد 1875، والذي كان جزئياً حرباً دينية. وروجت بريطانيا للطائفية بعد 1875، خالقة دوائر انتخابية ووظائف منفصلة ومحميات تعليمية للمسلمين. وقد أعلن ويليام الفنستون حاكم بومباي في مطلع القرن التاسع عشر أن شعار "فرق تسد هو شعار روماني قديم وينبغي أن يكون شعارنا". وسادت وجهة النظر هذه وأصبحت حجر الزاوية في الحكم البريطاني للهند. إذ كتب وود وزير الخارجية في خطاب إلى اللورد الجن، الحاكم العام للهند في 82-1888 يقول:" بقد حافظنا على سلطتنا على الهند بتأليب طرف على آخر وينبغي أن نستمر في القيام بذلك. ومن ثم، يتعين أن تفعل كل ما في وسعك للحيلولة دون أن يتبنى الجميع مشاعر مشتركة". وأبلغ وزير دولة آخر لشئون الهند هو الفيكونت روس، نائب الملك، اللورد دورفن، أن هذا "التقسيم للمشاعر الدينية يحقق الكثير لمصلحتنا"، في حين تنبه موظف مدني بريطاني هو السير جون ستراتش في 1888 إلى:

أن الحقيقة الواضحة هي أن وجود هذه العقائد المتعادية جنباً إلى جنب، من النقاط القوية في وضعنا السياسي في الهند. والصراعات المريرة لأنصار محمد هي بالفعل مصدر قوة لنا وليست مصدر ضعف . . إنهم يشكلون أقلية من السكان صغيرة لكنها نشيطة، ومصالحها السياسية متطابقة مع مصالحنا.

وقد حاج بعض المحللين بأن البريطانيين لم يتبعوا سياسة متسقة ومتماسكة للترويج للكراهية الطائفية باعتبارها سياسة رسمية. قد يصدق هذا، لكن مثلما تنبه فرنسيس روبنسون المتخصص الأكاديمي في شئون الإمبراطورية البريطانية والهوية الإسلامية، فقد ظلت سياسة فرق تسد "ماثلة بقوة في أذهان رجال الإدارة في القرن التاسع عشر". إذ كان صناع القرار البريطانيون براجماتيين، تبنوا سياسة تلائم الظروف المحددة لوقتهم عادة لتحقيق أهداف معينة قصيرة الأجل – وفي هذا، فإن سياسة الترويج للإنقسامات الطائفية تظهر بوتيرة متكررة كثيراً.

خلق شرق أوسط جديد

وصلت هذه الإستراتيجية البريطانية لسياسة فرق تسد الإستعمارية والإعتماد على القوى الإسلامية لتدعيم المصالح الإمبراطورية، إلى ذروتها في الشرق الأوسط إبان الحرب العالمية الأولى، وفيما بعدها. وكان تقسيم المنطقة وتشكيلها على أيدي المسئولين البريطانيين والفرنسيين موضع تعليقات لا تنتهي – وإن تم ذلم بدرجة أقل باعتباره "الإستغلال" البريطاني قديم العهد للإسلام، الذي اتخذ بعدئذ شكلاً جديداً. فقد رأى المخططون البريطانيون أن الشرق الأوسط حاسم لأسباب استراتيجية وتجارية على حد سواء. فمن الناحية الإستراتيجية، كانت البلدان الإسلامية حاجزاً ومصداً مهما أمام التوسع الروسي إلى الطريق البري الإمبراطوري من الهند البريطانية إلى مصر التي يسيطر عليها البريطانيون. لكن النفط كان قد دخل إلى الصورة حينذاك، مع تأسيس شركة النفط الأنجلو إيرانية في فارس في 1908، واكتشاف النفط في العراق بعد ذلك بفترة وجيزة، ودوره متزايد الأهمية لعمل القوات العسكرية خلال الحرب العالمية الأولى، إذ رأى المخططون البريطانيون أن السيطرة على النفط العراقي والفارسي "هدف حربي من المرتبة الأولى بالنسبة لبريطانيا"، كما قال السير موريس هانكي وزير الحرب نحو نهاية النزاع. وبحلول شهر نوفمبر 1918 كتبت هيئة الأركان العامة في بغداد تقول: إن النفط هو قوة المستقبل في العالم".

وقد دعمت السياسة الخارجية البريطانية منذ القرن السادس عشر، الإمبراطورية العثمانية للمسلمين الأتراك، وأقوى كيان إسلامي في العالم غطى في أوج القرن السابع عشر شمال أفريقيا، وجنوب شرق أوروبا وكثيراً من أنحاء الشرق الأوسط. كانت بريطانيا ملتزمة بالدفاع عن "وحدة الأراضي العثمانية" ضد المخططات الإمبريالية الروسية والفرنسية وهو ما انطوى بحكم الأمر الواقع على مساندة الخلافة العثمانية – ادعاء السلطان العثماني بأنه قائد الأمة الإسلامية. وبعد استيلاء بريطانيا على الهند، اعتبرت الإمبراطورية العثمانية مصداً ملائماً لإبعاد المنافسين على امتداد الطريق العسكري والتجاري إلى جوهرة التاج. وكانت لندن تسمي نفسها عادة منقذة السلطان التركي، ففي حرب القرم في 54-1856، وهي واحدة من أكثر المنازعات دموية في التاريخ الأوروبي المعاصر، حاربت بريطانيا وفرنسا نيابة عن العثمانيين ضد روسيا. وكانت "المسألة الشرقية" – الصراع الإمبريالي للسيطرة على الأراضي التي تهيمن عليها الإمبراطورية العثمانية المتداعية – عملية حاولت فيها بريطانيا أساساً الإبقاء على آخر امبراطورية إسلامية كبرى ضد القوى الكبرى المناوئة. وبحلول الوقت الذي قامت فيه تركيا العثمانية باختيارها المصيري بالإنحياز إلى ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، كانت قد أ صبحت بالفعل دولة متداعية لكنها كانت لاتزال تسيطر على أجزاء كثيرة من الشرق الأوسط، بما في ذلك ما يشكل حالياً سوريا والعراق والاردن وفلسطين، التي حكمتها لمدة 400 عام، وبعد هزيمتها، انقشت الدول الأوروبية بقيادة بريطانيا، على جثتها، وقسمتها فيما بينها.

وخلال الحرب العالمية الأولى ناشدت بريطانيا العرب في الشرق الأوسط للإنضمام إليها للإطاحة لبلادهم، مقابل ضمانات بريطانية بالإستقلال فيما بعد الحرب. وذكرت الحكومة البريطانية في إعلانها الصادر في 1914 إلى أهالي فلسطين وسوريا وما بين النهرين العربية، أن: من التقاليد الأساسية للحكومة أن تكون صديقة للإسلام والمسلمين هكذا وأن تدافع عن الخلافة الإسلامية حتى لو كانت خلافة للغزو والعوز مثل الخلافة التركية التي دافعت إنجلترا عنها بالمال والرجال والنفوذ مرات كثيرة . . .لاتوجد أمة بين الأمم الإسلامية تستطيع حالياً الحفاظ على الخلافة الإسلامية سوى الأمة العربية وليس هناك أي بلد أكثر جدارة بمكانتها من البلدان العربية.

وفي مايو 1915، أعلنت بريطانيا أيضاً لشعب الجزيرة العربية أن دين الإسلام، كما يراهن التاريخ، كان على الدوام هو الدين الأكثر احتراماً على نحو مدقق من قبل الحكومة الإنجليزية، وأنه على الرغم من أن سلطان تركيا قد أصبح عدواً، فإن سياستنا القائمة على الإحترام والصداقة تجاه الإسلام تظل بدوت تغيير.

وقد كتب الكثير عن الثورة العربية على الحكم التركي، بما في ذلك الأعمال البطولية التي أضفى عليها طابع رومانسي للورنس العرب وخيانة بريطانيا اللاحقة للضمانات التي قدمتها للعرب بشأن الإستقلال، ولم تكن هذه الضمانات تعني بالنسبة للبريطانيين منح السيادة الوطنية للعرب، وإنما كانت تعني على وجه الحصر السماح بوجود مستشارين بريطانيين لإدارة البلدان لعربية التي لابد وان تصبح محميات بريطانية. ومن الجوانب اللافتة للنظر في استنجاد بريطانيا بالعرب تسترها بالإسلام في وعودها التي قدمتها لحسين بن علي، الذي كان حينذاك حاكماً لمدينة مكة المكرمة، أو الشريف. ووافق محمد، على قيادة ثورة عربية مقابل اعتراف بريطانيا به بعد الحرب حاكماً لأراض شاسعة تمتد من سوريا إلى اليمن الحاليين، وبذا تشمل كل المملكة العربية السعودية المعاصرة. وقد كتبت الحكومة البريطانية إلى حسين في نوفمبر 1914، ذاكرة أنه: إذا ساعد الأمير أي حسين . . . والعرب بصفة عامة بريطانيا العزمى في هذا النزاع الذي فرضته تركيا علينا، فإن بريطانيا العظمى تعد بألا تتدخل بأي طريقة كانت سواء في ا لأمور الدينية أو غيرها . . . وحتى الآن فإننا قد دافعنا عن الإسلام وصادقناه في شخص الأتراك ومن الآن فصاعداً فإن هذا سيكون في شخص العرب النبلاء. ربما يتولى عربي صادق الأصل الخلافة في مكة أو المدينة، ومن ثم فإن الخير قد يتحقق بعون من الله من خضم كل الشر الذي يحدث حالياً.

وكانت هذه الجملة الأخيرة المهمة جداً وعدا بريطانيا بإعادة الخلافة الإسلامية لشبه الجزيرة العربية وجعل الشريف حسين الخليفة الجديد، خلفاً للسلطان التركي. فقد كانت المدينة في السعودية المعاصرة، هي أول عاصمة للخلافة بعد وفاة النبي محمد في القرن التاسع، وعقب ذلك تنازعتها تشكيلة متنوعة من الأسر الحاكمة وأخيراً العثمانيون. لقد وعدت لندن حسين بأن بريطانيا ستضمن سلامة الأماكن المقدسة مكة والمدينة ضد العدوان الخارجي وستعترف بأن حرمتها لا تنتخك. ونبه اللورد كتشنر وزير الحرب في مارس 1915 إلى أنه انتقلت الخلافة للجزيرة العربية، فإنها ستظل لحد بعيد تحت نفوذنا. وكانت السيطرة على ساحل شبه الجزيرة العربية بيد البحرية البريطانية. ذلك أنه عن طريق مناصرة مملكة عربية تحت رعاية بريطانية، تمارس بريطانيا الهيمنة على القيادة الروحية للعالم الإسلامي. والواقع أن بريطانيا كانت تساعد الإسلام في استرداد جذوره والعودة إلى أصوله.

بيد أن بعض المسئولين البريطانيين إبان الحرب وفيما بعدها كانوا يخشون أيضاً من أن الخلافة يمكن استخدامها نقطة تجمع وحشد للحركات المعادية للإستعمار، لتفويض الحكم البريطاني في الهند وفي مصر. وكانوا بصفة خاصة يخشون من احتمال احتمال نشوب حرب إسلامية مقدسة ضد بريطانيا، وهو أمر نادى به السلطان التركي عند دخوله الحرب العالمية الأولى. وينتبه ديفيد فرومكين في تحليله عن الشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الأولى وفيما بعدها، إلى أن القادة البريطانيين كانوا يعتقدون أن الإسلام يمكن التلاعب به واستغلاله بشراء قيادته الدينية أو الإحتيال عليها. كانوا باختصار يعتقدون أن من يسيطر على الخليفة أياً كان يسيطر على الإسلام السني.

وقام الشريف حسين بثورة على الإمبراطورية العثمانية في يونيو 1919، مجنداً قوة عربية صغيرة تضم بضعة آلاف من الرجال لخوض الحرب في منطقة الحجاز، وهي المنطقة الساحلية الغربية من شبه الجزيرة العربية التي تضم مدن جدة ومكة والمدينة. وقد نبه الكاتب جرترود بل، الذي أصبح مهندس تخطيط العراق، إلى أنه مع نشوب القتال في مكة تصبح ثورة الأماكن المقدسة مصدر قوة معنوي وسياسي بالغ الضخامة. بيد أن ثورة حسين لم تحقق سوى انتصارات طفيفة على الجيش العثماني وفشلت في حشد الناس في أي جزء من العالم العربي، رغم انها تلقت مساعدة من البريطانيين بلغت 11 مليون استرليني (نحو 500 استرليني بنقود اليوم). وعمل الضباط البريطانيون مستشارين عسكريين لثورة حسين، وكان أحدهم هو الكولونيل تي. إي لورنس العرب، مساعد فيصل، ابن الشريف حسين، الذي كان قد عين لقيادة القوات العسكرية للأخير.

وقبل نشوب الثورة العربية بشهر، كانت بريطانيا وفرنسا قد اتفقتا سراً على تقسيم الشرق الأوسط بين منطقتي نفوذهما، في اتفاقية سايكس – بيكو، التي سميت بأسمي وزيري خارجية كل منهما. وقد اعترف المسئولون البريطانيون صراحة بهذا النكوص عن الإلتزام بوحدة الأراضي العثمانية – مما قوض دعامة أساسية للسياسة الخارجية البريطانية. فقد كتب لورنس، الذي يفترض أنه المحرر العظيم للعالم العربي، مذكرة مخابرات في يناير 1916 ذكر فيها أن الثورة العربية كانت: مفيدة لنا لنها تتفق مع أهدافنا المباشرة، وهي تحطيم الكتلة الإسلامية وهزيمة الإمبراطورية العثمانية وإشاعة الإضطراب فيها، ولأن الدول التي سيقيمها الشريف حسين لتخلف الأتراك . . . غير ضارة بالنسبة لنا . . . ذلك أن العرب أقل استقراراً من الأتراك. وإذا جرى التعامل معهم على نحو صحيح فسيظلون في حالة تشرذم سياسي، نسيجاً من إمارات صغيرة متنافسة لاتستطيع الإتحاد.

وبعد الحرب كتب لورنس تقريراً قدمه للوزارة البريطانية بعنوان تعمير الجزيرة العربية، حاج فيه بأنه من الملح بالنسبة للبريطانيين وحلفائهم أن يجدوا قائداً مسلماً يستطيع دحر محاولة الإمبراطورية العثمانية تنظيم جهاد ضدهم باسم الخليفة: عندما نشبت الحرب، أضيفت حاجة ماسة لتقسيم الإسلام، وأصبحنا راضين بالبحث عن خلفاء بدلاص من البحث عن رعايا . . . وبخلق حلقة من الدول العميلة تصر هي نفسها على طلب رعايتنا، نأمل في ان نصد وندحر مخططات أي دولة أجنبية بشأن الأنهار الثلاثة العراق في الحاضر والمستقبل. وكانت العقبة الكبرى، من وجهة نظر الحرب، بالنسبة لأي حركة عربية، هي ميزتها العظمى في زمن السلم . . . وقد تم اختيار الشريف حسين بسبب الصدع الذي سيسببه في الإسلام.

كذلك اعترف وزارة الخارجية في حكومة الهند البريطانية بمنافع الإنقسام في الشرق الأوسط، وذكرت أن ما نريده ليس جزيرة عربية موحدة، وإنما جزيرة عربية ضعيفة مفككة، تنقسم إلى إمارات صغيرة بقدر ما يمكن تحت سلطاتنا – لكنها عاجزة عن القيام بعمل منسق ضدنا، وتشكل دريئة ضد قوى في الغرب.

ميلاد التحالف السعودي

عقب الثورة العربية وهزيمة بريطانيا للجيش التركي في كل أنحاء الحكومة البريطانية لم تكن مستعدة إلا للإعتراف بسيطرته على تلك الأخيرة. ونشأت نتيجة لذلك مواجهات بشأن مستقبل الجزيرة العربية بين حسين وصنيعة بريطاني آخر، هو عبد العزيز ابن سعود، وهو أمير كان يمثل قوة صاعدة في وسط الجزيرة العربية استولت قواته على منطقة نجد وعاصمتها الرياض. وانقسم المسئولون البريطانيون حول من يناصرونه قائداً للثورة على الأتراك – فقد كانت حكومة الهند البريطانية تتخوف من رعاية بريطانيا لخليفة عربي يقود العالم الإسلامي بأسره وما يترتب على ذلك ن آثار بالنسبة لمسلمي الهند، ومن ثم فضلت ابن سعود، الذي تقتصر مطالباته على الجزيرة العربية. فعلى النقيض من نزعة حسين السنية القويمة، كان مؤسس العربية السعودية في المستقبل يترأس حركة إحياء سنية محافظة على نحو متطرف، تعرف بالوهابية، أعلنت التزامها الصارم بأحكام الإسلام، وتطورت في القرن الثامن عشر استناداً لتعاليم الفقيه محمد ابن عبد الوهاب، الذي ولد في 1703. وكانت قوات ابن سعود العسكرية تسمى اخواناً، أو ميليشيا من رجال القبائل البدو الذين فقههم معلمون دينيون التزموا بتنقية الإسلام وإقامة الحكومة ايتناداً للشريعة الإسلامية الصارمة. وقدمت بريطانيا بالفعل السلاح والمال لإبن سعود خلال الحرب العالمية الأولى، ووقعت معاهدة معه في 1915 واعترفت به حاكماً لإقليم نجد تحت الحماية البريطانية. وبنهاية الحرب، كان يتلقى دعماً بريطانياً قدره 5 آلاف إسترليني شهرياً. وهو ما يقل كثيراً عن 12 ألف استرليني كان يتم التصدق يها شهرياً على حسين، الذي استمرت الحكومة البريطانية تحابيه في البدء، وتتبدى حقيقة أن بعض المسئولين البريطانيين كانوا يعلقون آمالهم الإستراتيجية على ابن سعود خلال ال حرب في مذكرة كتبها جندي بريطاني، هو النقيب برأي، حول المسألة المحمدية في 1917:

في اللحظة الراهنة فإن الاهتياج محتدم في كل البلدان المحمدية . . . وتؤكد تقارير العملاء وغيرهم . . . الحيوية القصوى لحركة الإسلام العالمية . . . ومن الجوهري ألا تكون أفغانستان هي البلد الذي يتطلع إليه أنصار محمد. ومن ثم يجب أن نخلق دولة أكثر ملاءمة لأهدافنا يتحول إلهيا اهتمام المسلمين. ولدينا فرصة لذلك في شبه الجزيرة العربية.

وفي 1919 استخدمت لندن طائرة في الحجاز لدعم حسين في مواجهة ابن سعود. وكانت جدوى ذلك محدودة، فبعد قبول وقف مؤقت لإطلاق النار في 1920، تقدم إخوان ابن سعود الذين بلغت قواتهم 150 ألفاً بلا هوادة، وبحلول منتصف 1920 كانوا قد كسبوا السيطرة على شبه الجزيرة العربية، بما في ذلك الحجاز والأماكن المقدسة، وهزموا حسين ودانت لهم السيادة في المنطقة. وأقام ابن سعود المملكة العربية السعودية بمذبحة معربدة. ففي فضيحة لفساد الأسرة الحاكمة السعودية، يصف سعيد أبو ريش، ابن سعود بأنه حاكم مستبد فاسق ومتعطش للدماء . . . ألحقت وحشيته الخراب بكل أنحاء الجزيرة العربية، وأنه أرهب اعداءه وذبحهم بلا رحمة. وقد أزهق غزو الجزيرة العربية أرواح نحو 400 ألف شخص، حيث إن قوات سعود لم تكن تأخذ أسرى بل تقتلهم، وهرب ما يربو على مليون شخص إلى البلدان المجاورة. وبعد ذلك، نشبت تمردات كثيرة ضد بيت سعود، تم إخماد كل منها بعمليات قتل جماعية لضحايا أبرياء في معظمهم، بما في ذلك النساء والأطفال، وبحلول منتصف 1920، كان قد تم إخضاع معظم شبه الجزيرة العربية، وجرى أعدام 40 ألف شخص علانية وبتر أطراف 350 ألفاً آخرين، وقسمت البلاد إلى مراكز تحت السيطرة أقارب سعود، وهو وضع سائد حتى الآن إلى حد كبير.

اعترفت بريطانيا بسيطرة ابن سعود على شبه الجزيرة العربية وبحلول 1922، زاد ونستون تشرشل وزير المستعمرات الدعم المقدم له إلى 20 ألف استرليني سنوياً. وفي الوقت نفسه، وصف تشرشل الوهابيين السعوديين بما يشي بأنهم مماثلون لطالبان الحاليين، عندما أخبر مجلس العموم في يوليو 1921 بأنهم متزمتون قساة، ومسلحون جيداً ومتعطشون للدماء، وأنهم يرون أن من واجبهم مثلما هو من إيمانهم، أن يقتلوا كل من لايشاروكونهم آرائهم وجعل أطفالهم ونسائهم عبيداً. وقد جرى إعدام النساء في قرى وهابية لمجرد ظهورهن في الشوارع. وكان لبس زي من الحرير جريمة جنائية. وتم قتل الرجال لتدخينهم للسجائر.

بيد أن تشرشل كتب فيما بعد إن إعجابي بابن سعود كان عميقاً، بسبب ولائه الذي لايتزعزع تجاهنا، وشرعت الحكومة البريطانية في إحكام قبضتها على هذا الولاء. ففي 1917 أرسلت لندن هاري سانت جون فيليبيوهووالد كيم الجاسوس السڤيتي – السعودية حيث بقى هناك حتى وفاة ابن سعود في 1953. وكان دور فيلبي هو التشاور مع وزارة الخارجية حول طرق تعزيز حكم ابن سعود وتوسيع مجال نفوذه. وقد أسلمت معاهدة عقدت في 1917 السيطرة على السياسة الخارجية السعودية لبريطانيا. وعندنا تمردت عناصر من الإخوان الذي يعارضون الوجود البريطاني في البلاد، ضد النظام في 1929، طلب ابن سعود دعم بريطانيا.

وتم ارسال القوات الجوية الملكية وقوات من الجيش الذي يسيطر عليه البريطانيون في العراق، وجرى سحق التمرد في العام التالي. كان ابن سعود يكن تقديراً عالياً لدعم بريطانيا له، خاصة خلال التمرد ومهد هذا الطريق لتطوير العلاقات بين المملكة السعودية والغرب وهو ما أصبح هو جوهر السياسة الخارجية السعودية.

وعقد تدعيم التحالف السعودي البريطاني، قصر ابن سعود دور افخوان على التوعية ومراقبة الأخلاق العامة. لكن قوة الوهابية كانت قد حولت البدو بالفعل إلى مجاهدين يسمو الولاء للأمة عندهم على الإنتماءات اقبلية. وفي ال عقود التالية، كثيراً ما كان يتم الإستشهاد بفتح الإخوان الجهادي لشبه الجزيرة العربية بالسيف والقرآن في عملية التعليم في السعودية. وكان لابد أن تمضي السعودية التي أعلنت في 1932 باعتبارها صنيعة بريطانية في الأساس، إلى العمل باعتبارها الناشر الرئيسي في العالم للإسلام الأصولي، ووفرت مركزاً أيديولوجيا ومالياً لدعوة الجهاد العالمية. والواقع أن الوهابية السعودية وصفت بأنها الأيديولوجية المؤسسة للجهاد الحديث.

وقد وفرت الدول السعودية الجديدة، وسلطتها التي تركز على الأصولية الدينية، لبريطانيا موطئ قدم في قلب العالم الإسلامي، في مكة والمدينة. وعلى نحو أعم، نجحت بريطانيا في تحقيق غرضها في تقسيم الشرق الأوسط وإقامة حلقة من الدول العميلة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. إذ كانت دول الخليج المحيطة بالسعودية، في عدن والبحرين وعمان، جميعها نظماً إقطاعية ترتكن للحماية العسكرية البريطانية. وفي الوقت نفسه، استمرت بريطانيا في استغلال عملائها الآخرين. فقد نصبت فيصل الذي استولى مع الحلفاء على دمشق في 1918 ملكاً على العراق، ومنحت عبد الله وهو ابن الشريف حسين الآخر، لقب ملك على شرق الأردن الذي أصبح مستقلاً تحت الحماية البريطانية في 1923. وأخيراً، كانت هناك فلسطين التي كانت القوات البريطانية قد استولت عليها أيضاً نحو نهاية الحرب. بيد أن بريطانيا كانت هنا ملتزمة بإنشاء ما حدده أرثر بلفور وزير الخارجية في 1917 باعتباره وطناً قومياً لليهود. وفي مؤتمر عقد في أبريل 1920 في منتجع سان ريمو الإيطالي منحت عصبة الأمم التي كانت قد تشكلت مؤخراً لبريطانيا انتداباً لحكم فلسطين.

وقد قال بلفور أيضاً إن ما كانت بريطانيا في حاجة إليه في الشرق الأوسط في السنوات الأولى من القرن العشرين هو ممارسة سيطرة اقتصادية وسياسة أسمى . . . في تعاون ودي لايستم بالمن مع العرب، ولكن تبتغي ممارسته رغم ذلك في الملاذ الأخير. كانت نظم الحكم التي خلفتها بريطانيا دمى، في جوهرها حكومات تلتزم بالقانون والنظام وتتحالف أساساً مع الطبقات التقليدية الحاكمة في البلاد الإسلامية. وبدروهم كان هؤلاء السلاطين والأمراء والملوك الأثيرون يرون أن الحكم البريطاني يوفر لهم حماية ضد مخاطر عدم الإستقرار أو حركات التحرير القومية التي بدأت تنشط، خاصة في العراق.

أسيا الوسطى والعراق

لكن بريطانيا لم تكن تنشئ قوى تطالب بالسلطة باسم الإسلام في شبه الجزيرة العربية فحسب. فكما ذكرنا بالفعل، فإن القادة البريطانيين اعتبروا منذ أواخر القرن التاسع عشر أن إقامة إسلامية من الدول ضروري لصد التوسع الروسي في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وعندما أطاح البلاشفة بنظام الحكم القيصري في ثورة 1917، وقع الحكام الجدد في موسكو معاهدات مع تركيا وفارس وأفغانستان، اعتبرها البريطانيون تهديداً لسيادتهم في المنطقة. وفي الوقت نفسه، كان المسئولون البريطانيون يعتقدون أن حركات الجامعة الإسلامية المعادية للإستعمار في المنطقة تحرضها وتلهمها ألأمانيا مثلما تفعل روسيا. ولإستعادة المبادرة وإعادة تأكيد نفوذها في آسيا، قجمت بريطانيا دعماً سرياً للقوى الإسلامية التي تتحدى النظام السوفيتي الجديد. ففي أغسطس 1918، بعد عام من الثورة الروسية، أرسلت بريطانيا قواتها العسكرية لآسيا الوسطى للقتال لجانب رجال قباسل التركمان والحكومة المتمردة في عشق أباد (عاصمة تركمنستان الحالية) ضد القوات البلشفية التي كانت تتحرك جنوباً. ونبه التخطيط العسكري البريطاني للمهمة إلى أن الضباط يجب أن يصحبهم إذا أمكن أشخاص مؤهلون لإدارة الدعاية المحمدية لصالح الحلفاء، وأن ينبغي بذل كل مسعى لإستغلال المشاعر المعادية للبلاشفة والداعية للإستقلال الذاتي. كان البريطانيون يخشون من أن تنتشر الدعاية السوڤيتية وعملاء السوڤيت في فارس وأفغانستان، وأن تحاول تركيا تقويض مركز بريطانيا في الهند والعراق. وأسفرت تدخلات بريطانيا عن وقف تقدم القوات السوڤيتية في المنطقة، والحيلولة لفترة دون فرض نظام شيوعي هناك.

وفي أبريل 1919 تم سحب القوات البريطانية من آسيا الوسطى، وبدلاً من ذلك قكمت لندن الدعم لجماعات حرب العصابات الإسلامية، التي بزغت عبر المنطقة كلها لمقاومة التقدم السوڤيتي. وشكل هؤلاء المتمردين الذين أسماهم السوفيت باسماشي (العصابات) جزءاً من جيش إمارة بخاري، الحصن الأخير لاستقلال من يتحدثون التركية في آسيا الوسطى، والواقعة أساساً في أوزبكستان الحالية، قرب الحدود مع أفغانستان والصين. وخلال 1919، قدمت الحكومة البريطانية في الهند قوافل الجمال المحملة بالسلاح والذخيرة للباسماشي عن طريق زعمائهم في كابول عاصمة أفغانستان. وبعد استيلاء السوڤيت على مدينة بخاري في 1920، لجأت جماعات الباسماشي للجبال لشن حرب عصابات. وفي العالم التالي، أرسلت موسكو جنرالاً عثمانياً، هو أنور باشا لإبرام معاهدة سلام مع المتمردين، لكنه شرع بعدئذ في تغيير الجانب الذي يقف معه وانضم إليهم. وأعلن الباشا هدفه في إنشاء دولة إسلامية مستقلة – هي تركستان في آسيا الوسطى، وأكسبته رسالته الإسلامية القوية دعم الملالي، الذين التفوا حول قضيته إلى جانب أمير أفغانستان المسلم، وفي الوقت نفسه، أعلنه الروس عميلاً للبريطانيين.

وحققت ثورة أنور باشا بعض النجاح في البداية، لكن حملة سوڤيتية أرسلت في 1922 قتلته ودمرت معظم قواته، رغم أن تمرد الباسماشي طال حتى بلغ حد الملل ولم يتم سحقه نهائياً إلا في 1929. وبعد خمسين عاماً، تدفقت الأسلحة البريطانية وغيرها في 1979 إلى المنطقة، مرة ثانية لدحر تقدم السوڤيت، في الرحب التي نجمت عنه ضد المجاهدين الأفغان، وكانت القوات السوڤيتية عادة تسمي المجاهدين بالباسماشي.

وفي الوقت نفسه، شجعت لندن في العراق، الذي يديره البريطانيون في بعض الأوقات، إما القادة الدنيين السنة أو الشيعة للإبقاء على السيطرة على هذا البلد. فبعد الإستيلاء على بلاد ما بين النهرين من تركيا خلال الحرب العالمية الأولى مارست بريطانيا سيطرة الأمر الواقع على العراق حتى نشوب ثورة 1958.

وتدعمت سلطتها من خلال نخبة حضرية سنية صغيرة، في حين جرى استبعاد السكان الشيعة، ويمثلون نحو 55 في المائة من سكان العراق، بيد أن لبريطانيا أيضاً تاريخ طويل في مساندة الشخصيات الدينية الشيعية في العراق وكذلك في إيران المجاورة فلمدة تربو على قرن بعد 1850، حولت بريطانيا الأموال إلى مئات من رجال الدين في المدن الشيعية المقدسة في النجف وكربلاء بغية ممارسة التأثير عليهم، من خلال آلية للتمويل سميت تركة العودة. وفي 1903، عندما كانت بريطانيا تنفس على روسيا نفوذها في العراق إلى أن تركة العودة وسيلة ممتازة لتشجيع قيام علاقات شخصية ودية قوية مع كبار رجال الدين مما يمكننا من استخدامهم عند الضرورة رافعة للتأثير إن اتبعت فارس سياسة غير ودية أو أظهرت علامات تدل على التعاقد على قرض روسي جديد. وقد تكرر هذا الإستغلال المقترح للقوى الدينية بوصفها رافعة للتأثير في العقود التالية: إذ استخدمت بريطانيا هذه الوسيلة خلال الحرب العالمية الأولى وفيما بعدها في محاولة لدحر جهود العثمانيين لتنظيم حركة جهاد حاشدة ضد الحكم البريطاني في العراق. بيد أن السياسة البريطانية أخفقت، فبحلول 1915 كانت الدعوى للجهاد توجه من كل جامع في العراق، وحشدت القيادة الدينية العلماء، نحو 18 ألف متطوع – وكانت تلك هي المرة الأولى التي قاد فيها الزعماء الشيعة مقاومة مسلحة ضد قوة غربية.

وتم قمع انتفاضة أخرى نشبت في جنوبي العراق بتشجيع من العلماء الشيعة بوحشية على أيدي القوات البريطانية في مطلع 1921، وبعد ذلك بعامين، تم ترحيل القيادة الشيعية إلى إيران. وخلال هذا التمرد، شجع البريطانيون الزعيم الديني للطائفة السنية في العرقا، المعروف بالنقيب، في شخص عبد الرحمن الجيلاني. وكان النقيب نصيراً للإدارة البريطانية للبلاد في وجه التهديد الشيعي، وفي 1920 عينته لندن أول رئيس وزراء للعراق، بينما أصبح جرترود بل صديقاً شخصياً له. بل أن بعض المسئولين البريطانيين اعتبروا النقيب ملكاص محتملاً للعراق، لكنهم في النهاية مالوا إلى جانب فيصل، الذي أقنعوا النقيب بتأييده في نهاية المطاف – وتلك سياسة بريطانية لكسب تأييد مؤسسة الإسلام للحكام الملوك اتبعت أيضاً في أماكن أخرى. وفي يوبيو 1921، اعتمد مجلس الوزراء برئاسة النقيب بالإجماع قراراً بإعلان فيصل ملكاً دستورياً للعراق، وجرى تتويجه في الشهر التالي بعد إجراء استفتاء أِرف عليه البريطانيون أسفر عن تصويت 96 في المائة لصالح توليه العرش – وهو رقم لابد وأنه أثار إعجاب الحكام البلاشفة الجدد في روسيا.

فلسطين والمفتي

تردد صدى تأييد بريطانيا لزعيم السنة في العراق وفلسطين في الوقت نفسه. وكانت خلفية ذلك هي أن الإنتداب الجديد لبريطانيا على فلسطين كان يعتبر حاسماً لتحقيق مصالحها في المنطقة، ويوفر لها موطئ قدم في شرقي البحر المتوسط، ومصداً بين قناة السويس وأعداء محتملين في الشمال، ويفتح طريقاً برياً حالياً لإحتياطات النفط الضخمة في العراق الذي تسيطر عليه بريطانيا. وكانت سياسة هوايتهول المقررة في فلسطين هي تحقيق وعد بلفور وإنشاء وطن للشعب اليهودي، لكن بدون الإضرار بالسكان العرب. وقد كتب الكثير عن أهداف بريطانيا في تنفيذ الوعد. وأعلن رئيس الوزراء ديفيد لويد جورج أن الوعد الذي صدر قبل أسابيع من استيلاء القوات البريطانية على فلسطين من الأتراك في ديسمبر 1917، يهدف لضمان مساندة اليهود في الحرب العالمية الأولى. وتنبه المؤرخ بابرا تاتشمان إلى أن هذا الوعد سمح لبريطانيا بأن تظفر بالأرض المقدسة بضمير مستريح، وكان المخططون البريطانيون قد عقدوا العزم على الإستيلاء على فلسطين في كل الأحوال لكن كان يتعين أن يتوفر لهم مبرر أخلاقي جيد، وتم إصدار الوعد لتمجيد تلك اللحظة الآخذة في الإقتراب. كما اعتبرت بريطانيا أن إنشاء وطن قومي لليهود يحلق سكاناً تابعين يعول عليهم في هذه المنطقة المهمة من الناحية الإستراتيجية، وإبعاد الفرنسيين الذين يسيطرون على سوريا المجاورة عن الأراضي المحيطة بمنطقة قناة السويس والقريبة من شبه الجزيرة العربية.

وقد دام الحكم البريطاني في فلسطين ثلاثين عاماً إلى أن تم الإنسحاب العسكري في 1948. وواجه على نحو مستمر معارضة من السكان العرب الذين كانوا يشكلون الأغلبية، والذين كانوا يخشون أن تجبرهم الهجرة ايهودية المتزايدة عى النزوح، مع تزايد السكان اليهود الذين كانت رؤيتهم الصهيونية هي التجسيد للوطن القومي كما وعدهم به البريطانيون. وانتهى الأمر بإدانة اليهود والعرب على حد سواء للسياسة التي تتبعها لندن بمقتضى الإنتداب. وكانت هذه السياسة إلى حد كبير من صنع ضباط القوات المسلحة والإدارة الإستعمارية في الميدان، وكان بعض منهم يفضل العرب والبعض الآخر يفضل اليهود. ثم كان هناك أولئك الذين قالوا إنهم يكرهونم كليهما على قدم المساواة، مثل الجنرال سير ولاس كونجريف، وهو قائد عسكري بريطاني عالي الرتبة . . . فالعرب واليهود والمسيحيين في سوريا وفلسطين كلهم بهائم على حد سواء. وكلهم جميعاً لايساوون رجلاً إنجليزياً واحداً.

بيد أن الإستراتيجية البريطانية في فلسكين كانت إجمالاً تحابي السكان اليهود طوال العشرينيات والثلاثينيات في رعايتها للهجرة إلى فلسطين. وقد غير هذا التوازن الديموجرافي في فلسطين من 600 ألف عربي و80 ألف يهودي في 1917 إلى مليون عربي و400 ألف يهودي بحلول 1938. وقد حدد الكتاب الأبيض الصادر في 1922 السياسة الأساسية، وهو الكتاب الذي وضعه ونستون تشرشل وزير المستعمرات الذي كان شاغله الأساسي هو ضمان ألا تستطيع أي أغلبية عربية أن تقف في طريق الهجرة اليهودية. إذ عارض تشرشل – وكان طوال عمره صهونياً – بانتظام أية إمكانية لكي يقرر العرب في فلسطين مصيرهم بأنفسهم ويقيموا دولة نيابية. كما اعتبر العرب أدنى منزلة من اليهود الذين زعموا أنهم حققوا الكثير جداً من الناحية الإقتصادية في فلسطين وأنهم جنس أعلى مرتبة من جحافل المسلمين الحاشدة العاجزين عن زراعة الأرض.

بيد أنه في هذا ال سياق الموالي لليهود أساساً عمل البريطانيون أيضاً على بناء قوى دينية عربية للحفاظ على النظام والسيطرة البريطانية في البلد. وتفدرت أول أعمال شغب معادية لليهود في الشوارع يقوم بها العرب في القدس في أبريل 1920، وخلفت خمسة من اليهود وأربعة من العرب قتلى ومئات من الجرحى. وقد حرضت عدة شخصيات قيادية عربية على ما أصبح يعرف بأعمال شغب عيد الفصح، كان من بينها الحاج أمين الحسيني، ابن المفتى الأكبر للقدس، وهو زعيم ديني للعرب. وكان لقب المفتي الأكبر اختراعاً للبريطانيين الذين سعوا لتشجيع سلطة واحدة تمثل مسلمي فلسطين يستطيعون التفاوض معها، ويستطيعون أن يحكموا من خلالها. وأحدث هذا التحرك تحولاً فيما كان يشكل مجرد مسلم صاحب مقام قانوني رفيع إلى قائد للطائفة العربية المسلمة في فلسطين.

وخلال شغب عيد الفصح، عملت السلطات البريطانية على اعتقال الحسيني لقيامه بالتحريض، وحكمت عليه غيابياً بالسجن عشر سنوات، بعد هربوه إلى سوريا. بيد أنه عقب وفاة والده، المفتي الأكبر، اتخذ المفوض السامي البريطاني هربرث صمويل خطوة غير عادية بالعفو عن الحسيني الذي كان يبلغ من العمر آنذاك ستة وعشرين عاماً وعينه مفتياً في أبريل 1921، بشرط أن يعد بالتعاون مع السلطات البريطانية ومن خلاله، أخذ البريطانيون يعملون حينذاك على إضعاف المشاعر العربية المعادية للإستعمار والتصدي لتطور حركة راديكالية شعبية ضد السياسة البريطانية ورعايتها لهجرة اليهود. وترأس المفتي المجلس الإسلامي الأعلى، الذي أقيم برعاية البريطانيين في 1922، باعتباره الهيئة الرئيسية المسئولة عن شئون المسلمين في فلسطين، والذي حظى بنفوذ كبير على النظم القضائية والتعليمية والدينية والسياسية للعرب. ويحاج طوم سجيف في تحليله لفلسطين في ظل الإنتداب البريطاني بأن الحسيني كان مناصراً صريحاً للإرهاب ضد الصهيوينة وأن تعيين البريطانيين له مفتياً لم يخفف من غلوائه، رغم أنه تحول علناً إلى الدعوة لوسائل سياسية مشروعة بدرجة أكبر لدعم القضية العربية.

ونشبت أعمال شغب وهجمات أخرى ضد اليهود في أغسطس 1929، مما أودى بحياة العشرات وجرح المئات، وشاع الإعتقاد بأن الجسيني هو الذي أشعلها في حين امتنعت الشرطة البريطانية عن التدخل. وعقب أعمال الشغب هذه، أصبح العنف والإرهاب السياسي سمة مستمرة وعادية للحياة في فلسطين، واستهدف العرب واليهود على حد سواء، واستهدف من بداية العقد الرابع البريطانيين أنفسهم، حيث استمروا يرعون مزيداً من موجات هجرة اليهود إلى فلسطين.

وفي 1931، عقد الحسيني مؤتمراً إسلامياً في القدس وسافر كثيراً لمختلف أنحاء العالم الإسلامي، لجمع الأموال وحشد التأييد، وكان ذلك على الدوام تحت حماية بريطانية شاملة. وبحلول منتصف الثلاثينيات، وفي ذلك الوقت تطورت حركة الإحتجاج، وشجعت على تنظيم إضراب عام في 1936 وموجة من الإضطرابات الآخرى وأعمال المقاطعة والعنف. ولمدة سنوات ثلاث، استمر تمرد مكتمل الجوانب – وهو أول انتفاضة فلسطينية – متحدياً الجيش البريطاني الذي كان يربو على 50 ألف في البلاد. وسيطر نحو 10 آلاف – 15 ألفاً من المقاتلين العرب المتمردين على كثير من أنحاء الريف واحتلوا كثيرا ً من المراكز الحضرية، وذلك فصل لايظهر كثيراً في كتب التاريخ البريطانية، لكن القوات البريطانية قمعتهم بوحشية، باعتقالات حاشدة، وإطلاق كثيف للرصاص، وقتل عشوائيـ وتدمير مئات البيوت وعقاب جماعي وسجن للآلآف دون محاكمة. وإذ أدرك الحسيني أن الوضع وصل إلى نقطة تحول ولرغبته في البقاء مفتياً، تحول في النهاية إلى ناصرة ال تمرد وقيادته وتبني موقفاً معادياً للبريطانيين تماماً. وعندما قام منصبه رئيساً للمجلس الإسلامي الأعلى. وبعد أن ساندت السلطات البريطانية الحسيني طوال خمسة عشر عاماً، أصبحت حينذاك تحرم حتى أي ذكر لإسمه أو توزيع لصورته. وفر إلى لبنان في 1937، ومن هناك استمر في قادة الإنتفاضة الفلسطينية.

بيد أن بحلول 1939، كان احتمال نشوب حرب مع ألمانيا يلوح في الأفق وشعرت السلطات البريطانية بالحاجة إلى الحفاظ على علاقات طيبة مع الدول العربية ومحالولة استرضاء الفلسطينين. وأعلن رئيس الوزراء نيفيل تشمبرلن في اجتماع وزاري عقد في أبريل 1939 أنه من الأهمية البالغة كسب العالم الإسلامي لصفنا وأنه إذا كان علينا أن نغضب طرف دعونا نغضب غاليهود وليس العرب. وهكذا فإنه بعد هزيمة التمرد بصورة وحشية، أصدرت الحكومة البريطانية كتاباً أبيض في مايو 1939، سلم بكثير من المطالب العربية وحد من الهجرة اليهودية لفلسطين، موفراً للعرب القدرة على الحيلولة دون نشوء أغلبية يهودية. وأثارت هذه السياسة التي فسرها كثيرون بأنها تخل عن وعد بلفور، مرارة اليهود في كل مكان وأدت إلى مواجهة بين اليهود والبريطانيون بعد الحرب.

وبعد عامين من سحق الإنتفاضة، فر الحسيني إلى العراق، حيث ساعد في أبريل 1941 في تدبير مذبحة ضد اليهود خلفت مايربو على 400 يهودي عراقي قتلى خلال الإنقلاب العسكري الذي سانده النازيون على الحكومة الموالية للبريطانيين. ودعا المفي للدهاد ضد البريطانيين، لكن الإنقلاب العراقي انهار بعد تدخل عسكري بريطاني أعاد حكومة موالية للبريطانيين. وحينذاك فر الحسيني مرة أخرى، إلى برلين هذه المرة حيث التقى هتلر وغيره من كبار المسئولين النازيين، وطور علقاات وثيقة من هنريتش هملر رئيس الجستابو. وقد أيد المفتي النازيين طويلاً استناداً لعدائه للسامية ورغبته في تأمين دعمهم لفلسطين، تم إرسال بعض المعونات الألمانية إلى الفلسطيين إبان الإنتفاضة. وأخذ الحسيني حينذاك يساعد النازيين في تجنبد مسلمين من البلقان لتكوين تشكيلة من الشعب الإسلامية من الجتسابو في شرقي أوروبا. ومع وجود مئات الآلآف من الجنود المسلمين في آلة الحرب النازية، تبني هتلر سياسة استخدام الإسلام حصناً ضد اعداء النازي – صربيا وروسيا الأرثوذوكسيتين، وكانت هذه الإستراتيجية صدى لإستخدام البريطانيين للإسلام ضد البلاشفة وكررها البريطانيون والأمريكيون مراراً ضد القوميين في البوسنة وكوسوڤو في التسعينيات.

وفي نهاية الحرب، هرب الحسيني من ألمانيا، ربما بمساعدة الحلفاء، ووضعته السلطات الفرنسية قيد الإعتقال في منزله في فرنسا. ثم هرب إلى مصر، حيث منحه نظام الملك فاروق الموالي لبريطانيا حق اللجوء السياسي، بعد مناشدة من الإخوان المسلمين نيابة عنه. ورفضت لندن الطلبات التي قدمتها الجماعات اليهودية بالحكم عليه باعتباره مجرم حرب خوفاً من أن يزيد التعرض للحسيني، الذي كان لايزال يحظى بالشعبية، القلاقل ضد الوجود البريطاني في مصر. والواقع أن الحسيني بدأ في 1946 يعمل لصالح البريطانيين مرة أخرى، وتشير مصادر إلى أن الوكالة العربية للأنباء، وهي واجهة لإدارة المخابرات الخارجية أقيمت في القاهرة لنشر الدعاية لبريطانيا قد وظفته. وهذكا فإنه بعد نحو ربع قرن من التعاون الأول مع الحسيني، كانت بريطانيا لاتزال مستعدة لإعتبار المفتي أداة للسياسة البريطانية، رغم دوره في الفترة الفاصلة في قيادة التمرد في فلسطين والتعاون مع النازيين. ومن ثم فإن استهداف المصلحة الخاصة في السياسة البريطانية، المجملة رغم كثرة التفاصيل كانت سابقة للإستخدام اللاحق الأكثر إسهاباً للمتأسلمين.

مصر والإخوان المسلمون خلال الحرب

شهدت سنوات الحرب نمواً متواصلاً لحركة الإخوان المسلمين التي تطورت بقيادة حسن البنا إلى حركة جماهيرية متأسلمة. فقد أصبحت جمعية إسلامية في مصر وأقامت فروعاً لها في السودان والأردن وسوريا وفلسطين وشمال أفريقيا. ونادت جماعة الإخوان التي استهدفت إقامة دولة إسلامية تحت شعار القرآن دستورنا بالإلتزام الصارم بأحكام الإسلام وقدمت بديلاً دينياً لكل من الحركات القومية العلمانية والأحزاب الشيوعية في مصر والشرق الأوسط – وهي قوى كانت قد طفقت تصبح بمثابة تحد رئيسي لقوة بريطانيا والولايات المتحدة في المنطقة.

وقد اعتبرت بريطانيا أن مصر مرتكز وضعها في الشرق الأوسط منذ أن أعلنت الحماية على هذا البلد في بداية الحرب العالمية الأولى. وسيطرت الشركات البريطانية على الإستثمار الأجنبي والحياة التجارية في البلاد وأصبحت القاعدة العسكرية البريطانية في منطقة قناة السويس هي الأكبر في العالم عندما حان وقت الحرب العالمية الثانية. بيد أن السيطرة البريطانية على البلاد تعرضت للتحدي من قبل كل من الحركة القومية المتنامية والقوى الإسلامية للإخوان المسلمين، في حين كان حليف لندن في البلادفي نهاية المطاف، هو حاكمها الملك فاروق، الذي تولى العرش في 1936.

وقد دعا الإخوان المسلمون إلى الجهاد ضد اليهود إبان الثورة العربية أعوام 36-1939 في فلسطين، وأرسلوا متطوعين هناك بعد نداء وجهه المفتي، كما ساعدهم ضباط ألمان في بناء جناح عسكري. واعتبرت المنظمة البريطانيين قاهرين إمبراليين لمصر، وأثارت الناس ضد الإحتلال العسكري البريطاني للبلاد، خاصة بعد تمرد فلسطين. وفي السنوات الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، انطوت الإستراتيجية البريطانية إزاء الإخوان في مصر في الأساس على محاولة قمعهم. ومع ذلك، في ذلك الوقت حظى الإخوان الذين تحالفوا مع اليمين السياسي، برعاية الملكية المصرية الموالية للبريطانيين، والتي بدأت تمول الإخوان في 1940، فقد اعتبر الملك فاروق الإخوان معارضاً مفيداً لقوة الحزب السياسي الرئيسي في البلاد – حزب الوفد الوطني العلماني – والشيوعيين. ونبه تقرير للمخابرات البريطانية في 1942 إلى أن القصر بدأ يرى أن الإخوان مفيدون وأضفى حمايته عليهم. وخلال ذلك الوقت، كانت السلطات ترعى كثيراً من الجمعيات الدينية في مصر لمعارضة خصومها أو تعزيز مصالح البريطانيين والقصر ومجموعات أصحاب النفوذ الآخرين.

وتم أول اتصال مباشر معروف بين المسئولين البريطانيين والإخوان في 1941، في وقت رأت في المخابرات البريطانية أن الحشود المناصرة للمنظمة وخططها للتخريب ضد بريطانيا هما أشد خطر يواجه الأمن العام في مصر. وفي ذلك العام، كانت السلطات المصرية قد سجنت البنا تنفيذاً لضغوط بريطانية، ولكن عند إطلاق سراحه فيما بعد في ذلك العام أجرى البريطانيون أول اتصال مع الإخوان. ووفق بعض التقارير، عرض المسئولون البريطانيون مساعدة المنظمة لشراء مساندتها. وكثرت النظريات حول ما إذا كان البنا قبل عرض البريطانيين تقديم المساندة أم رفضه، لكن في ضوء الهدوء النسبي للإخوان لبعض الوقت عقب هذه لفترة، فإنه من المحتمل أن تكون المعونة البريطانية قد قبلت.

وبحلول 1942 كانت بريطانيا قد بدأت على وجه القطع فيتمويل الإخوان. ففي 18 مايو عقد مسئولو السفارة البريطانية اجتماعاً مع أمين عثمان باشا رئيس وزراء مصر، نوقشت فيه العلاقات مع الإخوان وتم الإتفاق عدد من النقاط، كان أحدهما هو أن تدفع الحكومة المصرية سراً الدعم المقدم من حزب الوفد للإخوان المسلمين سراً وأنها ستحتاج في هذا الأمر إلى بعض المساعدة المالية من السفارة البريطانية. المعلومات التي يحصل عليها هؤلاء العملاء. وسنحبط بدورنا الحكومة بالمعلومات المتحصلة من مصادر بريطانية.

كما تم الإتفاق على أنه ينبغي بذل الجهد لإثارة الإنقسام في الحزب باستغلال أي خلافات قد تحدث بين القائدين حسن البنا وأحمد السكري. كما سيقدم البريطانيون للحكومة قائمة بأعضاء الإخوان المسلمين الذين يعتبرونهم خطيرين، لكن لم تتخذ أي أعمال عدائية ضد المنظمة، بل كانت الإستراتيجية التي تم الإتفاق عليها هي القتل عن طريق تقديم الأفضال. واتفق على أن يسمح للبنا بإصدار صحيفة ونشر مقالات تؤيد المبادئ الديمقراطية – وبعد ذلك طريقة جيدة للمساعدة في تفكيك الإخوان، كما أعلن أحد الحاضرين للإجتماع.

كذلك ناقش الإجتماع كيف أن الإخوان يشكلون تنظيمات للتخريب ويتجسسون لحساب النازي. كما وصفوا بأنهم تنظيم ديني وظلامي محدود لكنه يمكن أن يحشد قوات للصدام في وقت الإضطرابات بما في ذلك فرق انتحارية. وبعضوية تقدر بنحو 100-200 ألأف، كان الإخوان ضمناً معاديين للأوروبيين، ومعادين للبريطانيين بصفة خاصة، في ضوء وضعنا الإستثنائي في مصر ومن ثم فقد كانوا يأملون في انتصار المحور، الذين تصوروا أنه سيجعلهم أصحاب النفوذ السياسي المسيطر في مصر.

وبحلول 1944، كانت لجنة المخابرات السياسية البريطانية تصف الإخوان باعتبارهم خطراً محتملاص، لكنهم بقيادة ضعيفة: فقد اعتبرت أن البنا كان هو الشحصية البارزة الوحيدة وبدونه يمكن أن ينهاروا بسهولة. بيد أن هذا التحليل القاتل بإمكان زوال الجماعة جرت مراجعته في السنوات التالية، عندما تعهدها البريطانيون وتعاونوا معها في مواجهة العداء المتنامي للإستعمار في مصر.

وهكذا، فإنه بحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، توافرت لبريطانيا بالفعل خبرة كبيرة في التواطؤ مع القوى الإسلامية لتحقيق أهداف معينة، في حين أدرك المسئولون البريطانيون أيضاً أن هذه القوى نفسها كانت بصفة عامة معراضة لسياسة بريطانيا الإمبريالية وأهدافها الإستراتيجية، كانوا أعواناً مؤقتين في ظروف محددة لتحقيق أهداف بعينها عندما كانت بريطانيا تفتقر إلى حلفاء آخرين أو إلى قوة كافية خاصة بها لتفرض أولوياتها. وتعمقت هذه السياسة البريطانية النفعية بصورة كبيرة في عالم ما بعد الحرب حيث زادت الحاجة للإعوان في مناخ عالمي أصبح أكثر اتساماً بالتحدي بقدر كبير.

الفصل الثاني - التقسيم في الهند وفلسطين

عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، واجهت بريطانيا ثلاثة تحديات كبرى هددت وضعها العالمي: الأول هو أن الإستنزاف المالي المترتب على الحرب ترك بريطانيا شبه مفلسة وتعاني من أزمات اقتصادية داخلية، والثاني هو أن هوايتهول كانت قد طفقت سيطرتها على الإمبراطورية وتواجه مطالب قومية متزايدة بالإستقلال في مختلف المستعمرات، والثالث هو أن قوتين عظيمتين جديدتين هما الولايات المتحدة والإتحاد السوڤيتي كانتا قد بزغتا باعتبارهما مستفيدتين استراتجيتين رئيسيتين من الحرب. بيد أن مخططي السياسة البريطانية كانوا مستقتلين في الإحتفاظ بأكبر قدر ممكن من مكانتهم بوصفها قوة عظمى والإستمرار في استخدام موارد المستعمرات لصالح بريطانيا نفسها. وفي البدء عملوا بفكرة القوة الثالثة إلى جانب القوتين العظميين، وهي استراتيجية انطوت على الإفراط في استغلال المستعمرات لتقوية نفوذ بريطانية العالمي المتداعي. ومع ذلك، فإنه بحلول نهاية الأربعينيات، ومع صعود الولايات المتحدة والإتحاد السوڤيتي وتنظيم الإقتصاد العالمي فيما بعد الحجر حسب المصالح التجارية البريطانية والغربية.

بيد أنه من المؤكد أن هوايتهول لم ترد الإعتماد فحسب على هذه العلاقة الخاصة لممارسة نفوذها، لإدراكها أن واشنطن كانت تسعى في بعض مناطق العالم للحلول محل النفوذ البريطاني وليس تعزيزه. إذ كان صناع السياسة البريطانيون يريدون الإحتفاظ بقدرة عسكرية للتدخل من جانب واحد في شتى أنحاء العالم وطوروا أيضاً أسلحة ذرية، بالقدر اللازم للحفاظ على مكانتهم العالمية مع الأمريكيين لردع السوفيت. وكان على البريطانيين أن يلعبوا في مناطق رئيسية من العالم، حيث لبريطانيا مصالح عسكرية وتجارية مهمة، خاصة الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، دوراً متوازناً بصورة دقيقة، مستعينين بالدعم الأمريكي دون التنازل لواشنطن عن كل النفوذ. وقبلت الولايات المتحدة التفوق البريطاني في بعض المناطق التي لا ترى لنفسها دوراً رئيسياً تقوم به فيها، خاصة أفريقيا، وساندت السيطرة الإستعمارية البريطانية القائمة. بيد أن الولايات المتحدة كانت بدأت بالفعل تعتدي على مركز بريطانيا في الشرق الأوسط قبل الحرب، بالسيطرة على النفط باعتباره الجائزة الكبرى. وجرى التعاون النشيط بين لندن وواشنطن، السري والعلني على حد سواء، عبر منافسة لم تكن باليسيرة حيث كان البلدان يهدفان إعادة تشكيل المنطقة وفق مصالحهما.

وتبدي ضعف مركز بريطانيا فيما بعد الحرب فوراً في بلدين كان بطرق مختلفة أساسيين لقوة بريطانيا في عالم ما بعد الحرب. ففي كل من الهند – جوهرة تاج الإمبراطورية – وفلسطين الصغيرة – وهي مصدر قوة استراتيجية لهيمنة بريطانيا على الشرق الأوسط – واجه الحكم البريطاني حركات شعبية معادية للإستعمار أثبتت أنه أقوى من أن تستطيع بريطانيا التصدي لها. ففيما بعد الحرب، كانت بريطانيا الواهنة تفتقر إلى القدرة على نشر القوة العسكرية الكاسحة المطلوبة لقمع هذه التمردات وهو ما كانت تفعله في الماضي. وعلى الرغم من أن هوايتهول حاولت لأطول وقت ممكن الإستمرار في الهند، فقد أدرك امسئولون البريطانيون في نهاية المطاف أن المباراة قد انتهت، وهو ما حدث في فلسطين أيضاً. وإذ أدرك صناع السياسة البريطانيون أن الحكم الإستعماري الرسمي سرعان ما سينتهي، فقد سمعوا إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه تحسباً للمستقبل فيما بعد أستغلوا الإنقسامات الدينية والعرقية في التصدي للتمردات التي نشبت في الهند وفلسطين، ولجأوا في كلتا الحالتين لإستخدام القوى الإسلامية لتحقيق أهداف محددة. وكانت عواقب السياسة البريطانية بعيدة المدى، فقد بزغت من النزاعين الهندي والفلسطيني، دول جديدة أعادت تشكيل جنوب آسيا والشرق الأوسط. وإضافة لذلك، أسهمت هذه الدول، بطرق مختلفة بصورة عميقة في تطور النطرف الإسامي في شتى أنحاء العالم.

احتفظوا بقطعة من الهند

في 1947، انطوى تقسيم الهند المستعمرة البريطانية إلى دولتين جديدتين، هما الهند ودولة باكستان المسلمة، على عمليات ترحيل حاشدة للسكان وحمام من الدماء، إذ فقد ما وصل إلى مليون شخص أرواحهم في العنف الطائفي الذي صحب التقسيم. وقد اتهم القوميون الهنود، وكثيرون غيرهم، بريطانيا باستمرار بأنها شجعت عمداً التقسيم وإنشاء باكستان لتأمين مصالحها الإستراتيجة. كتب الكثير جداً في هذا الموضوع، ولايزال يدور الكثير من النقاش والجدل حوله. وكثير من الأدلة التاريخية متضارب، والقاضايا المتضمنة معقدة على نحو جلي، لكن هناك قدر كبير من الأدلة يدعم وجهة النظر القائلة بأن بريطانيا استغلت حقاً الورقة الإسلامية لتحقيق أهدافها الخاصة.

ففي 1886، نظمت مجموعة من مسلمي شمال الهند، بقيادة المربي والمصلح الإجتماعي سيد أحمد خان، المؤتمر التربوي المحمدي لعموم الهند بناء دسور بين الإسلام والعلم، وبين المسلمين والدولة الإستعمارية. وأصر المؤتمر الذي عرف باسم حركة اليغار باسم المدينة التي تأسس فيها في ولاية أوتار براديش الحالية، على عدم تأييد ال مؤتمر الوطني الهندي، وهو تنظيم الدعوة القومية الهندية – وبذلك ذكى نفسه لدى المسئولين المستعمرين، الذين زودوه بدعم معنوي ومادي. وفي 1906، طالب نواب الحركة، وهو أساساً من ملاك الأراضي من أ عيان المسلمين، نائب الملك اللورد منتو، بأن يكون للمسلمين تمثيل سياسي خاص في المجالس التشريعية الإقليمية الجديدة التي أعلن عنها البريطانيون، وتم إنشاء دوائر انتخابية مستقلة في حينه من أجل المسلمين الذين انتخبوا نواباً من طائفتهم، ومنحت لهم مقاعد إضافية علاوة على نسبتهم من السكان، في أقاليم بعينها. وبذلك كفل منتو استمرار ولاء النخبة المسلمة، وقد سجلت زوجته في يومياتها أن زوجها حال دون إنضمام اثنين وستين مليون شخص لصفوف المعارضة الداعية للفنتة. وفي 20 ديسمبر من العام نفسه، أفرزت حركة اليغار، الرابطة الإسلامية، وكان البند الأول لديها هو تشجيع مشاعر الولاء للحكومة البريطانية بين المسلمين. ونالت الرابطة الحظوة لدى المسئولين البريطانيين، وبعدئذ كتب رامزي ماكدونالد عضو البرلمان عن حزب العمال ورئيس الوزراء فيما بعد في كتاب أصدره في 1910 بعنوان إيقاظ الهند، أن زعماء الرابطة يستمدون الإلهام من مسئولين أنجلو هنوج بعينهم وأن هؤلاء المسئولين يودهون الدمى المتحركة في سيملا العاصمة الصيفية الإستعمارية في شمال الهند وفي لندن. وأنهم بدروا عن سوء طورية وتدبر بذور الشقاق بين الهندوس وأتباع محمد.

وبحلول الثلاثينيات، كانت فكرة إنشاء باكستان المستقلة – وهي تعني أرض الأطهار وهي كلمة مركبة من أوائل كلمتي البنجاب (باك) والأفغان (ستان) (أي إقليم الحدود الشمالي الغربي)، وكشمير والسند وبلوخستان – قد ترسخت داخل الرابطة الإسلامية. وفي 1939، عمل نائب الملك، اللورد لنثجو، مع زعيم الرابطة الإسلامية، محمد على جناح، على دحر مطلب حزب المؤتمر بالإستقلال التام عن الحكم البريطاني وحث الرابطة على تقديم بديل. وأخبر لنثجو جناح في سبتمبر 1939 أنه إذا رأت الرابطة أنه ليس من الملائم للهند أن تصبح دولة مستقلة داخل الكومنولث، وهو مطلب بريطاني أساسي، فعندئذ يكون التقسيم هو طريق النجاة من المأزق. وعندما اجتمع الإثنان مرة ثانية في مارس 1940، استمر لنثجو يضغط على جناح لتقديم بديل لخطة حزب المؤتمر. فقد رأى لنثجو أن المطالبة بإنشاء باكستان المستقلة قد يوفر للبريطانيين وسيلة تأثير مفيدة على القوميين الهندوس، الذين كانوا يخشون تقسيم الهند، وكان كما نبه باتريك فرنش يلعب لعبة معقدة من سياسة الوصول إلى شيفر الهاوية التي ستترتب عليها عواقب دائمة بالنسبة لمستقبل آسيا. وفي 23 مارس، بعد عشرة أيام من هذا الإجتماع، تبنت الرابطة الإسلامية بمساندة من اللورد زتلند وزير الدولة البريطاني لشئون الهند قرار لاهور، الذي يعلن إنشاء دولة إسلامية مستقلة في شمالي الهند سياسة لها.

لقد عارضت هوايتهول طويلاً استقلال الهند في أي شكل، لكن الحركة الشعبية القوية بقيادة غاندي، مقترنة بضعف موقف بريطانيا بعد الحرب، جعلت نهاية الحكم البريطاني للهند أمراً محتماً بحلول منتصف الأربعينيات. وبحلول ذلك الوقت أدرك البريطانيون على نحو حاسم أن القوميين الهنود سيسحبون الهند من الكومنولث عقب الإستقلال وسيرفضون النفوذ العسكري والسياسي البريطاني في المنطقة. وعند هذا الحد كما تبين دلائل كثيرة، سعت لندن إلى فصل الدزء الشمالي الغربي من البلاد لإنشاء دولة إسلامية مستقلة. وجرى تحديد موقع دولة باكستان المقترحة انطلاقاً من دوافع استراتيجية، إذ كانت تجاور إيران وأفغانستان والصين، وقريبة من المناطق الواقعة في أٌقصى جنوب الإتحاد السوڤيتي – وكان ذلك حقاً هو موقع المبارة الكبرى في القرن التاسع عشر. وحينذاك شرعت بريطانيا عامدة إلى تقسيم الهند لتحقيق أهداف استراتيجية مهمة في المنقطة.

وكان الفيلد مارشال ويفل، نائب الملك البريطاني في الهند بدءاً من 1943، هو النصير الرئيسي للتقسيم، لأنه أدرك ور وصوله أن حزب المؤتمر ليس مهتماً بالتعاون العسكري مع بريطانيا فيما بعد الإستقلال بحلول 1944، كان ويفل قد عقد العزم على إقامة رابطة جناح الإسلامية وسحب القوات العسكرية البريطانية إلى الجزء الشمالي الغربي الإستراتيجي، حيث تسعى إلى الحفاظ على قواعدها. وكان تصوره هو أن باكستان ستصبح دولة مستقلة في إطار الكومنولث، وأن باقي الهند سيترك لما يريده. وقد رفض رئيس الوزراء تشرشل طويلاً أي شكل من استقلال الهند، لكن بحلول مارس 1945، نبه ويفل إلى أن موقف تشرشل طفق يتغير: "فقد بدا أنه يحبذ تقسيم الهند إلى باكستان وهندوستان وبرنستان" – وتشير هندوستان إلى المناطق الهندوسية من الهند – وتشير برنستان إلى دول الإمارات الكثيرة، التي تعهدتها بريطانيا طويلاً لضمان السيطرة الإستعمارية. وفي ذلك الشهر، أغسطس، عقد تشرشل الذي كان حينذاك في المعارضة عقب الإنتصار المزلزل لحزل العمال بقيادة كليمنت آتلي في يوليو، اجتماعاً آخر مع ويفل الذي كان يزور لنجن لمناقشة شئون الهند مع الوزراء الجدد. وحسبما قال ويفل، فإن تشرشل أنهى الإجتماع وهو يردد كلمات مختصرة "احتفظوا بقطعة من الهند". وهكذا، فإنه على الرغم من أن اللورد مونتبان، آخر نائب للملك، هو الذي تلقي عادة اللوم على التقسيم بسبب القرارات التي اتخذها في 1947، فإنه يبدو أن تقسيم الهند كان قد تقرر قبل ذلك بعامين.

وكان الفيلد مارشال ويفر، نائب الملك البريطاني في الهند بدءا من 1943، هو النصيرالرئيسي للتقسيم، لأنه أدرك فور وصوله أن حزب المؤتمر ليس مهتما بالتعاون العسكري مع بريطانيا فيما بعد الاستقلال وبحلول 1944، وكان يفل قد عقد العزم على اقامة رابطة جناح الإسلامية وسحب القوات العسكرية البريطانية إلى الجزء الشمالي الغربي الاستراتيجي حيث تسعى إلى الحفاظ على قواعدها. وكان تصوره هو أن باكستان ستصبح دولة مستقلة في إطار الكومنولث، وأن باقي الهند سيترك لما يريده. وقد رفض رئيس الوزراء تشرتشل طويلا أي شكل من استقلال الهند، لكن بحلول مارس 1954، نبه ويفل إلى أن موقف تشرشل طفق يتغير: "فقد بدا أنه يحبذ تقسيم الهند إلى باكستان وهندوستان وبرنسستان" – وتشير هندوستان إلى المناطق الهندوسية في الهند – وتشير برنسستان إلى دول الإمارات الكثيرة التي تعهدتها بريطانيا طويلا لضمان السيطرة الاستعمارية. وفي ذلك الشهر، أغسطس، عقد تشرشل الذي كان حينذاك في المعارضة عقب الانتصار المزلزل لحزب العمال بقيادة كيلمنت أتلي في يوليو، اجتماعا آخر مع ويفل الذي كان يزور لندن لمناقشة شئون اهلند مع الوزراء الجدد، وحسبما قال ويفل، فإن تشرشل أنهى الاجتماع وهو يردد كلمات مختصرة "احتفظوا بقطعة من الهند". وهكذا، فإنه على الرغم من أن اللورد مونتباتن، آخر نائب للملك، هو الذي تلقى عادة اللوم على التقسيم بسبب القرارات التي اتخذها في 1947، فإنه يبدو أن تقسيم الهند كان قد تقرر من قبل ذلك بعامين.

كذلك عارض أتلي ووزراء آخرين التقسيم في البدء، مطالبين بالإبقاء على هند موحدة تتعاون مع بريطانيا بعد الاستقلال. وعندما أصبح واضحا أن هذا لن يحدث مطلقا، وافقا أتلي على تأييد التقسيم ما دام قد وافق حزب المؤتمر على هذا الحل – وبذلك تعفي بريطانيا من أي مسئولية عنه.وعندما أصبح جليا أن حزب المؤتمر لن يؤيد التقسيم مضى أتلي في طريقه على أية حال، وصرح للحكومة في أبريل 1946 بأن تعمل من أجل إنشاء دولة باكستان، "إذا بدا أن ذلك هو الفرصة الوحيدةلتحقيق تسوية متفق عليها".

وبحلول 1947، كان قادة هيئة الأركان العسكرية البريطانية قد أصبحوا انصارا متحمسين لباكستان، يرون أن إنشاءها يحقق وظائف قيمة كثيرة، بما في ذلك الحصول على قواعد جوية في البلد الجديد "وضمان استمرار استقلال أفغانستان ووحدة أراضيها". ونبه رؤساء الأركان إلى أن "منطقة باكستان أشد أهمية من الناحية الاستراتيجية في قارة الهند ولتحقيق غالبية متطلباتنا الاستراتيجية"، وأنها ستمكن بريطانيا من "تعزيز مكانتها وتحسين مركزنا في كل أرجاء العالم الإسلامي، وبيان مزايا الارتباط بالكومنولث البريطاني، بفضل المعونة التي ستتلقها باكستان". ونبه الفيلد مارشال مونتجمري، الذي كان قد أصبح آنذاك رئيسا لأركان الامبراطورية إلى أنه "سيتوافر لنا مصدر قوة هائل، إذا بقيت باكستان في الكومنولث، نظرا لأن للقواعد والمطارات والموانئ في شمال غرب الهند قيمة لا يمكن تقديرها في الدفاع عن الكومنولث". وتقدم وثيقة وردت في أوراقه تحليلا محكما للأهمية الاستراتيجية لباكستان فيما بعد الاستقلال.

إن وادي السند، والبنجاب الغربية وبلوخستان [الشمال الغربي] مناطق حيوية بالنسبة لأي خطط استراتيجية للدفاع عن الحزام الإسلامي عظيم الأهمية .. وإمدادات النفط من الشرق الأوسط . وإذا أراد الكومنولث البريطاني والولايات المتحدة الأمريكية أن يكونا في وضع يمكنها من الدفاع عن مصالحهما الحيوية في الشرق الأوسط، فعندئذ تكون أرض باكستان هي أفضل المناطق وأكثرها استقرارا التي يتم فيها هذا الدفاع..إن باكستان هي مرتكز القوس الاستراتيجي لمياه المحيط اهلندي الواسعة والمعرضة للمخاطر.

ويحاج باترك فرنش بأنه لم يحبذ أي من كبار الموظفين المدنيين البريطانيين تقطيع أوصال الامبراطورية الهندية عند الاستقلال أو كان يعتقد أن إنشاء باكستان سيكون مفيدا. وكتب يقول إن : "ادعاء أن البريطانيين كانت لديهم خطط سرية على الدوام لتقسيم الهند ... لا يمكن أن يجد ما يؤيده في المذكرات الداخلية والوثائق لدى هيئة العاملين في هوايتهول". بيد أن تقرير فرنش لم يستفد كما هو واضح من الرجوع لوثائق هيئة الأركان، التي أعيد ذكرها في تحليل نارندرا ساريلا، معاون مونتابتن. والحق أن البريطانيين لم يكونوا "يفضلون" تقطيع أوصال الهند حتى أواخر 1945 وأوائل 1946، ومن ثم لم تكن لديهم "خطط سرية" لتقسيم الهند، ومع ذلك، فبحلول الوقت الذي أصبح واضحا فيه أن بريطانيا لن تحصل على قبول شروطها – أي هند موحدة تبقى على علاقات قوية مع بريطانيا – سارع المخططون بالإنحياز إلى الدعوة لانشاء باكستان المستقلة. لقد حاول البريطانيون طويلا استخدام الورقة الإسلامية للتأثير على القوميين الهندوس، حيث إنه لم تكن لديهم وسائل كثيرة أخرى للإبقاء على سلطة بريطانيا في وجه حركة شعبية معارضة – لم تكن هناك أي قوى سياسية كبيرة أخرى يمكن اللجوء إليها، ولم تكن هناك إمكانية للتدخل العسكري الصريح.

وكان جانب رئيسي آخر من سياسة بريطانيا تجها الهند يتعلق بمنطقة كشمير الشمالية، التي كانت لندن ترغب في ضمها لباكستان، فقد غزت باكستان كشمير واحتلتها في أكتوبر 1949، وطوال حرب الحدود المرتبة على ذلك التي نشبت مع الهند، ظلت بريطانيا منحازة لموقف باكستان بقوة.ونبه وزير الكومنولث، بعد خمسة أيام من ضم كشمير للهند، إلى أنه "من الطبيعي أن تنضم كشمير إلى باكستان في نهاية الأمر بشروط متفق عليها". وفي الأمم المتحدة، ضغطت بريطانيا لكي تصبح كشمير جزءا منأرض باكستان، استنادا لحجة مفادها أن 77 في المائة من سكانها مسلمون. وأخبر أرنست بيفن وزير الخارجية، جورج مارشال وزير الخارجية الأمريكي "أن القضية الأساسية هي من يسيطر على الشريان الرئيسي الذي يؤدي إلى آسيا الوسطى". والواقع أن باكستان "كما قال هيو دالتون وزير المالية البريطاني حينذاك، كانت محورية بالنسبة لطموح بيفن لتنظيم "منتصف الكرة الأرضية".

وزفت التايمز نبأ يوم الاستقلال في 15 أغسطس، قائلة: في ساعة انشاءها تبزغ باكستان باعتبرها دولة قيادية في العالم الإسلامي. فمنذ انهيار الامبراطورية التركية، بوصفها مركزا جديدا الذي يمتد عبر الكرة الأرضية من المغرب إلى إندونسيا، لم ينطو هذا العالم، على دولة تكفل لها أعداد سكانها ومواردها الطبيعية ومكانتها في التاريخ، تفوقا لا نزاع فيه. وقد انسدت هذه الفجوة حاليا. فمن اليوم تتخذ كراتشي مكانتها بوصفها مركزا جديدا للتلاحم ونقطة تجمع لفكر المسلمين وتطلعاتهم.

وبعد عامين من التقسيم، ألقى نصيره الرئيسي، الفيلد مارشال ويفل، خطابا أمام جمعية آسيا الوسطى والخليج الفارسي، وذكر فيه أن "الصراع الكبير التالي على السيطرة العالمية، إن جرى، ربما يجري على السيطرة على احتياطيات النفط هذه". فربما تصبح هذه المناطق ساحة المعركة ليس فقط من أجل الصراع المادي على النفط وإنما أيضا الصراع الروحي لثلاث عقائد على الأقل هي المسيحية، والإسلام والشيوعية". ومن ثم، "يتعين على الدول الغربية أن توجد على وجه التأكيد في الشرق الأوسط".

وقد كان لتقسيم الهند عواقب رهيبة مباشرة، فمع عبور ما يقدر بعشرين مليون الحدود الجديدة في كلا اتجاهين، بحثا عن ديار جديدة، حدث انهيار تام تقريبا في القانون والنظام، ووقع عنف حاشد في مناطق الحدود. وخلقت العملية بلدا أصبح مثل في السعودية مصدر قوة استراتيجية يسلم بها المخططون الأنجلو أمريكيون. ومضت باكستان في طريقها لتصبح ثقلا موازيا للهند المحايدة غير المنحازة، وانضمت للتحالف العسكري لحلف بغداد في الخمسينيات، ووفرت تسهيلات للقواعد الجوية الأمريكية للتجسس على الاتحاد السوڤيتي. وفي الثمانينيات، عملت بوصفها قاعدة متقدمة للتدخل في أفغانستان – وكانت بصفة خاصة هي فائدتها كما كانت تراها هيئة الأركان عبر ثلاثين عاما خلت.

كما خلق التقسيم دولة كان الإسلام هو أكثر ما يربط أواصلها معا، وتفتقر في ظل الحكام العسكريين إلى أي مشروعية محلية أخرى، وهو ما أفرز لاحقا صيغا متطرفة من الإسلام وشجع جماعات الجهاد. ولم يصبح تقسيم كشمير بين الهند وباكستان مصدرا مستمرا للنزاع بين الدولتين فحسبن، وإنما ساعدت قضية باكستان الإسلامية "لتحرير" كشمير في الجانب الذي تسيطر عليه الهند، على تعزيز حركة الجهاد في أنحاء بعيدة فيما وراء شبه القارة. وهكذا كان لابد أن تمضي باكستان في طريقها لأن تصبح مركز إشعاع للتطرف الإسلامي، وهي تطرح في الوقت الراهن أكبر تهديد إرهابي لبريطانيا. وفي حين كانت هذه هي عمليات معقدة تعمل على مدى فترة زمنية طويلة، فإنه يمكن تتبعها رجوعا لإنشاء باكستان نفسه، الذي لعب فيه صناع السياسة البريطانيون الذين كانوا يسعون إلى تحقيق مصالحهم الخاصة، دورا مهما.وربما تتمثل المفارقة في أن علماء الدين التابعين لحركة ديوباندي للإحياء، والتي ناصرها حكام باكستان العسكريون فيما بعد وساندت قوى الجهاد في باكستان، قد عارضوا لحد كبير إنشاء باكستان في وقته، وحاجوا بأنه الدولة القومية الإسلامية لم تكن مطلوبة لإقامة عالمهم الإسلامي. وتنبه نارندرا ساريلا إلى أن "إستخدام بريطانيا الناجح للدين لتحقيق أهداف سياسية واستراتيجية في الهند كرره الأمريكيون في تشكيل قوات المجاهدين الإسلاميين في أفغانستان، وهو ما سنعرض له في الفصل الثامن، وإجمالا، فإن "كثيرا من جذور الإرهاب الإسلامي الذي يكتسح العالم حاليا تكمن مدفونة في تقسيم الهند".

التقسيم وحرب فلسطين

واجه المخططون البريطانيون وهم يستخدمون القوى الإسلامية لدعم مصالحهم في الهند، نشوب انتفاضة يهودية ضد الحكم البريطاني في فلسطين الواقعة تحت الانتداب الممنوح لهم. وأدى هذا لسلسلة من الأحداث الضخام التي شكلت الشرق الأوسط المعاصر: القرار البريطاني في فبراير 1947 بالانسحاب من فلسطين، ومرسوم الأمم المتحدة في نوفمبر 1947 بتقسيم البلاد، وإعلان اليهود لدولة إسرائيل في مايو 1948 ونشوب أول حرب عربية إسرائيلية، ضمت فيها القوات الإسرائيلية كثيرا من أجزاء فلسطين بحلول ديسمبر من ذلك العام. ومثل تقسيم الهند، لا تزال هذه الأحداث موضع جدل محتدم، ونركز هنا على السياسة البريطانية، أولا تجاه الانتفاضة اليهودية ثم إزاء الحرب العربية الإسرائيلية.

ونحو نهاية الحرب العالمية الثانية، شرع اليشوف، وهم طائفة المستوطنين اليهود، برئاسة ديڤيد بن جوريون، في حملة لطرد البريطانيين من البلاد، ونفذوا موجة من الهجمات الإرهابية على القوات البريطانية والفلسطنيين العرب، ردت عليها بريطانيا بإعلان الأحكام العرفية، وسنت تنظيمات للطوارئ شديدة القسوة وأنزلت عقوبات جماعية وحشية بالطوائف اليهودية المحلية. وتشكل العداء اليهودي تجاه بريطانيا جزئيا نتيجة لسياسة لندن بشأن الهجرة من ألمانيا وأماكن أخرى، التي أخذت بريطانيا حينذاك تحاول تقييدها، إذعانا للاعتراضات العربية، فخلال الأعوام الثلاثة الأخيرة من الانتداب، نجح 40 ألف مهاجر غير شرعي في دخول فلسطين، لكن تم اعتراض حمولات سفن المهاجرين اليهود التي كانت تعتبر غير شرعية، في البحر. وفي 1946، ردت البحرية الملكية 17 سفينة تحمل لاجئين إلى الموانئ الأصلية التي جاءت منها، في حين تم إصدار أوامر لهيئة المخابرات الخارجية بتخريب بعض سفن النقل، وهي في الميناء. واستمرت هذه السياسة طوال 1947، وبحلول ديسمبر من ذلك العام تم اعتراض طريق 51 ألف راكب على 35 سفينة واحتجزهم البريطانيون في قبرص.

وبحلول ذلك الوقت، قررت حكومة أتلي الكف عن البحث عن حل خاص بها للتمرد وعزمت على التخلي عن الانتداب وتحويل المشكلة للأمم المتحدة التي كانت قد أنشئت مؤخرا. ففي وقت كانت فيه بريطانيا تواجه متطلبات متعددة على مواردها، كان من الواضح أن الانتفاضة اليهودية لن يتم التغلب عليها سريعا وبتكلفة يسيرة، ورأى رئيس الوزراء أتلي أن فلسطين "عبء اقتصادي وعسكري". وحينذاك شرعت بريطانيا في الترويج لتقسيم فلسطين لدولتين يهودية وعربية،وهي سياسة أيدتها القيادة اليهودية، لكنها سرعان ما هددت مصالح الفلسطينيين الذين كانوا يشكلون في ذلك الوقت نحو ثلثي السكان، مقارنة بثلث من اليهود. وفي نوفمبر 1947، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 181 الذي يقسم فلسطين ويمنح اليهود دولة تضم ما يربو على نصف البلاد، ضد ارادة غالبية السكان الأصليين.

وينبه المؤرخ إيلان باب في تحليله الرائع لحرب 1948، بين العرب واليهود، إلى أن القيادة اليهودية شرعت بعد شهر من قرار الأمم المتحدة في القيام بعملية "تطهير عرقي في فلسطين"، بدأت بسلسلة من الهجمات على القرى العربية عقب تخريب بعض الفلسطينيين لحافلات ومراكز تسوق احتجاجا على القرار. وقررت الجامعة العربية في الشهر نفسه، تشكيل قوة من المتطوعين العرب "لتحرير" فلسطين. وبدأت هذه القوة التي عرفت باسم جيش التحرير العربي، وضمت نحو 5 آلاف متطوع من سوريا والجزائر ومصر والأردن، عملياتها في فلسطين ضد القوات اليهودية في يناير 1948. ومع احتدام الحرب بين الفلسطينيين واليهود، بلغت خطط قادة الهيود ذروتها في اجتماع عقد في مارس 1948، قرر اتباع "الخطة دال"، أي الطرد المنتظم للفلسطينيين من مناطق شاسعة من البلاد". وعندما انسحب البريطانيون من فلسطين في مايو، أعلنت الوكالة اليهودية الاستقلال وغزت الجيوش النظامية للدول العربية فلسطين، ودار قتال وحشي بين ما يقدر ب98 ألفا من القوات اليهودية و50 ألفا من القوات العربية.

بيد أن الدول العربية لم تكن جميعها إسرائيل، فقد دخل الملك عبد الله عاهل شرق الأردن الذي كان لا يزال يحكم بعد أن نصبته لندن ملكا قبل ربع قرن، في تحالف سري مع إسرائيل ولم ينضم لأي عمليات عسكرية عربية جامعة ضد الدولة اليهودية، واعترف بوجودها في هدوء. وفي مقابل ذلك، وعد عبد الله بضم معظم الأراضي المخصصة للعرب بموجب قرار التقسيم، وهي الأراضي الواقعة على الضفة الغربية لنهر الأردن. وأسفر الاتفاق غير المكتوب الذي تم التوصل إليه في يناير 1948، عن تحييد القوة المقاتلة الأشد فعالية في العالم العربي، وهي الفيلق العربي الذي يدعمه البريطانيون، المتمركز شرق الأردن، والذي كان يقود ضابط بريطاني، هو سيرجون باجوت جلوب. وفي مايو، وهو الشهر نفسه الذي تاسست فيه دولة إسرائيل، كتب السير أليكس كيربرايد السفير البريطاني في شرق الأردن إلى بيفن وزير الخارجية، ذاكرا أنه "دارت مفاوضات بين الفيلق العربي والهاجاناه [قوة شبه عسكرية يهودية] أجراها ضباط بريطانيون في الفيلق العربي. وكان من المفهوم أن الهدف من هذه المفاوضات بالغة السرية هو تحديد المناطق من فلسطيت التي ستحتلها القوتان". ورد بيفن: "إنني أعارض القيام بأي شيء يضر بنتيجة هذه المفاوضات".

وكان رد بيفن يعكس بصورة نموذجية الخط الذي يتبعه البريطانيون حينذاك بشأن فلسطين – إسرائيل. ففي أواخر مايو 1948، أيد البريطانيون الدول العربية في معارضة قرار وقف إطلاق النار الذي اتخذ في الأمم المتحدة وقبلته إسرائيل، التي كانت حينذاك ضد ضمت قدرا كبيرا من الأراضي الفلسطينية وكانت قانعة بتدعيم مكاسبها. وكان السبب في هذه السياسة البريطانية هو الأمل في أن تستولي قوات عبد الله قريبا على الضفة الغربية، وبمجرد أن أصبح واضحا في أواخر مايو أنها ضمت الضفة الغربية، ألغت بريطانيا معارضتها لايقاف النار (والذي تحطمك فيما بعد). ولم يحدث التوحيد الرسمي لضفتي الأردن إلا بعد عامين في أبريل 1950، وكانت بريطانيا واحدة من دولتين اعترفتا بتوسيع مملكة عبدالله، وكانت اليمن هي اأخرى. وكان القصد من مساندة "شرق الأردن الكبير"، الذي أصبح حينذاك هوأسلوب وزير الخارجية المختار، لحل المشكلة الفلسطينية، هو جعل عبدالله، أقريب حليف للندن في العالم العربي، وريثا لفلسطين العربية. فإذا لم تكن بريطانيا قادرة على الابقاء على وجودها الخاص في المنطقة، فإنها استهدفت تحقيق ذلك بوكالة دولة عميلة - وهي استراتيجية نموذجية للسياسة الخارجية البريطانية بعد الحرب. وإذا ركز المخططون البريطانيون على هذا الهدف الاقليمي، فقد أصبحوا متورطين بصورة عميقة في التطهير العرقي الذي كان الإسرائيليون يقومون به في أنحاء أخرى من فلسطين. وكان لدى القائد البريطاني في البلاد، الجنرال سير جوردون ماكميلان قوة قوامها 50 ألف جندي في فلسطين لكنه كان ملتزما بتوجيهات صارمة من لندن بألا يتورط في أعمال عسكرية ضد العرب أو اليهود، ما دام أنهما لا يتدخلان في خطط بريطانيا للانسحاب. ويلاحظ إيلان بابي أن بريطانيا ربما كانت تعلم بالخطة دال، بل وأعلنت فور أن بدأ تنفيذها، أن قواتها لن تكون مسئولة عن القانون والنظام في المناطق التي تتمركز فيها لكنها ستحمي نفسها فحسب: وكان ذلك يعني أن بمقدور اليهود أن يستولوا على مناطق ضخمة من فلسطين، هاصة بلدتي حيفا ويافا وكلك قرى ريفية كثيرة، حينذاك دون خوف من رد فعل بريطاني. ووقفت القوات البريطانية غير مبالية وهي ترى القوات الإسرائيلية تدمر القرى العربية وتجبر سكانها على الرحيل.

وفي أبريل 1948، أعلنت القوات البريطانية التي عملت من قبل عازلا يفصل بين القوات العربية واليهودية في حيفا، وهي أكبر بلدة ميناء، للسلطات اليهوديةهناك أنها ستنسحب. وبعث هذا بضوء أخضر للشروع في "إلغاء الطابع العربي" للمدينة، الأمر الذي انطوى على طرد 75 ألف مقيم فلسطيني بها، وهذا ما وصفه بابي بأنه "من أكثر فصول تاريخ الامبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط إثارة للخزي".. وشهدت مدينة يافا المصير نفسه، فقد تم الاستيلاء عليها في مايو 1948 بعد حصار القوات الإسرائيلية لها لمدة ثلاثة أسابيع، ونجاحها في طرد كافة سكانها البالغ عددهم 50 الفا "بمساعدة" من وساطة بريطانية. بل أن البريطانيين نزعوا سلاح قلة من السكان العرب الذين كانوا يدافعون عن أنفسهم ضد الهجمات اليهودية على أحيائهم في أنحاء القدس. كذلك ساعد البريطانيون في ضم إسرائيل لأراضي فلسطين بطرق أخرى، مثل تسليمها أوراد ملكية الأراضي في القرى، مما وفر لها معلومات حيوية ساعدت في عملية إخلائها من سكانها.

ومع ذلك، فقد قدمت بريطانيا بعض المساعدة للجانب الآخر، وإن كن من غير الواضع ما إذا كان ذلك سياسة تحددت في لندن أم جاءت نتيجة لخيارات المسئولين على أرض الواقع. كان فوزي القاوقجي يتولى قيادة جيش التحرير العربي، وهو ضابط جيش ولد في بيروت وحارب مع الفلسطينيين ضد البريطانيين في الثورة العربية في 1936-1949. وكان كثيرون من جيش التحرير العربي من الإخوان المسلمين فيمصر الذين استحثهم حسن البنا للمشاركة في الجهاد في فلسطين، يدينون بالولاء للمفتي، الحاج أمين الحسيني، الزعيم الفلسطيني المنفي في القاهرة. وكان أحد قادة قوة المتطوعين مصريا، هو سعيد رمضان، السكرتير الشخصي للبنا، الذي أصبح فيما بعد المنظم الرئيسي للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين وساعد في إنشاء فروع الإخوان في شتى أنحاء العالم. ووصلت الدفعة الأولى التي كانت تضم 2000 من الإخوان المسلمين في مصر إلى فلسطين في أبريل 1948، وعندعبورها للحدود المصرية هاجمت القوات الإسرائيلية في صحراء النقب. وكان موقف الحكومة المصرية التي يساندها البريطانيون بشأن الإخوان متضاربا، فعلى الرغم من تأييد تسلل الإخوان إلى فلسطين، حظر الملك فاروق التنظيم في مصر خوفا من اتجاهاته الثورية. وعندما تحركت القوات النظامية المصرية إلى فلسطين في مايو، اعتقل متطوعي الإخوان في معسكرات وخبرتهم بين إلقاء سلاحهم والعودة للقاهرة أو أن يظلوا في الجبهة ويساعدوا الجيش المصري، وهو ما فعله الكثيرون منهم عقب ذلك.

وكانت تقارير المخابرات البريطانية ترصد على نحو مسهب، أنشطة جيش التحرير العربي. ومع انسحاب البريطانيين من فلسطين، سلموا كثيرا من أسلحتهم وحصونهم للقوات العربية، التي تلقت عادة إخطارا بالتحرك الوشيك من قبل المتعاطفين معها في شرطة فلسطين أو في الجيش البريطاني. وهكذا، تم إبلاغ المتطوعين العراقيين داخل ثكنات اللنبي في جنوب القدس عن تخلي القوات البريطانية عن المعسكر قبل أسبوع من حدوثه. وفي أبريل 1948 سلم البريطانيون أيضا ثلاثة مراكز للشرطة لجيش التحرير العربي في مدينة صفد الشمالية، قرب الحدود – وهي منطقة كانت قد خصصت للعرب بموجب مشروع التقسيم – مما قوى كثيرا مركز القوات العربية في وجه هجوم إسرائيلي.

وتقلبت السياسة البريطانية بين السماح بغارات جيش التحرير العربي على فلسطين ومحاولة منعها، مع ترك القرار فيما يبدو للقادة المحليين في الميدان. فعندما شن التحريرالعربي هجومه الأول على المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية الفلسطينية في يناير 1948، احتج البريطانيون أولا لدى سوريا، لكن هذا الاحتجاج تم تجاهله واشتدت غارات جيش التحرير العربي. وعلى النقيض من ذلك، أقنع السير إليك كير كبرايد عبد الله ملك الأرض بألا يسمح بنقل المتطوعين العرب عبر مملكته، خشية استخدامهم في تدبير انقلاب على نظامه، بل إن عبد الله أرسل في أوائل 1948 جيشه لمنع المتطوعين السعوديين الذين كانوا يحاولون الوصول لفلسطين، من دخول شرق الأردن.

وعلى الرغم من أن مسئولين بريطانيين أفرادا تستروا على غارات صغيرة قامت بها القوات العربية على فلسطين، فقد قررت الوزارة البريطانية في فبراير 1948 معارضة قيام الدول العربية بعملية غزو واسعة النطاق. لكن الجيش العربية النظامية التي تدخلت في مايو بعد الانسحاب البريطاني وهي جيوش مصر والعراق والأردن ، كانت جميعها بقيادة ملوك يساندهم البريطانيون وكانت مسلحة بأسلحة بريطانية. وفرضت بريطانيا حظرا على توريد السلاح على كلال الجانبين المتحاربين في فلسطين، مما كبل في الواقع القوات العربية بعدم السماح لها باستعاضة أرصدتها، في الوقت نفسه الذي تلقى فيه جيش إسرائيل الذي كان قد تشكل حديثا شحنة كبيرة من الأسلحة الثقيلة من تشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفيتي في شهر مايو. وقد فسر بعض المحللين السياسة البريطانية باعتبارها تتيح للندن السيطرة على فاعلية الجيوش العربية بامدادها بالأسلحة أو حجبها عنها في مراحل أساسية. وقد لاحظ محمد حسنين هيكل المحل السياسي المصري والمستشار الأساسي للرئيس السادات فيما بعد، أن بريطانيا زودت مصر بأسلحة كافية "لدخول الحرب، لكنها لم تكن كافية لتكسبها". بيد أن طائرات استطلاع القوات الجوية الملكية المتمركزة في مصر، قامت بطلعات سرية كثيرة على إسرائيل عام 1948، وصورت التحركات العسكرية الإسرائيلية وهو ما يمكن أن يكون قد تم نقله للدول العربية.

وبحلول ديسمبر 1948، كانت الهزيمة قد ألحقت بالقوات الفلسطينية والعربية، واستولت القوات الإسرائيلية على الأراضي المخصصة لها بموجب مشروع الأمم المتحدة لتقسيم، زائدا نحو نصف الأراضي المخصصة للعرب. وتم استئصال نحو نصف سكان فلسطين الأصليين من جذورهم، 800 ألف، وتدمير مايربو على 500 قرية.

وعبر ستين عاما منذ النزاع العربي الإسرائيلي الأول، ظل الخلاف قائما حول الجانب الذي وقفت بريطانيا معه حقا – وما إذا كان صناع السياسة البريطانية أنفسهم يعرفون حقا ما كانوا يفعلونه في المراحل الأخيرة المشوشة للانسحاب من فلسطين الانتداب. ويرى بعض المحللين أن السياسة البريطانية اتسمت بخليط من عدم التماسك وعدم الحسم. ويحاج سعيد أبو ريش بأن الاستراتيجية البريطانية ساعدت في تشكيل نتيجة الحرب وأن سياسة الفيلق العربي كانت "امتدادا للسياسة البريطانية ... ترمي لتفادي نشوب قتال مرير بين الجانبين والحيلولة دون خروج الخطط المشتركة لمنح غالبية فلسطين لليهود عن مسارها".

كانت السياسة البريطانية متسقة في بعض الجوانب، ترمي لتدعيم حليفها الرئيسي في المنطقة، وهو الأردن الذي كان نزاعا لضم الضفة الغربية. وأسفرت السياسة الرسمية "لعدم التدخل" عن مساعدة الجانب الأقوى، مما يعني الاذعان لاستيلاء إسرائيل على معظم فلسطين "وللتطهير العرقي"، والذي شمل "ترحيل" الفلسطينيين العرب إلى الأردن. بيد أنه في الوقت نفسه، كان القصد من مساندة بريطانيا لبعض الأنشطة العسكرية العربية هو تفادي تدمير العلاقات مع صنائعها العرب وتعزيز النفوذ البريطاني في المنطقة بعد انتهاء النزاع. وإجمالا، يبدو أن بريطانيا حاولت اقامة نوع من "التوازن" في النزاع وفي المنطقة، خدمة للمصالح الجارية. ويمكن اعتبار تغاضي هوايتهول عن قوات المتطوعين العرب بما في ذلك عنصر الإخوان، وأحيانا مساندتها لها، يمكن اعتباره وسيلة لمساعدة الجانب العربي على تحقيق هذا "التوازن" وتضاعف "استخدام" بريطنيا الاكثر صراحة للقوات الإسلامية من هذا الضرب في الخمسينيات، كما سنرى.

معضلة جامعة العرب

في مايو 1947، أبلغ السير إليك كيركبرايد، الدبلوماسي الرئيسي لبريطانيا في عمان وأحد مهندسي السياسة البريطانية في الحرب العربية الإسرائيلية، أرنست بيفن وزير الخارجية عن زيارة قام بها إلى الأردن أخيرا، عبد الحكيم عابدين، السكرتير العام للإخوان المسلمين، وكتب كيركبرايد يقول: "أعرف عددا من قادة الفرع المحلي للإخوان المسلمين الأردنية بصورة شخصية، ولا أعتبرهم ممن يثيرون الاعتراضات من الناحيةالسياسية". وقد لقى عابدين في زيارته كما قال كيركبرايد "رضى ملحوظا من لدن عبد الله ملك شرق الأردن". وأخبر عبد الله كيركبرايد أن الإخوان "جديرون بالثناء في دعوتهم لجيل الشباب الأصغر سنا للقيام بواجباتهم والتزماتهم الدينية، من ثم فإن لهم قيمتهم في وقف انتشار الشيوعية في شرق الأردن". ورد كيركبرايد بأنه إذا اقتصرت أنشطة الإخوان على الأمور الدينية "ربما يكون هناك قدر كبير من الحقيقة فيما قاله الإخوان على الأمور الدينية "ربما يكون هناك قدر كبير من الحقيقة فيما قاله الملك، لكن يبدو من التقارير الواردة أن دوافع مؤسس الإخوان كانت سياسية بقدر ما هي دينية". وافق الملك على إبقاء الإخوان عدد الخطوط الأكثر سلامة (بمعنى إبعادهم عن الشؤون السياسية) لكن لن يكون هناك تدخل في الوقت الحالي".

وبحلول 1949، اقترح الملك عبد الله، على شاه إيران، وملك العراق ورئيس تركيا، إنشاء حركة للجامعة الإسلامية، لزيادة التلاحم والتعاون بين الدول الإسلامية، ولم تحقق هذه الفكرة الكثير، لكن استجابة مسئولي الخارجية البريطانية إزاءها كانت مثيرة للاهتمام. ففي أكتوبر 1949 لاحظ أحد المسئولين:

وبقدر ما تكون حركة الجامعة الإسلامية مصممة لإنشاء جبهة مشتركة ضد الشيوعية فإنه من الواضح أننا ينبغي أن نبذل كل ما في وسعنا لمساندتها .. وأرى .. أنه إذا ووجهت حركة الجامعة الإسلامية بصورة صحيحة نحو قنوات الإصلاح الاجتماعي.. فإنها يمكن أن تكون نعمة للشعوب نفسها ويجب ألا تمثل أي تهديد للعالم الغربي. إن حقيقة أن مثل هذه الحركات جعلت كراهية الأجانب أساسا لها في الماضي القريب يجب ألا تزعجنا. لأنها إذا كانت أهدافها سياسة محضة فستفشل حتما، وإذا اتخذت شكل إحياء ديني فينبغي أن نبذل كل ما في طاقتنا لتوجيهها نحو قنوات الخدمة الاجتماعية ومعاونتها في ذلك. وفي ظل مثل هذه الشروط فإنها ستسمو على النزعة القومية ومنازعات الأسر الحاكمة وغيرها.

وكانت المذكرة وردا على مذكرة جاءت من السير جون تروتيك من مكتب الشرق الأوسط البريطاني في القاهرة. وقد حاج تروتبك بأنه "ينبغي لنا أن نمضي ببطء شديد في تشجيع هذا المفهوم "لحركة الجامعة الإسلامية". وكتب يقول أنه على الرغم من "أن أحد مصادر جاذبيتها بالنسبة لنا هو افتراض أن التعاون الإسلامي قد يشكل حصنا منيعا أمام انتشار الشيوعية، فإن المشكلة تتمثل في أنها ستوجه أقوى مدافعها نحو الامبريالية الغربية، التي يعتبرونها أقوى أنصارها". ومن ثم "لا يمكنني الاعتقاد بأننا سنجد أي شيء بناء بدرجة أكبر في رابطة للبلدان الإسلامية".

وفي مذكرة أخرى، كانت هذه المرة موجهة إلى بيفن، حاج تروتبك أيضا بأن الدولة الإسلامية لا تشكل حاليا وحدة اقتصادية، لكنها إن أصبحت كذلك "فإن تأثير ذلك عل التجارة البريطانية لا يمكن إلا أن يكون مدمرا". واختتم تروتبك بطرح فكرة أخرى: أن الأقليات المسيحية ستنزعج من التعاون الإسلامي "لأنها تعرف من واقع الخبرة المريرة أنها إذا اجتمع مسلمان أو ثلاثة مسلمين معا، فإن تفكيرهم سيتجه عاجلا أو آجلا نحو إمكانية مغرية هي ذبح الكافرين". ورد بيفن على السفارة البريطانية في القاهرة قائلا:

إن المخاطر التي يسترعى تروتبك الانتباه إليها هي مخاطر حقيقة تماما. ومع ذلك، فإنني أعتقد أنه يستحيل علينا يقينا أن نحبط أي تحرك نحو تعاون أكبر بين البلدان الإسلامية، وأنه إذا قام هذا التعاون على وحدة المصالح العملية وليس على إنجازات سياسية، فإنه سيسفر عن نتائج قيمة في تشجيع ثقة الحكومات المعنية وفي تطوير ثروات المنطقة المحتملة على حد سواء.

وانطوت هذه المذكرات على موضوع مهم في السياسة البريطانية إزاء القوى الإسلامية. فقد أوضحت أن المسئولين البريطانيين يرون أن الإخوان المسلمين وحركة الجامعة الإسلامية "حصنان" مفيدان محليا ودوليا في مواجهة "الشيوعية" (وهو مصطلح فمه المخططون البريطانيون على نحو واسع للغاية على أنه يعني تشكيلة من القوى المعادية للبريطانيين)، لكن الجامعة الإسلامية باعتبارها قوة موحدة يرجح أيضاً أن تتحدى المصالح الاستراتيجية البريطانية. وفي حين كان المسؤولون البريطانيون حينذاك، مستعدين لمساعدة زعماء مسلمين فرادى أو مجموعات بعينها على تحقيق غايات محددة، مثلما حدث في الهند وفلسطين، فإنهم لم يعتبروا الإسلام حليفا استراتيجيا، وهي وجهة نظر ظلت ثابتة طوال عصر ما بعد الحرب. وقد مكنت وجهة النظر هذا التأمر البريطاني مع القوى الفاعلة من ولوج مرحلة جديدة، حيث بدأت شراكات مخصصة لغايات معينة تتعمق مع القوى المتطرفة في عملية سرية.

الفصل الثالث: قوات الصدام في إيران ومصر

كان أوائل الخمسينيات زمنا لاختبار قدرة المخططين البريطانيين. فقد سعوا إلى إعادة تشكيل عالم ما بعد الحرب حسب مصالحهم بالإبقاء بقدر الإمكان على مكانتهم الامبراطورية السابقة وبالقيام بدور الملازم والرجل الثاني للولايات المتحدة، التي أخذوا يعتمدون عليا بصورة متزايدة، واستمرت طموحاتهم تلقى اعتراضا ومواجهة، أساسا من قبل حركات قومية في بلدان شتى تبنت سياسات خارجية مستقلة بين القوى العظمى، واتبعت سياسات اقتصادية محلية تحدت هيمنة الشركات الغربية. وأضيفت إلى ذلك الحرب الباردة مع الاتحاد السوڤيتي، القوة الصاعدة للشيوعية الصينية عقب ثورة 1949. وبدأت حكومة أتلي، مقتدية بالرئيس ترومان في الولايات المتحدة برنامجا حاشدا لاعادة التسلح في مطلع الخمسينيات لدعم القوة الغربية على النطاق العالمي.

واستمرت بريطانيا في القيام بتدخلات شتى عسكرية وسرية، وتم أكبر نشر لقواتها في الشرق الأقصى، حيث بدأ آلاف من القوات البرطانية يقاتلون حركة العصيان في الملايو بعد الاعلان البريطاني لحالة الطوارئ في 1948، وفي كوريا حيث بدأت القوات البريطانية حملة دامت ثلاث سنوات عقب غزو الشمال لجنوب في يونيو 1950. وفي أكتوبر 1952، أعلنت بريطانيا، وقد خلف وينستون تشرشل ألي رئيسا للوزراء، حالة الطوارئ في مستعمرة أخرى، هي كينيا، وخاضت حربا وحشية ضد حركة "ماو ماو" القومية التي طالبت باعادة توزيع ملكيات الأراضي غير العادلة في البلاد. وفي 1953، أرسلت السفن الحربية البريطانية للإطاحة بحكومة تشيدي حاجات في غينيا البريطانية، والتي كانت قد انتخبت بصورة ديمقراطية، وتحدث أساسا المصالح التجارية البريطانية في البلاد.

وقد جرى وصف "مشكلة القومية" في تقرير لوزارة الخارجية بذلك العنوان في يونيو 1952، أبرز الفرق بين "القومية الذكية الراضية" و"القومية المستغلة الحانقة"، ورأى أ، الأخيرة من المرجح أن "تؤدي إلى تقويضنا سياسيا" وتتحدى مركز بريطانيا بوصفها قوة عالمية. ونبه التقرير إلى أن هذه القومية المعادية لها سمات خمس أساسية، جميعها ضارة بالمصالح البريطانية.

(1) الاصرار على ادارة شئونها الخاصة بدون أن تتوافر لها الوسائل أو القدرة اللازمة للقيام بذلك. (2) مصادرة الأصول البريطانية (3) إنهاء المعاهدات مع المملكة المتحدة من جانب واحد (4) المطالبة بممتلكات بريطانية (5) مواجهة المملكة المتحة (والدول الغربية) في الأمم المتحدة وبعد شهر من اصدار هذا التقرير، أطاح ضباط الجيش القوميون بالملك فاروق الموالي لبريطانيا واستولواعلى السلطة في مصر، وهي القاعدة العسكرية الكبرى لبريطانيا في الشرق الأوسط التي كانت لا تزال مستعمرة بحكم الأمر الواقع. وشكلت الثورة المصرية بداية لسلسلة من التحديات لقوة بريطانيا في المنطقة والنخب العربية التقليدية التي كانت تديرها بالنيابة عنها. وبحلول هذا الوقت كانت هناك دولة شرق أوسطية رئيسية أخرى تهدد المصالح البريطانية هي أيضا – وهي إيران – التي وافق برلمانها على تأميم عمليات النفط التي يسيطر عليها البريطانيون في البلاد في مارس 1951، وهي السياسة التي نفذتها حكومة محمد مصدق في مايو.

واعترف المخططون البريطانيون بكل من ناصر ومصدق باعتبارهما "معادين للشيوعية جهرا". وكانت المشكلة مع عبد الناصر كما ذكرت وزارة الخارجية هي أن "موقف الحياد [عدم مساندة لا الغرب ولا الاتحاد السوڤيتي] يتفق مع رغبة النظام الذي يريد أن يثبت أن مصر يمكن أن تقف موقف الند للند تجاه الدول الغربية – أي العمل بصورة مستقلة عن السيد الاستعماري وتحدي سياساته. وأصبحت مصر عبد الناصر النصير الرئيسي لما وصفه مسئول في وزارة الخارجية بأنه "فيروس القومية العربية". وساد الخوف من أن يلهم هذا النظام الحركات القومية بالإطاحة بالملكيات التي تساندها بريطانيا في أماكن أخرى وأن يوحد العرب. ووصف مسئولو الخارجية البريطانية "جوهر المشكلة" بأنه يتمثل في أن "عبد الناصر التزم بتوحيدالعالم العربي والتخلص من الامبريالية الأجنبية". وقد أقض تفشي هذا الخوف مهجع المخططين البريطانيين، حيث إنهم كانوا قد أنشأوا عقب الحرب العالمية الأولى، سلسلة من لادول المنفصلة في المنطقة لتظل "متفرقة" وتحت السيطرة الغربية الشاملة.

وردا على التحديات التي أثارها مصدق وعبد الناصر، سعى تشرشل إلى إزالة كلا النظامين. بيد أنه قبل اللجوء إلى الغزو الصريح لمصر في 1956، قامت بريطانيا بمناورات مع قوى فاعلة إسلامية في كل من مصر وإيران. فقد اعتبرت قوات الزعيم الشيعي آية الله كاشاني في إيران والإخوان المسلمين في مصر، رغم النظر إليهما بصفتهما معادين لبريطانيا، وعائقا استراتيجيها يعترض تحقيق مصالح هوايتهول طويلة الأجل، حليفين مؤقتين بالنسبة لبريطانيا التي كانت في أمس الحاجة للإبقاء على نفوذها بعد انتهاء الحرب في المنطقة في مواجهة قوتها المتداعية على نحو جلي.

العمل مع آية الله

إن حكاية الانقلاب المشترك الذي دبرته هيئة المخابرات الخارجية البريطانية، ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية في إيران في 1953، والذي أزاح رئيس الوزراء مصدق وأعاد الشاه إلى السلطة بوصفه حاكما مطلقا، وهي قصة معروفة جيدا. وتعتبر معظم التقارير أن المخابرات الأمريكية كانت هي المحرك الأول وراء انقلاب 1953، وأن بريطانيا كانت في الواقع هي المحرض في البداية، وأنها قدمت موارد كبيرة للعملية، وأنها عرفت على نحو دقيق بأنها "الجزمة". وهناك جانب من القصة معروف بالكاد هو التآمر البريطاني مع متأسلمين شيعة متطرفين رئيسيين في إيران وهم أسلاف آية الله خوميني.

وفي أوائل الخمسينيات، كانت شركة النفط الأنجلو إيرانية، أو شركة بريتش بتروليم كما تعرف حاليا، تدار من لندن وكانت مملوكة ملكية مشتركة بين الحكومة البريطانية ومواطنين بريطانيين من القطاع الخاص. كانت تسيطر على مصدر الدخل الأساسي لإيران، وهو النفط، وكانت قد أصبحت بحلول 1951، حسبما يقول مسئول بريطاني في واقع الأمر "امبراطورية داخل الامبراطورية في فارس". واعترض القوميون الإيرانيون على حقيقة أن دخل الشركة من النفط كان أكبر من دخل الحكومة الإيرانية، مع بلوغ أرباح الشركة 170 مليون إسترليني في عام 1950 وحده. وكانت الشركة تدفع للحكومة الإيرانية إتاوة هزيلة تتراوح بين 10 و12 في المائة من دخلها، في حين كانت الحكومة البريطانية تحصل على ما يصل إلى 30 في المائة كضرائب. وقد كان للسير فرانيس شيبرد، السفير البريطاني في طهران، موقف استعماري نموذجي إزاء الوضع: "من المهم للغايةمنع الفرس من تدمير مصدر الإيراد الرئيسي... بمحاولة إدارة شؤونهم بأنفسهم ... إن فارس ليست في حاجة لأن تدير بنفسها صناعة النفط من أجل نفسها (وهو ما تستطيع عمله) وإنما في حاجة للاستفادة من القدرة النقدية للغرب.

بالطبع، كانت إيران كما ثبت (ومثلما كان البريطانيون يدركون جيدا بلا ريب) قادرة على ادارة صناعة النفط الخاصة بها. وفي مارس 1951، وافق البرلمان الإيراني على تأميم عمليات النفط، والسيطرة على شركة النفط الأنجلو إيرانية والاستيلاء على أصولها. وفي شهر مايو، تم انتخاب محمد مصدق زعيم حزب الجبهة الوطنية الديمقراطية الاجتماعية رئيسا للوزراء، وقام فورا بتنفيذ القانون. وردت بريطانيا بسحب فنيي الشركة، وأعلنت حصارا على صادرات النفط الإيرانية، وإضافة لذلك شرعت في التخطيط للإطاحة بمصدق. ويتذكر مسئول بريطاني مؤخرا أن "سياستنا كانت هي التخلص من مصدق بأسرع ما يمكن". ووافق النمط البالي قديم العهد بتنصيب ملوك خانعين ومساندتم، كان الاختيار الأثير لبريطانيا هو تدبير "انقلاب غير شيوعي باسم الشاه"، وهو ما يعني "إقامة نظام استبدادي". وكان السفير في طهران يفضل اجراء اصلاحات اقتصادية وتسوية مسألة النفط بشروط معقولة – مما يعني إلغاء التأميم. وكان الرجل العسكري القوي الذي اختير ليرأس الانقلاب هو الجنرال زاهيدي، وهو الشخص الذي كان البريطانيون قد اعتقلوه لأنشطته الموالية للنازيين خلال الحرب.

على الرغم من الدعاية البريطانية، فقد كان المسئولون البريطانيون يعترفون سرا وبصورة شخصية بأن حكومة مصدق كانت بشكل عام حكومة ديمقراطية وقومية وتحظى بالشعبية وتعادي الشيوعية. إذ كان هناك فرق بين الجبهة الوطنية والتجمعات السياسية الأخرى في إيران هو أن أعضاءها كانوا، كما اعترف السفير البريطاني في إيران في مجالسه الخاصة، "بعيدون نسبيا عن أي اتهام بتكديس الثروة والنفوذ من خلال الاستغلال المستهجن للمناصب الرسمية". وكان مصدق يحظى بتأييد شعبي هائل، واستطاع بصفته رئيسا للوزراء أن يحكمقبضة كبار ملاك الأراضي والتجار الأثرياء والجيش والادارة المدنية على الشؤون الايرانية. ومثلما أوضح المسئولون البريطانيون، بطريقة نموذجية، فإن "كثيرين من الجهلاء اعتبروا مصدق نبيا".

وتفاقم التهديد القومي الشعبي الذي شكله مصدق، بتحالف المصلحة الذي ربطه بالحزب الشيوعي الإيراني الموالي لموسكوحزب توده. وفي اجتماعات مخططي العمليات السرية البريطانيون والأمريكيون طوال عام 1952، حاول الأولون تجنيد الأخيرين في مسعى للإطاحة بالحكومة بصورة مشتركة بالتركيز على سيناريو التهديد الشيوعي في إيران، ونبه أحد المسئولين البريطانيين في أغسطس 1952 إلى أنه من المرجح أن "يعمل الأمريكيون معنا إذا رأوا أن المشكلة تتعلق باحتواء الشيوعية وليس استعادة وضع شركة النفط الأنجلو إيرانية". بيد أن ملفات التخطيط البريطانية أو الأمريكية لا تبين أنهم كانوا يأخذون مأخذ الجد احتمال استيلاء الشيوعيين على البلاد، والأحرى أنهما كلاهما كانا يخشيان المثال الخطير الذي تضربه سياسات مصدق المستقلة بالنسبة للمصالح الغربية في إيران وأماكن أخرى في المنطقة. وبحلول شهر نوفمبر، اقترح فريق هيئة المخابرات الخارجية البريطانية بالاشتراك مع فريق وكالة المخابرات المركزية الاطاحة بالحكومة الإيرانية. وتم تزويد عملاء المخابرات البريطانية في إيران بأجهزة إرسال لاسلكية للإبقاء على اتصالهم بهيئة المخابرات الخارجية في حين أحاط رئيس عمليات هيئة المخابرات الخارجية، كريستوفر وود هاوس المخابرات المركزية الأمريكية، بالصلات البريطانية الأخرى في البلاد. كما بدأت هيئة المخابرات الخارجية في تزويد قادة القبائل في الشمال بالأسلحة.

كذلك أشرك التأمر الأنجلو أمريكي علماء الدين الإسلامي، وكان أهم شخصية دينية في إيران هو الفقيه الشيعي البالغ من العمر خمسة وستين عاما، آية الله سيد كاشاني، وكان كاشاني قد ساعد العملاء الألمان في فارس في 1944، وساعد بعد ذلك بعام في تأسيس فرع إيراني رسمي للإخوان المسلمين، هو فدائيان إسلام، وهي تنظيم أصولي متشدد. وكانت منظمة فدائيان قد تورطت في عدد من الهجمات الارهابية ضد الشاه في أواخر الأربعينيات، بما في ذلك محاولة اغتياله، وقتلت رئيس وزراء الشاه، علي رازمارا في 1951، وفي نحو ذلك الوقت، بدا أن كاشاني أنهى صلته بالمنظمة.

وبحلول مطلع الخمسينيات، كان آية الله قد اصبح رئيسا للبرلمان الإيراني، المجلس، وحليفا أساسيا لمصدق. ولاحظ تقرير المخابرات الأمريكية أن كاشاني، مثل مصدق، لديه قبول شعبي كبير وأنه يؤيد قوة سياسات الجبهة بشأن تأميم النفط، والقضاء على النفوذ البريطاني في إيران، "وإجلال القوة السيايسة للشعب معبرا عنها من خلال المجلس الوطني حقا محل السلطة السياسية للمجموعات التقليدية الحاكمة". بيد أنه، بحلول أوائل عام 1953، أصبحت العلاقات متوترة بين كاشاني ومصدق، خاصة حول اقتراح الأخير توسيع سلطاته، وفي يوليو من ذلك العام أقال مصدق كاشاني من منصب رئيس البرلمان. وتصاعدت التوترات بين مصدق وكاشاني وغيره من رجال الدين المؤيدين للجبهة الشعبية لمدى أبعد بتحريض من العملاء البريطانيين الرئيسيين في البلاد: شقيقان من أسرة رشيد انحدرا من عائلة ثرية لها ارتباطات بملوك إيران. كما عمل الشقيقان وكن لهما دور كبير في تأمين تأييد الشاه للانقلاب، فيما بعد عمل الشقيقان وسيطان بين ضباط الجيش ووزعا السلاح على القبائل المتمردة وغيرهم من آيات الله، وكذلك كاشاني.

وفي فبراير 1953، انفجرت أعمال الشغب في طهران، وهاجم أنصار زاهيدي مقر اقامة مصدق مطالبين بدم رئيس الوزراء. وينبه ستيفن دوريل خبير هيئة المخابرات الخارجية، إلى أن آية الله كاشاني هو الذي مول الدهماء، وأنه كان يعمل بالتعاون مع عملاء بريطانيين. وقدرة كاشاني على جذب الشارع الإيراني، أمر أبرزته وزارة الخارجية البريطانية التي لاحظت "ضخامة أعداد أتباعه في البازار بين أصحاب الحوانيت والتجار الأكبر سنا وما إلى ذلك. كان ذلك هو المصدر الرئيسي لقوته السياسية وقدرته على تنظيم مظاهرات". وقد كفلت المدفوعات والعطايا البريطانية تعاون كبار تجار الجيش والشرطة ونواب البرلمان والشيوخ الملالي والتجار ومحرري الصحف وقدامى رجال الدولة وكذلك قادة الدهماء. ويشرح مسئول المخابرات الخارجية أن هذه القوى كلفت بالاستيلاء على طهران، على أن يفضل اجراء ذلك بالتعاون مع الشاه ولكن يتم بدونه عند الاقتضاء، والقبض على مصدق ووزرائه".

كما حرك البريطانيون عملاء داخل حزب توده، وانخرطوا في تنظيم هجمات "تحت شعارات وأعلام زائفة" على الجوامع والشخصيات العامة باسم الحزب. ولاحظ ريتشارد كوتام من وكالة المخابرات المركزية فيما بعد أن "البريطانيين استغلوا الفرص وارسلوا الأشخاص الخاضعين لسيطرتنا إلى الشوارع لعمل كما لو كانوا من حزب توده. كانوا أكثر من مجرد مهيجين، كانوا فرق صدام، عملوا كلما لو كانوا أعضاء في حزب توده وألقوا الحجارة على المساجد ورجال الدين". وكان القصد من كل ذلك هو إرهاب الإيرانيين لدفعهم للاعتقاد بأن انتصار مصدق سيكون انتصارا للشرعية، وأنه يعني زيادة النفوذ السياسي لحزب توده".

وتحكي رواية سرية أمريكية عن خطة الانقلاب حكاها دونالد ويلبر وسئول وكالة المخابرات المركزية في 1954 ونشرته نيويورك تايمز في 2000، كيف:

أولى عملاء المخابرات المركزية اهتماما بترويع القادة الدينيين بإصدار دعاية سوداء باسم حزب توده، وتهدد هؤلاء القادة بعقاب وحشي إذا عارضوا مصدق. وأجريت اتصالات هاتفية بالبعض منهم لتهديده، باسم حزب توده وتم تنفيذ عدة تفجيرات وهمية بالقنابل لبيوت هؤلاء القادة.

ويشير التقرير إلى أن هذه "الحملة من الإرهاب المزعوم لحزب توده انطوت على تنظيم :"عصابات يزعم أنها من أعضاء حزب توده تجوب الشوارع بأوامر بنهب الحوانيت وتكسيرها.. ولتوضح بجلاء أن هذه من عمل حزبة توده".

وتبين الملفات البريطانية التي رفعت عنها السرية أن كلا من حكومتي بريطانيا والولايات المتحدة بحثتا تنصيب آية الله كاشاني قائدا سياسيا صنيعة في إيران عقب الانقلاب. ففي مارس 1953، كتب آلان روتني المسئول بالخارجية أن أنطوني إيدن وزير الخارجية ناقش مع رئيس وكالة المخابرات المركزية، الجنرال بيدل سميث، إمكانية التعامل مع كاشاني بديلا لمصدق، ولاحظ روتني أ،هما "يسرهما أن يعرفا ما إذا كانت لدينا أية معلومات تشير إلى أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة يستطيعان التوصل إلى طريقة للتعايش مع كاشاني فور أن يصل إلى السلطة. وكانا يعتقدان أ، كاشاني يمكن شراؤه، لكنه من المشكوك فيه ما إذا كان يمكن الإبقاء عليه ضمن الحدود المعقولة فور أن يتسلم السلطة".

والتفكير البريطاني الأمريكي في كاشاني باعتباره قائدا للمستقبل مليئ بالدلالات في حد ذاته، ورغم أن الرد الذي عاد من وزارتي الارجية في أمريكا وإنگلترا كان هو أن كاشاني سيكون عائقا، إذ كان يعتبر حتى ذلك الحين مستقلا أكثر مما يجب. وذكرت وزارة الخارجية البريطانية أن كاشاني "لن تكون له جدوى بالنسبة لنا وأنه من شبه المؤكد أن يشكل عقبة بصفته خليفة لمصدق، سواء بصفة عامة أو في مسألة التسوية الخاصة بالنفط على حد سواء". بل واعتبرته أنه حتى أكثر عداء للغرب من مصدق، واصفة إياه بأنه "معاد للبريطانيين" وأنه يكن عداء مريرا تجاهنا" بعد اعتقاله طويلا لمساعدته الألمان خلال الحرب. ووصفته وزارة الخارجية بأنه "رجعي تماما من الناحية السياسية... وأنه يعارض كلية الاصلاحات السياسية". ولاحظت أنه من المتصور أن يقبل أموال الغرب لكنه لن يتبع خطا معقولا بشأن تسوية مسألة النفط. وانتهت وزارة الخارجية إلى أنه إذا وصل إلى السلطة، فيستحيل التوصل لطريقة للتعايش معه... فلا يمكن أن نعتمد على أن كاشاني سيوفر لفارس الحد الأدنى من النظام والاستقرار وهو مان حتاج إليه بصفة أساسية".

بيد أن التعليقات المكتوبة المرفقة بهذا التقرير تبين أنه كان هناك مسؤولون آخرون في وزارة الخارجية "يفكرون في كاشاني باعتباره بديلا مؤقتا، أو جسرا إلى نظام أكثر إذعانا. إذ تساءل أحد المسئولين عما إذا كان ينبغي لبريطانيا أن تعمل لإحلال كاشاني محل مصدق قبل أن نستطيع توقع شيء أفضل بغية إحداث الثورة العامة الضرورية." وكانت وجهة النظر البريطانية هي أنه إذا لم يكن لبريطانيا أن تعهد لكاشاني بالسلطة، فإن قواته يمكن استخدامها كفرق صدام لتغيير النظام. وتشير الأدلة إلى أنه جرى تقديم مساندة بريطانية وأمريكية إلى هذا "السياسي الرجعي تماما" قبل كتابة التقرير المشار إليه آنفا في مارس 1953 وبعده. لذلك فإن هذه الواقعة تبين كيف كان صناع السياسة البريطانية مستعدين للعمل حتى مع قوات لا يمكن التعويل عليها بالكامل – ومعادية للبريطانيين حقا – لتحقيق أهداف مباشرة ضد عدو أكبر (في هذه الحالة حكومة منتخبة بطريقة ديمقراطية). وقد تكرر هذا الموضوع في كل أرجاء عالم ما بعد الحرب، حيث ظلت بريطانيا حتى وقت متأخر تتواطأ حتى مع قوى أكثر عداء للغرب.

وفي أواخر ييونيو 1953، أعطت الولايات المتحدة الترخيص النهائي للقيام بالانقلاب، وحددت التاريخ في منتصف أغسطس. وتم اجهاض الخطة الأولية للانقلاب عندما قام مصدق بناء على تحذير من تدبير مؤامرة ربما قدمه حزب توده، باعتقال بعض المسئولين الذين كانوا يتآمرون مع زاهيدي وأقام التاريس في طهران، مما أثار ذعر الشاه وجعله يهرب إلى الخارج.

وبغية تفجير انتفاضة أوسع نطاقا، اتجهت وكالة المخابرات المركزية لعلماء الدين وأجرت اتصالا مع كاشاني من خلال الأخوين رشدي. وسددا لفاتورة هذه العملية الأنجلو أمريكية المشتركة، منحت الولايات المتحدة 10 آلاف دولار لكاشاني لينظم مظاهرات حاشدة في وسط طهران، إلى جانب آيات الله آخرين أخرجوا أنصارهم إلى الشوارع. وفي خضم هذه المظاهرات، عين الشاه الجنرال زاهيدي رئيسا للوزراء وناشد الجيش الخروج لتأييده وتطورت احتجاجات أوسع نطاقا، تم فيها ضرب النشطاء المعادين للشاه واستولت القوات الموالية للشاه، بما في ذلك عناصر من الجيش، على محطة الاذاعة، ومراكز قيادة الجيش ومنزل مصدق، وأجبرت الأخير على الاستسلام لزاهيدي ومكنت الشاه من العودة.

كما ساعدت وكالة المخابرات المركزية في حشد مجاهدي فدائيان إسلام في هذه المظاهرات، ومن غير المعروف ما إذا كانت بريطانيا قد فعلت ذلك هي أيضا. ويعتقد أن نواب صفوي المؤسس والقائد الرئيسي لفدائيان إسلام، كانت له ارتباطات في ذلك الوقت بروح الله الخوميني، وهو فقيه شيعي وعالم اتخذ من مدينة قم المقدسة ومزارها مقرا له. وحسبما قال مسئولون إيرانيون، فإن الخوميني، وكان حينذاك من أتباع كاشاني كان من بين الحشد الذي أشرفت عليه أجهزة المخابرات الإنجليزية، ووكالة المخابرات الأمريكية الذي كان يحتج على مصدق عام 1953. وعمل أعضاء فدائيان إسلام باعتبارهم جنودا مشاة في ثورة 1979 الإسلامية، وساعدوا في التطبيق الشامل للشريعة في إيران.

وبعد الاطاحة بمصدق، تلقى البريطانيون تقريرا من السفير العراقي الجديد في طرهان، يخبرهم أن الشاه وزاهيدي زارا كاشاني معا "وقبلوا يديه،وشكروه على مساعدتهم في اعادة الملكية". وفورا تولى الشاه كل السلطات واصبح "ديكتاتورا" أثير لدى السفير البريطاني، وفي العام التالي تم انشاء اتحاد شركات جديد، سيطر على انتاج النفط الإيراني وتصديره، كفلت فيه بريطانيا وأمريكا لكل منهما حصة قدرها 40 في المائة – وكانت تلك أمارة على قيام نظام جديد، بعد أن شقت الولايات المتحدة طريقها عنوة إلى ما كان من قبل حكرا على البريطانيين. وفي الوقت نفسه، خبت صورة كاشاني من المشهد السياسي بعد 1953، لكنه عمل مرشدا ومعلما للخوميني وكان الأخير زائرا يتكرر تردده على منزل كاشاني. ووسم موت كاشاني في 1961، بداية صعود الخوميني الطويل إلى السلطة.

ورغم أن الولايات المتحدة هي التي أدارت الانقلاب، فقد كان البريطايون هم محركيه الأول، وكانت دوافعهم جلية. ومثلما قال فيما بعد سفير إيراني سابق إلى الأمم المتحدة حتى ثورة 1979، وهو فريدون هويدا:

فقد كان البريطانيون يريدون الحفاظ على امبراطوريتهم وكانت سياسة فرق تسد هي خير وسيلة لتحقيق ذلك .. كان البريطانيون يستغلون كل الأطراف. فقد جرت معاملات مع الإخوان المسلمين في مصر والملالي في إيران، ولكنهم كانوا يتعاملون في الوقت نفسه مع الجيش والأسر المالكة.. وأجروا معاملات مالية مع الملاي. كان عليهم أن يتوصلوا لأكثرهم أهمية ويساعدوهم.. كان البريطانيون يجيئون بحقائب مملوءة بالنقود ويعطوهنا لهؤلاء الأشخاص. فعلى سبيل المثال، كان هناك أناس في البازار، وتجار أثرياء لكل منهم آية الله الخاص به الذي يمولونه. وهذا هو ما كان يفعله البريطانيون.

وانبهرت الأميرة أشرف بهلوي الشقيقة التوأم للشاه، التي ضغطت على أخيها ليستعيد السلطة في 1953، في مذكراتها التي كتبتها في المنفى في 1980، إلى أن "كثيرين من علماء الدين أصحاب النفوذ شكلوا تحالفات مع ممثلي الدول الأجنبية، أساسا مع البريطانيين، وكانت هناك في الواقع نكتة تتكرر في فارس هي أنك إذا رفعت ذقن أحدعلماء الدين فسترى عبارة "صنع في إنجلترا" مطبوعة على الجانب الآخر". وكتبت أشرف أنه بعد الحرب العالمية الثانية "كانت عناصر اليمين الديني المتطرف قد بدأت تطفو للسطح ثانية، بعد سنوات من قمعها، وذلك بتشجيع من البريطانيين الذين اعتبروا الملالي قوة مضادةمفيدة ضد الشيوعية".

ورغم مبالغتها في ادعائها بشأن عبارة "صنع في إنجلترا"، فإن أشرف لخصت بجلاء وجهة النظر البريطانية بشأن المتأسلمين – وهي أنه يمكن استخدامهم للتصدي لتهديد المصالح البريطانية. وخلال فترة الاعداد للانقلاب في 1953-51، اعتبر البريطانيون كاشاني عائقا معاديا لغرب بدرجة يمكن معها أن يكون حليفا استراتيجيا، لكن أمكن استخدام قواته لتمهيد الطريق لاعادة الشخصيات الموالية للغرب، وتم اسقاطعها بمجرد أداء مهامها لصالح الدول الإمبريالية.

التعاون مع الإخوان

في الوقت نفسه الذي كانت فيه بريطانيا ترعى كاشاني في إيران، كانت أيضا تتواطأ مع أقوى قوة إسلامية في مصر، الإخوان المسلمين، ثانية لزعزعة استقرار ضم عدو قومي والإطاحة به. ومثلما رأينا في الفصل الأول، فقد كانت مصر هي مرتكز وضع بريطانيا في الشرق الأوسط، بقاعدتها العسكرية في منطقة قناة السويس، وهي الأكبر في العالم، وبموجب أحكام المعاهدة الأنجلو مصرية التي أبرمت في 1936 كان قد سمح لبريطانيا بالاستمرار في استخدام القاعدة لمدة عشرين عاما، لكن الهيمنة البريطانية على البلاد طفقت تحداها حركة قومية متنامية والإخوان المسلمون، ففي حين كان حليف لندن الرئيسي في البلاد هو حكامها، الملك فاروق.

وقد قام المسئولون البريطانيون الذين كانوا يعملون مع القصر في مصر، بأول اتصالاتهم المباشرة مع الإخوان المسلمين في مصر في 1941. وقدموا الأموال للمنظمة. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كان تنظيم الإخوان المسلمين واحدا من الحزبين السياسين اللذين يتمتعان بقاعدة جماهيرية في مصر، إلى جانب حزب الوفد الذي يضم الوطنين المعتدلين، واستمر الملك فاروق يرى أن الإخوان المسلمين مفيدون كحصن ضد الأفكار الاقتصادية والاجتماعية الراديكالية. والمعروف أن الإخوان المسلمين نقلوا معلومات للحكومة للمساعدة في مطاردتها المستمرة للشيوعيين الحقيقيين والمشتبه بهم، خاصة في النقابات والجامعات. بيد أنه كان هناك على الدوام تعايش متقلقل في خضم المعارضة المتزايدة للوجود البريطاني وتيار من العنف صدم مصر بعد 1945.

وسرعان ما تصاعدت المواجهة بين الإخوان – النزاعين لطرد "المحتل" الأجنبي والسعي لإقامة دولة إسلامية في نهاية المطاف – وبين البريطانيين والقصر. وشاعت في منطقة قناة السويس، الهجمات بالقنابل على القوات البريطانية، وادعت السلطات بانتظام أنها كانت تكتشف مخابئ أسلحة لدى الإخوان. كذلك حاول الإخوان القيام باغتيالات شتى بين 1945 و1948، وكان رئيسان للوزارة، ورئيس للشرطة ووزيران من بين من ماتوا على أيديهم. وفي ديسمبر 1948، عقب ادعاء السلطات اكتشاف مخابئ أسلحة سرية لدى الإخوان ومؤامرة للإطاحة بالنظام، تم حل التنظيم، وهو قرار من الواضح أن البريطانيين طالبوا الحكومة المصرية بأن تتخذه للقضاء على نشاطهم المعادي للبريطانيين. وبعد ثلاثةاسابيع، تم اغتيال رئيس الوزراء محمود النقراشي الذي أصدر أمر الحل على أيدي عضو من "الجهاز السري" للإخوان المسلمين، وهو الوحدة شبه العسكرية الإرهابية لديهم التي قامت بهجمات بالقنابل على البريطانيين في منطقة القناة.

وبحلول شهر يناير 1949، كانت تقارير السفارة البريطانية في القاهرة تقول إن الملك فاروق "سوف يسحق" الإخوان، بحملة ملاحقة كاسحة جديدة واعتقال ما يربو على 100 عضو. وفي الشهر التالي، تم اغتيال حسن البنا مؤسس الجماعة نفسه. ورغم أنه لم يتم التوصل للقاتل مطلقا، فقد ساد الاعتقاد بأن الاغتيال قام به أعضاء البوليس السري، وأن القصر تستر عليه أو خطط له. وكان هناك تقرير لا لبس فيه لهيئة المخابرات الخارجية البريطانية ذكر:

لقد دبرت الحكومة الاغتيال بموافقة القصر.. فقد تقرر أنه ينبغي ازاحة حسن البنا من مسرح نشاطاته بهذه الطريقة حيث أنه ما دام بقى حرا، فالأرجح أن يسبب ازعاجا للحكومة، في حين أن اعتقاله سيؤدي يقينا إلى مزيد من الاضطرابات مع أنصاره، الذين لا ريب في أنه يعتبرونه شهيدا لقضيتهم.

بيد أن حجج النفي كانت قد أعدت فعلا. فبعد ثلاثة أيام من الاغتيال سجل السفير البريطاني، السير دونالد كامبل بقد لقاء بالملك فاروق "قلت له إنني أعتقد أن الاغتيال ربما قام به أحد أتباع حسن البنا المتطرفين، خوفا منه، أواشتباها في أنه سيتخلى عن القضية". واخترع الملك فاروق بدوره هو أيضا رواية تلقي المسئولية على "السعديين" (وهم مجموعة منقسمة على حزب الوفد، سميت باسم سعد زغلول، زعيم الحزب ورئيس الوزراء السابق). وكان الدبلوماسي الأقدم في السفارة البريطانية في مصر يتستر على قتلة البنا لتغطيتهم.

وفي أكتوبر 1951، انتخب الإخوان قائدهم الجديد، وهو القاضي السابق حسن الهضيبي، وهو شخصية لم ترتبط علنا بالإرهاب، واشتهر بمعارضته لعنف 1945-49. بيد أن الهضيبي عجز عن أن يؤكد سيطرة الشيع المتصارعة أحيانا في التنظيم. وجدد الإخوان دعوتهم للجهاد ضد البريطانيين، داعين لشن هجمات على البريطانيين وممتلكاتهم، ونظموا مظاهرات ضد الاحتلال وحاولوا دفع الحكومة المصرية إلى إعلان حالة الحرب مع بريطانيا. وذكر تقرير للسفارة البريطانية من القاهرة في أواخر 1951 أن الإخوان "يملكون تنظيما ارهابيا منذ عهد بعيد لم تقض عليه مطلقا إجراءات الشرطة"، رغم الاعتقالات الأخيرة. بيد أن التقرير من جانب آخر قلل من شأن نوايا الإخوان تجاه البريطانيين، ذاكرا أنهم "يخططوا لإرسال إرهابيين لمنطقة القناة" لكنهم "لا يعتزمون جعل تنظيمهم يتصادم مع قوات صاحبة الجلالة". ونبه تقرير آخر إلى أنه على الرغم من أن الإخوان المسلمين كانوا مسئولين عن بعض الهجمات على البريطانين، فربما كان هذا يرجع إلى "عدم الانضباط، ويبدو أنه يتعارض مع سياسة قادتهم".

وفي الوقت نفسه، في ديسمبر 1951، تبين الملفات البريطانية التي رفعت عنها السرية أن المسئولين البريطانيين كانوا يحاولون ترتيب لقاء مباشر مع الهضيبي. وقد عقدت عدة اجتماعات مع أحد مستشاريه، فرخاني بيه، وهو شخص لا يعرف عنه الكثير، رغم أنه من الواضح أنه لم يكن هو نفسه عضوا في الإخوان. وتدل البيانات المستمدة من الملفات على أن قادة الإخوان كانوا مستعدين تماما للقاء مع البريطانيين سرا، رغم دعوتهم العلنية لشن هجمات عليهم. وبحلول ذلك الوقت، كانت الحكومة المصرية تعرض على الهضيبي "رشاوى ضخمة" لمنع الإخوان من ارتكاب مزيد من أعمال العنف ضد النظام حسبما أوردت وزارة الخارجية.

وبعدئذ، قامت مجموعة من ضباط الجيش الوطنيين الذين عقدوا العزم على الإطاحة بالملكية المصرية مستشاريها البريطانيين، بالاستيلاء على السلطة في يوليو 1952، وأعلنوا أنفسهم مجلسا لقيادة الثورة، واختاروا اللواء محمد نجيب رئيسا له والعقيد جمال عبد الناصر نائبا للرئيس. وخلع ما يسمى "الضباط الأحرار" فاروق الموالي للبريطانيين، ونحوا جانبا الحرس القديم واعدين بسياسة خارجية مستقلة وإجراء تغيير داخلي واسع النطاق، خاصة القيام بالإصلاح الزراعي. وأدى نزاع نشب بين محمد نجيب وعبد الناصر تدريجيا إلى عزل نجيب في أواخر 1945، وتولى عبد الناصر السلطة كاملة. وفي البداية ساند الإخوان الانقلاب، فقد أسعدتهم رؤية فاروق وهو يرحل. والواقع أنهم كانت لهم بعض الصلات المباشرة بالضباط الاحرار، ومن بينهم أنور السادات الذي وصف بدوره فيما بعد بأنه كان وسيطا فيما قبل الإنقلاب بين الضباط الأحرار وحسن البنا. وقد كتب السير ريتشارد بومونت السفير البريطاني في القاهرة، بعد أن خلف السادات عبد الناصر رئيسا في 1970 يقول: "من الواضح أنه كان واحدا من الضباط الأحرار، يتم الاعتماد على صلته بهم للمساعدة في تدعيم أهدافهم السياسية". ومنح الإخوان قادة الثورة تأييدا محليا مهما، وتم الحفاظ على العلاقات الطيبة باقي عام 1952، وطوال العام التالي في معظمه.

وفي أوائل 1953، اجتمع مسئولون بريطانيون مباشرة بالهضيبي، ظاهريا لمعرفة موقف الإخوان تجاه المفاوضات الوشيكة بين بريطانيا والحكومة المصرية بشأن جلاء القوات البريطانية من مصر، وكانت اتفاقية العشرين عاما الموقعة عام 1936 توشك على أن تنتهي بعد فترة وجيزة كما هو مقرر. وحيث إن بعض الملفات البريطانية لا تزال قيد الرقابة، فليس من المعروف على وجه الدقة ما الذي حدث في هذه الاجتماعات، لكن ريتشارد ميتشل، المحلل الفرنسي الرئيسي لشئون الإخوان المسلمين المصريين، وثق فيما بعد ما قاله عنه مختلف الأطراف – الحكومتان البريطانية والمصرية والإخوان المسلمين. ويخلص ميتشل إلى أن دخول الإخوان في هذه المفاوضات تم بطلب من البريطانيين وأثار صعوبات بالنسبة لمفاوضي الحكومة المصرية، موفرا "للجانب البريطاني أداة للتأثير". كانوا يلمون بوزنهم في شئون الأمة، وكان الهضيبي في موافقته على إجراء المحادثات، يدعم هذه الفكرة وبذا يضعف موقف الحكومة. وأدانت حكومة عبد الناصر هذه الاجتماعات بين البريطانيين والإخوان باعتبارها "مفاوضات سرية من وراء ظهر الثورة" واتهمت المسئولين البريطانيين صراحة بأنهم يتأمرون مع الإخوان كما اتهمت الهضيبي بأنه قبل شروطا معينة للجلاء البريطاني من مصر تغل بأيدي مفاوضي الحكومة.

ويبدو من المعلومات المحدودة المتوافرة، أن الاستراتيجية البريطانية هي استراتيجية فرق تسد التقليدية، والتي تهدف لاكتساب "وسيلة للتأثير على النظام الجديد في سعيه لتحقيق مصالحه". واستغلال البريطانيين للإخوان المسلمين لم يكن يمكن إلا أن يفاقهم التوترات بين النظام والإخوان ويقوي مركز الأخيرين. وتبين مذكرات داخلية بريطانية أن مسئولين بريطانيين أخبروا عبد الناصر عن بعض اجتماعاتهم مع الهضيبي وغيره من أعضاء جماعة الإخوان، وطمأنوه بالطبع بأن لندن لا تفعل شيئا في الخفاء. بيد أن حقيقة اجراء المفاوضات نفسها زرعت بلا ريب الشك في عقل عبد الناصر بشأن جدارة الإخوان بالثقة. وفي ذلك الوقت، كان المسئولون البريطانيون يعتقدون أن الإخوان وجماعتهم شبه العسكرية كانا رهن إشارة السلطات العسكرية وأن الإخوان كانوا يريدون أن يدفع النظام نوعا من الثيمن السخي لتأييدهم لهم، مثل تطبيق "دستور إسلامي".

كما تحتوي الملفات على مذكرة عن اجتماع عقد بين المسئولين البريطانيين والإخوان في 7 فبراير 1953، أخبر فيه شخص اسمه أبو رقيق المستشار الشرقي للسفارة البريطانية، تريفور إيفانز، أنه "إذا بحثت مصر في كل أرجاء العالم عن صديق فلن تجد سوى بريطانيا". وفسرت السفارة البريطانية في القاهرة هذا التعليق بأنه يكشف عن وجود مجموعة داخل الإخوان مستعدة للتعاون مع بريطانيا، حتى وإن لم تتعاون مع الغرب (إذ كانوا عديمي الثقة في النفوذ الأمريكي)". ويرد في ملاحظة مكتوبة بخط اليد في هذا الجزء من مذكرة السفارة: "إن هذا الاستنتاج له ما يبرره على ما يبدو وهو ما يدعو للدهشة". كما تلاحظ المذكرة أن الاستعداد للتعاون "ربما ينبع من تزايد نفوذ الطبقة الوسطى في الإخوان، مقارنة بالقيادة الشعبية في الأساس للحركة في أيام حسن البنا".

وأصبح الاستعداد الجلي للتعاون مع البريطانيين والإخوان أكثر أهمية بحلول نهاية 1953، ففي ذلك الوقت كان نظام عبد الناصر يتهم الإخوان بمقاومة الاصلاح الزراعي، وتدمير الجيش من خلال "جهازهم السري". وفي يناير 1954، تصادم أنصار الحكومة والإخوان في جامعة القاهرة، وأصيب عشرات الأشخاص وجرى إحراق سيارة تابعة للجيش. ودفع هذا عبد الناصر إلى حل التنظيم، وكان من بين القائمة الطويلة من الاتهامات الموجهة للإخوان في مرسوم الحل، الاجتماعات التي عقدها الإخوان مع البريطانيين، التي رفعها النظام فيما بعد إلى مستوى "معاهدة سرية".

وفي أكتوبر 1954، وهو الوقت الذي كان الإخوان يسعون فيه إلى إثارة انتفاضة شعبية، حاول "الجهاز السري" اغتيال عبد الناصر وهو يخطب في الإسكندرية. وعقب ذلك ، جرى اعتقال مئات من الإخوان، في حين ذهب الذين هربوا إلى منفى في الخارج. وفي ديسمبر، تم شنق ستة من الإخوان، وتم سحق التنظيم بصورة فعالة. وكان سيد قطب من بين من اعتقلوا وعذبوا بوحشية، وكان عضوا في مجلس الإرشاد، وحكم عليه بالسجن خمسة وعشرين عاما أشغال شاقة، وقد أصبح بحلول الستينيات من المنظرين الأساسيين للتطرف الإسلامي بكتاباته في سجن عبد الناصر.

وبعد فشل محاولة اغتيال عبد الناصر، بعث إليه ونستون تشرشل رئيس الوزراء رسالة شخصية يقول فيها: "أهنئك بنجاتك من الهجوم الخسيس الذي وقع على حياتك في الإسكندرية مساء أمس". بيد أنه سرعان ما بدأ البريطانيون يتآمرون مرة ثانية مع الناس أنفسهم لتحقيق الغايات نفسها.

وخلال سنوات ثلاث من النظام الجديد، شملت اصلاحات عبد الناصر الداخلية اعادة توزيع الأراضي لصالح فقراء الريف، واتخاذ خطوات نحو تعزيز الاصلاح الدستوري للحكم ليحل محل الحكم المطلق. وفي يوليو 1955، لاحظ السير رالف ستيفنسون السفير البريطاني في القاهرة، الذي كان قد تقرر رحيله، أن النظام كان "جيدا بقدر ما كانت أي حكومة مصرية سابقة منذ 1933، وهو أفضل من أي نظام في أحد النواحي، ألا وهو محاولته أن يفعل شيئا لشعب مصر بدلا من مجرد الحديث عنه". وحاج ستيفنسون هارلود ماكميلان وزير الخارجية في حكومة أنطوني إيدن "بأنهم إفادة [قادة مصر] يستحقون، في رايي، كل مساعدة تستطيع بريطانيا العظمى أن تقدمها لهم على الوجه الصحيح". وبعد كتابة هذه المذكرة بتسعة شهور، قرر البريطانيون إزاحة عبد الناصر.

كان البريطانيون والأمريكيون قد أصبحوا منخرطين حينذاك في تشكيلة متنوعة من المؤامرات للانقلاب ضد سوريا والسعودية، وكذلك مصر، باعتبارها جزءا من عملية اعادة تنظيم أكبر مخططة للشرق الأوسط لدحر "فيروس القومية العربية". وحسبما جاء في مذكرة بالغة السرية لوزارة الخارجية، فإن أيزنهاور رئيس الولايات المتحدة وصف للبريطانيين "الحاجة إلى خطط ميكافيلية رفيعة المستوى للتوصل لوضع في الشرق الأوسط موات لمصالحنا" يمكنه أن "يقسم العرب ويهزم أهداف أعدائنا".

وفي مارس 1956، عزل حسين ملك الأردن الجنرال البريطاني جون جلوب قائد الفيلق العربي، وهي خطوة حمل إيدن وبعض المسئولين البريطانيين مسئوليتها لنفوذ عبد الناصر. وعندئذ كانت الحكومة البريطانية قد خلصت إلى أنها لم تعد تستطيع العمل مع عبد الناصر وأن تخطيطا بريطانيا وأمريكيا جادا للإطاحة بنظامه قد بدأ، وأخبر إيدن وزير خارجيته الجديد، أنطوني ناتنج أنه يريد "اغتيال" عبد الناصر. وكان هذا قبل اتخاذ الأخير لقراره بتأميم قناة السويس في يوليو 1956، وهو عمل "كان من المحتم أن يؤدي إلى خسارة مصالحنا ومصادر قوتنا الواحدة تلو الأخرى في الشرق الأوسط"، كما شرح إيدن في مذكراته، خائفا من تأثير التداعي الذي سيترتب على الاجراء الذي اتخذته مصر. وقد شرح الموقف إيفون كيرباتريك الوكيل الدائم لوزارة الخارجية قائلا "إذا سمحنا لعبد الناصر أن يفلت بضربته في قناة السويس، فإن العاقبة ستتمثل في القضاء على الملكية في السعودية". وذلك لخوف من أن تستلهم القوى الوطنية تحدي عبد الناصر الناجح للغرب في مصر.

لا يزال الكثير من الملفات البريطانية الخاصة "بأزمة قناة السويس" قيد الرقابة، لكن بعض المعلومات تسربت على مر السنين حول مختلف المحاولات البريطانية للإطاحة بعبد الناصر أو اغتياله. وانطوت واحدة على الأقل من هذه الخطط على التآمر مع الإخوان المسلمين. ويلاحظ ستفين دوريل أن نيل "بيل" ماكلين المسئول التنفيذي السابق عن العمليات الخاصة وعضو البرلمان، وجوليان إيمري، سكرتير "مجموعة السويس" من أعضاء البرلمان، ونورمان دارشير رئيس محطة المخابرات الخارجية البريطانية في جنيف، أجروا جميعا اتصالات بالإخوان المسلمين في سويسرا، وكان ذلك في هذه المرة جزءا من علاقاتهم السرية مع المعارضة لعبد الناصر، ولم يظهر مطلقات مزيد من التفاصيل عن اجتماعات جنيف هذه، لكنها ربما انطوت على بحث تنفيذ محاولة الاغتيال واقامة حكومة في المنفى تحل محل عبد الناصر بعد حرب السويس. وفي سبتمبر 1956، كانت ايفون كيرباتريك على اتصال مع مسئولين سعوديين فيجنيف أخبروه بوجود "معارضة سرية ضخمة لعبد الناصر هناك"، والواقع أنه كان يخشى أن يؤدي استيلاء عبد الناصر على قناة السويس إلى القضاء على المقاومة المصرية، وهو ما يحتمل أن يعني الإخوان المسلمين.

وعلى وجه التأكيد، كان المسئولون البريطانيون يرصدون بانتباه أنشطة الإخوان المعادية للنظام، ويعترفون بأنها قادرة على أن تشكل تحدياً جاداً لعبد الناصر. وهناك أيضاً أدلة على أن البريطانيين أجروا اتصالات مع التنظيم في أواخر 1955، عندما زار بعض الإخوان الملك فاروق، الذي كان حينذاك منفياً في إيطاليا، لبحث التعاون ضد عبد الناصر. ومنح حسين ملك الأردن قادة الإخوان جوازات سفر ديبلوماسية لتيسير تحركاتهم لتشكيل تنظيمات ضد عبد الناصر، في حين قدمت السعودية التمويل. كما وافقت وكالة المخابرات المركزية على تمويل السعودية للإخوان ليعملوا ضد عبد الناصر، حسبما قال روبرت باير المسئول السابق بالوكالة.

وفي أغسطس 1956، اكتشفت السلطات المصرية حلقة تجسس بريطانية في البلاد وألقت القبض على أربعة من رعايا بريطانيا، منهم جيمس سوينبرن، وكان يعمل مدير أعمال في وكالة الأنباء العربية، وهي واجهة لهيئة المخابرات المركزية في القاهرة. وتم طرد اثنين من الديبلوماسيين البريطانيين تورطا في جمع الإستخبارات. ومن الواضح مثلما لاحظ دوريل، أنهما كانا على اتصال "بعناصر طلابية لها اتجاهات دينية" بفكرة تشجيع أعمال الشغب التي يقوم بها الأصوليون والتي يمكن أن توفر مسوغاً للتدخل العسكري لحماية أرواح الأوروبيين.

وفي أكتوبر، شنت بريطانيا في تحالف سري مع فرنسا وإسرائيل، غزوا على مصر للإطاحة بعبد الناصر، لكن رفض الولايات المتحدة تأييد التدخل هو في الأساس الذي وافقه. وتم الإضطلاع بالغزو والبريطانيون يدركون أن الإخوان المسلمين قد يصبحون هم المستفيد الأول ويشكلون حكومة ما بعد عبد الناصر وتبين المذكرات أن المسئولين البريطانيين كانوا يعتقدون في هذا السيناريو القائم على "الإحتمال" أم "الترجيح". ومع ذلك، ففي انعكاس لصدى نتائج تقييم لكاشاني زعيماً محتملاً في إيران، خشى المسئولون البريطانيون من أن ينتج استيلاء الإخوان على السلطة، "شكلاً أكثر تطرفاً من الحكم في مصر. ومرة ثانية، فإن هذا لم يوقفهم عن العمل مع هذه القوى.

وبعد هزيمة عبد الناصر للبريطانيين ببضعة أشهر، كان تريفور إيفانز وهو المسئول الذي قاد الإتصالات البريطانية مع الإخوان قبل أربع سنوات، يكتب مذكرات في مطلع 1957 يوضي فيها بأن "اختفاء نظام عبد الناصر . . . يجب أن يكون هدفنا الأول". ولاحظ مسئولون آخرون أن الإخوان ظلوا نشيطين ضد عبد الناصر في الداخل والخارج على حد سواء، خاصة في الأردن حيث كان يتم شن "جملة دعاية ضارية" ضده. وتبين هذه المذكرات أن بريطانيا ستواصل التعاون مع هذه القوى في المستقبل القريب – وقد حدث هذا فعلاً كما سنرى في الفصل التالي.

ومن ثم، فقد كانت بريطانيا مستعدة في كل من إيران ومصر للتآمر مع القوى المتأسلمة، واستخدامها ثانية لتحقيق غايات إمبرايالية، كجزء من ترسانة للأسلحة تستخدم في العمل السري. ولم تعتبر هذه القوى حليفاً استراتيجياً وإنما كان من المسلم به أنها معادية تماماً للبريطانيين. والمدهش أن بريطانيا لجأت للعمل مع هذه القوى وهي تعلم أنها حتى أكثر عداء للبريطانيين من النظم التي كانت هوايتهول تحاول الإطاحة بها. وكانت جدواها تتمثل في عضلاتها وقدرتها على التأثير على الأحداث، بالعمل كفرق صدام لمساعدة بريطانيا في استقالتها للإحتفاظ ببعض نفوذها في عالم ما بعد الحرب حيث أخذت قوتها تذوي. وتكرر اللجوء إلى التعاون مع هذه القوى، مهما كانت معادية للبريطانيين ومهما كان تعارضها مع المصالح طويلة الأجل، في العقود الأخيرة، حتى عندما زهرت في الصورة الجماعات الجهادية الصريحة.

الفصل الرابع - الإسلام في مواجهة القومية

كان النصف الأخير من الخمسينيات فترة فيض دافق من الإضطرابات في الشرق الأوسط. ودار النزاع الرئيسي فيه بين قوتين متصارعتين: من ناحية، النظم الوطنية العلمانية في المنطقة بقيادة عبد الناصر في مصر والتي شملت سوريا ولحقت بها العراق بعد ثورة 1958 التي أطاحت بالملك الموالي لبريطانيا، ومن ناحية أخرى الملكيات الإسلامية الموالية للغرب في السعودية والأردن ودول الخليج مثل عمان والكويت. وتدافعت بريطانيا بالمناكب لدعم الدول الأخيرة في مواجهة خطر جد حقيقي هو أن تنتشر الأفكار الجمهورية الشعبية المتطرفة المنبثقة من القاهرة أساساً، إلى الدول الغنية بالنفط، مما يحرم شركات بريطانيا والولايات المتحدة من السيطرة على النفط وهو السلعة الرئيسية الأولى في العالم.

وأعلن مجلس الوزراء في 1959 أن "المصلحة الخاصة" لبريطانيا هي "استمرار السيطرة على موارد النفط وما ينتج عنها من أرباح للملكة المتحدة. فقد كانت شركات النفط البريطانية، خاصة شركة بريتش بتروليم وشركة شل، تنتج نحو سدس النفط في العالم، أساساً في منطقة الخيلج، حيث كانت لها حصص كبيرة في الكويت وإيران، وكانت تتعامل في نحو ثلث تجارة النفط العالمية. وكانت هذه الشركات تسهم بمبلغ 150 مليون إسترليني سنوياً في ميزان المدفوعات البريطانية وتحقق 100 مليون إسترليني كأرباح. ولم يكن الخطر الرئيسي الذي يتهدد مصالح بريطانيا في النفط يتمثل في التوقف التام للإمدادات ولكن يتمثل في أنه إذا حرمت الشركات من إدارة إنتاج الخام والأرباح الناتجة عن هذا، والتي تمثل في الوقت الحالي الكتلة الأساسية من أرباحها في ظل هذا الوضع، فإن الشركات ستصبح مجرد تجار في نفط الشرق الأوسط. ونبه مجلس الوزراء إلى أنه "مع نقل السيطرة الكاملة على النفط عند المصدر إلى حكومات محلية، فإن الغرب لن تتوافر له مثل هذه الضمانات التي تكفل إمدادات لا تنقطع وأسعاراً معقولة وتنمية مستمرة للمدى المطلوب لتلبية الطلب في المستقبل.

وكان هناك شاغل خاص، وقديم العهد للبريطانيين يتمثل في الإبقاء على الشرق الأوسط مقسماً وضمان ألا تهيمن دولة بمفردها على موارد النفط في المنطقة. ومثلما طرحه رئيس الإدارة الشرقية في وزارة الخارجية في 1958، فإن: مصلحتنا تكمن في الإبقاء على الكويت مستقلة ومنفصلة، إذا أمكنا ذلك، اتساقاص مع فكرة الإبقاء على المناطق الأربع الرئيسية المنتجة للنفط (السعودية، الكويت، إيران، والعراق) تحت سيطرة سياسية منفصل.

وفي العام التالي، كتب سلوين للويد وزير الخارجية أن "مصلحة المملكة المتحدة في الكويت التي يتعذر تخفيضها هي أن تظل الطويت دولة مستقلة تتبع سياسة نفطية تديرها حكومة مستقلة عن منتجي الشرق الأوسط الآخرين". وإضافة للنفط، ألقى صناع السياسة البريطانيون الضوء على أربع "مصالح أساسية أخرى، هي "الحفاظ على وضعنا كقوة عالمية، وقوة الإسترليني، وضمان استمرار مشاركة الولايات المتحدة في الشئون العالمية، وأهمية تجارتنا".

وتم تكثيف العمل السري ضد القوى القومية، ولجأت بريطانيا إلى أسلوب مختبر ومجرب لفرض إرادتها: الغزو. فقد أعقب الغزو الفاشل لمصر في 1956 تدخل عسكري في عمان في العام التالي، للدفاع عن نظام السلطان القمعي في موادهة تمرد شعبي. وفي 1958، نشر البريطانيون قوة عسكرية في الأردن في الوقت نفسه الذي كانت الولايات المتحدة تتدخل فيه في لبنان، وكان القصد من كليهما درء إمكانية نشوب هبات قومية أخرى عقب ثورة العراق.

وكان التحدي القومي للمصالح البريطانية متجذراص في رغبة الشعوب في الشرق الأوسط، حيث أجبرت بريطانيا على تنفيذ عمليات "لتصفية الإستعمار" في كثير من البلدان خاصة أفريقيا. وفي بعض الحالات، واصلت لندن خوض حروب وحشية ضد حركات قومية في الأساس، خاصة في كينيا والملايو، حيث وصفت قوى المعارضة التي اضطلعت بعمليات عسكرية ضد البريطانيين بأنها مجرد إرهابين في عمليات الدعاية الحكومية متزايدة الإتقان. ومضت بريطانيا في هجومها على النظام الوطني القائد في إندونيسيا بتقديم مساعدات مستترة للتمرد الإنفصالي الذي كان به عنصر متأٍلم، كما سنرى لاحقاً في هذا الفصل.

وفي الشرق الأوسط، اختارت بريطانيا والولايات المتحدة دحر انتشار القومي العلمانية بدعم الدولة الأشد استاماً بالطابع المحافظ في المنطقة: السعودية.

مثلما تكونون يولى عليكم

عندما طرد عبد الناصر الإخوان المسلمين من مصر في حملته للتضييق عليهم في 1954، وجد كثيرون منهم ملاذاً في السعودية، بعد أن ساعدت وكالة المخابرات المركزية في إجلائهم. وقد سمحت لهم مؤهلاتهم بوصفهم جناحاً يمينياً محافظاً، رحبت به الأسرة الحاكمة السعودية، بأن يندمجوا سريعاً في المجتمع السعودي، وارتفع البعض منهم لمناصب النفوذ في مجال العمل المصرفي والتعليم الإسلامي. وسرعان ما حذا السوريون والعراقيون حذو المصريين في الهروب من النظم القومية التي استولت على السلطة في هذه البلدان إبان موجة الهبات. وفي أوروبا أيضاً، بدأ الإخوان المسلمون المنفيون يقيمون شبكات، ويشكلون فرعاً دولياً في ميونخ، يديره سعيد رمضان.

وفي حين كان السعوديون يمولون الإخوان من قبل فحسب، فقد أصبح هؤلاء حينذاك هم القاعدة الأساسية لتطوير نفوذهم الدولي. كانت الأسرة المالكة معادية بضراوة للقومية العربية، لأنها تعتبر القوى الشعبية في أماكن أخرى من الشرق الأوسط تحدياص لإستمرار حكمها وأن الإخوان المسلمين باعتبارهم محافظين، هم مصد ديني للقوميين. ويذكر راي كلوز وهو رئيس سابق لمحطة المخابرات المركزية في الرياض أن السعوديين كانوا متسامحين للغاية مع الإخوان المسلمين وشجعوهم في مصر والسودان وأماكن أخرى، لكنهم كانوا يعارضون بصورة حاسمة نشاطهم في السعودية.

وبحلول أواخر الخمسينيات، كانت المخابرات المركزية قد بدأت هي أيضاً في تمويل الإخوان، ويزعم أن الوكالة رعت بالإشتراك مع شركة أرامكو الأمريكية للنفط والسلطات االسعودية، إنشاء خلايا دينية صغيرة في السعودية تعارض القومية العربية. وفي تجميع لأحداث تلك السنوات، كتب ويلي موريس وهو سفير في السعودية مؤخراً أنه "في نحو 1956، واتت الرئيس أيزنهاور واحدة من أفكاره السايسية النادرة وظن أن الملك سعود يمكن تنصيبه تطبيقاً للقول: مثلما تكونون يول عليكم"" على العالم الإسلامي"، لمنافسة عبد الناصر في مصر". وبالمثل كتب إيزنهاور في مذكراته: هناك عامل أساسي في المشكلة هو نمو طموح عبد الناصر، والإحساس بالقوة الذي اكتسبه من ارتباطه بالسوفيت، واعتقاده أنه يستطيع أن يبزغ قائداً حقيقياً للعالم العربي بأسره . . . ولدحر أي حركة في هذا الإتجاه نريد تقصي إمكانية الملك سعود كثقل مواظن لعبد الناصر . . . (وكان سعود) رجلاً كنا نأمل في أن يستطيع في النهاية منافسة عبد الناصر بصفته قائداً عربياً . . . إن السعودية بلد يضم الأماكن المقدسة للعالم الإسلامي، والسعوديين يعتبرون أشد العرب تديناً. ومن ثم، فإن الملك ربما كان يمكن تنصيبه زعيماً روحياً. وبمجرد إنجاز ذلك نستطيع البدء في المطالبة بحقه في القيادة السياسية.

وفي ذلك الوقت، لم تكن علاقات لندن بالسعودية سلسلة بأي حال من الأحوال. فبعد غزو مصر قي 1956، قطعت السعودية علاقاتها الدبلوماسية معها. بيد أن الأمور طفقت تتدهور في أعقاب النزاع الأنجلو سعودي على واحة البريمي، التي تقع في منطقة غير محددة الحدود كانت تطالب عمان وأبو ظبي والسعودية. وفي سبتمبر 1952، استولت قوة سعودية، تساندها شركة أرامكو من الناحية اللوجستية على إحدى القرى في المنطقة، لكن في 1955، أعادت بريطانيا الإستيلاء على المنطقة، ونتيجة لذلك نشأ مأزق وبدأت عملية تحكيم متطاولة. وأفسد النزاع العلاقات البريطانية السعودية إلى أن أعيدت العلاقات الدبلوماسية في 1963. كما كان البريطانيون يعتبرون الملك سعود شخصياً عائقاً أمامهم، وقد لاحظ سفير بريطانيا في السعودية مؤخراً أنه يبدو أنه ليست لديه أي فكرة عن أن الأموال ينبغي إنفاقها على أغراض أخرى غير نزواته الشخصية أو أن هناك أي حدود للمقادير التي ستجئ منها.

ولم تنسجم محاولات بريطانيا للحفاظ على مصالحها في المنطقة دوماً مع المحور السعودي الأمريكي بصورة سلسلة. ففي لقائه بأيزنهاور في فبراير 1956، اشتكى رئيس الوزراء إيدن من أن نقود السعودية لم تكن تستخدم "ضدنا فقط ولكن ضد العراق أيضاً"، حيث كان الملك فيصل لايزال يحكم، وهو العاهل الموالي لبريطانيا. كما نقل إيدن إلى أيزنهاور، تحذير كميل شمعون الرئيس اللبناني كم "التأثير الشرير للاموال السعودية على الشرق الأوسط كله. ويعتقد أن مسئولي هيئة المخابرات البريطانية الخارجية قد اقترحوا على وكالة المخابرات المركزية "الإضطلاع بجهود لإستغلال الإنقسامات في الأسرة المالكة السعودية وربما استغلال وضعها في دول ساحل عمان المتصالح مشيخات الخليج للتعجيل بسقوط الملك سعود. وليس من المعروف ما إذا كانت قد تمت الموافقة على هذه المساعي أم لا، ولكن ذلك غير مرجح في ضوء سياسة أيزنهاور في دعم سعود، وهي السياسة التي يبدو أن لندن أذعنت لها مع تحسن علاقاتها مع السعودية تدريجياً.

وبحلول أواخر الخمسينيات كان البريطانيون قد روضوا أنفسهم وقبلوا صعود قوة السعودية التي تدعمه الولايات المتحدة، حيث إنه لم يكن لدى لندن أ] خيار آخر ومن ثم أصبحوا مدركين لجدوى استخدام السعوديين نيابة عن الإنجليز والأمريكيين في العمليات السرية في المنطقة. وفي 1958، انتشر ادعاء بأن السعوديين رشوا ضباطاً في الجيش السوري بما يصل إلى مليوني إسترليني لإسقاط طائرة عبد الناصر بقصفها وهو في طريقه إلى دمشق – وقد افتضحت المؤامرة ولوح عبد الناصر فيما بعد بالشيك الخاص بذلك أمام وسائل الإعلام. وحسبما يقول محمد حسنين هيكل مستشار عبد الناصر، فإن السعوديين دفعوا أيضاً لحسين ملك الأردن 5 ملايين إسترليني في 1961 لتمويل مؤامرة بدوية لإغتيال عبد الناصر في دمشق. وليس من المعروف ما إذا كانت لندن او واشنطن متورطتين في هاتين المؤامرتين، لكن لاريب أنهما رحبتا بهما.

جدوى الإخوان في سوريا

اتخذت الخطط الأنجلو أمريكية لدحر القومية العربية أشكالاً أخرى غير تعزيز مكانة السعوديين. ففي 1956-1957، كانت هناك على الأقل مؤامرتان أنجلو أمريكيتان خططتا للإطاحة بحكومتين في سوريا، وإن لم ينفذ أي منهما في نهاية الأمر، ويبين التخطيط الكامن وراءهما رغبة الأنجلو أمريكية للعمل مع الإخوان المسلمين مرة ثانية.

وكانت المشكلة بالنسبة لبريطانيا في سوريا هي أنه عقب سلسلة الإنقلابات العسكرية منذ أواخر الأربعينيات، شمل تعاقب من الحكومات مسئولين من حزب البعث القومي، الذين كانوا يؤيدون سياسة عبد الناصر المعادية للإمبريالية ويدعون لإقامة علاقة وثيقة مع موسكو. وفي فبراير 1956ـ لخصت إدارة المشرق في الخارجية البريطانية الوضع على نحو جامع فقالت:" إن الحكومات في سوريا غير مستقرة والجيش منخرط في السياسة بصورة عميقة ويتزايد خضوعه لليسار المتطرف، وهناك قدر كبير من التسلل الشيوعي. وقد أبرم السوريون تواً صفقات أسلحة ضخمة مع الكتلة السوفيتية وكل الأسباب تدعو للمحاولة وإنقاذ سوريا قبل أن يفوت الأوان". لكن هذا التقرير نفسه يسلم بأن العمل المباشر من قبل بريطانيا سيكون خطراً، "بسبب ردود الفعل القومية العربية، ومن ثم، فضلت الخارجية تجنيد العراق، وهو "شقيق عربي" للقيام بمهمة، "كسب سوريا إلى صفنا".

وفي الشهر التالي، وافق مجلس الوزراء البريطاني على أنه ينبغي القيام بمحاولة جادة لتشكيل حكومة سورية أكثر موالاة للغرب "لشد سوريا إلى مسار اليمين"، كما قال مايكل رايت سفير بريطانيا في بغداد. وكان ما سمي بتوزيع مسئولية العملية على أطراف شتى الذي وضع بالتعاون مع واشنطن مؤامرة طموحة للقيام بإنقلاب في دمشق. ومثلما وصف جورج يونج، نائب مدير هيئة المخابرات الخارجية البريطانية العملية، فقد كان من المقرر :أن تفعل تركيا حوادث على الحدود، ويحث العراق قبائل الصحراء والحزب الشيعي السوري في لبنان على التسلل عبر الحدود حتى تبرر حالة الفوضى الجماعية استخدام القوات العراقية الغازية". كذلك كان السير جون جاردنر السفير البريطاني في دمشق يريد تقديم الأموال لحزب التحرير العربي المعادي لليسار لإجهاض التحركات الرامية لإقامة اتحاد بين مصر وسوريا. وتمثلت سمة أساسية للمؤامرة البريطانية في "ضم سوريا – لدولة العراق"، كما قال [[سلوين لويد وزير الخارجية لأنطوني إيدن، وذكر له انه ينبغي عدم القيام بهذه المحاولة الآن، لكن "ربما نرغب في أن نمضي فيها قدماً في مرحلة لاحقة في ارتباط مع التطورات في الهلال الخصيب.

وإلى جانب مفاتحة القبائل الموجودة على الحدود بين سوريا والعراق في الموضوع، انطوت خطة "توزيع المسئولية بين أطراف شتى"، على محاولة تجنيد الإخوان المسلمين لإثارة القلاقل في البلاد. وكان المسئولون البريطانيون مدركين تماماً للقوة السياسية المتصاعدة للإخوان المسلمين وفي ديسمبر 1954 أخبر جاردنر أنطوني إيدن، الذي كان وزيراً للخارجية حينذاك، بأنه "تم تنظيم مظاهرات فريدة في ضخامتها في سوريا بواسطة الإخوان المسلمين" جرت بعد تضييق مصر الخناق على هذه الحركة. ولاحظ مسئول آخر أن "الإخوان نحجوا في زمن قصير نسبياً في خلق مركز نفوذ قوي لهم في سوريا". لكن آثار ذلك لم تكن إيجابية بالنسبة لمصالح بريطانيا، حيث إن ذلك لن يؤدي "إلا إلى زيادة الإتجاهات القائمة إلى المشاعر القومية والمعادية للغرب". وهكذا، فإن بريطانيا كانت تتآمر سراً مرة ثانية، بما يماثل سياستها في إيران ومصر، مع القوى المتأسلمة لتحقيق هدف محدد في حين تسلم بأنهم يلحقون الضرر بالمصالح البريطانية طويلة الأجل. وفي النهاية، تم دحر مخطط "توزيع المسئولية على أطراف شتى" التي انطوت على شهور من التخطيط، في أكتوبر 1956 عندما اعتقلت السلطات السورية بعض المتآمرين الرئيسيين. لكن سرعان ما اعتقلت السلطات السورية بعض المتآمرين الرئيسيين. لكن سرعان ما استؤنف التآمر البريطاني على سوريا مع الأمريكيين بعد الغزو الفاشل لمصر، فبحلول شهر سبتمبر 1957 تداول اجتماع الفريق، عمل سري عقد في واشنطن، تقريراص بعنوان "الخطة الأثيرة". وتعززت أهمية هذا التخطيط عندما وقعت الحكومة السورية اتفاقية للمعونة الفنية مع الإتحاد السوفيتي وعينت شخصية موالية للشيوعيين رئيساً للأركان. ورغم الشكوك في الإخوان المسلمين، فقد انطوت هذه الخطة الجديدة مرة ثانية على استمالتهم وتحريضهم في دمشق، وكان انخراط الإخوان أمراً أساسياً في إثارة انتفاضة داخلية كمقدمة للإطاحة بالحكومة السورية. واستهدفت المؤامرة التي لقيت مساندة من أعلى المستويات في لندن، تسليح "شيع سياسية لها قدرات عسكرية وغير ذلك من أنواع العمل النشيط" – وهو ما يرجح أن يشمل الإخوان المسلمين.

واستهدفت الخطة الأثيرة التي نفذت بتنسيق مع هيئات المخابرات العراقية والأردنية واللبنانية، مرة ثانية إثارة القبائل على الحدود العراقية السرية وكذلك تحريض طائفة الدروز في جنوب البلاد، واستخدام عملاء إدارة المخابرات السرية البريطانية من السوريين الذين يعملون داخل حزب البعث. ويرد في الخطة: "أن المخابرات المركزية وإدارة المخابرات ال سرية سيحاولان القيام بعملية تخريب صغيرة وحوادث مباغتة داخل سوريا، والعمل من خلال الصلات مع الأفراد". كذلك "ينبغي للمخابرات المركزية وإدارة المخابرات السرية أن يستخدما قدراتهما في الميدانين النفسي والعملي على حد سواء لزيادة التوتر" في الأردن والعراق ولبنان. كما تضمنت الخطة سمة نموذجية أخرى لعمليات التهييج البريطانية هي تنفيذ عمليات تحمل أعلاماً زائفة للغير، يلقي اللوم عليها على كاهل اعداء رسميين، وهو ما ثبت نجاحه في إزاحة مصدق من السلطة في إيران. وهذكا، توفر حوادث الحدود المدبرة وصداماتها ذريعة للندخل العسكري العراقي والأدرني. وكما يتعين جعل سوريا "تبدو راعياً ببمؤامرات وأعمال التخريب والعنف الموجهة ضد الحكومات المجاورة". وكان هذا يعني القيام "بعمليات تتخذ شكل تخريب، ومؤمرات وطنية، ومختلف أنشطة استخدام القوة، ليلقى اللوم فيها على دمشق.

كذاك انطوت الخطة الأنجلو أمريكية على قيام هارولد ماكميلان رئيس الوزراء بالترخيص باغتيال مسئولين سوريين كبار. "زينبغي بذل جهد خاص للقضاء على أفراد أساسيين بعينهم" كما ورد في الخطة التي تستطرد قائلة "ينبغي إتمام عملية الإزاحة مبكراً في مجرى الإنتفاضة والتدخل وفي ضوء الظروف القائمة في ذلك الوقت". وتم اعتماد "رئيس مخابرات الجيش السوري، ورئيس الأركان السوري وزعيم الحزب الشيوعي كأهداف". ومع ذلك، فإن الخطة لم تمض قدماً في نهاية 1957، أساساً لأنه لم يمكن إقناع جيران سوريا العرب باتخاذ الإجراءات اللازمة وتم التخلي عن الخطة في أوائل أكتوبر لصالح استراتيجية "الإحتواء إضافة لأعمال أخرى"، والتي انطوت على تجنيد الدول العربية الموالية للغرب ومجموعات المعارضة في المنفى لمواصلة الضغط على سوريا.

الوقوف لجانب الإخوان في الأردن

وبحلول ذلك الوقت، نشبت أزمة أخرى في بلد رئيسي آخر هو الأردن، وهنا أثبت الإخوان المسلمون أيضاً أنهم مفيدون. ففي أبريل 1957، نشب صدام وجهاً لوجه بين الملك حسين البالغ من العمر اثنين وعشرين عاماً – وكان هو عماد النفوذ الغربي في المنطقة منذ اغتيال أبيه عبد الله – وبين الحكومة الإشتراكية الموالية لعبد الناصر برئاسة سليمان النابلسي، التي كانت قد انتخبت بصورة حرة في شهر أكتوبر السابق. وكانت خطة النابلسي هي ان يصف الأردن إلى جانب سوريا ومصر، ومن ثم يحطم تبعية الأردن للغرب قديمة العهد. ورداً على ذلك، انخرطت وكالة المخابرات المركزية في بذر الشقاق بين النابلسي وحسين وتشويه صورة النابلسي وعبد الناصر بغية توفير ذريعة لحسين للعمل ضد رئيس وزارئه.

وفي شهر أبريل، أقال الملك الحكومة وعين حكومة ديمة تحت سيطرته، حاظراً كل الأحزاب السياسية ومطبقاً لقانون الأحكام العرفية. وقد أيدت انقلاب القصر هذا تلك التوليفة من القوى الرجعية التي كانت مألوفة حينذاك في المنطقة: السعودية وبرطانيا وأمريكا – والإخوان المسلمون. وساعدت وكالة المخابرات المركزية حسين في تخطيط انقلابه وبدأت في أعقاب ذلك تموله. وأرسل الزعيمان السعوديان فيصل وسعود قوة قوامها 6000 جندي لمساندة الملك، وجرى نشرها في وادي الأردن ومنطقة العقبة، ووعدا حسين "بتأييد غير مشروط".

وأورد تشارلز جونستون السفير البريطاني في عمان أن الإخوان المسلمين في الأردن "لا زالوا على ولائهم لجلالته". ورغم اعتبار كل الأحزاب السياسية غير قانونية، سمح حسين للإخوان المسلمين بمواصلة عملهم، ظاهرياً بسبب رسالتهم الدينية، لكن ذلك كان في واقع الأمر بسبب أن الملك وحلفاءه اعتبروهم أكفأ ثقل موازن لليساريين العلمانيين. وناشد دعاة الإخوان أتباعهم مساعدة السلطات في البحث عن مؤيدي الحكومة من الشيوعيين والقبض عليهم، في حين يعتقد أن حسين زود افخوان المسلمين في أريحا بالأسلحة للمساعدة في إرهاب المعارضة اليسارية. وقد كتب جونستون فيما بعد "إن الإخوان المسلمين كانوا مفيدين للملك حسين في أبريل باعتبارهم يمثلون منظمة "الذراع القوية التي يمكن عند الإقتضاء إطلاقها على متطرفي الجناح اليساري في الشوارع".

وقدمت بريطانيا الدعم للحكومة الدمية الجديدة التي عينها حسين لكنها لم تكن تروادها أي أوهام بشأن طبيعتها. فقد أورد جونستون في تقريره لسلوين للويد وزير الخارجية أن النظام "قمعي على نحو لا لبس فيه" وأنه يشبه كثيراً نظام فرانكو في إسبانيا، ويستند للقضاة والمفتين بدلاً من الكرادلة والأساقفة". بيد أن الأمر الحاسم هو أنه اتفق "أن النظام الأردني موال للبريطانيين": وأرى أن مصالحنا تتحقق على نحو أفضل بواسطة استبدادي، يحافظ على الإستقرار والإرتباط بالغرب بأكثر مما تحقق ديمقراطية طليقة العنان تندفع منحدرة إلى الشيوعية والفوضى. وهناك أيضاً ما يتعين ذكره لصالح نظام قمعي صراحة مثل ذلك القائم حالياً في الأردن، مقارنة بالنفاق البغيض الذي تمثله "الإنتخابات البرلمانية للعقيد عبد الناصر".

كان ذلك ملخصاً رائعاً لتفضيل بريطانيا لأنظمة القمع التي يساندها اليمين الإسلامي، بدلاً من حكومات أكثر شعبية أو ديمقراطية – وتلك سمة دائمة في سياسة بريطانيا في الماضي وفي الحاضر، تساعد في تفسير اللجوء المنتظم إلى التواطؤ مع القوى المتأسلمة. وقد جاء هذا التفضيل رغم معرفتها الكاملة أن انتخابات أكتوبر 1956 التي فاز فيها النابلسي "كانت هي تقريباً أول انتخابات حرة في الأردن". كما كان البريطانيون يدركون تماماً أن الملك حسين لايحظى بتأييد محلي كبير سوى من الإخوان المسلمين، وأنه دان بمنصبه على الدوام لإستعداد بريطانيا للمسارعة بنجدته.

ففي أوائل 1975، كان أنطوني ليدن يدرك أنه "إذا سحبت حكومة صاحبة الجلالة تأييدها، فإن المسألة تصبح مسألة وقت فقط قبل أن تتداعى مملكة الأردن" – وكان إيدن بلا ريب يعني بذلك تداعى النظام الموالي للغرب وليس البلد.

وبينما كان في مقدور الإخوان أن يفيدوا النظام الأردني، استمر المسئولون البريطانيون يعتبرونهم قوة معادية للغرب ومعادية للبريطانيين في الأساس، وهي وجهة النظر نفسها التي تبناها البريطانيون عن الإخوان في سوريا ومصر. وقد لاحظت السفارة البريطانية في عمان في أوائل 1957 أن نشاط الإخوان المتزايد "مثير للإضطراب" وأن مطبوعاتهم الرسمية – الكفاح الإسلامي – تعتبر البريطانيين والمسيحيين في الأردن الهدفين الرئيسيين للمنظمة. ولاحظ أحد المسئولين في وزارة الخارجية أن انتخابات اكتوبر 1956 دعمت المتطرفين في الإخوان وأن هذا لا يبشر بالخير بالنسبة "لما بقي من النفوذ البريطاني في الأردن". وأورد تشارلز جونستون في تقرير له قدمه لوزارة الخارجية في فبراير 1957 أن منظمة الإخوان المسلمين في الأردن تقودها مجموعة من المتعصبين المحليين ذوي العقلية الضيقة وأتباعهم من الأميين في معظمهم"، لكن لديها ميزة أنها "تعارض أحزاب اليسار القوية"، وأنها مثلما تهاجم البريطانيين والأمريكيين، فإنها تهاجم الشيوعية.

كان البريطانيون يخافون من تنظيم الإخوان جيد التأسيس والمختبر، حيث إنه خلال بضعة شهور من أزمة شهر أبريل، سحب تأييده لحكومة حسين الجديدة. وكان السبب في رأي السفير البريطاني هو أن الإخوان اعتبروا أن النظام "قد باع نفسه بالكامل للأمريكيين". وقال عن القطيعة بين التنظيم والنظام:"أعتقد أن الأمر لا يقتضي أن تكون سبباً للقلق"، وأضاف قائلاً إن الإخوان "لن يكونوا هدفاّ سهلاً للدعاية الروسية، السورية، أو حتى المصرية". وبهذا كان جونستون يقول إنه على الرغم من أن الإخوان معاندون للغرب، فإنهم يعارضون أيضاً الشيوعية والقومية، العدوين الأساسيين لبريطانيا.

وفي يوليو 1958 تلقى وضع بريطانيا في الشرق الأوسط لطمة أشد قسوة عندمات أطاحت ثورة شعبية بالملكية في العراق التي حكمت منذ أن نضبها البريطانيون في 1921. وبعثت الثورة، التي بزغ منها اللواء عبد الكريم قاسم قائداً، موجات من الصدمات في أوصال لندن وواشنطن اللتين خشيتا من أن تطيح الحماسة الثورية بالملك حسين والملكين الآخرين المواليين للغرب. وفي عملية مشتركة، تم إرسال قوات بريطانية إلى الأردن على وجه السرعة وإرسال قوات أمريكية إلى لبنان لدحر الخطر. وكتب سلوين للويد وزير الخارجية أن التدخل البريطاني في الأردن "خدم هدفاً مزدوجاً هو تقوية عزيمة الملك وإقامة رأس جسر لعمل محتمل يتم مستقبلاً في العراق حسب الإقتضاء"، وبذلك بين أن "غزو للعراق كان قيد النظر أيضاً". والواقع أن بريطانيا، كانت قد وضعت خططاً أيضاً لتدخل عسكري محتمل لمساندة الحكومات الموالية للغرب الأخرى في الكويت وليبيا والسودان. وأثارت دعوة الملك حسين لتدخل بريطاني في الأردن رد فعل حاسم من قبل الإخوان المسلمين في الأردن، الذين نظموا مظاهرات معادية للبريطانيين في عمان. ورداً على ذلك، اعتقل نظام حسين عبد الرحمن خليفة زعيم الإخوان (وأطلق سراحه بعد ثلاثة أشهر) واستمر في سحق أنشطة المنظمة السياسية. وبينت هذه الواقعة أنه في حين كان يمكن للإخوان أن يفيدوا في توفير المساندة لنظم رجعية موالية للبريطانيين في أوقات الأزمات، مثلما حدث في 1957، فإنهم شكلوا عائقاً فيما يتعلق بالتدخل الغربي في المنطقة.

تحالف سري في إندونيسيا

لم يكن الشرق الأوسط وحده الذي كان المخططون البريطانيون والأمريكيون يتخذون في بنشاط صف العناصر الإسلامية المتطرفة ضد الحكومات الوطنية. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قاد إندونيسيا، وهي البلد الإسلامي الأكثر سكاناً، أحمد سوكارنو وهو وطني لعب في 1955 دوراً رئيسياً مع عبد الناصر وجوهر لالا نهرو زعيم الهند، وقوامي نيكروما رئيس [[غانا]ي في تأسيس حركة عدم الإنحياز، وضمت هذه الحركة تسعاً وعشرين دولة، كانت تمثل ما يربو على ن صف سكان العالم، لمعارضة الإمبريالية والعضوية في أي كتلة للقوى الكبرى. وبحلول منتصف اخمسينيات، كانت سياسة سوكارنو الداخلية والخارجية تثير قلقاً كبيراً لدى المخططين في لندن وواشنطن، فقد راقبوا نمو شعبية الحزب الشيوعي الإندونيسي ونفوذه على حكومة سوكارنو بقلق بالغ. وعقب قيام الحكومة بتأميم المصالح التجارية الهولندية، كتبت وزارة الخارجية أنه "من الواضح ان لطمة خطيرة قد وجهت هكذا لثقة كل المؤسسات الأجنبية التي تتاجر في إندونيسيا ومعها". وإندونيسيا هي "بلد به عدد هائل من السكان وثروات كامنة كبيرة، ولايمكن بأي حال اعتبار ان مصالح بريطانيا فيه ليست بذات شأن". كانت بريطانيا تريد ضمان ألا تهدد إندونيسيا، وهي بلد مهم من الناحية الإستراتيجية به موارد معدنية شاسعة، المصالح التجارية الغربية المدى أبعد أو تزداد انزلاقاً نحو الشيوعية.

وبحلول أواخر 1957 طفق كولانيلات الجيش المنشقون في محافظات إندونيسيا النائية يثيرون المعارضة لما اعتبروه حكم جاكرتا المتمركز والإستبدادي المطلق الذي يستغل المحافظات الأكثر ثراء لصالح أجل [[جاوه]ي، وطالبوا باستقلال ذاتي محلي أكبر. وبحلول نهاية هذا العالم، لم تكن سلطة الحكومة تمتد كثيراً فيما وزراء جاوه ومنطقة سومطره الشمالية الشرقية، وفي غير ذلك من الأماكن كان القادة العسكريون المحليون قد سيطروا على أقالميهم بحكم الأمر الواقع. وفي يناير 1958، دبرت قوى المعارضة في سومطره وسيليبس تمرداً صريحاً ضد جاكرتا، وفي الشهر التالي أعلن المتمردون في مدينة بادانج في سومطره جمهورية إندونيسيا. ورداً على ذلك، شنت حكومة جاكرتا هجوماً عسكرياً مضاداً، وبحلول شهر يونيو من ذلك العام، نجحت عملياً في سحق التمرد. واستردت باندانج، وأجبرت المترمدين على اللجوء إلى حرب العصابات، رغم انهم كانوا لازالوا يسيطرون على مناطق كبيرة من سومطره.

وقد دبرت الولايات المتحدة عملية سرية لدعم التمرد في المرحلة الأولى منه، ولعبت بريطانيا دوراً كبيراً في ذلك. وكان التخطيط السري الأمريكي قد بدأ في 1957، بإصدار ترخيص بتقديم تمويل يبلغ 10 ملايين دولار، وتم تقديم الدعم للكولونيلات لأول مرة في الخريف، بدأت غواصات وطائرات أمريكية تنقل شحنات سرية من السلاح من الفلبين وتايوان وتايلاند. وكان السير روبرت سكوت، المفوض العام البريطاني في سنغافورة هو المحرض الأول على الجانب البريطاني، إذ أخذ يتفجع على "آُثار الأزمة المتفاقمة في إندونيسيا من حييث تسببها في اضطراب المصالح التجارية، وعلى أن إندونيسيا" قد تقع تحت السيطرة الشيوعية". وبعد أن أشار إلى "العناصر المهادية للشيوعية في سومطره وفي محافظات نائية أخرى"، أخبر وزارة الخارجية بما يلي: أعتقد أنه آن الآوان للتخطيط سراً مع الأستراليين والأمريكيين لتحديد أفضل طريقة لمنح هذه العناصر المعونة التي يحتاج إليها، وهذه السياسة الجريئة تنطوي على مخاطر جمة . . . ولا ريب أن العمل الذي أوصى به لن يكون له تأثير كبير على الرئيس سوكارنو. وهو لا يستهدف ذلك، وأعتقد أن السعي لسقوطه ينبغي أن يكون أحد أهدافنا.

كانت أهداف سكوت هي "الحد من الضرر الذي يستطيع الشيوعيون إنزاله بجاوه، وإنقاذ سومطره" و"الظفر بالتعاون الكامل من قبل الأمريكيين سراً وعلناً على حد سواء". بيد أن الإبقاء على وحدة إندونيسيا اعتبر أيضاً أمراً محتماً.

وفي فبراير، جرت مناقشات بالغة السرية في واشنطن بين مسئولين بريطانيين وأمريكيين وأستراليين. وقد كشفت هذه المناقشات كما لاحظت للسياسة الغربية" في إندونيسيا. إذ اتفقت الدول الثلاثة على أن "تدعم وتحاول بصورة مباشرة توحيد العناصر المعادية للشيوعية في جازه" و"أن تستجيب حيثما يكون ذلك عملياً لطلب المساعدة المقدم من إدارات المحافظات المنشقة". وجرى التعجيل بالعملية السرية، وحسبما ورد في دراسة شاملة لاودري وجورج كاهن، قدمت الولايات المتحدة سلاحاً كافياً لتسليح 8000 شخص أمريكي وفلبيني ومن القوميين المتطرفين الصينيين للخدمة والقيادة لأسطول صغير مكون من طائرة نقل وخمس عشرة قاذفة قنابل طراز بي-26. وقامت هذه القوة الجوية بغارات قصف كثيرة على المدن والسفن المدنية، دعماً للتمرد.

كانت الحكومة البريطانية ترى أن الوضع المثالي هو الإطاحة بسوكارنو، لكن المتمردين كانت لهم على أية حال ما دعاه سلوين لويد "قيمة تتمثيل في أنهم يزعجون العدو، أي القدرة على العمل كأداة للتأثير على سياسات جاكرتا. وقدمت بريطانيا سراً كمية صغيرة من الأسلحة للمتمردين، في حين قامت الطائرات الحربية البريطانية بمهام استطلاع فوق سومطره وشرقي إندونيسيا. وعندما هاجمت قوات الحكومة الإندونيسية موقع المتمردين في سيليبس، شوهدت أيضاً غواصة بريطانية، من الواضح أنها كانت تقوم بإنقاذ مستشارين شبه عسكريين أمريكيين عندما انهار الموقع. بيد أن الدور الأساسي لبريطانيا في العملية، تمثل في إتاجة قواعدها العسكرية في الملايو و سنغافورة، وكانتا لا تزالان مستعمرتين، للأمريكيين ليستخدموها، فقد استخدمت قاعدة سنغافورة مثلاً مركز تجميع لإسقاط الأسلحة الأمريكية للمتمردين.

والأمر المهم هو أن التمرد كان به عنصر متأسلم مهم استغلته ودعمته لندن وواشنطن، باعتباره مجموعة من العصاة لعبت دوراً مهماً في التمرد وتشكيل حكومة المتمردين. كان أحد الكولانيلات المنشقين الذين ساندهم البريطانيون والأمريكيون، أحمد حسين، وهو قائد كتيبة إقليمي استولى على الحكم في سومطره الغربية في ديسمبر 1956. وترأس حسين المداولات المعادية للحكومة، وأعلن شخصياً جمهورية التمرد في فبراير 1958، كذلك اعترفت وزارة الخارجية الأمريكية بأنه كان قريباً من حركة دار الإسلام المتعصبة. وكانت حركة دار الإسلام قد أنشئت على أيدي الميليشيات الإسلامية خلال الإحتلال الياباني في 1942 وقادها سيكارماجي كارتوسو ويرجو، وهو فقيه إسلامي تحول لسياسي. ومنذ 1948 سيطرت حركة دار الإسلام على مناطق شاسعة من وسط غرب جاوه وأعلنت دولة إسلامية هناك، لا تعترف إلا بالشريعة الإسلامية، ونصبت نفسها بديلاً لجمهورية سوكارنو الإندونيسية. وارتبطت دار الإسلام بحركات تمرد أخرى ضد حكم سوكارنو وجنوب كاليمنتان (بورنيو]. وقد اجتمع قادة دار الإسلام في 1953 وشكلوا جبهة متحدة لإعلان إندونيسيا الإسلامية، كان كارتو سويرجو إمامها الأول.

وعندما وصل هيو كامنج السفير الأمريكي إلى إندونيسيا في 1953، كان في البدء يعتبر حركة دار الإسلام "ظاهرة واعدة". وفي ذلك الوقت، ربما ساعدت الولايات المتحدة في تمويل منظمتها المركزية، وقدمت على وجه اليقين السلاح في أواخر الخمسينيات إلى تمرد إسلامي عشائري نشب في إقليم أتشيه، وقاده فقيه داوود بيوره. وأعلن بيوره أن الأجزاء الواقعة تحت سيطرته من أتشيه أصبحت أنذاك تشكل جمهورية أتشيه الإسلامية، وأنها واحدة من عشرة مكونات تشكل الهيكل الإتحادي لجمهورية التمرد الجديدة التي أعلنها الكولونيلات. ولسوء الحظ فإن الملفات البريطانية لا تحوي سوى تفاصيل قليلة عن المساندة التي قدمتها هوايتهول لقلوى المتأسلمة في هذا الوقت.

وبحلول منتصف 1958، كان الجيش الإندونيسي قد رد المتمردين على أعقابهم، موقعاً بهم هزائم عسكرية كثيرة مما زاد الضغط على صناع السياسة في واشنطن لتغيير المسار. وفي البدء، أدصرت الولايات المتحدة تعليمات إلى سفيرها في جاكرتا بأن يخبر سوكارنو أنه إذا "استأصل التهديد الشيوعي" في إدارته، فإن الولايات المتحدة ستتوقف عن معاونة المتمردين. وكان هذا يعني إبعاد شخصيات كبيرة أو تقويضها في الحكومة كانت تتعاطف مع أعضاء الحزب الشيوعي الإندونيسي. ولكن سرعان ما غيرت الولايات المتحدة المسار كلية، عندما واجهت استمرار تقهقر المتمردين وإمكان أن تخسر كل نفوذها لدى جاكرتا إن استمر التمرد، وقطعت كل الإمدادات المقدمة إلى المتمردين وتعهدت بدلاً من ذلك بتقديم المعونة العسكرية للحكومة العسكرية.

بيد أنه حتى بعد هذا، سمح البريطانيون المنشقين بمواصلة أنشطتهم من سنغافورة، التي كانت قد أصبحت قاعدة كبرى لعمليات الكولونيلات في الخارج استخدموها لإستيراد الأسلحة وتنسيق الأنشطة العسكرية والسياسية بين الأقاليم. واحتجت الحكومة الإندونيسية لدى بريطانيا لكن هذه رفضت هذه الإحتجاجات، ولم تتقلص أنشطة المترمدين هناك، إلا بعد أن فاز حزب العمل الشعبي بقيادة لي كوان يو في الإنتخابات التي أجريت في سنغافورة في 1959 – وعقب ذلك ظفرت سنغافورة بالحكم الذاتي في كل الأمور عدا الشئون الخارجية – وأخذت الحكومة الجديدة تسعى لتحسين العلاقات مع جاكرتا. وقد استمر التمرد لكن ابتلى بانشقاقات داخل صفوف المتمردين وتزايد قوة الإجراءات العسكرية التي تتخذها جاكرتا. وبحلول ربيع 1961، بدأ القادة العسكريون في أقاليم شتى، وقد أدركوا أن اللعبة قد انتهت حينذاك، في الإستسلام، وبحلول شهر أكتوبر كان التمرد قد انتهى. إذ كان تمرد الكولونيلات يعتمد كثيراً على المساندة السرية الأمريكية، بمدخلات أساسية من بريطانيا، وسرعان ما وهن عندما تم قطعها عنه.

وتم أسر كارتو سويرجو زعيم دار الإسلام في 1962، وسحقت قوات سوكارنو تمرده في غرب جاوه. بيد أن الحركة أعادت تشكيل نفسها تدريجياً ولعبت دوراً في المذابح التي تعرض لها الحزب الشيوعي الإندونيسي في 65-1966، كما سنرى في الفصل الخامس. كما أفرزت حركة دار الإسلام عدة جماعات صغيرة منشقة في إندونيسيا، خاصة الجماعة الإسلامية الإرهابية. وقلاع دار الإسلام التي كانت قائمة في الخميسينيات، هي الآن في أحوال كثيرة قلاع لمساندة الجهاديين في إندونيسيا. ويصعب تحديد ما إذا كان العمل السري البريطاني الأمريكي في الخميسينيات قد أسهم أم لا في التطور طويل الأجل للقوى المتأسلمة المتطرفة. ولا ريب أن تعاون لندن وواشنطن مع مثل هذه القوى يلقي الضوء على نمط مألوف: أنهما كانتا على أهبة الإستعداد للعمل مع العناصر الرجعية، المتطرفة عادة، التي لا يجمعهما معها الكثير غير عدو مشترك، أي حكومة علمانية وطنية ومستقلة بها بعض النفوذ الشيوعي. كانتا تعتبران الكولونيلات وحلفاءهم في دار الإسلام قوة وكيلة عنهما، فرقا للصدام تنوب عن لندن وواسنطن، مماثلة للإخوان المسلمين وآيات الله الإيرانيين. وبعدما تم استخدام هذه القوة بسبب قيمتها بوصفها عنصر إزعاج للعدو تم إسقاطها عندما فقدت جدواها. كان تقويض مكانة العدو الرئيسي هدفاً قصير الأجل لفترة على الأقل، لابد من تحقيقه بأ] تكلفة بغض النظر عن التداعيات طويلة الأجل.

الفصل الخامس - رسالة الإسلام العالمية

طوال الستينيات من القرن الماضي، استمرت المواجهة في الشرق الأوسط تدور بين النظم الوطنية العلمانية، بقيادة مصر عبد الناصر، والملكيات الإسلامية بقيادة السعودية. وتصارع الجابنان على النفوذ في كل أرجاء المنقطة، ووجد النزاع تعبيراً صريحاً عنه في حرب اليمن الدموية التي استطالت زمناً فاستغرقت عقداً في معظمه. واتفاقاً مع استراتيجياتها على نحو نموذجي، ضمت بريطانيا قواتها إلى جانب السعوديين لدعم قوات إمام اليمن المخلوع ضد النظام الجمهوري الجديد الذي كان يؤيده عبد الناصر، مما فجر حرباً أهلية قتل فيها ما يصل إلى 200 ألف شخص. فقد كانت بريطانيا والسعودية تخشيان من أن يكون للمثل اليمني للقومية العلمانية تأثير التداعي، وينتشر في كل أرجاء الشرق الأوسط – ربما حتى إلى السعودية نفسها – مما ينزع موارد حيوية من النفط من السيطرة البريطانية والأمريكية ويضعها في أيدي حكومات شعبية، ويقوض بدرجة أكبر النفوذ الغربي في المنطقة.

كان الرهان ضخماً، حيث كانت الشركات البريطانية تملك 40 في المائة من النفط في الخليج، مع وجود حصص كبيرة لها في اتحادات شركات في الكويت وإيران بصفة خاصة. كانت هناك شركتان بريطانيتان (برتش بتروليم وشل) من بين ثماني شركات تسيطر على تجارة النفط العالمية مما يعني أن مصالح هوايتهول لا تكمن في ضمان الحصول على النفط فحسب وإنما أيضاً في كفالة احتفاظ الشركات البريطانية بحصتها التجارية في هذه الصناعة. وكانت الحكومة تحقق إيرادات غير منظورة من إنتاج شركات النفط البريطانية ةومبيعاتها في البلدان الأخرى وصلت إلى 800 مليون إسترليني في خمس سنوات من 1961-1965، وبحلول 1967، كانت قيمة الأصول المملوكة لهذه الشركات في الخارج تبلغ ملياري دولار. ولحماية هذه الإيرادات، اتبعت الحكومة البريطانية سياسة صريحة لمعارضة الحكومات التي "تصادر أو تكتسب سيطرة بأكثر مما يجب على استثمارات النفط الغربية"، في حين كان هدفها العريض يوصف بأنه "منع تدخل الحكومات في تجارة النفط بغير موجب".

وهكذا كان السعوديون والبريطانيون يخافون أيضاً من مجموعة قويمة في أماكن أخرى في شبه الجزيرة العربية، خاصة عدن وعمان. وفي 1964 ردت بريطانيا على عصيان قومي نشب في إقليم ردفان في غربي عدن بقصف القوى المتمردة بالقنابل ورشوة زعماء القبائل المحليين. وفي العام التالي، هبت هوايتهول للدفاع عن سلطان عمان، الذي كان يرأس نظاماً ربما كان هو الأكثر قمعاً في الشرق الأوسط فيما بعد الحرب، حيث كان محظوراً لبس النظارات والحديث لأي شخص لأكثر من خمس عشرة دقيقة، وحيث كانت موارد النفط مركزة في أيدي البريطانيين والسلطان، في حين ظل البلد متخلفاً بشكل كامل. وبدأت بريطانيا ما أصبح عملية سحق دامت عشر سنوات للمتمردين الذين كانوا تساندهم مصر والذين أعلنوا تحرير إقليم ظفار في جنوبي عمان، وفي البدء ساند السعوديون ثورة ظفار لتقويض سلطان عمان، بسبب نزاعات كانت جارية معه على الحدود، لكنهم سرعان ما انكفأوا على أعقابهم وأيدوا النظام.

وعلاوة على السيطرة على النفط، كانت المصالح البريطانية الكبيرة الأخرى في الشرق الأوسط تقضي بالحيلولة دون قووع النمطقة تحت سيطرة "الشيوعية السوفيتية وغيرها من أنواع الهيمنة المعادية" و"الحفاظ على احتياطات عربية ضخمة من النقد الجنبي بالإسترليني". وشكلت النظم القومية تهديداً خاصاً لهذه الأولوية الأخيرة، فقد كان لبريطانيا مصلحة طويلة الأجل في ضمان أن تستثمر الدول التابعة لها إيراداتها في بريطانيا وفي نظامها المصرفي. ففي 1961 على سبيل المثال، تبين السجلات أن المخططين البريطانيين – المتلهفين على ضمان أن تواصل الكويت الغنية بالنفط الإعتماد على "الحماية" البريطانية بعد أن كفلت استقلالها ذلك العام – افتعلوا تهديداً عراقياً لهذا البلد لتبرير التدخل العسكري البريطاني. واعترف المسئولون بأن الشركات البريطانية استطاعت تحقيق أرباح هائلة من نفط الكويت، ولكنها استفادت أيضاً من "استعداد الكويت لقبول الإسترليني والإحتفاظ به". كانت الإستثمارات الكويتية في بريطانيا تعني على حد كلمات مسئول الخارجية البريطانية في اعتراف له، أنها "ستتفادى ضرورة تقاسم ثروتها النفطية مع جيرانها" – وتلك وجهة نظر تبين أن المسئولين البريطانيين كانوا يدركون تماماً تضارب أولوياتهم مع احتياجات الفقراء في الشرق الأوسط.

وفي البدء، حقق البريطانيون بعض النجاح في سحق القوى القومية في المنطقة، لكن مع انقضاء ذلك العقد أصبح الضعف البريطاني أشد وضوحاً. ففي نوفمبر 1967، أجرت بريطانيا على انسحاب مذل من مستعمرة عدن، إذ طردتها قوات جبهة التحرير الوطني، التي كانت تقاتل من أجل الإستقلال بدعم مصري منذ 1963. وتواكب تزايد اعتماد بريطانيا على السعودية للإبقاء على الوضع الغربي القائم، ودحر التسلل الناصري إلى الجزيرة العربية والشرق الأوسط الأعرض، مع وقوع حدث داخل المملكة كانت له عواقب ضخمة على تقدم الإرهاب العالمي اللاحق. ففي بداية الستينيات، شرع السعوديون في نشر رسالة إسلامية عالمية، هي الإسلام "الوهابي"، وذلك لمد نظاق النفوذ السعودي وصد عبد الناصر، وهي عملية وسمت بداية انبعاث الإسلام السياسي اليميني المتطرف.

الرسالة ومناصروها البريطانيون

عقب المؤتمر الإسلامي الدولي الذي عقده في مكة ولي العهد الأمير فيصل في 1962، أقام السعوجيون رابطة العالم الإسلامي التي تديرها المؤسسة الدينية السعودية، وكانت ترسل مبعوثين ودعاية مطبوعة وتمول بناء المساجد والجمعيات الإسلامية في شتى أنحاء الأرض. وكان كثيرون من أوائل من عينوا مستخدمين فيها من الإخوان المسلمين الذين كانوا قد وجدوا لهم ملاذاً في السعودية بعد أن طردهم من مصر عبد الناصر في الخمسينيات. وشمل أعضاء الرابطة المؤسسون مفتي القدس الأكبر، الحاج أمين الحسيني، وسعيد رمضان المنظم الرئيسي لتنظيم الإخوان المسلمين الدولي الذي كتب دستور الرابطة، وعبد الأعلى المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية الباكستانية. وورد في الإعلان الأول للرابطة: "أ، الذين يشوهون دعوة الإسلام تحت ستار القومية هم أشد الأعداء ضراوة بالنسبة للعرب الذين تتضافر أمجادهم مع أمجاد الإسلام".

وتوهم فيصل الذي تولى الملك في السعودية في 1964، أنه ملك الإسلام، وعند توليه السلطة رسمياً خاطب الأمة بعبارات جاء فيها: "أن الأمر الذي تريده منكم هو تقوى الله، والتشبث بتعاليم دينه وأحكام شريعته حيث إن هذا هو أساس عظمتنا، إنه العامل الأساسي . . . لحكمنا وسر قوتنا". وأعلن فيصل أن هدف السياسة الخارجية هو "التحرك جنباً إلأى جنب مع الأمم الإسلامية في كل أمر قد يحقق للمسلمين عظمتهم ويعلي من شأنهم ومستواهم.

ولعبت بريطانيا دوراً مهماً في انقلاب القصر الذي أوصل فيصل إلى السلطة والذي أطاح شقيقه الأكبر، الملك سعود، الذي شغل العرش منذ 1953. فبحلول 1958 كان فيصل قد سيطر على إدارة الحكومة ومع مجئ 1963 استخجم هذا الموقع ليصبح القوة المهيمنة بين الاثنين. وفي ديسمبر من ذلك العام، أمر سعود بنشر قوات ومدافن خارج قصره في الرياض ليعيد تأكيد سلطته، واستمر التعادل المحتقن مع القوات الموالية لفيصل حتى 1964، عندما طالب سعود فيصل بأن يقيل اثنين من وزرائه ويحل محلهما اثنين من أبناء الملك. وقد الحرس الوطني دعماً حاسماً لفيصل، وهو التشكيل الذي بلغ قوامه 20 ألف جندي والمسئول عن حماية النظام والأسرة المالكة – وطان في الأصل يسمى "الجيش الأبيض" أو الإخوان وكان قد فتح الجزيرة العربية بصورة دموية لصالح ابن سعود. كان الأمير عبد الله هو قائد الحرس الوطني آنذاك، وهو الملك الحالي للسعودية، وكان هذا الحرس يتم تدريبه على أيدي بعثة عسكرية بريطانية صغيرة في البلاد بناء على طلب سعودي كان قد قدم في العام الفائت. وحينذاط تولى مستشاران بريطانيان للحرس الوطني، البريجادير تمبرل والكولونيل بروماج، وضع خطط بناء على رغبة عاجلة من عبد الله "لحماية فيصل"، و"حماية النظام"، و "احتلال نقاط معينة"، و"حجب محطة الإذاعة عن الجميع سوى الذين يؤيدهم الحرس الوطني". وكفلت هذه الخطط البريطانية الحماية الشخصية لفيصل، وساعدت في نقل السلطة إليه.

كان البريطانيون يرون أن سعود غير كفؤ ويعارض تطبيق الإصلاحات السياسية الضرورية لمنع الإطاحة ببيت آل سعوج. وقد كتب فرانك برنشلي القائم بالأعمال في السفارة البريطانية في جدة يقول "إن رمال الزمن تتهاوى باطراد من تحت أقدام النظام السعودي"، وكان العامل الأساسي هو الثورة الوطنية في اليمن المجاورة وتدخل القوات المصرية هناك، والذي تحدى سلطة السعودية في الجزيرة العربية. "كان فيصل يدرك أنه يتعين عليه أن يجري الإصلاحات سريعاً إذا أراد بقاء النظام. ونظراً للإفتقار إلى المديرين المدربين، فقد جاهد للتعجيل بتطوير النظام لتفادي نشوب ثورة".

وفي 29 مارس 1964، أصدرت القيادة الدينية في السعودية – العلماء – فتوى تقر نقل السلطة لفيصل استناداً للشريعة، وبعد يومين أجبر الملك سعود على التنازل عن العرش. ويلقي الدور المهم الذي لعبه البريطانيون والعلماء الوهابيون على حد سواء في التصديق على انقلاب القصر، الضوء على القوتين اللتين كان الحكام السعوديون يعتمدون عليهما، بالإضافة للأمريكيين. ولاحظ كولن كرو السفير البريطاني في تأمله للإنقلاب أن ما يمكن أن يكون خطيراً في الأجل الطويل "بشأن نقل السلطة" هو "أنه جاء بالعلماء إلى الصورة وأنهم يمكن أن يتقاضوا ثمن تأييدهم". وقد ثبت أن تعليقاتهم يبعد النظر.

اقترح فيصل إقامة "تحالف الجامعة الإسلامية" بين البلدين الإسلامية الموالية للغرب، في محاولة لتعزيز سياسة بلاده الخارجية الإسلامية، وجاب تسعة دول مسلمة في 65-1966 للترويج للفكرة. وبنهاية العقد، كان فيصل قد ساعد في تشكيل منظمة المؤتمر الإسلامي، التي أقيمت في الرباط في 1969 بأمانة دائمة في جدة، كان القصد منها هو تعزيز التضامن بين الدول الإسلامية. كما بدأت السعودية في إغداق الأموال على المركز الإسلامي في جنيف، الذي كان قد أنشأه سعيد رمضان في 1961، والذي عمل مقر قيادة دولي للإخوان المسلمين، وأصبح مركزاً لعصب التنظيم ومكاناً لإجتماعات المتأسلمين من شتى أنحاء العالم. وخلال عقد الستينيات انتقل الآلآف من الإخوان المسلمين إلى أوروبا، إلى ألمانيا أساساً، وأنشأوا تدريجياً شبكة واسعة جيدة التنظيم من الجوامع والمؤسسات الخيرية والمظمات الإسلامية، وظل رمضان نفسه في سويسرا حتى موته في 1995. كما جاء الإخوان المسلمون إلى السعودية من كل أنحاء الشرق الأوسط خلال الستينيات. وكان من بينهم لاجئ فلسطيني اسمه عبد الله عزام تولى باعتباره محاضراً في جامعة جدة، تدريس الشاب أسامة بن لادن، وكان في أوائل الثمانينيات في صدارة الجهاد ضد السوفيت في أفغانستان. وكان هناك محاضراً في جامعة جدة، هو المصري محمد قطب شقيق المنظر الأيدولوجي الإسلامي سيد قطب الذي كانت قواه تخور حينذاك في أحد سجون عبد الناصر. وساعد هذا الإندماج بين علماء الدين المحليين الذين تربوا على التقاليد الوهابية السعودية والجهاد الدولي للإخوان المسلمين المنفيين في توفير أساس فكري وأيدبولوجي للتطور اللاحق للقاعدة.

والرسالة الإسلامية للسعودية والتوسع الدوليللإخوان المسلمين أمران مهمان بصفة خاصة في ضوء الشبهات قديمة ا لعهد فيأن سعيد رمضان ربما كانت قد جندته وكالة المخابرات المركزية وإدارة المخابرات السرية الخارجية البريطانية في الخمسينيات. كان نظام عبد الناصر قد جرد رمضان غيابياً من جنسيته في سبتمبر 1954ٍ، لتوزيعه كتيبات تدافع عن الإخوان المسلمين. وتشير بعض المصادر إلى أن وكالة المخابرات المركزية حولت عشرات الملايين من الدولارات لسعيد رمضان في الستينيات، وتبين الوثائق التي رفعت عنها السرية في المحفوظات السويسرية من 1976 أن السلطات السويسرية كانت تشمل بعين العطف آراء رمضان المعادية للشيوعية، وأنه كان من بين "أمور أخرى"، عميلاً للمخابرات الإنجليزية والأمريكية". وقد أوردت الصحيفة السويسرية لوتامب في 2006 أن ملف رمضان شمل عدة وثائق تشي إلى صلاته "بإدارت سرية غريبة بعينها". وتورد وثائق المخابرات الألمانية من الستينيات أن الولايات المتحدة ساعدت في إقناه الأردن بتزويد رمضان بجواز سفر وأن الجانب الأمريكي "سيقدم نفقاته".

كما عمل السعوديين، خاصة بعد وصول فيصل إلى السلطة في 1964 مع افخوان المسلمين ومولوهم للقيام بعمليات اغتيال كثيرة لعبد الناصر. وانطوت هذه أحياناً على تجنيد ضباط من القوات الخاصة لعبد الناصر وتهريب السلاح إلى "الجهاز السري" للإخوان. ورداً على زيادة مساندة السعودية للإخوان وغيرهم من المنظمات المتأسلمة، شنت مصر عبد الناصر موجة جديدة من القمع ضد المنطمة. ففي أواخر 1965، ادعت إدارة المخابرات المصرية أنها كشفت "مؤامرة" ضخمة على النظام للقيام بعمليات اغتيال وتفجر قنابل، أسهمت السعودية بدعمها. وأعقبت ذلك مطاردات للإخوان ال مسلمين وتضييق وحشي عليهم قامت بها قوات الأمن. وبعد محاكمة للمتآمرين المزعومين في ديسمبر 1965، حكم على سعيد رمضان غيابياً بالأشغال مدى الحياة وحكم على عدد من قادة الإخوان المسلمين بالإعدام وتم شنقهم في العالم التالي. وكان من بينهم سيد قطب، الذي وفر عمله "معالم الطريق" الذي كتب في السجن، بياناً رسمياً بأهداف الأنشطة السياسية للإخوان، كما أصبح متناً أساسياً ألهم فيما بعد أيمن الظواهري، نائب أسامة بن لادن في القاعدة، الذي كان قد انضم للإخوان المسلمين في مصر في سن الرابعة عشرة في ذلك الوقت. وفيما بعد كتب الظواهري أن دعوة سيد قطب للإخلاص لوحدانية الله والتسليم بسلطانه وحده وسيادته كانت الشرارة التي وحدت الثورة الإسلامية ضد أعداء الإسلام في الداخل والخارج. وبعد ان أجبر الإخوان المسلمون ضد أعداؤ الإسلام في الداخل والخارج". وبعد أن أجبر الإخوان المسلمون على العمل السري تحت ال{ض، لم يعاودوا الظهور إلا بعد وفاة عبد الناصر في 1970.

ورغم النضييق الشديد، فقد استمر المسئولون البريطانيون يعترفون بالإخوان المسلمين باعتبارهم قوة يحسب حسابها. فقد اعتبروهم "التهديد الأساسي للنظام من الخارج" ولاحظوا "أن الإسلام التقليدي هو القوة الوحيدة التي يخشاها عبد الناصر، بخلاف القوات المسلحة". وكتب أحد مسئولي الخارجية يقول "إن قدرتهم الهدامة على التآمر والإغتيال تجعلهم قوة يتعين علينا جميعاً (وعبد الناصر) أن نراقبها بيقطة تامة". وكتب مسئول آخر هو بيتر أنوين "أعتقد أن إجراءاته التضييق لابد وأن تزيد من جانبية الرابطة الإسلامية (رابطة العالم الإسلامي)، وأن تزيد الدعم المقدم للدعاية التي تتهمه بأنه ليس مسلماً حقيقياً وإنما أداة ماركسية".

كانت بريطانيا لا تزال تخشى من أن تتمكن مصر عبد الناصر من توحيد العالم العربي – أوعلى الأقل جزء كبير منه – ضد بريطانيا. وفي ضوء هذا، كتبت وزارة الخارجية في 1964 أنه "مما يتفق مع مصالحنا السياسية والإقتصادية أن يكون هناك توازن في القوة في الشرق الأوسط العربي وليس تركز القوة في القاهرة". ولاحظت أن علاقات شاه إيران الموالي للغرب مع الأردن والسعودية "لعبت دوراً في الحفاظ على توازن القوة، وينبغي تشجيعها"، وهو ما يعكس رغبة هوايتهول في الإبقاء على المنطقة منقسمة.

واستمر المخططون البريطانيون يكنون الرغبة في "إزاحة عبد الناصر من المنطقة"، وبحثوا إمكان التدخل العسكري المباشر في مصر. بيد أنهم في نهاية المطاف، استبعدوا الأمرين معاً حيث إنه "ليس هناك مبرر كبير للإعتقاد بأن خليفة عبد الناصر سيكون أكثر اعتدالاً وأكثر إذعاناً للنفوذ الغربي" – وربما كان ذلك صدى للقلق السابق من أن الإخوان المسلمين ربما كانوا أكثر عداء للبريطانيين من عبد الناصر. كما تم رفض التدخل العسكري حيث إنه سيثير اضطراباً ويزيد التسلل الشيوعي في المنطقة، وإضافة لذلك، "لا يستطيع أحد أن يطبق سياسة للشرق الأوسط تتعارض على نحو جاد مع سياسة الأمريكيين وهم لن يوافقوا على أي من هذين المسارين". وخلصت وزارة الخارجية في سبتمبر 1965 إلى أنه "يتعين علينا أن نتعايش مع نظام عبد الناصر".

وفي الوقت نفسه، استمرت بريطانيا والولايات المتحدة في تعزيز مكانة السعودية باعتبارها نقيضاً للقومية العربية، ونظراً بعين العطف لسياستها الخارجية القائمة على الجامعة الإسلامية. وساعدت وكالة المخابرات المركزية في إدارة الأمن الداخلي في السعودية في حين كان سيد قطب قد اعترف صراحة قبل إعدامه بأنه خلال هذه الفترة كانت أمريكا "تصمع الإسلام". وقد أخبر ديفيد لونج، وهو مسئول متقاعد من وزارة الخارجية الأمريكية وخبير في أمور السعودية والخليج، المؤلف روبرت دريفيوس أننا: قوينا دعم فيصل للإخوان المسلمين والجامعة الإسلامية، لأننا نحتاج إليهما لمواجهة أي حلفاء قد تستطيع موسكو أن تفتديهم . . إننا لا نعتبر الجامعة الإسلامية تهديداً استراتيجياً. هناك أشخاص سيئون يقترفون أعمالاً سيئة بالنسبة للأشخاص الذين يقفون إلى اليسار، وبالنسبة لعبد الناصر. إنهم يحاربون مشايعي الإشتراكية. ومن ثم، فإننا لا نعتبر الجامعة الإسلامية تهديداً.

واستمر المسئولون البريطانيون يعربون عن تفضيلهم نظاماً سعودياً يقوم على أصولية إسلامية بدلاص من نظام قومي عربي، حيث إن "تغيير نظام يصف بلداً بإيراداته الضخمة من النفط إلى جانب الدول الجمهورية العربية سوق يقلب توازن القوة بأسره في الشرق الأوسط.

وكانت اليمن هي التي توافقت فيها مصالح بريطانيا والسعودية السياسية لأقصى حد، وذلك في دعمهما لقوى دينية محافزة في وجه تهديد قومي عربي. ففي سبتمبر 1962 حلع انقلاب شعبي قامت به قوى جمهورية بقيادة العقيد عبد الله السلال، الإمام محمد البدر الذي ظل في السلطة أسبوعاً بعد وفاة والده الحاكم الإقطاعي المستبد الذي حكم منذ 1948. لجأت قوات الإمام للجبال وأعلنت العصيان. وقدمت هوايتهول الأسلحة والنقود للمتمردين وهي تعترف بأن المستفيدين من ذلك لا يستطيعون كسب الحرب، ولكن كما قال رئيس الوزراء ماكميلان للرئيس كيندي "إنه لن يضيرنا كثيراً أن ينشغل النظام اليمني الجديد بشئونه الداخلية خلال السنوات القليلة القادمة" – كما حدث في إندونيسيا قبل بضع سنوات. لقد اعتبرت بريطانيا أن نزاعاً كهذا يوفر "قيمة مفيدة لإزعاج العدو".

ومع إرسال عبد الناصر لآلآف الجنود من القوات المصرية لليمن للدفاع عن النظام الجديد، أصبح النزاع عملياً حرباً ضد مصر بالوكالة عن السعودية وبريطانيا. واعترف المسئولون البريطانيون بأن حكومة اليمن الجديدة تحظى بالشعبية وأنها أكثر ديمقراطية من حكم الإمام الإستبدادي، ومن ثم ليس هناك شك كبير بشأن الجانب الذي ينبغي أن تؤيده هوايتهول. كانت كل من السعودية وبريطانيا تخشيان من أن ينتشر الحكم الجمهوري الشعبي للمشيخات الإقطاعية الأخرى التي يسيطر عليها البريطانيون في الجزيرة العربية، وبصفة خاصة عدن حيث أخذت حرب العصابات التي يساندها المصريون تطرح البريطانيين أرضاً. لكن لجنة المخابرات المشتركة قضت بأن الثورة اليمنية قد جعلت موقف النظام في السعودية نفسها "محفوفاً بالمخاطر بدرجة أكبر، وإذا حدثت ثورة ناجحة في السعودية، فإن النظام الجديد ربما يكون موالياً للمصريين، في البدء على الأٌل، ويتعرض الترتيب القائم في دول الخليد لضغط شديد". ولم تنته الحرب إلا عندما قطع السعوديون، وهم الممول الرئيسي للمتمردين، معونتهم في 1969 وتم توقيع معاهدة إنشاء اليمكن الشمالية.

وقد دعمت بريطانيا سياسة السعودية "الإسلامية" الخارجية، ففي 1965، كان [بمورجان مان]] السفير البريطاني في السعودية مقتنعاً بأنه في موادهة تهديد عبد الناصر، كان على النظام أن يعزز مكانته على المسرح العالمي":فليس من المجدي كثيراً أن يظهر فضائله من الداخل فحسب، لكن عليه أن يدعم منزلته في الخارج أيضاً:. ومن الواضح أن مان فهم السياسة السعودية، ووصفها بأن هدفها الأول هو "دعم التضامن الإسلامي". وكتب يقول إن فيصل "يحاول استخدام الإسلام مغناطيساً مضاداً لموضوع الوحدة العربية الذي طرحه عبد الناصر، وأنه يأمل في إقامة "كتلة"، إسلامية تسحب تدريجياً قسماً كبيراً من الذين احتشدوا أفواجاً حول راية عبد الناصر".

وأيد المسئولون البريطانيون مبادرة فيصل لعقد مؤتمر إسلامي بأن انزوا عن الأنظار. وقابل جورج طومسون وزير الخارجية في حكومة هارولد ويلسون، الأمير السعودي سلطان في فبراير 1966 لمناقشة الفكرة ويذكر التسجيل الخاص بالمقابلة أنه: ليس حلفاً . . . لكنه مؤتمر، سيفيد حتماً في معارضة الشيوعية والدفاع عن العقيدة. وقد قال السيد طومسون عندما سؤل عن موقف حكومة صاحبة الجلالة أنهم يرجون له النجاح، حيث إنه يرمي لتحقيق الإستقرار، لكنه يعتقد أن أفضل خدمة يمكن لنا أن نقدمها هي ألا نقول شيئاً، حيث إن أي بيان بأن بريطانيا تؤيد هذه التطورات قمين بأن يدمر آفاقه، ووافق سلطان.

وبعد شهر، كتب س. تى. برانب المسئول بوزارة الخارجية في سياق حادة بريطانيا إلى احتواء عبد الناصر، أنه "أياً كان ما نعتقده بشأن التطورات التي قد تدعم مصالحنا في الشرق الأوسط، يظل من الصحيح بصفة عامة أ نه كلما قل اعتبارنا متصلين بها، تزيد فرص نجاحها. ويصدق هذا بصورة خاصة على ما يبدو على التحرك الأخير لإقامة تحالف إسلامي".

وفيما يتعلق برابطة العالم الإسلامي، فقد لاحظ ويلي موريس الذي تولى منصب السفير في أغسطس 1968، "أنها في الواقع أداة لتقوية الإهتمام بالسياسة الخارجية ودعمها". ولاحظ أن استخدام فيصل للإسلام لم يقصد به إقامة رابطة ليس لها هيئ معينة على النطاق العالمي لكن توسيع العلاقات السعودية مع بلدان على غرار إيران وباكستان وتركيا والعراق "في مجموعة من الدول أكثر تجانساً مع رؤية فيصل للعالم". لكن موريس أضاف أن فرص قيامها ليست كبيرة.

كان ال بريطانيون يفهمون جدياً طبيعة النظام السعودي. ففي يونيو 1963 لخص السير كولن كرو السفير البريطاني موقف البلاد بعبارات قاطعة، فقال إن السعودية: تهيمن عليها نحلة من الإسلام بالتزمت المتطرف وغير المتسامح، لكن تحكمها أسرة مالكة لا يفوقها في تبذيرها وتبديدها سوى ععدها، وليس لديها أية مدونة قوانين عصرية وقضاؤها الجنائي هو بربرية العصور الوسطى. ولا يوجد حتى ادعاء بوجود مؤسسات ديمقراطية. وعلى الرغم من إلغاء العبودية، فإن العبيد مازالوا موجودين. والفساد متفش. والبلد يجلس على قمة بعض من أكثر موارد النفط ثراء في العالم ويحظى بدخل هائل غير مكتسب بالعمل، يتم تبديده في المتع والقصور والسيارات الكاديلاك.

ومع ذلك، فقد أولت بريطانيا مساندة غير مشروطة للحكام السعوديين، وتمثلت سياستها في "الحفاظ على بقاء النظام الحالي في السعودية في السلطة، لأن الحفاظ على النظام الحالي في السعودية مهم للمصالح الغربية في الشرق الأوسط"، كما كتب السفير كرو، ذاكراً واحدة من ملاحظات كثيرة مماثلة. وقد لاحظت رسالة الوداع التي كتبها كرو باعتباره سفيراً في أكتوبر 1964 أن النظام "يعد مرضياً كما يمكن أن نتوقع وأنه كان صديقاً للغرب وعادياً للشيوعية بقوة"، في حين أن "أهدافه، فيما عدا ما يتعلق بواحة البوريمي، هي أهداف نتعاطف معها" (والإشارة هنا إلى واحة البوريمي، وهي أىض كانت موضع نزاع بين السعوديين وحليفي بريطانيا، عمان وأبو ظبي.

وتغيرت علاقة بريطانيا مع السعودية قليلاً عند الإنتقال من المحافظين إلى العمال في انتخابات 1964. كانت الصفوة السياسية البريطانية موحدة في مساندتها للأسرة الحاكمة السعودية، لأنها تراها قوة لتحقيق "الإستقرار" الإقليمي، والإمداد بالنفط ومشترياً مهماً للأسلحة البريطانية. واتسم الوفاق الودي البريطاني السعودي بإبرام اتفاق ضخم جديد لتوريد الأسلحة تزيد قيمته على 100 مليون استرليني، ويتضمن عشرات من الطائرات المقاتلة، إلى جانب معدات للسيطرة الأرضية والإتصالات، والتدريب والصيانة. ولم يتم توقيع العقد مع شركات الطائرات البريطانية فحسب، وإنما مع شركة "إيروورك" أيضاً، وهي شركة خاصة كانت تعمل واجهة للحكومة، وردت ضباط القوات الجوية الملكية "المتقاعدين" لتدريب الطيارين السعوديين. وقد قدمت بريطانيا شركة إيرووك لتفادي التسبب في "إحراج سياسي" للسعوديين من اعتبارهم يعتمدون على طياري القوات الجوية الملكية، وبذلك تصبح كما لاحظ المسئولون "هدفاً لرعاية القاهرة". وكانت الصفقة برهاناً آخر على المدى الذي أثبتت بريطانيا أنها مستعدة للمضي إليه لمساعدة النظام السعودي.

وفي 67-1968 قررت الوزارة البريطانية إنهاء التزاماتها العسكرية إزاء البحرين والكويت وقطر والمشيخات الصغيرة في دول الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية التي تشاطئ الخليج بحلول 1971، بعد عقود من إدارة "أمنها الداخلي" ودفاعها". فقد رأى المخططون أن الوضع أصبح شديد الوضوح:" إن انسحابنا العسكري سيقي على قدرتنا على القيام بدور كبير في تحديد التطورات في الخليج الفارسي". كانت بريطانيا لا تزال لها مصالح كبيرة في المنطقة، فبحلول 1986، كانت شركات النفط البريطانية منخرطة في العمل في كل دول النفط عدا السعودية والبحرين، وكانت تسهم بمبلغ 80-100 مليون إسترليني سنوياً في إيرادات الضرائب التي تعود للخزانة وبما يربو على 200 مليون إيترليني سنوياً في ميزان المدفوعات. وهكذا أبرزت وزارة الخارجية أن الإنسحاب يتعين أن "يترك وراءه وضعاً مستقراً قدر الإمكان تستطيع التجارة أ، تزدهر فيه، ويمكن ضمان إمدادات النفط بشروط معقولة وتأمين الإستثمارات البريطانية (خاصة من خلال شركات النفط) والإبقاء على حقوق الطيران إلأى الشرق الأقصى فوق المنطقة". كان هناك خطر محتمل يتمثل في أن "تقع نفس أرصدة الإسترليني الكبيرة جداً التي تحتفظ بها الكويت وبلدان الخليج الأخرى – وتقدر بمبلغ 400 مليون إٍسترليني – "في أيد غير صديقة". وهكذا أصبحت السعودية حتى أكثر أهم بالنسبة لبريطانيا، إذ أصبحت تعمل كرجل شرطة إقليمي وحصن ضد القوى القومية واشلعبية، واعتبرت "ثقلاً موازياً" لمصر والدول العربية القومية وكذلك "حاجزاً بينها وبين دول الخليج".

وفي خطاب أرسله دونالد مكارثي وهو مسئول بريطاني في عدن في 8 يوليو 1965، كتب إلى وزارة الخارجية ملاحظاً بكل الرضى "النفوذ السعودي المهم جداً" في محمية عدن الشرقية التابعة لبريطانيا. وقال مكارثي إنه كان هناك عدد من السعوديين لهم ارتباطات بالمنطقة يشجعون الحكومة على الإستثمار في مشروعات لزيادة النفوذ السعودي في المنطقة لإبعادها عن "النفوذ الناصري المحتمل". وفي القائمة التي أوردها مطارثي لهؤلاء الأعيان، هناك اسم يجذب الإنتباه بوجه خاص" بن لادن، في ِإشارة إلى محمد والد أسامة، الذي كانت شركة التشييد الخاصة به قد أبرمت عقوداً بعدة ملايين كثيرة مع بيت آل سعود.

المذبحة الإندونيسية

في حين كانت السعودية تدعم سياستها الخارجية، كان الدهماء في إندونيسيا يساعدون الجيش في ارتكاب واحدة من أسوأ المذابح في القرن العشرين، بمساندة خفية من بريطانيا وأمريكا. كانت المؤسسة العسكرية تريد مذ أمد طويل التحرك ضد الحزب الشيوعي الإندونيسي، الذي كان بأعضائه البالغ عددهم مليونين هو أكبر قوة شيوعية خارج الإتحاد السيوفيتي والصين، وكان يمارس نفوذاً متزايداً لكنه محدود على نظام الرئيس الوطني أحمد سوكارنو. وفي 30 سبتمبر 1965، اغتالت مجموعة من ضباط الجيش ستة جنرالات في انقلاب أخمدته القوات الموالية للجنرال محمد سوهارتو، الذي شرع في تولى قيادة الجيش. وإذ لام سوهارتو الحزب الشيوعي الإندونيسي على محاولة الإغتيال التي استمرت إلى حملة لاستئصال الحزب. وفي عربدة عمليات الإغتيال التي استمرت إلى 1966، تم قتل مئات الألوف، بما في ذلك أعداد لا تحصى من القرويين العاديين غير المرتبطين بالحزب الشيوعي. وبعد أن تمت تصفية الحزب عملياً، تفوق سوهارتو في المنارة على سوكارنو وهزمه وبزغ باعتباره الحاكم الإندونيسي الجديد. وأقام دكتاتورية قمعية استمرت حتى 1998.

كانت بريطانيا تريد منذ أمد بعيد الحد من قوة الحزب الشيوعي الإندونيسي وإسقاط نظام سوكارنو، كما تبدي في مساندتها السرية للكولونيلات المنشقين في أواخر الخمسينيات. ومن 1963، دخلت بريطانيا في نزاع علني مع إندونيسيا بعد أن أعلنت جاركارتا سياسة "المواجهة" ضد ماليزيا بسبب خطة هذا البلد الأخير التي ساندتها بريطانيا لإدماج المستعمرات البريطانية في جزيرة بورينو في [بالإتحاد الماليزي الجديد]]. ومع قيام إندونيسيا بنشر قواتها للقيام بغارات للتخريب في بورينو، نجمت عن ذلك حرب أدغال، شملت آلافاً من القوات البريطانية، إلى جانب السفن الحربية وحاملات الطائرات وأسراب الطائرات.

وقد وصف المسئولون البريطانيون حملة جنرالات الإندونيسيين ضد الحزب الشيوعي بأنها "مهمة ضرورية" وأدركوا أنها تنطوي على "إرهاب لا يرحم" و"حمام دم"، وتلقوا تقارير منتظمة عن الثمن الباهظ المتزايد من القتلى. واتصلت بريطانيا سراً بالمؤسسة العسكرية الإندونيسية، لتعدها بأن بريطانيا لن تهاجمها في بورنيو بغية ترك أيديها حرة غير مغلولة في إندونيسيا. كما شن البريطانيون حملات دعاية لتشويه صورة الحزب الشيوعي في أعين الشعب الإندونيسي، ووزعوا على وسائل الإعلام العالمية قصصاً زائفة تزعم أن الصينيين كانوا يشحنون الأسلحة للحزب الشيوعي الإندونيسي.

ولعبت المجموعات المتأسلمة التي دربها الجيش الإندونيسي وزودها بالمعدات دوراً حاسماً في المذبحة. وقام أتباع حزب ماسومي، وهو القوة الإسلامية الرئيسية في إندونيسيا، بدور نشيط في قتل أعضاء الحزب الشيوعي، مثلما فعل المتبقون من دار الإسلام، وهي الجماعة المتطرفة التي كانت قد أجبرت على الإختباء تحت الأرض في ظل سوكارنو، والتي نفذت مذابح فيمن يشتبه أنه شيوعيون في أقاليم عزب جاوه و أتشيه وشمال [[سومطره[[. واستفادت هذه القوات من الأسلحة الأمريكية – كانت السفارة الأمريكية في [[تايلاندي] تشتري الأسلحة سراً من المؤسسة العسكرية الإندونيسية لتسلح الشباب المسلمين والوطنيين في جاوه الوسطى لإستخدامها ضد الحزب الشيوعي الإندونيسي.

كانت الحملة العسكرية الإندونيسية ترمي إلى القضاء على كل العقبات – القوميين الإجتماعيين أو العلمانيين – التي تعترض استيلاء المؤسسة العسكرية على البلاد. وقد نجحت جزئياً بفضل الإعتماد المزودوج على القوى المتأسلمة، التي كانت تعمل جنود مشاة، والعمل السري البريطاني الأمريكي – والذي يتم في تعاون بحكم الأمر الواقع، وإن لم تكن هناك أدلة في الملقات البريطانية عن اتصالات بريطانية مباشرة مع الدهماء المتأسلمين. وأخرت هذه الأحداث بزوغ الديمقراطية في إندونيسيا لأكثر من جيل.

وبعد استيلاء سوهارتو على السطة، أقام "نظاماً جديداً" تم فيه التخلي عن كثير من سياسات سوكارنو، وانتهت المواجهة على ماليزيا وتم فتح البلاد أمام المستثمرين الأجانب، مما أغبط صناع السياسة في لندن وواشنطن الذين أصبحوا حلفاء أوفياء للنظام. ولم يلق المتأسلمون مثل هذا الحظ. فقد رفض النظام الجديد تنفيذ الشريعة، وعلى الرغم من أنه أطلق سراح زعماء ماسوني الذين كان سوكارنو قج سجنهم، فإنه لم يسمح لهم بالقيام بدور سياسي، وسعى على نحو أعم إلى إسلام غير مسيس. بيد أنه في القوت نفسه، كان نظام سوهارتو قد رأى كم أن المتأسلمين مفيدون. وكان تواقاً للإبقاء عليهم إلى جانبه. ويعلق المحلل مارتن فان برونيسين قائلاً غن على مرطوبو رئيس مخابرات سوهارتو والمهندس الأساسي للنظام الجديد في عقده الأول "شجع مجموعة من قادمي محاربي دار الإسلام وسمح لهم بالإحتفاظ بشبكة من الإتصالات كسلاح سري ضد "الشيوعية" وغيرها من الأعداء يمكن إطلاقها في أي لحظة مناسبة. ومضى أعضاء دار الإسلام للإنضمام لحركة الجهاد ضد السوفييت في أفغانستان، ومن بين هذه المجموعات المناضلة انبثق التهديد الإرهابي في إندونيسيا فيما بعد.

تصفية الحساب في الشرق الأوسط

بحلول أواخر الستينيات كانت الأحداث التي تجري في الشرق الأوسط تثبت أنها الأكثر حسماً بالنسبة لمستقبل التطرف الإسلامي العالمي، فخلال حرب الأيام الستة في 1967، أنزلت إسرائيل هزيمة مفجعة بالدول العربية بقيادة النظامين الوطنيين العلمانيين ف يمصر وسوريا. واستولت إسرائيل على الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، وومرتفعات الجولان وشبه جزيرة سيناء، وقد اعتبر ذلك هزيمة للقومية العربية العلمانية باعتبارها قوة كبرى، بيد أن جاذبية القومية العربية كانت حينذاك قد طفقت تذوي بالفعل. وعلى الرغم من أن النظم القومية نجحت في بعض الأوقات في تحدي الهيمنة الغربية في المنطقة، وحققت بعض المكاسب المحلية لشعوبها، فقد فشلت في إقامة ديمقراطيات حقيقية أو تحقيق زيادة كبيرة في مستويات المعيشة.

كما لعبت المعارضة السعودية إلى جانب رعاية السعودية "لكتلة" إسلامية وقوى متأسلمة أكثر تطرفاً، دوراً أساسياً في إنهيار القومية العربية. ولنحو عقدين تقريباً، منذ ثورة عبد الناصر في مصر في 1952، نصبت لندن نفسها لمعارضة المشروع القومي، مزعزعة للإستقرار ومطيحة بالحكومات، وصارعة لها أرضاً بحروب باهظة التطلفة بددت موارد نادرة، وحاجبة عنها المعونة أو المساندة الدولية. ولا أحد يدري ما إذا كان التأييد الغربي للقومية العربية سيتطيع في عالم مختلف، أن يجرأ أسوأ سماتها ويعزز السمات الفضلى فيها. ومع ذلك، فإن مصالح الناس في منطقة لم تكن بذات شأن بالنسبة للمخططين البريطانيين، فنادراً ما كانت هناك إشارة إيلها في مئات الوثائق التي جرى استعراضها من أجل هذا البحث – فقد كانت مصالح أهل الشرق الأوسط تتم التضحية بها على مذبح الشواغل الجغرافية الإستراتيجية، واشلواغل المحافظة بصورة عميقة، والتي لا يزال على المنطقة أن تتخلص منها.

وقد اعترف المخططون بأن انهيار القومية العربية يحقق مصالحهم. وقد تلقى حلفاء بريطانيا السعوديون دعماً لتحقيق هذا، فمثلما كتب سفير بريطانيا في السعودية بعدذ لك بخمس سنوات: في مجال الشئون الخارجية كان الملك فيصل منذ سنتين مضيتا فحسب معزولاً في العالم العربي مع انتشار العدوي اليسارية . . .واضطر للبحث لنفسه عن مكان في مناخ إسلامي أكثر وداً . . . وتوافرت للملك فيصل فرصة للقيام بدوره نتيجة لوفاة الرئيس عبد الناصر وغياب أي رجل دولة له مقام مماثل من المشهد العربي . . . واستمرت السايسة الخارجية السعودية تسعى وراؤ هدف اعتراض انتشار الشيوعية والتخريب.

وفي البدء، بدا كما لو أن لندن هي المستفيد الأول من انهيار القومية العربية لكن واشنطن فضلت بديلاً آخر – الملكيات الإسلامية في السعودية والأردن والخليج، التي قدمت لها مساندة ضخمة. لكن كان المستفيد الأكبر بديلاً متأسلماً أكثر ت\رفاً. فقد لاحظ المسئولون البريطانيون أن هزيمة العرب في 1967، أعقبها "إحياء ديني ملحوظ" و"زيادة مرموقة في المشاعر الدينية في مصر"، بما في ذلك زيادة المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية. وأصبحت الجماهير الفقيرة ترى القوى المتأسلمة حينذاك باعتبارها "الحل" لمشاكل الشرق الأوسط، وساعدت على ذلك الفجوة الهائلة في مستويات المعيشة القائمة بينها وبين الصفوة العلمانية. وفي مصر، مات عبد الناصر الذي كانت مكانته قد تضاءلت بعد ثلاث سنوات من حرب 1967، ونأى خلفه أنور السادات بنفسه خلفه عن النموذج القومي وسعى لأسلمة المجتمع المصري، جزئياً برعاية الإخوان المسلمين، الذين كان عبد الناصر قد قمعهم مثل هذا العدد الكبير من السنين. وبحلول ذلك الوقت، كانت جماعات متأسلمة كثيرة في الشرق الأوسط قد أصبحت أكثر تطرفاً، جزئياً بسبب القمع الوحشي الذي مارسته ضدها نظم علمانية كثيرة. كان المسرح مهيأً للإحياء المتأسلم الذي اكتسح المنطقة طوال السبعينيات.

الفصل السادس - أسلحة تحت الطلب في الأردن ومصر

واجه مخططو السياسة الخارجية البريطانية فيضاً من الهمام الصعبة في أوائل السبعينيات، وبصفة خاصة الإنضمام للجماعة الإقتصادية بشروط مواتية، ومساعدة حليفها الأساسي، الولايات المتحدة، لتخليص نفسها من حرب فيتنام الوحشية بما لا يبلغ حد الإذلال الكامل، وتدعيم الوفاق مع الإتحاد السوفيتي مع الحفاظ على التفوق العسكري الغري، ومحاربة مطالب البلاد النامية بنظام اقتصادي دولي جديد، ودعوة البلدان النامية لإقامة نظام للتجارة الدولية أكثر إنصافاً.

وناقش كتاب أصدرته وزارة الخارجية في 1974 بعنوان "مشاكل محتملة في السياسة الخارجية البريطانية"، التحدي الماثل للقومية، مفهمومة على أنها تعني أن معظم البلدان "تواقة لأن تؤكد هويتها واستقلالها الوطنيين في السياقين السياسي والإقتصادي على حد سواء". وقد ضم هذا الإتجاه الصاعد بلدانا تعارض "الممارسات والقواعد التي أرستها، إلى حد، بعيد بلدان الغرب الثرية". بيد أنه كانت هناك مشكلة إضافية هي "ضعف الغرب" و "أن قدرة البلدان الغربية على ممارسة الضغط في العالم الثالث قلت كثيراً" ولاحظ الكتاب المذكور أن "بلدانا قليلة فيما عدا الولايات المتحدة تملك الوسائل اللازمة لفرض إرادتها بالقوة وأن الرأي العام بسفة عامة لا يؤيد كثيراً القيام بمغامرات في الخارج".

وقد كتب هذا التقرير بعد تزايد أسعار النفط أربع مرات خلال حرب 1973 بين العرب وإسرائيل، مما هوى ببريطانيا لأزمة اقتصادية لكنه عزز مكانة أكبر بلد منتج للنفط، السعودية ورفعها لمصاف القوة العالمية. واستخدم الحكام السعوديون ثرواتهم الهائلة الجديدة لتعزيز بروز الأصولية الوهابية داخل الإسلام العالمي، مما أسهم في نشوء مجموعات متأسلمة جهادية خلال السبعينيات في معظم بلدان العالم الإسلامي. وبحلول نهاية العقد، لم يكن التطرف الإسلامي السني قد أصبح قوة سياسية كبرى فحسب، لكن كان التطرف الشيعي قد حرك أيضاً الثورة الإسلامية الإيرانية، وأطاح بالشاه الذي يسانده الغرب وفاقم تحدي الهيمنة الغربية على نفط الشرق الأوسط.

وشكل بزوغ الإسلام المتطرف تهديدات وفرصاً على حد سواء بالنسبة للسياسة الخارجية البريطانية، وتبين السجلات أنها كانت عادة ترى أن الفرص أكبر. فقد غدت الحكومة البريطانية بعد 1973 أضعف منها في أي وقت على المسرح العالمي وشكلت تحالفاً أعمق مع السعودية. لكن بداية هذا العقد الصاخب شهدت واقعتين أخريين أوضحتا كيف توافقت مصالح صناع السياسة البريطانية مع مصالح تلك القوى المتأسلمة.

على الجانب نفسه مثل الإخوان مرة ثانية

في سبتمبر، تفادى الملك حسين الموالي للبريطانيين والذي يموله الأمريكيون، بالكاد الإطاحة به على أيدي المتطرفين الفلسطينيين. وكانت نجاته راجعه لتوليفة مألوفه من القوى – الحكومتين البريطانية والأمريكية والإخوان المسلمين – ووجهت ضربة أخرى في الصميم لقضية القومية العربية. وكانت أيلول الأسود كما أصبحت معروفة، مواجهة دموية بين القوات الحكومية الأردنية وقوات حرب الفدائيين الفلسطينية، الذين كانوا خليطاً من القوميين الناصريين، ومجموعات ماركسية وأعضاء في منظمة التحرير الفلطسينية التابعة لياسر عرفات. كان الفلسطينيون الذين يبلغ عددهم نصف عدد من يعيشون على الضفة الشرقية لنهر الأردن، ويحيا كثيرون منهم في جيوب منعزلة ومعسكرات للاجئين بعد طردهم من فلسطين في 1948، قد أقاموا دولة فعلية داخل الدولة الأردنية، بسلاحهم الخاص من العاصمة عمان. ووقعت مئات من المصادمات مع الجيش والشرطة الأردنيين طوال 1969، في أوائل سبتمبر 1970 بذلت عدة محاولات لإغتيال الملك حسين. وعندما انفجر قتال جديد في منتصف سبتمبر بين الفصائل الفلسطينية وقوات الأمن الأردنية، أعلن الملك حسين الأحكام العرفية وأطلق العنان للقوات الحكومية لإستعادة السيطرة.

ومع امتداد نطاق القتال، عبرت ما يربو على 200 دبابة تابعة للنظام البعثي السوري في ظل الرئيس نور الدين الأتاسيٍ حدود الأردن في 19 سبتمبر لمساندة الفلطسينيين. وعند هذا الحد وجه حسين نداء للولايات المتحدة وبريطانيا للقيام بتوجيه ضربات جوية ضد السوريين، وتم رفض ذلك، ويفترض أن ذلك كان بناء على الخوف من جرهما لتدخل عسكري مباشر. وفي النهاية، استطاع الأردنيون صد الدبابات السورية بدبابتهم السنتوريون التي زودهم بها البريطانيون، ودحروا فرق الفدائيين الفلسطينيين وقتلوا ما يزيد على 3000 منهم، وطوال أواخر 1970 وأوائل 1971، لاحقت قوات حسين الفدائيين بوحشية وسحقتهم بحلول يوليو 1970. وفر كثيرون إلى جنوبي لبنان، حيث انضموا إلى الفلطسينيين الآخرين في إنشاء قاعدة جديدة لمنظمة التحرير الفلسطينية.

وسرعان ما أظهر الإخوان المسلمون الأردنيون ولاءهم لنظام حسين، وواقفوا في صفه علناً خلال أزمة سبتمبر 1970، وأشادوا بعدهزيمة الفدائيين، بقيام الحكومة بطرد المجموعات اليسارية من الأردن. كانت جماعة الإخوان الأردنيين قد نشأت في 1942، في شرق الأردن الذي كا ن حنيذاك تحت الإنتداب البريطاني، ورعاهم نظام حسين وتعهدهم منذ الخمسينيات، ولعبوا دوراً مهماً في دعمه في أزمة 1957. وعلى النقيض من الأحزاب السياسية الأخرى، سمح النظام للإخوان بمجال واسع من الحريات السياسية والدينية، لأنه اعتبرهم ثقلاً موازناً للمجموعات اليسارية، والقوى البعثية الموالية لسوريا، والناصريين الموالين لمصر، واستطاع الإخوان المسلمون تحت حماية حسين أيضاً أن يقيموا علاقات مع نظرائهم المصريين والسوريين، وكان كلاهما يتعرضان حنيذاك لملاحقة ضارية.

وكان للمظاهرات التي نظمها الإخوان إعراباً عن ولائهم في 1970 مردود سخي، فقد سمح لهم طوال السبعينيات والثمانينيات باستقبال الإخوان السوريين وتدريبهم الذين كانوا حينذاك مشتبكين في مواجهة متطاولة مع الرئيس الأسد الذي كان قد استولى على السلطة في سوريا بعد أيلول الأسود ببضعة أسابيع. وسمح حسين بإقامة معسكرات للتدريب للإخوان قرب الحدود السورية وألحق بعض مجاهدي الإخوان بمناصب مهمة في الحكومة الملكية، ووظف هؤلاء بدروهم مسئولين ومديرين آخرين من الإخوان.

وقدمت بريطانيا تأييداً شاملاص لملك حسين خلال أزمة 1970. ووصفته وزارة الخارجية عشية نشوب القتال بأنه "زعيم عربي معتدل وموال للغرب يسهم نفوذه الباعث على الإستقرار في تحقيق الإستقرار في باقي النظم الموالية للغرب في السعودية والخليج. وفي مطلع أكتوبر 1970، بعثت بريطانيا بحمولة طائرتين من طائرات السلاح الجوي الملكي من طراز هيركيول من الأسلحة طلبتها الأردن بصفة خاصة، بما في ذلك قذائف زنتها 25 رطلاً وذخيرة 76 ملليمتر، وقد ساعدت هذه الإمدادات في تعويض ذخائر الدبابات السنتوريون التي كانت تحارب السوريين. كذلك زودت الولايات المتحدة حسين بكميات ضخمة من الذخيرة.

وتلقى حسين في نهاية أكتوبر زيارة نيل بيلي ماكلين، وهو ضابط مخابرات بالجيش البريطاني وشغل أحياناً مقعداً بالبرلمان عن المحافظين وكان يعمل عضواً غير رمسي في وزارة الخارجية. كانت لماكلين اتصالات واسعة في الشرق الأوسط/ وشارك في كثير من العمليات السرية البريطانية في فترة ما بعد الحرب، خاصة ضد عبد الناصر في سبتمبر 1970 "خلقت فراغاً في الشرق الأوسط، وإن الأردن يستطيع بمساعدة بريطانية وأمريكية أن يلعب دوراً بناء في وصول حكومات معتدلة للسلطة في العراق وسوريا. وربما لم يكن من قبيل الصدفة أن صحيفة السياسة الكويتية نشرت في أوائل ذلك الشهر، مذكرة بعث بها وزير الخارجية الأردني إلى سفارته في لندن بتاريخ 4 أكتوبر، ورد فيها أن الملك حسين طالب السفارة بإجراء اتصالات عاجلة مع السلطات البريطانية فيما يتعلق بمنح الأردن مبلغ 300 ألف دينار بغية تنسيق التعاون العسكري مع السلطات اللبنانية لتشجيع الضباط السوريين على التعجيل بثورتهم المسلحة على حزب البعث في سوريا. ولا يمكن للمرء إلا أن يخمن ما إذا كان هذا التمويل البريطاني حقيقاً وما إذا كان قد تم أم لا – وحقاً ما إذا كان مرتبطاً برعاية حسين للإخوان المسلمين للإطاحة بالنظام السوري. ولا ريب أن المخططين البريطانيين كانوا تواقين لرؤية البعثيين السوريين وهو يرحلون، إذ كانوا قوة قومية تتحدى النظم الموالية في الغرب، مثلما شهد الأردن توا.

كان الملك حسين يعتمد على البريطانيين في بقائه. وطالب في مارس 1970 فريقاً من إدارة المخابرات السريو لتدريب قواته الخاصة على "الأمن الداخلي". ولاحظت وزارة الدفاع أن "الملك حسين كان مغتبطاً إزاء النتائج إلى حد أنه اعتبر الحرس الشخصي الذي دربته إدارة المخابرات السرية مسئولاً عن استمرار وجود الملك. وبعد أزمة 1970، استنجد الملك حسين ببريطانيا مرة أخرى: ففي يناير 1971، أمضى فريق من جهاز المخابرات الخارجية شهرين في البلاد لتدريب الجيش الأردني. وفي مارس من ذلك العام، لاحظ مسئول بالخارجية مشاعر القلق بشأن التهديد الفلسطيني الماثل: "أنه مما يتفق مع مصالحنا تماماً أن نساعد الملك حسين في الحيلولة دون تدمير نظامه، فرغم النجاحات الأخيرة التي تحققت ضد حركة الفدائيين الفلسطينيين، فإن قوة هؤلاء الأخيرين ل م تنفد بعد . . . وقد يواصلون محاولة الإطاحة بالنظام". وأكد المسئول أنه كان من المحتم الإبقاء على استمرار بريطانيا في تدريب القوات الخاصة الأجنبية على "درء العصيان"، سراً لتفادي أية اتهامات (صحيحة) بأن حسين يعتمد ببساطة على المساندة الغربية.

لكن علاقة بريطانيا بأزمة الأردن في 1970 لم تنته عند هذا الحد واتخذت مظهراً مغايراً كلية. فنتيجة لهزيمة الفلسطينيين، انبثقت منظمة أيلول الأسود، التي أقامها أعضاء مجموعة فتح في منظمة التحرير الفلسطينية للثأر من نظام الملك حسين، وكان عملها اللاحق الأكثر شهرة هو اختطاف أحد عشر رياضياً إسرائيلياً في دورة الألعاب الأوليمبية في ميونخ في 1972. وخلال السبعينيات، جندت إدارة المخابرات السرية البريطانية، عميلين من مهربي اسلاح الذين كانوا يزودون إرهابيي أيلول الأسود بالأسلحة. وكان الهدف هو وقف تزويد ليبيا التي كانت تساند أيلول الأسود، الجيش الثوري الأيرلندي في أيرلندا الشمالية بالأسلحة. وتوفر القصة زاوية جديدة مثيرة للإهتمام عن رغبة بريطانيا في العمل مع المجموعات الإرهابية لتحقيق أهداف قصيرة الأجل في الشرق الأوسط.

وتركز الواقعة على شخص معين هو ليزلي أسبن، وهو جندي سابق في إدارة المخابرات السرية كان قد تحول إلى مهرب أسلحة، وكان في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات يهرب الأسلحة لتشكيلة من المنظمات الإرهابية، بما قي ذلك أيلول الأسود. كما قام أسبن ينقل عشرات من المعلمين لتدريب أيلول الأسود "التي كان قد أنشأها العقيد القذافي في حماده الحمراء في شمال غربي ليبيا. وبحلول 1970، كان لدى إدارة المخابرات السرية عميل داخل سبتمبر الأسود، لكنها جندت أسبن أيضاً في فبراير من ذلك العام، بتقديم الأموال له وتهديده بكشف اتصالات له تبين أنه كان بعمل بالفعل لصالح البريطانيين. ونبه أسبن فيما بعد في سيرته الذاتية إلى أن إدارة الخدمة السرية جندته بسبب السنوات التي أمضاها بوصفه مهرباً للسلاح في الشرق الأوسط وأوروبا، وأن المشرف عليه أخبره "أننا لسنا مهتمين بأي حال بما تفعله – فيما عدا حقيقة أنك تستطيع أن تكون عوناً كبيراً لنا".

واستمر انخراط أسبن الذي أعطته إدارة المخابرات السرية اسماً حركياً هو "كيرفاكس"، في تهريب السلاح بعد تجنيده. ودبر بعلم من البريطانيين إرسال أربع شحنات من الأسلحة على الأقل من ليبيا إلى جيش التحرير الأيرلندي في 70-1972، كما ساعد في تجنيد إرهابيين في جيش التحرير الأيرلندي لتدريبهم في معسكر ليبي. وأصبح أسبن مصراً أساسياً للمعلومات بالنسبة لإدارة المخابرات السرية واستطاع أن يخبرها بشركاء القذافي الأوربيين، وهيوات الإرهابيين الأيرانديين الذين ذهبوا للمعسكر الليبي وأسماء تجار أسلحة آخرين في العالم العربي.

كما يروي أسبن كيف أنه أبلغ المشرف عليه من إدارة المخابرات السرية في ديسمبر 1973، واسمه السري هومر، بأنه سمع عن طريق اتصالاته بأيلول الأسود عن خطط لتفجير طائرة لشركة بان أمريكان أو للعال في مطار روما قبل نهاية الشهر. واستطرد أسبن قائلاً إن هومر وعده بأن ينقل معلوماته هذه الحكومة المعنية (أي الأمريكية والإسرائيلية والإيطالية) لكنه كتب يقول"إنني مقتنع تماماً بأنه لم يفعل ذلك". ولا يزال من غير الواضح السبب في ذلك، لكن الأمر الأكثر جلاء هو أن البريطانيين لو يريدوا الكشف عن أن لهم عملاء داخل أيلول الأسود. وفي 17 ديسمبر 1973 فجر إرهابيون فلسطينيون رحلة طائرة بان أمريكان على مدرج في مطار فيو ميتشينو في روما، فقتلوا 29 شخصاً، وأعقبت ذلك وفاة شخصين في استراحة المطار عندما بدأ الإرهابيون في إطلاق النار على المسافرين. وبعدئذ اختطفوا طائرة برهائن أكثر وحطوا أولاً في أثينا، ثم في دمشق حيث أطلق سراحهم ومن هناك انتقل الإرهابيون إلى وجهة نظر غير معلومة.

وكان منذر الكسار شخصية أخرى في شبكة تهريب الأسلحة، فقد عمل أولاً مع السوريين وكان صديقاً مقرباً لرفعت الأسد شقيق الرئيس السوري ورئيس جهاز الأمن الداخلي. ويزعم أن الكسار هو الذي جند أسبن بتحريض من سوريا مهرباً للأسلحة ليعمل لصالح الليبيين، وأنه كان مشاركاً أيضاً في شراء السلحة لمنظمة التحرير الفلسطينية وكذلك في تهريب المخدرات دورلياً. وقد جندت إدارة المخابرات السرية البريطانية الكسار في مارس 1973، واستمر في تهريب السلاح، وإن كان حينذاك تحت رعاية بريطانية. وأصبح "مصدراً أعظم" للاستخبارات و"استطاع البريطانيون من خلاله تتبع الأموال التي تنتقل لأي منظمة إرهابية في العالم". وكان لابد وأن تستمر قصة إدارة المخابرات السرية مع الكسار في الثمانينيات والتسعينيات كما سنرى.

ويتعارض دور بريطانيا في دعم نظام الملك حسين في الأردن مع التغاضي عن تقديم الأسلحة والتدريب لمجموعة إرهابية عقدت العزم على الإطاحة به – حتى وإن كان من اللوائح أن هناك عوامل أخرى دفعت لذلك (مثل رصد تمويل الإرهابيين وتسليحهم للجيش الجمهوري الأيرلندي). بيد أن التضارب الواضح يبدو أقل إثارة للإستغراب، في ضوء النزاع بين حسين وابن سعود في الجزيرة العربية في العشرينيات، والنزاع العربي الإسرائيلي في فلسطين من 1920 إلى 1948، وغير ذلك من النزاعات التي نشبت لاحقاً.

أسلمة مصر

في سبتمبر 1970، كان الملك حسين يسحق الفلسطينيين، وتولي أنور السادات نائب الرئيس رئاسة نصر عند موت عبد الناصر. ولم يغب عن الرئيس المصري الجديد قرار الإخوان المسلمين بالوقوف إلى جانب الملك حسين في الأردن، وكانت له علاقات قوية مع الإخوان المسلمين ترجع إلى الأربعينيات. وباعتباره رئيساً، رفض السادات قومية عبد الناصر العربية، وظهر الحكومة من الناصريين وطرد المستشارين السوفيت في 1972. وبدلاً من ذلك، كانت استراتيجية السادات هي أسلمة المجتمع المصري وشكل تحالفاً جديداً مع الولايات المتحدة. وكانت واشنطن جد متلهفة للعمل مع السادات لكي تنتقل مصر إلى جانب الولايات المتحدة في الحرب الباردة إلى حد أن صناع السياسة ومسئولي المخابرات "اعتبروا إعادته لليمين الإسلامي أمراً حميداً وشجعوه صمتاً. والواقع، أن سياسات السادات ساعدت في التعجيل ببزوغ التطرف الإسلامي العالمي.

وكان هذا بالنسبة لبريطانيا مثلما هو بالنسبة للولايات المتحدة حالة من عودة الدجاج إلى مجثمه ليبيت فيه. فقد ظل البريطانيون يتآمرون مع القوى المتأسلمة ضد عبد الناصر، عدوهم الرئيسي في الشرق الأوسط طوال الثمانية عشر عاماً السابقة، وساعدوا في هزيمة القومية العربية باعتبارها قوة سياسية كبرى. وحينذاك انضمت هوايتهول والولايات المتحدة في مساندة السادات وهو يدير وجهة مصر إلى مسار جديد إسلامي وكذلك موال للغرب، وهما تدركان أن النظام لم يكن ديمقراطياً جداً مثلما لاحظ السفير البريطاني في 1975، لكنهما لم تكن كذلك في شئ.

وشملت عملية الأسلمة الواسعة التي قام بها السادات للمجتمع المصري ترسيخ مكانة الإسلام باعتباره جين الدولة في دستور 1971 وقلب اتجاه سياسة عبد الناصر إزاء الإخوان المسلمين، وأطلق سراح بعض الإخوان من السجون وأعلن عفواً عاماً عن كل الذين سجنوا قبل مايو 1971. وبحلول منتصف السبعينيات، كان السادات بدعم من السعوديين، يسمح للإخوان المسلمين بالعودة من المنفى الذي فرضه عبد الناصر عليهم في السعودية، حيث أصبح كثيرون منهم أثرياء. وفي الوقت نفسه، أقام السادات علاقة سرية مع كمال أدهم، رئيس المخابرات السعودية، مما شكل وفاقاً مصرياً سعودياً جديداً وقطيعة حادة مع العداوة المريرة في ظل عبد الناصر.

وشد الإخوان المسلمون الذين حررهم السادات الرحال تجاه الجامعات المصري، التي أصبح الكثير منها بحلول أوائل السبعينيات تحت سيطرة الحركات المتأسلمة التي أزاحت هيمنة الأيدولوجية القومية. وفي ذلك الوقت، بدأ المثقفون المتأسلمون في حرم الجماعات ينشرون أفكارهم في كل أرجاء العالم الإسلامي، مستفيدين من الشبكات والمنح المالية المقدمة من الوهابيين السعوديين، خاصة في أعقاب النزاع العربي الإسرائيلي في 1973. وكانت مجموعتان اجتماعيتان مهمتان من بين المجندين الجدد للحركة – حشود فقراء المدن الشبان من خلفيات تعاني من الحرمان، والبرجوازية الورعة، وهي طبقة كانت من قبل مستعدة من السلطة السياسية وتقيدها النظم العسكرية والملكية.

وشجعت إدارات الأمن في عهد السادات صعود الإسلام الراديكالي بالمساعدة في تكوين مختلف المجموعات الصغيرة من المتشددين بغية التصدي لبقايا المجموعات الطلابية التي كان يقودها الناصريون والماركسيون. وتشكلت الجماعات الإسلامية في حرم الجاماعات بمعاونة مساعد السادات محمد عثمان إسماعيل المحامي السابق، والذي يعتبر "الأب الروحي" للجماعة. وبحلول أواهر السبعينيات، دعت الجماعة للحياة الإسلامية ونظمت معسكرات صيفية لكوادرها، شملت التدريب الأيديولوجي ودفعت المنظمات الطلابية اليسارية للعمل سراً تحت الأرض. وظلت الجماعة حليفاً وثيقاً وأداة لحكم السادات حتى 1977 عندما طار الرئيس إلى القدسٍ لإجراء مباحثات سلام مع إسرائيل.

وفي مقابل انفتاح السادات على الإخوان المسلمين، قدم الأخيرون تأييداً حماسياً للنظام وسياسته الإقتصادية الليبرالية الجديدة لتشجيع المشروعات الحرة. فعلى النقيض من سياسات عبد الناصر القومية على طول الخط، كان وراء أخذ مصر بالليبرالية الإقتصادية برنامج وضعه صندوق النقد الدولي، وحظي بتأييد أنجلو أمريكي قوي، وانطوى على تقليل دور الدولة في الإقتصاد وتشجيع سياسات التجارة والإستثمار المواتية للمستثمرين الأجانب. وزادت هذه السياسات عدم المساواة بين الأغبياء والفقراء وعملت أداة تدنيد أخرى استخدمتها الحركات المتأسلمة في السبعينيات والثمانينيات، ليس في مصر فحسب لكن في أماكن أخرى من العالم الإسلامي. استطاع الإسلاميون المتطرفون أن يؤيدوا مشروع "السوق الحرة"، الحديث أيضاً باسم مقاومة الهيمنة الأجنبية واستغلا الشعب، في حين طفقوا يقيمون قاعدة شعبية ويقدمون خدمات اجتماعية حيوية لم تعد الدول تقدمها.

وشهد المسئولون البريطانيون السادات وهو يستخدم الإخوان ا لمسلمين لتدعيم النظام، مثلما شاهد جيل سابق الملك فاروق، وعبد الناصر في البدء، وهما يفعلان ذلك. ونظروا لاستراتيجية السادات بطريقة مواتية، شرط أن يتمكن في نهاية المطاف من السيطرة على هذه القوى – وهو تحديداً القلق الذي كان قد انتاب المخططين السريين البرطانيين فيما يتعلق باستخدامهم هم أنفسهم للإخوان للإطاحة بعبد الناصر في الخمسينيات.

وفي 1971 اعترف المسئولون البريطانوين بأن "السادات ربما أغراه استغلال مثل هذا السلاح المتاح تحت الطلب، مما يعكس التصوير البريطاني قديم العهد عن الإخوان. كانت المنظمة تحظى بنهضة في ظل السادات، لكن الخطر كان يمتثل في أنه "قد يبخس قدر صعوبة ا|لإبقاء عليها تحت السيطرة". وقد أوردت وزارة الخارجية أن السير ريتشارد بومونت السفير البريطاني: يرى أن السادات قد يرغب في استخدامها (منظمة الإخوان) كثقل موازن لقوى الجناح اليساري، لكن بالمثل فإن أداء السادات حتى الآن لا يوفر أي مبرر للإعتقاد بأنه يود أن يرى جانبها الأكثر تعصباً مثل أن اتجاهها نحو كراهية الأجانب أصبح عاملاً مهيمناً في السياسة المصرية. ومن ناحية أخرى، فإن استخدام إخوان مسلمين فرادى لتخفيف غلواء منظمات سياسية أخرى بدلاً من تشجيع الإخوان في حد ذاتهم، ربما يلائم أهداف السادات على نحو أفضل.

وهكذا استمر كبار المسئولين البريطانيين في مصر في الإعتراف بقيمة التآمر مع قادة الإخوان، مثلما فعل المسئولون في سفارتهم في الخمسينيات. والواقع أن حسن الهضيبي الذي كان البريطانيون قد تعاملوا معه حينذاك، كان لا يزال في موقعه عندما كتب بومونت هذه الأفكار. ولم تكشف الملفات الحكومية التي رفعت عنها السرية ما إذا كان للبريطانيين صلات بالهضيبي في ذلك الوقت، وقد مات الهضيبي في 1973.

وقد أجدى اعتقاد السادات بأنه يستطيع أن يروض الإخوان ويستميلهم ضد معارضيه السياسيين اليساريين والشيوعيين إلى حد ما، لكن الإخوان عزفوا عن أن يساندوا النظام صراحة، على الأٌقل منذ أن رفض السادات السماح لهم بالعمل كحزب سياسي. كما فشل السادات في إدراك أن الأسلمة الكاملة للمجتمع هي وحدها التي كان يمكنها أن تلبي مطالب الجماعات الأصولية. وفي حرب أكتوبر 1973 العربية الإسرائيلية – عندما حققت الدول العربية بقيادة مصر مكاسب إقليمية مبكرة ضد الجيش الإسرائيلي قبل أن تصل إلى طريق مسدود – نشر السادات شعارات الإسلام لإلهاب حامس مصر، على النقيض من استعانة عبد الناصر بالقومية العربية في حرب 1967. لكن مفاتحة السادات لإسرائيل وتوقيع افتاقيات كامب ديفيد في سبتمبر 1978، والذي أدى لإبرام معاهدة سلام مع إسرائيل، أكد للمتأسلمين المتطرفين، النزاعين إلى تدمير إسرائيل، أن السادات بوضوح ليس حليفاً. وكانت رعياته السابقة للمتأسلمين المجاهدين قد أدت حينذاك إلأى تكون حركة جهادية عنيفة في البلاد. وأدرك السادات تهديد ذلك للنظام بعد فوات الأوان، فلم ينقض النظام على الجماعة الإسلامية إلا في 1981، وحلها في سبتمبر.

وفي الشهر التالي تم اغتيال السادات على أيدي تنظيم الجهاد، الذي كانت جذوره تمتد إلى الجماعة الإسلامية في جامعة أسيوط في صعيد مصر، على غرار تلك التي كانت قد تشكلت بمساعدة الحكومة ف ياوائل العقد. وفي الثمانينيات انقسم أعضاء الجهاد إلى مجموعات أخرى، خاصة جماعة الجهاد الإسلامي، التي كان يقودها أيمن الظواهري، والي تطوع مجاهدوها للحرب في أفغانستان. وعلى الرغم من أن كثيرين من أعضائها وقادتها كانوا مثل الظواهري إخواناً مسلمين سايقين، فإن هذه كانت منظمات أكثر عنفاً أصبحت متمايزة عن الإخوان. وهاجمت الإخوان لإفتقارها لروح الجهاد ولقبولها بعض مفاهيم الديمقراطية بدلاً من إخضاع كل السلطات في الدولة لإرادة الله. وحينذاك بدا التأسلم العنيف سادراً في غيه.

كان اغتيال السادات لطمة للإستراتيجية البريطانية والأمريكية في الشرق الأوسط، لكن برنامجه للأسلمة في مصر كان يثبت بالفعل أنه مفيد في إحدى العمليات السرية البريطانية الأمريكية. فقد كانت العناصر المتأسلمة المتطرفة من مصر من بين من تكوعوا لمحاربة السوفيت في أفغانستان بعد 1979، وتولت دور القيادة الرئيسي هناك، برعاية نظام السادات ومعاونة نقود السعودية. وهكذا استمرت هذه القوى "أسلحة تحت الطلب" يعترف بها السمئولون البريطانيون، وإن كان بعيداً عن مصر نفسها. لكن قبل التحول لهذه الأحداث، سننظر في الأحداث الضخام التي جرت في 1973، وبالأحرى تعميق تحالف بريطاني سعودي غير عادي.

الفصل السابع - السعوديون والثورة الإيرانية

عشية حرب أكتوبر 1973 بين اعرب وإسرائيل، كان وضع بريطانيا في الشرق الأوسط يعتبر مشرقاً نسبياً مقارنة بأيام القومية العربية السود السابقة. وفي سبتمبر من ذلك العام، لاحظ جيمس كريج، من إدارة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية أنه في الخمسينيات والستينيات، كانت المعركة بين الثوار بقيادة عبد الناصر والتقلديين بقيادة السعودية، قد ألحقت الضرر بالمصالح البريطانية، حيث إنها "أجبرتنا بحكم أن عبد الناصر كان "معادياً للإمبريالية" ومن ثم معادياً للإستعمار . . . على دعم نظم كانت ظلامية ورجعية وضارة بسمعة مؤيديها". بيد أن: ما يحدث الآن هو أن مصر انهارت سلطتها وتخلت عن الثورة والتخريب، وفي الوقت نفسه كسبت السعودية سلطة وقل انسامها بطابع العصور الوسطى. ولما كان أمامنا عالم غربي يقوده السادات المعتدل نسبياً وفيصل المعتدل جداً، فإن منافسهما الرئيسي على القيادة، الجزائر طفقا على نحو مطرد تصبح أقل عداء، كذلك حال سوريا، وأخذ السودان يتردد إلينا، ولبنان والأردن صديقان كما كانا دوما، والمغرب وتونس هادئتان وطيعتان، ورغم أن ليبيا مثيرة للمشكل بدرجة كبيرة، لكنها آخذة في وطيعتان، ورغم أن ليبيا مثيرة للمشاكل بدرجة كبيرة، لكنهما آخذة في الإنعزال على نحو متزايد، وستتبع الكويت ودول الخليج قادتهما، ويمكن تجاهل جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (جنوب اليمن)، ويظل العراق وحده هو الذي يتعين كسبه. ومن ثم، فإن الصورة أكثر إشراقاً من تلك التي كان يمكن لنا توقعها في أوائل 1967 – وقد تحقق ذلك أساساً من خلال الحظ لكنه تحقق جزئياً من خلال سياستنا. وسيقول الإسرائيليون إن الفضل في ذلك يعود إليهم.

وأصبح كريج في 1979 سفير بريطانيا في السعودية. ووصفه للملك السعودي فيصل ملئ بالدلالات، لأن فيصل لا يمكن سوى القول بأنه "معتدل جداً"، وكلمة معتدل في هذا السياق تعني ببساطة أنه موال للغرب، وكان فيصل رئيساً لدولة نظاعة لتصدير الأيديولوجية الوهابية المتطرفة لكل أرجاء العالم والإبقاء على الأسرة السعودية في الحكم، ناهيك عن انتهاكات النظام الرهيبة لحقوق الإنسان والنفور من أي شئ له نكهة الديمقراطية. وبعد 1973، تصاعدت استراتيجية السعودية لتصدير الوهابية في شكل متوالية حسابية. كذلك قيد تحالف بريطاني جديد وعميق مع السعودية – واعتمد عليها حقاً – السياسة الإقتصادية البريطانية بصورة لا انفصام فيها بالدولة الأصولية الإسلامية المبررة.

العصر الجديد السعيد

بدأ جيشا مصر وسوريا هجوماً مفاجئاً على اسرئيل في 6 أكتوبر 1973، عابرين خط إطلاق النار في مرتفعات الجولان ووشبه جزيرة سيناء، اللتين كانت إسرائيل قد استولت عليهما في حرب الأيام الستة في 1967. وعقب وقوع الهجوم مباشرة، أعلنت منظمة الدول المصدرة للبترول (الأوبيك) بقيادة دول الخليج، رفع سعر النفط وفرض حظر شامل على الولايات المتحدة لمساندتها إسرائيل. وبعد إجراء مزيد من التخفيضات في إنتاج النفط، تصاعد السعر محلقاً، فزاد على أ{بعة أمثال في مطلع 1973، مما أثار أزمة عالمية ورعباً متصاعداً في البلدان الغربية.

وكتب هوكي ووكر سفير بريطانيا في الأردن يقول إن ارتفاعات سعر النفط في 1973 ربما شكلت "أسرع تحول في اقلوة الإقتصادية شهده العالم في أي وقت"، واعترفت وزارة الخارجية بأن الأزمة دفعت السعودية "إلى مركز نفوذ عالمي". وقد كانت بريطانيا قبل الأزمة وبعدها، تعتمد على دول الخليج في 70 في المائة من إمداداتها من النفط، التي يأتي 30 في المائة منها من السعودية. وكتبت هيئة التخطيط في وزارة الخارجية تقول إن "إختفاء النفط الرخيص غير العالم الذي يتعين على السياسة البريطانية أن تعمل فيه". وفي حين حققت البلدان الصناعية في 1972 فائضاً تجارياً بلغ 10 مليارات دولار، فالأرجح أنها واجهت في 1974 عجزاً بلغ 48 مليار دولار، في حين حقق منتجو النفط على الأرجح فائضاً بلغ 69 مليار دولار.

وحدثت الزيادة في سعر النفط إلى جانب ارتفاع عالمي في أٍعار السلع الأساسية، ونشوب نزاع في بريطانيا بين حكومة إدوارد هيث المحافظة والإتحاد الوطني لعمال المناجم، الأمر الذي قلل الفحم المسلم لمحطات الكهرباء. وعانت بريطانيا عدزاً في الطاقة، وأخبر توني باربر وزير ا لمالية، الوزارة بأن هذه "أخطر أزمة منذ الحرب العالمية الثانية" وهو يعلن في ديسمبر 1973 توقعات ميزان المدفوعات لعام 1974. وللتصدي لهذا، أعلن هيث في البرلمان أن الحكومة ستطبق أسبوع عمل يمتد ثلاثة أيام للحفاظ على الوقود والكهرباء، وأ، حصول الصناعة على الكهرباء سيقتصر على خسمة أيام أسبوعياً، وأن برامج التلفزيون ستنتهي في العاشرة والنصف مساء.

بيد أن السعودية بقيادة فيصل الموالي للغرب، بدأت تسعى لرفع الحظر بأسرع ما يمكن، شجعه على ذلك قرار الولايات المتحدة في مطلع 1974 تكثيف إمداد النظام بالأسلحة، وعمل مع الولايات المتحدة لإيجاد صيغة تنقذ ماء الوجه لإنهاء المأزق بين العرب والغرب. والواقع أن اسلعودية ونظام الشيخ زايد في أبي ظبي قدما إمدادات إضافية من النفط لبريطانيا في أواخر 1973 وأوائل 1974، لتخفيف أزمة الطاقة فيها، على الرغم من القيود الرسمية المتفق عليها في الأوبيك في ذلك الوقت. وفي 15 نوفمبر 1973، كتب إدوارد هيث إلى الملك فيصل، مؤكداً الحالة الرائعة للعلاقات البريطانية السعودية، ومسجلاص صداقته الشخصية لفيصل. وفي امتنان واضح لسياسة السعودية النفطية تجاه بريطانيا، كتب إدوارد هيث يقول خلال الأزمة التي كنا نمر بها والقضايا الخطيرة التي أثارتها في وجهنا جميعاً، أقدر جل التقدير تفهم جلالتكم لسياسة بريطانيا في الشرق الأوسط".

وألغت السعودية الحظر رسمياً في مارس 1974. وفي اجتماع لاحق للأوبيك، دعا الشيخ اليماني وزير النفط السعودي بإصرار لتخفيض أسعار النفط لدعم الدول الغربية. وفي اجتماع للأوبيك في سبتمبر 1975ٍ، قاوم السعوديون دعوات الأعضاء الآخرين لفرض زيادة في أسعار النفط أكبر كثيراً من نسبة العشرة في المائة التي اتفق عيلها أخيراً. والملفات البريطانية مليئة بالإشادة "بالدور المعتدل" للسعوديين في هذه الإجتماعات، ومن الواضح أن بريطانيا عملت بنشاط خلالها لخفض أسعار النفط – وكانت تلك استراتيجية لدفع السعودية لإستخدام قوتها الكبيرة لإضعاف قوة الأوبيك"، مثلما أوضح آلان روثني سفير بريطانيا الجديد في السعودية.

وعندما تدفقت الأموال فجأة على السعودية، كثفت إنفاقها الباذخ على المنظمات الدينية والجمعيات الخيرية في شتى أنحاء العالم. فخلال السبعينيات افتتحت رابطة العالم الإسلامي التي تسيطر عليها السعودية مجموعة كبيرة من المكاتب الجديدة في الخارج، في حين طبعت وزراة الشئون الدينية وصدرت الملايين من نسخ القرآن مجاناً ووزعت الكتب الخاصة بتدريس العقيدة الوهابية على جوامع العالم. وفي جدة في 1992، أضاف السعوديون للروابط الإسلامية الدولية التي أٍسوها في العقد السابق، الجمعية العالمية للشبان المسلمين، التي سعت إلى توحيد منظمات الشبان المسلمين في كل أنحاء العالم، وقد اتهمت هذه الجمعية بأنها توجه الهبات السعودية سراً للمنظمات المتشددة المنخرطة في دعم مجموعات إرهابية.

وفي الوقت نفسه، كانت ثورة هادئة تحدث في الإقتصاد البريطاني، لا تزال عواقبها بادية. وقد بدأ الوزراء المحافظون ذلك في الأيام الأخيرة لحكومة هيث، واستمر فيه نظراؤهم العماليون بحماس في حكومة ويلسون الجديدة في 1974. ونزع الوزراء البريطانيون للتأسي بالماضي وأقاموا علاقات اقتصادية أوثق مع السعودية سعياً للحصول على عقود للمشاركة في توسعها الإقتصادي الذي تموله دولارات النفط، وخرجوا عن مألوف عادتهم ليقدموا بريطانيا باعتباره مكاناً جذاباً لإستثمار أموال النفط السعودية.

والواقع أن هذه الخطط البريطانية كانت قد بدأت قبل زيادة أسعار النفط في أكتوبر 1973. ففي يناير 1973 لاحظت وزارة الخارجية أنه مع ثروة النفط السعودية وخطط التصنيع في المملكة، هناك فرصة ذهبية للصناعة البريطانية وللقطاع المصرفي البريكاني إن توافرت لهما الطاقة والخيال اللازمين لإغتنامها". وبحلول الشهر التالي، انكبت على مباردات "لدفع فكر السعوديين في اتجاه القيام باستثمارات جمة في الخارج لفوائض إيرادتهم". كان السعوديين ينظر إليهم بوضوح على أنهم المنقذون المحتملون لبريطانيا، التي كانت تمر بالفعل بأزمة اقتصادية عميقة.

وبدأ سيل من الإجتماعات عالية المستوى في بريطانيا والسعودية في مطلع 1973. ففي فبراير، زار الأمير فهد ولي العهد ووزير الخارجية لندن للإجتماع بإدوارد هيث لمناقشة الإستثمارات السعودية في بريطانيا وكذلك "القدر الكبير من الإتفاق" بين البلدين على السياسة الخارجية. وفي يوليو، زار لندن الأمير عبد الله قائد الحرس الوطني السعودي – والذي أصبح هو الآخر ملكاً في المستقبل. وفي خضم أزمة النفط في ديسمبر 1973، اقترح بيتر ووكر وزير التجارة على رئيس الوزارء بذل جهد كبير لإقناع منتجي النفط العرب "باستثمار جزء من فوائضهم الكبيرة عبر الخمسة أو الستة أعوام التالية في الصناعة البريطانية". وحدد خيارات شتى من أجل إقامة شراكة معهم تستدعي مساهمة أكبر من الصناعة البريطانية في التنمية الصناعية السعودية، خاصة في استكشاف مصادر جديدة للمواد الخام أو الطاقة. وبحلول نهاية العام، وبعد زيارات للسعودية قام بها محافظ بنك إنجلترا ومسئولون في وزارة التجارة والصناعة، كان روثني السفير البريطاني ينبه إلى أن بريطانيا والسعودية "قد اتخذتا الخطوات الأولى نحو إنشاء علاقة جديدة طويلة الأجل في المجالات المتصللة بالتنمية والإستثمار والنفط".

بيد أن مسئولي المالية البريطانيين كانوا يشعرون بالقلق بشأن التأثير المحتمل الذي يمكن أن تحدثه الإستثمارات العربية الكبيرة على النظام المالي الدولي. فحتى قبل أكتوبر 1973، كانت السعودية قد حققت فائضاً بلغ مليارات دولار من مبيعات النفط، وكان شاغل بنك إنجلترا "الأول يتعلق بتقلب الإحتياطات الكبيرة التي تكدسها الدول العربية من إيرادات النفط". وبحلول أكتوبر 1974، لاحظت وزارة الخزانة أن منتجي النفك قد حققوا فوائض بلغت مليار دولرا، يخص السعوديين وحدهم 26 ملياراً منها، مما يؤكد التوقعات التي وضعتها في أوائل هذا العام. وكان شاغل وزارة الخزانة هو التعامل مع الفوائض بطيقة "لا تشيع الإضطراب في الآليات المالية الدولية وتفاقم الإتجاه نحو الكساد الذي أصبح واضحاً الآن في الإقتصاد المالي". وتمثلت مشكلة أساسية في أن الإستثمارات كانت توضع في بنوك غربية تدفع فوائد عالية، مما يدر على المستثمرين مبالغ لا تتناسب مع قاعدة رأس المال في البنوك، وكان ذلك يهدد بأن "تكتسح عواقب خطيرة الهيكل المالي للغرب بأسره" كما لاحظت وزارة الخزانة.

وكان الحل البريطاني هو إقامة "نظام جديد جرى إصلاحه يمكن أن يخدمنا في المستقبل مثلما فعلت بريتون وودز في الماضي" – إشارة للترتيبات التي أجريت في الأربعينيات وفيها ربطت البلدان أسعار الصرف فيها بقيمة الذهب، والذي انهار في 1971 عقب تعليق الولايات المتحدة لإمكانية تحويل الدولارات إلى ذهب. كان البريطانيون حينذاك يريدون ضمان أن يعيد منتجوا النفط تدوير فوائضهم من دولارات البترول "لتدعيم استقرار النظام"، وفي ذلك القوت، فإن بعضاً من هذا قد يقع في طريقنا" كما كانت وزارة الخزانة تأمل.

واستمرت الإجتماعات البريطانية السعودية إلى أواخر 1974 و1975. ففي ديسمبر، زار دينس هيلي وزير الخزانة السعودية، لمناقشة الإستثمار السعودي في بريطانيا والنظام المالي العالمي، وكذلك "لإقامة علاقات شخصية طيبة مع الأقلية القوية المؤثرة في هذا البلد المهم"، كما قال سكرتيره الخاص الرئيسي. وفي مارس 1975، زار فهد لندن وأعقب ذلك بزيارة أخرى في أكتوبر، حيث قابل الملكة ووزراء مختلفين، "لإستهلال هذا العهد الجديد السعيد" بين البلدين. وفي الشهر التالي، قام جيمس كالاهان وزير الخارجية بأول زيارة على الإطلاق يقوم بها وزير خارجية بريطاني لبناء "قوة دفع جبارة" من الإتصالات بين البلدين وجعل مزيد من الشركات البريطانية تشارك في مشروعات التنمية الجديدة الحاشدة في السعودية.

كانت هذه الزيارات تمرينات على التذلل وكان وزير المالية هيلي مبرزا في هذا. فعندما قابل هيلي وزير المالية السعودي، الأمير مسعد، في ديسمبر 1974، أخبر الأخير أنه لم يرأن البلدان المنتجة للنفط تصرفت بصورة غير أخلاقية في زيادة أسعار النفط، كما أنه لم يعتبر زيادة الأسعار مسئولة "بأية حال" عن الصعوبات التي كان العالم يواجهها حينذاك، وأن التضخم الذي عاناه العالم في 1973"ليس هناك ما يربطه بسعر النفط" كما قال هيلي مضيفاً إن حدوث زيادة في أسعار النفط بالضبط في الوقت الذي كان يجري الإعتراف فيه بالتضخم، كان "مجرد حادث تاريخي".

وبحلول يناير 1975، كانت السعودية قد استثمرت مبلغاً هائلاً في بريطانيا بلغ 9.3 مليار دولار في القطاع العام – وهو استثمار إجمالي يوازي 20 مليار إسترليني بسعر اليوم. وبلغ إجمالي اقتراض الصناعات المؤممة البريطانية من منتجي النفط نحو 1.4 مليار دولار. بيد أن وزارة الخزانة لاحظت أنه "بسبب حساسيات السعوديين تجنباً لتحديدهم بأنهم مصدر هذه القروض المقدمة لبريطانيا. وذكرت هذه الوزارة أيضاً أن أموال فوائض منتجي النفط كانت تقدم مساهمة كبيرة في تمويل عجز الحساب الجاري لبريطانيا في 1974 والنصف الأول من 1975. كان السعوديون قد أصبحوا حينذاك "حائزين كباراً جداً للإسترليني"، وثاني أكبر حائز له بين منتجي النفط (بعد نيجيريا). وعندما التقى هارولد ولسن بالأمير فهد في لندن في أكتوبر 1975، أوصاه مستشاروه بأن يقول لملك المستقبل:"إن لبلادكم حالياً مصالح كبيرة في بريطانيا ومن الطبيعي أن تهتموا بصورة وثيقة بتقدم الإقتصاد البريطاني.

وهكذا، ففي خلال عامين من أزمة النفط في 1973، أغدق السعوديون مقادير هائلة من دولارت البترول على الإقتصاد البريطاني، وأصبحت لهم حصة كبيرة فيه. وكانت نتيجة ذلك هي أن بريطانيا أصبحت حينذاك معتمدة من الناحية الإقتصادية على النظام السعودي ومجبرة على أن تجعل سياستها الخارجية تأخذ صف النظام. كان المخططون راضين بصورة كاملة عن الدولار العالمي والإقليمي متزايد النفوذ للسعودية، وناصروه حقاً. ففي نوفمبر 1974، أبرز الموجز الذي قدمته وزارة الخارجية لوزير المالية هيلي بشأن زيارته المرتقبة للسعودية، الثقة التي كانت السعودية التي تتدفق عليها دولارت البترول تمتطي بها المسرح العالمي مباعدة بينها بين رجليها، وأنها "ستحتفظ في المستقبل المنظور بصوت قوي في صياغة السياسات العربية:. وشجع الموجز هيلي على أن يثير مسألة أن "السعودية وبريطانيا لهما مصالح كثيرة مشتركة، ليس أقلها شأناً الحفاظ على الإستقرار في شبه الجزيرة العربية. واستقرار المسار يعني حماية هذه المنطقة الفرعية من عدوى المفاهيم المتمردة عن الحكم الشعبي والجمهوري والقومي. ورحبت بريطانيا بالدور البارز للسعودية في المنطقة، خاصة بعد أن كانت قد قررت تخفيض التزاماتها العسكرية المقدمة لدول الخليج قبل بضع سنوات.

كانت الدولتان كلتاهما نزاعتين للحفاظ على بقاء المشيخات الإقطاعية الموالية للغرب في أماكن أخرى من الجزيرة العربية في الحكم. وتم تطبيق ذلك أولاً في عمان، حيث كان السلطان لا يزال يقاتل القوى القومية في أقليم ظفار بمساعدة القوات البريطانية، والأموال السعودية، وثانياً في اليمن الشمالي، الذي قام بعد الحرب السرية التي شنتها بريطانيا والسعودية وحيث كانت حكومة عسكرية موالية للسعوديين تواجه آنذاك نظاماً قومياً يسانده السوفيت في جنوب اليمن لمتمرديظفار وتآمروا طوال 1974 للتوصل إلى طرق لدحرهم. وفي أكتوبر من ذلك العام، اتفق جيمس كالاهان والأمير سعود بن فيصل وزير الخارجية السعودية، فيما بينهما على أن يمول السعوديون واردات اليمن الشمالية من السلاح وأن ينظم البريطانيون تدريباً خاصاً على محاربة العصيان للنظام في شمال اليمن.

وعلى ذلك، فإن بريطانيا لم تؤيد السياسة الخارجية السعودية في الشرق الأوسط فحسب، فقد جاءت زيارة الأمير فهد ولي العهد لبريطانيا في أكتوبر 1975 في وقت كانت فيه وزارة الخارجية توصي الوزراء بالنظر إلى السعوديين باعتبارهم "شركاء في الحوار لهم قيمتهم في تبادل الآراء حول طائفة واسعة من المشاكل العالمية (كأمر متميز عن مشاكل الشرق الأوسط الصرف)، بما في ذلك العلاقات بين الشرق والغرب والوضع الإقتصادي والنقدي العالمي (مع إشارة خاصة لنظام اقتصادي دولي جديد)" كان ذلك قد أًصبح حينذاك تحالفاً استراتيجياً عالمياً. ولم يكن يمكن أن ينتاب المخططين البريطانيين أي وهم بشأن من كان السعوديون سيؤيدونه في سياستهم الخارجية في غير ذلك. ففي السبعينيات والثمانينيات مول السعوديون مجموعة إرهابية كان يترأسها أبو نضال، والمتشددون الإسلاميون الذين كانوا يعارضون القذافي في ليبيا، وعيدي أمين ديكتاتور أوغندا المتعطش للدماء، والمتمردين المسلمين في الفلبين ونظام سياد بري الوحشي في الصومال.

كانت علاقات المملكة بالمجموعات الإرهابية معروفة للولايات المتحدة بحلول أوائل السبعينيات. ففي مايو 1974 على سبيل المثال، حذرت وزارة الخارجية الأمريكية بريطانيا من ألا تمضي قدماً في عرضها المعلن عن تقديم قذائف أرض جو تعمل بماسورة النفخ للسعودية، خوفاً من تسرب هذا النوع من الأسلحة إلى أيدي الإرهابيين". وأخبر السفير الأمريكي في السعودية نظيره البريطاني أو واشنطن رفضت أن تبيع معدات مماثلة، هي قذائف العين الحمراء خوفاً من أن تنتهي إلى أيدي الإرهابيين و"تسنخدم ضد الطائرات المدنية أو أهداف مماثلة".

واستمر البريطانيون في تحمل مسئولية بقاء الأسرة المالكة السعودية نفسه. ففي 1970، درب فريق من الجيش الريطاني أعضاء من الحرس الوطني على القيام "بواجبات خاصة فيما يتعلق بالسلامة الشخصية لصاحب الجلالة الملك". وظل هذا ال فريق هناط طوال أوائل السبعينيات، في حين كانت تتم حماية الشيخ اليماني وزير النفط السعودي بواسطة فريق من ضباط الأمن في جهاز المخابرات السرية البريطانية، وقد أعقب هذا التدريب أحداث ديسمبر 1975، عندما احتجزت مجموعة من الإرهابيين بقيادة كارلوس ابن آوى وزراء النفط في منظمة الأوبيك رهائن عند اجتماعهم في ڤيينا.

وفي مايو 1973، وقعت بريطانيا صفقة بمبلغ 25 مليون إسترليني مع السعودية لتدريب طياري قواتها الجوية وخدمة طائراتها. وبحلول ذلك الوقت، كان 2000 معلم ومهندس ومدير بريطاني منخرطين في العمل في شتى المشروعات العسكرية في كل أنحاء البلاد. كانت المعدات العسكرية البريطانية تباع لبلد كانت سياسة الدفاع فيعا تقوم على الجهاد، مثلما لاحظ هوكي ووكر السفير البريطاني في فبراير 1975. وذكر بيان صحفي سعودي صدر في ذلك الوقت أن: المبادئ العامة التي تأسست عليها سياسة المملكة الدفاعية تشمل مبدأ الجهاد، وهو أمير سيظل قائماً حتى يوم الدين في الحدود التي أرساها الله "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" (البقرة: 190) وقول النبي بأن من يحارب لإعلاء كلمة الله ينفذ إرادة الله. ونظام الدفاع في المملكة يسترشد بقواعد السلوك في الشريعة بشأن ال حرب كما وردت في القرآن الكريم وسنة النبي والمبادئ التوجيهية للخلفاء الأربعة العظام.

ولم يتشكل هذا التحالف بسبب أن المخططين البريطانيين كانوا مغرمين ببيت آل سعود بصفة خاصة، ولا جهلاً بما هو عليه. ففي مايو 1972، تماماً قبل تعميق الوفاق الودي البريطاني السعودي، أخطر ويلي موريس السفير البريطاني المنتهية مهمته، إليك دوجلاس – هوم وزير الخارجية أن :"إنها لمأساة كبرى، أنه مع كل ما يحتاجه العالم، تركز العناية الإلهية هذا القدر الضخم من الموارد الحيوية وهذا المقدار الهائل من الثروة في أيدي أناس لا يحتاجونها كثيراً ويتسمون بقدر كبير من عدم المسئولية بشأن استخدامها". وأضاف موريس، أن القادة السعوديين "يعتبرون باقي العالم موجوداً لخدمتهم"، وأنهم "يتصرفون بلا مبالاة مرتجلة غير دارية بالعواقب، بما يلائم الآخرين أو بما قد يظنه الآخرون بهم" وكلمات موريسكشافة لما تصفه به هوايتهول أقرب حلفائها في المنطقة، الذين أقامت معهم تحالفاً استراتيجياً، تحديداً للتصدي لقوى أخرى أكثر اعتدالاً في أماكن أخرى. خلاصة القول إن البريطانيين كانوا يعرفون على وجه الدقة مع من كانوا يتعاملون حيث إن أي قضية كان السعوديون يروجون لها في داخل المملكة وخاردها كانت باسم التطرف الوهابي والدفاع عن بيت آل سعود.

وكان المدى الذي ذهب إليه السمئولون البريطانيون لتعهد العلاقاة استثنائياً عادة. ففي أكتوبر 1975 على سبيل المثال، تضمن موجز أعدته وزارة الخاردية للمملكة تمهيداً لزيارة المير فهد للندن قسماً بعنوان "موضوعات ينبغي تحاشيها"، تضمن موضوعين – القضية العربية الإسرائيلية و"التقارير الأخيرة عن الرشوة والفساد في السعودية". كما قدمت الحكومة البريطانية "سيارة جاجوار ضخمة وامرأة شقراء جذابة الساقين" لمحمد الفوازان مدير الإذاعة الخارجية في وزارة الإعلام السعودية، في زيارته للندن في سبتمبر في 1973. ومع هذه العطايا علقت وزارة الخاردية قائلة "يبدو أ، لمحمد طبعاً محبباً للإنجليز".

وكان الأمير تركي بن عبد العزيز شخصية سعودية أخرى بدأت بريطانيا تطور معها علاقات، وكان نائباً لوزير الدفاع تعلم في أوكسفورد، وخلف في 1977 كمال أدهم رئيساً لجهاز المخابرات السعودية، المديرية العامة للمخابرات. وقد ورد أن تركي أقام علاقات وثيقة مع جهاز المخابرات الخارجية البريطاني ومع وكالة المخابرات المركزية بل وقدم وظائف لضباط مخابرات متقاعدين ليكونوا عيونه وآذانه في لندن وواشنطن. ويعتقد أن قابل عقب تعيينه مباشرة، إما في 1978، و1979، أسامة بن لادن، وكان حينذاك طالباً في جامعة جدة بدأ ارتباطه بالمتطرفين الإسلاميين، ويزعم أن تركي اقترح على بن لادن أن يستخدم نقوده لمساعدة المقاومة الأفغانية ضد السوفييت عقب غزوهم لأفغانستان في ديسمبر 1979.

وفي حين كان تجري هذه التطورات، كانت هناك حالة جيشان أخرى في الشرق الأوسط.

تعهد آية الله

أعيد نظام الشاه، محمد رضا بهلوي في إيران، بانقلاب بريطاني أمريكي في 1953، وأصبح حليفاً أساسياً للغرب ورجل شرطة له في الشرق الأوسط. فقد أرسل قوات لدعم السلطان قابوس في عمان الذي كان البريطانيون يساندونه، وعمل كثقل موازن للعراق القومي وشجع السياسات الإقتصادية الموالية للغرب واشترى أسلحة منه. وقد ساندت بريطانيا بثبات الحكم الإستبدادي للشاه، وساعدت في تدريب قوة الأمن الوحشية الخاصة به، السافاك، وعملت في غير ذلك محامياً عاماً يدافع عن انتهاك النظام المتزايد لحقوق الإنسان. وفي أبريل 1978، زارت مارجريت تاتشر زعيمة المعارضة من حزب المحافظين طهران، وألقت خطاباً في غرفة التجارة البريطانية الإيرانية، فقالت عن الشاه: لا ريب أنه واحد من أكثر رجال الدولة يعد نظر في العالم وله خبرة لا تبارى. ليس هناك زعيم آخر لبلده قيادة أكثر ديناميكية مما فعل. وهو يقود إيران خلال نهضة القرن العشرين.

وأضافت تاتشر أن إيران كانت أكبر سوق لبريطانيا في الشرق الأوسط وأن مشترياتها من السلاح "توفر ألوفاً كثيرة من الوظائف" في بريطانيا. والواقع أنه بحلول أواخر 1978، كانت الشركات البريطانية قد تلقت طلبات شراء ضخمة من نظام الشاه لتوريد أكثر من 1500 دبابة قيمتها 1.2 مليار إسترليني. وكانت شركة النفط البريطانية، بريتش بتروليم، اتحاداً قيادياً من شركات النفط التي تنتج الكتلة الأساسية من النفط الخام في إيران وتشتريه، وشرعت في إعادة التفاوض على اتفاقيتها الموقعة مع إيران في 1973. وفي يوليو 1978، قبل أن تطيح الثورة الإسلامية بالشاه بستة شهور، وافقت حكومة جميس كالاهان العمالية سراً على توريد قنابل الغاز المسيل للدموع لمساعدة النظام في السيطرة على المظاهرات المتزايدة ضده، بناء على طلب من الشاه.

وطرحت ثورة إيران الإسلامية ووصول آية الله الخوميني إلى السلطة أكبر تحد لقوة بريطانيا وأمريكا في منطقة الخليج الغنية بالنفط والشرق الأوسط الأعرض منذ نهوض القومية العربية في الخمسينيات. لكن السجلات تبين أن بريطانيا كانت قد تخلت عن تأييدها للشاه قبل الثورة وسعت لتأمين نفسها مع المعارضة الإيرانية بقيادة الخوميني. وبمجرد وصول الأخير إلى السلطة، سعت هوايتهول في البداية لإقامة علاقات طيبة مع النظام الإسلامية، وتواطأت معه، إذ اعتبرته مصداً للإتحاد السوفيتي.

وقد كتب كالهان وزير الخارجية في مذكراته أنه طوال أواخر 1978، كانت برطيانيا لا تزال تساند الشاه لإستعادة النظام، لكنها كانت تأمل على نحو مثالي في أن تحل محله شهصية عسكرية أو غير عسكرية :"إننا نحتاج شخصاً ماله هالة يظل في منصبه بضه سنوات قليلة فقط، وأن يكون شجاعاً بما يكفي لمواجهة أعداء يثيرهم، ومستعداً في النهاية لأن يتنحى لإبن الشاه بصفته ملكاً دستورياً. وحسبما قال أوين، فإن بريطانيا أجرت اتصالاً أيضاً مع شخصية دينية كبرى، في محاولة على ما يبدو للإبقاء على سلكة الشاه. وفي 29 سبتمبر، التقى أنطوني بارسونز السفير البريطاني مع الشاه وحثه على أن يعد بإجراء انتخابات. وفي هذه المرحلة، اتصلت السفارة البريطانية في طهران بآية الله شريعة مداري – وهو من علماء الدين القياديين في إيران، والذي وصفه أوين بأنه "أقل راديكالية من الخوميني"، وأنه كان معروفاً بآرائه الأكثر ليبرالية – و"أبلغه أن حكومة بريطاناي لا تزال تساند الشاه". وكان شريعة مداري على اتصال بالشاه خلال معظم 1978 من خلال مستشاره الخاص، ويبدو أن البريطانيين كانوا يعتقدون أن له بعض النفوذ على الشاه. كذلك لاحظ أوين "أننا رتبنا لأن يزور خبير في السيطرة على أعمال الشغب بطهران، لكننا قررنا رفض الإتصال مع صادق قطب زاده وكان من حاشية الخوميني في باريس، حيث كان منفياً. لم يكن قطب زاده من علماء الدين لكنه كان عضواً في حركة التحرير الثورية في إيران التي كانت متحالفة حينذاك مع القوى الدينية في مسعاها للإطاحة بالشاه. وهكذا نزر المسئولون البريطانيون في إجراء اتصالات مع حاشية الخوميني لكن أوين استبعد ذلك كما يروي تقريره.

وفي 10 أكتوبر، أجري أنطوني بارسونز حواراً طويلاً آخر مع الشاه. أكد فيه مساندة بريطانيا لنظامه، وقال "أوضحت أنه فيما يتعلق بالبريطانيين، فإنه ينبغي أن لا يشعر بأي قلق من أننا نتحاور مع المعارضة أو أننا سنتخلى عنه". بيد أنه في ذلك الحين، كانت المعارضة الشعبية للنظام قد طفقت تتصاعد، شاملة مجموعات شتى من القوميين والشوعيين ولكن العلماء المسلمين كانوا هم العنصر الأقوى فيها. وبعد رسالة بعث بها بارسونز في آخر أكتوبر وصف فيها القلاقل في طهران، كتب جيمس كالاهان :"لن أعول كثيراً على فرص الشاه. وأعتقد أنه يتعين على الدكتور أوين أن يبدأ في التفكير في إ‘ادة تأمين وضع بريطانيا". وتبين هذه الرسالة التي تناشد وزير الخارجية إاعادة تأمين وضع بريطانيا مع القادة الذين يحتمل أن يحكموا إيران في المستقبل، أن الحكومة كانت تفكر بالفعل في تغيير ولائها. بيد أنه بعد ذلك بما يزيد على الأسبوع قليلاً، أخبر أوين اجتماع مجلس الوزراء أنه: "مهما كانت عيوب الشاه، فإنه لا يزال من مصلحتنا أن يبقى في السلطة. ذلك أن حكومة عسكرية بدونه لن تمثل أي تحسن وقيام حكومة بقيادة آية الله الخوميني سيكون أسوأ كثيراً".

بيد أنه بحلول شهر ديسمبر، كان المسئولون يقولون إن بقاء الشاه غير مرجح وأن إيران على ما يبدو على شفا ثورة. وفي 4 ديسمبر، أبلغ أنطوني بارسونز – الذي كان قد أخبر الشاه أن بريطانيا لن تتخلى عنه أبداً – الشاه باتصالات بريطانيا مع سياسيين من المعارضة، رغم أن الملفات التي رفعت السرية عنها لا تقدم أي تفاصيل عن هذه الشخصيات. وفي أواخر ذلك الشهر، مضى مسئولو وزارة الخارجية لمدى أبعد في المطالبة بأن تحول بريطانيا تأييدها إلى المعارضة الإيرانية. وكتب أوين يقول إنه أخبر الحاضرين في اجتماع عقد بالخارجية في 20 ديسمبر أن الشاه في وضع "ميئوس منه"، لكن اتخاذ النظام لإجراءات صارمة شديدة . . . قد يجدي في إيران، حيث إنه في ضوء عدم وجود بديل وخطر نشوب حالة من الفوضى، يمكن أن يكون هناك قبول لممارسة القوة بلا شفقة أكبر مما يمكن أن نتخيله بسهولة في الغرب، ناهيك عن تأييده". ويعني تقرير أوين ضمناً أن بعض المسئولين طالبوا بإسقاط الشاه وتأييد المعارضة، قائلين إنه أخبر الإجتماع "أننا إذا غيرنا السياسة حالياً، فسيحدث لنا أسوأ ما في العالم". لكن أوين خلص إلى أن بريطانيا يجب ألا "تناصر أو يعتقد أنها تناصر حلولاً ما، ولا يجب أن نصبح متورطين في نصيحة الشاه أو الآخرين بشأن عما ينبغي عليهم عمله" – وهو تعليق يعني ضمناً أنه في تنازل أمام الحجج الرسمية، ستعتمد بريطانيا طريقاً وسطاً وتدع الأمور تجري في أعنتها، مما يعني أن الشاه سيسقط، وأن بريطانيا لن تعتبر مؤيدة له. ومن ثم أنهى البريطانيون تأييدهم للنظام الذي وضعوه في السلطة في 1953. وفي 29 ديسمبر، اقترح مسئولون في وزارة الخارجية أن يطلب أوين إلى الأمريكيين الضغط على الشاه كي لا يقوم بملاحقة عسكرية في البلاد والتي قال أوين إنه كان يرفضها – وتلك علامة أخرى على المسئولين لم يعودوا على الأقل مستعدين لمساندة الشاه.

ويلاحظ أوين أخيراً "أنه فيما يتعلق بالإدارة الفارسية في هيئة الإذاعة البريطانية، فإنها كانت عائقاً بطريقة ما لكنها شكلت أيضاً تأميناً مع المعارضة الداخلية. وقال لقد "اتخذت قراراً راسخاً قبل شهور بعدم التدخل لدى الهيئة وكنت سعيداً بذلم وشعرت بأننا وضعنا هذه المشكلة في منظورها الصحيح". وهذا التعليق يبوح بالكثير، ففي ذلم الوقت كانت هذه الهيئة مشهورة على نطاق واسع في طرهان باعتبارها هيئة الخوميني للإذاعة البريطانية بسبب تقاريرها المنتقدة للشاه، مما جعل كثيرين يراهنون على أن البريطانيين يروجون ضمناً للمتأسلمين التابعين لآية الله.

وفر الشاه من طهران في 16 يناير، وفي أول فبراير عاد الخوميني لإيران من المنفى. وحينذاك، حاول البريطانيون "تأمين أنفسهم لمدى أكبر مع النظام الإسلامي الجديد يتحاشى أي ارتباط بالشاه". ورفضت لندن، إلى جانب الأمريكيين، أن تسمح لرجل شرطتها السابق باللجوء إلى لندن. ويلاحظ أوين أنه "لم يكن هناك شرف في قراري، بلا كان مجرد حسابات بإرادة للمصلحة الوطنية"، مضيفاً أنه اعتبر ذلك عملاً خسيساً". وكتب كالاهان في تبرير القرار أن الشاه "شخصية خلافية في إيران بقدر هائل ويجب أن نراعي مستقبلنا مع هذا البلد".

وعين الخوميني مهدي بازراجان، وهو عالم كان الشاه قد نفاه وقائد لحركة التحرير الشعبية في إيران، رئيساً للوزارء في حكومة مؤقتة، لكن السلطة الحقيقية كانت مركزة في مجلس الثورة الإسلامية اذلي كان يهيمن عليه الأصوليين الموالون للخوميني. وأخبر كالاهان البرلمان في 12 فبراير أن حكومته اعترفت في ذلك اليوم بحكومة بازارجان "وتتطلع لإقامة علاقات طيبة معها". وأوضحت زعيمة المعارضة مارجريت تاتشر أن أولوياتها هي ضمان احترام صادرات الأسلحة التي كان الشاه قد طلبها، خاصة صفقة الدبابات إلى جانب "مصالحنا في النفط والتجارة وغير ذلك". بيد أن الحكومة الإيرانية الجديدة ألغت في لذك الشهر بعض طلبيات الأسلحة. لكن ذلك لم يوقف البريطانيين عن السعي لتملق النظام الجديد كسباً لرضاه. ففي 20 مارس كتب وزير الدولة السيرجون هانت إلى رئيس الوزراء قائلاً إنه "عند إنهاء عقودنا، يجب أن نعطي انطباعاً بأننا ندير ظهورنا لإيران. وبدلاً من ذلك، أقترح "أننا يجب أن نجعل الإيرانيين يدركون أننا جاهزون، إن أرادوا ، لإستئناف توريد البنود الروتينية مثل الذخيرة وقطع الغيار الضرورية لأداء قواتهم المسلحة لوظائفهم الأساسية. ويجب أن نضيع أي فرصة لدعم علاقتنا مع الحكومة الجديدة". وفي الشهر التالي تم إعلان الجمهورية الإسلامية بدستور جديد يعكس مثل الحكم الديني.

وبعد فوز مارجريت تاتشر في انتخابات مايو 1979، قبلت اعتراض أنطوني بارسونز على منح الشاه حق اللجوء في بريطانيا، اتساقاً مع موقف الحكومة ال سابقة. وأرسلت تاتشر السير دينيس رايت السفير السابق في إيران إلى جزر الباهاما للقاء الشاه في المنفى وإخباره بقرار بريطانيا. وسافر رايت باسم مستعار لتجنب أي ربط عام لبريطانيا بالقائد المعزول. كما تقرر منع أعضاء من أسرة الشاه من دخول بريطانيا في حال أن أصبحت لندن مركزاً للمعارضة للنظام الإسلامي الجديد. ومن جانبه كتب الشاه في سيرته الذاتية فيما بعد: "كانت لدي شكوك قيمة العهد في النوايا البريطانية والسياسة البريطانية لم أجد مطلقاً أي مبرر لتبديلها".

واستقال بازارجان ووزارته في نوفمبر بعد أن استولى الطلاب المتشددون الموالون للخوميني على السفارة الأمريكية، وأخذوا ما يزيد على ستين رهينة أمريكية، رداً على زيارة الشاه للولايات المتحدة طلباً للرعاية الطبية. واعترضت بريطانيا بشدة على الإستيلاء على السفارة، لكن بعد أسبوعين من نشوب الأزمة، عندما سئلت تاتشر عما إذا كانت ستهنئ الرئيس المصري على توفيره اللجوء للشاه، امتنعت رئيسة الوزراء عن الرد. وعندما مات الشاه في القاهرة في يوليو 1980، بعثت الولايات المتحدة رئيسها السابق ريتشارد نيكسون وبعثت فرنسا سفيرها للمشاركة في الجنازة، في حين لم ترسل بريطانيا سوى القائم بالأعمال، ويشير ديفيد أوين في مذاكراته إلى أن هذا بعث بإشارة مهمة للنظام الإسلامي.

وإضافة لذلك، واصلت بريطانيا تسليح النظام الجديد وتدريبه، فقد أعلنت تاتشر في مؤتمر صحفي عقد في واشنطن في ديسمبر 1979 أن بريطانيا لا تزال تورد السلاح لإيران، ذاكرة "أننا لم نرسل عملياً أية أسلحة منذ أخذ الرهائن"، رغم أنها ناقضت نفسها في أبريل التالي عندما قالت إنه لم يتم تصدير أي أسلحة منذ بداية ازمة الرهائن. وفي يناير 1980، أخطرت البرلمان أن "أقل من 30 ضابطاً عسكرياً إيرانياً كان يجري تجريبهم في بريطانيا، وبحلول شهر أبريل 1980، كان "نحو 20 أو 30" لا يزال يجري تدريبهم".

وفي 28 يناير 1980، بعد عزو السوفيت لأفغانستان قبل ذلك بشهر، أخبرت تاتشر مجلس العموم أننا "نواجه تطوراً خطيراً في العلاقات بين الشرق والغرب"، وربما تستغل موسكو القلاقل و"التطلع إلى الإستقلال الذاتي" في المنطقة الناجمين عن الثورة الإيرانية. ولاحظت أن "الإغراء واضح بالنسبة للروس لكن هناك علامات على أن الإيرانيين أنفسهم يدركون الخطر على نحو متزايد". وواصلت قائلة: إننا في هذا البلد نحترم حقوق الشعوب في اختيار نظمها وحكوماتها. ونرجو للإيرانيين الخير في بحثهم عن النظام السياسي الأكثر ملائمة لإحتياجاتهم. ونأمل أن يخرجوا من صعوباتهم الحالية متحدين.

وأضافت في أبريل التالي أن "مستقبل الحكم الداخلي في إيران مسألة ترجع للشعب الإيراني"، وواصلت لتشير إلى "خطر انفصال البعض من الشعب الإيراني"، وهو ما "سيتعارض مع مصالح الغرب". وكان اقتناع تاتشر في هذا هو أن الحكم الديني الإيراني مصد للتوسع السوفيتي ورأت أن إيران المتحدة رادع له. وينبغي القول بأنه بحلول ذلك القوت، كانت بطبيعة النظام الإيراني قد أصبحت واضحة بالفعل، ليس فقط في أخذ الرهائن الأمريكيين، وإنما أيضاً في عمليات الإعدام الكثيرة التي كانت تجري آنذاك. كما اعتبرت بريطانيا الإسلام الراديكالي مصداً للسوفيت في أفغانستان، وكان العمل السري البريطاني ضد الإحتلال الروسي قد بدأ بالفعل، كما سنرى في الفصل التالي.

وبدا أن تفكير تاتشر يعكس تكفير زبجنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر. في خضم حالة الجيشان التي نشبت في إيران نحو نهاية 1978، كان بريجنسكي قد بدأ يلح في واشنطن على فكرة أن المنطقة الممتدة من شمال شرق أفريقيا إلى آسيا الوسطى مروراً بالخليج كانت "قوساً للأزمة"، وطالب بما أسماه "إطاراً أمنياً جديداً" لإعادة تأكيد قوة الولايات المتحدة ونفوذها في المنطقة". وهدف بريجنسكي إلى تعميق علاقات الولايات المتحدة العسكرية مع مصر والسعودية وباكستان وتركيا وغيرها من البلاد الإسلامية الواقعة قرب الحدود الجنوبية للإتحاد السوفيتي وفي منطقة الخليج، وحشد القوى الإسلامية لإحتواء الإتحاد السوفيتي. وبمجرد رحيل الشاه، اكتسب هذا التفكير أهمية أكبر حتى من ذلك، وبحلول صيف 1979، كان بريجسنكي يريد "تحالفاً بحكم الأمر الواقع مع قوى التمرد الإسلامية ومع نظام جمهورية إيران الإسلامية"، على حد تعبير ريتشارد كوتام، وهو ضابط في وكالة المخابرات المركزيو لعب دوراً رئيسياً في انقلاب إيران في 1953. والتقى بريجنسكي رئيس الوزراء بازراجان في الجزائر بعد بضعة أشهر للترويج لهذه السياسة، لكن تم إيقافها بصورة كاملة فور أن بدأت أزمة الرهائن في نوفمبر. بيد أن تاتشر استمرت في طرح فكرة جعل إيران الإسلامية مصداً للسوفيت بعد أن بدأت أزمة الرهائن.

بيد أن الأمر الواقع الذي قدمته بريطانيا للمتأسلمين في إيران، لم يكن سلبياً وجعجعة فحسب. ففي 1982، عندما كثف نظام الخوميني عمليات القمع والإعدام التي يقوم بها المعارضين السياسيين، انخرطت بريطانيا في التواطؤ معه بصورة استثنائية، بالمساعدة في تدمير حزب توده تقريباً، وهو المنظمة اليسارية الرئيسية في البلاد. فبعد أن تعاون حزب توده مع النظام في البدء، سحب تأييده له في 1982، منتقداً إياه لمواصلة الحرب مع العراق، التي كانت بدأت في 1980. وعندئذ عمل النظام على قمع توده، وسجن قيادته. وعندما هرب فلاديمير كوجشين، وهو مسئول كبير في جهاز المخابرات السوفيتية، الكي جي بي، لبريطانيا في 1982، نقل إلى هيئة المخابرات البريطانية الخارجية قائمة بالعملاء السوفيت الذين يعملون في إيران، وعقب ذلك سمحت له الهيئة بأن يزور وكالة المخابرات المركزية أيضاً ويعطيها القائمة. وفي أكتوبر، قررت هيئة المخابرات الخارجية البريطانية ووكالة المخابرات المركزية تحويل هذه القائمة إلى الإيرانيين، بغية تملق النظام الإيراني استرضاه له من أجل تقليص النفوذ السوفيتي في بلد مهم من الناحية الإستراتيجية. وعقب ذلك، تم إعدام عشرات من العملاء المزعومين والقبض على أكثر من ألف من أعضاء حزب توده، في حين تم حظر الحزب. وفي ديسمبر، تم تقديم مائة عضو في المنظمة العسكرية للحزب إلى المحاكمة، استناداً في الأساس إلى معلومات قدمتها بريطانيا، وحكم على كثيرين منهم بالإعدام. وتم سحق حزب توده عملياً، رغم أنه استطاع فيما بعد إعادة تشكيل نفسه وعمل بصفته حركة سرية تحت الأرض.

وتبين هذه الواقعة أن بريطانيا كانت مستعدة للتعاون سراً مع النظام الشيعي المتأسلم الذي لا يرحم لتحقيق مصالح مشتركة محددة – قمع اليسار – حتى على الرغم من أن إيران كانت قد أصبحت تعتبر تهديداً استراتيجياً وقوة معادية للغرب بشكل كامل. وكان هذا يتفق أيضاً مع سياسة بريطانيا قديمة العهد، التي تعكس تعاون بريطانيا مع آية الله كاشاني في التخطيط للإنقلاب على مصدق قبل ثلاثين عاماً، بل وسرعان ما بدأت بريطانيا من جديد تصدر أسلحة أساسية لنظام الخوميني كما سنرى في الفصل التاسع.

الفصل الثامن - التدرب على الإرهاب: الجهاد الإسلامي

كانت الحرب على الإحتلال السوفيتي لأفغانستان في الثمانينات إشارة للمرحلة التالية في تطور التطرف الإسلامي العالمي، استناداً للإنبعاث الإسلامي الذي حدث في العقد السابق. فعقب الغزو السوفيتي في ديسمبر 1979، تدفق عشرات الألوف من المتطوعين من كل أرجاء العالم الإسلامي للإنضمام لإخوانهم الأفغان ومحاربة الشيوعيين. وخلال الحرب، مضوا إلى إلى تشكيل جماعات مناضلة من المجاهدين استهدفت بلدانها الأصلية والغرب في نهاية المطاف في عمليات إرهابية. وتم دعم هؤلاء المجاهدين وجماعات المقاومة من أهالي أفغانستان الذين ارتبطوا بهم، بمليارات الدولارات كمعونة وتدريب عسكري قدمته أساساً السعودية، والولايات المتحدة، وباكستان، وبريطانيا أيضاً.

وكان لبريطانيا بالفعل تاريخ طويل في دعم القوى المتأسلمة والعمل إلى جانبها في الوقت الذي عبر فيه السوفيت الحدود الأفغانية، لكن التآمر مع المجاهدين في أفغانستان كان شيئاً مختلفاً عن هذه الوقائع السابقة، كان جزءاً من العملية السرية الأشد اتساعاً لهوايتهول منذ الحرب العالمية الثانية. كانت المشكلة مع الغزو السوفيتيت لباكستان، كما أوضحت رئيس الوزراء مارجريت تاتشر بعد توليها منصبها بستة شهور هي "أنه إذا دعم الإتحاد السوفيتي قبضته على أفغانستان، فإنه سيوسع في الوقاع حدوده مع إيران بصورة شاسعة، ويكتسب تخوماً تربو على 1000 ميل على امتداد باكستان، وسيقترب لمسافة تدعله في حدود 300 ميل من مضيق هرمز، الذي يسيطر على الخليج الفارسي". وفي العلن، أنكرت رئيس الوزراء وغيرها من القادة البريطانيين تورطهم العسكري في أفغانستان، وادعوا أنهم يلتمسون حلولاً ديبلوماسية صرفة للنزاع. والواقع أن ا لمعونة السرية البريطانية للمقاومة الأفغانية كانت قد بدأت تتدفق حتى قبل الغزو السوفيتي، في حين صرحت هوايتهول لجهاز المخابرات الخارجية بالقيام بعمليات في السنة الأولى من الإحتلال السوفيتي، نسقها صباط الجهاز في إسلام أباد بالتعاون مع وكالة المخابرات المركزية وإدارة المخابرات في باكستان. وكانت برامج التدريب البريطانية الأمريكية السرية حاسمة، حيث إنه لم يكن لدى كثير من القوى الأفغانية الأهلية، والغالبية الشاسعة من المتطوعين المجاهدين الذين أرادوا لأفغانستان، أي تدريب عسكري. وكانت تلك سياسة ترتبت عليها عواقب عميقة.

جهاد إسلامي واحد، اثنان، ثلاثة

في مطلع السبعينيات، كانت أفكار الإخوان المسلمين قد حظيت بذيوع واسع في أفغانستان، حيث سافر الطلاب المصريون والأفغان الذين كانوا يدرسون في جامعة الأزهر الشهيرة في القاهرة، إلى بلدي كل منهما الآخر. وكان أحد خريجي الأزهر هو أبرز شخصية بين المتأسلمين الأفغان: برهان الدين رباني، وهو أستاذ جامعي طاجيكي، انتخب في 1972 رئيساً للجماعة الإسلامية في أفغانستان، وهي حزب إسلامي يستلهم المفكرين القايديين في الإخوان المسلمين: حسن البنا وسيد قطب، وحزب عبد الأعلى المودودي الذي يحمل الإسم نفسه في باكستان.

كان المودودي الذي حظي بتأثير كبير على أجيال من المتأسلمين والمجاهدين، يؤمن بأن الحضارة الحديثة تؤدي بالعالم إلى التهلكة وأن الإسلام وحده هو الذي يستطيع إنقاذه. وطرح فكرة القيام بثورة إسلامية يمكن أن تؤدي إلى إقامة دولة إسلامية، وهو هدف ثوري سعت الجماعة الإسلامية في الإعداد له إلى توعية المجتمع. وكان نائب رباني في الجماعة الإسلامية هو عبد الرسول سياف، وهو محاضر في جامعة كابول له انتماءات أيضاً للإخوان المسلمين، في حين كلف مهندس مدني شاب من الباشتون هو قلب الدين حكميتار بالأنشطة السياسية للحزب.

وخلال منتصف السبعينياتـ، قيم جون درنكال السفير البريطاني في كابول، الإخوان المسلمين الأفغان باعتبارهم "محافظين" و "خطراً محتملاً" على المصالح البريطانية هناك، لكنه واصل للمفارقة ليقول "إنني لا أعطي لهذا الخطر مرتبة عالية جداً. لم يكن مصطلح الإخوان يعني منظمة متمركزة، لكن مصطلح "ينطبق بصورة فضفاضة على أي مجموعة من المتحمسين دينياً"، في حين كان "من المرجح" أن تكون لهم صلات بتنظيم الإخوان الدولي. بيد أن مسئولاً آخر في السفارة البريطانية لاحظ أن "التنظيم الدولي للإخوان المسلمين . . .لا يزال ناشطاً في أفغانستان، بما في ذلك جامعة كابول والجيش".

وكان البريطانيون في السبعينيات ينظرون إلى أفغانستان بنفس طريقتهم خلال المباراة الكبرى في القرن التاسع عشر: إنها بلد المصالح التجارية لبريطانيا صغيرة فيه لكن المسئولين أكدوا أن "الأمر يستحق بعض الإهتمام للإبقاء على العلاقة الوثيقة مع الحكومة الأفغانية" حيث إن "أفغانستان لها موقع استراتيجي ولدى الحكومة الأفغانية عادة معلومات عرضية مثيرة للإهتمام عن شئون جيرانها". وقد حكم ملك موال لبريطانيا، هو ظاهر شاه أفغانستان منذ 1933 بنظام اعترفت وزارة الخارجية "أنه ضعيف وغير كفؤ، يعرقله برلمان غير خاضع للسيطرة وغير مسئول، تلقاء خلفية من السخط الشعبي، خاصة بين الطلاب"، كانت الأحزاب السياسية محظورة. وفي الوقت نفسه كما واصلت وزارة الخارجية القول "فإن علاقتنا مع أفغانستان حالياً أفضل مما كانت عليه لنحو 130 عاماً، مما يعكس النمط التاريخي للدعم البريطاني للنظم التي لا تحظى بالشعبية.

وفي يوليو 1973، أطاح انقلاب عسكري بالملك وكان يقوده شقيق زوجته محمد دواود خان، وهو رئيس وزراء سابق. وقد دبر الإنقلاب ضباط من الجناح اليساري، كان كثيرون منهم قد تلقوا تدريبهم في الإتحاد السوفيتي، وإن كان دواوود "أولاً وقبل كل شئ وطنياً عقد العزم على الحفاظ على استقلال أفغانستان وحريتها في العمل". وأقام داوود جمهورية وأعلن نفسه رئيساً وعقد اتفاقيات بشأن استيراد السلاح والتدريب العسكري مع الإتحاد السوفيتي. ولدعم نظامه، سرعان ما تحرك داوود للعمل ضد الحركة المتأسلمة، وسجن بعض شخصياتها القيادية، بمن فيهم سياف، في حين هرب آخرون، منهم رباني وأحمد شاه مسعود، وهو طالب هندسة طاجيكي عبر حدود أفغانستان الجنوبية إلى باكستان.

وفي الوقت نفسه، كانت باكستان تخشى من أن يستمر دواوود في متابعة قضية باشتونستان – وهي إقليم يقع تحت سيطرة كابول، ويضم منطقة بها أغلبية من السكان الباشتون في جنوبي أفغانستان وشمال باكستان، يقسمها إلى جزأين خط ديوراند، وهو خط الحدود الذي فرضه البريطانيون خلال الحكم الإستعماري للهند. وتحركت الحكومة الباكستانية بقيادة رئيس الوزراء ذي الفقار علي بوتو، مؤسس حزب الشعب الباكستاني للتصدي للترويج داوود لمطلب أفغانستان الكبرى، بمساندة تمرد متأسلم نشب في البلاد. وصرحت حكومة بوتو بتنفيذ برنامج سري للتدريب العسكري قرب بيشاور في باكستان، حيث كانت مجموعات الخدمة الخاصة تحت إشراف جهاز المخابرات الباكستان تقدم كميات صغيرة من الأسلحة والتدريب للأفغان. وفي يوليو 1975، أرسل جهاز المخابرات الباكستاني الأفغان العاملين معه إلى الجزء الشرقي من أفغانستان لشن موجة من الهجمات على المكاتب الحكومة والتحريض على تنظيم هبة، بيد أن هذا فشل، بسبب افتقاره لدعم واسع في أفغانستان.

وأصبح نظام داوود مكروهاً وقمعياً بصورة متزايدة حتى وقع الإنقلاب آخر موال للسوفيت في أبريل 1978، قاده محمد تراقي من حزب الشعب الديمقراطي الأفغانستاني، وهو الحزب السياسي الرئيسي الموالي لسلوفيت، والذي كان قد وقع بعد توليه السلطة معاهدة صداقة مع الإتحاد السوفيتي. وخلال 1978، تفجر تمرد شعبي ضد النظام الجديد، حاولت في الأحزاب الإسلامية، التي وصفتها المخابرات الأمريكية بأنها "‘إخوان مسلمون" وساندها جهاز المخابرات الباكستاني، استثارة انتفاضة ثانية بالقيام بحملة من الإرهاب ف يأفغانستان، اغتالت فيها مئات من المديرين والموظفين المدنيين. وفي يوليو 1979 بدأ الرئيس كارتر، الذي أٌقلقته وثاقة ارتباط النظام الجديد بالسوفيت، يرسل معونة سرية لمعارضي النظام المتأسلمين، وكانت تلك ثالث محاولة لقوى فاعلة خارجية منذ 1975 لتنظيم انتفاضة على النظام في كابول. وتم الإضطلاع بالعملية في تعاون مع السعودية وباسكتان وكانت جزءاً من خطة لهيئة تشكلت فيما بين الحكومات أنشأها كارتر، وهر فريق عمل القوميات، لإثارة القلاقل بين الأقليات الإثنية في المنطقة. وتم إرسال المعونة السرية قبل اللغزو السوفيتي بخمسة شهور، وقد قال زيجنيو بريجنسكي، مستشار كارتر للأمن القومي فيما بعد، إنه أعرب لكارتر عن أمله في أن "تستدرج الولايات المتحدة تدخلاً عسكرياً سوفيتياً" سيفشل، ومن ثم "تهب للإتحاد السوفيتي حرب فيتنام الخاصة به".

وفي سبتمبر 1979، وبعد شهور من قتال وحشي بين فصلين من حزب الشعب الديمقراطي الأفغاني، جاء انقلاب آخر بحفيظ الله نائب رئيس الوزراء إلى السلطة، ساعياً للسيطرة على الحزب وكذلك لقتال مجاهدي حرب العصابات الذين تؤيدهم الولايات المتحدة. ومع تعرض نظام أمين الله لضغط العصيان، وخوف موسكو من عدم إذعان أمين بشكل كاف للإبقاء على حكومة موالية للسوفيت في كابول، غزا السوفيت أفغانستان في 17 ديسمبر، وانهمرت دباباتهم وقواتهم على البلاد، وقتلوا أمين ونصبوا بابراك كارمال نائب رئيس الوزراء السابق رئيساً. وبعد الغزو مباشرة، أرسل بريجنسكي مذكرة إلى كارتر تقول إنه "يجب علينا أن نتدفق مع البلدان الإسلامية حملة دعاية وحملة عمل سري على حد سواء لمساعدة المتمردين".

ويبدو أن بريطانيا كانت قد بدأت هي الأخرى في تأييد المتمردين سراً قبل الغزو السوفيتي. ففي 17 ديسمبر 1979، عقد اجتماع "خاص للتنسيق]] في البيت الأبيض رأسه ولتر مونديل نائب الرئيس كارتر، وضم كل الوزارات الحكومية الأمريكية الأساسية. ومع احتشاد القوات السوفيتية قرب حدود أفغانستان، مهددة بالغزو لمساندة النظام الشيوعي، وافق الإجتماع على "تقصي إمكانية تحسين التمويل والتسليح لقوات المتمردة واتصالاتها مع الباكستانيين والبريطانيين، لجعل مواصلة السوفيت لجهودهم مكلفاً لأقصى حد ممكن". وهكذا، فقد بدأ البريطانيون حينذاك في القيام بما أصبح دورهم الأول تجاه الأمريكيين، وهو دور الشريك الأصغر في عمل سري تقوده الولايات المتحدة، في تناقض حاد مع الدور الأكثر اتساماً بالمساواة الذي كانت لندن تحظى به في الخمسينيات، وكان على بريطانيا أن تقوم بمهام متخصصة مثل تدريب المقاومة الأفغانية وإرسال عملاء سريين للمساعدة في القتال. وإجمالاً، كانت الخطة الأمريكية هي "تصوير السوفيت بأنهم أعداء للسيماء الدينية والقومية الإسلامية".

وفي 18 ديسمبر، وهو اليوم التالي للإجتماع، ألقت مارجريت تاتشر رئيس الوزراء، والتي كان من المفترض أنها أبلغت حينذاك بالطلب الذي وجهه إليها اجتماع البيت الأبيض، خطاباً رئيسياً في رابطة السياسة الخارجية، وهي مؤسسة أمريكية للبحوث متعددة التخصصات في نيويورك، بعنوان "الغرب والعالم اليوم"، دافعت فيه بقوة عن الإسلام بديلاً للماركسية. وفي إشارة لأزمة الرهائن الإيرانية التي كانت قد بدأت قبل ذلك بشهر، قالت تاتشر "لا أعتقد أنه يجب أن نحكم على الإسلام في ضوء الحودص الجارية في إيران" واستطردت: هناك موجة من الثقة بالنفس والوعي بالذات في العالم الإسلامي سبقت الثوةر الإيرانية، وستتخطى في مداها تجاوزاتها الحالية. ويبنغي أن يعترف الغرب بهذا باحترام وليس بعداء. أن الشرق الأوسط منطقة لنا فيها جميعاً مصالح كبيرة. ومن مصلحتنا، وكذلك من مصلحة شعوب تلك المنطقة، أن تنطلق من تقاليدها الدينية العميقة. أننا لا نريد أن نراها تخضع للدعوة الإحتيالية للماركسية المستوردة.

وكان استعداد تاتشر لكي تطرح جانباً استيلاء المتشددين الإيرانيين على السفارة البريطانية في طهران وتوسلها بالتناقض بين تقاليد الإسلام والماركسية المستوردة، لافتاً للنظر بصورة صارخة. كان ذلك هو الخطاب الذي قالت فيه رداً على أولئك الذين يتهمونهم مثلهم مثل السوفيت بأنها "السيدة الحديدية": "أنهم على حق تماماً، إننى كذلك" – وهو القول الذي اقتبسته الأفلام الوثائقية في التلفزيون إلى ما لا نهاية. ومع ذلك، فإن جزءاً أساسياً من دعوى تاتشر لصد ما أسمته "التهديد المباشر من جانب الإتحاد السوفيتي" كان انعكاساً لإعتماد بريطانيا التقليدي للغاية على القوى المتأٍلمة في المنطقة.

وبعد الغزو بشهر، أبلغت تاتشر البرلمان بأن مصطلح "المتمردين" الذي تستخدمه الصحف "كلمة غريبة بالنسبة لي عن أناس يحاربون للدفاع عن بلدهم ضد غاز أجنبي. لا ريب أنهم محاربون حقيقيون في سبيل الحرية، يقاتلون لتحرير بلدهم من قاهر أجنبي". ووصفت أفغانستان بلغة تشير إلى الإسلام والمسلمين لافتة النظر، قائلة إنه "بلد إسلامي، عضو في حركة عدم الإنحياز وبلد لا يمثل أي تهديد يمكن تصوره لمصالح السوفيت القطرية أو غيرها" وإن "الإتحاد السوفيتي قد دق إسفيناً في قلب العالم الإسلامي".

وفي زيارة لاحقة لمعسكر للاجئين قرب حدود أفغانستان، أخبرت تاتشر المحيطين بها "إنكم تتركون بلداُ كافرً لأنكم رفضتم أن تعيشوا في ظل نظام شيوعي كافر يحاول تدمير دينكم"، وإن "أفئدة العالم الحر معكم". وأضافت "أننا سنواصل، جنباً إلى جانب مع باكستان، والمؤتمر الإسلامي، وحركة عدم الإنحياز، ومع الغالبية الشاسعة من بلدان العالم، العمل من أجل التوصل إلى حل". ومرة ثانية كان التوسل بالإسلام اللافت للنظر بصورة صارخة، يبين أن بريطانيا كانت مستعدة مرة أخرى للتوحيد صراحة بين مصالحها الجغرافية السياسية والنفطية وبين مصالح القوى الإسلامية تحديداً.

تنظيم الجهاد

سرعان ما بدأ حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة – السعودية ومصر وباكستان – في تنظيم حرب المقاومة، بمساعدة أمريكية وبريطانية. (وتعالت أصوات النظام السعودي، ووسائل الإعلام والمساجد مطالبة بمساندة الجهاد ضد الشيوعيين الكفرة في كل أنحاء المملكة، في حين لعبت رابطة العالم الإسلامي التي يدعمها السعوديين دوراً رئيسياً في إرسال الأموال. وكانت السعودية والولايات المتحدة، هما الممولين السخسسن الرئيسيين للحرب وقدم كل منهما نحو 3 مليارات دولار. وكان الأمير تركي رئيس المخابرات هو الذي يدير التمويل السعودي، وعمل في ذلك من بين كثيرين آخرين مع أسامة بن لادن وهو ابن رجل أعمال ثري له روابط وثيقة مع الأسرة المالكة. وكان بن لادن الذي استخدم موارده المالية الخاصة لمساعدة المقاومة الأفغانية، من بين أوائل العرب الذين وفدوا للمشاركة في الجهاد، فقد جاء في 1980 واستمر طوال الحرب بأكملها، وإن لاحظ أحد المحللين أن بن لادن زار لندن أيضاً في مطلع الثمانينيات، وأنه ألقى عظات وخطباً دينية كثيرة في مركز رجينت بارك الإسلامي. كما يعتقد أن الملك السعودي فهد، الذي تولى السلطة في الممكلة في 1982، وولي العهد عبد الله – الملك الحالي – قد التقيا بن لادن ومولاه.

وقد استخدم بن لادن نقوده الخاصة لتجنيد المتطوعين العرب وتدريبهم في باكستان وأفغانستان، وأقام علاقات طيبة مع قادة أفغان مثل حكمتيار ومسعود، وغضت المخابرات الباكستانية الطرف عن ذلك. وليس هناك أدلة على دعم بريطاني أو أمركي مباشر لبن لادن، لكن أحد مصادر المخابرات المركزية ادعى أن مبعوثين أمريكيين التقوا بن لادن بصورة مباشرة، وكان هو أول من اقترح تزويد المجاهدين بقذائف ستينجر المضادة للطائرات. ولاحظ جون كولي الصحفي الأمريكي أن "وكالة المخابرات الأمريكية التي كانت منبهرة بوثائق اعتماد بن لادن السعودية الخالية من العيوب، أطلقت له العنان في أفغانستان"، لتنظيم المقاتلين المتأسلمين.

وكانت مصر السادات لاعباً رئيسياً ثانياً، فقد نظمت نقل المتطوعين المصريين إلأى أفغانستان، بمكن فيهم الإخوان المسلمون، الذين شكلوا نسبة كبيرة من المقاومة المناوئة للسوفيت. وبعد اغتيال المتأسلمين للسادات في 1981، قام بعض من هؤلاء الذين سجنوا مؤقتاً، بهذه الرحلة لاحقاً، ومنهم محمدعاطف، الذي أصبح معاوناً لصيقاً لبن لادن. وحارب كثيرون من المتأسلمين المصريين المتشددين مع حزب حكمتيار الإسلامي.

ونظمت باكستان، التي كانت حينذاك تعيش في ظل الأحكام العرفية عقب انقلاب الجنرال ضياء الحق في يوليو 1977 على حكومة بوتو، المقاومة الأفغانية وإدارتها في الميدان. وكان ضياء الحق الذي تدرب في الجيش البريطاني في الهند في الأربعينيات وبعد ذلك في فروت براج في الولايات ال متحدة الأمريكية، قد خدم أيضاً في الأردن في 1970، وقاد مرتزقة لسحق الفلسطينين نيابة عن الملك حسين خلال أيلول الأسود. وبعد استيلاء ضياء على السطة، شرع في تنصيب نفسه وباكستان حاميين للإسلام، وأصبح التدين المتزمت والمتعصب سياسة للدولة في باكستان". ولما كان ضياء يفتقر لقاعدة سياسية، فقد التمس تأييد الملالي، بل ومضى إلى حد أبعد من السادات في أسلمة المجتمع الباكستاني.وطبقت حكومته الشريعة في 1979 وساندتها الجماعة الإسلامية القوية التي وفرت قناة أساسية للمعونة المالية العربية للمجاهدين في أفغانستان. وعلمت شبكة الجماعة الإسلامية في مدارس ديوباندي الدينية، والمعروفة باسم المدارس، عشرات الآلآف من السكان وأكسبتهم طابعاً راديكالياً في السبعينيات والثمانينات، ساعدها في ذلك التدفق الحاشد من الأموال التي انهمرت لدعم قضية نضالية إسلامية في المنطقة.

وتم تنظيم شحنات الأسلحة المقدمة إلى المتمردين الأفغان ونقلها من خلال باكستان، خاصة عن طريق جهاز المخابرات الباكستاني. وفي اجتماع عقد الجنرال ضياء مع بريجنسكي في يناير 1980، أصر على ألا تقدم وكالة المخابرات المركزية إمدادات مباشرة للأفغان، بغية الإبقاء على سيطرة باكستان، بافتراض توزيعها من هناك على الجماعات الإسلامية، باعت القوة الباكستانية نحو الثلث منها في السوق السوداء، ولم تصل مطلقاً إلى متلقيها المقصودين. ومن 1983 إلى 1978، ارتفعت الشحنات السنوية من الأسلحة من 10 آلاف إلى 65 ألف طن.

وقد جرى تنظيم المقاومة الأفغانية في سبع مجموعات أساسية، عرفت باسم سبعة بيشاور، على اسم مدينة تقع في شمال غربي باكستان حيث تمركزت في قواعد. وكانت أهم أربع جماعات جميعها من المتشددين الجهاديين، الذين يؤمنون بالحرب المقدسة والتزموا ببناء مجتمع إسلامي. وقد أسماها أحد المؤرخين بأنهم إخواهابيين – إذ تأثرت بأيديولوجية الإخوان المسلمين (الإخوانية) والأيديولوجية المحافظة بصورة مغالي فيها للسعوديين (الوهابيين). وانقسم الحزب الإسلامي إلى فصيلين، أحدهما يقوده قلب الدين حكميتار، الذي كان قد انشق على جماعة رباني الإسلامية، وهيمن عليها الإخوان المسلمون، وكانت هذه هي أقوى الفصائل الباكستانية وتلقت أكبر حصة من المعونة الخارجية، خاصة من جهاز المخابرات الباكستانية. وكان الفصيل الثاني من الحزب الإسلامي بقيادة يونس خالص، وهو ملا وهالم كان يبلغ من العمر ستين عاماً، وكان من بين قواده العسكريين جلال الدين حقاني وعبد الحق، الذي سنعرض له لاحقاً. ثم كانت هناك الجماعة الإسلامية لبرهان الدين رباني الذي كان أحمد شاه مسعود هو قائده العسكري في الميدان. وكانت الجماعة الرابعة هي الإتحاد الإسلامي ا لذي يقوده عبد الرسول سياف، وهو وهابي له ارتباطات بالسعودية، التي قدمت معظم دعمها لسياف إلى ج انب حكمتيار، وكان سياف هو الذي ذهب معه بن لادن وكذلك خالد شيخ محمد،مهندس 11 سبتمبر، إلى المعركة أولاً.

وتم إلحاق المتطوعين الإسلاميين غير الأفغان بهذه الجماعات، وانضم معظمهم إلى حكمتيار وسياف. وتتباين تقديرات من تدربوا في أفغانستان وحاربوا فيها بصورة واسعة، من 25 إلى 85 ألفاً. وعلى الرغم من أن إسهامهم في المدهود الحربي ضد المحتلين السوفيت كان كبيراً في بعض الأوقات، فإنه لم يكن له شأن مقارنة بالقوات الأفغانية نفسها، التي وصل عددها إلى 250 ألف في كل الأوقات. وكان المنظر الرئيسي للمتطوعين "الأفغان العرب" هو عبد الرحمن عزام، وهو أخ مسلم فلسطيني وأستاذ في الجامعة لقى ترحيباً في السعودية في الستينيات وأثر التعليم الذي قام به في جدة على أسامة بن لادن. وكان عزام قبلً مسئولاً عن التعليم في رابطة العالم الإسلامي، التي أرسلته إلى إسلام أباد في 1980 للتدريس في الجامعة الإسلامية الدولية، وكانت هي نفسها تمول جزئياً من قبل الرابطة الإسلامية ويشرف عليها الإخوان المسلمون. وفي 1984، انتقل عزام إلى بيشاور بعد أن حصل على موافقة الرباطة لفتح فرع هناك. وسمح له هذا بأن يقيم مكتباً للخدمات لتنظيم قوة المتطوعين المجاهدين، وإدارة أموالها ونشر فكرة النضال الدولي المسلح. وقد أقيم مكتب بيشاور بمساعدة الجماعة الإسلامية الباكستانية وموله أسامة بن لادن في البداية إلى جانب هبات كبيرة من السعودية. وأنفق المكتب 200 مليون دولار من المعونة القادمة من الشرق الأوسط ومن الغرب، أساساً أمريكا وبريطانيا، المكرسة للجهاد في أفغانستان، وغالباً ما اعتمدت جهوده في مجال التجنيد على شبكة مكاتب الإخوان المسلمين.

العمل السري البريطاني

انطوى الدور البريطاني في حرب أفغانستان أساساً على التدريب العسكري السري وإمدادات الأسلحة، لكنه امتد أيضاً لما وارء أفغانستان إلى الجمهوريات الإسلامية جنوبي الإتحاد السوفيتي. ولعبت بريطانيا دوراً حيوياً في دعم الولايات المتحدة وعملت بوصفها ذراعاً سرية بحكم الأمر الواقع للحكومة الأمريكية ومضى دورها عادة لما وراء ما كانت القوات الأمريكية قادرة على القيام به أو راغبة فيه، لأنها كانت تواجه إشرافاً من الكونجرس أكبر مما كان قائماً في بريطانيا.

وهكذا، فقد لعبت القوات السرية البريطانية، على خلاف القوات السرية الأمريكية دوراً مباشراً في الحرب، واضطلعت بأدوار الإستطلاع والمساندة مع فرق للمقاومة كانت تدربها هي وأمثالها. والواقع أنه في المراحل المبكرة من الحرب كان مغاوير (كوماندوز) جهاز المخابرات البريطاني يدخلون أفغانستان ويخرجون منها من باكستان، لينقلوا إمدادات للجماعات الأفغانية بصورة مستقلة عن الباكستانيين – وفيمخالفة لمطالب الجنرال صياء. وفي البدء اقترحت بريطانيا على الولايات المتحدة إرسال أسلحة سوفيتية الصنع للقوات الأفغانية بغية إخفاء مصدرها الأصلي، ووافق الرئيس كارتر على هذه العملية، غير مدرك كما يبدو أن الأسلحة كان يتم توريدها من خلال شبكة منذر الكسار، العميل البريطاني الذي كان يقوم بالتوريد أيضاً للمتطرفين الفلسطينيين، كما ورد في الفصل السادس. وبناء على طلب الولايات ال متحدة، تم شحن 600قذيفة ضد الطائرات تحمل على الكتف تعمل بماسورة النفخ بدءاً من ربيع 1986، كان قد تم الإستغناء عنها عقب دورها غير الفعال في حرب فوكلاند. كما ساعد جهاز المخابرات الخارجية البريطاني وكالة المخابرات المركزية في مرحلة مبكرة من الحرب بتفعيل الشبكات البريطانية من الإتصالات في البلاد القائمة منذ أجل طويل – وهو في الواقع دور مماثل لذلك الذي لعبه الجهاز في انقلاب 1952 في إيران. وهكذا، استطاعت بريطانيا أن تجعل نفسها جاهزة تحت الطلب لمد يد المساعدة السريعة، رغم أن الأمريكيين كما لاحظ خبير بريطاني في شئون المخابرات "دفعوا معظم الفواتير"، وفي ذلك الوقت، كان الدور البريطاني المتخصص في العمل السري يعتمد على الكرم الأمريكي.

وعمل جهاز المخابرات الخارجية البريطاني إلى جانب فريق الخدمات الخاصة الباطستاني، الذي وجه الكوماندوز التابعين له في عمليات حرب العصابات في أفغانستان. وكانت التعليمات البريطانية والأمريكية تستهدف تكمين ضباط فريق الخدمات الخاصة الباكستاني من نقل ما تلقوه من تدريب للجماعات الأفغانية والمتطوعين المجاهدين. وكان العقيد برفيز مشرف أحد قادة هذا الفريق، وأمضى سبع سنوات مع هذه الوحدة ويعتقد أنه قام بتدريب المجاهدين. وكان ضياء الدين، قد اختار مشرف عضواً مخلصاً في جماعة ديوباندي وذكته الجماعة الإسلامية حسبما قال بعض المحللين، وعندئذ اتصل مشرف ببن لادن. وقد كتب مشرف مؤخراً في سيرته الذاتية أننا: "ساعدنا في إنشاء المجاهدني، وأشعلنا خيالهم بالحماسة الدينية في الدورات التي عقدناها لهم، وسلحناهم، ودفعنا لهم أموالاً، وأطعمناهم، وأرسلناهم للجهاد ضد الإتحاد السوفيتي في أفغانستان". ويدعي أنه لم تدرك لا باكستان ولا الولايات المتحدة ما يمكن لأسامة بن لادن "أن يفعله لاحقاً بالتنظيم الذي مكناه جميعاً من إقامته".

وكان التدريب والتعليم الذي جرى تقديمه للباطستانيين وكبار القادة الأفغان في مجالات مثل استخدام المتفجرات، والأسلحة الآلية وأدوات التحكم عن بعد لتفجير الألغام والقنابل، وممارسات التدمير وإحراق المباني، وكلها استخدمت في أعمال إرهابية فيما بعد. وقدمت وكالة المخابرات المركزية تشكيلة واسعة من الأسلحة لجهاز المخابرات الباكستاني، بما في ذلك متفجرات لدنة وبنادق للقناصة ومعدات متقنة للتوقيت والتفجير الإليكتروني التي جعلت تفجير القنابل من موقع بعيد أكثر سهولة – وهي بنود "للإستعمال المزدوج" يمكن استخدامها لمهاجمة أهداف عسكرية وكذلك استخدامها في عمليات إرهابية. كما شملت بعض برامج التدريب تعليم كيفية طعن حارس من الخلف، وقتل قادة العدو واغتيالهم، وعمليات الخنق والضرب بالفأس للتقطيع إلى أجزاء. وقد لاحظ العقيد محمد يوسف من جهاز المخابرات الباكستاني فيما بعد أن التدريب تراوح من غرس سكين بين عظم كتف جندي سوفيتي وهو يتسوق في البازار إلى وضع قنبلة في محفظة الأوراق في مكتب مسئول كبير. وكانت مؤسسات التعليم الأفغانية تعتبر مناسبة تماماً كأهداف، مثلما شرح، حيث إنها كانت تضم "الشيوعيين الذين يلقنون الطلاب عقيدتهم الشيوعية".

كما دربت بريطانيا القوات الأفغانية بصورة مباشرة، وتم ذلك في كثير من الحالات يتعاقد مع شركات أمن خاصة، وهي سياسية سمحت بها هوايتهول، وكانت الشركة الأساسية هي [[[شركة كيني ميني سيرفسز]]، وهو الإسم الذي أطلق على المرتزقة البريطانيين الذين كانا يقاتلون لصالح بريطانيا في كينيا خلال الحرب الوحشية التي دارت فيها في الخمسينيات. وكان التدريب الذي تقوم به هذه الشركة، بقيادة ضباط جهاز المخابرات الخارجية السابقين، يقدم لأعداد صغيرة من وحدات الكوماندوز الأفغانية في قواعد سرية تابعة لجهاز المخابرات الخارجية البريطاني ووكالة المخابرات المركزية في السعودية وعمان، وكانت قواعد الأخيرة تستخدم أيضاً كنقاط تفويج وإعادة تزويد رحلات طائرات الإمداد في طريقها إلى باكستان. وفي 1978، نشرت صحيفة الأوبزرفر اقتراحاً سرياً قدمته الشركة المذكورة لوكالة المخابرات المركزية بإرسال فريق صغير من معلمي جهاز المخابرات الخارجية البريطانية إلى أفغانستان لتدريب المتمردين على "التفدير والتخريب والإستطلاع والعمل الطبي المساعد".

ويقول كيني كونور الذي عمل في جهاز المخابرات الخارجية مدة ثلاثة وعشرين عاماً، انه كان جزءاً من فريق جنود "المخابرات السابقين" الذين دربوا عدداً من صغار قادة المجاهدين في أسكتلندا في شمالي إنجلترا في 1983. إذ كان يتم تهريب الأفغان إلى بريطانيا تحت ستار أنهم سياح، ويجرب تدريبهم في دورات لمدة ثلاثة أسابيع في معسكرات سرية. وكما كتب كونور فقد "كانوا محاربين مسلحين جيداً ويتسمون بالضراوة، لكنهم كانوا يفتقرون إلى التنظيم في المعركة". وانطوى التدريب على أنشطة عسكرية شتى، بما في ذلك "تخطيط العمليات، واستخدام المتفجرات، والسيطرة على نيران الأسلحة الثقيلة – الهاون والمدفعية"، وكيفية مهاجمة الطائرات وكيفية نصب كمائن مضادة للطائرات تواجه مدرجات الطائرات وتنظيم "كمائن مضادة للمدرعات". ويلاحظ كونور أنه كان هناك "تعاطف قوي" بين المدربين والمجاهدين لكن الدفء كان قليلاًبين المجاهدين والحكومة البريطانية، "كان ذلك على وجه صارم هو زواج مصلحة بين تنظيمين لا يوجد شئ واحد يجمع بينهما".

وقد دعمت بريطانيا جماعات أفغانية شتى. وكانت جماعة محاز ملة الإسلام (الجبهة الوطنية الإسلامية لأفغانستان) هي القوة الأثيرة في البدء. وعلى خلاف المعتاد، كان يقودها شخص علماني وليس عالم ديني، هو سيد بير جيلاني وكانت تنادي بإعادة ظاهر شاه الله الملك السابق – وهي سياسة تتفق مع تفضيل هوايتهول التاريخي للملوك، إذ يبدو أن بريطانيا كانت في البدء تنظر إلى ظاهر شاه باعتباره قائداً محتملافي المستقبل فور هزيمة السوفيت. وكانت قوات الجبهة التي دربتها بريطانيا بقيادة العقيد رحة الله صافي، وكان ضابطاً أقدم في الجيش الأفغاني الملكي، عاش بعد خلع الملك في المنفى في بريطانيا. وادعى صافي فيما بعد أنه درب نحو 8000 رجل في معسكرات الجبهة، وبحلول أوائل التسعينيات، كان لا يزال بعيش في لندن وأصبح ممثل طالبان في أوروبا، وكانت هي التي تسيطر على أفغانستان آنذاك.

كما دعمت بريطانيا جماعات متأسلمة. وكان ضابط المخابرات الخارجية البريطاني في إسلام أباد الذي ينسق المساعدات البريطانية المقدمة إلى المجاهدين، هو الاستير كروك، الذي عرف كما ورد فيما بعد "بعض المناضلين الذين أصبحوا قادة في القاعدة". وقد وصفه ميلت باردن وهو رئيس محطة وكالة المخابرات المركزية في باكستان في منتصف الثمانينيات بأن "وضعه على الحدود أمر طبيعي" وأنه "عميل بريطاني لا يتردد في اللعبة الكبرى". وجرى تقديم التدريب كذلك لقوات الحاج عبد الحق، وهو قائد عسكري كان يقف مع فصيل يونس خالص من الحزب الإسلامي. وكمجاملة للمخابرات المركزية، أدار جهاز المخابرات الخارجية عملية لزويد عبد الحق بقذائف مواسير النفخ في 1986. وكان عبد الحق واحاً من الشخصيات التي قدمها الجهاز إلى المخابرات المركزية في 1981، التي كانت لها حينذاك صلات قليلة جداً مع الأفغان، وبعد ذلك بدأت المخابرات المركزية علاقة طويلة مع عبد الحق. وبعد أن جمع الأخير قوة مقاتلة، بدأت المخابرات المركزية ترسل الأسلحلة إليه وأصبح وسيطاً بين المخابرات المركزية وجهاز المخابرات الخارجية البريطانية وجبهة كابول. وكان مكتب عبد الحق في بيشاور، وهو مركز تنظيم المقاومة في باكستان، يمتلئ عادة بضباط جهاز المخابرات الخارجية المركوية الذين كانوا يزودونه بخرائط بالأهداف السوفيتية الجديدة التي يريدونه أن يضربها.

لكن عمليات المقاومة الأفغانية لم تقتصر على الأهداف العسكرية السوفيتية. وبمساعدة الحاج عبد الحق، كانت بريطانيا وأمريكا تساندان شخصاً مستعداً لإستخدام الإرهاب لتحقيق أهدافه. ففي سبتمبر، 1984، أمر عبد الحق بزرع قنبلة في مطار كابول قتلت 28 ضخصاًن كان كثيرون منهم طلاباً يستعدون للسفر إلى الإتحاد السوفيتي. وبعد ذلك بثمانية عشر شهراً، أصبح في مارس 1986 القائد الأفغاني الأول الذي رحبت به مارجريت تاتشر في لندن، وعقد بعد ذلك عدة اجتماعات مع الرئيس الأمريكي ريجان. ورداً على الإنتقاد البريطاني لدوره في تفجير المطار، قال عبد الحق إن الغرض من القنبلة كان "تحذير الناس حتى لا يرسلوا أبناءهم إلى الإتحاد السوفيتي". وقال متحدث باسم دواننج ستريت في الوقت نفسه إن "رئيس الوزراء يشعر بدرجة من التعاطف مع قضية الشعب الأفغاني وهو يحاول تخليص بلاده من الغزاة".

وكان جلال الدين حقاني واحداً آخر من القادة العسكريين في فصيل يونس خالص المنشقة من الحزب الإسلامي، وقد تلقى كمية هائلة من الأسلحة الأمريكية، لستخدم الكثير منها لتجهيز المتطوعين العرب بالمعدات. ولاحظ تقرير لوكالة مخابرات الدفاع فيما بعد أن حقاني كان "القائد القبلي الأكثر خضوعاً لإستغلال جهاز المخابرات الباكستاني خلال الحرب السوفيتية الأفغانية لتسهيل إدخال المتطرفين العرب". وقد كتب ملت بيردن فيما بعد أن حقاني كان "خير صجيق للأمريكيين خلال الحرب المعادية للسوفيت". وانتهت وكالة المخابرات المركزية وجهاز المخابرات الباكستاني للإعتماد عليه في اختبار نظم اٍلحة وتكتيكات جديدة وتجربتها. ومضى حقاني في طريقه ليصبح القائد العسكري القيادي في طالبان. وشبكة حقاني حالياً هي واحدة من فصائل طالبان الأساسية التي تحارب البريطانيين في أفغانستان. وكان محمد عمر قائداً آخر من صغار قواد خالص، وقد انتهى إلى قيادة طالبان باعتباره الملا عمر".

كما ساندت بريطانيا [[أحمد شاه مسعود، الذي أصبح قائداً عسكرياً بارزاً في جماعة رباني الإسلامية. وقد بدأ الدعم البريطاني له مبكراً في الحرب وشمل الأموال والسلحة وبعثة سنوية لتقدير احتياجات جماعته. كذلك قدمت هذه البعثات 0 وتتكون من اثنين من ضباط جهاز المخابرات الخارجية ومعلمين عسكريين – التدريب لصغار قادرة مسعود وأعطت دروساً في اللغة الإنجليزية لمعاونيه الموثوق بهم. كما قدمت بريطانيا معدات للإتصالات. وتحدث مسئول بريطاني على علم بالعملية عن كيف توافرت لقوات مسعود، بمساعدة بريطانية، "شبكة اتصالات لا تقدر بثمن واكتسبت المعرفة بكيفية استخدامها وكيفية تنظيمها. كانت هذه "معدات دقيقة ومتقنه، ربما بلغت ما يربو على حمل مائة طيارة من قذائف أرماليت وستينجر". وبدأت المخابرات المركزية في تزويد مسعود بالمعدات في 1984، ويقال إنها اعتمد على جهاز المخابرات الخارجية البريطاني في الحصول على تقارير عنه.

ويعتقد أيضاً أن جهاز المخابرات الباكستاني درب قوات مسعود على استخدام أسلحة متقنه مثل قذائف ستينجر المضادة للطائرات التي حلت محل قذائف مواسير النفخ التي زوده بها البريطانيون في 1986. وقد استخدم المجاهدون هذه القذائف لإسقاط عدة طائرات ركاب، بخسائر فادحة في الأرواح. ويلاحظ كين كونور أن "التقارير الصحفية التي ربطت بريطانيا بتوريد القذائف أدت إلى احتجاجات سوفيتية غاضبة"، لكن الأنكار سمح للحكومة البريطانية بأن تستمر وسيماء البراءة الجريحة تعلو محياها". وبعد الحرب الأفغانية، تعين على الولايات المتحدة إنفاق عشرات الملايين من الدولارات في محاولةمتأخرة لإستعادة قذائف ستينجر بشرائها، وقد ثبت أن هذه القذائف مربحة في السوق السوداء. كذلك عاودت قذائف مواسير النفخ التي يوردها البريطانيون الظهور إلى السطح منذئذ. فقد حصلت طالبان على كمية منها بعد أن تولت السلطة في كابول في 1996، وعقب هزيمة البريطانيين والأمريكيين لطالبان في فبراير 2002، استعادت القوات الأمريكية ما يربو على 200 قذيفة أرض جو، 62 منها تعمل بمواسير النفخ. وحتى في 2005، كانت هناك تقارير عن إخراج قذائف مواسير النفخ من تحت الأرض في أفغانستان – بعد نحو عقدين من توريدها لأول مرة.

كذلك مدت بريطانيا يد المساعدة إلى حكميتار، الذي دي إلى دواننج ستريت في 1980 واجتمع بمسئولي وزارة الخارجية في لندن في 1988. وذهبت معظم المعونة الأمريكية إلى حكمتيار – 600 مليون دولار على الأقل حسب التقديرات المتحفظة. كان حكمتيار هو أيضاً مقاتلاً لا يرحم، اشتهر بسلخ جلود الكافرين وهو أحياء، في حين كانت جماعته مسئوله عن بعض الفظائع المروعة التي ارتكبت في الحرب، مثل ذبح أعضاء في الجماعات الأفغانية الأخرى التي كانت تعتبر منافسة. وقد عمل حكمتيار بصورة وثيقة مع بن لادن واتخذ خطاً معاديا للغرب بصورة عنيفة، كذلك كان صدام حسين في العراق والقذافي في ليبيا من مموليه. وقد وصف فريق عمل تابع للكونجرس جماعته في 1985 بـأنها "الأكثر فساداً" بين الأحزاب الأفغانية.

ومضى العمل السري البريطاني في المنطقة إلى ما وراء أفغانستان، وانطوى على ما يزيد من التآمر مع قوات حكمتيار في عمليات داخل الإتحاد السوفيتي نفسه. فبدءاً من 1984، صعد وليام كيس مدير وكالة المخابرات المركزية الحرب على السوفيت، عندما اتفقت الوكالة مع جهاز المخابرات الخارجية البريطاني وجهاز المخابرات الباكستاني، على خطة لشن هجمات لحرب العصابات على جمهوريتي طاجيكستان وأوزبكستان في جنوبي الإتحاد السوفيتي، اللتين كانت القوات السوفيتية في أفغانستان تتلقى إمداداتها منهما. وكانت هذه هي أول هجمات داخل الإتحاد السوفيتي تنطوي على عمل سري بريطاني وأمريكي منذ الخمسينيات. وشملت الأنشطة عمليات تخريب مثل الهجوم بالصواريخ على قرى في طاجيكستان، وعلى أهداف سوفيتية أخرى مثل المطارات وقوافل المركبات في أوزبكستان. وكان بعض هذه العمليات بقيادة حكمتيار، وقد وفرت لها المخابرات الباكستانية جميعها المعدات اللازمة. "وقد تم شن عشرات من الهجمات" حتى خمسة وعشرين كيلومتراً داخل الإتحاد السوفيتي، ووصلت إلى ذروتها في 1986، حسبما يقول محمد يوسف وهو ضابط يوسف وهو ضابط سابق في المخابرات الباسكتانية. كما كتب يقول "ربما كانت أكثر العمليات في الحرب سرية وحساسية"، وقد شعر الإتحاد السوفيتي بقلق خاص إزاء انتشار الأصولية وتأثيرها على مسلمي آسيا الوسطى السوفيتية.

كما نظمت عمليات للدعاية، تضمنت قيام المتمردين الأفغان بتوزيع نسخ من القرآن باللغة الأوزبكية، كانت وكالة المخابرات المركزية قد قامت بطباعتها. ومول جهاز المخابرات الخارجية البريطاني قاضي حسين أحمد قائد الجماعة الإسلامية الباكستانية – الذي كانت له علاقات وثيقة مع حكمتيار ومسعود – لضخ الأموال والأدبيات الإسلامية في جمهوريتي طاجيكستان وأوزبكستان السوفيتيين لإثارة الدوائر الدينية المحلية، ودفعها للتمرد على حكوماتها الشيوعية. وظهرت النفيعة البريطانية بجلاء مرة ثانية حيث إن المسئولين لم تكن تراودهم أوهام كثيرة عمن كانوا يدعمونه. وقد وصفت الوثائق البريطانية لمنتصف الخمسينيات الجماعة الإسلامية التي كان يقودها حينذاك مؤسسها عبد الأعلى المودودي، بأنها "حزب إسلامي ينتمي إلى اليمين المتطرف وأن: لديها مجسات في كل أرجاء البلاد، تستطيع أن تمكنها من ممارسة تأثير واسع إذا سنحت لها فرصة مواتية في أي وقت . . . وهذه حركة ثورية ورجعية يقودها رجل ماهر وطموح عديم الضمير. وهم من الناحية النظرية يريدون إقامة دولة في باكستان تتم إدارتها بقدر الإمكان وفق أحكام القرآن، والسنة . . . أن الدولة التي يودون إقامتها ستكون من الناحية العملية دولة دكتاتورية يحكمها أمير يتبع خطى الخلفاء الأول . . . والجماعة الإسلامية حركة خطيرة على وجه الإمكان، مماثلة بطرق كثيرة للإخوان المسلمين.

تصفية الحساب

تم طرد السوفيت من أفغانستان في 1989، وجرت الإطاحة بحكومة محمد نجيب الله الموالية للسوفيت في 1992. وقاتلت قوات حكمتيار قوات مسعود للسيطرة على كابول في الحرب الأهلية التي تلت ذلك، وقتلت آلافاً من المدنيين في هذه العملية. وبحلول 1996، كانت طالبان قد طردت قوات حكمتيار من كابول وسرعان ما تولت السلطة في ابلاد، وأجبرت حكمتيار على الخروج للمنفى. وفي ذلك الحين، كان قد تم استئصال القوى السياسية اليسارية العلمانية في البلاد وأصبحت الجماعات المتأسلمة هي التي تقرر مستقبل أفغانستان المباشر.

والأمر الأكثر أهمية هو أنه بعد انتهاء الإحتلال السوفيتي، كان قدامى المحاربين من المجاهدين الأجانب يمثلون نزعة طوباوية راديكالية تدعو للجهاد باعتباره نضالاً مسلحاً. وقد استند هذا إلى الأيديولوجية الوهابية التي تدعو لها السعودية وإلى دعوى عبد الله عزام إلى الشهادة والإيمان بان الإسلام وحده هو الذي هزم السوفيت. وتلقى آلاف من المتطوعين الذين لم يحصلوا على تدريب من قبل، تعليماً عسكرياً على التقنيات العسكرية المتقنة عادة في حين كانوا يكتسبون خبرة مباشرة بالقتال. وحينذاك، كان المتطوعون الأفغان العرب، خاصة من مصر واليمن وأندونيسيا والجزائر وليبيا، يرون أن هدفهم الأول هو العودة لوطانهم للنضال ضد حكوماتهم، في حين كان بن لادن يأمل في توحيدهم في قوة عالمية.

كانت منظمة القاعدة التي أنشأها بن لادن نتاجاً مباشراً للحرب، وقد أقيمت في 1988 من الشبكات التي ك انت تتطور بين الأفغان والمقاتلين الأجانب، وقد قال روبن كوك وزير خارجية توني بلير فيما بعد إن اسم القاعدة مستمد من "قاعدة البيانات" – "ملف الكمبيوتر المكون من آلاف المجاهدين الذين كان يتم تجنيدهم وتدريهم بمساعدة وكالة المخابرات المركزية" – ونسى أن يقول وبمساعدة وكالة المخابرات الخارجية البريطاني. وقد استخدمت القاعدة كثيراً من شبكات المعسكرات الأفغانية التي كان يتم بناؤها في ذلك الوقت بمعونة من المخابرات الأمريكية والمخابرات الباكستانية والسعودية، لاحقاً كقواعد للتدريب وتخطيط الهجمات الإرهابية، بما في ذلك تورا بورا، وجنوب جلال آباد، والتي بناها أحد قواد يونس خالص. والأرجح أن القاعدة لم تكن لتبوغ بالمدى الذي بلغتهـ لو لم تكن قد نشأت باعتابهرا بنية أساسية للمقاومة الأفغانية جرى بناؤها بمساندة أمريكية وبريطانية. وشملت مساهمات محددة قدمتها بريطانيا، تدريباً عسكرياً متخصصاً قدمته قوات شتى، وإمدادات عسكرية سرية ومساندة للدور الأمريكي السري الأكبر في الحرب، وهكذا، فإن هوايتهول قدمت مساهمة بريكانية في "البزوغ (الوشيك) للإرهاب المتأسلم العالمي".

بيد أن بزوغ قوى باكستانية جديدة من الجهاد الأفغاني كان مهماً بالنسبة لمستقبل الإرهاب العالمي مثلما كان مهماً لإنشاء القاعدة، وقد ثبت أن هذا كان أكثر خطراً على بريطانيا في نهاية الأمر.

الفصل التاسع - الدكتاتور والملك وآية الله

كانت الثمانينيات عقداً سعت فيه النحبة البريطانية بقيادة مارجريت تاشتر إلى إعادة تأكيد قوة بريطانيا في شتى أنحاء العالم. وانطوت علقاة خاصة عميقة مع واشنطن، على مساندة هواتيهول لفترة غير عادية من التدخل العسكري الأمريكي في العالم النامي في ظل رونالد ريجان، الذي انتخب في 1980. وجرت حرب فوكلاند في 1982 إلى جانب عمليات سرية بريطانية لمساعدة الولايات المتحدة في حربوها في نيكارراجوا وكمبوديا، حيث وفرت لندن تدريباً عسكرياً لقوى حرب العصابات المتحالفة مع نظام الخمير الحمر المتهم بإبادة الجنس بقيادة بول بوت. وسمحت حكومة تاتشر للطاءرات الأمريكية باستخدام الأراضي البريطانية لقصف ليبيا في 1986، وتحدثت جهاراً لوحدها مؤيدة لغزو الولايات المتحدة غير القانوني لبنما في 1989، الذي تم في ظل جورج بوش الأب، خليفة ريجان. كذلك ساندت تاتشر بقوة – والواقع أنها حرضت على ذلك في عدة نواح – برنامجاً غريباً حاشداً لإعادة التسلح، فرض سباق تسلح مع الإتحاد السوفيتي، وشكل لبعض الوقت، فترة جديدة خطيرة من العلاقات الدولية.

كانت تاتشر وريجان كثيراً ما يتوسلان "بالتهديد السوفيتي" الذي يكمن وزراء كل التأثيرات الضارة في العالم، لكن الواقع كان هو أن النظم المستقلة بقيت هي المشكلة الولى للندن وواشنطن. إذ كان السعي لإعادة تأكيد قوة الغرب إلى حد كبير رد فعل متأخر لعملية تصفية الإستعمار التي انطلقت في الخمسينياتـ متحدية قوة الغرب وقوة بريطانيا بصفة خاصة، في أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرق أسيا. ولم تستهدف استراتيجية ريجان وتاتشر ما هو أقل من إعادة تشكيل النظام الإقتصادي العالمي، بما في ذلك القيام بخصخصة كاسحة التجارة والإستثمار. وتعرضت عشرات من البلدان النامية لهذا التدخل الإقتصادي، عادة تحت إشراف رسمي "لبرامج للتصحيح الهيكلي" يديرها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي (اللذين تسيطر عليهما الولايات المتحدة بصورة أساسية). وكانت المستفيدة الأولى هي الشركات الغربية الساعية لفرص الوصول لأسواق جديدة، في حين تفاقم الفقر ومستويات عدم المساواة في بلدان كثيرة.

كما انطوت النزعة التدخلية الجديدة على تكثيف ملحوظ لدعم عدد من القوى الإسلامية المتطرفة. فقد عزز البرنامج السري الحاشد في أفغانستان للتصدي للقوة السوفيتية، براعة قوات المجاهدين ونضاليتهم الذين كانوا يحشدون أنفسهم في منظمات أكسبيتها المعارك مراساً وأصبحت قادرة على العمل على نطاق عالمي. لكن تاتشر وريجان عمقا أيضاً علاقاتهما الخاصة مع دولتين كبيرتين راعيتين للإسلام المتكرف، باكستان بقيادة الجنرال ضياء والسعودية في ظل الملك فهد. كذلك حاولت هوايتهول تعزيز العلقات مع إيران وتسليحها، وكانت حينذاك بقيادة حكام متأسلمين. وهذه السياسات يتم على الدوام تجاهلها في التحليلات المألوفة لسنوات حكم تاتشر، وهي تبين أن المخططين البريطانيين والأمريكيين كانوا يعتقدون أن هدفهما – إعادة تشكيل الإقتصاد العامي لصالح مشروعات الأعمال الغربية والتصدي للقوى الوطنية والتي يساندها السوفيت – يمكن تحقيقهما بالتحالف مع اليمين المتأسلم، مثلما فعلتا طوال فترة ما بعد الحرب بأسرها.

الدكتاتور: الإرهاب سياسة للدولة

مست الأسلمة المتزمتة كل مجالات الحياة العامة في باكستان في الثمانينيات، عندما طبق الجنرال ضياء الحق تدابير زعقوبات وحشية، تمثل كما أعلن التطبيق الحقيقي للشريعة. وقد استرشد في هذا بالقادة الدينيين الرئيسيين في باكستان من حركة ديوباندي للإحياء الإسلامي، وهي مدرسة فكرية تجمعها أوجه تشابه كثيرة مع الصيغة الوهابية للإسلام في السعودية، وجزأين متأسلمين مهمين: الجماعة الإسلامية، وهي أكبر المنظمات وأكثرها دهاء في باكستان، وقد لعبت دوراً رئيسياً في التجنيد للجهاد الأفغاني وتمويله، وجماعة علماء الإسلام، التي ألحت على التفسير الصارم للشريعة، وأدارتـ إلى جانب الجماعة الإسلامية، شبكة متزايدة من المدارس الدينية في كل ا نحاء البلاد. وفي الوقت الذي جرى فيه اغتيال ضياء في 1988، كان 400 ألف صبي وشاب، عرفوا باسم طالبان، أو الطلاب، يتلقون تعليمهم في هذه المدارس الدينية الباكستانية.

وكان للمؤسسة العسكرية والملالي في ظل ضياء الحق عدو محلي مشترك – الأحزاب السياسية العلمانية الأكثر ليبرالية المألوفة. والواقع أن حركة الإحتجاج التي حرضت عليها الأحزاب الدينية في منتصف السبعينيات ضد حكومة ذي الفقار علي بوتو هي التي خلقت الظروف اللازمة لإنقلاب ضياء في 1977.

وقد تم تصوير تشجيع ضياء الحق للجماعات المتأسلمة باعتباره وسيلة لإقامة دولة إسلامية، وكان القصد منه هو سد الطريق أمام إعادة الديمقراطية وتبرير الأحكام العرفية. ولقي هذا المشروع لتحدي القومية العلمانية تأييداً قوياً من بريطانيا وأمريكا – وذلك استمراراً لسياسية لندن وواشنطن قديمة العهد لتفضيل المتأسلمين على القوميين أو الديمقراطيين في المنطقة.

والواقع أن انقلاب ضياء في 1977، والذي كان حينذاك قائد الجيش، وأطاح رئيس الوزراء بوتو، لقي ترحيب جيمس كالاهان وحكومة حزب العمال. وقد أوردت الحكومة بعد يومين من الإنقلاب العسكري أن ضياء "أعلن عزمه على إجراء انتخابات في أكتوبر وإعادة السلطة لمن يتم انتخابهم، وليس هناك سبب للاعتقاد بأنه لا يريد حقاً الوفاء بوعده" – وهو ما لم يحدث مطلقاً في واقع الأمر. وبعد بضعة شهور، التقى كالاهان ضياء في يناير 1978 إجراء محادثات في باكستان. وأخبر مجلس العموم "أن الجنرال ضيلء أكد له عزمه الراسخ على إعادة الحكم الديمقراطي إلى باكستان في أقرب تاريخ ممكن، ووصف لي كيف يقترح إجراء ذلك. وأضاف "لدي امل، في ضوء ما قيل لي، في أن نشهد عودة كاملة للدمقراطية خلال مسيرة عام 1978". وكان هذا هراء كاملاً، كما كان كالاهان يعلم بدون أدنى ريب، وقد كرر الوزراء البريطانيون باستمرار تعويذة مماثلة فيما يتعلق بالتزام مشرف المفترض "بإعادة الديمقراطية" بعد انقلابه العسكري في 1999.

وفور أن أصبحت مارجريت تاتشر رئيسة للوزراء في 1979 هجرت أسلوب كالاهان في التودد وعملت على استدرار الثناء على دكتاتور باسكتان في كل فرصة. فقد أخبرت تاتشر مجلس العموم في فبراير 1979، أن "الجنرال ضياء رجل حكيم" وذلك في وقت كان ضياء يوشك فيه على فرض الشريعة الإسلامية في البلاد وحكم الإعدام يهدد بوتو الذي تمت الإطاحة به: وقد تم شنقه بعد ذلك بشهرين.

وكثفت بريطانيا تسليحها لباكستان وحاربت تاتشر باستمرار الإتهامات بأن لندن كانت تزيد احتمالات النزاع مع الهند، بزيادة قدرة إسلام أباد على قتال اقوات الهندية في إقليم كشمير المتنازع عليه. وحاجت بدلاً من ذلك بأن باكستان كانت حينذاك "في الجبهة الأمامية"، فيما يتعلق بالحرب في أفغانستان. وقد عرضت تاتشر هذا السبب لتزويد باكستان بالأسلحة في مؤتمر صحفي عقد في دلهي في أبريل 1981 وتلقت مذكرة من الرئيس ريجان تعرب عن "الإعجاب العميق بتعليقاتها الصريحة والشجاعة للصحافة في الهند بشأن احتياجات باكستان الدفاعية وبِأن الوضع في أفغانستان".

وفي أكتوبر 1981، قامت تاتشر بزيارة باكستان وألقت خطاباً في مأدبة استضافها فيها الجنرال ضياء في إيوان الصدر، وهو المقر الرسمي لإقامة الرئيس في إسلام أباد. وفي تأملها لرد فعل مضيفها إزاء الغزو السوفيتي لأفغانستان، أخبرت المستعين بما يلي: السيد الرئيس . . . لقد رضيت بأن تلقى مسئولية تاريخية على كاهلك، مسئولية التصدي لهذا الوضع وتدبره ليس فقط لمصلحة باكستان، ولكن لمصلحة المجتمع الدولي. ولهذا السبب، بين أسباب أخرى تستحق باكستان المساندة من بريطانيا ومن أمم العالم جميعها المهتمة حقاً بتحقيق انسحاب القوات السوفيتية. وباسم بريطانيا، دعوني أؤكد لكم أن باكستان تحظى بمساندتنا في المشاكل العامة التي تواجهونها . . . فنحن نشعر بإعجاب شديد بالشجاعة والمهارة اللتين أبديتماها في معالجة الأزمة.

وانتهت تاتشر بشرب نخب "في صحة صاحب الفخامة الرئيس وسعادته" وفي صحة "الصداقة الدائمة" بين شعبي البلدين. وكذلك، فقد عكست ولع تاتشر بالحكام الدكتاتوريين، صداقتها مع ال رئيس التشيلي أوجوستو بينوشيه، وكان تحالفها مع ضياء يمثل هذه القوة على الأقل، في حين كان لميراثها في مساندة الجماعات المتأسلمة في باكستان وأفغانستان عواقب عالمية أكبر كثيراً.

وسرعان ما أدت حملة ضياء للأسلمة المحلية، إلى جانب ضخ الأموال والأسلحة والتدريب إلى جماعات الجهاد الأفغانية، إلى تصاعد الرعاية الباكستانية الرسمية للجماعات الإسلامية المتطرفة. وفي حين أيدت بريطانيا والولاايت المتحدة ضياء طوال العقد، أنشئت منظمتان إرهابيتان كبيرنان في باكستان بتوطؤا حكومي وكان لذلك عواقب وخيمة على المنقطة والعالم الأوسع. كانت الأولى هي حركة الجهاد الإسلامي التي أقامتها في أوائل الحرب الأفغانية، جماعة علماء الإسلام وجماعة التبليغ، وهي خركة تبشير إسلامية. وقد إقيمت في البدء لإدارة مخيم إغاثة للمجاهدين في أفغانستان. وعملت إدارة المخابرات الباكستانية مع حركة الجهاد الإسلامي لتجنيد المناضلين من باكستان وتدريبهم للمشاركة في الحرب الأفغانية. وفي منتصف الثمانينيات، انقسمت الحركة، ونصب فصيل نفسه باعتباره حركة المجاهيدن، التي حارب مجاهدوها في أفغانستان والتي جندت 5000 متطوع آخرين من كل أنحاء العالم الإسلامي للقتال هناك. وتم تدريب الدفعة الأولى من متطوعي حركة المجاهدين في معسكرات في أفغانستان يديرها جلال الدين حقاني، وهو من فصيل يونس خالص من الحزب الإسلامي، الذي كان يتلقى أيضاً مساعدة سرية من بريطانيا وأمريكا. وكان ينظر إلى حركة المجاهدين على أن لديها بعضاً من أفضل المقاتلين في الجهاد، وقد زودتها وكالة المخابرات المركيزة بقذائف ستينجر ودربت قواتها على استخدامها.

وأصبحت حركة العلماء في ظل قائدها فضل الرحمن خليل، واحدة من أكثر المنظمات الإرهابية الباكستانية عنفاً، ونشكت بوجه خاص في العمل ضد القوات الهندية في كشمير. واستمرت تدير معسكرات في أفغانستان طوال التسعينيات وأرسلت مناضلين للجهاد في البوسنة بعد [[1992]ي، في حين ظلت تحظى بحماية جهاز المخابرات الباكستاني. وكان مفجرو القنابل في لندن في 2005 على صلة أيضاً بهذه الحركة.

وانبثقت المنظمة الإرهابية الرئيسية الثانية في باكستان عن مركز الدعوة والإرشاد، الذي أسسه 1978، ثلاثة علماء مسلمين، منهم عبد الله عزام، وهو أخ مسلم فلسطيني كان قد نظم قوات المجاهدين من أجل خوض الحرب الأفغانية وكان يعمل حينذاك في الجامعة الإسلامية الدولية في إسلام أباد. ويبدو أن مركز دعوة الإرشاد الذي أثيم كمنظمة للدعوة السنية قد تلقى التمويل الإبتدائي من بن لادن، كذلك فعل جناحه العسكري، العسكر الطيبة، الذي ساعدت المخابرات الباكستانية في تأسيسه والذي جند المتطوعين للمشاركة في الجهاد الأفغاني، وأسس معسكرات في شرقي أفغانستان في 87-1988. ولعبت العسكر الطيبة درواً ضئيلاً في الحرب الأفغانية، واتجهت بدلاً من ذلك للقتال في الجزء من كشمير الذي تديره الهند، وحصلت على دعم المخابرات الباكستانية لها. ومنذئذ أصبحت أكبر تنظيم جهادي في باكستان، ومن أكثر المجموعات الإرهابية عنفاً فيها. ولابد أن مفجري قنابل 7 يوليو كانوا أيضاً على صلة بالعسكر الطيبة.

وكان إنشاء هاتين المنظميتن، بتواطؤ من جهاز المخابرات الباكستاني، مهماً بالنسبة لتطور الإرهاب العالمي بقدر أهمية إنشاء قاعدة بن لادن في الوقت نفسه تقريباً. ومع ذلك، فإ، آثار عملية إضفاء طابع متطرف في باكستان لم تكن محسوسه هناك وفي أفغانستان وكشمير فقط، ولكن في بريطانيا أيضاً. ويلاحظ باهو كوتومبي رامان وهو ضابط مخارات هندي سابق، وخبير بارز في شئون الجماعات الإرهابية الباكستانية "أن بذور إضفاء الطابع المتطرف على الجالية الباكستانية في المملكة المتحدة، كان قد تم بذرها خلال ديكتاتورية ضياء العسكرية". فقد شجع الجنرال عدداً من علماء ديوباندي الدينيين من باكستان على ال ذهاب إلى لندن للعمل وعاظاً في المساجد التي تشرف عليها الجالية. وهناك حلوا محل علماء مدرسة بارليفي الإسلامية، الذين نزعوا لأن يكونوا أكثر ليبرالية ورحبوا بالديمقراطية بالأسلوب الغربي. ولاحظ رامان أنه في بريطانيا حينذاك "حل محل نفوذ ملالي بارليفي الأكثر تسامحاً وغير المعادين للغرب لصورة كلية تقريباً، نفوذ وهابيي ديوباندي الأصوليين المعادين للغرب". وحاج أيضاً بأن وكالات المخابرات في المملكة المتحدة والولايات المتحدة شايعت سياسة ضياء في "توهيب" المسلمين وتعريبهم في باسكتان لأن هذا يسهم في زيادة تدفق الإرهابيين الجهاديين" إلى أفغانستان.

وظهرت العلامة الولى لإضفاء طابع متطرف على الجالية الباطستانية في بريطانيا في فبراير 1984. فقد اختطفت مجموعة من الإرهابيين البريطانيين من أصل باكستاني في جبهة جامو وكشمير، ديبلوماسياً هندياً كان يعمل في المفوضية العليا للمساعدات في برمنجهام، وطالبت بإطلاق سراح قائد الجبهة الذي كان مسجوناً في الهند ومحكوماً عليه بالإعدام. وعندما رفضت الحكومة الهندية طلب الإرهابيين، قتلوا الديبلوماسي، وبعد ذلك بخمس سنوات، كشفت حدث أكثر شهرة كيف أن بعض العناصر في الجالية الإلاسمية البرطيانية كانت قد أصبحت متطرفة، عندما أحرقت مجموعة من المتأسلمين في برادفورد من رواية سلمان رشدي، آيات شيطانية، وأصبحت فتوى تدعو إلى قتل رشدي. وتم تنسيق الإحتجاج في البدء من باطستان والهند على أيدي أنصار الجماعة الإسلامية وجماعة الدعوة الإسلامية في المملكة المتحدة، التي أقيمت في أوائل الستينيات لكي تبني كما ذكرت مجتمعاً "يقوم على مثل الإسلام وقيمه ومبادئه" ولإدخال الشريعة في القانون البريطاني. كما كانت لها – ولا تزال – علاقات مع الجماعة الإسلامية في باكستان. كذلك نظمت رابطتا ديوباندي وبارليفي احجاجات على ال رواية في الشوارع في بريطانيا وباكستان. ودعت مؤسسة ليستر الإسلامية – التي أقامتها جمعية الدعوة الإسلامية في 1973 بموظفين من الجماعة الإسلامية، والتي لا تزال خاضعة للتأثير الروحي لأتباع هذه الجماعة – المسلمين للتوقيع على التماس بحظر الرواية، وقد روج لهذه الفطرة فرع الجماعة الإسلامية في تشيناي، الذي كان يضغط على السياسيين الهنود لوقف طبع الكتاب في الهند.

ولم تؤيد الإحتجاجات المعادية لرشدي سوى أقلية ضئيلة من المسلمين البريطانيين لكنها للأسف وضعت الجالية الإسلامية البريطانية الأوسع في دائرة ضوء مؤلمة. واقتضى الأمر وقتاً طويلاً لكي تتعافى الجالية من ذلك، وبمجرد أن تحقق لها ذلك وجها لها أحداث 11 سبتمبر أولاً ثم 7 يوليو واقتضى الأمر وقتاً طويلاً لكي تتعافى الجالية من ذلك، وبمجرد أن تحقق لها ذلك وجها لها أحداث 11 سبتمبر أولاً ثم أحداث 7 يوليو ضربة أشد قسوة من ذلك. كان إضفاء طابع متطرف على عناصر في الجالية الإسلامية في الثمانينات بالفعل نوعاً من رد الكيد إلى النحر، نظراً لأ، بريطانيا كانت تتوطأ مع النظام الباكستاني الراعي للمجموعات المتأسلمة والإرهابية. كانت مسألة رشدي جعوة للإستيقاظ بالنسبة لصناع السياسة الخارجية والداخلية البريطانيين – ومع ذلك، فقد جاء رد فعلهم في مطلع التسعينيات في الإتجاه العكسي: تعميق التواطؤ البريطاني مع ترويج باكستان للإسلام المتطرف بدرجة أكبر.

الملك: السير في ركاب السعوديين

كذلك أسهمت السياسة البريطانية في وقوع تطورات مهمة أخرى في الإسلام المتطرف في الثمانينيات. فعندما فاتح النظام السعودي مواطنه أسامة بن لادن في شن الجهاد في أفغانستان، طلب منه أيضاً أن يشكل وحدات من المجاهدين المتطوعين للمحاربة مع عصيان معاد للشيوعية في جنوب اليمن. فقد كان اليمن الجنوبي الذي قام بعد انسحاب مذل لبريطانيا من مستعمراتها في عدن آنذاك نظاماً ماركسياً يستضيف مستشارين سوفيت ويساند النظام الذي يرعاه السوفيت في أفغانستان. وكان بن لادن هو الذي نظم حملة اليمن في أوائل الثمانينات وكان يشرف شخصياً على مجموعة من العرب الأفغان، مدعوماً بملايين الدولارات من المعونة السعودية والحرس الأبيض السعودي.

وبالكاد لم تظهر أي تفاصيل عن هذه الحملة المغلفة بالضباب، ولكن كما هو الحال دوماً، كان يمكن أيضاً تبين أيدي الأجهزة السرية البريطانية التي كانت تدير عدداً من الأنشطة السرية في جنوب اليمن رغم أنه من غير الواضح مدى ارتباطها بأنشطة بن لادن. ويلاحظ ستيفن دوريل أن جهاز المخابرات الخارجية البريطاني نفذ عمليات في 1980 تم فيها "تدريب عدة فرق صغيرة على نسف الكباري", ساندتها وكالة المخابرات المركزية. وفي فبراير 1982، أعلنت حكومة اليمن الجنوبي أنها اكتشفت مؤامرة لجهاز المخابرات الخارجية ووكالة المخابرات المركزية ضدها لتفجير منشأت اقتصادية في عدن، وتم الحكم على 12 يمنياً جنوبياً بالإعدام في الشهر التالي لجلب متفجرات إلى البلاد، وزعم الإدعاء أن هؤلاء الأشخاص قد دربتهم المخابرات الأمريكية في السعودية.

وفي ظل الملك فهد، اتبعت السعودية سياسة خارجية موالية للولايات المتحدة صراحة في الثمانينيات، في حين استمرت في الأخذ بسياسة نفطية للضغط على أعضاء الوبيك للإبقاء على أسعار منخفضة. وساعد السعوديون في تميول تشكيلة من حروب رونالد ريجان الوحشية السرية، ليس فقط في أفغانستان، وإنما في أنجولا وزائير وتشاد أيضاً، في حين ساعدوا في نيككارجوا بإغداق الأموال على الكونترا التي تساندها الولايات المتحدة، والتي كانت تشن حرباً وحشية ضد الحكومة التي انتخبها الشعب. كما دفع الملك فهد مليوني دولار لوكالة المخابرات المركزية للمساعدة في تمويل عملية سرية لمنع الحزب الشيوعي في إيطاليا من الوصول إلى السلطة. كما استمر السعوديون في تمويل أي شخص في الخارج يمكن أ ن يكون مفيداً لهم، بما في ذلك ضياء الحق في باكستان، ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وصدام حسين في العراق خلال نزاعه مع إيران – وكانت حينذاك هي العدو اللدود للسعودية – والحركة الإسلامية في الفلبين.

وفي الداخل، شرع السعوديون عقب الصدمة المزدوجة للثورة الإيرانية واستيلاء المتطرفين على المسجد الحرام، في مرحلة "إعادة الأسلمة الخاضعة للسيطرة"، والتي تضاعفت فيها مظاهر التقوى العامة في حين تم إجلاء العصاة المحتملين الأكثر إثارة للإضطرابات إلى الحرب الأفغانية. وفي 1986 أحل فهد محل عبارة "صاحب الجلالة" عبارة خادم الحرمين الشريفين (أي مكة والمدينة)، محاولاً بذلك أن يدعم مسوغات الإعتماد الدينية للنظام. وكان السعوديون السنة قد اكتشفوا لأنفسهم منافساً على قيادة العالم الإسلامية – إيران الشعبية الثورية. وهكذا، ففي الثمانينيات، نافست الرياض التي غمرتها ثروة النفط، طهران على ترويج التفسير الأصولي للإسلام، الوهابية، وانضمت للعرب الأثرياء من دول أخرى تشاطئ الخليج الفارسي في وهب الأموال لبناء المساجد والمدارس الدينية التي يمكن أن تبشر بتفسيرها للعقيدة الإسلامية. كذاك توسع بصورة كبيرة، النظام المالي الإسلامي، تسانده أموال السعودية والبنوك السعودية التي أقيمت في السبعينيات، وبدأت البنوك الإسلامية تنبثق في كل مكان في العالم الإسلامي وساعدت بعض البنوك الإسلامية تنبثق في كل مكان في العالم الإسلامي وساعدت بعض البنوك السعودية الخاصة في تمويل مقاومة الإحتلال السوفيتي لأفغانستان وجرى اتهامها فيما بعد بتمويل القاعدة والجماعات المتأسلمة مثل جبهة الإنقاذ الإسلامية الجزائرية وحماس في التسعينيات.

وفي خضم هذه التطورات، شرع مخططو هوايتهول في العمل بطريقة تراعي مقتضيات الزمن. ففي أبريل 1981، قامت مارجريت تاتشر بأول زيارة يقوم بها رئيس وزراء وهو في منصبه للسعودية. وفي خطاب ألقته في الرياض، أخبرت مضيفها أن "الهدف أن نصبح أقرب إلى الحكومة السعودية، وأن نعرف وجهات نظرها، ومحاولة أخذ هذه الأمور في الإعتبار عند تخطيط السياسات التي ستتبعها الحكومة البريطانية". وحتي بمعايير تاتشر للتأييد العام للنظم الديكتاتورية، فإن فكرة أن تأخذ السياسة البريطانية في اعتبارها آراء السعودية جديرة بالإنتباه.

وعقب قرار الحكومة البريطانية بأن تربط الإقتصاد البريطاني تقريباً بالسعودية بعد 1973، شهدت الثمانينيات مزيداً من قرارات هوايتهول التي كثفت اعتماد بريطانيا على الرياض. وتعرضت العلاقات البريطانية السعودية الخاصة لنكسة وجيزة نتيجة لإحتجاج السعودية المرير لدى ا لحكومة البريطانية على إذاعة التلفزيون البريطاني لفيلم موت أميرة، وهو فيلم تسجيلي درامي يصف قطع رأس أميرة شابه خيالية على الملأ افترض أنها سعودية. لكن سادت المصالح الإقتصادية كما هو الحال على الدوام، وبحلول مطلع الثمانينيات، كان قد تم استئناف المفاوضات حول صادرات بريطانية كبيرة من الأسلحة. ومع وصول التحالف البريطاني السعودي السري إلى عنفوان قوته خلال الجهاد الأفغاني، تم توقيع مذكرة تفاهم في 1985، 1988 لبيع معدات عسكرية للملكة تبلغ قيمتها 5 مليارات إسترليني. وانطوت صفقة هذه اليمامة التي أثارت الجدل حينذاك على قيام هيئة الفضاء البريطانية، بريتش أيروسبيس (أعيدت تسميتها حالياً إلى بي إيه إي سيستمز)،بتوريد ما يربو على 150 طائرة، تشمل نفاثات تورنيدو وطائرات التدريب هوك، إلى جانب معدات قواعد جوية بأكملها وقذائف وكثير غيرها. ولم تشكل هذه الإتفاقيات مجرد صفقات سلاح وإنما كانت إعادة تجهيز كاملة للمؤسسة العسكرية السعودية، في ضربة مكنت بريطانيا من التفوق على الولايات المتحدة باعتبارها أكبر مورد سلاح للملكة. وقد زعموا أن بريطانيا هزمت العرض الفرنسي المنافس بأن غرضت رشوة أكبر تدفع للسعوديين. وفيما بعد اتهمت هيئة الفضاء البريطانية بإرسال مئات الملايين من الجنيهات للأمير السعودي الذي رأس المفاوضات على العقود، بتصريح من وزارة الدفاع. فإن صدق هذا، فإنه يصعب الإعتقاد بأن هذه الصفقات لم تكن سوى وسيلة لإثراء القائمين السعوديين بالشراء، حيث إن احتمالات استخدام السعودية لهذه المعدات قليلة، لأنها تعتمد كلية على المؤسسة العسكرية الأمريكية في الأزمات. وكانت هذه الصفقات تعني أيضاً أن بريطانيا أصبحت حين ذاك أسيرة رضى النظام السعودي بدرجة أكبر. وفي حوار أجري مع مارجريت تاتشر في 1978، أكدت العلاقات "الرائعة" بين البلدين: أن احتمال الحد الأدنى في أن تنأى بريطانيا بنفسها عن السعوديين في أي قضية كبرى، قد انتهى حالياً كما هو واضح.

تسليح آية الله

بينما كانت مجموعتان من مفاوضات صفقة اليمامة لتوريد الأسلحة تجريان في الرياض، كانت بريطانيا تساعد سراً في تسليح خصم السعودية الرئيسي في المنافسة على ال سيادة في العالم الإسلامي – وهو إيران الثورية التي كانت حينذاك تؤسس حكماً دينياً شيعياً وحشياً في ظل آية الله الخوميني. وفي الوقت نفسه، كانت بريطانيا في انتهاك صارخ للحظر الذي فرضته الأمم المتحدة على توريد السلاح للطرفين، تسلح أيضاً عراق صدام حسين، الذي كان قد غزا العراق في سبتمبر 1980، واقتضى النزاع الناجم عن ذلك والذي دام ثماني سنوات أرواح ما يربو على المليون. كانت هوايتهول تسلح الجانبين الواحد منهما ضد الآخر. وتلك سمة أخرى قديمة العهد لسياستها في المنطقة.

ربما استرشدت السياسة البريطانية تجاه الحرب الإيرانية العراقية بنفس التبرير الذي ورد في مذكرة وزارة الخارجية الأمريكية في 1984، والتي ذكرت أن "انتصار أي جانب ستكون له عواقب بعيدة المدى على ميزان القوى في المنطقة" وقد هب المسئولون البريطانيون للمساعدة في دعم نظام صدام بالتخفيف سراً من "المبادئ التوجيهية" التقييدية على تصدير الأسلحة التي كانت قد أعلنت في البرلمان وسمحت بقيام بعض الشركات الخاصة بتوريد طائفة من المعدات العسكرية، إلى جانب ائتمانات التصدير. واتباعاً لنمط مألوف، وفرت شركة أمن خاصة أعضاء سابقين في جهاز المخابرات الخارجية البريطاني لتدريب الحرس الخاص لصدام حسين.

وبالمثل، استخدمت بريطانيا وسائل شتى لتسليح إيران آية الله. ومنذ اليوم الأول تماماً من الحرب الإيرانية العراقية، باعت بريطانيا ما تبلغ قيمته ملايين ال جنيهات من مدافع الدبابات ومحركاتها إلى إيران، داعية إياها معدات "غير قاتلة"، مما ساعد في صيانة 890 دبابة تشيفتن و 250 دبابة سكوربيون كان البريطانيون قد وردوها لشلاه خلال السبعينيات. وتبع ذلك تصدير مئات أخرى من سيارات السير في الطرق الوعرة وستة رادارات للدفاع الجوي. وتم استخدام قنوات خلفية أخرى. وانطوى الترتيب على تواطؤ هوايتهول مع شركة تدعى اليفان إنترناشونال لتشحن سراً أسلحة لإيران من منتصف حتى أواخر الثمانينيات. ومكن ترتيب آخر شركة بمارك البريطانية من تصدير مدافع بحرية وقطع غيار وذخيرة لإيران عن طريق سنغافورة في 1986. وفي الوقت نفسه، صدرت شركة رويال وردنانس المملوكة للحكومة، خمس شحنات من كيماويات التتريل، وهي مركب يستخدم في صنع المتفجرات، وبارود المتفجرات إلى إيران، في عملية تنتهك الحظر الذي قررته الأمم المتحدة والمبادئ التوجيهية للصادرات التي أصدرتها بريطانيا نفسها.

وإضافة لذلك، كانت لندن مركزاً أساسياً تدفقت منه أوامر شراء إيرانية للأسلحة بملايين كثيرة من الدولارات، على النطاق العالمي. واستخدم الإيرانيون مكاتب شركة النفط الوطنية الإيرانية كواجهة لشراء الأسلحة، وقد عملت مقاعدة لشراء قطع الغياؤ لدباباتهم التي كان البريطانيون قد وردوها لهم ولإستغلال تسهيلات العمل المصرفي والشحن في لندن. وكان جهد شراء السلاح في لندن سراص ذائعاً، وكانت مكاتب شركة النفط الوطنية الإيرانية تقع في شارع فيكتوريا، على بعد خطوات من وزارة التجارة والصناعة وسكوتلانديارد. ومع ذلك فإن بريطانيا لم تعلن عزمها على إغلاق فرع الشركة، إلا في سبتمبر 1978، بعد سبع سنوات من الحرب العراقية الإيرانية. وحتى بعد هذا، لم تكن هناك أي ملاحقة للتجار البريطانيين والشركات التي كانت تبيع الأسلحة والمعدات إلى إيران.

كانت بريطانيا متورطة بصورة حميمية في العمليات الأمريكية السرية تجاه إيران خلال موجة أخذ الرهائن في لبنان التي تم فيها أسر عشرات من الأجانب، أساساً من الأمريكيين في خلال الثمانينيات. وكانت عمليات الإختطاف تضطلع بها أساساً جماعات على صلة بحزب الله الموالي لإيران، الذي كان قد تأسس في لبنان في 1982 عندما تم نشر الحرس الثوري الإيراني في وادي البقاع عقب الغزو الإسرائيلي للبنان في ذلك العام. وجاءت عمليات الإختطاف إلى حد ما، انتقاماً من طهران رداً على دعم الغرب للعراق في الحرب ضدها، ومن دعم الولايات لإسرائيل في غزوها للبنان. وتفاقم تحدي قوة الولايات المتحدة في المنطقة عندما تم تفجير عنيف لشاحنة في اكتوبر 1983 في ثكنات حفظة السلام الأمريكيين في بيروت قتل فيها 241 من الجنود، وكانت منظمة الجهاد الإسلامي هي التي ارتكبت هذا التفجير، وهي المنظمة التي كانت تستلهم الثورة الإسلامية في إيران، وقد وقفت أيضاً وراء كثير من عمليات الإختطاف.

وفي خلال 1983، عقد وليام باكلي رئيس محطة المخابرات المركزية في بيروت، هو وليزلي أسبن العميل البريطاني، الذي كان يعمل حينذاك مورداً للسلاح للمليشيات المسيحية اللبنانية، اجتماعات كثيرة لمناقشة خيارات مواجهة الإرهابيين العاملين في ل بنان. ومن الواضح أن باكلي كان يريد تشكيل وحدة مرتزقة لبنانية خاصة لخطف الإرهابيين أو أٌقاربهم حتى يطلق حزب الله سراح رهائنه. لكن باكلي نفسه تم اختطافه في مارس 1984 في بيروت، وناشد نائب الرئيس جورج بوش ووليام كيزي رئيس وكالة المخابرات الأمريكية البريطانيين المساعدة في ضمان إطلاق سراحه، وفي ذلك الحين كان ذلك نمطاً مألوفاً لمناشدة الولايات المتحدة لبريطانيا طلباً للعون في عمل سري متخصص. وطرحت للنقاش قضية دفع فدية.

وكانت الولايات المتحدة وبريطانيا قد اعتادتا بالفعل دفع الفدية مقابل تحرير الرهائن – ففي خلال أزمة الرهائن في السفارة الأمريكية في 79-1981 في إيران على سبيل المثال، أفرجت إدارة كارتر عن الأموال المجمدة في الولايات المتحدة عند نشوب الثورة الإيرانية وعن معظم مبلغ 3.5 مليار دولار ممتلكات كان يحوزها الشاه في الولايات المتحدة. وفي 1980-1981، دفع البريطانيون أيضاً رشوة للإفراج عن اثنين من البريطانيين احتجزهما حزب الله في لبنان، ورتب أسبن لشحن رشاشات للإيرانيين، الذين سارعوا بالإفراج عن الأسيرين البريطانيين. وقد قيل إن دور الوسيط لعبه مهرب سلاح سوري هو منذر الكسار، الذي أودع الأموال التي دفعها الإيرانيون في حساب أسبن في بنك الائتمان والتجارة الدولي – وقد تم الكشف في التسعينيات عن أن هذا البنك كان يستخدمه كثيرون من مهربي المخدرات والسلاح في شتى أنحاء العالم. وكانت تلك صفقة أرست سابقة لقضية إيران – كونترا التي تلت ذلك.

وفي منتصف مارس 1984، كان البريطانيون يرون أنه من المقبول أن يحاولوا دفع فدية مقابل باكلي بعرض تقديم أسلحة لإيران، وتم اختيار أسبن لتنسيق الصفقة. وقد اعاد أسبن فيما بعد رواية انخراطه في القضية في شهادة خطية قدمتإلى المدعوين عليه ذاكراً فيها أن من تعاقد معه على ذلك هو وليام كيسي في يونيه 1984، وأن كيسي طلب منه: المساعدة في بيع أسلحة لإيران مقابل إطلاق سراح الرهائن. وكان هؤلاء الرهائن محتجزين في لبنان، ومن ثم بدأت في يونيو 1984 أحضر سلسلة من الإجتماعات في لندن، كان أحدها في السفارة الأمريكية . . . وخلال هذه الإجتماعات، نوقشت كيفية التوصل للإفراج عن الرهائن، وطرق إتمام ذلك، وكان البعض منها غير مناسب، والبعض مناسباً.

وكانت مدفوعات إيران مقابل الأسلحة تحت سيطرة أوليفر نورث العقيد بالبحرية، الذي كان يعمل في مجلس الأمن القومي الأمريكي، وقج استخدمها ليمول سراً فرق الكونترا لحرب العصابات التي كانت الولايات المتحدة تساندها في نيكارجوا، وبذلك يتم تجاوز الكونجرس.

وتمكن أسبن من الولوج إلى دواننج ستريت، مدعياً فيما بعد أن أيان جو، السكرتير الشخصي لتاتشر، كان هو نقطة اتصال بشأن مفاوضات الفدية. وكانت تاتشر وكبار موظفيها على صلة مباشرة، بالبرقيات وشخصياً، مع فريق البيت الأبيض السري المعني بالرهائن وهناك أدلة على أنهم بدأوا يسهلون محاولة أسبن لإفتداء باكلي في مارس 1984، بعد أسبوع من أسره. وفي فترة متأخرة من هذا الشهر، قدم أسبن أمر شراء قيمته 40 مليون دولار لطلقات مدافع أمريكية يتم شحنها إلى إيران. وفي مايو، اجتمع أوليفر نورث سراً مع أندرو جرين، وهو ضابط مخابرات بريطاني كان يعمل مستشاراً في سفارة واشنطن (أصبح سفيراً لدى سوريا والسعودية)، لمناقشة إنقاذ الرهائن. كما واصل نورث العمل على شراء الأسلحة من الكتلة السوفيتية لتصديرها بعد ذلك لإيران وللكونترا.

وفي صيف 1984 وشتائه، تم شحن الأسلحة التي اشتراها نورث إلى الإيرانيين. وأجرى مزيداً من الصفقات انطوت على قذائف ورادرات في 1985، أعقبتها صفقات أخرى بين 1986 وأول يناير 1988، عندما تم توقيع آخر صفقة مع إيران. وقام أسبن بغسل الأموال التي تلقاها – نحو 42 مليون دولار – من خلال سلسلة من البنوك البريطانية والأوروبية. وربما ساعدت الصفقات الكونترا على مواصلة حربها القذرة في نيكارجوا لكنها لم تؤمن إطلاق سراح وليام باكلي، الذي لم يفرج عنه مطلقاً، وإنما عذب وقتل بصورة بشعة. ومن مفارقات الفدية البريطانية وجهود بريطانيا في صفقات السلاح، كما يوضح لوفتوس وآرونز، أنه في حين كان الهدف منها هو التأثير على الإيرانيين، الذي يفترض أنهم المسيطرون على حزب الله، كانت الحكومة السورية في الواقع هي التي دفعت فواتير الخاطفين وتسيطر عليهم، ولم يكن ذلك معروفاً للأجهزة السرية البريطانية والأمريكية.

وكانت شبكة منذر الكسار هي منبع بعض من شحنات الأسلحة التي قدمت لإيران وللكونترا. بيد أنه في مفاجأة مذهلة، تبين أنه على الرغم من أن البريطانيين كانوا يعتقدون أنه كان يعمل لصالحهم، فقد كان في الواقع الأمر عميلاً مزدوجاً يعمل أيضاً لصالح الإتحاد السوفيتي. كان البريطانيون راغبين في جعل الأمريكيين على صلة بشبكة الكسار مقابل الحصول على معلومات من وكالة المخابرات المركزية عن جمع الأموال لصالح الجيش الجمهوري الأيرلندي في الولايات المتحدة. وبعد ذلك بعقد من الزمان حدث في البرلمان البريطاني أن سأل العضو تام دلايل وزير الخارجية دوجلاس هوج "عما إذا كان قد رخص بموجب سلطاته لمنذر الكسار بأن يشحن الأسلحة لإيران في يونيو 1984" ورد هوج بالنفي مشدداً.

وفي حين كان البريطانيون يكلون إلى الكسار التصرف باعتباره عميلهم في حلقة الأسلحة السرية هذه، كان هو أيضاً يواصل توريد الأسلحة لتشكيلة واسعة من العمليات الإرهابية، من الإغتيالات في إسبانيا إلى اهجوم على الحي اليهودي في باريس، والإختطاف الشئن للعبارة أكيلي لاورو في 1985، والتي قتل فيها شخص، وحسبما يقول لوفتوس وآرونز فقد كان الكسار هو الذي هرب التقلة إلى بر الأمان. بيد أن الكسار ظل سنوات كثيرة قادراً على السفر إلى بريطانيا ومنها مع إعفائه من أن يبلغ بذلك مسئوليه في جهاز المخابرات الخارجية البريطاني. كما يلاحظ لوفتوس وآرونز أن الجهاز "كان يعرف كل شئ عن دور الكسار في عمليات التفجير الإرهابي منذ 1981"، بفضل ليزلي أسبن لكنهظل هو "مرشدها الأهم". كان للكسار اهمية حيوية بالنسبة للبريطانيين في إقناع مجموعات مثل منظمة التحرير الفلسطينية وتنظيم أبي نضال الإرهابي الفلسطيني بإبقاء حسابات إيداعاتهم في بنك الائتمان والتجارة الدولي، الذي كان البريطانيون قد اخترقوه وطفقوا يرصدونه. وفي كل مرة كان أحد الشيوخ يوجع أمولاً فيه، كان البريطانيون يستطيعون تتبع توزيع الأموال من خلال الكسار على الجماعات الإرهابية في الشرق الأوسط. والواقع أن جهاز المخابرات الداخلية بتجنيده للكسار. ويقضي الكسار حالياً عقوبة حكمت بها عليه محكمة أمريكية لتهريب السلاح وغسيل الأموال، لكن الحكومة البريطانية لم تتخذ ضده عملاً كهذا مطلقاً.

لقد قتلت منظمة أبي نضال مئات الأشخاص فيما يزيد على دستى من البلدان في أوائل السبعينيات وطوال الثمانينيات، وكانت أشد هجماته شناعة هي قتل 18 شخصاً بلا تمييز في مطاري روما وفيينا في ديسمبر 1985. ومع ذلك، فقد زار أبو نضال لندن في منتصف الثمانينيات، وهي حقيقة أحنقت الإسرائيليين الذين تقاعست هواتيهول عن إبلاغهم. وإذافة لذلك، اكتشف البريطانيون في 1986 أن أبا نضال كان يمسك بحسابات قيمتها 50 مليوم دولار في بنك الائتمان والتجارة الدولي، وفي يوليو من العام التالي فاتح جهاز المخابرات الداخلية وجهاز المخابرات الخارجية موظفاً في ابلنك وأقنعاه بأن ينقل لهما معلومات عن أنشطة الحسابات. وقد انتقدت الولايات المتحدة قرار بريطانيا برصد هذه الحسابات وليس تجميدها، لكن بريطانيا أصرت على ألا تتدخل. ومكن الصد البريطانيين من أن يربطوا باستعادة الماضي سوريا، حيث كان مقر أبي نضال هناك حينذاك، بمحاولة تفجير إرهابي للقنابل في مطار هيثرو في 1986، والتي انطوت على عميل لأبي نضال كان يتلقى الأموال من حساب ضابط مخابرات سوري في بنك الائتمان والتجارة الدولي. وانتهت المراقبة البريطانية عندما علمت منظمة أبي نضال بها، وليس من الواضح على وجه الدقة متى حدث ذلك، لكن الأدلة تشير إلى أن ذلك لم يحدث حتى نهاية 1989. وخلال هذه المدة، يعتقد أن أبا نضال كان وراء الهجمات بالقنابل في السودان وقبرص واليونان من بين أماكن أخرى، لكن دوره الأكبر المزعوم في الهجمات الإرهابية كان على رحلة بان أمريكان رقم 103 – قنبلة لوكيربي التي قتلت 270 شخصاً في ديسمبر 1988. وبعد موت أبي نضال في 2002، ذكر أحد مساعديه السابقين أن أبا نضال أخبره انه كان يقف وراء تفجير، وهي نظرية تبناها طويلاً بعض المعلقين المطلعين الآخرين في وجه الحكم القضائي الذي توصل إلى أن اثنين من الليبيين مذنبان.

وتتبع رغبة الأجهزة السرية البريطانية في رصد إرهابيين مثل أبي نضال وليس كبح جماحهم نمطاً تاريخياً وهي أيضاً مليئة بالدلالات في ضوء التجنيد الجلي مؤخراً لمجاهدين متأسلمين، وهو ما سنعرض له لاحقاً. لكن أبا نضال ربما خدم أيضاً هدفاً يتجاوز تمكين البريطانيين من رصد الأنشطة الإرهابية. فقد تم تشكيل عدد من المجموعات المناضلة الفلسطينية في السنوات التي أعقبت طرد الفلسطينيين من الأردن في 70-1971، انقسمت مجموعة أبي نضال عن فصيل فتح في منظمة التحرير الفلسطينية، بقيادة عرفات في 1974، وقد رحب المخططون في لندن وواشنطن بهذه الإنقسامات في الحركة الفلسطينية، خاصة بعد تحديها للنظام الموالي للغرب في الأردن. وإضافة لذلك، فإن لجوء أبي نضال إلى أعمال بشعة من القتل الجماعي، مثلما حدث في روما وفيينا، ألحق دماراً هائلاً بالقضية الفلسطينية بصفة عامة، مما ساعد في ربط الحركة الفلسطينية بالإرهاب في أعين الرأي العام العالمي. ويتفق الدور الذي لعبته منظمة أبي نضال مع اهتمام بريطانيا قديم العهد بالإبقاء على الشرق الأوسط مقسماً وفي حالة حرب مع نفسه، ولا يمكن سوى التخمين بأن هذا لعب دوراً في قرار بريطانيا السماح لأبي نضال بمواصلة عمله.

لم تكن شبكات أسبن – الكسار هي الوحيدة التي استخدمها جهاز المخابرات الخارجية للمساعدة في تسليح إيران الثورية. ففي منتصف الثمانينيات عمل الجهاز مع تاجر سلاح من أصل إيراني، هو جامشيد هاشمي، الذي عمل وسيطاً في بيع قذائف لطهران في قضية إيران – كونترا. كان الهدف هو رصد شحنات السلاح الصينية إلى إيران والتي يمكن استخدامها لتهديد السفن الغربية في الخليج إبان الحرب الإيرانية العراقية. وقد مول الجهاز هاشمي لترتيب شهادة مزورة عن المستخدم النهائي لشراء قذائف سيلك وورم الصينية الموجهة لإيران بمبلغ 350 مليون إسترليني. وقد تم شحن هذه القذائف في 1978، إلى ج انب صفقات أخرى بقوارب آلية مسلحة وذخيرة بريطانية الصنع، أٌقرها الجهاز أيضاً، في انتهاك للمبادئ التوجيهية للحكومة التي تحظر تصدير الأسلحة لإيران، وقد تم استخدام القوارب الآلية التي جرى تصديرها عن طريق اليونان، لمهاجمة السفن المدينة في الخليج. وأبلغ هاشمي الجهاز بمشاركته في هذه الصفقات حتى 1992، كما قدم هبات كثيرة لحزب المحافظين في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات وقابل مارجريت تاتشر شخصياً ثلاث مرات. وادعى أنه نقل خلال هذه الإجتماعات رسائل من الرئيس الإيراني هاشمي رافسنجاني، وهو قريب حميم له، تحت بريطانيا على تخفيف العقوبات ضد إيران. بيد ان هاشمي قبض عليه في 1996 مكتب جرائم افحتيال الخطيرة في بريطانيا بمقتضى ادعاءات من شركة أمريكية بأنه احتال عليها في عقد لتوريد هواتف تعمل بالقمر الصناعي لوزراة الدفاع الإيرانية. وقال هاشمي غن الحكومة البريطانية غدرت به، وأنه زودها بالمعلومات سنين طويلة. وتم إطلاق سراحه من السجن في 1999، عقب صفقة حالت دون كشف عملية لجهاز المخابرات الخارجية في المحكمة.

وقد واصلت بريطانيا انخارطها في تسليح إيران في التسعينيات. وحسبما قال ضابط سابق في جهاز المخابرات الخارجية هو ريتشارد توملنسون في 1995، فإن الجهاز السري الإسرائيلي نظم شحنة صينية تضم 60 طناً من الكيماويات إلى إيران بغية مساعدة إسرائيل على تأمين طيارها روان أراد، الذي كان قد وقع أسيراً في لبنان قبل سنوات. وبدلاً من أن بحاول جهاز المخابرات الخارجية وقف مشروع، فقد تعاون معه للحصول على معلومات عن شبكة إيران العسكرية، حتى وإن خاطر بتزويد طهران بالقدرة على صنع الألسحة الكيمائية.

وسياسة المساعدة المباشرة في تسليح الجمهورية الإسلامية وإغماض الأعين عن ذلك، مليئة بالدلالات بصفة خاصة في ضوء عملية شيطنة إيران الحالية بشأن مسعاها الواضح للحصول على أسلحة نووية. إن ما تكشف عنه هذه الوقائع ليس هو الكيل بمكيالين في السياسة الخارجية، بل سعيها للمنفعة: استعدادها للقيام أحياناً بأي شئ كان مع أي شخص كان لتحقيق أهداف قصيرة الأجل بغض النظر عن التكاليف طويلة الأجل وأي اعتبارات أخلاقية.

ومثلما حدث من تواطؤ مع النظام الإيراني في الثمانينيات، اجتهد البريطانيون والأمريكيون في البحث عن طريق مباشر للتصدي للتحدي الذي تطرحه إيران والقوى المتحالفة معها في المنطقة. فبعد تفجير الثكنات الخاصة بالبحرية الأمريكية في بيروت في أكتوبر 1983، وقتل وليام باكلي، قرر البريطانيون والأمريكيون والسعوديون – وهو التجمع المألوف الذي كان يتعاون بالفعل فيما بينه في أفغانستان – القضاء على زعيم حزب الله في لبنان آنذاك، الشيخ سيد محمد فضل الله. وكان لابد من وضع خطة سرية مشتركة، لا تزال تفاصيلها الكاملة مجهولة، لكنها انطوت على تعاقد المخابرات الأمريكية على اعملية من الباطن مع عملاء لبنانيين يقودهم ضابط سابق في جهاز المخابرات الخارجية، وقد مول السعوديون الخطة بما يبلغ 3 ملايين دولار. وفي [ب8 مارس]] 1985، انفجرت سيارة محملة بالمتفجرات على بعد 50 ياردة من مسكن فضل الله في بيروت، فقتلت نحو 80 شخصاً، منهم نساء وأطفال، وجرحت ما يربو على 200، لكن فضل نفسه نجا. وفي محاولة من المخابرات المركيزة لإخفاء آثارها، ألقت اللوم على إسرائيل في هذا التفجير وهو ما لا يصدقه سوى القليلين، وانتهى الأمر بأن دفع السعوديون لفضل الله مليوني دولار ليكف عن مواجهة الأمريكيين.

وكان البريطانيون مفيدين للأمريكيين في تنظيم فرق هجوم مباغت وإدارتها. وقد لاحظ أحد ضباط المخابرات المركزية الذي ضشارك في حرب أفغانستان في ذلك الوقت وهو جوست أفراكوتوسٍ، أن بريطانيا كان لديها عدد قليل من رجال القانون المعارضين "ورئيس وزراء يقف إلى جانب أتيلا إمبراطور الهون". ففي زيارة لجهاز المخابرات في منتصف الثمانينيات للمساعدة في وضع عملها في خدمة الأمريكيين خاصة في أفغانستان، لاحظ أفراكوتوس أن لديهم "رغبة في القيام بالأعمال التي لم أستطع أن ألمسها. وكانوا يهتمون أساساً "بكيفية قتل ثلة من الناس". ومؤخراً وبعد أن تحقق مزيد من التمويل الأمريكي للحرب في أفغانستان، لاحظ أفراكوتوس: أن البريطانيين كانوا قادرين في النهاية على اقليام بالأشياء التي لا نستطيع القيام بها لأنها تقوم على القتل والإغتيال وتفجير القنابل عشوائياً. كانوا يستطيعون تقديم مسدسات بكاتمات للصوت. ولم نكن نستطيع القيام بذلك لأن كاتمات الصوت تعني ضمناً على الفور القيام بعمليات اغتيال – والسماء تحرم تفجير السيارات! لم أكن أستطيع أن أقترح ذلك بأي حال، لكنني كنت أستطيع أن أقول للبريطانيين، "لقد كان فضل الله فعالاً حقاً في بيروت في الأسبوع الماضي. كان لديه سيارة مفخخة قتلت ثلاثمائة شخص". لقد أعطيت لجهاز المخابرات الخارجية البريطاني مادة خام بحسن نية، وما فعلوه بها كان من شأنهم وأمراً يخصهم على الدوام.

وشهدت الثمانينيات نمواً غير مسبوق في الحركة المتأسلمة المتطرفة، أساساً بفضل الحرب الأفغانية، وبرنامج الأسلمة الذي طبقه الجنرال ضياء في باكستان، والتمويل السعودي للقضايا الإسلامية في شتى أنحاء العالم وعاية إيران لتشكيلة من المجموعات المتأسلمة – وهي جميعها تطورات أسهمت فيها السياسة البريطانية بطرق مختلفة. وقد لاحظ جيلز كيبل أن عام 1989 اتسم ببلوغ التأسلم ذروته من الحدة باعتباره قوة سياسية. ففي ذلك العام، تأسس الحزب السياسي المتأسلم المتطرف في الجزائر، جبهة الإنقاذ الإسلامية، وأصبح قوة سياسية سريعة النمو سرعان ما حصدت نصف الأصوات في الإنتخابات المحلية والوطنية، قبل أن يمنعها انقلاب عسكري من الإستيلاء على السلطة. وخلال الإنتفاضة الفلسطينية في الأراضي المحتلة، والتي تفجرت في 1987، تعرضت منظمة ا لتحرير الفلسطينية العلمانية للتحدي لأول مرة من قبل قوة متأسلمة جديدة، حركة المقاومة الإسلامية أو حماس. وحظيت كل من جبهة الإنقاذ الإسلامية وحماس، من بين حركات متأسلمة أخرى، بقدر كبير من التأييد الشعبيـ لأنهما أصبحتا البديل السياسي الرئيسي لما كان يعتبر حركات وطنية علمانية فاشلة. كذلك شهد 1989 إجلاء الجيش السوفيتي آخر قواته من أفغانستان، بعد هزيمته على أيدي المتمردين الأفغان والمجاهدين الأجانب، في حين قفز انقلاب عسكري في السوجان بالمنظر المتأسلم حسن الترابي، إلى السلطة باعتباره رئيساً لحزب الجبهة الوطنية الإسلامية، التي كانت تسعى لفرض الدولة الإسلامية في ظل الشريعة. وكان للنظام السوداني الجديد لفرض قوية بالإخوان المسلمين، وفي أغسطس 1989، بعد ستة أسابيع من وصوله للسلكة حضر اجتماعاً للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين – في لندن. وفي هذا الإجتماع، أعلن الترابي كما قالت بعض المصادر، استعداد السوجان ليتحول إلى قاعدة يمكن منها للجماعات الإرهابية المتأسلمة أن تعمل في كل أرجاء العالم. وفي خلال سنوات ثلاث، انتقل أسامة بن لادن إلى الخرطوم وأسس قاعدة جديدة لعمليات الجهاد هناك. وكانت لندن مكاناً ملائماً لهذا الإحتماع حيث إنها كانت مؤهلة، حتى أكثر من الخرطوم، لأن تصبح مركزاً عالمياً، وربما المركز الوحيد لعمليات التنظيم المتأسلمة المتطرفة في العقد التالي.

الفصل العاشر - احتضان القاعدة

جاء مطلع التسعينيات بالإرهاب المتأسلم لكل من الولايات المتحدة وأوروبا للمرة الأولى، وذلك مع أول حرب للجهاد في أوروبا – حرب البوسنة بعد 1992، تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك في 1993، والهجمات الأولى في أوروبا الغربية، وتفجيرات 1995 في مترو باريس. وعانت السعودية هي أيضاً من أول هجمات إرهابية كبيرة تتعرض لها في نوفمبر 1995 – عندما فجرت عربة نقل بضائع مفخخة مكتباً يؤوي بعثة عسكرية أمريكية كانت تدرب الحرس الوطني – وفي يونيو 1996 – عندما أصاب تفجير شاحنة مفخخة ناطحات سحاب الخبر التي كانت تؤوي عاملين بالقوات الجوية الأمريكية، وقتلت 20 شخصاً. كما أثر الإرهاب في بلدان مثيرة أخرى، فقد ابتليت الجزائر بحرب أهلية وحشية بين الحكومة والقوى المتأسلمة أزهقت أرواح 100 ألف شخص بعد نشوبها في 1992. وفي أفغانستان، انقضت فصائل امجاهدين على بعضها البعض بعد سقوط الحكومة التي كان السوفيت يؤيدونها في 1992، مما تسبب في قتل الآلآف وتدمير العاصمة كابول، ومهد عدم خضوعها الأثيم للقانون الطريق لإستيلاء طالبان على السلطة فيما بعد. كذلك شهدت الهند ودول آسيا الوسطى موجة عارمة من الإرهاب الذي استند لمجموعات باكستانية كانت تسعى إلى "تحرير كشمير التي تسيطر عليها الهند وتوسيع نطاق الثورة الإسلامية.

كانت هذه نتائج كريهة لعولمة الإرهاب، حيث كان المجاهدون المتشددون، الذين ارتكنوا إلى خبرتهم في ال حرب في أفغانستان في الثمانينيات وتدربوا في المعسكرات الأفغانية والباكستانية، قد عادوا لبلادهم لمحاربة حكوماتهم، محاولين تكرار نجاحهم في مواجهة السوفيت. وتطورت أيديولوجية الجهاد إلى ما وصفه جيلر كيبل المحلل الفرنسي بأنه جهاد سلفي بطالب العودة إلى تقاليد الأسلاف الأتقياء، والإلتزام بالنصوص المقدسة بأكثر معانيها حرفية. وبعني هذا، الإلتزام بالعنف وتحدي ما كان يعتبر اعتدال جماعات مثل الإخوان المسلمين، التي كانت تتعرض للإنتقاد لمشاركتها في الإنتخابات وإضفاء مشروعية دينية زائفة على النظم التي تجب الإطاحة بها. وتوافرت دفعة تعزيز أخرى لهذه العملية، بفضل الرعاية السعودية ال قائمة لبعض هذه الجماعات إلى جانب قيام السعودية بتخفيض تمويلها للإخوان المسلمين تدريجياً. فقد تعرض الأخيران لغضب السعودية بسبب تأييدهم لغزو صدام حسين للكويت في 1990، الذي كان يهدد السعودية على ما يبدو. وخسف نفوذ الإخوان، ظهور مجموعة أكثر عنفاً على المسرح آنذاك، وكان الجهاديون هم من تحتاج السهودية إلى استخدامهم لنشر الإسلام الوهابي وضمان بقاء بيت آل سعود.

وفي خضم هذا التشدد المتنامي، أعدت المخابرات البريطانية في صيف 1993، تقريراً قدمته لوزارة ال خارجية بعنوان الأصولية الإسلامية في الشرق الأوسط. وهو يمثل تلخيصاً متقناً لبعض المعتقدات التي جعلت المسئولين البريطانيين يتعاملون مع المتأسلمين المتطرفين. فقد عرض التقرير وجهة نظر جهاز المخابرات الخارجية البريطاني بشأن جذور الأصولية وتأثيرها، ملاحظاً أنها "تتغذى على الفشل في حل المشاكل الإقتصادية والإجتماعية، والفساد في الحكم وإفلاس الأيديولوجيات السياسية – الشيوعية والناصرية والبعثية، ألخ". وبالطبع، فقد كانت هذه أيديولوجيات هي التي بذل البريطانيون أقصى جهدهم لتقويضها، وبذلك مهدوا الطريق لصعود الأصولية. كما بين التقرير أن المسئولين كانوا مدركين أن "الأموال السعودية والخليجية الخاصة الموهوبة للقضايا الإسلامية، عامل مشترك في كثير من انحاء المنطقة" – وأنهم يواصلون تعميق دعمهم لهذه النظم.

وبعد ذلك يعترف التقرير بأن "قدرة الإسلام بوصفه محوراً للمعارضة، توفر أيديولوجية جاهزة تؤكد على اعدالة"، وأن الأمر الحاسم أيضاً هو ان "الأصولية ليست بالضرورة مرادفاً للتطرف السياسي وسياسات معاداة الغرب – وذلك تعليق يوحي بالكثير وسبب رئيسي في أن بريطانيا ظلت تتعامل مع هذه المجموعات لهذه المدة الطويلة. ويواصل التقرير: ان المجموعات الأصولية التي تدعو للعنف والثورة أقلية. ومع ذلك، فإن هناك خطأ معادياً للغرب في كل الحركات الأصولية الرئيسية في المنطقة، حيث تعتبر الثقافة والمادية الغربية، خاصة الأمريكية تهديداً للقيم الإسلامية. والأهداف الأعرض للأصوليين تتعارض تقريباً مع المبادئ الليبرالية الغربية – فهي تعارض التعددية السياسية، والتسامح الديني، وحقوق المرأة.

ولا ريب أن النقطة الأخيرة صحيحة، لكن هذه أيضاً كانت سمات لأي حكومة ساندتها بريطانيا في الشرق الأوسط طوال عقود كثيرة، تحديداً للتصدي للحكومات التعددية الأكثر دعماً لحقوق المرأة مثلاً.

كذلك لاحظ التقرير أن الجماعات الأصولية "مستعدة لإستخدام صناديق الإقتراع للحصول على السلطة. لكن هناك شك تام في ان "أحزاب الله" هذه ستخضع سلطتها السياسية، فور تحققها لعملية ديمقراطية". بيد أن الخاتمى يردد فيها ما يلي: ان الأصولية لا تمثل تهديداً متماسكاً وموحداً للمصالح الغربية بالطريقة التي فعلت بها الشيوعية ذلك ذات مرة. وتقتصر جاذبيتها في البلاد الغربية على الأقليات الإسلامية، وخطر التدمير في حده الأدنى، على الأقل في الولايات المتحدة. أن التعامل مع النظم الأصولية المتطرفة لا يمكن التنبؤ به بدرجة كبيرة لكنه يمكن تدبره.

إن التحليل القائل بأن بريطانيا يمكن أن تكون لها علاقات يستطاع تدبرها مع النظم الأصولية ملئ بالإيحاءات. ويساعد الإعتقاد بان الأصولية لا تمثل تهديداً استراتيجياً للمصالح الغربية في تفسير السبب في أن بريطانيا تعاونت مع هذه الجماعات لمواجهة قوى لم تكن تمثل تهديداً استراتيجياً للمصالح الغربية في تفسير السبب في أن بريطانيا تعاونت مع هذه الجماعات لمواجهة قوى لم تكن تمثل مثل هذا التهديد، خاصة الناصرية. وفي الوقت نفسه، فإن وجهة النظر القائلة أن جاذبية الأصولية في بريطانيا كانت صغيرة تفسير دزئياً تسامح السلطات مع بعض هذه الجماعات وحمايتها لها خلال صعود نجم لندنستان في التسعينيات. ثم، أ، هذه كانت وجهة نظر المسئولين بريطانيين رئيسيين حيث استمرت هوايتهول في سياستها بحكم الأمر الواقع في مساندة الإسلام المتطرف، أو على الأقل عدة جدائل منه في التسعينيات.

إنقاذ السعوديون وإمبراطوريتهم المالية: بعد غزوصدام حسين للكويت في أغسطس 1990، ساهم النظام السعودي بما يربو على 50 مليون دولار في حرب قادتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، لإبادة الجيش العراقي في فبراير 1991. وقدم هذا النزاع دفعة مساندة حاشدة للإسلام السني. ففي اجتماع مع الأمير تركي رئيس المخابرات السعودية ووزير الدفاع الأمير سلطان، عرض بن لادن استخدام قواته العربية الأفغانية التي أكسبتها المعارك صلابة في الدفاع عن المملكة، لكن السعوديين رفضوا هذا الإقتراح، واختاروا بدلاً من ذلك نشر نصف مليون من القوات الأمريكية الكافرة في أرض الحرمين. كانت الحقيقة واضحة جلية، فقد كان السعوديون يعتمدون كلية على الولايات المتحدة في بقائهم. وحينذاك أصبحت الجماعات الجهادية، التي نذرت نفسها لاستئصال الوجود الغربي من السعودية، ترى أن الحكام السعوديين خانوا الإسلام وأن حشد مجندين لقضيتهم أصبح أكثر سهولة في السعودية، التي سرعان ما أصبحت هدفاً للهجمات الإرهابية.

وهبت بريطانيا للدفاع عن الحليف الأصولي والنظام الكويتي لجابر الصباح، الذي حكمت أسرته الإمارة، في ظل الحماية البريطانية، من منتصف القرن الثامن عشر. كانت أسرة الصباح من أقرب حلفاء هوايتهول في المنطقة، تسيطر على دوله غنية بالنفط تستثمر مليارات من إيراداتها في الإقتصاد البريطاني. وأرسلت بريطانيا ثاني اكبر فرقة عسكرية في القوة المتحالفة – ما يربو على 40 ألف جندي – إلى جانب سفن حربية وأسراب من السلاح الجوي الملكي الذي كان يعمل من قواعد في السعودية، كما لعبت القوات البرية البريطانية دوراً مهماً، فقد كان نشر جهاز المخابرات الخارجية لقواته هو الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، وانطوى على العمل خلف خطوط العدو لتدمير مرافق الإتصالت العراقية ومنصات إطلاق قذائف سكود المتكرة المضادة للطائرات كمقدمة للهجوم الرئيسي بقيادة الولايات المتحدة، كما ساعد فريق من ضباط الجهاز في تنظيم المقاومة الكويتية في ارتباط مع السعوديين. وأقيم معسكر لتدريب المتطوعين الكويتيين في شرق السعودية، إلى جانب برامج أمريكية مماثلة، في حين تم إلحاق أعضاء كثيرين من الجهاز بفرق التدريب هذه، وقام الجهاز أيضاً بتوفير الأسلحة. وأصبح التحالف الأمريكي البريطاني السعودي السري بادياً للعيان مرة أخرى، وكان امتددتً حقيقياً للعملية التي كانت قد انتهت تواً في أفغانستان.

وقد تذكر الجنرال السير بيتر دي بيليير مؤخراً: مثلما ساندنا نحن البريطانيين نظام حكام الشيوخ دوماً منذ انسحابنا من الخليج في أوائل السبعينيات، ورأيناه يزدهر، كنا متحمسين لإستمراره. فقد كانت السعودية صديقاً قديماً ومجرباً بالنسبة لنا، واستخدمت ثروتها النفطية الهائلة بطريقة حميدة ومتروية، وكان من نتيجة ذلك أن أصبح مستوى المعيشة مرتفعاً جداً. ومن ثم فإن من مصلحتنا للغاية أن يظل هذا البلد ونظامه مستقرين بعد الحرب.

وبالطبع كانت هذه الطريقة الحميدة والمتدبرة التي استخدم بها السعوديون ثروتهم من النفط محض تضليل، كما سنرى فيما بعد، إذ كانت الفكرة الأساسية هي أن هؤلاء هم حلفاؤنا، وأنهم يستطيعون أن يفعلوا ما يريدون بأموالهم بقدر ما يعني الأمر الصفوة البريطانية.

وخلال الحرب، شجعت الولايات المتحدة الشيعة في جنوبي العراق على أن يهبوا في ثورة ضد صدام، لكن بمجرد أن بدأ هذا كما ينبغي في مارس 1991، سمحت واشنطن للقوات العراقية بإعادة التجمع وسحق التمرد بصورة وحشية وذبحت الآلآف. وحلقت طائرة أمريكية فوق طائرات مروحية عراقية، لتوفر لها الحماية بالفعل، في حين أوقفت القوات الأمريكية في مرحلة من الإنتفاضة، المتمردين الشيعة الذين كانوا قد وصلوا لمخزن للسلاح للحصول على ذخيرة. إذ فضلت واشنطن الإبقاء على صدام في السلطة عن أن تطلق العنان لقوى قد تتحالف مع عدوها، جمهورية إيران الإسلامية. كذلك حدث مع البريطانيين، الذين شجعوا المتمردين في البدء، فقد ساعد جهاز المخابرات الخارجية إلى جانب وكالة المخابرات المركزية في إنشاء محطة إذاعة العراق الحر، التي كانت تذيع دعاية أنجلو أمريكية في كل أنحاء البلاد. وعندما سئل أحد مسئولي المخابرات البريطانية عن النداءات السابقة للحض على الثورة، رد: "لم نفكر في ذلك على نحو صحيح". وكان ذلك هراء: إذ أن تحريض كل من واشنطن ولندن للشيعة، سياسة تقليدية لهما – استخدام القوى الإسلامية لتحقيق أهداف قصيرة الأجل محددة، وكان الهدف في هذه الحالة هو زعزعة حكم صدام حسين وتمهيد الطريق لطرد العراق من الكويت. وبمجرد أن تحقق هذا الهدف، أصبحت هذه القوى مستهلكة، وكان ذلك حينذاك قد أصبح نمطاً مألوفاً للغاية في التواطؤ الأنجلو أمريكي مع القوى الإسلامية في المنطقة.

ومع عودة صدام إلى صندوقه، كان نظامه لا يزال قادراً على أن يكون مفيداً. وعادت بريطانيا والولايات المتحدة إلى التسليم بأن ديكتاتورية العراق الوحشية لكنها علمانية يمكن أن تتصدى لمسعى إيران الشعبية للسيادة في المنطقة – وهي سياسة كانت قد بدأت عندما سلحت واشنطن ولندن العراق إبان حربه مع إيران التي كانت قد بدأت قبل عقد من الزمن. وكان هذا الدعم لنظام وطنى علماني ضد المتأسلمين المتطرفين انعكاساً للسياسة البريطانية الأمريكية التقليدية في المنطقة، مما يبين الدرجة التي أصبحت بها إيران الشيعية تمهيداً استراتيجياً للغرب. لكن ذلك لم يكن سوى موقف مؤقت، فمجرد دعم صدام قبضته على السلطة في ظل نظام دولي صارم للعقوبات، ارتدت سياسة بريطانيا والولايات المتحدة إلى التواطؤ مع القوى المتأسلمة للإطاحة به، كما سنرى في الفصل الثالث عشر.

وبينما كانت القوات الأمريكية تبيد قوات صدام حسين من قواعدها في السعودية، تحول بن لادن عملياً بين عشية وضحاها من كونه نصيراً للنظام السعودي إلى خصم له. وفي الوقت نفسه، كان مستمراً في تجنيد المتطوعين، وكان كثيرون منهم سعوديين، للتدريب على حرب العصابات في معسكراته في أفغانستان، استعداداً للجهاد المقبل. بيد أنه بدلاً من طرد بن لادن من السعودية، ورد أن السعوديين حاولوا في مطلع 1991 إبرام صفقة معه، يترك بمقتضاها بن لادن السعودية مقابل قيام السعوديين بتقديم الأموال لتوزيد قواته العربية الأفغانية باحتياجاتها، بشرط ألا يتسهدف الإرهاب السعودية نفسها. وفي حين أن بدأ بن لادن قد طرد من السعودية، فقد انتقل إلى السودان في 1992، حيث قد له حسن الترابي رئيس الجبهة الوطنية الإسلامية قاعدة جديدة. بيد أن السعوديين لم يشجعوا مطلقاً السودانيين على اتخاذ أي إجراء ضده، بل لقد ظل بن لادن على جدول الرواتب التي يدفعونها.

وفي شهر أبريل 1994 فحسب، بعد استمرار النقد العلني لبيت آل سعود، سحب السعوديون الجنسية من بن لان. بيد أنه حتى بعد حدوث هذا، ظلوا على ما يبدو يحاولون شراءه بالأموال. وهكذا ففي 1996، تواتر أن السعوديين الذين كانوا لا يزالون خائفين على ما يفترض من الهجمات التي يحرض عليها بن لادن في المملكة، باركوا صفقة سرية أبرمها بن لادن مع ضابط عسكري باكستاني له صلات وثيقة بجهاز المخابرات الباكستاني، تقضى بأن يستمر الأخير في تزويد القاعدة بالحماية والسلاح. كما ادعت بعض مصادر المخابرات أنه في العام نفسه، اجتمعت مجموعة من الأمراء ورجال الأعمال السعوديين في باريس واتفقوا على الإستمرار في مساعدة شبكة بن لادن الإرهابية. ولاحظ تقرير أعده في 2002 جان تشارلس وهو خبير مخابرات فرنسي أن 300 مليون دولار على الأقل كانت قد تدفقت إلى القاعدة وغيرها من جماعات الجهاد في السنوات السابقة، معظمها من واهبين وجمعيات خيرية في السعودية.

وكانت المخابرات الأمريكية تورد تقارير عن التمويل السعودي للإرهاب بحلول منتصف التسعينيات، على الأقل، وذكر تقرير سري لوكالة المخابرات المركزية كشفت عنه الصحافة الأمريكية في 2003 أن "النشطاء الإسلاميين يهيمنون على قيادة أكبر الجمعيات الخيرية" وأنه "حتى أعضاء ذوي مناصب سامية في وكالة جمع المعلومات والرصد في السعودية والكويت وباكستان – مثل المفوضية السعودية السامية – متورطون في أنشطة غير قانونية، من بينها دعم الإرهاب". ويصعب تصديق أن البريطانيين لم يكونوا على علم بهذا الدور السعودي. وتمثل تطور آخر مهم بالنسبة للسعوديين في أن نهاية النظام السوفيتي في 89-1991، أتاحت للتمويل الإسلامي أعظم فرصة للنمو منذ إحيائه في منتصف السبعينيات. قد انتهت حينذاك عقبات سياسية كبرى كانت تعترض إلغاء القيود المالية، الذي كانت قد طالبت به سياسة تاتشر وريجان النقدية في العقد المنصرم. وأصبحت الأموال السعودية تستطيع آنذاك أن تنتشر إلى مدى من العالم أبعد حتى من ذلك وصحب ذلك التبشير الذي كان يقوم به الملالي السعوديون، الذين كانوا يقومون بالوعظ والتعليم بالمساجد والمدارس الدينية التي أنشئت مؤخراً، وبذلك وصولوا إلى المسلمين في شمال أفريقيا وآسيا الوسطى. وتولت المهمة البنوط والجمعيات الخيرية السعودية التي عملت أدوات رئيسية لتمويل انتشار الأصولية الإسلامية.

وكانت البنوك البريطانية والأمريكية تدير قدراً كبيراً من الاموال السعودية والعربية الأخرى المتدوالة في النظام المالي الإسلامي، في حين كانت بعض المجموعات الإرهابية تستخدم البنوك البريطانية على ما يبدو لفتح بعض حساباتها. وقد تلقى حساب لجنة الشورى والإصلاح، وهو المنظمة الواجهة لبن لادن في لندن، أموالاً من بنوك في السودان ودبي والإمارات العربية المتحدة. وكانت الأموال تحول من لندن إلى خلايا القاعدة في المدن الغربية، وإلى عدة مراكز وجمعيات خيرية إسلامية في أماكن مثل البوسنة وكوسوفو وألبانيا.

بيد أن الإرادة السياسية على كلا جانبي الأطلسي قبل 11 سبتمبر في رصد التمويل الإرهابي والسيطرة عليه، كانت ضعيفة. وليس هناك أدلة على أن بريطانيا حاولت مطلقا الضغط على السعوديين لإغلاق قنوات التمويل ال مقدم للجماعات المتأسلمة، إذ كان اعتماد بريطانيا الإقتصادي حينذاك كبيراً إلى حد أن هوايتهول كانت تشعر بالعجز عن تحدي أي سياسات مهمة لحليفها الأثير، وهوموقف لا يزال جلباً إلى اليوم. والأحرى أن كل الأدلة تشير إلى أن بريطانيا واصلت التغاضي عن السياسة الخارجية الإسلامية للسعودية وناصرتها. ويصدق الأمر نفسه على الولايات المتحدة، التي تقاعست هي أيضاً عن تحدي الدعم السعودي للجمعيات الخيرية العاملة في بلدان إسلامية أخرى. وعندما ناقش رئيس مكافحة الإرهاب في الخارجية الأمريكية مثل هذا الضغط في النهاية في 2002 في برقية تم إرسالها إلى شتى السفارات الأمريكية، رفض مسئولو الخارجية الأمريكية الآخرون التوصيات الواردة في البرقية بحجة مضادة هي أن هذه الجمعيات الخيرية تؤدي أعمالاً حسنة كثيرة.

وكان اعتماد بريطانيا على السعودية إلى حد كبير نتيجة لخيارات في السياسة اتخذت عبر عقود ماضية، عنجما فضل المخططون في هوايتهول باستمرار الوقوف في صف النظم الرجعية في الشرق الأوسط. ومع ذلك، فقد تغير شئ ما! ففي الماضي، كان الوزراء يعترفون في مجالسهم الخاصة صراحة بالطابع القمعي المنتمي للعصور الوسطى للنظام السعودي لكنهم كانوا حريصين في العلن على عدم ربط هذا النظام بهذه الصفات – بصورة وثيقة – خوفاً من استثارة مزيد من النقد من النظم القومية في المنطقة بل وفقد مزيد من النفوذ البريطاني هناك. بيد أن الوزراء البريطانيين في زل حكومتي تاتشر وميجور أصبحوا يغتنون أي فرصة للثناء على السعوديين، والعمل مبررين لسياساتهم بغية الظفر بعقود تجارية وعسكرية.

وفي يناير 1996، وصف جيريمي هانلي وهو وزير دولة بالخارجية، السعودية، بأنها "البلد الذي تتقاسم سياسته الخارجية معنا أهدافاً مماثلة لأهدافنا"، وهو "بلد يلعب دوراً حاسماً في تشجيع السياسات المعتدلة والرشيدة"، وكان "حصناً للإستقرار والإعتدال في منطقة لم تعرف بهذه السمات دوماً", وقبل ذلك بعام، كان هانلي قد أخبر البرلمان بأن "حكومة صاحبة الجلالة ليس لديها أي خطط لربط سياسات المملكة المتحدة بشأن التجارة والدفاع بأداء السياسة السعوجية في مجال احترام حقوق الإنسان . . . أو بأداء السعودية في مجال الحرية الدينية". كان السعوديون يستطيعون أن يفعلوا ما بدا لهم ويظلوا مع ذلك يركنون لحماية الحكومة البريطانية وخداع النفس البشع بأن السعوديين "معتدلون ومعقولون".

وفي الوقت نفسه، لم ينته حب تاتشر للطغاة مع رحيلها عن منصبها في 1990. ففي خطاب استثنائي ألقته في المعهد الملكي للشئون الدولية في لندن في أكتوبر 1993، أكدت أن السعودية كانت "قائداً لأسرة إسلامية أعرض من الدول" وأنها "قوة ضخمة للإعتدال والإستقرار على المسرح العالمي"، وأضافت "إنني من أشد المعجبين بالسعودية وقيادة الملك فهد". كانت بريطانيا مستمرة في "برامجها للتدريب وتقديم ا لمشورة والمعدات". وقالت تاتشر إن "السعودية لم تستخدم أسلحتها بطريقة غير مسئولة مطلقاً" وأضافت المزيد: لكن ماذا عن "داخل السعودية" ليس لدي النية في أن أتدخل في الشئون الداخلية لهذا البلد. فمن بين أكثر معتقداتي رسوخاً أنه على الرغم من أن هناك معايير وأهدافاّ أساسية معينة يجبأن نتوقعها من كل عضو في المجتمع الدولي، فإن الوتيرة والنهج المحدد يجب ان يعكس الخلفيات الثقافية والإجتماعية والإقتصادية والتاريخية للمجتمعات المختلفة.

وخلصت تاتشر إلى القول بأن "على الرغم من التهديد الذي يبدو أن الأصولية الإسلامية تطرحه في بعض البلدان، ل ا ينتابني أي شك في أ ن الإسلام نفسه قوة من القوى الأساسية من أجل الإستقرار في السعودية الحديقة. وهناك قوة أخرى كهذه باعثة على الإستقرار هي الأساس الوطيد لملكية راسخة الأقدام ومحترمة".

وقد كشف هذا التعليق عن عجز تاتشر عن الإعتراف بأن السعوديين تحديداً كانوا من بين الدعاة الرئيسيين للأصولية الإسلامية.

واستمر تدفق الأسلحة البريطانية كجزء من صفقات أسلحة كانت قد وقعت في العقد الماضي، كما قدمت هوايتهول خدمات عسكرية أخرى، مثل تدريب الحرس الوطني السعودي الذي كان لا يزال يقوده عبد الله ولي العهد. وبقيام بريطانيا بذلك ربما تكون قد ساعدت في تقديم مزيد من التدريب للمجاهدين السعوديين السابقين في الحرب الأفغانية، وكان كثيرون منهم قد عادوا إلى السعودية حينذاك وانضموا للحرس الوطني. والمعروف أن آخرين متعاطفين مع القاعدة قد انضموا للحرس الوطني وربما استفادوا من التدريب البريطاني.

قاعدة بن لادن في لندن

بيد أنه في حين كانت بريطانيا تساند ملوك السعودية، فقد وفرت أيضاً قاعدة مضيافة لهؤلاء الذين كانوا قد أًبحوا حينذاك خصومهم المروعين. ففي يوليو 1994، أنشأ أسامة بن لادن مكتباً في لندن أسماه لجنة الشورى والإصلاح، سعى لتشجيع المعارضة للنظام السعودي على النطاق العالمي – وكان ذلك رد فعل فوري على سحب السعوديين للجنسية منه، وفق ما ذكر تقرير لوكالة المخابرات المركزية رفعت عنه السرية. وكانت اللجنة التي تدار من بيت في ويمبلي في شمال لندن، مجهزة بحشد من أجهزة الفاكس والحاسبات التي كانت تقذف من باطنها بعشرات الكتيبات والبلاغات التي تدين تبذير بيت آل سعود ويغه عن الشرعية في البلاد، وتدعو كذلك إلى تحطيم الدولة السعودية. ووفق وثائق حديثة صادرة عن محكمة أمريكية، فإن اللجنة "أنشئت على حد سواء بغرض نشر بيانات بن لادن وتوفير غطاء لأنشطة دعم أعمال القاعدة العسكرية"، بما في ذلك "تجنيد المتدربين، وصرف الأموال وشراء المعدات والخدمات". إضافة لذلك، عمل مكتب لندن مركز اتصال بالنسبة لتلقي التقارير عن الأمور العسكرية والأمنية وغيرها المقدمة من مختلف خلايا القاعدة إلى قيادتها.

ولاحظ تقرير البحوث الذي يعده الكونجرس الذي أذن بنشره بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 مباشرة، أن بن لادن زار لندن في 1994 ومكث فيها بضعة أشهر في ويمبلي ليقيم اللجنة. وتدعي مصادر أخرى أنه زار لندن في 1994 ليجتمع مع أعضاء من الجماعة الجزائرية الإسلامية المسلحة، بل وأنه كان يسافر بانتظام إلى لندن في 1995 و1996 في طائرته النفاثة الخاصة. وأيا كانت الحقيقة في هذه الإدعاءات، فإن سجلات فواتير هاتف بن لادن من 1996 إلى 1998 تبين أن نحو خمس مكالمته، 238 مكالمة من 1100 مكالمة – أكبر عدد بمفرده – أجري إلى لندن، مما يبين أهمية هذه القاعدة. وكانت اللجنة هي التي نظمت اجتماعاً بين بن لادن وعدد من صحفي سي إن إن في مارس 1997.

وضمت هيئة العاملين باللجنة أعضاء من منظمة أيمن الظواهري الإرهابية، منظمة الجهاد الإسلامي المصرية منهم عادل عبد الباري وإبراهيم عيداروس، وقد حكم عليهما كليهما بالسجن في الولايات المتحدة لتورطهما في تفجير السفارتين في 1998، عندما قتلت انفجارات متزامنة في دار السلام ونيروبي ما يربو على 200 شخص، وتزعم الولايات المتحدة أن عادل عبد الباري كان يدير معسكرات التدريب وبيوت الضيافة التابعة للقاعدة قبل وصوله إلى لندن، حيث تم منحه حق اللجوء في 1993، وبعد عامين حكم عليه بالإعدام غيابياً بزعم تورطه في تفجير خان الخليلي وهو مطعم سياحي في مصر. وفي مايو 1996، تم اتهام عبد الباري بأن الظواهري عينه قائداً لخلية لندن من تنظيم الجهاد الإسلامي المصري. وزعموا أن عيدراوس كان قد بدأ ينظم خلية لتنظيم الدهاد الإسلامي في أذربيجان في أغسطس 1995 قل أن يفد إلى لندن في سبتمبر 1997 ليصبح قائد قاعدتها في لندن. وعندما كان عيدراوس في بريطانيا، حيث منح هو أيضاً حق اللجوء السياسي، اتهم بإجراء اتصالات هاتفية عن طريق القمر الصناعي مع قيادة القاعدة، واتهم بأنه وفر مع عبد الباري جوازات سفر مزورة لنشطاء جماعة الجهاد الإسلامي المصرية في هولندا وألبانيا. وفي يوم التفجير الذي وقع في شرق أفريقيا، وزع كلاهما بيانات عن مسئولية التنظيم من خلال الفاكسات على وسائل الإعلام، وأنكر محامو الرجلين أنه كان لديهم علم مسبق بالتفجيرات، ولكن ضابطاً من جهاز المخابرات الداخلية، قدم مؤخراً أدلة تتعلق باستئناف بشأن الهجرة، ذكر أن الفاكسات أرسلت فعلاً قبل إجراء التفجيرات. واحتجز الفرع الخاص الرجلين في سبتمبر 1998 بموجب قانون منع الإرهاب، بتهمة أنهما كانا على صلة بتفجيرات 1998.

كان رئيس لجنة بن لادن للشورى والإصلاح هو خالد الفواز وهو منشق سعودي، اعتقلته الشرطة البريطانية بموجب طلب ترحيل قدمته الولايات المتحدة في سبتمبر 1998 بزعم تورطه في تفجيرات شرق أفريقيا في الشهر السابق. وحتى هذه المرحلة كانت السلطات البريطانية قد سمحت للفواز وللجنة الشورى والإصلاح بأن يعمل علناً لمدة أربع سنوات. ويدعي هذا الإتهام الموجة للفواز أنه زود بن لادن "بمختلف وسائل الإتصال"، بما في ذلك هاتف يعمل بالقمر الصناعي للتحدث إلى خلايا القاعدة، وأنه زار نيروبي في 1993 ووفر سكناً هناك لأبي عبيدة، أحد قادة القاعدة العسكريين. وتم احتجاز الفواز في بريطانيا منذ 1998، ورفضت المحاكم البريطانية بثبات محاولات الولايات المتحدة ترحيله إليهما، بعد عمليات استئناف قدمها محامو الفواز تدعي أن حقوق الإنسان الخاصة به ستنتهك في السجون الأمريكية.

وتشير الأدلة إلى أن نشطاء لجنة الشورى والإصلاح كانوا يلقون تسامحاً من البريطانيين، الذين ربما اعتبروهم مصدراً مفيداً للاستخبارات. فقد قال محامو الفواز مثلاً إنه كان على اتصال منتظم بجهاز المخابرات الداخلية منذ وقت وصوله إلى بريطانيا في 1994 حتى القبض عليه بعد ذلك بأربع سنوات. وكانت اجتماعاته معه تدوم عادة لمدة ثلاث ساعات أو أكثر في حين كان هافته محل تسجيل على الأرجح وكانت مراسلاته يجري اعتراضها. ولاحظت الجارديان أنه :"ربما اعتقد جهاز المخابرات الداخلية أنه من الأفضل رصد فواز . . . للحصول على استخبارات".

وبعد المذبحة الإرهابية للسياح في الأقصر في مصر، شن الرئيس مبارك هجوماً على بريطانيا لأنها تؤوي المجاهدين في لندن والمرتبطين بهذا الهجوم وغيره، بمن فيهم عادل عبد الباري، وطالب تسليمهم. وقد ورد أن الحكومة البريطانية رفضت هذا الطلب. بيد أن الحكومة كانت تميل إلى ترحيل المجاهدين، عقب طلب من المصريين، لكن أعاقها رفض مصر لطلب بريطاني بضمان أن يلقوا معاملة عادلة، وإذا وجد أنهم مذنبون، لا يتم إعدامهم. ذلك أن اتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية تمنع ترحيل المشتبه بهم الذين قد يتعرضون للتعذيب أو المعاملة غير الإنسانية.

وكان سعد الفقيه منشقاً سعودياً آخر في لندن، وهو أستاذ جراحة سابق في جامعة الملك سعود وضع خبرته الطبية في خدمة الجهاد ضد السوفييت في أفغانستان. وكان الفقيه قد هرب من السعودية في 1994 وأقام مجموعة أخرى معارضة للنظام، هي حركة الإصلاح الإسلامي في الجزيرة العربية في لندن في 1996 ومنح حق اللجوء السياسي. وقد قال الفقيه مؤخراً إنه يحتفظ "باتصالات عالية المستوى" مع إيرادات المخابرات البريطانية" ويقدم لها المشورة بشأن السعودية. وفي 2004، حددت الولايات المتحدة الفقيه بوصفه موفر الدعم المالي والمادي للقاعدة منذ منتصف التسعينيات، واتهمته بأنه على صلة ببن لادن. لكن الفقيه كان يعيش علناً في بريطانيا لمدة تربو على عقد ولم تستجوبه السلطات البريطانية ولو لمرة واحدة. وقد شكك كثيرون من المحللين ببواطن الأمور في تورطه المزعوم في الإرهاب، وأِاروا إلى حقيقة أنه لم توجه أي تهمة، ناهيك عن أي دليل على ذلك، وأكدوا أن حركة الإصلاح الإسلامي في الجزيرة العربية هي حركة معارضة مشروعة للسعودية وأن اعتبار الولايات المتحدة له إرهابياً يتعلق أساساً باسترضاء زبون سعودي.

لكن ربما رأى البريطانيون أن الحركة وغيرها من المجموعات السعودية توفر ما هو أكثر من الإستخبارات. ويقدم ستيف كول الصحي الأمريكي، مستشهداً بحوارات أجراها مع مسئولين بريطانيين، سبباً لعزوف بريطانيا عن أن تأخذ المراكز المعارضة للسعودية بالشدة: "كانت مسألة إيمان في واشنطن ولندن خلال أوائل التسعينيات بأن قليلاً من الضغط الخارجي، حتى وإن جاء من متأسلمين، يخلق سياسات أكثر صحة وأشد استقراراً في المدى الطويل". ونظرية كول أن المخططين البريطانيين والأمريكيين كانوا يريدون استخدام رافعة متأسلمة للتأثير على جدول الأعمال السعودي الداخلي، معقولة وتنسق مع سياستهم السابقة في المنطقة. بيد أن نظريته عن أن هذا يستهدف سياسات "أكثر صحة" (بدلاً من مجرد "موالية للغرب") أقل معقولية "فالأرجح ان لندن وواشنطن كانتا تعتبر أن الإصلاح الداخلي وسيلة لتدعيم حكم بيت آل سعود.

ويقدم الفقيه نفسه تفسيراً آخر لتسامح الحكومة البريطانية مع هذه الجماعات. فعندما سئل في حوار دار معه في نوفمبر 2003 عن العيش في بريطانيا رد بأن البريطانيين "اكتشفوا أن المراهنة على علاقات استراتيجية مع النظام السعودي خطيرة، ومن الأفضل ان تكون لهم علاقات مع الشعب وافترض أنهم يعرفون كم نحظى به من مساندة من الرأي العام". كما قال الفقيه مؤخراً إن "البريطانيين دهاة . . بما يفي ليدركوا أن النظام السعودي مقضي عليه بالزوال. وهم يريدون أن يكونوا في وضع يتيح لهم التعامل مع قادة بدلاء". وهنا يبالغ الفقيه في الدعم الذي تحظى به حركته في السعودية. فمن الهراء جعلها مرادفاً للشعب. ومع ذلك، فإن فكرة أن بريطانيا كانت تحاول إقامة علاقات مع صناع السياسة في المستقبل في البلاد بالتسامح مع جماعات المعارضة هذه، هي بلا ريب فكرة معقولة. ففي حين أن بريطانيا ساندت طويلاً بالمثل. ومرة ثانية، فإن جماعات المعارضة كانت تستطيع ان تعمل كقوة وكيلة تعمل بالنيابة عن هوايتهول، ومن ثم، فإن بريطانيا ربما كانت إلى حد ما تحاول أن تلعب على الطرفين.

وقد سمحت قاعدة لندن لبن لادن بتحريك أنصاره في كل مكان في العالم. فقد قرأ مرتكبو الهجمات بالقنابل في السعودية في 1995، كتابات بن لادن بعد أن أرسلت إليهم بالفاكس من لندن. ومن لندن أيضاً، تم إرسال فتاوي رئيسية شتى لبن لادن إلى سائر أنحاء العالم. فعلى سبيل المثال، وزعت لجنة الشورى والإصلاح ترجمة إنجليزية لإعلان بن لادن الصادر في أغسطس 1996 عن الجهاد ضد الأمريكيين "الذين يحتلون أرض الحرمين"، والذي يدعو لطرد الولايات المتحدة من السعودية، والإ\احة ببيت آل سعود والثورة الإسلامية في كل أرجاء العالم. وبعد ذلك بعامين، أذاعت لجنة الشورى والإصلاح في فبراير 1998، خبر إنشاء بن لادن "لجبهة دولية للجهاد ضد الصليبين واليهود" لتضم معاً تشكيلة من الجماعات الإرهابية. بيد أن هذا "لم يسبب قلقاً كبيراً لهيوايتهول"، كما لاحظ شين اونيل ودانيل ماكجروري الصحفيات في التايمز.

ومما له دلالاته أيضاً أن إدارات المخابرات البريطانية والأمريكية أهدرت مراراً فرصة الحصول على معلومات عن بن لادن والقاعدة. ففي مطلع 1995 على سبيل المثال، عرضت الحكومة السودنية، التي كانت تؤوي بن لادن حينذاك، تسليمه أو استجوابه هو ونشطاء آخرين كان قد تم القبض عليهم بتهمة التخطيط لإرتكاب فظائع إرهابية. وعرض السوادنيون صوراً وتفاصيل عن أفغان عرب شتى، بما في ذلك سعوديون ويمنيون ومصريون حاربوا ضد السوفيت في أفغانستان. وقال مصدر سوداني "إننا نعرفهم بالتفصيل. نعرف قادتهم، وكيف يطبقون سياستهم وكيف يخططون للمستقبل. وقد حاولنا نقل هذه المعلومات للمخابرات الأمريكية والبريطانية حتى يعرفوا كيف تعالج الأمور". وتم رفض عرض السودانيين، بسبب الكراهية غير العاقلة" التي يكنها الأمريكيون للنظام السوداني كما تواتر، كما تم رفض عرض لاحق قدم تحديداً إلى جهاز المخابرات الخارجية البريطاني. وبعد ذلك بثلاث سنوات، تجاهلت بريطانيا أمر اعتقال لبن لادن أصدرته ليبيا كما سنرى في الفصل الثالث عشر.

لقد بلغ إحساس أنصار بن لادن بالأمان في لندن حد أنهم أرسلوا طلبات إلى وزارة الداخلية يستعلمون فيها عما إذا كان زعيمهم يستطيع أن يطلب اللجوء إلى بريطانيا. ومؤخراً قال مايكل هوارد وزير الداخلية آنذاك إن تخقيقاً أجراه العاملون معه أسفر عن فرض أمر حظر عليه. وفي يناير 1996، أرسلت وزارة الداخلية خطاباً لبن لادن تذكر فيه أنه سيواجه "الطرد من المملكة على أساس ان وجودك هنا لن يحقق المصلحة العامة". والمفترض أن منح حق اللجوء لبن لادن كان سيمثل خطوة أبعد من اللازم بالنسبة للبريطانيين في ضوء حاجتهم إلى اعتبارهم ساعين لرضا السعودية.

لم يكن تفجير السفارتين الأمريكيتيين في 1998 هو الإعتداء الوحشي الإرهابي الوحيد الذي خطط له بن لادن، أو المقربون منه خلال الفترة التي كانت لجنة الشورى والإصلاح تتخذ من لندن مقراً لها. ففي أواخر 1994، حددت وكالة المخابرات المركزية بن لادن باعتباره تهديداً إرهابياً، مدركة ان حلقته الداخلية كانت تعمل عن كثب مع إدارات المخابرات السودانية التي كانت بدورها تدير عمليات إرهابية وشبه عسكرية في مصر وغيرها. ففي يونيو 1995، هاجم فريق للقاعدة السيارة الرئاسية للرئيس مبارك خلال زيارة لأديس أبابا عاصمة أثيوبيا. وفي 1996 بين تحليل سري لوكالة المخابرات المركزية أن الولايات المتحدة كانت على علم بتمويل بن لادن للمتطرفين الإسلاميين المسئولين عن محاولة تفجير مائة جندي أمريكي في عدن في ديسمبر 1992، وأنه يجري الأموال على المتطرفين المصريين لشراء الأسلحة ويغدق الأموال على "ثلاثة معسكرات إرهابية على الأقل في شمالي السودان. وبعد انتقال بن لادن إلى أفغانستان، أقام معسكرات تدرب على الإرهاب هناك تحت حماية طالبان. ويعصب الإقتناع بأن المخابرات البريطانية لم تكن هي أيضاً على علم بأنشطة بن لادن خلال الفترة التي تغاضت فيها عن قاعدته في لندن.

وعلى النقيض من تسامح بريطانيا مع لجنة الشورى والإصلاح وحركة الإصلاح الإسلامي في الجزيرة العربية، فإنها كرست معاملة مختلفة لقائد مجموعة سعودية أخرى معارضة في لندن هو محمد المصري، وهو لاجئ من السعودية أسس في 1994 لجنة الدفاع عن الحقوق المشروعة. وبحلول أوائل 1995، كانت الحكومة السعودية تحتد بقوة لدى هواتيهول بشان محاولات المصري تدمير النظام السعودي، وهددت بإلغاء صفقات السلاح إذا تقاعست الحكومة عن اتخاذ إجراء ضده. ونظراً للمصالح الكبرى المتضمنة، ألقى دوجلاس هيرد وزير الخارجية وجون ميجور رئيس الوزراء خطابين في أبريل ومايو 1995، كان من الواضح أنهما موجهان للمصري جاء فيهما أن المنشقين الإسلاميين، "غير مرحب بهم في لندن لأقصى حد". وفي شهر ديسمبر التالي، اتخذت هوايتهول خطوة غير مسبوقة بإصدار أمر طرد المصري وحاولت إرساله لأي مكان يمكن فيه إقناع السلطات المحلية بذلك، ليستقر في جزيرة دومنيك في الكاريبي والتي زادت بريطانيا معونتها لها أربع مرات كإغراء، وبذلك أعطت بريطانيا الأولوية لصادرات السلاح إلى السعودية. بيد ان المحاكم البريطانية قضت بأن الطرد غير قانوني، وأن الحكومة فشلت في أن تثبت أن المصري لن يتعرض للخطر بعد إبعاده. وحسبما قال ربوبرت باير وهو ضابط سابق في المخابرات المركزية، فإن السعوديين كانوا وراء محاولتين لإغتيال المصري على الأقل، وليس من الواضح ما إذا كان قد تم في بريطانيا أو في مكان آخر.

وفسرت الجارديان خطابي ميجور وهيرد بأنهما إشارة إلى أن موقف الحكومة إزاء المنشقين الإسلاميين طفق يتشدد، وعجل به ضغط الجكومات العربية على بريطانيا للتضييق عليهم. ومع ذلك، فإن الإجراءات الحكومية العربية اقتصرت على المصري إلى حد كبير، ترضية للسعوديين كما يبدو، في حين أن منشقين آخرين، مثل أتباع بن لادن، كان يسمح لهم بأن يمضوا فيما يعملونه بحرية حتى سبتمبر 1998. إذ كان من الواضح أنهم يعملون برضا ضمني من السلطات البريطانية، وكان السبب الأرجح في ذلك هو أنهم كانوا يعتبرون مفيدين بالنسبة للبريطانيين، وذلك يتفق مع سجلات التاريخ.

الفصل الحادي عشر - موجة باكستان العارمة تجتاح آسيا الوسطى

في اوائل التسعينيات لم تكن السعودية وحدها هي التي تدعم صعود الجماعات المتأسلمة المتطرفة التي انبثقت من حرب أفغانستان. كما ام تنته عمليات باكستان السرية بوفاة الجنرال ضياء الذي قتل في تحطم طائرة غامض في 1988، وعودة الحكومة المدنية التي شكلها حزب الشعب الباكستاني بقيادة بنظير بوتو (1988-1990 و 93-1996) ورابطة نواز شريف الإسلامية (1990-1993). بل بالأحرى أن إسلام أباد أضطلعت بموجة جديدة من العمليات باستخدام مجاهدين باكستانيين وأفغان وغيرهم من أهل السنة لتحقيق أهداف سياستها الخارجية، في كشمير وعبر آسيا الوسطى على حد سواء – وكانت تلك اندفاعة كبيرة لا زلنا نواجه عواقبها.

وإضافة لذلك، سلحت بريطانيا الجيش الباكستاني ودربته في وقت كانت تعمق فيه العلاقات التجارية مع هذا البلد. ولم تغمض لندن عينيها عن الإندفاعة الباكستانية فحسب، بل نفذت عمليات سرية خاصة بها، ناصبة عينيها على احتياطيات النفط الجديدة في منطقة آسيا الوسطى. ومثلما راعت بريطانيا المتطرفين الإسلاميين لزعزعة النظام السوفيتي في الماضي، فإن مساندة باكستان حينذاك لهذه القوى اعتبرت مفيدة بالنسبة لبريطانيا في التصدي للحكومات الشيوعية التي بزغت بعد انهيار الإمبراطورية السوفيتية، ولتقليل النفوذ الروسي في المنقطة. وتواكب وصول موجة باكستان العارمة إلى آسيا الوسطى مع الجهاد الجديد في البوسنة من 1992، الذي ساندته باكستان والسعودية وإيران وكذلك بريطانيا والولايات المتحدة، كما سنرى. وشكلت هذه الوقائع المتزامنة موج ثانية من تطور الإرهاب العالمي بعد الموجة الأولى في أفغانستان في العقد السابق.

كشمير ورد الفعل البريطاني

استمر المتطوعون المسلمون للجهاد في التدفق إلى باكستان وأفغانستان، حتى بعد الإنسحاب من أفغانستان في 1989. وطوال أوائل التسعينيات، درب جهاز المخابرات الباكستاني نحو 20 ألف متطوع مجاهد في مدرسة خاصة للتدريب في شمال بيشاور، وهي مدينة تقع شمال باكستان بالقرب من أفغانستان كانت قد أصبحت مقراً لأعداد لا تحصى من الأفغان العرب بعد نشوب الحرب في 1979، وكانت مركز التنظيم الأول للمجاهدين. وكان السياف هو مؤسس المدرسة، وكان قائداً للمجاهدين موالياً للسعوديين خلال الحرب الأفغانية، وكانت السعودية وأسامة بن لادن هما الممولين الأساسيين للمدرسة. كما استمرت أجهزة المخابرات الباكستانية تدير بعض معسكرات التدريب الأفغانية، ومولت التدريب الذي كان يقوم به قائد آخر للمجاهدين، هو قلب الدين حكمتيار لمناضلي حركة المجاهدين، وجماعة عسكر الطيبة. ومن هذه البنية الأساسية للإرهاب ظهرت طالبان بعد وقت قليل وهي التي اعتمد عليها بن لادن بعد عودته إلى باكستان في 1996.

وكانت رسالة جهاز المخابرات الباكستاني التي نذر نفسه لها هي أن يضع تحت سيطرته ولاية جامو وكشمير الهندية – وتضم أغلبية من المسلمين وكانت موضع نزاع وحرب بين البلدين منذ التقسيم في 1948 – وتوحيدها مع كشمير التي تسيطر عليها باكستان (أزاد كشمير). كان قد تم تخزين كثير من الأسلحة التي زودت بها الولايات المتحدة جهاز المخابرات الباكستاني في الثمانينيات، وأصبحت حينذاك توزع على متمردين في كشمير ممن تدربوا في معسكراته في أفغانستان. وبحلول 1993، ورد أن جهاز المخابرات الباكستاني كان يدير ما يربو على 30 معسكراً عسكرياً لشباب كشمير في أزاد كشمير، وأنه درب نحو 20 ألف مناضل هناك. وتصاعد التسلل خلال رئاسة بنظير بوتو الأولى للوزارة وانطوى على شن هجمات على أهداف عسكرية هندية وحملة اغتيالات ضد قادة كشمير المدنيين الذين عارضوا تصاعد الجهاد. ويشير بعض المحللين إلى أنه عقب نهاية الحرب الأفغانية، حاول جهاز المخابرات الباكستاني أيضاً استخدام بن لادن للجهاد في كشمير.

وقد تذكرت بنظير بوتو فيما بعد أن ضباط جهاز المخابرات أخبروها في ذلك الوقت أنهم لا يستطيعون خوض حرب سرية بالكشميريين وحدهم، حيث إنهم لم يكونوا أكفاً بالقدر الكافي، وأنهم يحتاجون إلى مجاهدين أجانب. وبحلول 1995، كانت القوات الباكستانية الأفغانية قد دربت أيضاً 10 آلاف مجاهد أجنبي على الأقل، إضافة إلى الباكستانيين. وحسب أحد التقديرات، فإنه بنهاية العقد كانت المؤسسة العسكرية الباكستانية قد ساعدت في تدريب 60 ألف مجاهد للحرب في كشمير أو أفغانستان. ويذكر تقرير لوكالة المخابرات المركزية رفعت عنه السرية مؤخراً أن جهاز المخابرات الباكستانية كان يمول حركة المجاهدين، التي كانت قد غيرت اسمها حينذاك إلى حركة الأنصار، بما يصل إلى 30-60 ألف دولار شهرياً. وقد وصفت حركة الأنصار بانها "منظمة إسلامية متطرفة تدعهما باكستان في حربها بالنيابة عنها ضد القوات الهندية في كشمير"، وأنها "تستخدم . .. بصورة متزايدة تكتيكات إرهابية ضد المتسغربين في هجمات عشوائية على المدنيين".

وطوال أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، كانت اللازمة المستمرة التي يكررها الوزراء البريطانيون وهي أن العلاقات بين بريطانيا وباكستان كانت "ممتازة ووثيقة وودية". وتم إغماض العينين عن أعمال باكستان في كشمير وأفغانستان على حد سواء. ففي 1989، أخبر السير جرفلاي هوى وزير خارجية تاتشر مجلس العموم بان حكومة بوتو في باكستان "لا تريج شيئاً أفضل من أن ترى الظروف اللازمة وقد توافرت في أفغانستان لتمكين ملايين اللاجئين من العودة لبلدانهم الأصلية، وأنها تدرك هي وبلدها أهمية إقامة حكومة عريضة القاعدة في أفغانستان تمثل حقاً شعب أفغانستان". حدث هذا في وقت كانت باكستان تحول فيه المعسكرات الإرهابية الأفغانية إلى منصات وثوب تصل بها موجة المجاهدين العارمة إلى كشمير.

لم يتغير شئ في ظل جون ميجور الأشيب، الذي تولى رئاسة الوزارة بعد استقالة تاتشر في نوفمبر 1990. واستمر المسئولون البريطانيون يرفضون ادعاءات الهند عن تورط باكستان في تدريب المجاهدين الذين يقصجون كشمير. وكان تلخيص مارك لينوكس - بويد وزير ال دولة في الخارجية للموقف في يوليو 1991 نموذجياً، حيث إنه أشار بحياد إلى "ادعاءات الهند وإنكار باكستان، حول أن متطرفين كشميريين يتلقون الدعم من باكستان بالتدريب وإمدادات الأسلحة". بيد أ، جون ميجور قال عندما ناقش بنفسه مسألة كشمير مع نظيره الباكستاني نواز شريف في يونيو 1992، "لقد أوضحت قلقنا بشان تدخل مناضلين في باكستان في كشمير" – لكن ذلك كان هو المدى الذي يذهب إليه أ] بيان، مع عدم ذكر الدعم الباكستاني للمناضلين. وفي الوقت نفسه، عززت لندن علاقاتها العسكرية والتجارية مع إسلام أباد.

وكان السبب الجوهري لذلك هو أن باكستان كانت تعتبر في أواخر الثمانينيات سوقاً ضخمة للبضائع البريطانية، بما فيها الأسلحة. فقد وقعت حكومة تاتشر سوقاً ضخمة للبضائع البريطانية، بما فيها الأسلحة. فقد وقعت حكومة تاتشر مذكرة تفاهم مع نظام ضياء في 1988 إلى يناير 1993، وتم الإبقاء على تفاصيلها سراً. وبحلول 1994، كانت بريطانيا قد باعت لباكستان ست فرقاطات بحرية بمبلغ لم يكشف عنه، في خضم مناقشات حول بيع دبابات تشيفتن. وقام البريطانيون بتدريب ضباط الجيش الباكستاني إما في بريطانيا أو في باكستان طوال أوائل التسعينيات وما بعدها – في حين كانت هذه القوات تكثف رعايتها للجهاد في كشمير. وكانت باكستان تعتبر على نحو أعرض "هدفاً خاصاً لجهودنا في ترويج التجارة، وفيما بين 1998 و1993 زادت التجارة البريطانية مع باكستان بنسبة 10-12 في المائة سنوياً.

وبحلول منتصف التسعينيات، كانت بريطانيا ثاني أكبر مستثمر أجنبي في باكستان، التي تلقت ثالث أضخم برنامج للمعونة البريطانية في آسيا.

وأكمل تقاعس بريطانيا عن مواحهة الإرهاب الذي ترعاه باسكتان، ودعمها الأساسي لإسلام أباد، تسليح جيشها وتدريبه، مما كانت له عواقب وخيمة في كشمير وما وراءها. وانضم آلاف من البريطانيين من أصل باكستاني للجهاد في كشمير منذ اوائل التسعينيات، وبحلول أوائل 2001، كانت مصادر أمنية تقول إن نحو 900 بريطاني كانوا يزورون كشمير من أجل تلقي التدريب العسكري في كل عام. وخضع كثيرون منهم، إلى جانب أهالي كشمير، لتدريب عسكري في معسكرات حركة الأنصار والعسكر الطيبة. وكان بريطاني آخر جندته هذه الحركة في 1994 هو محمد بلال وهوطالب ولد في برمنجهام، وأصبح في ديسمبر 2000 أول مفجر قنابل انتحاري بريطاني، عندما اندفع بسيارة محملة بالقنابل إلى مقر قيادة الجيش الهندي في مدينة سارينجار في كشمير، فقتل ستة جنود.

وكان عمر سعيد الشيخ بريطانياً آخر شارك في الجهاد في كشمير، وهو طالب سابق في كلية لندن لعلم الإقتصاد، جندته حركة الأنصار في 1993. وهناك ادعاء بأنه تلقى في أواخر هذا العام تدريباً عسكرياً في معسكر خالد ابن الوليد في أفغانستان، والتحق بدورة خاصة من سبتمبر إلى ديسمبر نظمها فريق للخدمات الخاصة من الجيش الباكستاني. وكانت هذه الدورة تدرس المراقبة، وتقنيات التخفي والإستجواب، وكذلك استخدام مسدسات الهجوم ومنصات إطلاق الصواريخ. وفي نهاية الدورة، زار المعسكر الهجوم ومنصات إطلاق الصواريخ. وفي نهاية الدورة، زار المعسكر كبار قادة حركة الأنصار، ومنهم القائد مولانا مسعود أزهر. وعندما أسرت القوات الهندية هذا الأخير في كشمير في 1994، فاتح قادة حركة الأنصار سعيد الشيخ في المساعدة في تأمين إطلاق سراح ازهر، ومن ثم زار الشيخ الهند للترتيب لإختطاف أ{بعة بريطانيين وأمريكي، للمطالبة بإطلاق سراح أزهر، بيد أن الشرطة اعتقلته وامضى السنوات الخمس التالية في سجن هندي.

ولقصة الشيخ دلالة خاصة حيث إنه دارت اتهامات بانه عندما كان طالباً في لندن في 1992، جندته المخابرات الخارجية البريطانية عميلاً في حرب البوسنة، كما سنرى في الفصل التالي. وإن صدق هذا، تكون هناك أسباب محددة لتجاهل بريطانيا لدعم الشيخ لعمليات حركة الأنصار في كشمير. وحسبما قال ب. رامان، وهو ضابط مخابرات هندي سابق، فإن المخابرات البريطانية كانت تغمض عينيها بصفة عامة عن البريطانيين من أصل باكستاني الذين ينضمون للجهاد في كشمير. "كانت المخابرات البريطانية على علم بالأعداد من الجالية الباكستانية التي تذهب إلى باكستان للتدريب لكنها أغمضت عينيها عن ذلك" حيث إن المستهدفين هنود وليسوا بريطانيين. واتبعت أجهزة المخابرات فيماب عد سياسة مماثلة لرصد مفجري قنابل 7 يوليو، بعواقبها المفجعة.

وخلال التسعينيات، تحولت بعض الجماعات التي تعمل في كشمير بدعم من جهاز المخابرات الباكستاني إلى الإرهاب في اماكن مثل طاجيكستان والبوسنة والشيشان والفلبين. ووسعت حركة أنصار محور تركيزها ومدته من كشمير وأفغانستان، فشاركت في حرب البوسنة من 1992، واختطفت رعايا بريطانيين وأمريكيين في نيودلهي في 1994، وتورطت في خطف أشخاص من الغرب في كشمير في العام التالي. كما أقامت حركة الأنصار شبكة من النشطاء في الولايات المتحدة وبدأت في جمع الأموال من أعضاء الجالية الإسلامية في بريطانيا.

وفي ذلك الوقت، مدت المؤسسة العسكرية الباكستانية ومجتمع المخابرات الباكستانية أبصارها لهدف آخر فيما وارء كشمير بعدياً – آسيا الوسطى.

انقلابات بريطانية للغاية

كانت استراتيجية باكستان لاسترداد كشمير جزءاً من حملة أسوع لممارسة النفوذ على طريق الحرير في آسيا الوسطى الممتد إلى الصين، وهو ما سيفيد البلاد اقتصادياً ويمكنها من العمل كقوة استراتيجية بين الصين وإيران. وسرعان ما انخرطت في عمليات سرية في طاجيكستان وأوزبكستان إلى الشمال من باكستان، وجمهورية الشيشان إلى الغرب منها. وبحلول 194، كانت المؤسسة العسكرية في ظل بنظير بوتو تدرب مئات من الشيشانيين والأوزبك والطاجيك في معسكرات في أفغانستان على تقنيات حرب العصابات، بهدف تصدير الثورة الإسلامية في المنطقة وتقليص النفوذ الروسي.

لم يكن هناك ببساطة أي انتقاد بريطاني للموجة العامة الباكستانية في السجلات العامة، في تناقض صاروخ مع الإدانات المنتظمة لإيران في ظل آية الله رافسنجاني، وهي عدو رسمي، لرعايتها الإرهاب في ذلك الوقت. كانت مغامرات باكستان المتأسلمة مفيدة في التعجيل بتحطيم الإتحاد السوفيتي والتصدي لحلفائه من الحكومات الشيوعية التي قامت في رابطة الدول المستقلة، التي أعلنت في ديسمبر 1991، وفي روسيا نفسها على حد سواء. وكانت الجائزة الأساسية التي تدور في الحرب حولها هي احتياطات النفط والغاز الهائلة في المنطقة – خاصة في حوض بحر قزوين والبلدان المحيطة بها في أذربيجان وتركمستان وكازاخستان – التي ذكرت شركة النفط البريطانية، برتيش بتروليم فيما بعد أنها كانت على نطاق مماثل للاحتياطيات الموجودة في بحر الشمال البريطاني "ومن ثم، فإن لها أهمية عالمية كبيرة". كانت المنطقة بالنسبة إلى القوى الإقليمية وبريطانيا والولايات المتحدة ميداناً واعداً جديداً غنياً بالموارد وجاهزاً لكي تستغله الشركات الأجنبية. وكان تنافس القوى الكبرى هذا بمثابة إعادة للمبارة الكبرى التي دارت في القرن التاسع عشر، وكان من المنظور البريطاني، امتداد للحرب الإفغانية لدحر نفوذ موسكو في المنطقة. ومرة أخرى، كانت القوى المتأسلمة مفيدة مقوات صدام تساعد في تأمين الجائزة.

وفيما بين 1993و 1996، افتتحت بريطانيا ست سفارات جديدة في آسيا الوسطى، كان القصد منها هو "تعزيز المصالح البريطانية، ومساعدة الشركات البريطانية على الظفر بأعمال جديدة وتشجيغ تنمية اقتصادات مستفرة تستند إلى السوق، كما ذكر اللورد تشيشام وزير الدولة بالخارجية. وبحلول نهاية العقد، كان لشركة بريتش بتروليم حصة كبرى في مشروعات النفط الكبيرة في أذربيجان وكازاخستان، في حين كان لشركة بريطانية أخرى هو مومنت مركز مهيمن في تركمنستان. وكان على شركة بريتش بتروليم أن تشكر وزارة الخارجية على "تأمين مراكزها التجارية في هذه البلدان".

وقد بدأت اندفاعة باكستان الجديدة إلى آسيا الوسطى فيما وراء كشمير في طاجيكستان في أواخر 1990. إذ قام مئات من قوات المجاهدين الذين دربتهم باكستان، بغارات عبر الحدود انطلاقاً من أفغانستان من النوع الذي روجت له وكالة المخابرات المركزية وجهاز المخابرات الخارجية في منتصف الثمانينيات، بقيادة أحمد شاه مسعود وقلب الدين حكمتيار، وكلاهما استمر في تلقي معونة المخابرات المركزية حتى 1992، إلى جانب أموال من السعودية. وكان الهدف الأساسي من هذه الغارات هو تشجيع إثارة القلاقل ضد الحكومة الشيوعية التي لا كانت قائمة، سوفيت الطاجيك الأعلى في أيام الإحتضار الأخيرة للإتحاد السوفيتي. وبعد أن أعلن ال نظام الطاجيكي الإستقلال في 1991، وأبقى على نفسه في السلطة عقب انهيار الإتحاد السوفيتي أواخر ذلك العام، نشبت حرب أهعلية بين تحالف من الفصائل الإسلامية والعلمانية ضد الحكومة الشيوعية، وبحلول وقت توقيع اتفاقية سلام في 1997، كان قد قتل 20 ألف وتحطم الإقتصاد.

وفي منتصف التسعينيات، كان جهاز المخابرات الباكستاي يدعم أيضاً المتمردين المتأسلمين في حركة العدالة في أوزبكستان، التي كانت تتلقى الأموال من السعودية وبعض دول الخليج. كان جمعة نامانجاني هو الذي أسس حركة العدالة، وهو مظلي سوفيتي سابق عاد من الخدمة في أفغانستان وقد تحول إلى الوهابية. وحظر الحزب، الرئيس الشيوعي إسلام كريموف الذي احتفظ بالسلطة من خلال انتخابات تم التلاعب بها ومن خلال القمع وهرب نامانجاني إلى طاجيكستان. وفي 1998، أسس نامانجاني حركة أوزباكستان الإسلامية التي أعلنت الجهاد في البلاد وشكلت شبكة تمتد عبر عدة جمهوريات في آسيا الوسطى. ويقال إن الحركة تلقت مساعدة عسكرية ومالية من جهاز المخابرات الباكستاني، وأن السعودية وطالبان كانا من بين آخرين أغدقوا عليها الأموال. وبدات في شن ضربات إرهابية في أوزباكستان في 1999 من قواعد في أفغانستان وطاجيكستان المجاورتين.

وكانت الشيشان إقليماً آخر تعرض للهجمات التي تشرف عليها باكستان. وكانت القاعدة قد بدأت في 1994 ترسل مقاتلين إلى الشيشان من قواعد أفغانستن. وفي أبريل من ذلك العام، بدأ جهاز المخابرات الباكستاني يدرب قائداَ عسكرياً شيشانياً شاباً، هو شامل باسييف، وغيره من المجاهدين الشيشان، في معسكر في أفغانستان يديره حكمتيار. وبعد التخرج، تم إرسال باسييف وشيشانيين آخرين لمعسكر آخر في باكستان للخضوع للتدريب على تكتيكات حرب العصابات، حيث التقى باسييف بكثير من جنرالات جهاز المخابرات الباكستاني. وبدأ جهاد باسييف جدياً في مطلع 1995 عندما تم إرسال كتيبة من المجاهدين الأفغان كانت متمركزة في باكستان لخوض المعركة في الشيشان. واحتفظ جهاز المخابرات الباكستاني بالسيطرة التكاكتيكية على هذه القوات وساعده في تحويل ما كان قد بدأ في مطلع التسعينيات باعتباره نضالاً معادياً للسوفيت من أجل تقرير المصير إلى جهاد إسلامي. وفي 1996، قرر جهاز المخابرات الباكستاني وبن لادن تمويل مئات أخرى من المجاهدين وتسليحهم لإرسالهم إلى الشيشيان، وبحلول 1998، كان يتم تدريب عدة مئات من الشيشان في معسكرات يشرف عليها جهاز المخابرات الباكستاني في أفغانستان، في حين كان يتم تدريب آخرين في باكستان على أيدي جهاز المخابرات الباكستاني "على الإرهاب المتقن وحرب الحضر".

وإلى جانب هذه العمليات التي كان يقوم بها حليف بريطانيا الرئيسي، كان هناك بلد آخر لعبت فيه بريطانيا جوراً مباشراً جداً في زعزعة الإستقرار إلى جانب القوى المتأسلمة هو أذربيجان، وهو بلد كان قد أخذ يخرج عن السيطرة السوفيتية ويملك قدراً كبيراً من موارد منطقة بحر قزوين غير المستغلة من النفط والغاز. وحدد صناع السياسة البريطانيون لأنفسهم هدفاً هو الحصول على شريحة كبيرة من الكعكة. ففي بداية التسعينياتـ ساعدت الحكومة البريطانية في انهمار السلحة على الآذريين وشجعت القيام بانقلابين لإقامة مناخ أعمال موال للغرب في البلاد، بغية الحصول على رضا الحكومة الآذرية وتأمين صفقة نفط ضخمة.

ومن الأدلة التي ظهرت، يتضح أن مجموعة من الأمريكيين هي التي بدأت العملية السرية في أذربيجان، تماماً عندما كانت الجمهورية السوفيتية تعلن استقلالها عن الإتحاد السوفيتي في أواخر 1991. ففي ذلك الوقتن أنشأت شركة أمريكية يديرها ثلاثة ممن عملوا ضباطاً بالقوات الجوية لهم صلات بوكالة المخابرات المركزية وسجل ماض من التورط في العمليات السرية، مكتباً في ا لعاصمة الآذرية، باكو. وقد فاتحت الحكومة الآذرية هذه الشركة، التي كانت تسمى ميجا أويل، لتجنيد مرتزقة وتدريبهم للمساعدة في خوض حربها في منطقة ناجورنو كارباخ المتنازع عليها في الجزء الغربي من أذربيجان. وعندئذ بدأ ما أصبح عملية امتدت سنتين لتجنيد ألفي مجاهد أفغاني وشراء الأسلحة لهم، وقد تم تجنيد كثيرين منهم في بيشاور في لاكستان، بتقديم ألفي دولاؤ لكل منهم. وبلغت قيمة برنامج شراء الأسلحة ما يعادل 20 مليون دولار، في حين قدم التدريب ضباط متقاعدون من القوات الخاصة الأمريكية.

وفي ديسمبر 1991، أجري استفتاء في ناجورنو كارباخ، وهي منطقة مسيحية في الأساس، أسفر عن إعلان غالبية السكان من الأرمن الإستقلال عن أذربيجان التي يهيمن عليها المسلمون أساساً، كما دعت هذه الأغلبية إلى الوحدة مع أرمينيا المجاورة، التي كانت تساندها روسيا. وانفجرت حرب كاملة الجوانب في 1992، عندما شنت أذربيجان هجوماً لإستعادة السيطرة على الإقليم، وخضع كل من أذربيجان وأرمينيا لحظر دولي على توريج السلاح لهما. وحسبما تقول المخابرات الروسية، فقد دخل نحو 1500 من قدامى المحاربين الأفغان أذربيجان في خرف 1993، وارتفع ععدهم إلى 2500 في العالم التالي. وكان بعض من هؤلاء المجاهدين قد جندهم قلب الدين حكمتيار الذي كان لا يزال حليفاً لبن لادن، الذي أنشأ بدوره مكتاً في باكو في نحو هذا الوقت استخدم قاعدة للعمليات الجهادية في داغستان والشيشان. وشارك المقاتلون الأفغان في ناجورنو كاراباخ في معارك شتى ضد الأرمن، وأوقعوا بهم خسائر فادحة. يبد أن هذه الحرب كان كارثة على أذربيجان. ففي الوقت الذي تم فيه فرض وقف إطلاق النار في منتصف 1994، لم تكن أرمينيا في استولت على ناجورنو كارباخ فقط لكن استولت على رقاع شاسعة من الأرض الآذرية، في حين تم قتل 3000 شخص ونزح ما يربو على نصف المليون من ديارهم. وتم حل فرقة المجاهدين الآذريين، وانهماك مقاتليها الباقين في أعمال التخريب والإرهاب.

كذلك كانت الحكومة البريطانية تساعد سراً في تسليح أذربيجان. وقد أوردت صحيفة الإندبندنت في يناير 1994 أن لندن "قدمت دعماً ضمنياً لمخطط غير قانوني لتزويد أذربيجان بالمساندة العسكرية في حربها مع أرمينيا" وقد زعموا أن نبيلاً بريطانيا، هو اللورد أرسكين أوف بريك، الذي تواتر أنه ضابط مخابرات، كان جزءاً من اتحاد من شركات الأعمال البريطانية التركية تفاوض سراً مع الآذريين لتزويد الحكومة بالسلاح، وبالمرتزقة والمدربين البريطانيين. وكانت قيمة الصفقة التي تم التوصل إليها في 1993، 150 مليون إسترليني سنوياً، يدفعها الآذريون في شكل نفط أساساً.

وعندما وجهت الأسئلة في البرلمان عن التقرير الذي نشرته الإندبندنت، رد وزير الخارجية دوجلاس هوج أولاً بأنه لا يعلم بأي مناقشات جرت مع الشركات البريطانية بشأن توريد الأسلحة، مناقضاً تأكيد أرسكين بأنه ناقش هذا مع وزارة الخارجية في عام 1993. ومه ذلك، فبعد أسبوعين، أخبر هوج البرلمان في فبراير 1994 "بأن التحقيقات التي أجريت حتى الآن تبين أن الإدعاء بأن محاولات لتوريد الأسلحة والمرتزقة قد يكون صادقاً، لكن ليس لدينا حتىالآن دليل على أنها نجحت". وأضاف أنه "إذا توصلنا إلى دليل عن انتهاك القانون فإن الأمر سيوضع بين يدي الجمارك أو الشرطة. وبعد ذلك بشهرين، عكس هوج موقفه ذاكراً أن المسئولين لم يجدوا "أي أدلة تؤيد الإدعاء بقيام المملكة المتحدة بتجنيد مرتزقة لحساب الحكومة الأذربيجانية. ولم يجر أي ذكر للسلاح على الإطلاق. وكان هذا جيداً بما يكفي بالنسبة للبرلمان، ولم يسمع شئ آخر عن الموضوع.

لم يكن هذا هو التورط السري البريطاني الوحيد في أذربيجان، إذ يتركز دانب آخر من القصة على انقلاب جرى في يونيو 1993 وأطاح بأبي الغاز الشيبي أول قائد أذربيجاني غير شيوعي انتخب بنسبة 60 في المائة من الأصوات في يونيو 1992. وقد لاقى الشيبي هزائم عسكرية ثقيلة في ناجورنو كاراباخ، مما أدى مقترناً بسوء إدارة الإقتصاد إلى تفجير تمرج في منتصف 1993، وتم انقلاب يونيو بقيادة عسكري تؤيده موسكو، وفي أعقابه ظهر الرئيس الجديد ممثلاً في شخص حيدر علييف، وهو من رؤساء هيئة المخابرات السوفيتية السابقة، الكي جي بي، كان عضواً في المكتب السياسي في عهد بريجينيف. وفي عشية الإنقلاب، أخبر جون ميجور رئيس الوزراء البرلمان بأنه "ليس هناك أدنى شك في أنه توجد أسواق ضخمة تنفتح في هذا الجزء من العالم أذربيجان والتي أعتقد انها ستكون مرضية بالنسبة للملكة الممتحدة، شرط أن تكون مستعدين لإبداء الإهتمام بها في مرحلة مبكرة".

والواقع أن هناك ادعاءات بأن جهاز المخابرات الخارجية لعب دوراً في انقلاب يونيو 1993 "لضمان قيام نظام أكثر موالاة للغرب ومولاة لمشروعات الأعمال في البلاد"، وأن التآمر السابق أسهم هو أيضاً في انقلاب مايو 1992 الذي أطيح فيه بحكومة شيوعية، على أيدي المؤسسة العسكرية وحزب الجبهة الشعبية الأذربيجاني بقيادة الشيبي، والذي أفضى لإنتخابات أوصلت الشيبي إلى السلطة. وذكر تقرير للمخابرات التركية عن انقلاب 1993، نشرته صنداي تايمز فيما بعد، أن شركات النفط البريطانية والأمريكية كانت أيضاً وراء الإنقلاب وأن ممثلي الشركات عرضوا تزويد الحكومة الجديدة بالمعدات العسكرية في صفقة لتقديم الأسلحة مقابل النفط. وقد أنكرت شركة بريتش بتروليم أي تورط لكنها قالت إن بعض ممثلي الشركات الأخرى ناقشوا مسألة توريد السلاح.

ومرة أخرى، كانت السياسة البريطانية تستند إلى النفعية السياسية الصرفة، ووجدت لندن نفسها إلى الجانب نفسه مثلما فعلت مع المجاهدين – أي نظام ملائم، سواء كانت تقوده شخصية ديمقراطية معادية للشيوعيين مثل الشيبي في 1993 أو طاغية شيوعي سابق مثل علييف في 1993، ما دام أنه يشجع مصالح الأعمال البريطانية.

وفور تسلمة السلطة، أقام علييف نظاماً استبدادياً أصبح نموذجاً للفساد، وقمع المنشقين السياسيين. كما سعى النظام إلى تشجيع الإستثمار الأجنبي وتزايد تحمسه لشركات النفط الغربية. وبحلول ديسمبر 1993، كان الوزارء البريطانيون يقولون إن العلاقات مع أذربيجان كانت "في خير حال" وأن "الفرص التجارية . . . خاصة في قطاع النفط، كبيرة ومهمة بالنسبة لنا". وفي سبتمبر 1994، منح علييف لشركة بريتش بتروليوم الدور القيادي في اتحاد من الشركات الغربية (بما في ذلك الشركتان الأمريكيتان أموكو وأونوكال) أدار ثلاثة حقول عملاقة في البلاد – في صفقة بلغت قيمتها 5 مليارات إسترليني. وكانت الحكومة البريطانية قد ناورت كثيراً للوصول لهذه النتيجة، فقبل انقلاب يونيو 1993، كان المسئولون البريطانيون يناصرون بلا هوادة حصول بريتش بتروليوم على عقود النفط الآذرية، وبشهور طويلة كانت البعثة الديبلوماسية لبريطانيا في أذربيجان تعمل من مكاتب بريتش بتروليوم". وفي أبريل 1995، في الوقت الذي وقع فيه عقد النفط مع بريتش بتروليوم، أخبر دوجلاس هوج البرلمان بأننا "نحظى بعلاقات رائعة مع أذربيجان".

وطوال التسعينيات، جرى مزيد من المناقشات بشأن خط أنابيب جديد يبلغ طوله 1700 كيلومتراً يمتد من أذربيجان إلى ميناء جيهان التركي، عن طريق اتحاد شركات تقوده بريتش بتروليوم يتولى إدارة المشروع الذي تم الإتفاق عليه بنهاية العقد. وبحلول 2009، كان خط أنابيب يضخ ما يربو على 700 ألف برميل من النفط يومياً.

تقديم المساعدة لطالبان

مضت رعاية باكستان للمجاهدين الإسلاميين لأقصى مدى في أفغانستان، حيث كان جهاز المخابرات الباكستاني والسعودية يمولان بداية من 1995، حركة طالبان. ومكنت هذه المساندة طالبان من كسب الحرب الأهلية الوحشية التي دارت بين فصائل المجاهدين والتي أعقبت انهيار الحكومة الموالية للسوفيت في 1992، وأدت في النهاية إلى سيطرتها على كابول في 1996.

كانت طالبان الأولى مكونة من طلاب المدارس الدينية الباكستانية، خاصة التي تديرها جمعية علماء الإسلام. وقد كتب الجنرال برفيز مشرف فيما بعد في سيرته الذاتية أن "طالبان لم تكن ظاهرة جديدة نشأت بعد السوفيت. فقد كانوا يتعلمون على أيدي نفس المدربين في نفس الحلقات الدراسية التي أنتجت المجاهدين". وأضاف أننا "كنا نأمل في أن تحقق طالبان التي يحركها الحماس الديني المستند لمبادئ الإسلام الحقيقية، الوحدة والسلام لبلد ك ا ن قد تم تدميره". كان هذا محض هراء، فقد كانت طالبان تضم أكثر المجاهدين تطرفاً، الذين شكلتهم باكستان عامدة كقوة وكيلة تعمل نيابة عنها في أفغانستان.

وعبر آلاف من طلاب المدارس الدينية الباكستانية إلى أفغانستان في 1995 و1996، وكان الجيش الباكستاني يقدم لهم مشورة والسلاح وهم يسيطرون تدريجياً على المراكز الحصرية في أفغانستان. وضم المقاتلون كوادر من جاماعات إرهابية باكستانية شتى مثل العسكر الطيبة وحركة الأنصار، التي كانت المخابرات الباكستانية تشجعها. وقد كتبت السفارة الأمريكية في إسلام أ[اد أن حركة الأنصار كانت تدير معسكرات في أفغانستان تحت إشراف جهاز المخابرات الباكستاني. ولعب السعوديون دورهم المعهود وهو دور ممولي المشروع الأسخياء، ويعتقد أنهم حولوا مئات الملايين من الدولارات في مدفوعات مباشرة ودعم لأسعار النفط للمؤسسة العسكرية الباكستانية خلال منتصف التسعينيات، وساعدوا جهاز المخابرات الباكستاني في نباء قواته الوكيلة التي تعمل نيابة عنه في كل من أفغانستان وكشمير.

كما ساندت الولايات المتحدة طالبان في صعودها إلى السلطة اعتبرتها مصداً لإيران وقوة توقع على صفقات مجزية مه شركة النفط الأمريكية، أونوكال، التي روى قصتها محللون آخرون وليس بنا حاجة لتكرارها هنا. ولاحظ تقرير بالغ السرية لوكالة المخابرات المركزية كتب فور فوز طالبان بالسلطة في كابول في سبتمبر 1996، أن "قادة طالبان بناصرون الدولة الإسلامية المتشددة في أمور الدين" وأنهم "فرضوا الشريعة"، بما في ذلك عقوبات مثل الرمي بالحجارة وبتر الأطراف" وأنهم "نفذوا بصورة صارمة عزل النساء". لكنه تضمن أيضاً أنه "ليست هناك أدلة على أن حكومة طالبان ستكون غير ودية بانتظام تجاه مصالح الولايات المتحدة"، وأن هناك اعتقاد بأن مسئولي طالبان الذين كانت الولايات المتحدة تغدق المساعجات عليهم "يمكن أن يوفروا فرصاً لفتح الحوار حول القضايا الإقليمية". وفي الوقت نفسه، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أنها تريد أن تتعامل مع حكومة طالبان المؤقتة الجديدة في مرحلة مبكرة، لإظهار ترحيب حكومة الولايات المتحدة عن خططهم وبرامجهم وسياساتهم والتعبير عن وجهات نظر الحكومة الأمريكية بشأن مجالت لها أهمية رئيسية بالنسبة إلى استقرار الولايات المتحدة، وحقوق الإنسان، والمخدرات والإرهاب".

ورغم أن الولايات المتحدة لم تقدم أي أسلحة لطالبان، فقد قبلت سراً أن يفعل ذلك حلفاؤها، باكستان والسعودية. وفقط بعد أن ظلت طالبان في السلطة لمدة سنة، بدأت الولايات المتحدة في أواخر 1997، تتخاصم معها، ربما بسبب ضغوط داخلية على إدارة كلينتون بشأن معاملة طالبان المروعة للنساء، ورفضها في النهاية دعم مشروع شركة أونوكال وإيوائها بن لادن. وعند هذا الحد، كثفت وكالة المخابرات المركزية دعمها السري للمقاتلين المعادين لطالبان، خاصة القائد الأفغاني أحمد شاه مسعود.

وهناك معلومات قليلة في المجال العام عن موقف بريطانيا إزاء طالبان. بيد أن ما هو واضح أن لندن لم تثر مطلقاً اعتراضات عامة على رعاية باكستان لهؤلاء المجاهدين، وأنها غضت الطرف عن وصول موجة إسلام أباد العارمة إلى أفغانستان مثلما فعلت على وجه التأكيد في أماكن أخرى في المنطقة. ففي حين كان الجيش البريطاني يتعهد طالبان في 1995-1996، كانت بريطانيا تدرب ضباطه في بريطانيا وتصف هذا البلد بأنه صديق عظيم. وفور أن تولت طالبان السلطة، كان افتقار بيانات الحكومة البريطانية في البرلمان للإدانه الصريحة للنظام الجديد صارخاً. ففي اكتوبر 1996 مثلاً سئلت آن ويدكومب، وزيرة الداخلية في حكومة ميجور في أيامها النهائية، عما إذا كان استيلاء طالبان على كابول يعني حدوث تغير أساسي كاف بالنسبة للحكومة البريطانية لكي تقبل المزيد من ملتمسي اللجوء الأفغان. وكان ردها هو: لا نعتقد أن التطورات الأخيرة في أفغانستان تشكل مثل هذا التغير الأساسي في الظروف بما يبرر . . . إعلان أن هذا البلد تعرض لزعزعة كبرى للأحوال فيه. فقد كانت أفغانستان بالفعل في حالة زعزعة للأحوال فيها استمرت عدداً من السنين. وسقوط كابول في أيدي طالبان جزء من هذا النزاع المستمر طويل الأجل.

وهكذا، فإن تولي طالبان السلطة لم يكن يمثل مشكلة، فقد كانت رغبة المحافظين في إبعاد ملتمسي اللجوء، أكثر أهمية من الإعتراف بحقيقة الحكام الجدد. والواقع أن كثيرين كانوا يعتبرون طالبان عندما تولت السلطة في أفغانستان بمثابة محررين، أنهوا حرباً خبيثة طردت مئات الألوف من الأشخاص من كابول وقتلت عشرات الألوف. بيد أنهم شرعوا فوراً في تطبيق قانونهم الإسلامي المتزمت بعنف، وأغلقوا مدارس البنات وفرضوا عقوبات قاسية، مثل بتر الأطراف، مثلما ورد في تقرير وكالة المخابرات المركزية المشار إليه آنفاً، وكلها أمور لا ريب أن الحكومة البريطانية طانت على علم بها.

وفي فبراير 1997ن سئلت البارونة تشوكر وزير الدولة بالخارجية عما إذا كانت حكومة طالبان تنتهك حقوق الإنسان، فردت بأن "طالبان بصفة عامة مستمرة على ما يبدو في تطبيق قوانينها التقليدية. ونحن نواصل الضغط عليها لتأكيد الحاجة إلى احترام مبادئ ميثاق الأمم المتحدة ومعايير حقوق الإنسان المتفق عليها دولياً". وكان هذا بياناً استرضائياً بصورة غير عاجية، صدر في وقت كان من الواضح فيه أن طالبان لا تبالي قيد أنملة بأي معايير لحقوق الإنسان.

ومع انتخاب حكومة بلير في مايو 1997، لم تختلف السياسة البريطانية كثيراً في البدء. فقد أخبرت كلير شورت وزيرة التنمية الدولية الجديدة البلرمان بأن السياسة البريطانية لا تقضي بقطع المعونة المقدمة إلى المناطق التي تسيطر عليها طالبان من أفغانستان لكن "كل الأطراف ينبغي أن تعترف بالحقوق المتساوية والكرامة للرجال والنساء وأن تحميها وتشجعها". وعلى ما يبدو فإنه في أواخر 1997 او حتى في أوائل 1998 فحسب، قررت بريطانيا ألا تقدم المعونة إلا بشرط وصولها للنساء مثلهن مثل الرجال. وتواكب هذا التشدد في الموقف مع إصدار بيانات أقوى عن انتهاك طالبان لحقوق الإنسان الخاصة بالمرأة، وكان هذا يتفق مع ال تغير في سياسة الولايات المتحدة الذي حدث في زمن مماثل. إذ يبدو أن موقف بريطانيا تجاه طالبان كان يتبع القايدة الأمريكية، فقد اعتبرتها في البدء، مثلما فعلت الولايات المتحدة، قوة لتحقيق الإستقرار في أفغانستان، وأن حليفها الرئيسي، باكستان يحميها.

كان لابد وأن تجر السياسة البريطانية والأمريكية عواقب كارثية. فلم يستمر فحسب تدفق السلاح والأموال من باكستان والسعودية إلى طالبان، مما مكنها من غزو شمال البلاد في خريف 1998، بل إن بن لادن كان قد أًبح حينذاك مختفياً بصورة مستكنة في البلاد، بعد وصوله إلى جلال أباد في شرقي أفغانستان من السودان في مايو 1996، تماماً في الوقت الذي شهد استيلاء ط البان على كابول. ةفي البدء كان يحميه يونس خالص وهوواحد من قادة المجاهدين الذين كانت بريطانيا قد ساندتهم سراً قبل بضع سنوات. ويعتقد أن كلاً من باسكتان والسعودية أبرمتا حينذاك صفقات مع بن لادن. وعقب وصوله مباشرة اجتمع بن لادن بممثلين للجيش الباكستاني الذين شجعوه على مساندة طالبان مقابل جماية الحكومة الباكستانية له. وعندئذ ساعد جهاز المخابرات الباكستاني بن لادن على إقامة مقر لقيادته في إقليم نانجاهار ووافق على تزويده بالسلاح، وهي صفقة باركها السعوديون أيضاً. وحسب تقارير المخابرات الأمريكية، فإن ضباك جهاز المخابرات الباكستاني على مستوى العقداء قابلوا بن لادن أو ممثليه في خريف 1998 بغية تنسيق وصول المجاهدين المعدين لكشمير لمعسكرات التدريب في أفغانستان. واشتبهت وكالة المخابرات المركزية في أن باكستان كانت تقدم الأموال والمعدات لبن لادن كجزء من اتفاقيات تشغيل هذه المعسكرات. وفي الوقت نفسه، مضى بن لادن في تنفيذ مهمة بناء بنيته التحتية الإرهابية في أفغاستان. وقد لاحظت وكالة المخابرات بوزارة الدفاع الأمريكية في برقية رفعت عنها السرية حالياً أن "شبكة القاعدة التابعة لبن لادن كانت قادرة على التوسع في ظل الأمن الذي وفرته لها طالبان بموجب تعليمات من باكستان". ولاحظ أيضاً أن هذا المعسكر في أفغانستان بناه مقاولون باكستانيون مولهم جهاز المخابرات الباكستاني، الذي كان هو المضيف الحقيقي لذلك المرفق". ويعتقد أيضاً أن جهاز المخابرات الباكستاني قد أبلغ بن لادن بسلسلة من المحاولات الأمريكية التي استهدفت حياته في أواخر التسعينيات انتقاماً لتفجير السفارتين في شرق أفريقيا.

وفي الوقت نفسه، شهد ذلك العام، 1998، مستويات مرتفعة من التعاون العسكري البريطاني مع باكستان عبر القوات الثلاث جميعها. فقد جرى التدريب ستة عشر ضابطاً عسكرياً باكستانياً في بريطانيا، وكان للسلاح الجوي الملكي فريق اتصال مقره في باكستان، وأجرت البحرية الملكية تدريبات مع البحرية الباكستانية في المحيط الهندي. وإذا مان تأييد باكستان للإرهاب غير كاف بريطانيا مع مساندتها بمؤسستها العسكرية، كذلك لم يكن إجراؤها ست تجارب نووية في مايو 1998، الذي أعقب تجارب الهند. وأعرب روبن كوك وزير الخارجية عن فزعه لحكومة باكستان واستدعى لائماً السفير البريطاني في إسلام أباد للتشاور، ولم يتخذ أي إجراء اكثر من ذلك.

وقد زعموا أن السعوديون وافقوا هم أيضاً في 1998 على ألا يطالبوا طالبان بترحيل بن لادن إلى الولايات المتحدة مقابل أن تضمن طالبان ألا تزويد طالبان بالمساعدة المالية. بيد أن هذه السياسة تغيرت بضغط من الولايات المتحدة لضمان ترحيل بن لادن، وفي اجتماع عقد في يونيو 1998 بين تركي والملا عمر زعيم طالبان، وافق الأخير سراً على تسليم بن لادن للسعوديين لمحاكمته بتهمة الخيانة. لكن هذا أوقفه هجوم الولايات المتحدة بقذائف كروز في يونيو 1998 على معسكرات إرهابية ف يأفغانستان انتقاماً من تفجير السفارتين الأمريكيتين في شرق أفريقيا. وعندما عاد تركي إلى أفغانستان عقب الهجمات، عدل عمر عن وعده وورد أنهم اتهم تركي بالعمل رسولاً للأمريكيين. وعقب هذا، قطع السعوديون الأموال عن طالبان وعلقوا العلاقات الديبلوماسية.

وإجمالاً، فإن موجة باكستان العامة التي اجتاحت آسيا الوسطى، قد أسفرت بلا ريب عن نتائج مختلطة بالنسبة لبريطانيا. فمن ناحية، ساعدت إسلام أباد في زعزعة استقرار بعض الحكومات الشيوعية خلال تفكك الإتحاد السوفيتي وبعده، مما سهل وصول بريطانيا لموارد الطاقة الغنية في المنطقة. وإلى هذا الحد، كانت باكستان تعمل وكيلاً لسياسة الخارجية بحكم الواقع في منقطة من العالم كان لبريطانيا فيها قلة من العملاء أو مصادر القوة للنهوض بمصالحها، بسبب فترة الإظلام الطويلة التي فرضها الإتحاد السوفيتي. ومع ذلك، فمن ناحية أخرى، ساعدت باكستان في تدعيم طالبان وساعدت في إقامة معسكرات بن لادن في أفغانستان، التي هددت المصالح الغربية بصورة مباشرة، خاصة بعد تفجير السفارتين في شرق أفريقيا في 1998. لم يكن يمكن لمعسكرات طالبان ولا بن لادن أن توجد بدون رعاية باكستانية أو سعودية. وفي ضوء هذا، من الواضح ان تفجيرات 11 سبتمبر نفسها كانت نتاجاً لموجة باكستان العارمة التي اجتاحت آسيا الوسطى، وقد استفادت هذه بدورها من مساندة بريطانيا لباكستان. ويمكن إرجاع جذور تفجيرات 11 سبتمبر لأسباب كثيرة، أحدها نظرة بريطانيا قديمة العهد للمتأسلمين باعتبارهم مفيدين في تأمين أهداف سياستها الخارجية.

الفصل الثاني عشر - حرب خفية في البوسنة

في مارس 1992 أعلن إقليم البوسنة والهرسك الإستقلال عن يوغوسلافيا، مما استثار هدوماً على عاصمته سراييفو شنته المليشيات الصربية المتحالفة مع نظام سلوبودران ميلوسفتش في بلجراد. ودامت الحرب التي أعقبت ذلك ثلاث سنوات، قتل فيها 150 ألف شخص وأجبر مليونان على الفرار من ديارهم فيما أصبح يعرف على نطاق واسع ببرنامج التطهير العرقي. ووجهت انتقادات واسعة للحكومات الأوروبية، بما فيها حكومة جون ميجور، لفشلها في وقف الفظائع الوحشية، التي ارتكبتها كل الأطراف، وإن شنتها في الأساس القوات الصربية ضد طائفة مسلمي البوسنة، ومع ذلك فقد لعبت بريطانيا في الحرب دوراً سرياً مهماً، وإن كان محدوداً، بتزويد قوات مسلمي البوسنة وقوات الكروات بالسلاح وإغماض الأعين عن إمداد الولايات المتحدة لهذه القوات بالسلاح وتقديم التدريب لها. والأهم من ذلك تستر بريطانيا على نقل بعض ال مجاهدين المتأسلمين إلى البوسنة، وربما ساعدت سراً في ذلك، حيث وفد إلى هناك ما يصل على 4000 متطوع لمحاربة الصرب، وكانت القاعدة هي التي تمول المجاهدين هي والسعودية وجمعيات خيرية إسلامية شتى، في خضم موجة من التضامن في شتى أنحاء العالم الإسلامي مع محنة أشقائهم في الدين. ومع اكتساب جيل جديد من الجهاديين خبرة في المعارك وتطويرهم لشبكات جديدة، كانت هوايتهول بهذا تلعب دوراً في إثارة موجة ثالثة من عولمة الإرهاب، بعد حرب أفغانستان وموجة باكستان العارمة في آسيا الوسطى.

الجهاد في أوروبا

في أبريل 1992، بعد شهر من نشوب حرب البوسنة، استولت قوات المقاومة الأفغانية على كابول بصورة نهائية وأطاحت بنظامها الموالي للسوفيت. وفي الشهر نفسه، زار أحد قدامى المحاربين في الحرب الأفغانية وهو الشيخ عبد العزيز البوسنة، حيثأعلن نفسه أول أمير للعرب الأفغان البونسيين. ولا يعرف الكثير عن عبد العزيز، سوى أنه يعتقد أنه سعودي من أصل هندي حثه على القتال في أفغانستان عبد الله عزام وهو المنظم والناصح الرئيسي للمجاهدين الآفغان والذي قتل في انفجار قنبلة في 1989. وقد أقام عبد العزيز مقر قيادته الأول في مدينة ترافنيك في وسط البوسنة، وهي تبعد 50 ميلاص إلى الغرب من سراييفو، وأقام معسكرين آخرين للجهاد في ميهوريتشي خارج ترافنيك، وفي مدينة رينتشا، وهي أيضاً في وسط البوسنة. وقام المعسكران على أساس النموذج الأفغاني، إذ كانا يقدمان تدريباً عسكرياً وتدريباً على السلحة بصورة مكثفة وعليماً مذهبياً دينياً.

وضم المتطوعون المجاهدون البونسيون أساساً قدامى المحاربين الأفغان، في المحل الأول من أصل سعودي وباكستاني ومصري ويمني، ولحقت بهم مجموعة أصغر سناً من شباب أوروبا وشمال أفريقيا الناقمين والعاطلين، أساساً من الجزائر وتونس. وكان أحدهم هو الشيخ محمد المولود في الكويت، والذي أصبح بعد بضع سنوات العقل المفكر الرئيسي لهجمات 11 سبتمبر. وارتحل متطوعان سعوديان، هما نواف الحازمي وخالد المنضار إلى البلقان في 1995، وبعد ست سنين اختطفا طائرة الخطوط الجوية الأمريكية في رحلتها رقم 77 وصدما بها البنتاجون.

والتحق المجاهدون البوسنيون في البدء بالوحدات العسكرية النظامية البوسنية التي زودتهم بما يلزمهم، رغم أنهم كانوا عادة يعملون كوحدات خاصة او كفصائل للصدام، أو يعملون بصورة مستقلة حقاً عن السيطرة العسكرية الرسمية. واضطلع المجاهدون بأول عملياتهم القتالية الكبرى في صيف 1992 في شمال وسط البوسنة، مقاتلين القوات العرقية الصربية التي شنت هجوماً على المسلمين في المنطقة. وادت الخلافات الأيديولوجية بين المجاهدين الوافدين والجنود البوسنيين بقيادة عبد العزيز، وتم إلحاقها بكتيبة الجيش البوسني السابعة. وعلى الرغم من أن المجاهدين كان لهم تأثيرهم على تقدم ا لحرب، وأحرزوا بعض الإنتصارات المهمة في أرض المعركة، فإن إسمهامهم العسكري الشامل كان محدوداً. ومع ذلك، فإن قيمتهم بالنسبة للسلطات في سراييفو تجاوزت كثيراً تأثيرهم المباشر، إذ كان الرئيس البوسني علي عزت بيجوفتش يعتبرهم أداة سياسية للحصول على التمويل والدعم للحرب ضد البوسنة من بلدان في شتى أنحاء العالم الإسلامي.

ومع محاصرة القوات الصربية لسراييفو وإحاطتهم بها لمدة ثلاث سنوات من 1992، ومعاناة مسلمي البوسنة من فظائع وحشية في أماكن أخرى، تدفقت المعونة الإنسانية من شتى المنظمات الإسلامية وغير الإسلامية. لكن تمويل أنشطة الجهاد البوسني جاء أساساً من رجال الأعمال في الخليج ومن الجمعيات الخيرية السعودية، التي عملت بصفتها قنوات كبرى لإرسال المعونة والأسلحة، في انتهاك للحظر على إرسال الأسلحة المفروض على كل أطراف الحرب. وعلى مدار الحرب بلغت المعونة العامة والخاصة المقدمة من السعودية للبوسنة نحو 150 مليون دولار. كما تواتر أن القاعدة مولت المجاهدين في البوسنة، وعمليات أخرى للقاعدة في شرقي أوروبا، جزئياً عن طريق لجنة الشورى والإصلاح لاتي تتخذ لندن مقراً لها. ويبدو ان بن لادن زار البوسنة عدة مرات بين 1994 و1998، وأن البوسنة أصدرت له جواز سفر من سفارتها في فيينا في 1993، كما أرسل لها الرجال والسلاح من قواعد في أفغانستان. ويعتقد أيضاً أن بن لادن أوكل لأيمن الظواهري، قائد جماعة الجهاد الإسلامي الإرهابية المصرية، تنسيق عمليات القاعدة في البوسنة في ذلك الوقت. كذلك كانت الحكومة السعودية أكبر واهب لوكالة العالم الثالث للإغاثة، وهي منظمة خاصة كان يديرها عضو في حزب الجبهة الإسلامية الوطنية السودانية، استخدمت كقناة لإرسال الأموال والسلاح. ويعتقد أيضاً أن بن لادن قدم أموالاً لوكالة العالم الثالث للإغاثة، التي تعتقد المخابرات الغربية أنها استخدمت نصف مبلغ 350 مليون دولار جمعته، لشراء أسلحة ونقلها للمجاهدين البوسنيين. وكانت إدارة كلينتون على علم بنشاطات الوكالة غير القانونية لكنها أغمضت عينيها عن ذلك. ففي 1996 مثلاً، اتهم ديبلوماسي غربي أقدم في أوروبا حكومة الولايات المتحدة بأنها تجاهلت عامدة انتهاكات الوكالة لحظر السلاح، لكنه تلقى أمراً بعدم التدخل نظراً لأن حرب البوسنة كانت تحاول الحصول على الأسلحة من أي جهة، ونحن الأمريكيين لا نتدخل في ذلك. وأقل ما يمكننا عمله هو أن ننأى بأنفسنا.

وكانت إيران هي أول دولة ترسل إمدادات سرية من الأسلحة للبوسنة، عندما هبطت طائرة بوينج 747 تحمل أسلحة صغيرة وذخيرة وصواريخ مضادة للدبابات ومعدات للإتصالات في غرب عاصمة كراواتيا. وقد وسم هذا بداية خط التموين الكرواتي، وهو خط لإمداد القوات البوسنية في سرافييو وكذلك إمداد الكروات بالمستلزمات. واستمرت شحنات الأسلحة الإيرانية لنحو عام قبل أن تقل في أواخر 1993 بسبب تزايد النزاع بين القوات البوسنية الإسلامية والكرواتية. وخلال هذه المرحلة، أغمضت الولايات المتحدة أعينها عن هذه الشحنات. بيد أنه في أبريل 1994، تم في اجتماع عالي المستوى عقد في واشنطن منح الضوء الأخضر لمزيد من الإمدادات الإيرانية لتدعيم القوات الإسلامية البوسنية والكرواتية. وبعد هذا، زار وزراء بوسنيون وكروات كبار الرئيس الإيراني علي أكبر رافسنجاني في طهران وأبرموا معه اتفاقاً ثلاثي الأطراف بشأن الإمداد بالأسلحة أو المعونة الإنسانية. وبدأ تدفق الأسلحة ثانية في 4 مايو 1994، تم في اجتماع عالي المستوى عقد في واشنطن منح الضوء الأخضر لمزيد الإمدادات الإيرانية لتدعيم القوات الإسلامية البوسنية والكرواتية. وبعد هذا، زار وزراء بوسنيون وكروات كبار الرئيس الإيراني علي أكبر رافسنجاني في طهران وأبرموا معه اتفاقاً ثلاثي الأطراف بشأن الإمداد بالأسلحة أو المعونة الإنسانية. وبدأ تدفق الأسلحة ثانية في 4 مايو 1994، بالأسلحة أو المعونة الإنسانية. وبعد ذلك كانت تتم نحو ثماني رحلات شهرية في ذلك العام، ارتفعت إلى نحو ثلاث رحلات أسبوعياً في 1995. وتقدم حكومة الولايات المتحدة أن مقدار المعدات الإيرانية المقدمة تباينت من 5000 إلى 14000 طن من مايو 1994 إلى يناير 1995, وعندئذ توقفت الإمدادات السرية مرة ثانية، بعد تمركز قوات الولايات المتحدة في المنطقة عقب إبرام اتفاقيات دايتون التي أنهت الحرب.

كما دورت الولايات المتحدة الأسلحة سراَ للقوات البوسنية طوال الحرب. ففي فبراير 1995، حصل اهتياج شديد داخل قوات الأمم المتحدة لحماية البوسنة عندما شوهدت طائرات نقل من طراز سي – 130 تقوم بعمليات إسقاط جوي في الليل في قاعدة توزلا الجوية شرقي البوسنة – والتي سميت الرحلات السوداء. وقد تبين أن هذه كانت عمليات أمريكية لتلسيم الأسلحة، جرت بالتعاون مع إدارة المخابرات البوسنية وربما مع تركيا. وشملت الإمدادات أسلحة موجهة مضادة للدبابات، وقذائف ستينجر أرض – جو ومعدات لللإتصالات. وأثبتت تركيا أنها ثاني أهم مورد للأسلحة بعد إيران، ولعبت دوراً مهماً في خط الإمداد الكرواتي من 1992. ودست باكستان هي أيضاً أنفها في تسليح القوات الإسلامية، فوردت قذائف موجهة متقنة مضادة للدبابات، نقلها جواً جهاز المخابرات الباكستاني.

وقد افتضح دور الغرب السري في المساعدة في تسليح القوات افسلامية في البوسنة بأشد الصور شمولاً في تقرير أعده البروفسور سيس ويبسٍ من جامعة امستردام. وكان التحليل الذي أجراه ويبس جزءاً من تحقيق هولندي رسمي في مذبحة سربيرنيتشا في 1995، التي ذبح فيها 8000 رجل وصبي بوسني على أيدي القوات الصربية بينما كانوا في منطقة حددتها الأمم المتحدة باعتبارها منطقة آمنة. وشمل التحليل جمع المعلومات عن الأنشطة التي جرت في البوسنة لعدة سنوات من وكالات شتى للمخابرات. وهو يبين أن هوايتهول ك انت قد قررت أن تغمض عينيها عن عمليات تسليم الأسلحة الأمريكية، وقد نبه التقرير إلى أنه: كان العاملون في جهاز المخابرات في وزارة الدفاع . . . على علم بإمدادات الأسلحة الأمريكية السرية للقوات البوسنية. وحسبما قال مسئول في المخابرات البريطانية، فإن هذا الجهاز لم يجعل من ذلك مشكلة مطلقاً، حتى لا يلحق مزيداً من الأضرار بالعلاقة الحساسة مع الأجهزة الأمريكية . . . وتلقى الجهاز أمراً مباشراً من الحكومة البريطانية بألا يحقق في الموضوع. فذلك لم يكن مسموحاً به لسبب بسيط هو أن الموضوع. فذلك لم يكن مسموحاً به لسبب بسيط هو أن الموضوع كان حساساً جداً في إطار العلاقات الأمريكية البريطانية.

والمراعاة البريطانية الواضحة للولايات المتحدة صارخة، مما يؤكد مرة ثانية الدرجة التي كانت بريطانيا ممتنة بها للعمليات السرية الأمريكية آنذاك. وذلك امر جدير بالإهتمام بوجه خاص في ضوء الخلاف الكبير والعداوة المحتدمة بين المخططين البريطانيين والأمريكيين حول الإستراتيجية العريضة خلال النزاع البوسنة، إلى حد أن الأمريكيين حجبوا بعض الإستخبارات عن البريطانيين. فقد كان للولايات المتحدة موقف موال للبوسنيين أكثر صراحة، وكانوا راغبين، على العكس من البريطانيين، في إلغاء الحظر الدولي على الأسلحة لتقديم مزيد من الإمدادات للكروات والبوسنيين. وفي الوقت نفسه، كان هناك قلق كبير في الولايات المتحدة بشأن التعاطف الواضح للجنرال مايكل روز، قائد القوات البريطانية في البوسنة، مع القوات الصربية البوسنية، التي كان أنها أكثر اهتماماً بالسلام من الحكومة البوسنية، كما كان روز يعتبر النزاع مجرد حرب أهلية أكثر منه قضية عدوان على دولة البوسنة المستقلة، وكانت الولايات المتحدة تسجل سراً ما يدور في مكتبه، إلى جانب التسجيل لقادة الأمم المتحدة الآخرين.

بيد أن مراعاة الولايات المتحدة ربما لا تكون للتفسير الصحيح أو الوحيد للسبب في عدم تحدي بريطانيا لعمليات تسليم الأسلحة الأمريكية. فهناك أدلة على أن بريطانيا كانت هي نفسها تورد الأسلحة سراً للمسلمين والكروات في أوائل التسعينيات. فقد شارك عميل سري بريطاني على الأقل في العملية المسماة كلوفر، وهي خطة ترعاها المخابرات الأمريكية بميزانية تبلغ 5 ملايين دولار. وكان تسليم الأسلحة يتطلب أسلوباً ملتوياً، حيث كانت كرواتيا والبوسنة خاضعتين لحظر دولي على توريد الأسلحة لهما. ولذلك، فإنه حسبما قال مصدر مطلع، فإن بريطانيا لجأت إلى منذر الكسار، تاجر الأسلحة المرتبط بالإرهابيين والذي كان عميلاً بريطانيا تورط في إمداد الإيرانيين سراً بالأسلحة في الثمانينيات. كان الكسار حينذاك يوصف بأنه مهرب مخدرات سوري، وأنه إرهابي ومهرب سلاح، كما جاء في تحقيق لمجلس الشيوخ الأمريكي بشأن الفضيحة المالية التي أحاطت البنك الدولي للائتمان والتجارة، والتي تورط فيها الكسار. وليس من المعروف علىوه الدقة ما هي الأسلحة التي وافق البريطانيون على تقديمها لكرواتيا، لكن تواتر أنه في مطلع 1992، ورد الكسار 27 حاوية من الأسلحة والذخيرة البولندية لكرواتيا سراً، بشهادة مزورة عن المستخدم النهائي حددت اليمن مقصداً لها. وربما استمرت هذه العملية في كرواتيا حتى النصف الثاني من التسعينينات، إلى جانب عملية مماثلة لتسليح البوسنيين، رغم أنه لم تظهر أي تفاصيل بشأن ذلك.

كذلك رتبت الولايات المتحدة سراً لكي تتلقى القوات النظامية البوسنية الإسلامية والكرواتية، تدريباً عسكرياً، في أواخر 1994، بالتعاقد مع شركة خاصة، هي شركة الموارد العسكرية المحترفة المتحدة، التي كان العاملون بها من الجنرالات وضباط المخابرات الأمريكيين المتقاعدين. وإضافة لذلك، فقد أخبر مجاهد بوسني سابق وسائل الإعلام بأنه في شتاء 1993، ساعد 14 أمريكياً يزعمون أنهم من العاملين السابقين في القوات الخاصة في تدريب المقاتلين العرب والبوسنيين قرب مدينة توزلا، وأنه كان من بين هؤلاء ثمانية مجاهدين إسلاميين سودانيين على الأقل جرى تدريبهم على حرب العصيان. وكان فريق المرتزقة الأجانب بقيادة أبي عبد الله، وهو عقيد سابق في الجيش الأمريكي.

وعلى ما يبدو، فإن هوايتهول غضت البصر عن هذا التدريب أيضاً، إذ يبدو من المتصور أن المسئولين فيها لم يحيطوا لذلك علماً.

وحسبما أوردت مصادر مخابرات عسكرية إسلامية بوسنية، فقد كانت بريطانيا أيضاً من القنوات الرئيسية التي دخل المجاهدون الأجانب إلى البوسنة من خلالها، في حين استضافت لندن عدة مولين وقائمين بالتجنيد من أجل القضية. وإضافة لذلك، يبدو أن بريطانيا قد شجعت بصورة نشيطة، هي والولايات المتحدة، المجاهدين المسلمين السنة يعني أنه كان من المسموح به نقل المقاتلين المجاهدين جواً إلى البوسنة، وقد نبه ريتشار هولبرك، المفاوض الأمريكي الرئيسي من أجل السلام في البلقان، مؤخراً إلى أن المسلمين البوسنيين لم يكونوا ليبقوا على قيد الحياة بدون هذه المساعدة وأسماها "حلفا مع الشيطان]]". وإضافة لذلك، نبه ب. رامان وهو ضابط مخابرات هندي سابق إلى أنه استناداً إلى تقارير موثوق بها، فإن نحو 200 مسلم من أصل باكستاني كانوا يعيشو في المملكة المتحدة ذهبوا إلى باكستان حيث حصلوا على تدريب في معسكرات حركة الأنصار وهي جماعة إرهابية باكستانية وانضموا إلى فرقة هذه الحركة بعلم وتواطؤ كاملين من أجهزة المخابرات البريطانية والأمريكية. ونبه رامان إلى أنه جزءاً من البقية الباقية من حركة الأنصار لمساعدة المسلمين، وأن المجموعة الأولى من المجاهدين دخلت البوسنة في 1992. وكانت المخابرات الباكستانية هي التي نظمت تلك الفرقة، ومولتها المخابرات السعودية وسلجتها المخابرات الإيرانية، في حين وفر القيادة والتوجيه ضباط عاملون ومتقاعدون من المخابرات الباكستانية والمخابرات التركية.

وبحلول ذلك الوقت، كان العرب الذين كانوا قطافاً للحرب الأفغانية قد بدأوا بالفعل في إلحاق الأذى بأنحاء كثيرة في العالم ومن ثم أرادت أجهزة المخابرات هذه أن تتفادى استخدام العرب، ولهذا السبب، تحولت إلى الباكستانيين، خاصة من يعيشون منهم في المملكة المتحدة وبلدان أخرى في أوروبا الغربية. وبهذا بدأت عملية إضفاء طابع متطرف على الشباب المسلمين من أصل باكستاني الذين يعيشون في أوروبا الغربية. وفي أواخر 1994، كانت هناك أيضاً تقارير بأن المناضلين الوافدين من الخارج كانت تصحبهم وهم في طريقهم إلى البوسنة قوات أمريكية خاصة مزودة بمعدات اتصال فائقة التقنية، وكان هدفها هو إقامة شبكة للقيادة والسيطرة والإتصالات والإستخبارات لتنسيق هجمات المسلمين البوسنيين.

وكان عمر سعيد الشيخ أحد المواطنين البريطانيين من أصل باكستاني الذين انضموا لحركة الأنصار خلال حرب البوسنة، وكان طالباً في كلية الإقتصاد في لندن، اختطف فيما بعد، كما ورد في الفصل السابق، عدة أجانب في محاولة لتأمين إطلاق سراح قائد حركة الأنصار، موالانا سعود أزهر، واتهم فيما بعد بالتواطؤ في أحداث 11 سبتمبر، وخلال عيد الفصح في 1993، شارك الشيخ في مهمة إنسانية قامت بها منظمة تسمى قافلة الرحمة، سلمت إمدادات لإغاثة المدنيين المسلمين المحاصرين في البوسنة، لكنها قامت أيضاً مساعدات سرية للمقاتلين المسلمين، حسبما قال الشيخ. ولم يدخل الشيخ نفسه للبوسنة مطلقاً بسبب الإرهاق، وبدلاً من ذلك التقى أحد نشطاء حركة الأنصار الذي أقنعه بالإنضمام للجماعة.

ويذكر الرئيس الباكستاني برفيز مشرف في سيرته أنه: "كان من المعتقد في بعض الأوساط أن وكالة المخابرات الخارجية البريطانية جندت الشيخ عندما كان يدرس في كلية الإقتصاد في لندن. ويقال إن وكالة أقنعته بأن يقوم بدور نشيط في المظاهرات ضد العدوان الصربي في البوسنة بل وأرسلته إلى كوسوفو للإنضمام للجهاد. وربما أصبح في مرحلة ما محتالاً أو عميلاً مزدوجاً. من الواضح أن اتهامات مشرف مدوية لكن تقوضها بشدة حقيقة أن الشيخ لم يستطع الإنضمام للجهاد في كوسوفو حتى تقوضها فترة متأخرة جداً في 1999 (عندما كانت الحرب قد انتهت) إذ كان في السجن في الهند من 1994 حتى ديسمبر 1994 بعد اعتقاله لعمليات الإختطاف السابق ذكرها. ومن غير الواضح ما إذا كان الشيخ قد تم تجنيده بواسطة جهاز المخابرات الخارجية البريطاني أم لا، ومع ذلك هناك أدلة على أنه أًبح عميلاً لجهاز المخابرات الباكستاني، كما سنناقش تفصيلاً في الفصل الخامس عشر.

وكان أبو حمزة من بين البريطانيين الآخرين الذين تطوعوا للجهاد في البوسنة، وأًصبح فيما بعد إماماً مشهوراً في مسجد فنسبري بارك في شمال لندن. وكان أبو حمزة وهو مصري، قد منح الجنسية البريطانية في 1986، وذهب إلى الحج وقابل في مكة عبد الله عزام في 1987. والتقى في 1990 بمجاهدين جرحى من أفغانستان في لندن عندما كان متطوعاً لتدقيم علاج طبي لهم كان يسدد تكاليفه سعوديون أثرياء، وفي 1991 هاجر بأسرته إلى أفغانستان. وهناك فقد في 1993 يديه كلتيهما وإحدى عينيه في انفجار، في حين أقام في 1994 منظمته الخاصة في بريطانيا، أنصار الشريعة، بغية مساندة المجاهدين في شتى أنحاء العالم والوصول بالشريعة "البشرية جمعاء". وفي العالم التالي، قام أبو حمزة بثلاث رحلات إلى البوسنة، مستخدماً اسماً زائفاً، باعتباره من العاملين في الإغاثة في قافلة معونة كانت تحمل أطعمة وملابس وإمدادات طبية. وبمجرد أن دخل أبو حمزة البوسنة، ترك العاملين بالإغاثة وبحث عن المجاهدين، منفقاً جل وقته مع الفصائل الجزائرية، مقدماً لهم المشورة كما ادعى لاحقاً. وعاد أبو حمزة لبريطانيا في أواخر 1995، وكان واحداً من مئات من البريطانيين العائدين من النزاع الذين دخلوا للبلاد دون أن توجه لهم السلطات البريطانية أي سؤال.

وكان أبو المجدد البريطاني، واحداً من البريطانيين الذين ظلوا طوال عامين يروحون جيئة وذهاباً بين بريطانيا والبوسنة، وكان قد تخرج حديثاً من الجامعة. فقد ذهب البريطاني للبوسنة لأول مرة في 1993، ظاهرياً لنقل الأطعمة والأدوية للمسلمين في وسط البوسنة، لكن هذا كان ستاراً لأنشطة تقديم الدعم للجهاد. وجاب البريطاني كل أرجاء بريطانيا لجمع النقود من السلطات. وقد قتل في هذه المعركة في 1995.

وقد ظهرت تفاصيل قليلة عن تورط بريطانيا في إرسال المجاهدين للبوسنة. كذلك كان ذكر المجاهدين البوسنيين قليلاص في البرلمان البريطاني، وعندما كان ذلك يحدث كانت الحكومة تهون من دواعي ال قلق. ففي فبراير 1994مثلاً، سئل دجلاس هوج وزير الخارجية عما لديه من معلومات عن أنشطة الكتيبة الإسلامية البوسنية السابعة فرد باقتضاب بأنه: "يعتقد أن الكتيبة قريبة من فيتز في وسط البوسنة. وقد فهمنا أنها تتكون أساساً من البوسنسسن الذين تسببت الحرب في نزوحهم. هناك متطوعون اجانب لكن ليس في الإمكان إعطاء معلومات محددة عن بلدانهم الأصلية.

مساندة لكلا الجانبين: من الصعب إدراك كنه السياسة البريطانية تجاه البوسنة. وقد نبه براندن سيمز من جامعة كامبردج في تشريحه الأكاديمي للاسترايجية البريطانية، إلى أن "الوسطاء البريطانيين كانوا يذعنون للصرب، ويتنمرون بالبوسنيين ويبذلون قصارى جهدهم لتخريب خطط الولايات المتحدة للتدخل العسكري". وكتب يقول إن الزعيم اليوغسلافي ميلوسفتش ادعى أن اللوردات هيرد وكاينجتون وأوين أعطوه ضوءاً أخضر لمواصلة الحرب، و"أن ذلك لم يكن أمراً مفاجئاً وحسبما يقول سيمز، فإ، بريطانيا أجهضت أكثر من أي بلد آخر كافة الجهود الدولية لإيصال المعونة العسكرية للبوسنة وبدلاً من ذلك دعت لفرض حظر دولي على تقديم السلاح لها، والذي كان من نتائجه الأساسية عقاب الحكومة في سراييفو. كما كتب سيمز يقول إنه على الرغم من أن قوات الحكومة البوسنية قد ارتكبت اعمالاً وحشية، فإن "هذه كانت في جوهرها بمثابة رد فعل وتختلف كماً ونوعاً عن الحملة المستمرة من التطهير العرقي التي كان يشنها الصرب الكروات والصرب البوسنيين". لذلك، فإن بريطانيا تتحمل مسئولية كبيرة عن نسبة من عشرات الآلآف من القتلى.

بيد أن كتاب سميز لا يقول سوى القليل عن المجاهدين وعن سياسة بريطانيا السرية. فعلى الرغم من أن بريطانيا كانت تعارض رسمياً إلغاء حظر تقديم السلاح إلى الحكومة البوسنية، فقد تغاضت عن الإمدادات الإيرانية – الأمريكية لها، ووردت سراً بعضا من أسلحتها، كما رأينا. ورغم تغاضي بريطانيا عن المسلمين البريطانيين الذاهبين للقتال في البوسنة، فإن مفرزة الجيش البريطاني الملحقة بقوة الأمم المتحدة للحماية دخلت في موادهات كثيرة مع المجاهدين, ومارست لندن إلى جانب الولايات المتحدة، الضغط على حكومة عزت بيجوفتش لطرد المجاهدين بعد توقيع اتفاقيات دايتون في ديسمبر 1995.والواقع أنه يعتقد أن جهاز المخابرات الخارجية البريطانية قد شن غارات على معسكرات التدريب قتل فيها كثيرون من المجاهدين.

هناك فجوات كثيرة في معرفتنا بهذه الفترة، لكن التفسير الأرجح لهذه التناقضات الجلية هو أن أطرافاً مختلفة في الدولة البريطانية كانت تسعى إلى جداول أعمال مختلفة ومتضاربة، مع تورط الأجهزة السرية في إمدادات سرية بالأسلحة وإرسال المجاهدين. ونبه تقرير إعلامي عن تسليح بريطانيا للكروات والمسلمين إلى أن "حكومة المحافظين كانت تحاول دون جدوى خلق توازن في القوى مع القوات الصربية". وحسبما قال ويبس، كانت وجهة النظر البريطانية بشأن الحرب هي أنه "ليس هناك أخيار ولا أشرار" وكان من رأي جهاز المخابرات الخارجية عدم التدخل وشعاره هو "البقاء بعيداً أطول ما يمكن". ويبدو أنه من المرجح أن المجاهدين كان ينظر إيلهم باعتبارهم أداة وكيلة تذوب عن أطراف في الحكومة البريطانية من أجل خلق "هذا التوازن في اقلوة". فإذا كان ذلك كذلك، فإن هذه تكون سياسة لها سوابق تاريخية، خاصة في النزاع العربي الإسرائيلي في 1948 التي اعتبرت فيه بريطاناي القوات العربية قوة مساعدة في خلق نوع من التوازن الإقليمي خدمة للمصالح البريطانية القائمة، مثلما رأينا في الفصل الثاني. فمثلما حدث في تلك الحرب، كانت السياسة البريطانية في البوسنة متنافرة، تساند في الواقع كلا الجانبين أو لا تناصر أياً منهما على حد سواء. ويمكن أيضاً أن تكون أجهزة المخابرات البريطانية قد رأت في المسلمين البريطانيين المرتبطين بالبسونة مصدراً للمعلومات عن الحرب. ولا ريب أن جهاز المخابرات الخارجية كان نشيطاً في تجنيد العملاء خلال النزاع، والمعروف أنه قام بتشغيل عملاء سريين على كافة المستويات، بما في ذلك مجلس وزراء عزت بيجوفتش.

وبقدر ما ساعدت بريطانيا في تشجيع الجهاد في البوسنة، ساهمت سياستها في العواقب الوخيمة التي جرتها الحرب على تطور الإرهاب العالمي. فمن ناحية ربما جرى تحويل بعض الأموال التي كان قد تم جمعها ظاهرياً لمساعدة مسلمي البوسنة الذين كانوا يعانون، للمساعدة في تمويل الهجوم على مركز التجارة العالمي في نيويورك في 1993، وذلك من بين أهداف أخرى للإرهابيين، فعلى سبيل المثال، فإن الشيخ عمر عبد الرحمن وهو الشيخ الضرير الذي تورط في تفجيرات، كانت لها علاقات مع وكالة العالم الثالث للإغاثة، وهي من ممولي الجهاد الرئيسيين. كما زادت البوسنة تطرف بعض أفراد الجالية الباكستانية في الخارج، وهي عملية بدأت في ظل النظام العسكري للجنرال ضياء الحق في الثمانينيات. ويبدو أن أبا عبد العزيز قائد قوات المجاهدين في البوسنة، كانت له صلات بجماعة العسكر الطبية الباكستانية، وربما شهد عبد العزيز، المؤتمر السنوي لجماعة العسكر الطبية في باكستان أو على الأقل بعث إليه برسائل مسجلة، لإلهام المجاهدين، وربما شارك أيضاً في مساعدة المجاهدين في كشمير. كذلك، سراييفو، وكانوا يبنون بها المساجد ويدعمون من وجودهم بها وفي أواخر 2007، كان المحللون ينبهون إلى أن المجاهدين المسلمين في هذه البلاد كانوا متورطين في نشاط إجرامي، ويمارسون نفوذاً متصاعداً على الشبان البوسنيين الذين كانوا يتجمعون بشكل متزايد حول الحركة الوهابية المتنامية في البلاد.

والأهم هو أن جيلاً جديداً من المجاهدين تلقى تدريباً عسكرياً وخبرة في القتال ليعود بها إلى أوطانه الأصلية، خاصة الإرهابيين من الجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية التي شرعت في القيام بأعمال وحشية يعجز عنها الوصف في حرب أهلية وحشية. فبعد البوسنة، ظهر كثيرون من قدامى المحاربين المجاهدين في مواقع قيادية في جماعات الجهاد من الولايات المتحدة، إلى أوروبا، ومن شال أفريقيا للشرق الأوسط، ومن الشيشان إلى كشمير. وينبه إيفان كولمان وهو صحفي أمريكي إلى أن نشر المجاهدين المتأسلمين في ابلوسنة حدث في مرحلة مبكرة من حركة القاعدة، وأن الخبرة التي اكتسبوها كانت لها آثار طويلة الأجل على هذه الجماعة، فالجهاد في البوسنة مكن خلايا المجاهدين من مختلف البلدان من الترابط والتواصل معاً في قارة جديدة هي أوروبا. وكان موقع البوسنة الجغرافي يعني أنها نقطة وثوب جيدة يقفز منها الإرهاب إلى بريطانيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا. وكان تفجير القنابل في مترو باريس في يوليو 1995، نحو نهاية حرب البوسنة، علامة على بداية الهجمات الإرهابية الإسلامية في أوروبا.

وإضافة لذلك، كانت هناك حينذاك "مرافق إرهابية إسلامية كثيرة" في البوسنة، تتراوح من المدارس الدينية إلى قاواعد العمليات التي كانت قد أقامتها حكومة البوسنة تحت ستار أنها منظمات إسلامية. وهكذا، فإنه بحلول صيف 1995، "كانت البنية التحتية المتأسلمة في البوسنة والهرسك تشكل بالفعل قلب مركز جديد لتدريب المسلمين الأوروبيين". وتضمن هذا أول عملية انتشار لمفجري القنابل اللإنتحاريين التي كانت تضم دستة على الأقل من مسلمي البوسنة الذين كانوا قد ترخجوا من معسكرات التدريب في باكستان وأفغانستان في ربيع 1995. وبحلول نهاية الحرب، كانت الولايات المتحدة تضغط على الحكومة البوسنية لطرد المجاهدين قبل وصول قوات الناتو لحفظ السلام، كما اشترطت اتفاقيات دايتون. وللتهرب من هذا، أصدرت حكومة عزت بيجوفتش ببساطة آلافاً من جوزات السفر البوسنية وغيرها من الوثائق لأعضاء الفرق الأجنبية – ويعتقد أن ما يصل إلى 400 منهم استقروا في البوسنة، وتزوج كثيرون منهم بوسنيات. وبهذه الوثائق الصحيحة، تمكنت جماعات المجاهدين المتبقية كم العمل بدون تدخل يذكر من الأمم المتحدة والولايات المتحدة أو الناتو. كما حمى المتشددون السياسيون في المستويات العليا من الحكومة البوسنية، كثيرين من العناصر الأشد خطورة.

بيد أن هناك جانباً آخر من الجهاد في البوسنة، له ارتباط بالوقت الحاضر وبالسياسة الخارجية البريطانية، كان الحديث عنه أقل حتى من ذلك، وهو يتعلق بتركيا.

استخدام تركيا للمجاهدين: في حين كانت تركيا تدعم سراً القوات الإسلامية الشقيقة في البوسنة بتأييد من الولايات المتحدة، طفقت تكثف أيضاً حربها الوحشية على الأكراد في جنوب شرق البلاد. إذ دمرت القوات التركية 3500 قرية كردية، وجعلت 1.5 مليون شخص على الأٌل بلا مأوى، وقتلت آلافاً في التسعينيات، وذلك لدحر حزب العمال الكردستاني وهو حركة ماركسية جزئياً وقومية جزئياً تطالب إقامة دولة كردستان المستقلة. ووصلت إساءة المعاملة لذروتها في 94-1996، وهي الفترة التي كثفت فيها الحكومة البريطانية في ظل جون ميجور صادراتها من الأسلحة لتركيا، فقد سلمت بريطانيا لتركيا أسلحة بلغت قيمتها 68 مليون إسترليني في 1994، وهي السنة التي بدأت فيها أنقرة عمليات هجوم كبرى ضد الأكراد، وتواصلت الصادرات في العام التالي لكنها وصلت ذروة جديدة بمبلغ 107 مليون إسترليني في 1996. كذلك قدمت لندن ائتمانات لتصدير الأسلحة والمعدات العسكرية في هذه الفترة، بلغت ما قيمته 265 مليون إسترليني في 1995. وشملت المعدات البريطانية التي استخدمتها القوات التركية في عمليات القمع عربات مدرعة ومركبات أكريب التي أنتجتها محلياً في تركيا بترخيص من شركة لاندروفر، وتم توزيعها على اقلوات ال تركية التي كانت تلاحق الأكراد عبر الحدود إلى داخل شمالي العراق. ولم يتم رفض سوى أحد عشر طلباً للترخيص بتصدير الأسلحة والمعجات العسكرية إلى تركيا بين يناير 1994 ونوفمبر 1997 والتي تمتد من نهاية حكم المحافظين إلى بداية حكم العمال الجديد. وساندت هوايتهول تركيا بثبات ضد حزب العمال الكردستاني ووصفت الأخير ببساطة بأنه منظمة إرهابية، ليس فقط خوفاً من أن تزعزع النزعة الإنفصالية الكردية في تركيا استقرار حليفها في الناتو فحسب، وإنما خوفاً من أن تشجع الأكراد في العراق وفي أماكن أخرى على المطالبة بالإنفصال. وفي الوقت نفسه، قدمت دفاعات شتى عن السياسة التركية. ففي 1998 مثلاً، قال جورج روبرتسون وزير الدفاع في حكومة بلير، والذي أصبح لاحقاً أميناً عاماً للناتو "أمل أن تستخدم الحكومة التركية حريتها في التصرف وحكمتها في الوقت الذي يركز في المجتمع العالمي على شرور صدام وأن تكون كريمة وخيرة إزاء الأكراد مثلما كانت في الماضي".

ومع ذلك، فلم تكن بريطانيا حليفاً للأتراك في سحقهم للأكراد فحسب، وإنما كانت تقاتل مرة أخرى في سبيل القضية نفسها وهي التصدي للقومية وللمجاهدين – وكانت تلك حينذاك توليفة مألوفة. فبدءاً من شتاء 1995، نقل جهاز المخابرات التركي بضع مئات من قدامى المحاربين المجاهدين من الحرب في البوسنة – المعروفين باسم البلقان إلى تركيا، بمعاونة جهاز المخابرات الخارجية البريطانية وحزب الرفاه، وهو الحزب المتأسلم الرئيسي في البلاد. وحسبما قال يوسف بودانسكي وهو خبير أمريكي في شئون الإرهاب. فإنهم كانوا يؤخذون حينذاك لتلقي تدريب متقدم في قاعدة في شمال قبرص وبعد ذ لك يجري نشرهم في شمال تركيا للعمل ضد الأكراد، وكذلك كان يتم نشرهم في الشيشان وكشمير وأفغانستان. وقد أعربت حكومات كثيرة في غرب أوروبا عن قلقها من استخدام تركيا للبلقان في 1996. "ورداً على ذلك، أفاد الأتراك بأن أنقرة لم تفعل أياً من هذا بدون مباركة إدارة كلينتون ومساندتها". ويضيف بودانسكي منبهاً إلى أنه "إذا كان هذا هو الحال، وأن إدارة كلينتون ساندت حتى لو سراً عملية "إعادة التدوير" التي قام بها الأتراك البلقان، فإن ذلك أكثر سوءاً حتى من سجل الولايات المتحدة في أفغانستان" – حيث كان قد أصبح من الواضح تماماً في ذلك الوقت أن قوات المجاهدين قد تحولت إلى الإرهاب، بما في ذلك الإرهاب ضد الولايات المتحدة.

وبحلول ذلك الوقت، كانت الدولة التركية تستخدم بنشاط أيضاً حزب الله التركي للمساعدة في دحر حزب العمال الكردستاني. فقد كان حزب الله الكردي الذي تأسس في 1996، منظمة كردية تستلهم الثورة الإيرانية وكتابات سعيد حوا، الزعيم الروحي للإخوان المسلمين، وترمي لإقامة دولة إسلامية في جنوب شرق تركيا، لكن لم يكن لها أي روابط رسمية مع حزب الله اللبناني. وقد ظهرت هذه الجماعة في لاجنوب الشرقي في 1992 بزعامة حسين فيليوغلو، وهو خريج جامعة أنقرة. وشرع حزب الله في القيام بعمليات اغتيال وحشية كثيرة للمتعاطفين مع حزب العمال الكردستاني في مدن الجزء الجنوبي الشرقي من البلاد، وقتل أكثر من ألف شخص بين 1992 و 1995. وفي 1993 ادعى مسئولون محليون في جنوب شرق البلاد أن المؤسسة العسكرية التركية قدمت التدريب لحزب الله، وقد تأكد هذا في تقرير صدر في أ بريل 1995 عن لجنة بحث قضايا الإغتيال التي لم تحل التابعة للبرلمان التركي، والذي كشف ان معسكراً للتدريب تابعاً لحزب الله كان يعمل بمساعدة المؤسسة العسكرية في 1993. وقال فكري ساغلار وكان وزيراً في تركيا في أوائل التسعينيات إن "القيادة العليا للقوات المسلحة كانت هي المؤسس والمروج لحزب الله في جنوب شرق البلاد والمستفيد الحقيقي الذي يستخدمه، وأن حزب الله تم توسيعه وتدعيمه بناء على قرار اتخذه مجلس الأمن القومي في 1985، بل إن أعضاءه جرى تدريبهم في مقر قيادة قوات الأمن. وبالطبع، فقد كانت هذه القوى نفسها التي كانت بريطانيا تزودها بالسلاح وغيره من أنواع المساندة.

وفي 2000، بدأت الدولة التركية في تضييق الخناق بصورة جادة على حزب الله بالقبض على مئات من أعضائه، وكان في ذلك الوقت عن استهداف أعضاء حزب العمال الكردستاني وحدهم لإعدامهم، وطفق يقتل العاملين والمسلمين المعتدلين وممثلي الجميعات الخيرية الكردية. وبعد ذلك، ارتطم انتحاريان من مفجري القنابل بسيارتي بضائع حملتين بالمتفجرات بالقنصلية البريطانية. وبببنك إتش إس بي سي، في إسطنبول، وقتل القنصل العام وتسعة من العاملين وما يربو على 30 آخرين – وكانت تلك من أكثر الهجمات تكلفة على أهداف بريطانية يقوم بها إرهابيون متأسلمون. ربما كان قد تم توقيت الهجمات للتتواكب مع اجتماع الرئيس بوش مع توني بلير في بريطانيا. وكان أحد هذين الإنتحاريين، أزاد أكنشي، قد انضم لعضوية حزب الله في أواخر التسعينيات، وقام بزيارات مذكورة لأفغانستان وباكستان والشيشان. كان من بغول، شمال باتمان، حيث كان ثد جرى كثير من أكبر عمليات القتال التي توافق عليها الدولة بين حزب اللله وحزب العمال الكردستاني قبل عدة سنوات. لكن القصة تعود إلى البوسنة بدورها، حيث إن اسمها هو جبهة المغيرين الإسلامية الشرقية الكبرى التي كانت قد أرسلت فرقة صغيرة من المحاربين للجهاد في البوسنة، بالإشتراك مع حركة الأنصار، وهي الجماعة الباكستانية الإرهابية.

وكان تفجير إسطنبول مثالاُ لرد الكيد إلى الدحر، إذ حدث جزئياً نتيجة لرعاية الدولة التركية للقوى الإسلامية المتطرفة، وهو ما كانت تؤيده بدورها الحكومة البريطانية التي كانت منشغلة كما هو الحال دوماً بدحر القوى القومية، وتلك صيغة تحقيق الإستقرار الخاصة بها في الشرق الأوسط، وبيع الأسلحة للحلفاء.

الفصل الثالث عشر - قتل القذافي والإطاحة بصدام

شهد النصف الثاني من التسعينيات تصاعد معركة القاعدة الدعائية مع الغرب وسلسلة من الهجمات الإرهابية الوحشية واللافتة للانتباه. ففي يونيو 1996 أصدر بن لادن إعلاناً للجهاد ضد الأمريكيين، وأعلن بعد عامين إنشاء الجبهة الدولية للجهاد ضد الصليبيين واليهود، التي وحدت مجموعة من جماعات الجهاد وراء جدول أعمال لقتل الأمريكيين وإزاحة الوجود الأمريكي من البلدان الإسلامية. وضمت هذه الجبهة القاعدة، إلى جانب جماعة العسكر الطيبة الباكستانية وحركة المجاهدين والجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد الإسلامي المصريتين وكثيرين غيرهم. وتواكب إعلان 1996 مع تفجير مجمع أبراج الخبر في السعودية، الذين كان يؤوي فريقاً من القوات الجوية الأمريكية، مما أدى لقتل 20 شخصاً، منهم 19 من العسكريين الأمريكيين. وفي نوفمبر من العام التالي، تم قتل 63 شخصاً، معظمهم من السياح في الأقصر بمصر على أيدي أعضاء في الجماعة الإسلامية. وبعد ذلك فجر أنصار القاعدة السفارتين الأمريكتين في كينيا وتنزانيا، فقتلوا 244 شخصاً، كثيرون منهم أفارقة.

وبعد أسبوعين من تفجير هاتين السفارتين، في العيد الثامن لنشر القوات الأمريكية في السعودية لطرد العراق من احتلالها للكويت، وجهت الولايات المتحدة ضربات بقذائف كروز للسودان وأفغانستان التي كانت تسيطر عليها طالبان، وهو الأمر الذي أيدته حكومة بلير بقوة. وأصابت الهجمات على أفغانستان سلسلة من المعسكرات تسمى زوار كيلي البدر، التي تبعد بضعة اميال من حدود باكستان، والتي كانت قد خططتها وصممتها وكالة المخابرات المركزية وجهاز المخابرات الباكستاني، وأقامتها في 1985 القوات الموالية لجلال الدين حقاني، قائد المجاهدين في الفصيل الذي تلقى معونة بريطانية وأمريكية سرية كبيرة. كما أصابت الضربات الجوية الأمريكية معسكراً كان جهاز المخابرات الباكستاني يدرب فيه مجاهدين من أجل كشمير. وفي ذلك الوقت كان المسئولون عن مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية يضغطون على وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت لإعتبار باكستان راعية للإرهاب، منبهين إلى أن جهاز المخابرات الباكستاني يواصل "أنشطة دعم الإرهاب الدولي" بتشجيع شن الهجمات على المدنيين في كشمير. لكن مسئولين آخرين في الخارجية عارضوا هذه التوصية، وطالبوا أولبرايت برفض هذا، محاجين بأن هذا سيقضي على أي نفوذ للولايات المتحدة لدى باكستان. ربما كان الهدف الأول للضربات الأمريكية هو إقناع الرأي العام الأمريكي بأن الولايات ال متحدة تتخذ إجراءات حاسمة ضد الإرهاب الدولي، والواقع أن ذلك ربما أقنع قاعدة القاعدة بضرب الولايات المتحدة في عقر دارها في 11 سبتمبر.

وكان لدى بريطانيا في ذلك الوقت وجهة نظر متضاربة عن الإسلام المتطرف. فمن ناحية، كانت تعتبره على نحو واضح تهديداً، خاصة لحليفها السعودي بعد هجوم 1996 وللحليفها الأمريكي بعد تفجير السفارتين في 1998. ومن ناحية أخرى، استمرت بريطانيا في التسامح مع ظاهرة لندنستان، بما في ذلك وجود أتباع بن لادن الذين كانوا يروجون بيانات القاعدة في شتى أنحاء العالم. والواقع أن لندن إلى جانب أفغانستان التي كانت تؤوي بن لادن، كانت قد أصبحت حينذاك المركز الإداري الأساسي للجهاد العالمي حيث كانت السلطات تغمض أعينها على الأٌقل عن الأنشطة الإرهابية التي تنطلق من أراضيها، كما سنرى في الفصل السادس عشر. كما واصلت هواتيهول مساندتها القوية لأكبر راعيين للإسلام المتطرف: باكستان وعي تدعم نظام طالبان في أفغانستان والقضية الإرهابية في كشمير وموجتها العارمة في آسيا الوسطى، والسعودية، التي بقيت أكبر ممول لقضية التأسلم على النطاق العالمي.

وإضافة لذلك، واصلت بريطانيا التواطؤ مباشرة مع المتأسلمين المتطرفين، أساساً في ليبيا وكوسوفو، وبدرجة محدودة في العراق، كما سنرى فيما بعد. ومثلما حدث تاريخياً، ثبت أن الإسلام المتزمت مفيد بالنسبة إلى المخططين البريطانيين في التصدي للنظم القومية – القذافي في ليبيا، وميلوسفتش في يوغوسلافيا وصدام في العراق. وقد دارت هذه المرحلة من تعاون بريطانيا مع القوى المتأسلمة في حين كان التهديد الإرهابي يتصاعد متحدياص المصالح الغربية الشاملة، وكاشفاً مدى استمرار الصفوة في طابعها البرجماتي. وكانت على المحك قضايا أٍاسية بالنسبة للسياسة الخارجية البريطانية – إقامة نظم أثيرة تتحكم في موارد النفط الضخمة في ليبيا والعراق، والرغبة في رؤية حكم موال للغرب في قلب شرقي أوروبا والمساعدة في توسع الإتحاد الأوروبي والناتو.

لم يكن أي من النظم التي استهدفتها بريطانيا حميداً، لكن لم تكن كذلك أيضاً القوى التي عملت معها للإطاحة بها، فقد كانت تلك حرب قذرة لا ريب في ذلك. ومثلما فعلت هواتيهول مرات لا تعد ولا تحصى من قبل، فقد كانت مستعدة على ما هو واضح للعمل بالقول المأثور "إن عدو عدوي صديقي"، مهما كانت طبيعته أو عواقب ذلك طويلة الأجل. ولم يحدث الإنتقال إلى حكومة العمال الجديدة في مايو 1997 أي فرق ملحوظ. "وكان البعد الأخلاقي للسياسة الخارجية التي أعلنها وزير الخارجية الجديد، روبن كوك، فور توليه منصبه، مجرد دعاية صاخبة اصطحبت كما ظهر بقائمة من أولويات السياسة كانت متطابقة عملياً مع سياسة جون ميجور السابقة. ولم يوقف هذا وسائل الإعلام التي سيطر عليها خبراء دعاية حزب العمال الجدد، عن الإعلان عن "السياسة الأخلاقية" للحكومة الجديدة، وهي جملة لم تستخدمها الحكومة مطلقاً، حيث إنها لم تقصج مطلقاً مثل هذا التغيير في الإتجاه. ولو كانت قد فعلت ذلك، فربما كانت قد أوقفت التعاون مع القوى الإسلامية المتطرفة، الإرهابية في الواقع في ظل حكومة توني بلير.

لكننا سنتجه أولاً للتواطؤ السري البريطاني مع الجماعة الإسلامية المتطرفة في الأيام الأخيرة لحكومة ميجور.

مؤامرات شمال أفريقيا: في حين كان بن لادن يعد إعلانه للجهاد في أوائل 1996، كانت المخابرات البريطانية تتآمر مع إرهابيين مرتبكين بالقاعدة في ليبيا لإغتيال العقيد القذافي. فقد كان القذافي يتحدى منذ زمن المصالح البريطانية واليهمنة الغربية في الشرق الأوسط وأفريقيا. إذ أطاحت الثورة التي أوصلته للسلطة في سبتمبر 1969، والتي وصفها المخططون البريطانيون بأنها ثورة شعبية بحكم الملك إدريس الموالي للبريطانيين والذي كان يبلغ من العمر ثمانين عاماً، وهو الحكم الذي كان يوفر ربع النفط لبريطانيا ومقراً لإستثمارات بريطانية في النفط تبلغ قيمتها 100 مليون إسترليني. وقد نبه مسئول بالخارجية لعد عام من نشوب اثورة إلى أن "أمن إمدادات النفط يجب أن يكون أكبر شواغلنا". بيد أن القذافي شرع في إلغاء القواعد العسكرية البريطانية والأمريكية قديمة العهد، مؤمماُ صناعات استيراد النفط وتوزيعه ومطالباً بزيادة ضخمة في الإيرادات التي تدفعها الشركات المنتجة للنفط. وحدد النظام بعد ذلك مصيره باعتباره بعبع بريطانيا وأمريكا بتبنيه للقومية المتشددة المستقلة وراعياً لنظم شتى معادية للغرب، وكذلك جماعات إرهابية مثل الجيش الجمهوري الإيرلندي.

واستمر طويلاً اتهام بريطانيا والولايات ال متحدة بالتورط في مؤمرات للإطاحة بالقذافي. وكانت المحاولة المباشرة لأقصى حد، هي قيام الولايات المتحدة بقصف ليبيا بالقنابل في 1986، والذي تم ظاهرياً رداً على رعاية ليبيا لهجوم إرهابي وقع في ألمانيا. ويعتقد أن هذا القصف استهدف القذافي شخصياً، لكنه بدلاً من ذلك قتل ابنته المتبناة. وبعد ذلك بعشر سنوات، لاحت فرصة اخرى عندما فاتح ضابط في المخابرات العسكرية الليبية جهاز المخابرات الخارجية البريطانية بخطة للإطاحة بالقذافي، حسبما قال الضابط اليبي الذي أعطى له اسم حركي هو تيرنوورث إقامة روابط مع الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية، وهي منظمة كانت قد تشكلت في أفغانستان في 1990 من نحو 50 مجاهد ليبي كانوا يقاتلون حينذاك الحكومة التي يدعمها السوفيت. وقد قال عضو أقدم سابق في هذه الجماعة هو نعمان بن عتمان، الذي ذهب أولاً إلى أفغانستان وعمره اثنين وعشرين عاماً، فيما بعد في حوار أجري معه أن قائده خلال الحرب الأفغانية كان هو جلال الدين حقاني وأنه استفاد هو وزملاؤه من المجاهدين من برنامج بريطاني للتدريب: لقد تدربنا على كل ضروب حرب العصابات. تدربنا على الأسلحة والتكتيكات وتقنيات الإشتباك مع ا لعدو وكيفية البقاء في بيئة معادية. وكان كل التدريب على السلحة يتم بذخيرة حية، التي كانت متوافرة في كل مكان. والواقع أنه وقع عدد من الإصابات خلال دورات التدريب هذه. كان هناك عسكريون سابقون بين المجاهدين، لكن لم تشارك أ] قوات حكومية رسمية. كما قامت بتدريبنا وحدات الصفوة من المجاهدين، لكن لم تشارك أي قوات حكومية رسمية. كما قامت بتدريبنا وحدات الصفةو من المجاهدين الذين كانوا هم أنفسهم قد تلقوا التدريب على أيدي قوات باكستانية خاصة، ووكالة المخابرات المركزية وجهاز المخابرات الباكستاني . . . كانت لدينا كتيبات للتعليم مصممة لنا خصيصاً، لكننا استفدنا كثيراً من كتيبات التعليم الخاصة بالمؤسسة العسكرية البريطانية والأمريكية.

وبعد أفغانستان انضمت هذه الجماعة للصراع المسلح في الجزائر، وحاربت إلى جوار الجماعة الإسلامية المسلحة التي كانت قد أقامت علاقات وثيقة معها في أفغانستان وباكستان. وقد نبهت وزارة الداخلية البريطانية مؤخراً إلى أن هدف الجماعة المذكورة كان يتمثل في الإطاحة بنظام القذافي وإحلال الدولة الإسلامية محله. وقد وصفت الحكومة الأمريكية هذه الجماعة مؤخراً باعتبارها فرعاص تابعاً للقاعدة مشهوراً بالقيام بنشاط إرهابي في ليبيا والتعاون مع القاعدة على النطاق العالمي". وهي تتقاسم نفس التطلعات والأيدلوجية مع القاعدة، رغم أنها لم تنضم مطلقاً بصورة رسمية لهذه المنظمة، ولها موقف قومي بدرجة أكبر وتفضل التركيز على العدو القريب أي نظام القذافي.

ويؤكد شايلر أن ديفيد واطسون وهو ضابط في جهاز المخابرات الخارجية، أخبره أنه في عيد الميلاد في 1995، تم تزويد نيرنوورث بأربعين ألف دولار لشراء أسلحة والقيام بمؤامرة اغتيال، وأن مبالغ مماثلة قدمت له في اجتماعين آخرين. وقد كشفت برقية لجهاز المخابرات الخارجية بتاريخ ديسمبر 1995 – تسربت في 200 ونشرت على الإنترنت – عن معرفة جهاز المخابرات الخارجية بمحاولة للإطاحة بالقذافي في انقلاب يقوده عقداء ليبيون كان من المخطط أن يتم في فبراير 1996. وقد قدمت هذه البرقية جدولاً زمنياً مفصلاً للأحداث: كان من المقرر زمنياً أن يبدأ الإنقلاب في نحو وقت انعقاد الإجتماع التالي لمؤاتمر الشعب العام في 14 فبراير 1996. وكان سيبدأ بهجمات على عدد من المنشأة العسكرية والخاصة بالأمن بما في ذلك المنشأة اعسكرية في ترهونه. وكانت ستتم عملية إثارة قلاقل منسقة في بني غازي ومصراته وطرابلس. ويشن المتآمرون هجوماً مباشراً على اقلذافي وإما يعتقلونه أو يقتلونه. . . كان المتآمرون سيقودون سيارات مماثلة لسيارات حاشية القذافي من رجال الأمن بعدد من لوحات الأمن الزظورة. وكانوا سيتسللون للحاشية بغية قتل القذافي أو اعتقاله.

كما نبهت البرقية إلى أن ضابطاً ليبياً وعشرين عسكرياً كان قد تم تدريبهم في الصحراء على دورهم في الهدوم، وأن المتآمرين كانوا قد وزعوا بالفعل 250 مسدساً من طراز ويبلي و500 رشاش ثقيل على المتعاطفين معهم، الذين قيل إن عددهم بلغ 1275 شخصاً، منهم طلاب وعسكريون ومعلمون. وكان يتم نقل الرسائل إلى هؤلاء المتعاطفين عن طريق المدارس والمساجد. في في حين كان للمتآمرين "بعض الصلات المحدودة بالأصوليين" الذين كانوا "خايطاً من قدامى المحاربين هكذا وردت في ليبيا الذين قاتلوا في أفغانستان ومن الطلاب الليبيين. وتواصل البرقية: كان المتآمرون في الإنقلاب يتوقعون ان يفرضوا سيطرتهم على ليبيا في أواخر مارس 1956. وكانوا سيشكلون حكومة مؤقتة قبل إجراء مناقشات مع زعماء القبائل. وكانت هذه المجموعة تريد التقارب من الغرب. كانوا يأملون في تقسيم البلاد لمناطق أصغر، لكل منها محافظ وبرلمان منتخب بصورة ديمقراطية إذ كانوا سيقيمون ناماً اتحادياً للحكم الوطني.

ومضت المؤامرة في طريقها في فبراير 1996 في مدينة سرت، وهي مسقط رأس القذافي لكن قنبلة انفجرت تحت سيارة خطأ، وقتلت ستة من عابري السبيل الأبرياء، وهرب القذافي دون أن يمسه سوء. ويتذكر شايلر كيف أنه: في اجتماع عقد قعد ذلك بفترة وجيزة، تجرأ واطسون وأخبرني في لهجة ظافرة أن تيرنوورث كان مسئولاً عن الهجوم. "نعم لقد كان رجلنا. لقد فعلنا ذلك" كما صور الأمر. وللعجب أنه كان يعتبر ذلك نصراً حتى وإن لم يتحقق هدف العملية وأن التقارير أوضحت وقوع إصابات. وعلى الرغم من ذلك، حصلت على انطباع بأن هذا كان يعد ضربة بالنسبة لجهاز المخابرات الخارجية لأنه كان يزهو بالشهرة التي كان جيمس بوند الحقيقي يتمناها.

وكتبت آني ماكهون شريكة شايلر وضابطة سابقة في جهاز المخابرات الداخلية تقول إنه في الوقت الذي كان فيه جهاز المخابرات الخارجية يدفع الأموال لتيرنوورث. كان من المعروف أن منظمة أسامة بن لادن مسئولة عن تفجير مركز التجارة العالمي في 1993، وأن جهاز المخابرات الداخلية أنشأ مجموعة التسعة" وهي قسم مكرس لمهمة محددة هي هزيمة بن لادن والمنظمات التابعة له". وهذا أمر بالغ الأهمية في ضوء تسامح بريطانيا مع قاعدة بن لادن – لجنة الشورى والإصاح – التي لم يتم إغلاقها لمدة أخرى بلغت عامين ونصف العام.

وقد أخبرت مصادر في المخابرات الأمريكية جريدة الميل أون صانداي فيما بعد أن جهاز المخابرات الخارجية كان يقف حقاً وراء مؤامرة الإغتيال وأنه لجأ إلى قائد الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية، أبي عبد الله صادق اذي ك ان يعيش في لندن. وقد ورد أن رئيس فريق الإغتيال هو عبد المهيمن الذي كان يعيش في ليبيا وهو من قدامى محاربي المقاومة الأفغانية، ومن رثم ربما دربه جهاز المخابرات الخارجية أو وكالة المخابرات المركزية. وقد أكدت أقوال تناثرت من تحقيقات أخرى في وسائل الإعلام المؤامرة. ففي حين كانت هيئة الإذاعة البريطانية تصور فيلماً وثائقياً عن الموضوع في أغسطس 1998، قيل لها إن وزراء حكومة المحافظين المسئولين عن جهاز المخابرات الخارجية لم يعطوا تصريحاً بهذه العملية وإنها كانت من عمل ضباط المخابرات لوحدهم. وقد ناقضت كل هذه التقارير الإدعاء السابق لروبن كوك وزير الخارجية حينذاك بأن تورط الجهاز في المؤامرة هو محض خيال. وبالمثل، كان نفي الحكومة العلم بالمؤامرة يتناقض على نحو قاطع مع البرقية التي تسربت، والتي تبين أن موظفين مدنيين في إدارة وكيل الخارجية الدائم ومقر القيادة العامة وجهازي المخابرات الداخلية والخارجية ووزارة الدفاع كانوا على علم بمحاولة الإغتيال قبل نحو شهرين من تنفيذها. ومن غير المتصور أنه لا أحد منهم أبلغ وزيره. وفي الوقت نفسه، كان شايلر يطارد ويلاحق بصورة مستمرة، وهي المعاملة المعتادة التي تنزلها الصفوة البريطانية بالعليم ببواطن الأمور الذي يفضح معلومات تجرمها.

وصعدت الجماعة الإسلامكية المقاتلة الليبية مواجهاتها مع النظام الليبي في 1994، وأصدرت نداءات للإطاحة بالقذافي. وقد وصف بلاغ صدر في أكتوبر 1995، في نحو الوقت الذي كان التنظيم يتآمر فيه مع جهاز المخابرات الخارجية، حكم القذافي بأنه "نظام مرتد يجدف وينكر الإيمان بالله القادر الجبار" وأعلن أن الإطاحة به هي "الواجب الأول بعد الإيمان بالله". كانت هذه النداءات تصدر أساساً من لندن، التي يتخذ كثيرون من الأعضاء البارزين في الجماعة منها مقراً بعد أن منحهم حق اللجوء السياسي. وينبه جاري جامبل المحلل السياسي الأمريكي، ورئيس التحرير السابق لمجلة استخبارات الشرق الأوسط، أن بريطانيا استقبلت منشقي الجماعة لأن وجهة نظر بريطانيا إزاء القذافي تتسم بالهياج الشديد، بسبب زعم عن تورط النظام الليبي في تفجير لوكيربي في 1998، وبذا "سمحت بريطانيا للجماعة المذكورة بأن تقيم قاعدة الدعم الإداري وجمع الأموال على أراضيها". وفي حين كان النظام الليبي يشكو من أن بريطانيا تؤوي رعايا اعتزموا الإطاحة به، استمرت هوايتهول في تقديم حماية الأمر الواقع للجماعة. والواقع أن الحكومة البريطانية لم تعتبر هذه الجماعة إرهابية إلا في أكتوبر 2005 فحسب، بعد تفجيرات لندن في 7 يوليو: وكان ذلك بعد تقارب ليبيا مع بريطانيا والغرب الذي بدأ في 2003.

وكان أنس الليبي عضواً في الجماعة. كان الليبي وهو خبير كمبيوتر استقر في السودان في منتصف التسعينيات، قد جاء من أفغانستان حيث درب أعضاء القاعدة على تقنيات المارقبة. وفي 1993 سافر الليبي إلى نيروبي واستخدم شقة عضو في القاعدة لالتقاط صور مراقبة للسفارة الأمريكية. كانت الخكوة الأولى في مؤامرة استمرت خمس سنوات وتوجهت بتفجير السفارتين في أغسطس 1998، والذي وجه بعده الإتهام إلى الليبي وأًصبح واحداً من أوائل الهاربين الذين تريد أمريكا القبض عليهم، وخصصت جائزة لإعتقاله أو قتله تبلغ 25 مليون دولار. وكان الليبي قد وفد إلى بريطانيا في 1995 وتقدم بطلب للجوء. وعقب ذلك مباشرة، أرسلت السلطات المصرية إلى هواتيهول ملفاً تفصيلياً بأوراق تثبت أنه إرهابي، متضمناً ادعاءات عن تورطه في محاولة فاشلة لإغتيال الرئيس مبارك في أديس أبابا في يونيو 1995. لكنتم رفض طلب مصر بترحيله إليها، وورد أن ذلك تم لأن المسئولين البريطانيين تشككوا في إنه سيلقى محاكمة عادلة وخشوا من أن يواجه عقوبة الإعدام. ومع ذلك، فهناك شكوك قوية في أن أجهزة الأمن البريطانية كانت تحمي الليبي، إلى جانب الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية، نظراً لأن جهاز المخابرات الخارجية كان يتعاون معها لقتل القذافي. وقد سمح لليبي بأن يعيش في مانشستر حتى مايو 2000، عندما تمت مداهمة مسكنه بناء على أوامر من وزارة الداخلية، بموجب طلب من الولايات المتحدة، وتم العثور على نسخ من كتيبات للتدريب على الجهاد، لكن الليبي كان قد فر بالفعل. وشمل أعضاء الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية الآخرون، أبا حفص الليبي، الذي كان يعيش على نحو معروف في دبلن من 1996 إلى أن ذهب للعراق في 2004، حيث عمل باعتباره أحد معاوني أبي مصعب الزرقاوي في جماعة القاعدة هناك حتى وفاته في السنة نفسها، وابن الشيخ الليبي قائد معسكر الخالدين للتدريب التابع لبن لادن في أفغانستان.

والأمر المثير للانتباه هو أن نظام القذافي هو الذي كان قد طالب الإنتربول في مارس 1998 بإصدار أمر اعتقال لبن لادن. وقد فعل ذلك رداً على اغتيال الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية المفترض لضابط مخابرات ألماني، هو سيلفان بيكر وزوجته في ليبيا في مارس 1994، قبل نحو ثمانية عشر عاماً من بداية تعاون بريطانيا مع الجماعة. وعندئذ أصدر الإنتربول مذكرة حمراء بشان بن لادن وثلاثة من أتباعه الليبيين. ومع ذلك فحسبما قال خبيران فرنسيان في شئون المخابرات هما جو يلوم دا سكي وجان-تشارلس بريساد، فإن وكالت المخابرات البريطانية والأمريكية دفنت أمر الإعتقال وهونت من التهديد بسبب تورط جهاز المخابرات الخارجية في مؤامرة الإنقلاب الليبي. وقد نشرت هذه القصة فيما بعد في الأوبزرفر تحت مانشت يقول: "جهاز المخابرات الخارجية يوقف طلب اعتقال بن لادن. وبعد خمسة أشهر من إصدار أمر الاعتقال جرى تفجير السفارتين الأمريكيتين في أفريقيا، ولو كانت الحكومات، ومنها بريطانيا، قد تصرفت حينذاك، فربما امكن تفادي التفجيرين.

والواقعة مثيرة للإهتمام في أنها تبين كيف قوض تواطؤ بريطانيا مع المتأسلمين المتطرفين بصورة مباشرة قدرتها على كبح جماحهم وملاحقتهم – وكان التواطؤ في الواقع هو الفكرة المهيمنة على السياسة الخارجية البريطانية بعد الحرب حيث تعاونت هواتيهول عادة مع الجماعات نفسها التي كانت تدعي أنها تعارضها. والواقع، أن مدى هذا ا تعاون كان مسهباً إلى حد أن إجراء أن يفضح هوايتهول، وهي حقيقة تنطبق أيضاً على الحكومات السعودية والباكستانية والأمريكية. ويفسر هذا جزئياً معارضة لندن وواشنطن الصريحة القيام بعمليات قانونية علنية لملاحقة المشتبه بأنهم إرهابيون – وبصفة خاصة في معسكر دلتا في خليج جوانتانامو، حيث يتم احتجاز المجاهدين المشتبه فيهم واستجوابهم خلف أبواب مغلقة.

الجماعات الإسلامية في العراق: أعقب تدمير بريطانيا والولايات المتحدة للمؤسسة العسكرية العراقية، وإلى حد كبير البنية الأساسية المدنية هناك في حرب الخليج في 1991، فرض عقوبات دولية على نظام صدام والذي تحقق أساساً بأمر بريطاني وأمريكي. وأسهمت هذه العقوبات، خاصة أثارها على الخدمات الصحية وغيرها من الخدمات الأساسية، في موت مئات الألوف من العراقيين العاديين طوال التسعينيات، وهي حقيقة وثقتها جيداً جماعات حقوق الإنسان والأمم المتحدة، وهكذا فإن العقوبات، وبالتداعي بريطانيا، تسببا في وفيات عراقية أكثر مما تسبب فيه نظام صدام الوحشي نفسه. فقد اعتبرت لندن وواشنطن العقوبات وسيلة لإحتواء النظام، لكن بريطانيا انخرطت في التسعينيات أيضاً في جهود للإطاحة به، مما أدى إلى قيام اتصالات بعدد من الجماعات المتأسلمة.

فعقب التصدي لإنتفاضة الشيعة في العراق في أوائل 1991 مباشرة، أصدر الرئيس جورج بوش الأب ترخيصاً بتنفيذ برنامج للقيام بعمليات سرية كبرى، تكلف ما يربو على 40 مليون دولار، لمساعدة جماعات المعارضة العراقية بتمويل قوى حرب العصابات التابعة لها وتدريبهم. إذ ك ان يتم حمل قوات شعبية وكردية من العراق جواً إلى السعودية للتدريب على التكتيكات والإتصالات واستخدام الأسلحة، وكانت هذه الأخيرة مشتراة من الإتحاد السوفيتي السابق.

كما ساعدت لندن وواشنطن في إنشاء تجمعين شاملين للمعارضة. فتم تأسيس الول وهو الوفاق الوطني العراقي في ديسمبر 1990، بتعاون جهاز المخابرات الخارجية ووكالة المخابرات المركزية مع جهاز المخابرات السعودي برئاسة الأمير تركي وجهاز المخابرات الأردني، وهو الترتيب المألوف من القوى الذي شوهد كثيراً في العمليات السرية بعد الحرب. وقد وصف سكوت رايتر، المفتش الأمريكي السابق عن الأسلحة في العراق، هذا الوفاق الوطني ال عراقي باعتباره "من صنع جهاز المخابرات الخارجية البريطاني"، وأن هدفه هو القيام "بانقلاب سريع وبسيط" في العراق ينفذه ضباط أثيرون في الجيش، منهم اللوار عدنان نوري وهو قائد لواء سابق في القوات الخاصة لصدام حسين. وكان قائد الوفاق إياد علاوي، الذي كانت له علاقات مع جهاز المخابرات الخارجية البريطاني وأصبح رئيساً للوزراء بعد غزو 2003. وقام الوفاق ببعض تفجيرات في العراق، استهدف أحدها دار سينما في بغداد وقتل عدة مدنيين. كما قاد مؤامرة انقلاب كان من المخطط أن تتم في يونيو 1996، لكن نظام صدام اكتشفها، وسارع باعتقال 120 من المتآمرين، وأعدم معظمهم.

وتم إنشاء المجموعة الثانية، وهي المؤتمر الوطني العراقي في يونيو 1992 كمظلة كامعة لفصائل المعارضة المتناحرة، بقاعدة في لندن وتمويل من وكالة المخابرات المركزية. وكان هذا المؤتمر بقيادة أحمد الجلبي، وهو شيعي علماني كانت له صلات وثيقة مع ريتشارد تشيني وزير الدفاع الأمريكي، وضمت قاعدته العريضة الحزبين الكرديين الرئيسيين، اتحاد كردستان الوطني والحزب الديمقراطي الكردستاني، والجماعتين المتأسلمين الرئيسيتين اللتين تدعوان لإقامة دولة إسلامية في العراق. كان أول هاتين الجماعتين هو المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وهو الجماعة الشيعية الرئيسية ومقرها إيران التي كانت تمولها منذ إنشائها في 1982، وقد اضطلعت بعمليات تفجير واغتيالات شتى ضد نظام صدام وشكلت ميلشيا، لواء بدر، لشن غارات على العراق عبر الحدود. وكانت الجماعة المتأسلمة الأخرى الأصغر هي جماعة الدعوة الإسلامية التي كانت قد أقامت فرعين لها في طهران ولندن عقب حظرها في العراق في 1980. وكان فرع لندن يرأسه إبراهيم الجعفري، الذي عاد بعد غزو 2003 إلى العراق وبعد فترة وجيزة أصبح رئيس وزراء آخر. وفي البدء انضم كل من المجلس الأعلى للثورة الإسلامية والدعوة الإسلامية إلى مجلس المؤتمر الوطني العراقي، لكنهما خلعا نفسيهما منه في منتصف التسعينيات، جزئياً بسبب منازعات مع الأكراد الذين كانوا يريدون جعل العراق اتحاداً فضفاضاً وليس دولة مركزية. والواقع أن المنازعات داخل المؤتمر ادت لما يقرب من انهياره في منتصف التسعينيات.

وقد ورد ان دوجلاس هوج وزير الخارجية البرطاني كان يجري في 1995 اجتماعات منتظمة مع المجلس الأعلى للثورة الإسلامية. بيد أن بريطانيا كما يقول سكوت رايتر، أقنعت وكالة المخابرات المركزية في منتصف التسعينيات بالكف عن تقديم الكتلة الأساسية من دعمها إلى المؤتمر الوطني العراقي وتوجيهه إلى الوفاق الوطني العراقي. وكان السبب الأول لهذا هو خوف أمريكا وبريطانيا من حدوث عصيان شعبي، مما قد يجئ إلى السلطة بعناصر أكثر تمثيلاً للشعب وموالية بدرجة أكبر لإيران وتتحدى السيطرة الغربية على العراقـ بوصفتها نقيضاً لإنقلاب بسيط يحل صفوة جديدة موالية للغرب محل صدام. وربما يفسر هذا العامل السبب في أن الإتصالات البريطانية والأمريكية مع المجلس الأعلى للثورة الإسلامية كانت مؤقتة على ما يبدو. وكان هناك عامل آخر هو عزوف للمجلس نفسه عن الإقتراب أكثر مما يجب من واشنطن ولندن. وعندما اجتمعت إحدى عشرة جماعة للمعارضة العراقية في وندسور، خارج لندن في أبريل 1999 – كان ذلك هو أول اجتماع كبير للمؤتمر الوطني العراقي خلال ثلاث سنوات – كان غياب المجلس الأعلى للثورة الإسلامية ملحوظاً.

بيد أنه يبدو أنه كان هناك بعض التعاون البريطاني الواسع مع المجلس أحياناً. ففي نوفمبر 1998، قال ديريك فاتشت وزير الخارجية في حكومة حزب العمال، إنه استمر في عقد اجتماعات منتظمة، كل شهرين أو ثلاثة أشهر، مع ما يزيد على دستة من جماعات المعارضة العراقية، منها المجلس الأعلى. ربما لم تنطو هذه الإجتماعات على وضع خطط للإطاحة بصدام في المستقبل فحسب، لكنها شملت أيضاً بحث التعاون العسكري الفعلي. فعلى سبيل المثال، ربما جرى تنسيق الضربات الأنجلو أمريكية على العراق في أواخر التسعينيات مع قوات المجلس في الميدان في واقع الأمر. ففي 3 نوفمبر اجتمع فاتشت مع ممثلي ما يربو على دستة من جماعات المعارضة العراقية، بمن فيهم المجلس الأ‘لى للثورة الإسلامية، وبعد ثلاثة أسابيع، قامت الطائرات البريطانية والأمريكية في ديسمبر بشن حملة قصف دامت أربعة أيام على أهداف عسكرية في العراق. وبعد ذلك صعدت لنن وواشنطن بهدوء حربهما السرية، فزادتا من تواتر مهمات القصف في المناطق المحظور فيها الطيران في شمال العراق وجنوبيه، وأرسلتا آلاف الطلعات وأسقطتا مئات الأطنان من القنابل. وقد شكلت هذه الحملة الجوية، التي لم تعلق عليها وسائل الإعلام العادية لحد كبير، البداية الحقيقية للحرب على عراق صدام التي توجت بغزو مارس 2003. وفي مارس 1999، كانت طائرة تورنيدو التابعة للسلاح الجوي الملكي وطائرات إف-16 الأمريكية تستهدف مواقع الرادار والإتصالات العراقية في جنوب شرق بغداد في الوقت نسفه الذي كانت فيها إذاعة صوت العراق الثائر التابعة للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية تذيع تقارير عن نشوب انتفاضات شعبية في بعض مدن الجنوب. ونبه موقع المخابرات المحترم على الشبكة العنكبوتية، ستراتفور، إلى أنه خلال عمليات القصف التي جرت في ديسمبر 1998 ومنذ هذه العمليات، يبدو أنه كان يتم تنسيق الضربات الجوية مع أنشطة المعارضة في الميدان، أو أنها مهدت الطريق لها على الأقل.

ويعد أن أصدر الكونجرس الأمريكي مرسوم تحرير العراق في أواخر 1998، والذي دعا لتغيير النظام، والتمويل الصريح لجماعات المعارضة، تم منح المؤتمر الوطني العراقي 100 مليون دولار أخرى من أجل توفير المعدات العسكرية والتدريب. وفي يناير 1999 حددت الولايات المتحدة سبع مجموعات للمعارضة العراقية على أنها مؤهلة للحصول على التدريب والأسلحة – بما فيها المجلس الأعلى الذي رفض رغم ذلك قبول مثل هذه المساعدة الأمريكية، خوفاً من التعاون مع واشنطن بمثل هذا النشاط كما يفترض. وكان القصد من هذا التمويل هو دعم حملة لحرب العصابات اقتراحها المؤتمر الوطني العراقي لزعزعة استقرار نظام صدام، بتوفير جنود من جهاز ال مخابرات الخارجية لتعليم المنفيين العراقيين، وكان ذلك مثالاً أخر لعمل القوات البريطانية كذراع خفية لحكومة الولايات المتحدة بحكم الأمر الواقع. وتلقت مجموعة أساسية تضم من 200 إلى 300 منفي تدريباً أولياً على تقينات التخريب واستخدام الألسحة ليعملوا بعد ذلك كفيلق ضباط غير يساعد في تدريب 2000-3000مجند آخرين. زليس من الواضح ما حدث لهذا الجيش الصغير.

وعلى غرار الإتصالات التي أجراها المسئولون في هوايتهول مع المجلس الأعلى للثورة الإسلامية ومع السعوديين للإطاحة بصدام، فقد عقدوا بعض الإجتماعات مع قوة متأسلمة أخرى، هي الحركة الإسلامية لكردستان العراق. وقد ضمت هذه الحركة التي تأسست في 1987 معاً كوادر كانوا قد حاربوا في أفغانستان في الثمانينيات. وبحلول منتصف التسعينيات أصبحت ثالث أهم قوة عسكرية وسياسية في منطقة شمالي العراق الكردية، بعد الحزبين العلمانيين الأساسيين حزب الإتحاد الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني. وكانت الحركة واحدة من سبع جماعات حددتها الولايات المتحدة في 1998 بأنها مؤهلة للحصول على تمويل سري، وقد اعترف مارتن ديريك فاتشت علناً بأنه قابل ممثلي هذه الجماعة. وقال إحسان الشيخ عبد العزيز في حوار جرى معه مؤخراً في لندن في نحو ذلك الوقت: "لقد أقمنا علاقات طبيعية وطيبة مع البلدان الأوربية خاصة بريطانيا – ومع الولايات المتحدة لشرح قضيتنا العادلة وتكثيف الجهود من أجل تحقيق تغيير إيجابي في العراق مستقبلاً"، وإن ذكر أيضاً "أن منظمته لم تتلق أي معونة مالية أمريكية". وادعى عبد العزيز أن الحركة كانت تعارض كلية العمليات الإجرامية للقاعدة وأنها حركة جهاد تلتزم بالقرآن وسنة النبي. وقد ورد أن الحركة كان لا يزال لها مكتب اتصال في لندن في 2003.

وما هو معروق قليلاً عن هذه الإتصالت البريطانية مع الحركة التي تعتبر أيضاً مثيرة للإهتمام، حيث إن أجزاء من الحركة تطورت بعد فترة وجيزة إلى فرع تابع للقاعدة. ونحو نهاية الألفية الثانية انقسمت هذه الجماعة إلى عدة فصائل، اندمج بعضها معاً فيما بعد، في سبتمبر 2001 في جماعة جند الإسلام، التي سرعان ما أعلنت الجهاد ضد حزب الإتحاد الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، وشنت هجمات شتى على المدنيين الأكراد. وفي ديسمبر 2001 أعادت الجماعة تسمية نفسها إلى أنصار الإسلام، وكان أميرها عضواً منذ فترة طويلة في الحركة الإسلامية لكردستان العراق، واسمه نجم الدين فرج أحمد، المعروف باسم معلا فاتح كريكار. وتم القبض على كريكار، الذي كان ذات مرة قد وصف بن لادن بأنه جوهرة في تاج الإسلام في هولندا في 2002 للاشتباه في تورطه في ارتكاب أعمال إرهابية في العراق وأعيد ترحيله إلى النرويج، حيث كان قد حصل على المواطنة، ليواجه ترحيلاً آخر للعراق. وأٌقامت جماعة الأنصار بتمويل من السعودية والقاعدة، ملاذاً آمناً صغيراً في المنطقة الجبيلة شمالي العراق وربما آوت هذه المنطقة أبا مصعب الزرقاوي زعيم القاعدة في العراق. وفي الأيام الأولى من غزو مارس 2003 للعراق كان على القوات الأمريكية أن تسحق معسكرات التدريب المشتبه في أنها تابعة لجماعة أنصار الإسلام في شمالي العراق.

لكن بالعودة إلى أواخر التسعينيات، نجد أنه حتى عندما لم يكن الغبار قد تبدد بعد ت دمير السفارتين في شرقي أفريقيا، غرقت بريطانيا والولايات المتحدة مرة ثانية حينذاك في تأييد حلفاء القاعدة، في كوسوفو في هذه المرة.

الفصل الرابع عشر - مؤامرات في حرب البلقان

في مسار التعليقات البريطانية السيارة، تعتبر حملة الناتو لقصف يوغوسلافيا في ظل سلوبدان ميلوسفتش في 1999تدخلاً لداوع إنسانية. ولا يزال توني بلير يلقى ثناء كثيراً على أنه هب الدفاع عن ذوي الأصل الألباني في كوسوفو، الذين كانت نحنتهم خطيرة بلا ريب حيث كانوا يتعرضون لانتهاكات وحشية متزايدة على أيدي الجيش اليوغوسلافي نحو نهاية 1998. لكن كان من نتيجة هذا القصف اذي قام به الناتو والذي بدأ في مارس 1999 تعميق الكارثة التي أنزلتها قوات ميلوسفتش بكوسوفو، وليس منعها. فقد وقعت غالبية الفظائع الوحشية التي ارتكبتها القوات اليوغوسلافية بعد أن بدأت حملة القصف التي قام بها الناتو. والواقع أن بعض وكالات استخبارات الناتو، يما فيها الوكالت البريطانية، كان قد تنبأ بأن أي قصف سيعجل بالتطهير العرقي الكامل الذي استخدم ذريعة عامة لشن هذه الحملة.

بيد أن هناك جانباً جانباً حاسماً آخر في هذه الحرب يقوض دوافعها الإنسانية المفترضة، ينطوي على تواطؤ بريطانيا كع جيش تحرير كوسوفو المتمرد، الذي قاتل إلى جانب مجاهدي القاعدة وعمل أساساً بوصفه قوات برية للناتو في كوسوفو. وقد دار الجدل المحتدم في دوائر الحكومة والإعلام العادي خلال الحرب حول ما إذا كان ينبغي للناتو إرسال قوات للميدان أو ما إذا كان يمكن سحق القوات اليوغوسلافية جواً لوقف فظائعها في كوسوفو كانت الحكومتان البريطانية والأمريكية عازفتين ع ن الإلتزام بإرسال قوات برية، أساساً خوفاً من تكبد إصابات مرتفعة والغرق في نزاع أكثر تطاولاً، وبدلاً من ذلك اتجهتا للعثور على حلفاء محليين واستخدام هذه ال قوى كأداة لسياساتهما إلى جانب جيش تحرير كوسوفو الذي يسانده البريطانيون، القيام بدور الوكيل الذي ينوب عن الغرب ونفذوا بعضاً من الأعمال القذرة التي لم يستطع الناتو القيام بها. والقصة كما رأينا ليست بأي حال غيرمألوفة في عالم ما بعد الحرب.

وبعد ذلك بفترة طويلة، ذكر جوردون بروان في أكتوبر 2006 وكان حينذاك رئيساً للوزراء في خطاب له عن التصدي لتحدي الإرهاب في المعهد الملكي للششون الدولية: أن تهديد القاعدة لم يبدأ في 11 سبتمبر – فالواقع أن الهجوم على برجي التجارة حدث لأن الولايات المتحدة كانت تتخذ إجراءات مع أوروبا لحماية المسلمين في يوغوسلافيا السابقة. كان بروان محقاً، والواقع أن بريطانيا كانت تقدم التدريب العسكري للقوى الت يكانت تعمل مع الأشخاص أنفسهم الذين دبروا هجوم 11 سبتمبر.

طبيعة جيش تحرير كوسوفو: ضم جيش تحرير كوسوفو ذوي الأصل الألباني الذين كانوا قد نذروا أنفسهم لضمان استقلال كوسوفو والترويج لألبانيا الكبرى في المنطقة الفرعية. وقد شرع هذا الجيش الذي يتكون من خليط من الشبان والطلاب الذين اكتسبوا طابعاً متطرفاً، ومن المهنيين مثل المدرسين والأطباء، وأعضاء من الأسر صاحبة النفوذ والمارقين المحليين، في النضال المسلح واستهل بداية أعماله العسكرية في مطلع 1996 بقصف معسكرات كانت تضم لاجئين صربا من الحرب في كرواتيا والبوسنة وبالهجوم على موظفي الحكومة اليوغوسلافية ومراكز الشرطة. وبحلول منتصف 1998، كان هذا الجيش يسيطر على أجزاء من كوسوفو وسلح ونظم نحو 30 ألف مقاتل، وبهذا أصبح قوة رهيبة في الميدان، تصدت للجيش اليوغوسلافي عندما شن في خضم حرب أهلية متنامية، هجوماً وحشياً كاملاً في كوسوفو في مارس 1999.

كما استهدفت جيش تحرير كوسوفو منذ مبدئه المدنيين الصرب والألبان، خاصة ممن يعتبرون متعاونين مع السلطات. ومن الواضح أن الولايات المتحدة وبريطانيا اعتبرتاه منظمة إرهابية. ففي فبراير 1998، وصف روبرت جلبارد المبعوث الخاص لإدارة كلينتون إلى كوسوفو، هذا الجيش بأنه مجموعة إرهابية لا ريب في ذلك. وبالمثل كان الوزراء البريطانيون واضحين في هذا الصدد، فقد أخبر روبين كوك وزير الخارجية البرلمان في مارس 1998 " أننا ندين بقوة استخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية، بما في ذلك الإرهاب الذي يقوم به جيش ينتحل اسم جيش تحرير كوسوفو. وفي ذلك الشهر نفسه وقع وزراء خارجضة الإتحاد الأوروبي على بيان بموقف مشترك يدين العنف والإرهاب اللذين يمارسهما جيش تحرير كوسوفو. والواقع أن كوك قال في نوفمبر 1998، ومرة ثانية في يناير 1999، إن "معظم عمليات القتل التي جرت في كوسوفو مؤخراً ارتكبها جيش تحرير كوسوفو، الذي لا تسفر أنشطته ضد أهل كوسوفو العاديين إلا عن إطالة معاناتهم. وأوضحت بيانات في البرلمان ألقاها وزراء بريطانيون أنهم ظلوا يعبترون جيش تحرير كوسوفو منظمة إرهابية حتى بداية حملة القصف في مارس. وقد عرف على نطاق واسع أن جيش تحرير كوسوفو يهرب الهيروين لبريطانيا بعد ما حققت هيئة المخابرات الخارجية في صلاته بالجريمة المنظمة.

وإضافة لذلك، فقد أقام هذا الجيش صلات وثيقة، مع القاعدة. وقد تواتر أن بن لادن زارألبانيا وأنشأ لنفسه قوة هناك في 1994. وفي السنوات التي سبقت حملة القصف التي شنها الناتو، كان المزيد من مجاهدي القاعدة قد انتقلوا إلى كوسوفو لمساندة جيش تحريرها، بتمويل من السعودية والإمارات. وبحلول أواخر 1998، كان رئيس المخابرات الألبانية يقول إن بن لادن أرسل وحدات للقتال في كوسوفو في حين نبهت وسائل الإعلام إلى أن تقارير وكالة المخابرات المركزية وجهاز المخابرات الألباني تذكر أن وحدات المجاهدين جاءت من ستة بلدان على الأٌقل في الشرق الأوسط وأنها تدفقت عبر الحدود من قواعد في ألبانيا إلى كوسوفو. كما أبرزت تقارير تدفقت عبر الخدود من قواعد في ألبانيا إلى كوسوفو. كما أبرزت تقارير المخابرات الأمريكية أن القاعدة كانت ترسل الأموال والمجاهدين للإنضمام لجيش تحرير كوسوفو، في حين كان كثيرون من مقاتلي هذا الجيش قد تدربوا في معسكرات القاعدة في أفغانستان وألبانيا. وكانت إحدى الروابط بين بن لادن وجيش تحرير كوسوفو التي حددتها المخابرات الأمريكية هي "منطقة مشتركة للتفويج أقيمت في ثروبروجي في ألبانيا، وهي مركز للإرهابيين الإسلاميين". وكان هذا الجيش يساعد مئات المقاتلين الأجانب على العبور من ألبانيا إلى كوسوفو، بما في ذلك قدامى محاربي جماعة الجهاد الإسلامي المتطرفة من البوسنة والشيشان وأفغانستان الذين يحملون جوازات سفر مزورة. وكانت إحدى وحدات الجيش بقيادة شقيق أيمن الظواهري، اليد اليمنى لبن لادن، حسبما قاله مسئول أقدم في الإنتربول مؤخراً وهو يقدم أدلو للكونجرس الأمريكي. وقد ورد عن مسئول عسكري غربي أنه قال إن المجاهدين المتأسلمين "كانوا مرتزقة لا يديرون هم العرض في كوسوفو، لكن كان يستخدمهم جيش تحرير كوسوفو في القيام بأعماله القذرة.

وعندما سؤل روبن كوك في البرلمان في نوفمبر 1998 عن مقال نشرته وسائل الإعلام ذكر أن المقاتلين المجاهدين شوهدوا مع قوات جيش تحرير كوسوفو في كوسوفو، رد قائلاً: "لقد قرأت هذا التقرير والقلق ينتابي". بيد أن وزيرة الدولة بالخارجية البارونة سيمونز، ادعت أن الحكومة ليس لديها أي أدلة على أن بن لادن كان يمول جيش تحرير كوسوفو. وفي مارس 1999، أخبر وزير دولة آخر هو توني للويد، مجلس العموم أن الحكومة على علم بتقرير وسائل الإعلام عن اتصالات جرت بين الجماعات الإرهابية الإسلامية وجيش تحرير كوسوفو لكن "ليس لدينا أي دليل على وجود مشاكرة منتظمة"، وكان استخدام كلمة منتظمة مليئاً بالدلالات، ويعني ضمناً أن الحكومة لديها فعلاً بعض العلم.

وهناك أيضاً أدلة على أن تغلغل المتأسلمين في كوسوفو وألبانيا كان قد أجرى التخطيط له منذ زمن بعيد. فقد لاحظ يوسف بودانسكي الخبير الأمريكي في شئون الإرهاب في تحليل له في 1996، بعد سنة من انتهاء حرب البوسنة، أن الحكومة البوسنية في سراييفو كانت تستعد هي وحلفاؤها المتأسلمون "للجولة المقبلة من الهجوم على الصرب: هذه المرة من خلال كوسوفو" وأن الخطة كانت تقضي بتصعيد صراع مسلح ضد بلجراد من قواعد في ألبانيا. وفي يونيو 1993، قدمت حكومة السعودية مليون دولار لتمويل بناء قاعدة بوسنية لإعداد مقاتلي حرب العصابات لإرسالهم إلى كوسوفو. وحسبما قال بوادنسكي: فإن هذه الدسيسة البوسنية ستكون قادرة على القيام بسلسلة من العمليات الإرهابية التي يمكن عزوها إلى منظمة ألبانية في كوسوفو، مما يثير رد فعل عنيف من قبل قوات الأمن الصربية، ومن ثم دورة من العنف. إذ كان من المعتقد أن العنف واسع النطاق المترتب على ذلك في سراييفو، سيستغل بعدئذ في استثارة تدخل عسكري غربي ضد يوغوسلافيا نفسها.

ونبه بودانسكي إلى أنه في مؤتمر عقد في الخرطوم في أبريل 1995، قررت الجماعات المتأسلمة والحكومات الراعية لها بقيادة السودان وإيران، إنشاء مركزين جديدين في طهران وكراتشي، والقصد من هذا الأخير هو شن حملة إرهابية في كوسوفو. وفي خريف 1995، تماماً عندما كانت الحرب في البوسنة تقترب من خاتمتها في خضم قصف يقوم به الناتو، بدأت الحكومة البوسنية في نشر المجاهدين المحنكين في ألبانيا. وبحلول مطلع العام التالي، كان العنف قد تفجر في كوسوفو كما رأ]نا على أيدي جيش تحرير كوسوفو وهو ما اغتنمت إدارة كلينتون فرصته كذريعة لزيادة تدخل الولايات المتحدة بصورة ملحوظة في كوسوفو نيابة عن الألبان المقهورين"، كما يقول بودانسكي، قبل ثلاث سنوات من حملة القصف الفعلية التي شنها الناتو.

الحرب السرية: في مرحلة ما من 1996، قامت المخابرات البريطانية إلى جانب المخابرات الأمريكية والسويسرية، بأول اتصالاتها المعروفة مع مسئول أقدم في جيش تحرير كوسوفو في ألبانيا، الأرجح أنه كان شابان شالا، وهو قائد لم يحارب في كوسوفو في 1999 فحسب، لكنه قاتل أيضاً داخل صربيا في 2000. وجرت اتصالات رسمية بين جيش تحرير كوسوفو والولايات المتحدة في يوليو 1998 عندما التقى كريس هيل، وهو مبعوث أمريكي خاص إلى كوسوفو، مع مسئولين من هذا الجيش، وفي اليوم التالي التقى ديبلوماسي بريطاني أيضاً مسئولين من الجيش نفسه في مقر قيادتهم في قرية كلينتشا الكوسوفية. وادعت الحكومة البريطانية فيما بعد ان :اجتماعا تمهيدياً عقد بين مسئول في السفارة البريطانية في بلجراد وبين قادة جيش تحرير كوسوفو في 30 يوليو 1998. وإذا كان كذلك، فإن هذا جاء بعد يومين من اعتراف البارونة سيمونز في رد على سؤال وجه في البرلمان بأن جيش تحرير كوسوفو منظمة إرهابية وأنه من الواضح أنه اشترى كميات كبيرة من الأسلحة في ألبانيا. وبحلول شهر أكتوبر، كان روبن كوك يوضح بجلاء أن بريطانيا تعارض الهدف السياسي لجيش تحرير كوسوفو والخاص بإقامة ألبانيا الكبرى: "ليس هناك مكان في الخريطة الدولية لألبانيا الكبرى – مثلما أنه ليس هناك مكان لصربيا الكبرى أو كرواتيا الكبرى.

ومع ذلك، ففي نحو ذلك الوقت بدأت بريطانيا في تدريب قوات اعترفت بأنها من الإرهابيين، وكانت تعارض جدول أعمالها السياسي وتوصلت لوثائق تثبت صلاتها بالقاعدة: وهو مستوى من النفعية لابد أنه بهر مثلاً المسئولين البريطانيين الذين كانوا قد تعاونوا مع الإخوان المسلمين أو آية الله كانشاني في الخمسينيات.

وقد أوردت صحيفة سكوتسمان لاحقاً أنه في مرحلة ما من أواخر 1998، فاتحت إدارة المخابرات بوزارة الدفاع البريطانية جهاز المخابرات الخارجية البريطاني بشأن القيام بمهمة لتسليح جيش تحرير كوسوفو وتدريبه. وأخبر مصدر عسكري بريطاني أقدم الصحيفة بأن "جهاز المخابرات الخارجية البريطاني تعاقد من الباطن بعدئذ على العملية مع شركتي بريطانيتين للأمن،

فاتحتا بدورهما عدداً من الأعضاء السابقين في القسم 22 من جهاز المخابرات الخارجية". وبعد ذلك تم إعداد قوائم بالأسلحة والمعدات التي يحتاجها جيش تحرير كوسوفو" وقد نبهت الصحيفة إلى أنه "في حين كانت تجري هذه العمليات السرية، تم نشر أعضاء عاملين في القسم 22 من جهاز المخابرات الخارجية، معظمهم من السرية دال من الوحدة في كوسوفو اولاً قبل بداية حملة القصف في مارس".

وبعد بضع أسابيع من حملة القصف، أوردت صانداي تلجراف تقريراً عن أن مقاتلي جيش تحرير كوسوفو كانوا يتلقون تدريباً من جهاز المخابرات الخارجية في معسكرين قرب العاصمة الألبانية تيرانا، وفي معسر آخر قرب حدود كوسوفو، الأرجح انه كان قرب مدينة باجرام كوري. كانت هذه المواقع هي مركز العمليات العسكرية لجيش تحرير كوسوفو حيث انتشرت سلسلة من معسكرات التدريب في التلال وكان يتم جمع السلاح وتوزيعه منها. والأمر الحاسم هو أن ذلك كان أيضاً هو المكان الذي يوجد به مركز المقاتلين المجاهدين ومنطقة تفويجهم المشتركة مع جيش تحرير كوسوفو، مثلما نبهت تقارير المخابرات الأمريكية السالفة. وانطوى التدريب البريطاني على تعليم ضباط جيش تحرير كوسوفو تكتيكات حرب العصابات والتعامل مع السلحة وتقنيات التدمير بالقنابل وإعداد الكمائن، وكذلك القيام بعمليات جمع الإستخبارات عن المواقع الصربية. وقد مولت وكالة المخابرات المركزية العملية السرية بأكملها في حين مول الجهاز السري الألماني Bundesnachrichchtendients توريد الأسلحة والتدريب. وكان الجهاز الألماني يقدم دعماً وتدريباً سريين لجيش تحرير كوسوفو منذ منتصف التسعينيات.

وقد أنكر الوزراء البريطانيون بثبات أي علم لهم بالمصادر التي تزود جيش تحرير كوسوفو بالسلاح والتدريب عندما كانت توجه لهم أسئلة حول هذا في البرلمان. ففي 13 أبريل، بعد ثلاثة أسابيع من حملة القصف، وقبل أيام فحسب من إيراد التلجراف تقريراً عن التدريب البريطاني، أخبر توني بلير البرلمان أن "موقفنا من تدريب جيش تحرير كوسوفو وتسليحه لا يزال كما هو – نحن لا نحبذ القيام بذلك . . . وليس لدينا خطط لتغيير ذلك". وفي بعض الأحيان كان الوزراء يستخدمون لغة موحية. فقد ذكرت البارونة سيمونز في مناسبتين، في مارس وفي مايو 1999، أنه ليس هناك أي "أدلة راسخة" وليس هناك "أي معلومات موثوق بها" عن المصادر التي تزود جيش تحرير كوسوفو بالأسلحة والتدريب – واستخدام عبارتي راسخة وموثوق بها كان طريقة مألوفة يدعى بها المسئولون الجهل بقضايا يعلمونها تمام العلم. وكان هناك سبب للسرية هو ان مثل ذلك التدريب كان انتهاكاً لقرار مجلس الأمن بالأمم المتحدة رقم 1160، الذي حظر تسليح القوات أو تدريبها في يوغوسلافيا كلها.

وقد نبه جيمس بيسيت، وهو سفير كندي سابق في يوغوسلافيا وألبانيا مؤخراً إلى أن التدريب الذي قدمته الولايات المتحدة لجيش تحرير كوسوفو في 1998 كان ينطوي على "إعادة أفراده لكوسوفو للاغتيال العمد للصرب، ونصب كمائن لرجال الشرطة الصرب وترويع ألبان كوسوفو المترددين". وكتب يقول "كان الأمل هو أنه مع استعار النيران في كوسوفو يمكن للناتو أن يتدخل، وعندما يفعل ذلك لا يطيح بميلوسفتش رجل الصرب القوي فحسب وإنما يزود المنظمة العسكرية التي طفقت تشيخ ولم تعد مطابقة لمقتضيات الحال الناتو بمبرر لاستمرار وجودها. وبالمثل فسر قادة جيش تحرير كوسوفو أن "عملاً مسلحاً نضطلع به سيجر انتقاماً على المدنيين من قبل القوات الصربية"، وأنه "كلما زاد القتلى من المدنيين، زادت فرص التدخل". كانت هذه تحديداً هي الإستراتيجية التي كان قد عرضها يوسف بودانسكي قبل ذلك بثلاث سنوات من حملة القصف التي شنها الناتو. ويبدوأن تسعيد جيش تحرير كوسوفو للتوترات العرقية كان جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية لندن وواشنطن – وهو موضوع مألوف في العمل السري بعد الحرب فيما يتعلق بالتواطؤ مع الجماعات المتأسلمة.

ولا ريب أن جيش تحرير كوسوفو أثبت أنه مفيد للمخططين الأنجلو أمريكيين. فقد ذكر توني بلير بعد شهر من عملية القصف التي كانت متواصلة أن "جيش تحرير كوسوفو حقق نجاحات كبيرة على أرض الواقع في كوسوفو وأنه استعاد حقاً أجزاء محددة منها". وكان جيش تحرير وسائل الإعلام بأنه عيون الناتو وآذانه على أرض الواقع في كوسوفو، يستخدم الهواتف المتصلة بالأقمار الصناعية لتزويد الناتو بتفاصيل عن الأهداف الصربية. وكان بعض من معدات الإتصال قد سلمه سراً إلى جيش تحرير كوسوفو قبل أسبوع من بدء الضربات الجوية، بعض الضباط الأمريكيين الذين كانوا يعملون باعتبارهم مراقبين لوقف إطلاق النيران لدى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وكانوا في واقع الأمر عملاء لوكالة المخابرات المركزية. كذلك قدموا لجيش تحرير كوسوفو كتيبات التدريب العسكري الأمريكية ومشورة ميدانية حول محاربة الجيش والشرطة اليوغوسلافيين. وقد تواتر أن عدداً من قادة جيش تحرير كوسوفو كان لديهم رقم التليفون المحمول للجنرال ويسلي كارك، قائد الناتو. وفي الوقت نفسه عقد روبن كوك صحفياً مشتركاً مع ممثلي جيش تحرير كوسوفو في مهاية مارس، وكان على اتصال هاتفي مباشر مع قائده في كوسوفو، هاشم تقي، وقد أصبح هذا الأخير في فبراير 2008 أول رئيس لوزراء كوسوفو بعد استقلالها.

وبحلول مطلع أبريل 1999، كان أكثر من 500 ألباني يعيشون بريطانيا قد تطوعوا للذهاب للقتال في كوسوفو، وفق ما أعلنه ممثل جيش تحرير كوسوفو في لندن، رغم أنه م المرجح أنه بالغ في الرقم. ومثلما حدث خلال حرب البوسنة قبل بضع سنوات، سمحت بريطانيا والولايات المتحدة للمسلمين البريطانيين وغيرهم بالسفر إلى كوسوفو متطوعين للجهاد، بل ويسرتا ذلك.

وينبه ب. رامان إلى أن وكالة المخابرات المركزية حولت جبهة المجاهدين الباكستانيين المرتبطين بالجماعة الإرهابية، حركة المجاهدين، الذين حاربوا في البوسنة إلى كوسوفو. وعقب تفجيرات لندن في 2005، ادعى [[جون لوفتوس]ي، وهو مدع عام سابق في وزارة العدل الأمريكية وضابط مخابرات أمريكي، أن جهاز المخابرات الخارجية البريطاني كان يعمل إلى منطمة المهاجرين المتأسلمة المتشددة على إرسال المجاهدين إلى كوسوفو. وكانت هذه المنظمة قد أسسها في السعودية في 1993، عمر بكري محمد، الذي هرب في 1986 إلى بريطانيا بعد أن حظرت السعودية المنظمة، وأقام فرعها البريطاني في مطلع 1986. وبحلول منتصف التسعينيات ك ان بكري يوصف في وسائل الإعلام البريطانية بأنه "رئيس الجناح السياسي في الجبهة الإسلامية الدولية"، التي أقامها بن لادن في 1998، وأيد علانية دعوة بن لادن للجهاد، وقد أخبر وسائل الإعلام بأنه كان يجمع الأموال لجيش تحرير كوسوفو ويدعم نضاله في كوسوفو. وقد أخبر لوفتوس محطة تلفزيون أمريكية ان قادة المجاهدين عملوا جيمعاً لصالح المخابرات البريطانية في كوسوفو وأن المخابرات البريطانية اكترت فعلاً شذاذ آفاق القاعدة للمساعدة في الدفاع عن حقوق المسلمين في ألبانيا وكوسوفو. وادعى أن وكالة المخابرات المركزية كانت تمول العملية في حين كانت المخابرات البريطانية تقوم بالإكتراء والتجنيد. وقال لوفتوس إن هذه الإدعاءات تستند إلى حوار أجره بكري نفسه مع صحيفة الشرق الأوسط، وهي صحيفة تصدر باللغة العربية مقرها لندن في 16 أكتوبر 2001. بيد انه رغم البحوث المسهبة، لم أستطع تحديد مكان هذا الحوار في هذا التاريخ أو أي تاريخ آخر، كما يذكر بكري (وذلك ل ا يدعو للدهشة) انه عمل مطلقاً مع المخابرات البريطانية.

كذلك يدعى لوفتوس أن أحد البريطانيين الذين جندوهم المهاجرين للحرب في كوسوفو، كان هارون رشيد أصوات، وهو مواطن بريطاني من أصل هندي، أصبح فيما بعد في التحقيقات التي أحاطت بتفجيرات لندن في 2005. وحسبما يقول لوفتوس، فإن أصوات كان عميلاً مزدوجاً يعمل لكل من البريطانيين في كوسوفو، وللقاعدة فيما بعد. وفور أن قدم لوفتوس هذا الإدعاء، نبه تقرير نشرته التايمز عن صلات أصوات المحتملة بتفجيرات لندن في يوليو 2005، إلى أن الأسئلة كانت مثارة عما إذا كان يمثل مصدر معلومات مفيد للمخابرات البريطانية، وأبرز أن مسئولي هوايتهول الأقدم ينكرون أي علم لهم بأنه ربما كان عميلاً للمخابرات ا لداخلية أو جهاز المخابرات الخارجية – وهي صياغة حريصة لا يمكن إلا أن تزيد الشكوك.

وكان عمر خان شريف بريطانيا يمكن ربطه على نحو قاطع بدرجة أكبر بمعسكرات كوسوفو، وقد أصبح في 2003 مشهوراً بمحاولته الفاشلة لتفجير نفسه داخل بار في تل أبيب، فقد تراجع في آخر دقيقة، لكن شريكه فجر قنبلة فقتل نفسه وثلاثة آخرين. وحسبما يقول قيلم وثائق لهيئة الإذاعة البريطانية فإن شريف امضى ثلاثة أسابيع في معسكر في ألبانيا خلال الجهاد في كوسوفو، لكن الفيلم (كما هو متبع) تقاعس عن أن يذكر أن التدريب السري البريطاني كان يتم في ألبانيا في الوقت نفسه. وقد حضر شريف اجتماعات المجاهدين في بريطانيا وكان معجباً بأبي حمزة الذي أصبح معلمه، كما قابل محمد صديق خان، مفجر قنابل 7 يوليو والذي حاول معه تجنيد مجاهدين آخرين في 2001.

ولم تتوقف مساندة أمريكا السرية لحرب عصابات جيش تحرير كوسوفو عندما جرى إنهاء حملة الناتو في كوسوفو في يونيو 1999، أو حتى مع سقوط ميلوسفتش في أكتوبر 2000. فبعد انتهاء نزاع كوسوفو، شنت قوات جيش تحرير كوسوفو حربين آخريين في جنوبي صربيا ومقدونيا لتحقيق هدفه في إقامة ألبانيا الكبرى. وقد أيدت الولايات المتحدة كلا الحربين في البدء – ولكن عن طريق بريطانيا على نحو غير ظاهر. وأوردت هيئة الإذاعة البريطانية تقريراً في يناير 2001 يقول إن قوات خاصة غربية لا تزال تقوم بتدريب جيش تحرير كوسوفو نتيجة لقرار كان قد تم اتخاذه قبل سقوط ميلوسفتش. ووردت حينذاك تقارير بأن هذا الجيش كان له عدة مئات من المقاتلين في عمق 5 كيلومترات من المنطقة المستثناة من الأعمال العسكرية على الحدود بين كوسوفو وبقية صربيا. وكانوا يقاتلون لتشجيع انفصال بلديات معينة عن صربيا. وإضافة لذلك، لم تكن قوات معينة يقودها الناتو تمنع إدخال رجال حرب العصابات مدافع الهاون وغيرها من الأسلحة إلى المنطقة المستثناة، على الرغلم من حقيقة أن الناتو كان يسير دوريات في المنطقة. ونبهت تقارير إعلامية أخرى إلى أن المسئولين الأوروبيين كانوا يشعرون بالحنق من سماح الأمريكيين بقيام جيوش حرب العصابات في قطاعهم بالتدريب وتهريب السلاح وشن هجمات عبر الحدود بين الدولتين، وأن الجيش غير الشرعيي ابن الزنا المنسوب لوكالة المخابرات المركزية كان يسمح له بأن يطلق العنان لنزاوته في المنطقة.

وكان من المثير للإهتمام من منظزر السياسة الخارجية البريطانية أنه عندما بدأت فرق حرب العصابات في مارس حرباً أخرى، هذه المرة عبر حدود أخرى قريبة من مقدونيا، كانت بقيادة عدد من القواد سبق أن دربتهم القوات البريطانية لحملة كوسوفو. وكان قائدان لهذه الحملة على مقدوينا التي تنطلق من قاعدتها في كوسوفو، يتلقيان التعليمات من جهاز ال مخابرات الخارجية البريطاني وفرقة المظلات في معسكرات تقع في شمالي ألبانيا في 1998 و 1999، وكانا حينذاك يقاتلان تحت راية جيش التحرير الوطني. كان أحدهما يقوم بتنظيم تدفق السلاح والرجال إلى مقدونيا، في حين كان الآخر يساعد في تنسيق الهجوم على بلدة تيتوف في شمال البلاد. وكان غزيم أو ستريمي وهو قائد في جيش التحرير الوطني، قد دربه جهاز المخابرات الخارجية من قبل ليرأٍ قوات الحماية في كوسوفو التي ترعاها الأمم المتحدة، التي قصد بها أن تحل محل جيش تحرير كوسوفو.

وكان وزير الخارجية روبن كوك يصف قوات جيش التحرير الوطني آنذاك بانها إرهابية وكان اللورد روبرتسون الأمين العام للناتو يصفها بأنها من السفاخين القتلة، مثلما كانت توصف قبل حملة القصف في 1999، التي تعاون البريطانيون معها خلالها باعتبارها جيش تحرير كوسوفو. لم تكن الكمائن التي نصبها جيش التحرير الوطني وعمليات الإغتيال التي قام بها في مقدونيا تختلف كثيراً عما ارتكبه باعتباره جيش تحرير كوسوفو. وقد استمر الدعم الأمريكي السري له في البداية على الأقل، وقام الأمريكيون في عملية واحدة بإخلاء 400 من مقاتلي جيش التحرير الوطني عندما حاصرتهم القوات المقدونية، وساعدت الإمدادات التي قدموها، فرق حرب العصابات في السيطرة على نحو ثلث أراضي مقدونيا بحلول أغسطس 2001، وبعد هذا فحسب شرعت واشنطن، تحت ضغط من حلفائها في الناتو في كبح جماح القوة الوكيلة التي تعمل بالنيابة عنها وألقت بثقلها وراء محادثات السلام.

وفي الشهر التالي، ضربت القاعدة نيويورك وواشنطن.

الفصل الخامس عشر - قرائن 11 سبتمبر

لا ريب أن القاعدة بتنفيذها هجمات مذهلة مثل تلك التي جرت في 11 سبتمبر، حققت غرضها في الإستحواذ على انتباه العالم. بيد أنه كما أوضح جيبز كيبل المؤلف الفرنسي، فإن 11 سبتمبر كشفت أيضاً إخفاق قوى الجهاديين في بناء حركة جماهيرية حاشدة وإثارة انتفاضة ناجحة في أي بلد إسلامي. لقد لجأت القاعدة لمسرح الإعلام بامل أن يلهم الإرهاب الصرف المجاهدين في الأماكن التي لم يحقق فيها ال نضال المسلح أي نجاحات كبيرة في الحشد الشعبي. وبدلاً من ذلك كانت 11 سبتمبر علامة أفول، الحركة الجهادية الإسلامية وليس صعودها.

بيد أن الهجمات كانت فرصة لا تعوض بالنسبة لإدارة بوش لإعلان حرب على الإرهاب، تمثل معركة فاصلة من أجل مستقبل الحضارة نفسها، فقد توافرت لواشنطن حينذاك ذريعة مثالية لبدء فترة جديدة من التدخل العسكري العالمي استناداً لخطط كان قد وضعها بالفعل المحافظون الجدد أو القريبون من الإدارة. وسرعان ما تلا ذلك غزو أفغانستان والعراق، إلى جانب إقامة قواعد عسكرية جديدة كثيرة، خاصة في منطقة آسيا الوسطى الرئيسية الغنية بالطاقة. كما جرى تعميق التحالفات مع كثير من دول القهر في شتى أنحاء العالم – من كمبوديا إلى أوزباكستان – التي أعلنت معارضتها للإرهاب مثلما حددته واشنطن. وحل الإرهاب محل التهديد السوفيتي كذريعة أساسية للدعم الذي يقدمه الغرب لهذه النظم.

لكن هدوم 11 سبتمبر رسم أيضاً بداية فترة جديدة من تواطؤ الولايات المتحجة وبريطانيا مع الإسلام المتطرف في شكل مختلف بصورة حادة عن أهداف السياسة الخارجية، كما حدث فيمناسبات كثيرة في الماضي، أصبحت واشنطن ولندن حينذاك يصورانها باعتبارها عدوهما رقم واحد، لكت لتحقيق الهدف الأساسي نفسه: السيطرة على المنطقة الغنية بمصادر الطاقة الرئيسية، خاصة في الشرق الأوسط. بيد أن هذا الشكل الجديد من التواطء لم يبشر بنهاية كاملة للشكل القديم، فكما رأينا، ظلت بريطانيا تتعاون مع بعض القوى الإسلامية المتطرفة، والمتحالفين معها، بعد 11 سبتمبر.

ووقفت بريطانيا في ظل توني بلير سعيدة إلى جانب واشنطن كتفاً بكتف في تنفيذ هذه الإستراتيجية، ليس فقط لإلغاء أي مجال للشك فيمن هو الحليف رقم واحد للولايات المتحدة (في مواجهة غرماء مثل ألمانيا واليابان)، وإنما أيضاً لأسباب أخرى تتعلق بالمصلحة الذاتية: وهي أن الإرهاب سيوفر لبريطانيا مبرراً لمرحلة جديدة من التدخل العسكري لحسابها في شتى أنحاء العالم، وحيث إن الحكومة كانت قد أجرت مراجعة للدفاع الإستراتيجي في 1998، فقد تم بهدوء إعادة تشكيل اقوات العسكرية البريطانية من دور دفاعي في الظاهر إلى دور هجومي صراحة، مع تركيز جديد على حرب الحملات واستعراض القوة في الخارج. وقد نبهت مراجعة الدفاع الإستراتيجي إلى أنه في عالم ما بعد الحرب الباردة، يجب أن نكون مستعدين للذهاب للأزمة بدلاً من ترك الأزمة تأتي إلينا"، وأوجزت هذه المراجعة، استراتيجية لإستخدام القوة العسكرية الإستباقي. كما نبهت إلى الحاجة إلى جيل جديد من المعدات العسكرية، يشمل مروحيات هجومية، وحاملات طائرات جديدة، وغواصات وسفن مرافقة، وطائرات حربية من طراز الطائرة المقاتلة الأوروبية متعددة الأدوار، واستحداث طائرات تخلف القاذفات من طراز تورنيدو، وجعل الهجوم الجوي طويل المدى مهماً باعتباره جزءاً لا يتجزأ من خوض الحرب وأداة زجر لدعم الأهداف السياسية، في حين سيتم تجهيز كل الغواصات الهجومية . . . لإطلاق قذائف توم هوك لمهاجمة البر لزيادة جدواها في عمليات استعراض القوة". وقد جرى كل ذلك قبل 11 سبتمبر. وبعدها، أصبح الإرهاب هو المبرر الأسمى لنفس استراتيجية التدخل. وفي تقرير نشر بعد ثلاثة أشهر من 11 سبتمبر، كررت لجنة الدفاع البرلمانية المشكلة من كل الأحزاب الدعوى إلى استراتيجية للعمل العسكري الإستباقي" وذكرت أنه "يتعين علينا . . . أن نكون أحراراً في نشر قوات كبيرة في الخارج بصورة سريعة"، وأضافت: إن تداعيات الحرب على الإرهاب ليس لها حد زمني – خاصة حرب ستتصدى لمشاكل الدول المنهارة والفاشلة التي توفر مجالاً سياسياً لشبكات الإرهاب والجريمة لكي تعمل – تبين أن العمليات في آسيا الوسطى، وشرق أفريقيا، وربما شبه القارة الهندية وأماكن أخرى، ستصبح ضرورية كجزء من استراتيجية سياسية وعسكرية متكاملة للتصدي للإرهاب والأساس الذي يزدهر عليه.

وإضافة لذلك، أصدرت الحكومة في ديسمبر 2003، بعد تسعة شهور من غزو العراق، استرتيجية عسكرية جديدة في كتاب أبيض ذكر "أن تهديد الإرهاب الدولي بقتضي حالياً قدرة على القيام بتصد عسكري له على النطاق العالمي". وألزمت هذه الإستراتيجية بريطانيا: "بمد قدرتنا على استعراض القوة خارج الوطن إلى مدى أبعد مما استهدفته مراجعة استراتيجية الدفاع"، بما في ذلك "الأزمات التي تشب عبر أفريقيا جنبو الصحراء وشرق آسيا". وكرر الكتاب الأبيض الحاجة إلى "عمليات للحملات" ولمعدات جديدة على غرار قذائف كروز وحاملات طائرات، وأكد مجدداً الحاجة إلى مواجهة الإرهاب الدولي في الخارج بدلاً من انتظار وقوع هجوم داخل المملكة المتحدة". ولذلك، فإنه بالنسبة لبريطانيا، طفقت الحرب على الإرهاب تحل محل "التدخل لدواع إنسانية" – وهو المفهوم الذي يفترض أنه وجه قصف بلير ليوغوسلافيا في 1999- باعتباره المبرر الأول لقيام بتدخل عسكري في الخارج.

والأمر الذي لم يكن عادياً بصورة خاصة فيما يتعلق بقدرة بريطانيا والولايات المتحدة على اختلاق هذه الإستراتيجة من هجوم 11 سبتمبر، هو تحديد من اعتبرتهم لندن وواشنطن حلفاء لهما. فقد انهالا بالثناء على السعودية وباكستان باعتبارهما متعاونين أساسيين في الحرب على الإرهاب. والواقع أن المبرر الموضوعي لقصف السعودية وباكستان ربما كان مماثل اً لمبرر قصف أفغانستان، وأكبر مما لا يقارن من قصف بغداد. لقد كان هدوم 11 سبتمبر إلى حد كبير نتاجاً لرعاية السعودية وباكستان قديمة العهد للجماعات المتأسلمة المتطرفة. قد أغدقت السعودية لنحو ثلاثة عقود تقريباً منذ 1973، الأموال على طائفة من الجماعات المتأسلمة، بما في ذلك بن لادن، وطوال هذه الفترة حظت الرياض بالرضا المستمر من لندن وواشنطن. وفي الوقت نفسه، كا نت باكستان هي خالق أفغانستان التي تسيطر عليها طالبان، مما أنتج هجوم 11 سبتمبر من بين فظائع أخرى، وأنشأت منذ أواخر السبعينيات بنية تحتية للمعسكرات والشبكات الإرهابية لتصدير الإرهاب إلى منطقتها وما وراءها. وحتى التقرير المؤقت للجنة 11 سبتمبر الرسمية في الولايات المتحدة المنشور في يونيو 2004، والذي هون بشدة من دور باكستان في الإرهاب الدولي، ظل ينبه إلى أن "باكستان وليس العراق هي التي هي كانت نصيراً للإرهاب وأقامت علقاات وثيقة مع أسامة بن لادن والقاعدة أفضت إلى هجمات 11 سبتمبر"، وأن استضافة طالبان لبن لادن في أفغانستان قبل 11 سبتمبر "قد يسرها لحد كبير الدعم الباكستاني".

كانت قطيعة الرئيس الباكستاني مشرف المفترضة مع طالبان بعد 11 سبتمبر كافية لإرضاء واشنطن ولندن وإقناعهما بأن باكستان أصبحت حليفاً آنذاك. وتقاعست السعودية عن نبذ أي من سياستها الماضية. ولم تنأ لندن وواشنطن بنفسيهما عن إسلام أباد أو الرياض ناهيك عن قصفهما، حيث إنه لم يعد هناك هذا القدر من الحرب على الإرهاب أو البنة التحتية للإرهاب، الذي لا يزال موجوداً بلا ريب حيث إن الحرب باتت على أهداف محددة بصفة خاصة تم اختيارها كأعداء لواشنطن ولندن لتحقيق أهداف محددة للسياسة الخارجية.

كما يثير دور باكستان في هجوم 11 سبتمبر مسألة صلة بريطانيا بذلك. فقد أوردت تايمر أوف إنديا تقريراً بان الفريق محمود أحمد مدير جهاز المخابرات الباكستاني، والمناصر القوي لطالبان، قد أمر بتسليم 100 ألف دولار لمحمد عطا قائد مجموعة 11 سبتمبر الإرهابية وقد قيل إن واسطة أحمد في تسليم الأموال كان عمر سعيد الشيخ، وهو بريطاني من أصل باكستاني أقام علاقات مع جماعات حركة الأنصار الإرهابية واتهمه مشرف فيما ب عد بأنه عميل لجهاز المخابرات الخارجية البريطاني. وعقب ذلك، أوردت وسائل إعلام شتى تقارير عن أن مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي ومصادر مخابرات غربية كانا يعتقدان أن الشيخ قد حول الأموال بالفعل إلى عطا. وقد تتبع مكتب التحقيقات أكثر من 100 ألف دولار من بنوك في باكستان إلى بنكين في فلوريدا، كان لعطا حسابات فيهما، رغم أنه لم يذكر وكالة المخابرات الباكستانية. وقد تقاعد أحمد من منصب رئيس المخابرات بعد 11 سبتمبر بأقل من شهر، وتشير بعض التقارير إلى أن هذا كان بسبب اكتشاف مكتب التحقيقات صلات وثيقة بينه وبين الشيخ عقب 11 سبتمبر. وقد ورد أن الشيخ كان قد أخبر الجنرال إحسان الحق قائد قوات الجيش الباكستاني في بيشاور آنذاك والذي أصبح فيمابعد قائد جهاز المخابارت الباكستاني أنه علم بخطط لتوجيه ضربات إرهابية في الولايات المتحدة أثناء زيارة له لأفغانستان قبل 11 سبتمبر. وإضافة لذلك، قال الشيخ فيما بعد أنه كان عميلاً لجهاز المخابرات الباكستاني وأنه كان يعمل من لاهور منذ الإفراج عنه من السجن في 1999، كما قال مسئولون في الشرطة والمخابرات الأمريكية إن الشيخ كان "أصلاً ثميناً يتمتع بالحماية" من قبل دهاز المخابرات الباكستاني. وهناك شكوك في أن جهاز المخابرات الباكستاني كان قد جند الشيخ منذ مدة طويلة ترجع إلى 1992، عندما كان طالباً في لندن. وفي ضوء هذا، من اصعب تصديق أن المخابرات الباكستانية لم تكن على علم مسبق بهجوم 11 سبتمبر.

وسعيد الشيخ هو الصلة البريطانية الأكثر إثارة للاستغراب بهجوم 11 سبتمبر. فبعد احتجازه خمس سنوات في سجن هندي لاختطاف أربعة سائحين بريطانيين وأمريكيين نيابة عن حركة الأنصار في 1994، تم إطلاق سراحه في ديسمبر 1999، بعد أن وافقت الحكومة الهندية على إبرام صفقة للرهائن، تم بمقتضاها الإفراج عن الشيخ ومجاهدين آخرين (أحدهما مولانا مسعود أزهر قائد حركة الأنصار) مقابل إطلاق سراح 154 راكباً على طائرة نفاثة هندية ا ختطفتها هذه الحركة. وقد ورد أن الشيخ عقد وهو في السجن تسعة اجتماعات مع ديبلوماسي بريطاني، بحضور محاميه، لفحص "حالته الصحية وفاهيته العامة". ومع ذ لك، فقد حاولت المخابرات البريطانية هي أيضاً كما تواتر إبرام صفقة مع الشيخ. وحسبما جاء في تقرير نشر في التايمز، فإنه بينما كان الشيخ في السجن "عرض عليه مسئولون بريطانيون سراً العفو عنه في 1999 إذا خان ارتباطاته بالقاعدة". كان مسئولو المخابرات البريطانية "على ع لم بأوراق اعتماده بوصفه إرهابياً لكنهم اعتقدوا أن لديه معلومات حاسمة عن المجندين من الغرب في الجماعات الإسلامية". ونبه تقرير آخر إلى أن مسئولي هوايتهول أخبروا الشيخ أنه يمكنه "أن يعيش في لندن رجلاً حراً إذا أخبرهم بكل ما يعرفه". وذكرت التقارير ان الشيخ رفض العرض لكن هناك مبرر للتشكك في هذا، لنه بعد يومين من إط لاق سراحه، أصدرت وزارة الخارجية بياناً غير عادي جاء فيه: من المحتمل تماماً أن يعود السيد الشيخ إلى بلده حيث توجد أسرته. وباعتباره يحظى بالجنسية البريطانية كاملة، فإن له كل الحق في العودة. وهو لم يتصل بنا، لكن من الواضح إنه إذا اتصل بنا وطلب تسهيلات للحصول على جواز سفر، فإننا سنصدر له جوازاً، شرط ان يثبت من هو. إنه لم يدن بأي تهمة، بل إنه حتى لم يقدم لمحاكمة.

وقد ورد أن الشيخ زار أسرته في لندن في لذك الشهر، وزارها مرة ثانية في مطلع 2001، دون أن توجه له السلطات البريطانية اتهاماً عن خطف بريطانيين في 1994، أو تبدأ الشرطة تحقيقاً معه. وهذا إما أن يبين أن البريطانيين أبرموا صفقة مع الشيخ، ويكشف أن هوايتهول كانت مستعدة للتعاون سراً مع إرهابي متأسلم معروف، أو أنه يصور مدى تسامح السلطات البريطانية مع الإرهاب حتى عندما يكون الضحايا بريطانيين، إن لم تجر صفقة مطلقاً. ومن السهل تبين كيف أن هذا لموقف يبعث برسالة للمتطرفين المتأسلمين البريطانيين بأن أنشطتهم في الخارج سيتم التسامح معها أيضاً، حتى وإن انطوت على خطف الأشخاص أو الطائرات.

كانت عواقب السياسة البريطانية وخيمى، في ضوء تورط الشيخ في تشكيلة من أعمال الإرهاب اللاحقة. فقد ورد أنه زار أفغانستان بعد ذلك بفترة وجيرزة، حيث ابتكر شبكة للاتصالات آمنى وتستند إلى الشبكة العنكبوتية لصالح القاعدة، وعمل مدرباً على حرب العصابات في معسكرات للتدريب وقابل الملا عمر قائد طالبان، وكذلك بن لادن.

وفي أغسطس 2001، وفي تحول تام عن موقف وزارة الخارجية الذي كان قد أعلنته قبل ذلك بثمانية عشر شهراً، ورد أن ا لمخابرات البرطيانية طلبت من نظيرتها الهندية اعتقال الشيخ لاستجوابه. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان الشيخ قد نكص عن صفقته مع البريطانيين أو أصبحوا ببساطة يشعرون بالقلق من جراء نشاطاته. ومما له دلالته أيضاً أن البريطانيين قد اتجهوا للهند للحصول على معلومات عن الشيخ، ولم يلجأوا لباكستان، مما يضفي مصداقية أكبر على الرأي القاتل بأن الباكستانيين كانوا يحمونه.

وفي هذه المرحلة زعموا أن الشيخ سلم أموالاً لمجموعة 11 سبتمبر، وأنه سافر بعد بضعة أيام م ن11 سبتمبر إلى أفغانستان للقاء بن لادن. كما ادعى هووؤخراً أنه كان يعرف المناضلين الذين فجروا قنابل في مجمع ولاية سارينجار في كشمير في أكتوبر 2001، التي قتلت 38 شخصاً، ويعرف من نسفوا البرلمان الهندي في دلهي في ديسمبر. والأمر الأكثر لفتاً للنظر، أن الشيخ وجد مذنباً في 2002 في باكستان لأنه نسق عملية شنيعة لقطع رأس دانييل بيرل، مراسل وول ستريت جورنال في كراتشي، وتلك عملية قتل تفسر أحياناً باحتمال اكتشاف بيرل للصلات بين مؤسسة المخابرات الباكستانية والقاعدة. واستسلم الشيخ لمسئول سابق في جهاز المخابرات الباكستاني في مطلع 2002، وحكم عليه بعد محاكمته بالإعدام، لكنه بقى حياً في سحن باكستاني اتهم وهو فيه أيضاً بانه كان العقل المفكر لتفديرات لندن 2005.

وسواء كان الشيخ يعمل لصالح البريطانيين أم لا، فإنه توجد أدلة قوية على أنه كان حتى بعد 11 سبتمبر عميلاً لجهاز المخابرات الباكستاني وكذلك كان من نشطاء القاعدة، وربما عمل وسيطاً بين الإثنين. وتشير تقارير كثيرة لوسائل الإعلام إلى أن الشيخ كان يعرف أكثر من اللازم عن صلات جهاز المخابرات الباكستاني مما يحول دون السماح له بترك باكستان. وقد رفض الجنرال مشرف طلبات الولايات المتحدة بتسليمه لها وورد أنه أخبر ويندي تشمبرلين السفير الأمريكي في باكستان آنذاك، "أنني أفضل شنق الشيخ بنفسي على تسليمه".

وقد يكون من المتوقع أن يثير احتمال قيام مواطن بريطاني بدور في هجوم 11 سبتمبر اهتمام هوايتهول بقوة، فقد كان هذا الهجوم الذي قتل فيه سبعة وستون بريطانياً "أسوأ هجوم إرهابي على مواطنين بريطانيين في تاريخ بلادي" كما ظل توني بلير يردد. ومع ذلك، ليست هناك أدلة على أن السلطات البريطانية سعت إلى التحقيق في صلات الشيخ المدعاة بهجوم 11 سبتمبر أو نشر قصته. وكان اهتمام الحكومة بفضح ماضي الشيخ بقدر اهتمام إسلام آباد، ربما لما يمكن أن يكشفه ذلك عن صلته بأجهزة الأمن. وقد جرى كل هذا إلى جانب إخفاء هوايتهول لدوري باكستان والسعودية في 11 سبتمبر تحت السجادة.

وأخذ يغدو واضحاً أنه كانت مدينة عاصمة كبرى أخرى يحتاج من يتحلون بالجدية بشأن التصدي للإرهاب إلى إجراء مزيد من التقصي عنها، وهي أقرب للوطن نوعاً ما.

الفصل السادس عشر - لندنستان: "ضوء أخضر للإرهاب"

كانت لندن في التسعينيات من مراكز العالم الكبرى بالنسبة للجماعات الإسلامية المتطرفة على غرار الجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية، والجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، وجماعة الجهاد المصري والقاعدة نفسها من خلال مكتبها، لجنة الشورى والإصلاح، وكانت كلها قد أنشأت قواعد في لندن. كانت القاعدة تعتبر لندن المركز العصبي لعملياتها في أوروبا، وكان كثيرون من معاوني بن لادن الرئيسيين يعملون من هناك. وتم جمع ملايين الجنيهات في بريطانيا لتمويل قضايا الإرهاب وتجنيد المجاهدين للقتال في شتى أنحاء العالم، من أفغانستان لليمن. ومن الآلآف من الأفراد الذين يتخذون من لندن مقراً لهم من خلال معسكرات التدريب التابعة للقاعدة في التسعينيات – وبحلول الوقت الذي حدثت فيه تفجيرات لندن، بلغ عددعم نحو 3000، حسب قول اللورد ستفنز، رئيس شرطة العاصمة السابق. وقد ذكر التحقيق الرسمي الذي أجرته وزارة الداخلية في التفجيرات على نحو مخادع أنه: "أصبح من المعرفو حالياً أنه حدث خلال التسعينيات تدفق من الشبان المسلمين من المملكة المتحدة وأماكن أخرى، الذين سافروا إلى باكستان وأفغانستان من أجل التمذهب أو الجهاد. والواقع أن هذا كان أمراً معروفاً في ذلك الوقت، ولم تتسامح معه السطات البريطانية فحسب، لكن ربما ساندته بنشاط، مثلما رأينا في مشاركة المجاهدين البريطانيين في حربي البوسنة وكوسوفو.

وكان ما سمي عهد الأمن بين المتأسلمين المتطرفين في بريطانيا وإدارات الأمن، سمة أساسية للندستان. وقد وصف كريسبن بلاك، وهو محلل سابق لمعلومات المخابرات في رئاسة مجلس الوزراء، هذا العهد باعتباره، "عادة بريطانية قديمة العهد في توفير الملجأ والرفاهية للمتطرفين المتأسلمين على أساس افتراض صامت بأننا إذا وفرنا لهم ملاذاً آمناً هنا فإنهم لن يهاجمونا على هذه الشطئان" وقال ضابط في الفرع الخاص إنه "كانت هناك صفقة مع شذاذ الآفاق هؤلاء. فقد أخبرناهم أنكم إن لم تسببوا لنا أي مشاكل، فإننا لن نضايقكم".

وقد تحدثت تشكيلة من الشخصيات المتأسلمة عن وجود مثل هذا الإتفاق. إذ قال أبو حمزة، الإمام السابق لمسجد فنسبرى بارك، في محاكمته في أولدبيلي إنه يعتقد أن صفقة كانت سارية بمقتضاها يتم التسامح مع أنشطته مادام أنها تستهدف بلاداً أجنبية فحسب. وذكر كيف طمأنه جناح المخابرات في سكوتلنديارد، الفرع الخاص، بأنه "ليس لديك أي شئ تقلق بشأنه ما دمنا لم نر دماً في الشوارع"، وأخبر خالد الفواز رئيس مكتب بن لادن في لندن في منتصف التسعينيات، ريشار لابفييه الصحفي السويسري في أبريل 1998 بأن "لندن هي المقر الرئيسي لرابطتنا . . . فالسلطات متسامحة للغاية، مادام لا يتدخل المرء في مسائل السياسة الداخلية"، وفي أغسطس من ذلك العام نفسه، وصف عمر بكري محمد، الذي كان قد اقام منظمة المهاجرون المتشددة، كيف "إنني أعمل هنا بمقتضى عهد للسلام أبرمته مع الحكومة البريطانية عندما حصلت على اللجوء السياسي". وقال بعد ذلك بثمانية أشهر في حوار آخر إن "الحكومة البريطانية تعرف من نحن. لقد استجوبنا جهاز المخابرات الداخلية مرات كثيرة، وأعتقد أن لدينا الآن شيئاً يسمى الحصانة العامة".

ولا يمكن تفسير العهد المذكور إلا باعتباره أمراً غير عادي على الإطلقا، يعادل إعطاء ضوء أخضر من هوايتهول لجماعات لكي نضطلع بأنشطة إرهابية في الخارج. وقد تكشف الطابع المميت لهذه السياسة من اواخر الثمانينيات فصاعداً، عندما بدأت الجماعات التي تتخذ من بريطانيا مقراً لها مثل الجماعة الإسلامية الجزائرية وجماعة الجهاد الإسلامي المصرية ولجنة الشورى والإصلاح، في التورط في ارتكاب فظائع في شتى انحاء العالم ولم يبدأ العهد في التعرض للضغط إلا بعد 11 سبتمبر عندما شرعت حكومة بلير في إصدار تشريع أكثر حزماً لمحاربة الإرهاب. وفي أكتوبر 2001، أصدر المهاجرون بياناً ذكر صراحة العهد والأخطار التي يواجهها: في الوقت الحالي، فإن المسلمين في المملكة المتحدة ملتزمون بعهد آمن يمنعهم من العدوان على حياة أي شخص هنا أو ثروته . . . بيد أن . . . نظام بلير يجلس على صندوق ملئ بالديناميت وعليه أن يلوم نفسه فقط، إذا ما انفجر في وجهه، بعد مهاجمته للحركات الإسلامية والعلماء المسلمين.

وفي الشهر التالي أدخلت الحكومة البريطانية تشريعاص جديداً في مرسوم الإرهاب. وبمقتضاه تم إعلان أن منظمات كثيرة غير شرعية والتصريح للبنوك بتجميد أصول وحسابات المنظمات المشتبه في أنها إرهابية. وبعد 11 سبتمبر بثلاث سنوات، كان 700 مشتبه به قد وضعوا قيد الحجز بموجب قانون مكافحة الإرهاب، رغم أن سبعة عشر فقط هم الذي أدينوا حتى منتصف 2005.

بيد أن عهد الأمن لم يمت ببساطة مع 11 سبتمبر. فقد سمح لمتطرفين إسلاميين فرادى مثل أبي حمزة (لفترة على الأٌقل) والفقيه الأردني فلسطيني المولد أبي قتادة، بمواصلة أنشطتهم، التي سنعرض لها تفصيلاً فيما بعد. وإضافة لذلك، لم يتم إطفاء الضوء الأخضر الذي كانت هوايتهول قد أعطته للإرهاب في الخارج. والواقع أنها ساهمت بصورة مباشرة في تفجيرات لندن التي درت بعد ثلاث سنوات، ففي 2004 على سبيل المثال، اكتشف رصد جهاز المخابرات الداخلية لبعض مفجري قنابل لندن فيما بعد أنهم "كانوا يتحدثون عن نشاط الجهاد في باكستان ودعم طالبان"، لكن نظراً لأنهم لم يكونوا يناقشون شن هجمات إرهابية في بريطانيا، فإن الجهاز تركهم وشأنهم، وتلك هي السياسة النمطية التي كانت تشكل جزءاً حاسماً من العهد، ولو كان جهاز المخابرات الداخلية قد قرر اتخاذ إجراءات ضد هذه الأنشطة الخارجية، فربما أمكن منع تفجيرات 7 يوليو. والواقع أن المجاهدين أنفسهم كانوا قد مزقوا بدورهم عهد الأمن هذا خاصة بعد غزو العراق في 2003، عندما أصبحت بريطانيا هدفاً لعملياتهم بدرجة أكبر.

وهناك سؤال أساسي هو لماذا سمحت السلطات البريطانية لظاهرة، لندنستان بأن تتطور وتستديم. ورأيي هو ان أحد أسباب ذلك يرتبط بموضوع هذا الكتاب بصورة مباشرة، وهو أنه كان يسود اعتقاد بأن التواطؤ مع المتأسلمين المتطرفين مفيد لمساندة السياسة الخارجية البريطانية، وأنه استمرار للدور الذي لعبته هذه الجماعات بانتظام من أجل بريطانيا في عالم ما بعد الحرب. وكانت ترتبط بهذا بصورة وثيقة حقيقة أن أجهزة الأمن البريطانية اعتبرت العهد تشجيعاً لأفراد بعينهم على ال عمل مرشدين عن أنشطة الجماعات المتأسلمة، وبهذا كانت تحميهم من الملاحقة بسبب ارتكابهم أعمالاً إرهابية في الخارج. وكان لسياسة تجنيد أفراد متورطين في الإرهاب سوابق عدة، كما رأينا على سبيل المثال المحاولة الظاهرة التي قام بها البريطانيون لتجنيد عمر سعيد الشيخ في 1999، وتجنيد ليسلي أسبن في الثمانينيات وهو الممول الإرهابي الذي واصل نشاطاته في حين كان على جدول مرتبات جهاز المخابرات الخارجية، والتسامح البريطاني مع أبي نضال، الذي استمرت انشطته الإرهابية في حين كانت بريطانيا ترصد حساباته المصرفية.

وقد قدمت بعض المبررات لتفسير ظاهرة لندنستان تحتوي على قدر من الحقيقة، لكنها في رأيي لا تفسر كل شئ بما في ذلك النظريات القائلة بان القادة والشرطة البريطانيين كانوا يشعرون بالقلق من رد فعل الجالية الإسلامية عند اتخاذ إجراءات ضد القادة الدينيين، وأن أجهزة الأمن التي تشكلت بما يلائم التعامل مع الإرهاب الأيرلندي، فشلت في توقع الخطر الجديد الذي يمثله المتطرفون الإسلاميون وإدراك مداه وأن قوانين حقوق الإنسان الليبرالية في بريطانيا جعلت من الصعب على الحكومة ان تضيق الخناق على من كانوا يرتبطون بالإرهاب".

وحجة أن الشرطة كانت عازفة عن اتخاذ إجراء خوفاً من تأثير ذلك على العلاقة بالجالية ضعيفة مثلاً في حالة أبي حمزة، حيث كان قادة الجالية الإسلامية قد ذهبوا إلى الشرطة سبع مرات على الأٌقل للشكوى من ا لتطرف الذي يمارس في مسجد فنسبري خلال تولي أبي حمزة منصب الإمام فيه، وكانت الشرطة هي التي قررت عدم اتخاذ أي إجراء على الرغم من هذه الشكاوي. وبالمثل، يصعب تصديق أن أجهزة الأمن البريطانية فشلت في أن تفهم طبيعة الإسلام المتطرف أو مداه خلا السبعينيات، وهي الفترة اليت أخذت القنابل تنفجر فيها في سائر أنحاء العالم، وصلة ذلك الواضحة بجماعت تتخذ من لندن مقراً لها. والواقع أن الحكومة البريطانية كما رأينا قد انهالت عليها طلبات من الحكومات الأجنبية تدعوها لإتخاذ إجراء ضد منظمات مقرها في بريطانيا،


الفصل السابع عشر - 7 يوليو ومحور لندن إسلام أباد

الفصل الثامن عشر - مواجهة الشرق الأوسط الجديد

الفصل التاسع عشر - التحالف مع العدو: العراق وأفغانستان

الهوامش