تاريخ پولندا

في الماضي البعيد كان يعيش مجموعة من الشعوب في منطقة زراعية خصبة جدا تسمى في الستوات الأخيرة بولندا، تلك المنطقة التي إستطونتها الشعوب السلافية لمدة تزيد عن 7500 عام، ويمتد تاريخ بولندا بصفة عامة لأكثر من ألف عام.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بولندا ما قبل التاريخ


أسرة پياست

 
اوستروڤ تومسكي (كاتدرائية پوزنان إلى اليمين) هي مسقط رأس الدولة والكنيسة البولندية
 
پولندا 992-1025؛ المنطقة عند نهاية عهد مييشكو الأول (992) بالوردي الداكن، عند نهاية حكم بولسلاڤ الأول (1025) ضمن نطاق الحدود القرمزية الداكنة
 
مييشكو الثاني يظهر رمزياً مع الدوقة ماتيلدا من شوابن

كان بحر من الصقالية يموج حول هذه الدول البلطية. وكان منهم طائفة تسمى البولانيين أي "شعب الحقول"- وكانت تفلح أودية أنهار وارثه Warthe والأودر Oder، وطائفة أخرى تسمى مازور Mazurs، تسكن على ضفتي نهر ڤستولا Vistula، وطائفة ثالثة تدعى پومرزاني Pomerzani (أي "بجانب البحر") هي التي اشتق منها اسم بمرانيا Pomerania. وأراد الأمير البولندي ميسزكو الأول Mieszko I أن يجنب بلاده فتح الألمان، فوضع بولندة تحت حماية البابابوات، وأدارت بولندة من ذلك الحين ظهرها نحو صقالبة الشرق نصف البيزنطيين، وألقت بنفسها في أحضان أوربا الغربية والمسيحية الرومانية. وفتح بلسلاف الأول Boleslav I، (992-1025) ابن ميسزكو بومرانيا، وضم إلى بلاده برسلو Breslau وكركوفيا Cracow ونصب نفسه أو ل ملك على بولندة. وقسم بلسلاف الثالث Boleslav III (1102-1139) المملكة بين أبنائه الأربعة؛ وضعفت الملكية بعد هذا التقسيم، وقسم الأشراف الأرض إمارات إقطاعية، وأخذت بولندة تنقلب بين الحرية تارة والخضوع لألمانيا وبوهيميا تارة أخرى. واندفع عليها تيار المغول الجارف في عام 1241، واستولوا على كركوفيا عاصمة البلاد، ودكوها دكاً. ولما انحسر تيار الأسيويين طغت في أثره موجة من المهاجرين الألمان على بولندة الغربية، وخلقت فيها مزيجاً قوياً من لغة الألمان وشرائعهم، ودمائهم، ورحب بلسلاف الخامس في هذا الوقت عينه (1246) باليهود الفارين من المذابح في ألمانيا، وشجعهم على تنمية الأعمال التجارية والمالية، واختير ونسسلاس الثاني Wenceslas II ملك بوهيميا ملكاً على بولندة في عام 1310، وضم الأمتين تحت تاج واحد.

 
كنيسة القديس أندرو في كراكوڤ (بنيت في القرن 11)
 
أطلال قلعة من القرن 14 في اولشتين بالقرب من چستوخوڤا
 
ڤلاديسلاڤ الأول طول المرفق، شظية من تابوته المصنوع من الحجر الرملي.

إن المحافظة على السلم عسيرة، حتى في المناطق التي تستمد وحدتها ومناعتها من الحواجز الجغرافية، ولنلاحظ كيف تكون المحافظة على هذا السلم أعسر كثيرا في الدول التي تتعرض على أحد حدودها أو أكثر لجيران متعطشين للغزو أبدا، ينزعون إلى التغرير حيناً وإلى القوة حيناً آخر، واختنقت بولندة بعض الاختناق إبان القرن الرابع عشر على يد الفرسان التيوتون واللتوانيين والمجريين والمورافيين والبوهيميين والألمان وذلك بالضغط على حدودها وما كاد لاريسلاس ((القصير)) يصبح الأمير الأكبر لبولندة الصغرى أي الجنوبية (1306) حتى واجه حشداً من الأعداء.ورفض الألمان طاعته في بولندة الكبرى أي الغربية واستولى الفرسان على دانزج وپومرانيا، وتآمر مارجراف - الحاكم العسكري - حارس تخوم براندنبرج للقضاء عليه، وادعى ونسسلوس الثالث صاحب بوهيميا العرش البولندي لنفسه، وجاهد لاريسلاس في هذا الخضم من المتاعب بالسلاح والسياسة والزواج، حتى وحد بولندة الصغرى والكبرى في مملكة متماسكة، وعمل وتوج نفسه ملكاً في كراكاو عاصمته الجديدة (1320). ولما مات بالغاً من العمر ثلاثاً وسبعين سنة (1333) أوصى بعرشه العصي إلى ابنه الوحيد كازيمير الأكبر.

وقد يستكثر البعض هذا اللقب على كازيمير الثالث، لأنه كان يؤثر للمفاوضة والمصالحة، على الحرب، وتنازل عن سيليزيا إلى بوهيميا وعن وميرانيا إلى الفرسان، وقنع بالحصول على گاليسيا حول لواء ومازوفيا حول وارسو، ووقف حكمه مدى سبع وثلاثين سنة على الإدارة، فجعل أقليمه المختلفة تحت ظل قانون واحد، ((يجب ألا تبدو الدولة كوحش كثير الرؤوس)) ووحد بتوحيد، فريق من الفقهاء القانون والعادات المتفاوتة للولايات في قوانين كازيمير - وهي المحاولة الأولى في وضع القوانين البولندية في مجموعة واحدة... وهي مثال على الاعتداء الإنساني، إذا قورنت بمجموعات القوانين المعاصرة، ولقد حمى كازيمير اليهود والروم الأرثوذكس وغيرهم من الأقليات العنصرية والدينية، وشجع التعليم والفنون وأسس جامعة كراكوڤ (1364) وشيد الكثير من المباني حتى قال الناس أنه وجد بولندة مبنية من الخشب فأعاد بناءها بالحجر وشجع بحكمته البارعة شئون الأمة الاقتصادية حتى لقبه الفلاحون ((بملك المزارعين)، وأثرى التجار في ظل السلام وأجمعت الطبقات كلها على تلقيبه ((بالكبير)).

ولم يكن له وريث من الذكور، فترك تاجه لابن أخيه لويس الكبير ملك المجر (1370)، أملا أن يحرز لبلاده حماية ملكية منيعة ونصيباً من الحافز الثقافي الذي جلبته الأسرة الإنجفينية من إيطاليا وفرنسا، ولكن لويس حصر اهتمامه في المجر وأهمل بولندة، وأراد أن يجعل النبلاء المزهوين بأنفسهم على ولاء له في غيابه بمقتضى امتياز كوسيتشه (1374) الذي ينص على الإعفاء من معظم الضرائب واحتكار المناصب العليا. ولما مات نشبت الحرب في سبيل العرش (1382) واعترف مجلس ((السيم)) أي البرلمان بابنته يادويگا البالغة من العمر إحدى عشر سنة (ملكا). ولم يقض على الاضطراب إلا اتحاد كريڤو وهو زواج ياگلو أمير أمراء ليتوانيا من يادويگا (1386) فوحد بذلك مملكته الشاسعة وبولندة ومنح الحكومة شخصية آمرة.


عصر ياگيلون

 
المنزل في تورون حيث وُلد نيكولاوس كوپرنيكوس في 19 فبراير 1473

وكان نمو ليتوانيا ظاهرة كبيرة من ظواهر القرن الرابع عشر فلقد ضم جيديمن وابنه ألجيرد تحت حكمهما الوثني روسيا الغربية بأسرها: بولتسك وبنسك وسولنسك وتشرنيجوف وفولهنيا وكيث وبودوليا وأوكرانيا، وفرح بعض هؤلاء أن وجدوا في ظل الأمراء الكبار، عاصما من القبيل الذهبي التتاري الذي جعل روسيا الشرقية التزاما إقطاعيا لها. ولما خلف ياگلو، ألجيرد (1377) كانت الإمبراطورية اللتوانية، التي تحكم في ويلنو تمتد من البلطيق إلى البحر الأسود وتكاد تصل إلى موسكو نفسها، وكانت هذه هي الهدية التي تقلها جاجللو إلى جادويجا أو بعبارة أخرى كانت بولندة بأسرها هي الصداق الذي قدمته إليه، ولم تتجاوز السادسة عشرة عند زواجها، ولقد نشأت رومانية كاثوليكية محيط أرفع ثقافة اللاتينية عصر النهضة، أما هو فكان في السادسة والثلاثين من عمره، أميا كافرا ولكنه قبل العماد واتخذ لنفسه الاسم المسيحي لاديسلاس الثاني، ووعد أن يدخل لتوانيا بأسرها في المسيحية.

 
پولندا (بالأحمر) ولتوانيا (بالأزرق) تحت حكم يوگايلا أو الملك ڤلاديسلاڤ ياگييلـّو

وكان ذلك اتحاداً مؤقتاً، لأن تقدم الفرسان الألمان ناحية الشرق كان يهدد بالخطر دولتي الزوجين معاً. وتحولت ((جماعة الإخوان في الصليب)) التي وقفت في الأصل على تنصير الصقالبة، إلى فرقة من المحاربين الغزاة يأخذون بحد السيف كل ما يستطيعون اختطافه من الأرض من أصحابها سواء أكانوا وثنيين أم مسيحيين وأنشئوا عبودية إقطاعية غليظة على الأراضي التي أفلحها يوماً من الأيام مزارعون أحرار. وحكم السيد الأكبر عام 1410 من عاصمته مادينبرج، إستونيا وليفونيا وكورلند وبروسيا ويوميرانيا الشرقية وبهذا فصل بولندة عند البحر والتقى في ((حرب شالية)) ضروس، جيش السيد الأكبر وجيش ياگلو، ولقد أنبئنا أن كلا منهما كان يتألف من عشرة آلاف من الأشداء - في موقعة بالقرب من جرونيفولد (1410) وهزم الفرسان ولاذوا بالفرا، مخلفين وراءهم أربعة عشر ألف أسير وثمانية عشر ألف قتيل، بينهم السيد الأكبر نفسه.وأقل نجم جماعة الإخوان في الصليب منذ ذلك اليوم سريعا حتى تنازلت في صلح ثورن (1466) عن پومرانيا وبروسيا الغربية إلى بولندة بما في ذلك ميناء دانزيگ الحر باعتباره منفذا إلى البحر.

 
پولندا، اقطاعيات پولندا (مقلمة) ولتوانيا في عام 1466

وبلغت بولندة في عهد كازيمير الرابع (1447-92) أقصى اتساعها وذورة قوتها وأوج فنها. ومع أن كازمير كان أميا، إلا أنه ختم كراهية الفروسية للقراءة والكتابة، بأن منح أولاده تعليما كاملا. وخلفت الملكة جادويجا وهي تحتضر، جواهرها للإنفاق على إعادة افتتاح جامعة كراكاو - وهي التي قدر لها أن تعلم في القرن التالي كوبرنيكوس.وتوسل الأدب إلى جانب الفلسفة والعلم باللغة اللاتينية، وكتب جان ولوجوز كتابه الكلاسي ((تاريخ بولندة)) (1478) ودعا عام 1477 فيت ستوس النورمبرجي إلى كاراكاو، فمكث فيها سبع عشرة سنة، وبلغ بالمدينة مكاناً رفيعا في فن ذلك العصر، ولقد نقش لكنيسة سيدتنا مائة وسبعة وأربعين مقعدا للمرتلين، ومذبحاً كبيراً، وهو أربعون قدماً في ثلاثة وثلاثين مع ضريح مركزي للقيامة، وهو في روعة صورة تيتيان ومع ثماني عشرة صورة جدارية تقص حياة مريم وطفلها - وهي صور جدارية جديرة - وإن كانت في الخشب - بأن تضارع الأبواب البرونزية التي حققها غيبرتي لموضع العماد الفلورنسي قبل ذلك بقرن. وحفر ستوس لكتدرائية كراكاو مدفنا فخما من المرمر الأحمر المزرقش لكازيمير الرابع وبلغ النحت القوطي بهذه الآثار في بولندة أوجه ونهايته. أما في عهد ابن كازيمير، وهو سيجسموند الأول (1506-48) فقد اتخذ الفن البولندي، لوثرية عصر النهضة الإيطالية الذي تسرب في ألمانيا، وهكذا بدأ عصر جديد.

 
بهو قلعة ڤاڤل من عصر النهضة
 
تمثال قبر يان كوچانوڤسكي.
 
پروسيا الملكية تظهر بالوردي الفاتح، پروسيا الدوقية تظهر مقلـَّمة
 
ليڤونيا على خريطة منشورة في 1573
 
رزپوپليتا Rzeczpospolita عام 1569؛ دوقية لتوانيا العظمى، التي كانت قد فقدت أراضٍ لصالح الدولة الروسية ولبولندا شريكة لتوانيا، أصبحت أصغر كثيراً مما كانت عليه قبل مائة عام.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بولندا تكفر عن ذنبها 1569 - 1648

 
انتخاب الملك ميخال كوريبوت ڤيسنيوڤييسكي في حقول ڤولا عام 1669.

في هذا العصر عقدت بولندا أيضاً أواصر السلام مع الكنيسة الكاثوليكية. وقد يكون من المفيد أن نرى كيف استردت الكاثوليكية بسرعة في هذه المملكة تقريباً كل ما كانت قد فقدته من مكانه في حركة الإصلاح الديني ، ولكن فلنمر أولاً مروراً عابراً، كالمعتاد، بالخلفية السياسية لهذا التطور الثقافي.

كومنولث بولندا-ليتوانيا

بولندة وسوبيسكي 1648-1699

في مستهل هذه الحقبة أثر حدثان تأثيراً عميقاً في تاريخ بولنده ففي 1652 هزم عضو واحد من أعضاء البرلمان البولندي Sejm للمرة الأولى قانوناً بممارسته حق "الفيتو المطلق"، الذي كان يسمح لأي نائب في ذلك البرلمان بإبطال قرار أية أغلبية. ذلك أن النظام في الماضي كان يشترط موافقة جميع الأقاليم قبل إقرار أي قانون، وكانت أقلية ضئيلة أحياناً تجعل التشريع مستحيلاً، ولكن فرداً من الأفراد لم يؤكد إلى ذلك الحين الحق في نقض اقتراح يقبله الباقون كلهم. وقد استطاع "الفيتو المطلق" لنائب واحد أن "ينسف" أو ينهي ثماني وأربعين دورة من الدورات الخمس والخمسين التي عقدها البرلمان بعد 1652. وقد افترضت الخطة أنه ما من أغلبية تستطيع بحق أن تطغى على أقلية مهما صغرت. ولم يكن مبعثها النظرية الشعبية بل الكبرياء الإقطاعية، إذا اعتبر كل مالك نفسه سيداً أعلى في أرضه. وأسفر هذا على أكبر قدر من الاستقلال المحلي والعقم الجماعي. ولما كان الملوك خاضعين للبرلمان، والبرلمان خاضعاً للفيتو المطلق، فقد كانت السياسة القومية المتسقة ضرباً من المحال عادة. وبعد تسع سنوات من الفيتو الأول تنبأ الملك جون كازيمير للبرلمان بنبؤة لافتة للنظر، قال:

  "أتمنى على الله أن يتبين نبي كذاب، ولكني أقول لكم أنكم إن لم تجدواً علاجاً لهذا الشر (أي الفيتو المطلق) فستغدو الدولة فريسة للدول الأجنبية. سوف يحاول الموسكوفيون أن يقتطعوا بالاتيناتنا الروسية ربما إلى الفستولا. وسوف يحاول البيت المالك البروسي الاستيلاء على بولنده الكبرى. وسوف تلقي النمس بثقلها على كراكوف. وسوف تؤثر كل من هذه الدول اقتسام بولندة دون الاستيلاء عليها كلها ولها هذه الحريات التي تتمتع بها اليوم".  

وقد تحققت هذه النبؤة بحذافيرها تقريباً.

وكانت ثورة القوزاق (انتفاضة خملنيتسكي) في أوكرانيا (1648) حدثاً لا يفوقه في أهميته التاريخية سوى هذا الفيتو. ذلك أن دمج لتوانيا مع بولنده في "اتحاد لوبلين" (1569) أخضع إقليم أوكرانيا، الذي يجري فيه نهر الدنيبر، لحكم غلب عليه العنصر البولندي، وكان أكثر سكان الإقليم من قوازق زابوروج الذين ألفوا الاستقلال وتمرسوا الحرب. وحاول النبلاء البولنديون الذين ابتاعوا الأرض في أوكرانيا أن يرسوا فيها أسس الأحوال الإقطاعية، وثبّط الكاثوليك البولنديون ممارسة تلك الحرية التي كفلها اتحاد لوبلين للعبادة الأرثوذكسية. وانبعثت ثورة من ثورات القوزاق من هذا المركب من أسباب السخط والتذمر، وتزعمها حيناً زعم حربي (هتمان) غني يدعى بوجدان شميلنيكي، وناصرها تتار القرم المسلمون. وفي 26 مايو 1648 دحر التتار والقوزاق الجيش البولندي الرئيسي في معركة كورسون، وسرت الحماسة للثورة بين الأغنياء والفقراء على السواء.

وقد خلفت وفاة لاديسلاس الرابع في 20 مايو عرش بولندة في هذه الأثناء مثاراً لنزاع بين النبلاء استمر حتى 20 نوفمبر، حين اختارت هيئة الدايت الانتخابية جون الثاني كازيمير. أما شيملنيكي فقد خشي ألا تستطيع الثورة الصمود للجيوش البولندية المعززة إلا بقبول المعونة والسيادة الأجنيستين، فاختار الاستنجاد بروسيا الأرثوذكسية. وعرض أوكرانيا على القيصر ألكسيس، ورحبت الحكومة الروسية بالعرض وهي عليمة بأن معناه الحرب مع بولندة، وبمقتضى "قانون بيريياسلاف" 18 يناير 1654، انضوت أوكرانيا تحت الحكم الروسي. وكفل للإقليم الاستقلال الذاتي تحت حكم زعيم حربي ينتخبه القوزاق ويصدق على انتخابه القيصر.

وفي الحرب التي تلت ذلك بين بولندة وروسيا، حول تتار القرم الذين آثروا أوكرانيا بولندية على أوكرانيا روسية-حولوا معونتهم من القوزاق إلى البولنديين. وفي 8 أغسطس 1655 استولى الروس على فلنو، وذبحوا آلافاً من الأهالي، وأحرقوا المدينة وسووها بالتراب. وبينما كان البولنديون يدافعون عن أنفسهم على جبهتهم الشرقية، قاد شارل العاشر جيشاً سويدياً إلى غربي بولندة واستولى على وارسو (8 سبتمبر). وانهارت المقاومة البولندية. وأعلن النبلاء البولنديون، بل حتى الجيش البولندي، الخضوع للفاتح وأقسموا يمين الولاء له(3). وأرسل له كرومويل تهانئه لأن قبض على أحد قرون البابا(4)، وأكد شارل لـ "حامي الجمهورية" (كرومويل) أنه عما قليل لن يبقى في بولندة باوبوي واحد(5)، ومع ذلك وعد بالتسامح الديني في بولندة. على أن خططه أحبطها جيشه الظافر. ذلك أنه الجيش أفلت زمامه، فراح ينهب المدن ويذبح السكان ويسلب الكنائس والأديار.

وقاوم الحصار دير ياسنا جورا، القريب من تشستوتشوا، مقاومة باسلة، وأثار الذي نجاحه الذي عد من المعجزات حماسة الجماهير الدينية، وأهاب الكهنة الكاثوليك بالأمة أن تطرد الغزاة الكفار، وبادر الفلاحون إلى امتشاق الحسام، ففرت الحامية التي تركها شارل في وارسو أمام الحشد الزاحف وأعيد كازيمير إلى عاصمته (16 يونيو 1656) وانقلب التتار على روسيا، ووقعت روسيا هدنة مع بولندة مؤثرة جيرتها على جيرة السويد (1656). وأفضي موت شارل العاشر فجأة إلى صلح أوليفا (3 مايو 1660) الذي أنهى الحرب بين بولندة والسويد. وفي 1659 استؤنف الصراع مع روسيا. وبعد ثمانية أعوام من الفوضى والحملات وذبذبات الولاء القوزاقي، نالت روسيا بمقتضى صلح أندروسوفو (20 يناير 1667) سمولينسك، وكيف، وأوكرانيا شرقي الدنيير. وظلت تجزئة أوكرانيا على هذا النحو سارية حتى التقسيم الأول لبولندة (1772).

ثم اعتزل جون كازيمير عرش بولندة (1668) بعد أن أرهقته الحرب وأضناه الفيتو مطلق، واعتكف في نيفير بفرنسا، وعاش حياة هادئة بين الدرس والصلاة إلى أن مات (1672). وخاض خلفه ميخائيل فسنيوفيكي حرباً مدمرة مع العثمانيين، وبمقتضى صلح بوكزاكز (1672) اعترفت بولندة بالسياسة العثمانية على أوكرانيا الغربية، وتعهدت بأداء جزية سنوية للسلاطين تبلغ 220.000 دوكاتية. وفي تلك الحرب اكتشفت بولندة عبقرية جان سوبيسكي الحربية، فلما مات فسنيوفيكي (673)، انتخب الديت أعظم ملوك بولندة قاطبة (1674) بعد أن ضيّع وقتاً ثميناً على عاداته.

أما جان هذا-الذي يسمى الآن يوحنا الثالث-فكان يبلغ الرابعة والأربعين إذ ذاك. وقد حالفه الحظ في مولده، لأن أباه كان الحاكم العسكري لكراكوف، أما أمه فكانت حفيدة القائد البولندي ستانسلاس زولكيسفكي الذي استولى على موسكو في 1610، وكان حب الحرب يسري في دم جان. وبفضل تعليمه في جامعة كراكو وأسفاره في ألمانيا والأراضي المنخفضة وإنجلترة وفرنسا، حيث قضي بباريس قرابة عام، أصبح رجلاً مثقفاً فضلاً عن بسالته ومهارته الحربيتين. وفي 1648 مات أبوه، عقب اختياره ممثلاً لبولندة في معاهدة وستفاليا. وسارع جان بالعودة إلى أرض الوطن، وانضم إلى الجيش البولندي في قتال الثوار القوزاق. ولما غزا السويديون بولنده، وفر جان كازيمير، كان سوبيسكي واحداً من الموظفين البولنديين الذي ارتضوا شارل العاشر ملكاً على بولندة، وظل يخدم عاماً في الجيش السويدي. ولكن حين ثار البولنديون على الغزاة عاد سوبيسكي إلى ولائه القومي، وأبلى في الدفاع عن وطنه بلاء رفعه إلى منصب القائد العام للجيوش البولندية في 1665. وفي تلك السنة تزوج المرأة الممتازة التي أصبحت نصف حياته والمشكل لسيرته.

هذه المرأة، واسمها ماريا كازيميرا، التي كان يجري في عروقها الدم الفرنسي الملكي، ولدت في نيفير عام 1641، وربيت في فرنسا وبولندة. وفي وارسو يوم كانت في الثالثة عشرة ألهب حسنها ومرحها عاطفة سوبيسكي وهو في الخامسة والعشرين. ولكن سعود الحرب ونحوسها أقصته عنها، فلما عاد وجدها زوجة لنبيل فاسق يدعى جان زامويسكي. وإذ كانت ماريا مهملة من زوجها، فقد قبلت سوبيسكي وصيفاً مرافقاً. ويبدو أنها حافظت على عهودها الزوجية، ولكنها وعدت بالزواج من سوبيسكي حالما يفسخ زواجها من زامويسكي. على أن الزوج كفاها مئونة هذا الشرط بموته. وما لبث العاشقان أن تزوجا، وأصبح غرامهما الطويل أسطورة في التاريخ البولندي. وكان الكثير من النساء البولنديات ينافسن النساء الفرنسيات في الجمع بين الجمال الكلاسيكي، والشجاعة والذكاء القريبين من شجاعة الرجال وذكائهم، والولع بصنع الملوك أو إرشادهم. وقد بدأت ماريا من يوم زواجها تخطط لكي تبوئ سوبيسكي عرش بولندة.

وكان حبها أحياناً حباً لا يقيم وزناً لصوت الضمير كما قد يكون الحب. ففي 1669 يبدو أن سوبيسكي قبل المال الفرنسي ليؤيد كاردينالاً فرنسياً ضد فسنيوفيكي. وبعد انتخاب ميخائيل انضم جان إلى غيره من النبلاء في مغامرات تستهدف خلع الملك لأنه جبان لا يصلح للدفاع عن بولندة ضد العثمانيين ولا رغبة له في هذا الدفاع. وقاد بنفسه رجاله إلى انتصارات أربعة خلال عشرة أيام. وفي 11 نوفمبر 1673، وهو اليوم الذي مات فيه الملك، دحر سوبيسكي العثمانيين في معركة خوتين في بسارابيا. وجعله هذا النصر المرشح المنطقي لعرش لا قبل الآن بدفع الأعداء المحدقين به من كل جانب إلا لأصلب القتال وأشده تصميماً. ولكي يدعم المنطق حضر إلى هيئة الدايت الناخبة على رأس ستة آلاف مقاتل. ولعب المال الفرنسي دوراً في انتخابه، ولكن هذا كان يتفق وسنّة العصر تمام الاتفاق.

ولقد كان ملكاً بجسمه وروحه كما كان باسمه. وصفه الأجانب بأنه "من أكثر الرجال وسامة وأكملهم بنية" في أوربا، "له طلعة نبيلة شماء، وعينان تشعان نوراً وناراً(6)" قوي البدن، مثابر على الإنجاب، متطلع العقل متيقظه. وقد حفز حبه الطبيعي للتملك إسراف حبيبته ماريزنيكا، ولكنه كثيراً ما عوض عن بخل البرلمان الشحيح بدفع رواتب جنده من جيبه، وبيع أملاكه ليشتري لهم البنادق(7). وقد استحق كل ما أخذ، لأنه أنقذ بولندة وأوربا جميعاً.

ذلك أن سياسته الخارجية كانت بسيطة في هدفها، وهو ردّ العثمانيين إلى آسيا، أو على الأقل صد هجماتهم على معقل العالم المسيحي الغربي بفيينا. وقد عاكس جهده هذا تحالف حليفته فرنسا مع السلطان العثماني، ومحاولات الإمبراطور أن يزج به في الحرب التركية الكبرى، وكان ليوبولد الأول يأمل إذا وفق في محاولاته هذه أن تطلق يد النمسا في تملك الأراضي الدانوبية أو المجرية التي كانت كل من النمسا وبولندة تدعي الحق فيها لنفسها. وبينما كان سوبيسكي يتحسس طريقه غاضباً وسط هذه المتاهة، تاقت نفسه لحرية تخطيط السياسة وإصدار الأوامر دون أن يكون خاضعاً في كل خطوة للبرلمان والفيتو المطلق. وحسد لويس الرابع عشر والإمبراطور على سلطتهما في اتخاذ القرارات بصورة قاطعة ثم إصدار الأوامر دون إبطاء.

وعقب انتخابه اضطلع باسترداد أوكرانيا الغربية من العثمانيين الذين تقدموا الآن شمالاً حين بلغوا لڤوڤ. وهناك، وبقوة لا تزيد على خمسة آلاف فارس، هزم عشرين ألف تركي (24 أغسطس 1675). وبمقتضى معاهدة زورافنو (17 أكتوبر 1676) أكره العثمانيين على النزول عن حقهم المزعومة في الجزية، والاعتراف بسيادة بولندة على أوكرانيا الغربية. ثم شعر بأن الفرصة مواتية لطرد القوة العثمانية من أوربا. فدعا الإمبراطور للانضمام إليه في حرب ضروس يخوضانها مع الترك، ولكن ليوبولد اعترض بأنه لا يملك تأكيداً بألا يهاجمه لويس الرابع عشر في الغرب أن أرسل جيوشه إلى الشرق، ورجا سوبيسكي فرنسا أن تعطي النمسا هذا التأكيد، ولكن لويس الرابع عشر أبى(8). وتحول سوبيسكي أكثر فأكثر إلى التحالف مع النمسا. فلما حاول العملاء الفرنسيون رشوة البرلمان ضده فضح مؤامراتهم ونشر رسائلهم السرية. وفي رد الفعل التالي ضد فرنسا وقع البرلمان (1 أبريل 1683) حلفاً مع الإمبراطورية، واتفق على أن تحشده بولندة أربعين ألف مقاتل، والإمبراطورية ستين ألفاً. فإذا حاصر العثمانيون فيينا أو كراكوف، خف الحليف لنجدة حليفه بقوته كلها.

وفي يوليو زحف العثمانيون على فيينا. وفي أغسطس غادر سوبيسكي والجيش البولندي وارسو بهذا الهدف المعلن، وهو "أن يمضوا إلى الحرب المقدسة، ويردوا بعون الله الحرية القديمة لفيينا المحاصرة، فيعينوا بذلك جميع العالم المسيحي المتخاذل(9)". وبدا أن أنبل ما عرفت العصور الوسطى من فروسية قد بعث من جديد. ووصل البولنديون إلى العاصمة المحاصرة في الوقت المناسب، لأن المرض والجوع كادا يفتكان بأكثر المدافعين عنها. وقاد سوبيسكي بشخصه جيشي بولندة والإمبراطورية المجتمعين في معركة من أحسم المعارك في التاريخ الأوربي (12 سبتمبر 1683). ولقي نصف البولنديين الذين تبعوه في هذه الحرب الصليبية-وعدهم خمسة وعشرون ألفاً-حتفهم في المعركة أو في طريقه إليها.

ثم قفل بولندة مكللاً بنصر يشوبه شعور الخيبة. واستقبلته واسو فخورة به بطلاً لأوربا، ولكن الإمبراطور كان قد خيّب آماله في تزويج ابنة من أرشيدوقة النمسا. ولكي يؤمن ملكاً لابنه حاول فتح مولدافيا، وانتصر في جميع المعارك إلا معاركه مع الجو والقدر، وعاد إلى بلده صفر اليدين.

ووسط ضجيج السياسة وصخبها، وفي الفترات التي تخللت الحرب جعل من بلاطه مركز إحياء ثقافي. فلقد كان هو نفسه رجلاً واسع الإطلاع: درس جاليلو وهارفي، وديكارت وجاسندي، وقرأ بسكال، وكورنيي، وموليير. ومع أنه أيد الكنيسة الكاثوليكية باعتبار هذا التأييد سياسة للدولة، فإنه بسط الحرية الدينية والحماية على البروتستانت واليهود(10) وأحبه اليهود كما أحبوا قيصر من قبل. وكان يريد، وإن لم يستطع، أن ينقذ من الموت رجلاً من أحرار الفكر أعرب عن بعض شكوكه في وجود الله (1689)(11)، وكان هذا أول إحراق لمهرطق في تاريخ بولندة. ثم مضت بولندة في إنجاب شعرائها، ولكنها ظلت تستورد أكثر فنانيها الأفذاذ. فنظم فاكلاو بوتوكي ملحمة عن انتصار بولندة في خوتين، وكتب فسبازيان كوشوفسكي ملاحم مماثلة، ومجموعة مزامير بولندية في نثر شعري، أما أندرزي مورزيتن، فبعد أن ترجم "أمينتا" تاسو و "سيد" كورنيي، أظهر في غنائياته تأثير الشعر الفرنسي والإيطالي في بولندة.

وقد شجع سوبيسكي التأثير الفرنسي، لأنه كان معجباً بكل شيء في فرنسا إلا سياستها. واستقدم المصورين والمثالين الفرنسيين والإيطاليين ليعملوا في وارسو، واستخدم المعماريين، ولا سيما الأبطاليين منهم، ليشيدوا قصور بطراز الباروك في فيلانوف، وزولكييف، ويافوروف. وبنيت الكنائس الفخمة إبان حكمه: كنيسة القديس بطرس في فلنو وكنيستا الصليب المقدس والراهبات البندكتيات في وارسو. وقبل أندرياس شلوتر من ألمانيا لحفر الزخارف للقصر المبني في فيلانوف، ولقصر كرازنسكي في العاصمة. ووسط هذه التأثيرات الغربية في الفن، غلبه التأثير الشرقي في الملبس والمظهر: العباءة الطويلة والمنطقة العريضة الزاهية الألوان، والشاربان المفتولان إلى أعلى كأنهما سيفان أحدبان.

وقد كدر صفاء شيخوخة الملك تمرد ولده يعقوب، وعناد زوجته، وفشله في جعل الملك وراثياً في أسرته. وكان الفيتو المطلق سيفاً مسلطاً فوق رأسه على الدوام. ولم يستطع أن يصلح من حال الفلاحين، لأن سادتهم سيطروا على البرلمان، ولم يستطع إكراه الأغنياء على دفع الضرائب، لأن الأغنياء كانوا هم البرلمان، ولم يستطع السيطرة على النبلاء المشاغبين، لأنهم أبوا أن يكون له جيش دائم. ومات من تبولن الدم في 17 يونيو 1696، لا كسير القلب كما زعمت الرواية، بل آسفاً على انحدار بلده الحبيب من قمة البطولة التي فعه إليها.

وتخطى الديت ابنه وباع التاج إلى فردريك أوغسطس، ناخب سكسونيا، الذي تحول في غير عناء من البروتستنتية إلى الكاثوليكية ليصبح أوغسطس الثاني ملك بولندة. وكان شخصية عجيبة في ذاته. ويسميه التاريخ أوغسطس القوي، لأنه كان الرياضي الشديد البأس في جسمه وفراشه، وقد نسيت إليه أسطورة إنجاب 354 طفلاً غير شرعي(12). وفي يناير 1699 وقع في كارلوفتز معاهدة نزلت بمقتضاها تركيا عن كل دعوى لها في أوكرانيا الغربية. فلما شعر أوغسطس بالأمان في الجنوب والشرق، استمع إلى باتكول، وربط بولندة بحلف مع الدنمارك وروسيا لاقتسام السويد.

الدولة

تبدأ الفترة بحدث بارز تم إنجازه في فن الحكم. كانت دوقية لتوانيا الكبيرة تقع إلى الجنوب الشرقي من بولندا ، يحكمها أدواقها، وتمتد من البلطيق عبر كييف و أوكرانيا إلى اودسا والبحر الأسود. وكان نمو قوة روسيا يعض استقلال لتوانيا للخطر. وعلى الرغم من توافق عقيدتها الأرثوذكسية اليونانية إلى حد كبير مع ديانة روسيا. فإنها أقرت كارهة أن الاندماج مع بولندة الكاثوليكية قد يكون أفضل للحفاظ على حكمها الذاتي من معانقة الدب الروسي. وميز سجسمند الثاني عهده بتوقيع اتحاد لوبلين التاريخي (1 يونية 1569). واعترفت لتوانيا بملك بولندة "دوقاً أعظم" عليها. وبعثت بمندوبين أو ممثلين لها إلى البرلمان في وارسو ، وارتضت أن يكون لهذا البرلمان حق السيطرة على علاقاتها الخارجية، ولكنها احتفظت بعقيدتها وقوانينها وحق التصرف في شؤونها الداخلية. واتسعت أطراف بولندة وبلغ عدد سكانها الآن إحدى عشر مليوناً من الأنفس ، من دانزج إلى أوديسا، ومن البحر إلى البحر. فكانت إحدى الدول العظمى دون منازع.

وبموت سجسمند الثاني دون عقب ذكر (1572) انتهت أسرة "ياگييلون" التي كانت قد بدأت في 1386 ، وهيأت لبولندة خطاً متصلاً من ملوك إتسموا بالخلق والإبداع، وحضارة قامت على التسامح الديني واستنارة قوامها الروح الإنسانية. وكان النبلاء يكرهون الملكية الوراثية، على أنها إهدار لحقوقهم وحرياتهم الإقطاعية، فاستقر عزمهم الآن على الاحتفاظ بالسلطة في أيديهم عن طريق ملكية انتخابية، فأسسوا جمهورية من النبلاء وجعلوا ملوك بولندة القادمين خدماً أو أتباعاً للبرلمان. ولما لم يكن البرلمان يضم كبار النبلاء أو الأعيان فحسب ، بل كان يضم كذلك صغار النبلاء، فقد بدا أن هذه الخطة تحقق المثل الأعلى لأرسطو في حكومة تمتزج فيها العناصر الملكية والأرستقراطية والديمقراطية، في قيود وضوابط متبادلة. ومهما يكن من أمر، فإن الدستور الجديد، في نطاق ذلك العصر، لم يكن يعني إلا انتكاسة إقطاعية، تفتيت السلطة والزعامة، على حين كانت منافستا بولندا في البلطيق- السويد روسيا- تنصهران في وحدات عسكرية بفضل الملكيات الوراثية التي كان يحق لها أن تفكر على أساس الأجيال. وبات انتخاب الملك الآن في بولندة مزاداً لأصوات النبلاء تعطى لمن يدفع أكثر من بين المرشحين الذين تمولهم، عادة الدول الأجنبية. وبذلك استطاع عملاء فرنسا بتوزيع العطايا والأموال باليمين والشمال، شراء تلج بولندة للمنحل المنحرف هنري فالو (1573) ليعيدوه بعد ذلك بعام واحد ليحكم فرنسا حكماً سيئاً فاسداً تحت اسم هنري الثالث.

وأصلح مجلس الديت الذي يتولى الانتخاب خطأه، بعد فترة خلا فيها العرش وعمت الفوضى، باختياره ستيفن باثوري ملكاً(1575). وكان، بوصفه أميراً على ترنسلفانيا، قد اشتهر بالفعل في مجال السياسة وميدان الحرب وكان عملاؤه في وارسو قد وعدوا بأنه سيسدد "إذا انتخب" الدين الوطني، ويمد الخزانة بمائة ألف فلورين، ويسترد الأراضي التي كانت بولندة قد نزلت عنها لروسيا، ويضحي بحياته في ميدان القتال، إذا اقتضى الأمر من أجل شرف بولندة ومجدها، ومن ذا الذي يستطيع أن يقف في سبيل هذا العرض؟. وعلى حين أيدت قلة غنية من النبلاء ترشيح مكسمليان الثاني النمساوي، نادى سبعة آلاف عضو من الديت المنتخب بباثوري، فقدم ومعه 2500 جندي ، وكسب قلوب كثير من الناس بزواجه من أنا جاجللون، وقاد جيشاً ضد دانزج (التي رفضت الاعتراف به) وأرغم الثغر المغرور على دفع غرامة قدرها مائتي ألف جولدن للخزانة الوطنية.

وعلى الرغم من كل هذا لم يستوثق النبلاء من أنهم يحبون الملك الجديد، بعينيه الحادتين النافذتين. وتفكيره الواقعي، وشاربه المروع، ولحيته التي توحي بالاستبداد والدكتاتورية. لقد احتقر الأبهة والمواكب والاحتفالات وارتدى ثياب بسيطة، بل لبس الملابس المرقعة، وكان طعامه المفضل من لحم البقر والكرنب. ولما طالب بالمال لتجهيز حملة على روسيا أمده النبلاء بقدر غير كاف، وهم متذمرون. وتقدم معتمداً على معونات ترنسلفانيا، بجيش صغير وحاصر بسكوف ثالثة مدن روسيا آنذاك من حيث الحجم. وأحس إيفان الرابع على الرغم من أنه كان يرهب شعبه، بأنه أكبر سناً من أن يلاقي عدواً في مثل هذه الحيوية والنشاط، فطلب الصلح ونزل على ليفونيا لبولندة، وسلم بأبعاد روسيا عن البلطيق (1582). وعندما أدركت إيفان المنية (1584) اقترح باثوري على سكستس الخامس أن يغزو كل روسيا ويوحدها مع بولندة، ويطرد الأتراك من أوربا، ويعيد كل أوربا الشرقية إلى حظيرة البابا. ولم يعترض البابا. ولكن في غمرة هذه الاستعدادات الشاقة لحملة صليبية، فارق باثوري الحياة (1586). واعترفت بولندة، بعد مماته وبعد أن كف عن إرهاقها بأنه من أعظم ملوكها.

وبعد سنة من المساومة خلع الديت العرش على سجسمند الثالث، الذي يمكن بوصفه وريثاً لعرش السويد، أن يوحد البلدين ليسيطر على مياه البلطيق ويعوقا توسع روسيا. وقضى سجسمند كما رأينا، نصف مدة حكمه في مجالات عقيمة لتثبيت سلطانه، وتدعيم المذهب الكاثوليكي في السويد. وسنحت فرصة أخرى لسجسمند بموت بوريس جودونوف المفاجئ (1605) ، حيث عمت روسيا حالة من الفوضى أصبحت معها عاجزة عن الدفاع عن نفسها ودون استثارة البرلمان البولندي أعلن سجسمند ترشيح نفسه للعرش المسكوفي وسار بجيش إلى روسيا. وعلى حين قضى هو عامين في حصار سمولنسك ، هزم قائده ستانسلا زلكوسكي الروس في كلوشينو وتقدم نحو موسكو، واقنع النبلاء بقبول لادسوس بن سجسمند ملكاً عليهم (1610). ولكن هذا الأخير أنكر هذه الترتيبات، فيجب أن يكون القيصر هو لا ابنه. فلما استولى آخر الأمر على سمولنسك (1611)، تقدم نحو موسكو ، ولكنه لم يصل إليها قط، فقد أقبل الشتاء بمعوقاته. وتمرد جنوده الذين لم يتقاضوا رواتبهم. وفي 12 ديسمبر 1612 ، أي قبل نابليون بقرنين من الزمان، تقهقر جيشه وسط سوء النظام والفناء، من روسيا إلى بولندا. ولم يتبق من هذه الحملات الباهظة التكاليف إلا امتلاك سمولنسك وسفرسكي، بالإضافة إلى نفحة قوية من تأثير بولندة على الحياة الروسية.

وكانت بقية حكم سجسمند سلسلة من الحروب الفاجعة، فقد ورطه تحالفه مع آل هسبوج-مما ابتهج له الإمبراطور-في صراع كلفه غالياً مع الأتراك لم تنج منه بولندة إلا بفضل مهارة قوادها وشجاعة جنودها. واستفاد جوستاف أدولف من انشغال بولندة في الجنوب في غزو ليفونبا. وبمقتضى صلح ألتمارك (1629) سيطرت السويد على ليفونيا وعلى البلطيق. وقضى سجسمند نحبه محطماً متهدماً (1632). وخلع الديت تاج بولندة على ابنه لادسلاس الرابع، الذي كان الآن في السابعة والثلاثين، وكان قد كشف عن نشاطه وهمته وجلده كقائد، وكسب صداقات كثيرة بفضل خلقه الصريح المرح. وأساء إلى البابا بتسامحه مع البروتستانتية في بولندة ومع الأرثودوكسية في لتوانيا. وأباح في ثورن قيام حوار عام سلمي بين رجال الدين الكاثوليك واللوثريين والكلفنيين (1645) وشجع الفن والموسيقى. واشترى لوحات روبنز وأقمشة جوبلان المزركشة وأقام أول مسرح بولندي دائم، ومثل عليه الأوبرا الإيطالية، وتبادل الرسائل مع جاليليو في سجنه، ودعا العالم البروتستانتي جروشيوس إلى بلاطه وفارق الحياة (1648) في الوقت الذي هددت فيه الدولة البولندية ثورة عارمة في القوزاق.

 
خريطة تبين تقسيمات پولندا في أعوام 1772، 1793، و 1795


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التقسيم الأول

اتفق الوطنيون والقساوسة البولنديون 1768-72 مع فردريك على عدم قبول الموقف. وأدان الأكليروس الكاثوليكي الروماني بقوة تسليم استقلال بولندة الذاتي لامرأة ملحدة روسية. واستنفر البولنديين رجلان، أسقف كامر فنييك المسمى آدم كراسنسكي، ويوزف بولاسكي (أبو كازيمير بولاسكي الذي قاتل دفاعاً عن أمريكا)، بالعظات والنشرات ليؤكدوا من جديد حريتهم السياسية ودكتاتوريتهم الدينية. فما انقضى اسبوع على استسلام الديت لربنن حتى ألفت جماعة من البولنديين (29 فبراير 1768) اتحاد بار -وهي مدينة على الدنيستر في أوكرانيا البولندية. وكان الأقطاب الذين مولوا الحركة مدفوعين بكراهيتهم لكاترين والملك، وكان "الجمهور الأبله" كما لقب فردريك أتباعهم يضطرم غيرة على المذهب الحق الأوحد، وتردد صدى هذه الحماسة في شعر الشعراء يتحسرون في مراثي حزينة على إذلال بولندة و "ارتداد" ملكها. وبعثت تركيا والنمسا للوطنيين السلاح والمال، وأقبل دمورييه من فرنسا لينظمهم في وحدات مقاتلة. وانضم البولنديون الراغبون في رد الأسرة السكسونية للعرش إلى الحركة التي ما لبثت أن انتشرت إلى مواقع متفرقة في طول البلاد وعرضها. وكتب ربنن إلى كاترين يقول "إن بولندة بأسرها اشتعلن ناراً". وفكر بونيا توفسكي في الانضمام إلى الاتحاد، ولكن أعضاءه الغلاة المتهورين نفروه وأقصوه عنه بالمطالبة بخلعه لم يكن بإعدامه(29). وإذا جاز أن نصدق فولتير(30)، فإن ثلاثين من أعضاء الاتحاد أقسموا في تشستوكوفا هذا القسم:

  "نحن الذين أثارتنا غيرة مقدسة دينية، والذين صممنا على الثأر لله والدين والوطن، بعد أن أسخطنا ستانسلاس أوغسطس، محتقر الشرائع الساوية والأرضية، وراعى الكفار والمهرطقين، نتعهد ونقسم أمام صورة أم الرب المقدسة المعجزية بأن نستأصل من وجه الأرض شأفة من يدنسها بوطئة الدين. فليساعدنا الرب!".  

وأمر ربنن الجيش الروسي بإخماد الفتنة، فطرد الاتحاديين وراء الحدود التركية وأحرق مدينة تركية. فأعلنت تركيا الحرب على روسيا (1768) وطالبت بجلاء الروس عن بولندة وتحريرها. واغتنم القوزاق فرصة الاضطراب الشديد ليغزو أوكرانيا البولندية. فطبشوا بملاك الأرض، ووكلائهم اليهود، والفلاحين الكاثوليك والرومان أو البروتستنت، في مهرجان من التقتيل العشوائي، ففي مدينة واحدة قتلوا ستة عشر ألف رجل وامرأة وطفل. ورد الاتحاديون بقتل من وصلت إليهم أيديهم من الروس والمنشقين، وهكذا عانى البروتستنت واليهود من خطر مضاعف. ففي هذه السنوات بجملتها (1768-70) هلك خمسون ألفاً من سكان بولندة سواء في المذابح أو المعارك(31).

وبدأت كل الأطراف الآن حديث التقسيم. أما الاتحاديون فقد اتهمهم أعداؤهم بأنهم وافقوا على تقسيم بولندة فيما بينهم وبين حلفائهم(32). ففي فبراير 1769 أرسل فردريك إلى سنانت بطرسبرج اقتراحاً بتقسيم بولندة بين روسيا وبروسيا والنمسا، واشترطت كاترين في ردها أن تمد بروسيا والنمسا يد العون لروسيا لطرد الترك من أوربا، لكي توافق على أن تختص بروسيا بذلك الجزء من بولندة الذي يفصل بروسيا الكبرى عن بروسيا الشرقية، أما باقي بولندة فيخضع للحماية الروسية(33)، ولكن فردريك تردد. أما شوازيل المتحدث باسم فرنسا فقد اقترح على النمسا أن تستولي على الأقاليم البولندية المجاورة للمجر. ورأتها النمسا فكرة مواتية في وقت موات، وعليه ففي أبريل 1769 احتلت إقليم سبتز البولندي، الذي كانت المجر رهنته لبولندة في 1412 ولم يفك رهنه قط(34). وفي 1770 اقترح الترك الذين كانوا آنئذ يقاتلون بصفتهم مدافعين عن بولندة-على النمسا تقسيم بولندة بين النمسا وتركيا(35).

وبينما كانت هذه المفاوضات دائرة ارتضت الدول الغربية فكرة تقسيم بولندة نتيجة لا مناص منها لفوضاها السياسية، وأحقادها الدينية، وعجزها الحربي و "أدرك كل رجل دولة في القارة أن الكارثة واقعة لا محالة"(36). ولكن البولنديين من خصوم الاتحاديين في هذا الوقت أوفدوا عضواً في الديت ليطلب إلى الفيلسوف الاشتراكي مابلي، وإلى عدو جماعة الفلاسفة روسو، أن يضعا دستوراً مؤقتاً لبولندة جديدة. وقدم مابلي توصياته في 1770-71، أما روسو فقد فرغ من "دستور بولندة" في أبريل 1772-بعد شهرين من التوقيع على أولى معاهدات التقسيم.

واستمتع اتحاد بار بلحظات من النشوة قبل انهياره. ففي مارس 1770، ومن مدينة فارنا التركية، أعلن خلع بونياتوفسكي. وفي 3 نوفمبر 1771، اعترض بعض-الاتحاديين طريقه وهو يغادر منزل عم له في الليل، وتغلبوا على حرسه، وقتلوا أحدهم رمياً بالرصاص، ثم جروا الملك من داخل عربته، وأحدثوا قطعاً في رأسه بضربة سيف، ثم اختطفوه من عاصمة ملكه. ولكن دورية من الشرطة هاجمتهم في غابة بيلني، وأثناء العراك هرب بونياتوفسكي، واتصل بالحرس الملكي، فأتى رجاله وعادوا به إلى قصره مشعث الشعر ينزف دماً في الخامسة صباحاً. وهكذا قضى على كل احتمالات المصالحة بين الحكومة والاتحاد. ولجأ بونياتوفسكي إلى المساعدة الروسية، وقمع الاتحاد، وبقيت منه بقية في تركيا-الهلال يحمي الصليب (1772)(37).

على أن تقدم جيوش روسيا إلى البحر الأسود والدانوب أزعج كلاً من بروسيا والنمس. فلا فردريك الثاني ولا جوزف الثاني كانا مغتبطين بتوقع سيطرة روسيا على البحر الأسود، وأسوأ من ذلك أن الآستانة. وكانت بروسيا قد تعهدت في معاهدتي 1764 و1766 بأن تساعد روسيا إذا هوجمت، وكانت تركيا من الناحية الشكلية هي المعتدي في حرب 1768 الروسية التركية؛ وكانت بروسيا تعرض خزانتها للإفلاس بإرسالها المعونات المالية لروسيا. أما النمسا التي ساءها دخول القوات الروسية فلاشيا فكانت تهدد بالتحالف مع تركيا ضد روسيا؛ في تلك الحالة كانت روسيا ستنتظر من بروسيا أن تهاجم النمسا. ولكن فردريك كان قد ضاق ذرعاً بالحرب. لقد خاض حربين ليستولي على سيليزيا ويحتفظ بها، فلم يخاطر بها الآن؟ ومن ثم آثر الطرق الدبلوماسية. وتساءل ألا يمكن استرضاء الدول الثلاث بحصص يلتهمونها من أرض بولندة؛ لو أن الأمور تركت تجري مجراها والسفير الروسي يحكم بولندة فعلاً لما كانت المسألة إلا مسألة وقت حتى تبتلع روسيا ذلك البلد كلية متسترة وراء أي حجة. فهل ما زال في الإمكان الحيلولة دون هذا؟ بلى، إذا ارتضت كاترين أن تأخذ بولندة الشرقية فقط، وتدع فردريك يأخذ بولندة الغربية وتنسحب من الدانوب. وهل يخفف من شره يوزف للقتال أن يعطي نصيباً من الغنيمة؟

وعليه ففي يناير 1771 اقترح الأمير هنري، أخو فردريك، الخطة على الدبلوماسيين الروس في سانت بطرسبرج، واعترض بنن بأن روسيا قد ضمنت وحدة بولندة الإقليمية، فذكروه بأن هذا الضمان كان رهناً بالتزام بولندة بدستورها الجديد وتحالفها مع روسيا، وأن هذا الالتزام انقطع بانضمام العدد الكبير من النواب لاتحاد بار المتمرد. ومع هذا لم ترض كاترين عن الخطة. فأي شيء يدعوها لإعطاء فردريك جزءاً من بولندة بينما قد تأخذ هي الكل بعد قليل؛ ولم تدعم قوة بروسيا بمزيد من الأرض، والموارد، والثغور البلطية، ومزيد من الجند الفارعين، ولكنها لم ترد خوض حرب مع فردريك، فقد كان لديه 180.000 رجل تحت السلاح؛ وآثرت على ذلك أن تجعله يمنع يوزف من الاتحاد مع تركيا ضد روسيا، فهدفها الحاضر ليس بولندة بل البحر الأسود. وعليه ففي 8 يناير 1771، أشارت لهنري عرضاً في حلة إلى موافقتها مبدئياً على خطة فردريك.

وانقضى عام قبل أن تتمكن المفاوضة من الفصل في تقسيم الغنيمة. فقد أراد فردريك أن يأخذ دانتزج، فاعترضت كاترين؛ وكذلك بريطانيا التي كانت تجارتها مع البلطيق ترسو على ذلك الثغر. وفي غضون هذا عبأت النمسا قواتها، وتحالفت سراً مع تركيا. وفي 17 فبراير 1772 وقع فردريك وكاترين "اتفاقاً" على تقسيم بولندة. وألانت كاترين جانب يوزف بتخليها عن جميع مطالب روسيا في فلاشيا وملدافيا؛ ثم إن رداءة محصول 1771 جعل من المستحيل عليه إطعام جيشه. وكانت ماريا تريزا من جهة أخرى تتوسل إلى ولدها بكل دموعها لتمنعه من الاشتراك في اغتصاب بولندة، غير أن فردريك وكاترين أكرهاه على الموافقة بشروعهما في الاستيلاء الفعلي على الأقاليم التي خصا نفسيهما بها. وفي 5 أغسطس 1772 أضاف يوزف توقيعه على ميثاق التقسيم.

أما المعاهدة فبعد الديباجة التي ابتهلت إلى الثالوث المبارك، وافقت على أن تحتفظ بولندة بثلثي أرضها وثلث سكانها. واستولت النمسا على بولندة الجنوبية بين فولينيا والكربات، مع گاليسيا وبودوليا الغربية-27.000 ميل مربع، و2.700.000- نسمة. وأخذت روسيا "روسيا البيضاء" (بولندة الشرقية إلى دوينا ونيبر) 36.000 ميل مربع، و1.800.000 نسمة. وأخذت بروسيا "بروسيا الغربية" فيما عدا دانتزج وتورن 13.000 ميل مربع و600.000 نسمة. وأخذ فردريك أصغر نصيب، ولكنه كان قد ألزم المتآمرين بالسلام، و "خاط"- على حد قوله بروسيا الغربية وبروسيا الشرقية مع براندنبرج. وقال قال الوطني ترايتشكي إن فردريك على أية حال لم يفعل أكثر من أنه رد إلى ألمانيا "معقل الفرسان التيوتون،-وادي فايشيزال الجميل- الذي انتزعه الفرسان الجرمان من البرابرة في الأيام الخالية"(38) وذكر فردريك وربا بأن سكان بروسيا الغربية كثرتهم العظمى ألمانية وبروتستانتية، أما كاترين فقد ذكرت أن الإقليم الذي أخذته يسكنه كله تقريباً أتباع الكنيسة الرومية الكاثوليكية المتحدثون بالروسية(39).

وسرعان ما احتلت الدول الثلاث أنصبتها من الغنيمة بجيوشها. واستنجد بونياتوفسكي بالدول الغربية لتمنع التقسيم، ولكنها كانت في شغل شاغل عنه؛ ففرنسا تتوقع الحرب مع إنجلترة، وقد ترددت في معارضة حليفتها النمسا، وإنجلترة تواجه الثورة الوليدة في أمريكا، والخطر الذي قد يأتيها من فرنسا وأسبانيا؛ ونص جورج الثالث بونياتوفسكي بأن يصلي لله(40). وطالبت الدول صاحبة التقسيم بدعوة الديت ليصدق على التقسيم الجغرافي الجديد؛ فماطل بونياتوفسكي عاماً، وأخيراً دعا الديت للاجتماع في جرودونو. ورفض الكثير من النبلاء والأساقفة حضوره، وبعض الذين جاءوا وأحنجوا نفوا إلى سيبيريا؛ وقبل غيرهم الرشا؛ وحولت البقية المتخلفة من الديت نفسها إلى اتحاد كونفدرالي (يبيح فيه القانون البولندي حكم الأغلبية)، ووقع الديت المعاهدة التي نزلت عن الأقاليم المنتزعة من بولندة (18سبتمبر 1773) وبكى بونياتوفسكي ووقع كما بكت ماريا تريزا ووقعت.

وقبلت أوربا الغربية هذا التقسيم الأول على أنه البديل الوحيد لابتلاع روسيا لبولندة ابتلاعاً تاماً. ويقال إن بعض الدبلوماسيين "أذهلهم اعتدال الشركاء، الذين اكتفوا بالثلث في حين كان الكل رهن إشارتهم إن طلبوه"(41). واغتبط جماعة الفلاسفة لأن بولندة المتعصبة عاقبها مستبدوهم المستنيرون، ورحب فولتير بالتقسيم باعتباره هزيمة تاريخية للكنيسة الكاثوليكية،(42) ولكنه بطبيعة الحال لم يكن سوى انتصار للقوة المنظمة على العجز الرجعي.

تمزيق بولندة 1792 - 1795

اعترفت جميع الدول بالدستور الجديد إلا روسيا. ووصفه إدموند بيرك بأنه "أنبل امتياز نالته أمة في أي زمان" وصرح بأنه ستانسلاس الثاني قد تبوأ مكاناً في التاريخ بين عظماء الملوك ورجال الدولة(48)، ولكن هذه الحماسة ربما كانت انعكاساً لابتهاج إنجلترة بهزيمة كاترين. وأخفت الإمبراطورة حيناً عداءها لبولندة الجديدة، ولكنها لم تغفر طرد جيشها منها على عجل، ولا إحلال النفوذ البروسي محل الروسي في الشئون البولندية. فلما أنهت معاهدة ياسي (9 يناير 1792) حربها مع تركيا، وتحررت من الخوف من شريكيها السابقين في الجريمة-بروسيا والنمسا-لتورطهما في الحرب ضد فرنسا الثائرة (أبريل 1792)، تلفتت حولها تبحث عن مدخل جديد إلى بولندة.

وقد هيأه لها البولنديون المحافظون، إذ وافقوا كاترين كل الموافقة على أن دستور بونياتوفسكي قد صدق عليه ديت جمع على عجل بحيث لم يستطع أشراف كثيرون حضوره. وكان فيلكس بوتوكي وغيره من الأقطاب ساخطين أشد السخط على التخلي عن حق النقض المطلق الذي ضمن لهم القوة أمام السلطة المركزية، ولم يكونوا راغبين في النزول عن حقهم في انتخاب الملك، وفي الهيمنة عليه تبعاً لذلك. ورفض بوتوكي حلف يمين الولاء للمرسوم الجديد، ثم قاد جماعة من النبلاء إلى سانت بطسبرج وطلب إلى الإمبراطورة أن تساعدهم على إعادة الدستور الأقدم (دستور 1775) الذي سبق أن تعهدت بحمايته. فأجابت بأنها لا تريد التدخل في بولندة بناء على طلب أفراد قليلين، ولكنها ستنظر في نداء من أقلية بولندية منظمة يعتد بها، وأحيط فردريك وليم الثاني علماً بهذه المفاوضات، وكان متورطاً في الحرب ضد فرنسا، كارهاً لخوض حرب ضد روسيا، فأخير الحكومة البولندية (4 مايو 1792) بأنها إن كانت تنوي الدفاع عن دستورها الجديد بقوة السلاح فعليها ألا تتوقع الدعم مع بروسيا(49). وقف بوتوكي إلى بولندة، وألف 14( مايو 1792)، في بلدة بأوكرانيا، اتحاد تارجوفيكا، ودعا للانضواء تحت لوائه كل الذين يريدون إعادة الدستور القديم. ولقب أتباعه أنفسهم بالجمهوريين، وأدانوا تحالف بولندة مع بروسيا، وأثنوا على كاترين، والتمسوا بركتها وطلبوا جيشها.

فأرسلتهما جميعاً، وزحف الاتحاديون على وارسو بعد أن توفر لهم هذا الدعم. وكانت دعوتهم إلى "الحرية" قد أحدثت بعض التأثير، لأن مدناً عديدة استقبلتهم استقبالاً للمحررين؛ وفي تريسابول (5 سبتمبر) رحب القوم ببوتوكي كأنه فعلاً ملك بولندة الجديد. ودعا بونياتوفسكي الديت أن يعطيه كل السلطات التي تلزم للدفاع. فعينه دكتاتوراً، ودعا كل الذكور البالغين من البولنديين للخدمة العسكرية، ثم ارفض. وعين بونياتوفسكي ابن أخيه، الأمير يوزف بونياتوفسكي ذا التسعة والعشرين عاماً، قائداً أعلى للجيش الذي وجده مفتقراً إلى التدريب ومجهزاً أسوأ تجهيز. وأمر يوزف جميع كتائب الجيش بأن تنضم إليه في لوبار على نهر سلوتش، ولكن القوات الروسية كانت قد طوقت الكثيرين فلم يستطيعوا الحضور، والذين حضروا كانوا أضعف من أن يقفوا الزحف الروسي. وتقهقر الشاب إلى بولون، مركز إمداداته تقهقراً منظماً أتاحه قتال المؤخرة الباسل بقيادة تاديوس كوتشيوسكو، الذي كان قد حارب من قبل في صفوف المستعمرات في أمريكا، وكان وهو في السادسة والأربعين عريقاً في أمجاد الوطنية والحرب.

وفي 17 يونيو 1792 التقى البولنديون بجيش روسي كبير عند زيلنتسي، وهزموه في أول معركة حامية انتصرت فيها بولندة منذ أيام سوبيسكي. هنا أيضاً أثبت كوتشيوسكو مهارته، باستيلائه على ربوة سيطرت منها مدفعيته على ساحة المعركة؛ أما يوزف، الذي كان إلى الآن موضع الريبة في كفايته من مرءوسيه الذين في مثلي عمره، فقد كسب احترامهم بقيادته احتياطية من الجنود بشخصه ليكره الروس على التقهقر. وأثلج نبأ النصر صدر بونياتوفسكي، ولكن كاد يغلب هذا النبأ نبأ آخر بأن الأمير لودفج فورتمبرج قائد الجيش البروسي الموكل بالقوات البولندية في لتوانيا، قد هرب من موقعه تاركاً جنوده في حالة من الفوضى أتاحت للروس في 12 يونيو الاستيلاء على فلنو عاصمة لتوانيا دون مشقة.

لم يبق من أسباب الدفاع عن بولندة الآن غير جيش يوزف. وكانت مؤنه وعتاده من الضآلة أفواجه إلى الصيام أربعاً وعشرين ساعة، ولم تملك المدفعية غير اثني عشر صندوقاً من الذخيرة. فأمر الأمير بالتقهقر إلى دوبنو؛ فلما رمى بالجبن ثبت عند دوبينكا (18 يوليو) واستطاع بجيشه البالغ 12.500 مقاتل أن يتعادل مع 28.000 مقاتل روسي. ثم تقهقر بنظام حسن إلى كوروف، حيث انتظر وصول التعزيزات والمؤن التي وعده بها الملك. ولكن ستانسلاس كان قد يئس. ذلك أن رفض فردريك وليم الثاني أن ينفذ شروط الحلف البروسي البولندي، وخيانة الأمير لودفج، وهروب المئات من الجيش الذي جمعه في براجا-كل أولئك كان فوق ما تطيقه روحه التي لم تكن يوماً ما شديدة البسالة. وعليه فقد أرسل نداءً شخصياً لكاترين يلتمس شروطاً مشرفة، وكان جوابها (23 يوليو) إنذاراً نهائياً يشترط عليه الانضمام إلى اتحاد تاجوفيكا وإعادة دستور 1775. وقد صدمته لهجتها التيلم تعرف هوادة ولا ليناً؛ أفهذه هي المرأة التي استجابت يوماً لغرامه الطائش؟

وكان حنانه هو المسيطر عليه الآن. فلقد فكر في المقاومة، وفي التسلح والمضي إلى الجبهة ليقود دفاعاً يائساً؛ ولكن زوجته، وأخته، وابنة أخيه، اشتد بكاؤهم لفكرة موته وما يجره عليهم من الوحدة والأسى، حتى وعد الملك بأنه سيسلم. ثم ما جدوى المقاومة بعد هذا كله؟ فبعد أن قطع الأمل في أي معونة من بروسيا-في وقت توقع فيه الهجمات على الجبهة الغربية العزلاء-، كيف تستطيع بولندة الوقوف في وجه روسيا؟ ألم يحاول جاهداً أن يثني الديت عن الاستخفاف بكاترين والمغامرة بكل شيء اعتماداً على وعود بروسيا؟ ألم يلح في طلب جيش كبير حسن التجهيز، وألم يرفض الديت اعتماد المال لهذا الجيش بعد أن وافق على الرجال؟ وحتى لو حقق الجيش البولندي الراهن انتصاراً أو اثنين على الروس، أفلا تستطيع كاترين، المتخمة بالجنود بعد أن أبرمت الصلح مع تركيا، أن ترسل الموجة تلو الموجة من الجنود المدربين المدججين بالسلاح ضد فلوله المبعثرة المختلة النظام؟ فعلام التضحية بمزيد من الأرواح، وإسلام نصف بولندة إلى الخراب، إذا كان التسليم هو النهاية على كل حال؟

أرسل السفير الروسي الجديد، ياكوف سييفرس، إلى أخته وصفاً ملؤه العطف يصور فيه بونياتوفسكي في هذه الساعة، ساعة الانهيار البدني والروحي قال:

  "لم يزال الملك (في عامه الستين) رجلاً وسيماً أنيقاً، وإن كان وجهه شاحباً، ولكن في وسع المرء أن يرى أن ستاراً قائماً قد أسدل على روحه. إنه يحسن الحديث، بل يتحدث بفصاحة، وهو مجامل حسن الاستماع دائماً ومع الجميع، ومسكن سيئ، وهو مهمل، مزدري مخذول، ومع ذلك فهو ألطف الناس جميعاً. وإذا غضضت النظر عن منصبه الرفيع، وتأملته من وجهة النظر الشخصية فقط، قلت إن فضائله ترجح رذائله. ولا ريب في أنه أسوأ الملوك حظاً بعد لويس السادس عشر. إنه يحب أقرباءه حباً جماً، وهؤلاء الناس هم علة نكباته كلها(50).  

وفي 24 يوليو 1792 قرأ بونياتوفسكي الإنذار النهائي الروسي على مستشاريه الخصوصيين، ونصحهم بأن يركنوا إلى سماحة كاترين وشهامتها. واحتج كثيرون منهم على هذه السذاجة. واقترح أحدهم المدعو مالا خوفسكي أن يجمع في ساعة واحدة 100.000 جولدن لأغراض الدفاع، وألح على أن الجيس البولندي يستطيع-حتى إذا اقتضى الأمر التخلي عن وارسو-أن يتقهقر إلى كاركاو ويجند جيشاً جديداً في الجنوب الآهل بالسكان. وهزم اقتراح بونياتوفسكي بالتسليم في المجلس بأغلبية عشرين صوتاً ضد سبعة. ولكنه أبطل قرارهم بحكم سلطته دكتاتوراً، وأمر ابن أخيه بالكف عن المقاومة. ورد يوزف بأن على الملك بدلاً من هذا التسليم أن يبادر إلى الجبهة بما يستطيع جمعه من قوات ويقاتل إلى النهاية. فلما أصر ستانسلاس على انضام الجيش إلى الاتحاد أرسل إليه جميع الضباط إلا واحداً استقالاتهم وعاد يوزف إلى موطنه السابق في فيينا. وفي 5 أغسطس احتل جيش روسي براجاً. وفي أكتوبر أرسل يوزف رجاء إلى عمه يدعوه لاعتزال ملكه قبل أن تزول البقية الباقية من الشرف. وفي نوفمبر دخل بوتوكي مع طلائع جيش الاتحاديين وارسو دخول الظافر، وألقى على بونياتوفسكي درساً في واجبات الملك. ولكن انتصار بوتوكي تبين بعد قليل أنه كارثة، لأن الجنود البروسيين دخلوا بولندة في يناير 1793، وواصلوا زحفهم ليحتلوا دانتزج وتورن، دون أن يطلق حلفاء بوتوكي الروس رصاصة ليمنعوهم. ووضح أن روسيا وبروسيا قد اتفقتا على تقسيم بولندة ثانية.

وكانت كاترين وفردريك وليم قد وقعا هذا الاتفاق في 23 يناير، ولكنهما تكتما أمره حتى 28 فبراير. أما بوتوكي فقد استنفر البولنديين من جميع الأحزاب ليهبوا دفاعاً عن بولندة؛ فضحكوا منه، وندد به يوزف خائناً لوطنه، وتحداه للمبارزة، ولكن ستانسلاس منعها.

وبمقتضى هذا التقسيم الثاني حصلت روسيا على 89.000 ميل مربع من بولندة الشرقية، يعيش فيها 3.000.000 من السكان، بما في هذافلنو ومنسك؛ أما بروسيا فأخذت 23.000 ميل مربع من بولندة الغربية، يعيش فيها 1.000.000 من السكان بما فيها دانتزج وتورن؛ وبقي لبولندة 80.000 ميل مربع و4.000.000 نسمة-وهو يقرب من نصف ما ترك لها من قبل في 1773. ولم يكن للنمسا نصيب في هذه الغنيمة الثانية، ولكن هدأتها الوعود الروسية بمساعدتها في الحصول على بافاريا. أما الدول الغربية التي كانت لا تزال منهمكة في صراعها مع فرنسا الثائرة فلم تتخذ أي إجراء ضد هذا الاغتصاب الثاني، الذي عللته لها كاترين بأنه ضرورة اقتضاها تطور الدعوة الثورية في وارسو، التي تهدد بالخطر جميع الملكيات.

ولكي تلبس هذه السرقة ثوب الشرعية أمرت بونياتوفسكي أن يدعو الدايت للاجتماع في جرودنو، وأمرته بالحضور بشخصه ليوقع على تحالف مع روسيا فأبى الذهاب أول الأمر، ولكن حين عرضت الوفاء بديونه-التي بلغت الآن 1.566.000 دوقاتية-قبل هذا الإذلال الجديد خدمة لدائنيه. وزود السفير الروسي بالمال لرشوة عدد كاف من النواب ليحضروا اجتماع الديت، ولم يجد عناء في رشوة عدة أعضاء من بطانة الملك ليفشوا كل كلمة فاه بها سيدهم وكل عمل أتاه. وأمكن إقناع هذا "الديت الأخير" (17 يونيو إلى 24 نوفمبر 1793) بأن يوقع معاهدة مع روسيا، ولكنه ظل شهوراً يأبى التصديق على التقسيم الثاني. وقيل للأعضاء أنهم ممنوعون من مغادرة القاعة حتى يوقعوا، فظلوا على رفضهم وجلسوا صامتين اثنتي عشرة ساعة. ثم طرح الرئيس المسألة للتصويت، فلما لم يسمع جواباً أن السكوت علامة الرضى (25 سبتمبر). وعاد ما بقي من أرض بولندة محمية روسية؛ وأعيد دستور 1775.

وإذا كان في استطاعة رجل واحد أن يفتدي الأمة فذلك هو كوتشيوسكو أمده التشارتوريسكيون بالمال فذهب إلى باريس (يناير 1793) والتمس معونة فرنسا لبلد يتعاطف في حرارة مع الثورة الفرنسية. وتعهد بأنه لو مدت فرنسا يد المعونة لبولندة لهب الفلاحون البولنديون في ثورة على القنية، وأهل المدن على النبلاء، وقال إن بونياتوفسكي سينزل عن عرشه ليكون النظام جمهورياً، وإن جيشاً بولندياً سيساند فرنسا في حربها مع بروسيا(51).

ورحب الزعماء الفرنسيون بمقترحاته، ولكن نشوب الحرب مع إنجلترة (فبراير 1793) وغزو الحلفاء لفرنسا، قضيا على كل أمل في تقديم العون لبولندة. وفي غياب كوتشيوسكو جند بعض المواطنين والماسون الأحرار وضباط الجيش جيشاً بولندياً جديداً (مارس 1794). وهرع كوتشيوسكو من درسدن إلى كركاو لينضم إليه، فعين قائداً أعلى وأعطى سلطات مطلقة، وأمر كل خم بيوت في بولندة أن توافيه بجندي من المشاة، وكل خمسين بفارس، وأمر هؤلاء المجندين بأن يأتوا بما يجمعونه من سلاح، حتى المعاول والمناجل. وفي 4 أبريل هاجم بأربعة آلاف مقاتل نظامي وألفي فلاح مجند قوة عدتها سبعة آلاف روسي في راتسلافيس قرب كراكاو، وهزمها بفضل براعة قيادته من جهة وفاعلية مناجل الفلاحين من جهة أخرى.

فلما سمع فريق الراديكاليين أو "اليعقوبيين" في وارسو بهذا النصر نظم رجاله عصياً مسلحاً انضم إليه الزعماء من الطبقة الوسطى في تردد. وفي 17 أبريل هاجم هؤلاء الثوار الحامية الروسية المؤلفة من 7.500 مقاتل، وقتلوا الكثيرين منهم، وهزموا فرقة بروسية من 1650 جندي، وهربت قوات الاحتلال، وخضعت وارسو لحظة للسيطرة البولندية. وحررت انتفاضة كهذه مدينة فلنو (23 أبريل) وشنقت هتمان (زعيم) لتوانيا الأكبر، واستردت أجزاء من بولندة حتى منسك تقريباً. وفي 7 مايو وعد كوتشوسكو الإقنان بعتقهم، وكفل لهم تملك الأرض التي يزرعونها. وانضوى تحت لوائه خلق كثير من المتطوعين والمجندين حتى اجتمع له في يونيو 1794 (150.000) رجل لم يكن منهم حسن التجهيز أكثر من 80.000.

على هؤلاء تدفقت الموجات المتتالية من الجنود الروسية أو البروسية المدربة. وفي 6 يونيو فاجأ جيش متحالف من 26.000 مقاتل البولنديين قرب تشيكوسيني، ولم يتح لكوتشيوسكو من الوقت إلا ما يجلب فيه 14.000 مقاتل فقط. فهزم بخسائر فادحة، والتمس الموت في المعركة، ولكن الموت راغ منه؛ وتقهقرت فلول البولنديين إلى وارسو. وفي 15يونيو استولى البروسيون على كراكاو؛ وفي 11 أغسطس استعاد الروس فلنو؛ وفي 19 سبتمبر أبادت قوة روسية من 12.500 من الجنود المتمرسين بالقتال بقيادة سوفوروف جيشاً بولندياً من 5.500 مقاتل عند تريسابول؛ وفي 10 أكتوبر هزم 13.000 روسي كوتشيوسكو نفسه وهو يقود 7.000 بولندي عند ماسيسجويس، وجرح جرحاً خطيراً وأسر. ولم يفه كما زعمت الأسطورة بصرخه اليأس "لقد قضى على بولندة!" ولكن الهزيمة كانت قاضية على الثورة الباسلة.

أما سوفوروف فقد وحد مختلف الجيوش الروسية واقتحم معسكر البولنديين الحصين في براجا، وراح جنوده الذين أصابهم جنون المعركة يذبحون لا المدافعين فقط بل سكان البلدة المدنيين. وسلم بونياتوفسكي وارسو تفادياً لمذبحة أشد بشاعة. وأرسل سوفوروف كوتشيوسكو وغيره من زعماء الثوار إلى حيث السجن في سانت بطرسبرج، وأرسل الملك إلى جرودنو ليكون رهن إشارة الإمبراطورة. وهناك، في 25 نوفمبر 1795، وقع على اعتزاله الملك. وتوسل إلى كاترين أن تبقى على جزء من بولندة، ولكنها صممت على أن تحل المسألة البولندية بالقضاء على الأمة البولندية كما ظنت. وبعد خمسة عشر شهراً من النزاع، وقعت روسيا وبروسيا والنمسا معاهدة التقسيم الثالث (26 يناير 1797) واستولت روسيا على كورلاند ولتوانيا وغربي بودوليا وفولينيا-181.000 ميل مربع؛ واستولت النمسا على "بولندة الصغيرة" بما فيها من كراكاو ولوبلن-45.000 ميل مربع؛ وأخذت بروسيا الباقي بما فيه وارسو-57.000 ميل مربع. وفي التقسيمات الثلاثة كلها استوعبت روسيا نحو 6.000.000 من سكان بولندة البالغين 12.200.000 نسمة (1797)، والنمسا 3.700.000، وبروسيا 2.500.000 نسمة.

وفر آلاف البولنديين من وطنهم، وتسلم الأجانب الأملاك المصادرة. وظل بونياتوفسكي في جرودنو، يتسلى بدراسة النبات ويكتب مذكراته. وبعد موت كاترين دعاه بولس الأول إلى سانت بطرسبرج وخصص له القصر الرخامي و100.000 دوقاتية في العام، وهناك مات في 12 فبراير 1798 بعد أن بلغ السادسة والستين. أما كوتشيوسكو فقدأفرج عنه الإمبراطور بولس في 1796، وعاد إلى أمريكا، ثم إلى فرنسا، وواصل جهوده لتحرير بولندة حتى مماته (1817). وما يوزف بونياتوفسكي فقد فر إلى فيينا، وشارك في حملة نابليون على روسيا، وجرح في سمولنسك، وأحسن البلاء في ليبزج، ورقى مارشالاً في الجيش الفرنسي، ومات في 1813 مكرماً حتى من أعدائه. وأما بولندة فلم تعد دولة، ولكنها ظلت شعباً وحضارة، يلوثها الاضطهاد الديني، ولكنها تميزت بعظماء الشعراء والقصاصين والموسيقيين والفنانين والعلماء، ولم تتخل قط عن عزمها على النهوض من جديد.

المدنية

كان الاقتصاد البولندي لا يزال يتسم بسمات العصور الوسطى. وكانت التجارة الداخلية في أيدي الباعة المتجولين، والتجارة الخارجية مقصورة إلى حد كبير على دانزج وريغا، ولم تكن طبقة التجار تتمتع بثراء يذكر، وقلما سمح لأفرادها بعضوية البرلمان، فإن النبلاء تحكموا في الديت وفي الملك وفي الاقتصاد، وسيطروا على هؤلاء جميعاً. وكان يفلح الضياع الواسعة مزارعون خاضعون لتنظيمات إقطاعية أقسى من بعض الوجوه مما كان عليه الحال في مزارع فرنسا في العصور الوسطى. وكان النبيل المالك يضع هذه التنظيمات بنفسه، ويفرضها بقوة جنوده، ويحرم على مستأجريه مغادرة نطاق ولايته دون موافقته، وينقلهم من مكان إلى مكان، ويزيد من الأرض أو ينقص منها وفق مشيئته، ويفرض عليها في كل عام أيام عمل لا يتقاضون عنها أجراً ويرغمهم على أن يبيعوه أو يشتروا منه وحده، وعلى أن يبتاعون منه كل عام قدراً من الجعة الرديئة الصنع. وكان يستطيع تجنيد أبنائهم لخدمته في زمن السلم والحرب. كان هؤلاء المزارعون أحراراً. "قانوناً لهم" حق التملك والتوريث، ولكن "الأب" الجزويتي سكارجا نعتهم بأنهم أرقاء.

وكانت الحياة قروية في معظمها. وكان النبلاء يتجمعون في وارسو لإملاء إرادتهم الجماعية، ولكنهم عاشوا في ضياعهم، يصطادون ويتشاجرون، ويستمتعون بأطيب المتع، ويتبادلون المآدب الباذخة، ويتدربون على الحرب وكانت الزيجات تتم عن طريق الوالدين. وقلما سئلت البنت رأيها، وقلما عارضت، فالمفروض أن الحب الذي يولده الزواج والأبوة أقوى على البقاء والدوام من الزواج الذي ينشأ عن الحب. وكانت النساء متواضعات جادات نشيطات. وكانت آداب السلوك الجنسي مرعية كل الرعاية. ولم نسمع بقصص غرام خارج نطاق الزوجية قبل القرن الثامن عشر. وكان الرجال، لا النساء، هم الذين يضعون قواعد السلوك، باستثناء سيسيليا ريناتا التي تزوجت من لاديسلاس الرابع 1637 ، والتي أحيت الآثار الإيطالية التي استوردها الفنانون ورجال الدين في أزمنة سابقة. ولويزماري جونزاج التي تزوجها 1648 ، والتي جلبت معها موجة من قواعد السلوك الفرنسية والكلام الفرنسي بقيت حتى القرن العشرين ، وكان في الراقصات البولندية رقة مهيبة، حدت برجل فرنس في 1647 إلى التحدث في إعجاب عن البولنديات.

ولم يقدر للفنان البولندي أن يلاحق المستوى الذي كان قد وضعه في تستوس في كراكاو 1477. ولقد نسجت أقمشة سجسمند الثاني المزركشة في الفلاندرز وأقام مهندسون معماريون ونحاتون إيطاليون التماثيل لسجسمند وباثوري وآنا جاجللون في كاتدرائية كراكاو، وكنائس الجزويت الباروكية في كراكاو ونيزويو وعامود سجسمند الثالث الشهير في وارسو، وأصاب الوهن التصوير في بولندة تحت هجمات البروتستانت على الصور الدينية، ولكن مارتن كوبر رسم صورة شخصية ملهمة الملك باثوري.

وعانى التعليم - كما عانت الفنون التخطيطية من الاضطراب الديني. ومرت جامعة كراكاو بفترة انحطاط عابر. ولكن باثوري أسس جامعة ولنو (1578)، وفي كراكاو وولنو ويوزثان وريجان وغيرها أسس الجزويت كليات بلغ من امتيازها وتفوقها أن كثيراً من البروتستانت أثروها لتنشئة أبنائهم عقلياً وخلقياً. وخير من كل هذه مدرسة طائفة "الموحدين" في كراكاو التي جذبت إليها ألف طالب من مختلف الملل. وأعد جان ذا موسكي مستشاري باثوري ذي النزعة الإنسانية، في زاموسك جامعة جديدة خصصت أساساً للدراسات الكرسيكية. وكانت ثمة وفرة في الأدب في بولندة. وكانت الخلافات الدينية فظة في النعوت مهذبة معقولة في الشكل، ومن ثم ستاتسلاس أورزيكوسكي الذي كان يدافع عن الكاثوليكية، ناضل من أجلها بضراوة وتعصب عنيف، "في لغة بولنديو رائعة، تعد من أحسن ما كتب في تاريخنا" ولم يكن يقل عنها شهرة في الأسلوب "رجل البلاط البولندي" (1566) الذي ألفه لوكازجورنيكي وهو تعديل لكتاب كاستليوني "رجل البلاط". وبرز الجزويتي بيتر سكارجو في الشعر والنثر والتعليم والسياسة. وأنتقل من رياسة جامعة ولنو إلى منصب كبير الوعاظ في البلاط الملكي وقضى فيه أربعة وعشرين عاماً ما كان فيها "بوسويه" بولندة، واستنكر فيها غير وهاب ولا وجل الفساد الذي رآه يستشري من حوله. وتنبأ بأنه إذا لم تصل الأمة إلى حكومة أكثر استقراراً ومركزية فإنها لابد أن تقع فريسة للدول الأجنبية، ولكنه نادى بملكية مسئولية مقيدة ومحددة بالقانون. وظل شعر كوكانوسكي دون منافس في مجاله وفي لغته حتى القرن التاسع عشر، ولا يزال شعبياً مألوفاً حتى اليوم. وقد بلغ الشاعر ذروة الإثارة والإلهام في رثائه وحزنه على ابنته أورسولا التي ماتت في نضارة الطفولة.

وعوق الصراع الديني كل نواحي الثقافة البولندية في ذاك العصر. ففي النصف الأول من القرن السادس عشر بدا أن البروتستانتية قدر لها أن تسيطر على بولندة، وعلى ألمانيا والسويد أيضاً. وكسبت إلى جانبها من النبلاء تمرداً على سلطة الملك وفساد الكنيسة، ووسيلة لانتزاع أملاكها. ومنح سجسمند الثاني بلاده تسامحاً دينياً واسع النطاق. وبعد عام من وفاته صاغت لجنة من الديت (28 يناير 1573) "اتحاد وارسو الكونفدر إلي" الذي يضمن الحرية الدينية لكل الشيع والفرق بلا استثناء. فلما عرض المشروع للتصويت عارضه الأعضاء الأسقفيون في المجلس. ولكن أقره بالإجماع الأعضاء العلمانيون الثمانية والتسعون، بما في ذلك واحد وأربعون كاثوليكياً ، وهذا يمثل نقطة بارزة في تاريخ التسامح، لأن أي إعلان رسمي سابق من هذا القبيل لم يصل إلى هذا المدى. وانتعشت في ظل هذه الحماية العريضة عدة طوائف متباينة، اللوثريون، والكلفنيون، وأتباع زونجلي، وأنصار تجديد العماد، والأخوة البوهيميون؛ وغير القائلين بالتثليث. وفي عام 1579 قدم إلى بولندة فاوستس سوسينس، وبدأ يؤسس كنيسة قائمة على مذهب التوحيد ولكن أهالي كراكاو أخرجوه من داره ودمروا مكتبته، وكادوا يقتلونه لولا أن المدير الكاثوليكي للجامعة هب لنجدته (1598)، واتحد الكلفنيون مع اللوثريون في المطالبة بطرد الموحدين أتباع سوسينس من بولندا. وأمر الديت في 1638 بإغلاق مدارس الموحدين؛ وفي 1658 نفي أفراد هذه الطائفة من البلاد. ففروا إلى ترانسلفانيا والمجر وألمانيا وهولندا وإنجلترا؛ وأخيراً إلى أمريكا؛ ليجدوا أعظم معبر عنهم في شخص أمرسون.

أن التعصب الشعبي والتربية الجزويتية والنظام الكاثوليكي والسياسة الملكية والتشيع الطائفي البروتستانتي، اجتمعت كلها بعضها إلى بعض لتقضي على البروتستانتية في بولندة، فإن الطوائف الجديدة حاربت الواحدة منها الأخرى بمثل الضراوة التي حاربت بها المذهب القديم. وتعلق المزارعون بالمذهب القديم لمجرد أنه قديم؛ حيث كان يمثل الارتياح إلى العادة والعرف المألوف؛ ولما أنضم الملكان-باثوري وسجسمند الثالث-إليه، وجد كثير من البروتستانت وأبنائهم، أنه من الأفضل لهم أن يعقدوا أواصر السلام مع الكنيسة وكان معظم الألمان في بولندة-من البروتستانت، وتلك حقيقة وجهت الشعور الوطني إلى مناصرة الكاثوليكية ومعاونتها. وتعاونت الكنيسة تعاوناً جاداً مع هؤلاء الأعوان المتفرقين على استرداد بولندة إلى حظيرة البابا، فأرسلت نخبة من أكثر الدبلوماسيين فيها رصانة، وأكبر الجزويت المغامرين، ليسبوا إلى جانبها، الملوك والنساء والأطفال، بل حتى النبلاء البروتستانت أنفسهم. وحذر رجال الدولة الكنسيون، مثل الكاردينال ستانسلاس هوسيوس والأسقف جيوفني كومندون، الملوك من تأسيس نظام اجتماعي أخلاقي سياسي مستقر على المذاهب البروتستانتية المائعة المتضارعة. وأثبت الجزويت قدرتهم على الدفاع عن الأمور التي كان الناس يتشككون فيها ولا يصدقونها، ضد ما استحدث الآن من معتقدات وطقوس. وفي نفس الوقت فإن رجال الدين الكاثوليك الذين التزموا بقرارات مجمع ترنت، خضعوا الآن لإصلاح ديني صارم مثير للإعجاب(37).

ولكن للكاثوليك أيضاً مشكلة. ذلك أن اتحاد لوتوانيا وبولندة عمل على إيجاد تلاحم مثير للغضب بين الكنيسة الأرثوذكسية الكاثوليكية وكان الخلاف بين الكنيستين طفيفاً ولكن الصلوات الأرثوذكسية اتبعت الطقوس السلافية، كما اتخذت القساوسة الأرثوذكس زوجات. وفي 1596 ، وعن طريق، "اتحاد برست ليتوفسك"، شكل جان زاموسكي مجموعة وسطاً من رجال الدين والعلمانيين في "كنيسة موحدة"، اعتنقت فكرة زواج رجال الدين، واتبعت الطقوس السلافية، وفي نفس الوقت ارتضت المذهب الكاثوليكي الروماني واعترفت بسيادة البابا. وراود زعماء الكاثوليك الأمل في أن يؤدي مثل هذا الحل الوسط إلى التوفيق بين الكنيستين، تدريجياً، إلى كسب الملتين اليونانية والروسية إلى جانب الامتثال للبابا. ولكن الكنيسة الجديدة لاقت مقاومة مثيرة. وذبح أهل بولوك رئيس أساقفتها.

وظل ملوك بولندة طوال القرن السادس عشر، يطبقون تسامحاً دينياً أكثر تقدماً منه في أي بلد مسيحي آخر. ولكن السكان الكاثوليك كثيراً ما عادوا سيرتهم الأولى إلى سياسة العداء الشديد، فانقضوا على كنيسة بروتستانتية في كراكاو، ونبشوا قبور البروتستانت (1606-1617). وحطموا كنيسة بروتستانتية ولنو، وضربوا-وقيل قتلوا-قساوستها (1611) وفي بورنات أحرقوا كنيسة لوثرية. وفضوا اجتماعاً خاصاً "بالأخوة البوهيمين". ولم يشترك رجال الدين الكاثوليك في هذه المظاهرات الدينية الشعبية، ولكنهم أفادوا منها. وتعاونت كل الظروف على تأييد الكنيسة القديمة، حتى تم لها النصر في 1648.

عصر نابليون

لم تكن بولندا قادرة على مقاومة روسيا وبروسيا والنمسا تلك القوى التي قسمتها مرات ثلاث (1792 و 1793 و 1785- 1796) فيما بينها، وبهذا التقسيم لم تعد بولندا دولة لها وجود سياسي، لكنها استمرت كثقافة غنية أدباً وفنا وكشعب تواق للحرية• وكان كل البولنديين تقريبا من السلاف فيما عدا جيب ألماني في الغرب وقلة يهودية في وارسو (فرسافا) وفي شرقي البلاد• وكان البولنديون كاثوليكاً متحمسين لأن هذه العقيدة (الكاثوليكية) كانت تواسيهم في أحزانهم وتعطيهم الأمل في الخلاص وتحفظ النظام الاجتماعي في ظل دولة محطمة، لذا فقد أدانوا الهرطقة واعتبروها خيانة (المقصود بالهرطقة هنا الخروج على الكاثوليكية) فكان نزوعهم الوطني غير متسم بالتسامح ولم يكن أحد من البولنديين - خلا الذين تلقوا قسطا وافرا من التعليم - بقادر على الشعور بالتآخي مع اليهود الذين تفوقوا في مضمار التجارة والمهن، أما اليهود الفقراء الذين يحملون سمات العزلة (الجيتو) وبؤسها فكان التعاطف معهم أقل بكثير•

وقد تعجب المسيحيون و اليهود البولنديون للإهانة التي ألحقها نابليون بالنمسا و روسيا في معركة أوسترليتز Austerlitz وزاد عجبهم وإعجابهم بانتصاراته على البروسيين في ينا Jena وأورشتدت Auerstedt، والآن (6081) فإن (نابليون) متمركز في برلين يصدر الأوامر لنصف أوربا• لقد طارد نابليون مغتصبي بولندا، وكان في طريقه لمحاربة روسيا• فإذا لم يعلن في طريقه إلى روسيا أن بولندا دولة حرة فإنه على الأقل سيقيم عليها ملكا ويمنحها دستورا ويعدها بالحماية• والزعماء البولنديون إليه فردهم بأدب مؤكدا لهم أنه سياعدهم الآن بقدر طاقته، لكن تحرير بولندا متوقف على نتيجة مواجهة التالية مع الروس.

وحذر كاوشسكو Kosciusko أكثر الزعماء البولنديين تحفظا أهل بولندا من تعليق الآمال على نابليون. فهو - أي نابليون - لا يفكر إلا في نفسه، وهو يكره كل أمة عظيمة، وهو طاغية ولا هم له إلا إرضاء طموحه وعندما أرسل نابليون ليسأل كوزكيو سكو عن طلباته أجاب: حكومة كحكومة إنجلترا وإلغاء القنانة (عبودية الأرض)، وأن تحكم بولندا من داترج (دانتسج) إلى المجر، من ريجا Riga إلى أوديسا Odessa.

وفي هذه الأثناء نظم البولنديون جيشا صغيرا وطردوا البروس من وارسو (فرسافا)، وعندما دخل نابليون العاصمة في 19 ديسمبر 1806 استقبلة الجماهير بحفاوة بالغة وانضم الجنود البولنديون إلى جيشه راغبين في محاربة روسيا تحت قيادته، تماما كما كان فيلق بولندي يحارب باسمه (باسم نابليون) في إيطاليا. وربما كان نابليون يقدر جمال النسوة البولنديات وسحرهن أكثر من تقديره لعروض قادتهم• لقد وجدنا مدام فالفسكا Walewska التي وهبت نفسها له في البداية كنوع من التضحية أملاً في حثه على إنقاذ وطنها، وجدناها تحبه الآن بعمق وظلت معه خلال فصل الشتاء القارس الذي دمر - تقريبا - كل جيشه في إيلاو Elau، ثم عادت إلى وارسو (فرسافا)، بينما واصل هو طريقه ليهزم الروس في فريدلاند Friedland.

وفي معاهدة تيلسيت Tilsit (9 يوليو 1807) أجبر فريدريك وليم الثالث على التخلي عن مزاعمه في وسط بولندا (بولندا الوسطى) واعترفت المادة الرابعة من المعاهدة بدوقية وارسو الكبيرة (والجديدة) كدولة مستقلة يحكمها ملك سكسونيا. وفي 22 يوليو قدم نابليون للدوقية دستوراً مستقى من الدستور الفرنسي، والمساواة أمام القانون والتسامح الديني والتجنيد الإجباري، ورفع قيمة الضرائب وفرض رقابة على الصحف• ووضع الكنيسة الكاثوليكية تحت سلطة الدولة لكن كان يجب على الدولة أن تقبل بالعقيدة الكاثوليكية وتحميها. وأعطى الدستور لليهود الحقوق الكاملة لكنه اشترط توثيق الدولة لزواجهم وممتلكاتهم من الأراضي. وكان نابليون يتوقع حربا حتى الموت مع إسكندر Alexander فأوعز أن يحوي الدستور البولندي تأكيدا بدعم بولندا لفرنسا• وبالفعل فقد ظلت كل الطبقات تؤيد نابليون حتى عام 4181 أي عندما أصبح - أي نابليون - غير قادر على حمايتها• وظلت الفيالق البولندية في جيوشه تحارب معه بإخلاص حتى النفس الأخير• لقد راح كثيرون من البو لنديين يهتفون في أثناء غرقهم عند انهيار جسر فوق البيريزينا Berezina: عاش الإمبراطور، رغم أنه كان عائدا من روسيا بعد أن حاقت به أكبر نكبة عسكرية في التاريخ.

تقسيم بولندا

الجمهورية الثانية


الحرب العالمية الثانية

 
تحرير المساجين اليهود من قبل الجنود البولنديين في بداية انتفاضة وارسو
 
تدمير وارسو، يناير 1945


جمهورية بولندا الشعبية

 
خريطة تظهر الحدود والمناطق المختلفة لپولندا وألمانيا أثناء القرن العشرين، في “تناسخاتهم” الثلاث الرئيسية: پولندا المؤتمر التابعة للامبراطورية الروسية/الامبراطورية الألمانية، الجمهورية الپولندية الثانية-مدينة دانزيگ الحرة/ألمانيا ڤايمار، ألمانيا الغربية-ألمانيا الشرقية-برلين الغربية/جمهورية پولندا الشعبية وألمانيا/پولندا الحاليتان، بالرمادي الداكن
 
محل جزارة في بولندا في الثمانينات


الجمهورية الثانية

انظر أيضا

خرائط

وصلات خارجية

المصادر

ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.