الحملة المصرية على سوريا 1831

خرجت مصر من الحرب اليونانية دون ان تظفر بفتوحات جديدة، ففي حين ان الحرب الوهابية قد انتهت ببسط نفوذها في جزيرة الحرب، وضم اليها فتح السودان الشطر المكمل للدولة المصرية، فان الحرب اليونانية لم تكسبها فتحا جديدا، بل انتهت بجلاء الجيش المصري عن بلاد الموره وعودته الى مصر.

الحملة المصرية على بلاد الشام
States under Muhammad ali's rule.jpg
الأراضي التي سيطر عليها محمد علي باشا بعد معاهدة السلام التي وقعها ابنه مع السلطان محمود الثاني في 1833.
التاريخ1831–1833
الموقع
النتيجة

نصر مصري

التغيرات
الإقليمية
Egypt captures Syria from the Ottoman Empire
المتحاربون
Eyalet of Egypt  الدولة العثمانية
القادة والزعماء
Muhammad Ali
Ibrahim Pasha
Mahmud II
Reşid Mehmed Pasha
القوى
1832:
100,000
1832:
145,000

وقد أرادت تركيا ان تعوض محمد علي باشا بعض ما فقده في الحرب اليونانية، فاسندت اليه جزيرة كريت، لكن هذا العوض لم يكن ذا قيمة اذ لم يكن من السهل ان تحكم مصر تلك الجزيرة أو تبسط سيادتها عليها او تستفيد منها لنزوع اهلها الى العصيان ولانها كانت ارض فتن وثورات.

فلا غرو ان طمح محمد علي الى ضم سورية الى مصر، ولم يكتم نيته عن الحكومة التركية، فانه طلبها منها تعويضا عما تكبده الجيش المصري من الخسائر في حرب الموره، ولكن السلطان لم يجبه الى طلبه، فاعتزم ان يناله بحد السيف، وراى ضرورة ضم سورية الى مصر لانها كحاجز حصين بين الدولة المصرية والدولة العثمانية، وبها تتقي مصر شر تركيا اذا حدثتها نفسها بغزو مصر.[1]


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أسباب الحملة على سورية

ان حرب الشام يصح اعتبارها حربا دفاعية، وحربا هجومية. اما كونها حربا دفاعية فلان محمد علي يعلم انتركيا لا تفتأ تسعى لاسترداد مركزها في مصر ما وجدت سبيلا الى ذلك، وان السلطان محمود لم يكن خالص النية نحوه، بل كان ينظر بعين الحسد الى تقدم مصر وما كسبته من المكانة العالية، ولم ينس كذلك ان مصر امتنعت عن مساعدته في حربه مع الروسيا سنة 1828. فاضطغن السلطان على محمد علي باشا، واخذ يتربص به لينتقم منه وينتزع منه حكم مصر، ولم يكن يحول بينه وبين ذلك سوى ارتباط احوال الدولة العثمانية وضعفها، فاذا ما سنحت الفرصة فإنه لا يتردد في التخلص من خصمه، فطموح محمد علي الى فتح سورية كان الغرض منه ان يدافع عن مصر وعن مركزه فيها.

واذا تأملت ما كتبه الدكتور كلوت بك في هذا الصدد رايت انه يعبر عن وجهة نظر محمد علي في الحملة على سورية اذ يقول: "ان ضم سورية الى مصر كان ضروريا لصيانة ممتلكات الباشا، فمنذ تقرر في الاذهان ان انشاء دولة مستقلة على ضفاف النيل يفيد المدينة فائدة عامة وجب الاعتراف بانه لا يمكن ادراك هذه الغاية الا بضم سورية الى مصر، وقد رأينا فعلا أن موقع البلاد الحربي لا يجعلها في مأمن من الغزوات الخارجية خصوصا عن طريق برزخ السويس، فاذا استثنينا غزوة الفاطميين المغاربة وغزوة الفرنسيين بقيادة بونابرت نجد ان سائر الغزوات جاءت عن طريق سورية كغزوة الفرس، في عهد قمبيز وغزوة الاسكندر والفتح الاسلامي وغزوتي الايوبيين والاتراك، وعلى ذلك لا يمكن الاطمئنان الى بقاء مصر مستقلة الا باعطائها الحدود السورية لان حدودها ليست في السويس بل في طوروس".

فالحرب السورية من هذه الوجهة كانت اذن حربا دفاعية.

لكنها كانت ايضا حربا هجومية وكان الغرض منها التوسع في الفتح والسلطان، فان محمد علي كان يطمح الى ضم سورية منذ سنة 1810، وكان يامل في ان يصل الى حكمها بموافقة السلطان، كتب المسيو دروفتي قنصل فرنسا في مصر، وكان من اكبر اعوان محمد علي، رسالة الى حكومته سنة 1811 يقول فيها: "ان محمد علي يطمع في ولاية سورية، وقد قال لي يوما انه لا يستبعد ان ينالها مقابل مبلغ من المال سبعة او ثمانية ملايين قرش يدفعها لخزانة السلطان، وقد اخذت فكرة الاستقلال تزداد رسوخا عنده منذ استظهاره على اعدائه وقمعه فتنة الجند وتخلصه من الارتباكات المالية".

وقد اشار المسيو دروفني في رسالة أخرى لحكومته الى معدات الحملة الفرنسية على الوهابيين فاظهر الشك فيما اضمر محمد عليها منها، وهل يقصد بها الحجاز أم سورية، قال في هذا الصدد:

"ان جميع الاستعدادات التي يعدها الباشا تدل على ان الحملة تخترق الصحراء وتصل منها الى سورية، ولا تزال غايتها الحقيقية سرا مكتوما في ضميره، وخطته في هذا الصدد لم تتغير " وهي التأني ثم التصرف مع الاحوال بحسبها".

وقد طلب فعلا من السلطان خلال الحرب الوهابية ان يعهد اليه بولاية الشام وكانت حجته في ذلك انه في حاجة الى مدد منها لمعاونته على قتال الوهابيين.

ففكرة ضم سوريه الى مصر كانت اذن تختلج في نفس محمد علي باشا منذ سنة 1810، ولقد صرفه عنها انهماكه في الحرب الوهابية، ثم فتح السودان، ثم الحرب اليونانية، فلما انتهى من هذه الاخيرة اخذ يفكر في انفاذ فكرته القديمة.

ومن الراجح الذي تؤيده الحوادث ان مشروع محمد علي كان يتناول انشاء دولة عربية مستقلة في مصر تضم اليها البلاد العربية في أفريقية وآسيا، ففي أفريقية قد استقل بمصر وفتح السودان، وفي آسيا قد فتح معظم جزيرة العرب وبسط عليها نفوذ الحكومة المصرية، وبطموحه الى سورية اراد ان يؤسس الدولة المصرية الكبيرة.

ويؤيد هذه الفكرة رجحانا بعض تصريحات فاه بها ابراهيم باشا خلال الحرب السورية، فقد ذكر المسيو كادلفين وبارو في كتابهما انه بينما كان الحصار مضروبا على عكا سئل ابراهيم باشا الى اي مدى تصل فتوحاته اذا تم له الاستيلاء على عكا فقال ما معناه الى مدى ما يتكلم الناس واتفاهم واياهم باللسان العربي، وقد قابلهالبارون ليو الكونت بالقرب من طرطوس بالاناضول سنة 1823 بعد عودته من كوتاهيه، وكان له معه حديث طويل، فذكر عنه "ان ابراهيم باشا يجاهر علنا بانه ينوي احياء القومية العربية، واعطاء العرب حقوقهم، واسناد المناصب اليهم سواء افي الادارة ام في الجيش، وان يجعل منهم شعبا مستقلا ويشركهم في ادارة الشئون المالية، ويعودهم سلطة الحكم كما يحتملون تكاليفه، وتتجلى فكرته هذه في منشوراته ومخاطباته لجنوده في الحرب الاخيرة بسوريةه، فانه لا يفتأ يذكرهم بمفاخر الامة العربية ومجدها التالد، ويتصل بهذا المعنى مجاهرته بان كل البلدان العربية يجب ان تنضم تحت لواء أبيه، وقد قال لي أن اياه يحكم مصر والسودان وسورية، ومن الواجب ان يضم العراق الى حكمه، وان جزيرة العرب تابعة لابيه الذي يعمل الان على اتمام فتحها، وهو في صلاته مع اهل البلاد يستخدم اللغة العربية، ويعد نفسه عربيا، ولذلك لا ينفك يطعن في الاتراك، وقد لاحظ عليه ذلك احد جنوده وخاطبه بتلك الحرية التي كان يشجع رجاله عليها وساله كيف يطعن في الاتراك وهو منهم، فأجابه ابراهيم باشا على الفور: "أنا لست تركيا، فاني جئت مصر صبيا، ومنذ ذلك الحين قد مصرتني شمسها وغيرت من دمي وجعلته دما عربيا".

فهذه البينات تلد على ما اتجه اليه فكر ابراهيم باشا من تأسيس دولة عربية مصرية تجمع شمل الناطقين بالضاد وتحي عهد الفاطميين والايوبيين والسلاطين البحرية والبرجية حين كانت مصر تضم الى رقعتها سوريه وجزيرة العرب.

وكان لمحمد علي في فتح سورية اغراض اقتصادية، فانه أراد استغلال مواردها من الخشب والفام والنحاس، تلك الموارد التي كانت مصر مفتقرة اليها، فهي في حاجة الى الاخشاب للوقود ولبناء السفن الحربية والتجارية، والى الفحم والنحاس والحديد لترقية صنائعها وخاصة بد أن أنشأ محمد علي المصانع "الفابريقات" التي تحتاج ادارتها الى الفحم والحديد والنحاس.

وكذلك كان يرمي اذا بسط نفوذ مصر في سورية ان يجند من سكانها في الجيش المصري فيزداد الجيش عددا وقوة.

تلك هي الاسباب الحقيقية التي نزعت بمحمد علي باشا ان يطمح الى فتح سورية. وقد كانت الظروف في سنة 1831 ملائمة لانفاذ مشروعه، فان تركيا قد خرجت من الحرب اليونانية، ثم من الحرب الروسية سنة 1829، مضعضة منهوكة القوى، وزاد في ضعفها كثرة الفتن والاضطرابات الداخلية فيها، وقد ألغى السلطان محمود سنة 1826 فرقة الانكشارية التي كانت قوام الجيش العثمانين وذلك لما كانت عليه من الفوضى، وابادهم ، ولكنه لم يجد متسعا من الوقت بدلا منهم جيشا جديدا نظاميا، بل كانت القلاقل والاضطرابات تحول دون انفاذ عزمه، في حين ان محمد علي كان على تمام الاهبة للدخول في حومة الوعي، معتمدا على الجيش النظامي الذي قضى سنوات عدة في انشائه وتدربيه، وعلى الاسطول الذي أنشأه في ترسانة الاسكندرية، ولم يكن السوريون متعلقين بالحكم العثماني لكثرة ما عانوا من مساوئه ومظالمه، فلم يكن متوقعا ان يلقى الجيش المصري في زحفه على سورية مقاومة من الاهالي، وخاصة لان محمد علي باشا قد اجتذب اليه الامير بشير الشهابي كبير أمراء لبنان منذ سنة 1822 وتوثقت بينهما العلاقات من ذلك الحين، اذ كانت الحكومة العثمانية قد عزلته من امارة الجبل، فلجأ إلى محمد علي في مصر فتشفع له لدى الدولة فأصدرت عفوها عنه وحفظ له هذا الجميل، فكان له عضدا كبيرا في الحملة السورية، واستمال ايضا الشيخ حسين عبد الهادي من زعماء نابلس ومصطفى أغا بربر الذي عينه ابراهيم باشا اثناء الفتح متسلما لطرابلس، فكان الثلاثة من اعوانه في الفتح.

فمحمد علي لم يكن يخشى مقاومة من جانب الاهالي، اما الجيش العثماني فكان يأمل ان يظهر علىه لتفوق الجيش المصري عليه بحسن النظام والتدريب وفكاية القيادة.


الأسباب المباشرة للحملة

تلك هي البواعث الحقيقية للحملة السورية، والان فلنعقب عليها بالاسباب المباشرة التي تذرع بها محمد علي باشا للزحف على الشام.

وبيان ذلك ان كثيرا من الفلاحين المصريين قد فدحتهم اعباء السخرة والضرائب التي فرضها محمد علي باشا، فهاجروا جماعات الى الاقطار السورية المتاخمة لمصر فرارا من هذه المكاره، وتخلصا من الخدمة العسكرية، وفد طم سيل المهاجرين حتى بلغ عددهم ستة آلاف من الفلاحين، وخشى محمد علي من عواقب هذه الهجرة وما تفضي اليه من المضار الاقتصادية، فطلب من عبد الله باشا والي صيدا، ان يرجع المهاجرين المصريين الى بلادهم، فرفض عبد الله باشا طلبه محتجا بان المصريين من الرعايا العثمانيين ولهم الحق ان يقيموا أنى شاءوا، فغضب محمد علي من هذا الجواب، وكتب اليه يتوعده وينبئه انه قادم ليعيدهم جميعا يزيدون واحدا، وهو عبد الله باشا ذاته.

وكان عبد الله باشا مما جعل لمحمد علي باشا مندوحة في تجريد الحملة عليه، فلم يكن في الظاهر محاربا لتركيا ولا مجاهرا بعصيانها. وما فتئ خلال الدور الاول من الحملة يتظاهر باخلاصه ويزعم انه انما يحارب حاكما شبه مستقل خارجا على الدولة، ومما يجدر ذكره ان محمد علي باشا كانت له يد سابقة على عبد الله باشا هذا، فقد عزلته الحكومة التركية من ولاية صيدا سنة 1822، فتشفع له محمد علي فعفت عنه وابقته في ولايته، ولكن عبد الله باشا لم يحفظ هذه اليد لمحمد علي اذ كان من الباشوات الكثيري المطامع، فقد استأثر بالسلطة في ولاية صيدا وطمع كذلك في ضم ولاية الشام اليه وكان يخشى على سلطته من امتداد نفوذ محمد علي، فلم يراع جانبه ولم يكترث لغضبه، وكان فضلا عن ايوائه المهاجرين المصريين يساعد قوافل التجارية على تهريب المتاجر من الجمارك المصرية وتفيوتها من طريق صحراء سوريا فأضر ذلك بالخزانة المصرية.

فلما امتنع عن ارجاء المهاجرين المصريين صمم محمد علي ان ينفذ الحملة على سورية.

تأليف الحملة

كانت الحملة المصرية على سورية مؤلفة في بداءتها من 6 آلايات من المشاة وأربعة من الفرسان، وعدتهم 30000 مقاتل بقيادة ابراهيم باشا، مجهزين باربعين مدفعا من مدافع الميدان وعدة من مدافع الحصار، وما يكفيهم من الذخائر والمؤن، واحتشد جنود الحملة، فريق في ضواحي القاهرة بالخانكة وفريق في الاسكندرية.

"اشتركت العمارة المصرية في الحملة، فنقلت جزءا من الجيش بطريق البحر، وحملت المدافع الضخمة والذخيرة والمؤن، وخاضت في بعض المواطن غمار القتال، وكانت مؤلفة من 16 سفينة حربية و17 سفينة نقل معقودا لواؤها للاميرال عثمان نور الدين بك (باشا) وهو من خريجي البعثات المصرية التي ارسلها محمد علي الى فرنسا ونبغ في الفنون الحربية والبحرية وكان ناظرا للمدرسة الحربية التي انشأها ثم جعله محمد علي أميرالا للأسطول المصري لما عهده فيه من الكفاية والاخلاص، وسنعود الى الكلام عنه.

تمت معدات الحملة في اوائل سنة 1831، وكان موعد زحفها في صيف تلك السنة، ولكن وقوع وباء الكوليرا في مصر وقتئذ اخر زحف الحملة، فقد فتك بالاهالي فتكا ذريعا، ودام فتكه اربعة وثلاثين يوما، وما به نحو 150 ألف نسمة، واستطار في الجيش، فاودى بحياة خمسة آلاف من الجنود، فتوقفت الحملة عن السير حتى تكافح الحكومة هذا الوباء.

سير الحملة

ولما جاء شهر اكتوبر سنة 1831 اصدر محمد علي اوامره بتحرك الحملة، وكان خط سيرها ان يسير معظم الجيش برا عن طريق العريش الى حدود سورية، وان تقل العمارة ابراهيم باشا القائد العام واركان حربه وجزءا من الجيش والمدافع الضخمة والذخيرة والمؤونة من الاسكندرية الى يافا.

ففي اليوم التاسع والعشرين من شهر أكتوبر سنة 1831 بدأ الجيش البري يتحرك من معسكر الخانكة بقيادة ابراهيم باشا يكن قاصدا الحدود السورية مارا ببلبيس، فالقرين، فالصالحية، فقطية، فبئر العبد، فمسعودية، فالعريش حيث استراح بها يوما، ثم دخل التخوم السورية فاحتل خان يونس.

احتلال غزة ويافا وحيفا

واحتل غزة بعد ان فرت منها الجنود العثمانية، ثم زحف على يافا فاخلتها الحامية التركية واحتلها الجيش المصري، وفي غضون ذلك اقلعت العمارة المصرية من الاسكندرية تحمل باقي الجيش وتقل القائد العام ابراهيم باشا يصحبه اركان حربه ومنهم الكولونيل سيف (سليمان باشا الفرنساوي وكان لم يزل بك) وعباس حلمي باشا.

وصلت العمارة الى يافا ثم الى حيفا حيث القت مراسيها وانزلت بها الذخائر والمدافع، والتقت القوات التي جاءت برا بالقوات الآتية بحرا، واتخذ ابراهيم باشا (حيفا) قاعدة للحركات العسكرية وجمع فيها الذخائر والمؤونة وشرع في مهاجمة عكا.

حصار عكا

(نوفمبر سنة 1831)

كانت عكا على جانب عظيم من المنعة، ولا غرو فهي التي اعجزت نابليون منذ نيف وثلاثين سنة عن فتحها، وقد زاد احمد باشا الجزار في استحكاماتها القديمة بعد انسحاب الفرنسيين من سورية فصارت امنع مما كانت، فكان عبد الله باشا مطمئنا الى امتناعه بها، واثقا من عجز الجيش المصري عن اقتحامها، وكانت حامية المدينة مؤلفة من ثلاثة آلاف مقاتل، فاعتزم ان يدافع عناه دفاع المستميت.

زحف الجيش المصري على عكا وضرب عليها الحصار منذ يوم 26 نوفمبر واشتركت العمارة المصرية في حصارها من البحر، فكان الحصار مضروبا عليها برا وبحرا، واطلقت مدافع البر والبحر قنابلها على اسوار عكا وحصونها، ولكن الحصون جاوبتها بنار حامية واحدثت اضرارا ببعض السفن المصرية مما اضطرها الى الرجوع للاسكندرية لاصلاح ما اصابها من العطب، فاستعصت عكا على الجيش المصري، وانقضت ثلاثة أشهر دون أن ينال منها منالا، واخذ ابراهيم باشا في خلال هذه المدة يحتل المواقع الهمة في ولاية صيدا وما حولها، فاحتلت فرقة من الجنود المصرية بقيادة حسن بك المانسترلي وصور وصيدا وبيروت وطرابلس واحتلت كتيبة اخرى مدينة القدس وكان الجيش كلما نزل ببلدة سلمت له بدون قتال.

موقف تركيا

اضطربت تركيا امام زحف الجيش المصري، وبادرت في بادئ الامر الى ارسال مندوب عنها الى محمد علي باشا يطلب اليه الكف عن القتال، وكان الباشا يعلم بارتباك احوال تركيا وعجزها عن حشد جيش يصد زحف الحملة المصرية، فاخذ يماطل في الجواب، وتظاهر بالاخلاص للدولة العثمانية، وفي الوقت نفسه ارسل الى ابراهيم باشا يأمره بمواصلة الحرب بالاخلاص للدولة العثمانية، وفي الوقت نفسه ارسل الى ابراهيم باشا يامره بمواصلة الحرب وتشديد الحصار على عكا حتى يفتحها قبل ان يصل الجيش التركي لنجدتها اذا فكرت تركيا في امدادها.

وقد حشد الباب العالي نحو عشرين الف مقاتل تحت قيادة عثمان باشا اللبيب والي طرابلس وعهد اليه رفع الحصار.

فزحف الجيش العثماني يرمي اليها، وضم اليه كل من لقبهم في طريقه من جموع الاكراد والعرب.

علم ابراهيم باشا بتحرك هذا الجيش، فعقد مجلسا حربيا من نخبة ضباطه واركان حربه يتدبر في الامر، فاستقر رايه على ان يترك حول عكا القوة الكافية لمتابعة الحصار، وان يتحرك بالجزء الآخر من جيشه ليصادم الجيش التركي في الطريق، ويتغلب عليه قبل أن يصل الي عكا.

تقدم عثمان باشا يقود بضعة آلاف من جنوده وانتهز فرصة اشتغال ابراهيم باشا في حصار عكا فهاجم طرابلس التي كانت تحتلها حامية مصرية فدخل المدينة، ولكن جنود الحامية ردوا المهاجمين على اعقابهم، على أن مركزهم لم يلبث ان تحرك بازدياد قوات الاعداء وصارت طرابلس مهددة بسقوطها في يد الترك، فبادر ابراهيم باشا الى نجدتها وسار اليها بطريق الساحل فلما اقترب منها ارتد عنا عثمان باشا.

انتصار المصريين في الزراعة

(14 أبريل سنة 1832)

تعقب ابراهيم باشا الترك الى حمص، ثم رأى ان يرجع الى بعلبك ليمتار منها بالذخيرة الكافية قبل ان يمضي في مطاردة الجيش العثماني، فوصل الى سهل الزرعة.

وقد توهم عثمان باشا ان هذا التراجع علامة الضعف، فتقدم لمهاجمة الجيش المصري، فالتقى به في سهل الزرعة، ومع ان الجيش العثماني كان اكبر عددا الا انه دون الجيش المصري في النظام وكفاية القيادة.

كان جيش عثمان باشا مؤلفا من فرسان العرب والاكراد، فهجموا على الجيش المصري واحاطوا به من كل جانب، وخيل لهم انه اصبح في قبضة يدهم، لكن ابراهيم باشا بمعاونة سليمان بك (باشا) الفرنساوي رتب الجنود المصرية على هيئة صفوف منتظمة متراصة ووضع وراءها المدافع حتى لا يراها المهاجمون، فانخدع القائد التركي بهذه الحيلة وهجم بكل قواته على الصفوف المصرية، فلبثت هذه ساكنة حتى اذا صار الاعداء على مسافة قريبة ارتد المصريون وراء المدافع وانفجرت هذه بقنابلها فحصدت المهاجمين مشاة وركبانا، فوقعت بهم الخسارئ الفادحة واختل نظامهم وتفرق جمعهم ونكصوا الى الوراء فسار المصريون في اعقابهم حتى دفعوا بهم الى نهر العاصي حيث غرق الكثير منهم، وانتهت المعركة بهزيمة الجيش التركي وارتد عثمان باشا وجنوده الى مدينة حماة ومكث بها كي يتلقى المدد ، أما ابراهيم باشا فقد عاد بعد واقعة الزراعة الى بعلبك يتأهب لاستئناف الزحف.


{{{خريطة ص228}}}

وفي خلال ذلك اعتنم عبد الله باشا فرصة نقص القوات المحاصرة لعكا اذ هبطت الى عشرة آلاف فخرج من معاقلة، وهاجمهم وظهر عليهم، واستولى على الكثير من مدافعهم على ان ابراهيم باشا لم يعبأ بهذا النصر الذي ناله عبد الله باشا لوثوقه ان النصر الحاسم هو فوزه على جيش عثمان باشا.

فتح عكا

(27 مايو سنة 1832)

ومكث ابراهيم باشا في بعلبك يرقب حركات الجيش العثماني مخافة ان يعاود كرة الهجوم، لكنه ما لبث ان علم ان عثمان باشا انفذ يطلب المدد من الاستانة، وهذا دليل على ضعف مركزه، ولما كان المدد لا يمكن ان يصل الا بعد شهرين اذا اعجله الباب العالي، فقد اطمأن ابراهيم باشا من هذه الناحية، وعاد الى عكا وشدد الحصار عليها من البر والبحر، وساعده في ذلك العرب والدروز والموارنة الذين أتوه طائعين.

حمل ابراهيم باشا على المدينة واخذ يرمي سورها بالمدافع القوية، وما زال الضرب مستمرا حتى تصدع السور وفتحت فيه ثغرتان كبيرتان واخرى صغيرة، وعندئذ صمم ابراهيم باشا على مهاجمة المدينة بجيشه وحدد للهجوم يوم 27 مايو سنة 1832.

ففي صباح ذلك اليوم حملت الجنود المصرية على الثغرات الثلاثة، فاستولوا على اثنتين منها، وتردد الجنود الذين قصدوا الاستيلاء على الثغرة الثالثة ولقوا مقاومة شديدة، فارتدوا الى الوراء، فلما ابصر ابراهيم باشا ارتدادهم بادر الى نجدتهم بجزء من الاحتياطي وتقدم هو الجنود شاهرا سيفه، فدبت الحمية في نفوسهم وعادوا الى الثغرة فاقتحموها، ودار قتال استمر حتى المساء، ودافعت الحامية دفاعا مجيدا، وابدى الفريقان شجاعة كبيرة الى ان عظمت خسارئ الحامية، وكلت عن مواصلة الحرب، فطلب عبد الله باشا التسليم وسلم المدينة في مساء ذلك اليوم.

وبذلك انتهى حصار عكا بتسليمها للجيش المصري بعد ان استمر ستة أشهر، وقد وقعت بالفريقين خسائر فادحة، فبلغت خسائر الجيش المصري اربعة آلاف وخمسمائة قتيل، وخسرت الحامية 140 قتيل، وهي خسارة تدل على شدة ما احتمله الفريقان، فلا غرو ان كان لفتح عكا دوي عظيم تجاوب في الخافقين، فان عكا هي التي امتنعت على نابليون منذ نيف وثلاثين سنة وعجز عن فتحها وارتد عنها خائبا، فانتصار ابراهيم باشا في فتحها هو صفحة مجد وفخار للجيش المصري.

ومن الواجب تقديرا للحقيقة ان ننوه بان العقابت التي اعترضت نابليون في حصار عكا كانت اشد وابلغ مما اعترض الجيش المصري، فان نابليون حاصر عكا من البر، وكان الاسطول الانجليزي يدافع عنها من البحر ويمنع مواصلات الجيش الفرنسي من هذه الناحية، ولم يجد نابليون امامه سوى طريق الصحراء الشاق، فانقطع عنه المدد، بينما كان الجزار يتلقى المدد والمؤونة والذخيرة بحرا، أما الجيش المصري فقد عاودته العمارة المصرية من البحر، فكانت المدينة في حصار محكم برا وبحرا، ففضلا ان ان ابراهيم باشا كان على اتصال مستمر بثغور مصر وساحلها بواسطة العمارة المصرية، واستطاع ان يتابع الحصار ستة أشهر كاملة، فابراهيم باشا كان من هذه الوجهة اكثر توفيقا من نابليون، على أنه لا يغرب عن البال ان ما ابداه الجنود المصريون، من الجلد والصبر على مكاره القتال، وما امتازت به قيادتهم من الدربة والكفاية، كل ذلك كان له الفضل الاكبر في ذلك الفتح المبين.

وقد كان لسقوط عكا تاثير ابتهاج عظيم في مصر فاقيمت الزينات في القاهرة ثلاثة أيام متواليات.

اما عبد الله باشا والي عكا بعد ان سلم نفسه تلقاه ابراهيم باشا بالحفاوة والاجلال، وارسله الى الاسكنردية حيث احسن محمد علي مثواه واسكنه في قصر خصص له ، وحقه بالرعاية والاكرام.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فتح دمشق

(16 يونيه سنة 1832)

اعتزم ابراهيم باشا بعد ان اراح جنوده ورتب شئونه في عكا ان يمضي شمالا قاصدا فتح دمشق، فغادر عكا في يوم 9 يونيه سنة 1832 في جيش مؤلف من 18000 من المقاتلة، منهم 9000 من الجنود النظامية و9000 من العربان المصريين والبدو السوريين والدروز، فلما اقترب من دمشق وقعت مصادمة خارج المدينة بين الجيش المصري والجيش العثماني انهزم فيها الترك وفر والي الشام بجنوده.

ولم يكن الاهالي متعزمين مقاومة الجيش المصري لان مساوئ الحكام الاتراك جعلتهم لا يميليون الى المقاومة بل كانوا اقرب الى الرغبة في تغيير حكامهم.

فخرج وفد من اعيان المدينة وقابلوا ابراهيم باشا وقدموا طاعتهم، فدخل المدينة يوم 16 يونيه ونصب الجيش خيامه خارج المدينة، واحترم الجنود المصريون املاك الاهالي واموالهم، فكان سلوكهم مدعاة للاعجاب مما حبب الحكم المصري الى نفوس السوريين وخاصة حينما قابلوا هذا المسلك بما اعتاده الجيش العثماني من أنواع الاعتداء المكرة.

وأقام ابراهيم باشا في دمشق ثمانية عشر يوما، وحضر صلاة الجمعة في الجامعة الأموي، ورتب الادارة فيها على نظام جديد فعين احمد بك اليوسف احد أعيانها متسلما عليها، وانشأ ديوانا مؤلفا من عشرين من اعيان المدينة سماه ديوان المشورة يختص بنظر دعاوى الرعية والحكومة.

واقعة حمص

(8 يوليه سنة 1832)

جزع الباب العالي لسقوط عكا في يد الجيش المصري، وكان يظن انها ترده خائبا كما ردت نابليون من قبل، فلما واجهته الحقائق خشى على مركزه ان يتزعزع امام انتصارات المصريين، وكان قد اعلن عصيان محمد علي اثناء حصار عكا وحشد جيشا مؤلفا من ستين ألف جندي لقتاله، واعد أسطولا من خمس وعشرين سفينة للاقلاع من الدردنيل ومحاربة الاسطول المصري.

وعهد بقيادة جيش البر الى السر عسكر حسين باشا قاهر الإنكشارية ومنحه لقب سردار أكرم، وكان من أكفأ قواد تركيا، ووهب له ولاية مصر وكريت اذا هو قهر الجيش المصري، فلو كتب له الفوز لوقعت مصر في وهدة الفوضى التي كانت تتردى فيها في عصر الولاة الأتراك، ولقضي على الاستقلال المصري في مهده، ولكن بطولة الجيش المصري حالت دون وقوع الكارثة ومنعت عودة مصر الى فوضى الحكم التركي.

تقدم جيش حسين باشا ببطء، فلم يصل الى مضايق جبال طوروس الا في أوائل شهر يوليه سنة 1832، ولم يشأ قائده ان يتقدم بمجموع جيشه لملاقاة الجيش المصري، بل ظل على مقربة من أنطاية وأنفذ محمد باشا والي حلب وتحت امرته مقدمة الجيش وامره بالتحصن في حمص.


كان هذا التدبير خطأ حربيا كبيرا، لان انفصال المقدمة عن باقي قوات الجيش وتورطها في مقاتلة الجيش المصري يعرضها للهلاك المحتوم، فلما علم ابراهيم باشا بهذا الخطأ عزم على مواجهة مقدمة الجيش التركي وسحقها. ثم مهاجمة باقي الجيش بعد ذلك، فتقدم من دمشق زاحفا على حمص، واستعدى من بعلبك وطرابلس بقية جنده الذين كانوا بقيادة عباس حلمي باشا وحسن بك المانسترلي فصارت قوة الجيش عندما بلغ حمص نحو ثلاثين الف مقاتل، وصار أمام عسكر محمد باشا والي حلب، وهناك وقعت الواقعة المشهورة بمعركة حمص (8 يوليه 1832).

تقع مدينة حمص على الشاطئ الأيمن من نهر العاصي، وموقعها غاية في الأهمية، لأنها ملتقى عدة طرق، فهي على طريق بعلبك ودمشق جنوبا، وطريق أنطاكية وحلب شمالا.

وقد عسكر محمد باشا قائد الجيش التركي بجنوده على نهر العاصي، جنوبي حمص وتحت اسوارها، ورتب جيشه على صفوف ثلاثة، فوقف المشاة في الصف الاول، تمتد مسيرتهم على مقربة من ضيعة متهدمة على مسافة نصف فرسخ، والصف الثاني من خلفهم، ويتالف من ألايين من المشاة، وعن يمينهم وشمالهم ألايان من الفرسان، ويليهم الصف الثالث، ومعظمه من الجنود غير النظامية (الباشبوزق)، وتحمي المدفعية جناحه الأيمن، أما الصف الأول والثاني فلم يكن يسندهما سوى عدد ضئيل من المدافع، وهذا من سوء التدبير.

أما الجيش المصري فقد رابط في مواجهة الجيش التركي على ثلاثة صفوف، فوقف في الصف الاول فريق من المشاة يبلغ عددهم ثلاثة ألايات، وعن يمينهم وشمالهم ألايان من الفرسان، وفي الصف الثاني وقف جنود الحرس والمشاة، يشد أزرهم من الجانبين ألايان آخران من الفرسان ورابط الاحتياطي من الفرسان والمشاة في الصف الثالث.

ونصب ابراهيم باشا مدافعه على ترتيب بديع، فجعل امام الصف الاول ثلاث بطاريات ، واحدة في القلب، وأخرى في اليمين، والثالث على اليسار، ووضع بين الصف الثاني والصف الثالث ثلاث بطاريات أخرىآ، وفيها المدافع الثقيلة، وبينها وبين الاحتياطي مهمات الجيش وامتعته، وعلى جانبي الصف الثالث فرسان البدو من العرب الهنادي وغيرهم.

يدل هذا الترتيب وحده على دقة في التدبير وكفاية في القيادة، ولو تأملت في خريطة الواقعة (ص 233) لتبينت بداءة ذي بدء مبلغ الفرق بين قيادة الجيش المصري وقيادة الجيش التركي.

ولقد كان ابراهيم باشا اسرع من خصمه الى رسم خطط القتال، فبينما كان محمد باشا قائد الجيش العثماني مترددا في اي طريق يأخذه ، استقر رأي ابراهيم باشا بعد ان استشار خاصة اركان حربه على ان يكون البادئ بالهجوم.

فأمر كتائب الفرسان التي ترابط على ميمنة الصفوف الثلاثة بالزحف شرقا لتقوم بحركة التفاف حول ميسرة الترك، وتولى بنفسه قيادة هذه الحركة، لان على نجاحها يدور مصير المعركة.

فتحرك الفرسان وفقا لهذه الخطة، واجتازوا الضيعة المتهدمة المتقدم ذكرها بنحو ألفين الى ثلاثة الاف خطوة، وتقدموا لمهاجمة فرسان الترك من الجنود غير النظاميين الذين كانوا على مقربة من الضيعة، وكان الهجوم شديدا محكم الوضع، فتراجع الترك امام قوة الهجمة وشدة الضرب، وتفقروا بددا، واحتل المصريون الارض الواقعة بين الضيعة وحدائق حمص، ثم تقدم الفرسان الترك النظاميون الذين كانوا يرابطون في مسيرة الصف الثالث لصد هجمة المصريين، فامد ابراهيم باشا فرسانه بقوة من جنود الحرس والمشاة والمدافع، فأطلق المصريون مدافعهم وبنادقهم على فرسان الترك فاوقعوا بهم وفرقوا جمعهم، وتراجع هؤلاء الى حدائق حمص، وهجم مشاة المصريون من القلب هجمة صادقة فتقلقل الترك عن مراكزهم وتقهقروا الى الوراء وبذلك انهزم الجناح الايسر من الجيش التركي باكمله وتخلى عن مواقعه.

وقامت ميسرة الجيش المصري بحركة بديعة، ذلك ان فرقة منها زحفت غربا واجتازت الفتاة التي تتفرع عن نهر العاصي، تتبعها المدافع، واحتلت شاطئ القناة الايسر، وبذلك سدت الطريق امام ميمنة الترك، وصار من المتعذر عليهم ان يهموا بالهجوم من هذه الناحية.

تحرك مركز الجيش التركي امام هجمات المصريين، وزاد مركزه حرجا ان المدافع المصرية كانت تطلق قنابلها بمهارة واحكام، فتصيب الهدف وتحصد صفوف الترك حصد النبات، في حين ان المدافع التركية كانت منصوبة على غير هدى، وفي مواضع لا تصيب منها الهدف، فضلا عن قلة الخبرة والدرية في رماتها، وقد بقى الكثير منها منصوبا في مؤخرة الصف الثالث فلم يعمل عملا في صد هجمات المصريين.

ولما رأى محمد باشا قائد الجيش التركي حرج مركزه أمر صفوفه بالهجوم، ولكن المشاة المصريين من جنود الصف الاول قابلوهم برصاص بنادقهم ففتكت بهم النيران فتكا ذريعا، وارتدوا على اعقابهم، فوقع الذعر في صفوف الترك وولوا الادبار مدحورين.

ولقد كان مظنونا ان يعود الترك للقتال بعد ان يلموا شملهم، اذ كانت قلعة حمص تحمي ظهورهم، ومرت لحظة توقع المصريون ان يعاود الترك الكرة ويستأنفوا القتال، وزاد هذا الظن رجحانا ان مدافع القلعة كانت تطلق قنابلها، ولكن هذا الظن ما لبث ان تبدد، ولم يقوا الترك بل لم يفكروا في معاودة القتال، وتقدم ابراهيم باشا بجيشه الظافر، فاحتل المواقع التي كان الترك يرابطون بها، وصف جيشه على شكل مربع، ووضع المدافع على زواياه الاربع، فازداد مركزه قوة ومنعة، فتابع الترك تقهقرهم منهزمين، وبذلك انتهت واقعة حمص بانتصار الجيش المصري بعد ان دام القتال نحو اربع ساعات، اذ بدأت وقت العصر وانتهت عندما ارخى الليل سدوله، وبادر ابراهيم باشا فارسل الى ابيه ينبئه بهذا النصر المبين.

بلغت خسائر الجيش العثماني في واقعة حمص 2000 من القتلى و2500 من الاسرى، واستولى الجيش المصري على عشرين من مدافعه وعلى ذخائره وامتعته، واما خسائر المصريين فلم تزد عن 102 من القتلى و162 من الجرحى، ودخل المصريون في اليوم التالي مدينة حمص.

وتعد هذه الواقعة من اهم المعارك التي خاضها الجيش المصري، فقد كانت اول معركة كبيرة اقتتل فيها الجيشان المصري والتركي وجها لوجه،، وكلاهما يتبع بقدر استطاعته النظام الحربي الحديث، وكانت قوات الجيشين متعادلة، فكلاهما مؤلف من نحو ثلاثين ألف مقالت، ولكن الجيش المصري امتاز ببراعة القيادة وحسن النظام وبسالة جنوده والتفوق في المران العسكري ، فلا غرو أن كسب المعركة.

وكان لترتيب الخطط الحربية فضل كبير في انتصاره، وهنا تبدو كفاية ابراهيم باشا في القيادة ومهارته في الفنون الحربية.

وقد دلت معركة حمص على تفوق الجيش المصري على الجيش التركي في ميادين القتال، فكان لهذه الدلالة تأثير كبير في الاذهان، لان احدا لم يكن يتصور ان جيش السلطان ينهزم امام الجيش المصري الذي كان معدودا الى ذلك الحين جزءا من الجيش الشاهاني، وتلك اول مرة ظهر فيها الجيش المصري على الجيش التركي في معركة كبيرة، فمحت هذه المعركة ذكرى هزيمة الجيش المصري في معركة الريدانية امام جيوش السلطان سليم في بدء الفتح العثماني لمصر، اي منذ نيف وثلاثة قرون، وغسلت الذلة التي لحقتها في تلك الهزيمة، واذا كانت معركة الريدانية قد قضت على استقلال مصر وجعلتها ولاية تركية فلا ريب ان معركة حمص والوقائع التي تلتها ارجعت لمصر استقلالها وقضت على الحكم العثماني فيها، فلم تقم له بعد ذلك قائمة.


{{{خريطة}}} ص 235

موقع الجيش المصري

1و2و3 الصف الاول من المشاة مؤلفا من الألاي الثاني عشر (نمرة 1) والآلاي الثالث عشر (نمرة 2)، والألاي الثامن عشر (نمرة 3). 4و5و6 الصف الثاني من المشاة مؤلفا من الاي الحرس (نمرة 4)، والألاي الخامس من المشاة (نمرة 5) والالاي الحادي عشر (نمرة 6). 7و8 الصف الثالث (الاحتياطي) مؤلفا من الالاي الثامن من المشاة. 9 الاي من الفرسان عن يمين الصف الاول. 10 الاي من الفرسان عن يمين الصف الثاني. 11 الاي من الفرسان عن يسار الصف الاول. 12 ألاي من الفرسان عن يسار الصف الثاني. 13و14 الفرسان على جانبي الصف الثالث. 15 و16 كتيبتان من الرماة على جانبي الصف الثالث. 17و18و19و20و21و22 المدافع موزعة امام الصف الاول وبين الثاني والثالث. 23 مهما الجيش وامتعته.

موقع الجيش التركي

24 و25 الصف الاول من المشاة. 26 و27 الصف الثاني من المشاة. 28و29و30 فرسان الترك النظاميون. ، ، المدافع موزعة هنا وهناك. 31و31و31 الفرسان غير النظاميين (الباشبوزق) ومنهم يتألف معظم الصف الثالث.

حركات الجيشين

32 الضيعة المتهدمة التي اتجهت في طريقها ميمنة الجيش المصري. 33 الموقع الذي اتجه اليه الفرسان المصريون للالتفاف بميسرة الترك ومنه تقدموا وهاجموا الفرسان الباشبوزق (نمرة 31) قريبا من الضيعة. 34 الموقع الذي وصلوا اليه بعد الهجوم المتقدم. 35 الموقع الذي تقدمت اليه طوابير الحرس (نمرة 3). 20 وصول البطارية 20 الى يسار الضيعة واحتلال الرماة المصريين 15 و16 تلك الضيعة. 36 الموقع الذي اتجه اليه الالاي نمرة 1 لشد ازر جنود الحرس. 18 الموقع الذي اتجهت اليه البطارية 18 لمعاونة الالاي نمرة 1 وليشد ازر الالاي نمرة 2 في هجومه. 37 الموقع الذي اتجه اليه الالاي نمرة 6 لسد الطريق امام ميمنة الترك. 38 الموقع الذي اتجه اليه الالاي نمرة 12 ونمرة 14 (من الفرسان) لشد ازر الحركة المتقدمة. 22 انتقال البطارية نمرة 2 الى موقعها الجديد للغرض نفسه. 30 الموقع الذي تقدم اليه الفرسان الترك نمرة 30 بعد هزيمة الباشبوزق لصد هجمة الفرسان المصريين. 40 الموقع الذي وصل اليه جنود الحرس المصريين وعن يمينهم البطارية 20 وضربهم فرسان الترك يعاونهم الفرسان من الموقع 34. 41و41َو41ََِ تقهقر ميسرة الترك بعد هزيمتهم. 42 و42 و42ً تقهقر ميمنة الترك. 43 و43 و43َو43ً المربع الذي احتله الجيش المصري بعد هزيمة الترك.

الموقف الحربي بعد واقعة حمص

ارتد الجيش العثماني بعد هزيمته في واقعة حمص قاصدا حلب.

أما جيش حسين باشا فكان قد بلغ أنطاكية بينما كان جيش محمد باشا والي حلب والجيش المصري على وشط اللقاء في معركة حمص، وهكذا يتبين لك ان انفصال الجيشين العثمانيين بعضهما عن بعض مكن الجيش المصري من الانقضاض على كليهما واحدا بعد واحد، ولو كانت القيادة التركية على شيء من الكفاية لما تقدم جيش محمد باشا وحده، ولا ننتظر قدوم جيش حسين باشا قبل مواجهة الجيش المصري، ولكن عجز القيادة التركية وارتباك حكومة الاستانة كانا من الاسباب التي افضت الى هزيمة الجيش التركي.

بارح جيش حسين باشا انطاكية قاصدا الى حمص، فالتقى في طريقه بفلول الجنود المهزمة من جيش محمد باشا، وعرف منهم نبأ هزيمة حمص، فارتد الجميع الى حلب ليتخذوها قاعدة حربية قتال الجيش المصري، وطلب حسين باشا من اعيانها ان يمدوه بالمؤونة ليتخذوها قاعدة حربية قتال الجيش المصري، وطلب حسين باشا من اعيانا ان يمدوه بالمؤونة والرجال، ولكن اهالي حلب كانوا كارهين للحكم التركي واشفقوا على مدينتهم ان يحل بها الخراب اذا استهدفت للحرب، فأبوا على الجيش التركي ان يدخل احد من جنوده الى مدينتهم، ولم يسمحوا الا للجنود الجرحى والمرضى بالدخول، واغلقوا ابواب المدينة في وجه الجيش التركي.

وفي خلال ذلك كان ابراهيم باشا يتقدم بالجيش المصري نحو حلب، ولم يجد حسين باشا مكانا حصينا ياوى اليه، فانسحب شمالا الى مضيق بيلان جنوبي الاسكندرونة، وهو احد مفاتيح سورية من الجهة الشمالية وحصن فيه فيه مواقعه تحصينا منيعا وساعدته طبيعة تلك المواقع على الامتناع بها.

واقعة بيلان

(30 يوليه سنة 1832)

تقدم الجيش المصري فاحتل من غير مقاومة حماة ثم حلب ومكث بها بضعة ايام استراح فيها، وجاءته بها وفود من اورقا وديار بكر تعلن خضوع المدينتين لحكم محمد علي، ثم تأهب لاستئناف الزحف وتابع زحفه حتى صار على مقربة من مواقع العدو في بيلان.

كان الجيش العثماني الذي يقوده حسين باشا مؤلفا من نحو 45 ألفا من الجنود النظامية، لديها السلاح الكافي ويعززها 160 مدفعا، وهي قوة لا يستهان بها ترابط في مواقع منيعة، ولكن قيادتها تعوزها الكفاية والخبرة، وحالة الجنود المعنوية لم تكن على ما يرام، فان ما حل بالجيش التركي من الهزائم المتوالية وما تعاقب عليه من تغيير القواد واندحارهم قد خذل روح الجند، وعلى عكس ذلك كان موقف الجيش المصري، فان ذكرى الانتصارات المتتابعة قد ملأت جنوده قوة وحماسة وجعلتهم يركنون الى قائدهم الباسل ابراهيم باشا الذي سار بهم من نصر الى نصر.

تقع مدينة بيلان جنوبي الاسكندرونة وشمالي المضيق والجبل المعروفين باسمها ويصل اليها طريقان، طريق من كليس، وطريق من انطاكية، ويقترب الطريقان في سفح الجبل بحيث يفصل بينهما نحو ثلاثة آلاف متر، ثم يلتقيان في المضيق جنوبي بيلان، فيصبحان طريقا واحدة يصل الى المدينة، وترى على الخريطة نقطة تلاقيهما.

وقد اتخذ الجيش التركي مواقعه على قمم جبال بيلان، فاحتشد المشاة فوق هضبة على خط منكسر يصل طرفه الايمن – حيث ميمنة الجيش – الى طريق وعر يخترق الجبل اتيا من خان قرموط ذاهبا الى بيلان ، وطرفه الايسر (حيث القلب) الى الطريق الوسط الواصل الى بيلاان نفسها، أما ميسرة الجيش فكانت ترابط على امتداد ذلك الخط فيما يلي هذا الطريق يشد ازرها بعض المدافع المنصوبة على اكمة قريبة من الطريق، واقام الترك اما صفوف المشاة استحكامات نصبوا فيها مدافعهم، وامامها الفرسان.

اما الجيش المصري فقد عسكر في السهل المنبسط تحت المضيق غربي الطريق الواصل من كليس الى انطاكية، وتجد موقعه بالخريطة (نمرة 1-2) ، فاتخذ المشاة مواقعهم في الصفوف الامامية، والفرسان من ورائهم والمدفعية في الوسط، وخلف هذه الصفوف مهمات الجيش وامتعته.

ذلك هو موقع الجيشين قبل المعركة.

أنعم ابراهيم باشا النظر في مواقع الترك على جبل بيلان، فرآها منيعة يصعب على الجيش المرابط في السهل المنبسط في سفح الجبل ان ينال منها منالا، فاجتمع وخاصة قواده وضباطه، واخذ يتداول واياهم الاراء في الخطة التي تكفل الفوز، فاستقر رايه بعد دراسة الموقف الا يهاجم الترك مواجهة، لاسحالة ذلك، وراى الخطة المثلى ان يدور حول ميسرتهم من الجنب تمهيدا للاحاطة بها، ثم يحتل اكمات تتسلطت على القلب، فيجعل المشاة الترك هدفا لنيران المدافع المصرية، وفي الوقت نفسه يرسل جزءا من قواته للاحاطة بميمنة الجيش التركي.

وعملا بهذا الخطة انفذ جنود الحرس والالاي الثامن والثامن عشر من المشاة الى الطريق كليس-بيلاد، فساروا اليه واحتشدوا وراء اكمة تمتد الى الطريق (نمرة 18) ووراءهم المدافع في بطن الوادي غربي الطريق (نمرة 19 و20) ، ثم اخذت كتائبهم تتحرك شرقا في اتجاه ميسرة الجيش التركي، تتبعهم المدافع الكافية.

وقد تولى ابراهيم باشا بنفسه قيادة هذه الحركة، لان عليها يدور مصير المعركة، وانفذ في الوقت نفسه الالاي الثالث عشر من المشاة بقيادة حسن بك المانسترلي تصحبه بطارية من المدافع، فزحف صوب الطريق الاخر الذاهب من انطاكية الى بيلان، ووصل الى الطريق اواحتل الموقع الذي ينتهي اليه نمرة 21، وتبعه الالاي الخامس من الفرسان لتتألف منه قوة احتياطية له في هجومه على ميمنة الجيش التركي، فاستقر وراءه نمرة 22.

كانت هاتان الحركتان، وخاصة حركة الميمنة التي تولى ابراهيم باشا قيادتها، تكتنفها مصاعب جمة، لان المصريين اضطروا ان يسيروا صعدا في طرق وعرة، فاحتملوا في اجتيازها المتاعب والشدائد الهائلة، ولما لح الترك تقدمهم صوبوا اليهم مدافعهم واطلقوا القنابل عليهم، فامر ابراهيم باشا بنصب المدافع وراء الاكمة التي احتشد فيها المشاة، واطلق القنابل عليهم، فامر ابراهيم باشا بنصب المدافع وراء الاكمة التي احتشد فيها المشاة، واطلق القنابل على وجهة الجيش التركي بين القلب والميسرة، وتبادل الفريقان اطلاق القنابل.

واستمر المصريون في زحفهم شرقا، الى ان تخطوا مواقع الجناح الايسر من الجيش التركي، فهاجموه من الامام ومن الجنب هجوما شديدا، فتقلقل الترك عن مواقعهم واضطروا الى الارتداد شمالا، فابتدأت هزيمتهم، واستمر المصريون يتعقبونهم.

وفي خلال هذه الحركة استوى الرماة المصريون على المدافع المنصوبة على الاكمة التي تحمي الجناح الايسر نمرة 17 ، ووصل المصريون الى مرتفعات نمرة 24 تشرف على مواقع الترك، وعلى طريق بيلان ، وركبوا فيها المدافع، فاستهدفت ميسرة الترك في انسحابها لنيران المدافع والبنادق المصرية، فوقع في صفوفها الاضطراب والفشل، وحلت بها الخسائر الجسيمة.

وتقدم فريق من جنود الالاي الثامن عشر من مكانهم نمرة 18، واقتربوا من فرسان الترك المحتشدين امام قلب الجيش العثماني، وهاجموهم بالموقع نمرة 25 وقت احاطة جنود الحرس والالاي الثامن بميسرة الترك.

فتحرج مركز الفرسان العثمانيين امام هذا الهجوم الهائل، وخاصة بعد ان احتل المصريون المرتفعات المشرفة على مواقعهم، فلم يقاوموا طويلا، وسارعوا الى الارتداد شمالا نحو بيلان من غير نظام، وتفرق شملهم وتبددت جموعهم.

ولما ارتدت ميسرة الترك ووصل المصريون في تقدمهم الى طريق بيلان نفسه تحرك مركز قلب الجيش العثماني، اذ راى ما حل بالميسرة ، وادرك ان خطة الرجعة الى بيلان اصبح مقطوعا بوصول المصريين الى الطريق، فلم تثبت جموعه امام هجمة المصريين ولاذوا بالفرار وتخلوا عن موقعهم وتشتتوا في الجبال.

واصاب الجناح الايمن مثل ما اصاب القلب، فقد تقدم المصريون من جنود الالاي الثالث عشر لمهاجمته، ووصل رماتهم ومعهم المدافع الى اكمة قريبة من اقصى الميمنة (نمرة 27)، على ان الترك لم يصمدوا للقتال بعدما علموا بما اصاب الميسرة، وتخلوا عن مواقعهم وتقهقروا في الجبال.

تخلى الترك اذن عن مواقعهم على طول الخط، فاحتلها المصريون ، وبذلك انتهت الواقعة بهزيمة الجيش التركي، بعد قتال ثلاث ساعات فقد فيه الترك من رجالهم نحو 2500 من قتيل وجريح، واسر منهم المصريون 2000 اسير وغنموا 25 مدفعا وكثيرا من الذخائر.

وبعد انتهاء الواقعة احتل المصريون بيلان تخفق على صفوفهم اعلام النصر والظفر. أما الترك فقد فرت فلولهم الى الاسكندرونة لتلجأ الى العمارة التركية، ولكنهم لم يدركوا العمارة لانها اقلعت من الميناء بعد هزيمة بيلان، فسار المصريون في اعقابهم واسروا الكثيرين منهم واحتلوا الاسكندرونة، ثم تقدم فرسانهم ورسارو حذاء الساحل واحتلوا بياس شمال الاسكندرونة واسروا فيها 1900 مقاتل من الجيش التركي، وسلمت ايضا انطاكية واللاذقية والسويدية.

كانت نكبة الجيش التركي في هذه الواقعة نكبة ساحقة، واختفى قائده العام على وجهه متنكرا خوفا من القصاص الذي هو لابد ملاقيه اذا عاد الاى الاستانة وفي تبعته هذه الهزيمة.

{{{{خريطة ص 242}}}


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

موقع الجيش المصري

1-2 موقع الجيش المصري قبل الواقعة على سفح مضيق بيلان، غربي الطريق الذاهب من كليس الى انطاكيمة، وقد اصطفت قواته بالترتيب الآتي: 3 الاي الحرس. 4 الالاي الثامن من المشاة. 5 الالاي الثامن عشر من المشاة. 6 الالاي الثالث عشر من المشاة. 7 الالاي الثاني من الفرسان. 8 الالاي الرابع من الفرسان. 9 الالاي الخامس من الفرسان. 10 المدافع ويليها مهمات الجيش وامتعته تحرسها كتيبة من العرب المصريين.

موقع الجيش التركي (11 – 12 – 13 – 14 )

11-12 المشاة الترك منتشرون فوق هضبة على خط منكسر، تصل يسراه الى طريق انطاكيمة – بيلان، ويمناه الى اكمة تفضي الى طريق جبلي يصل من خان قرموط الى بيلان، ومن هذا الخط يتالف الجناح الايمن وقلب الجيش التركي. 12-14 الجناح الايسر. 15-16 الفرسان الترك. 17 المدافع منصوبة امام المشاة.


حركات الجيش المصري قبيل بدء القتال

وقبل ابتداء الواقعة اتخذ ابراهيم باشا المواقع الاتية للجيش المصري: 18 تحركت اجنود الحرس والالاي الثامن من المشاة من مواقها الاولى (نمرة 3و4) ووصلت الى المواقع 18 وراء الاكمة. 19 اجتمعت كتائب من الفرسان ببطن الوادي غربي الطريق الذاهب الى بيلان بالموقع نمرة 19. 20 المدفعية الاحتياطية وراء الفرسان، الالاي الثامن عشر نمرة 5 يتبع الالاي الثامن والحرس. 21 الالاي الثالث عشر من المشاة نمرة 6 يتجه نحو الطريق الذاهب من انطاكية الى بيلان ويحتل الموقع نمرة 21 على الطريق. 22 الالاي الخامس من الفرسان نمرة 9 يتبع الالاي الثالث عشر ويحتشد خلف الموقع 21 ليكون له بمثابة الاحتياطي في هجومهن على ميمنة الترك. بطارية من المدافع تتبع الالاي الثالث عشر الى الموقع 21. 23 نقلت مهمات الجيش الى الموقع 23 تحميها فصيلتان من العرب.


حركات القتال

زحف جنود الحرس والالاي الثامن من الموقع نمرة 18 الى منبع نهير صغير للاحاطة بميسرة الترك 13-14 ، وهاجموا الميسرة من الامام ومن جنب واستولى الرماة المصريون على المدافع التركية المنصوبة على الاكمة 17، ووصل المصريو الى المرتفعات نمرة 24، وتحت تاثير الهجوم ارتدت ميسرة الترك بغير نظام الى بيلان، وكانت في انسحابها هدفا لنيران المصريين، فحلت بها الخسائر الجسيمة.

ونرى على الخريطة تقدم الالاي الثامن عشر وفريق من الالاي الثامن من الموقع 18 الى الموقع 25 لمهاجمة قلب الجيش التركي مع فرسانة وقت احاطة جنود الحرس والالاي الثامن بميسرتههم ، وانسحاب الفرسان الترك من الموقع 15 و16 وتشتت شملهم، ثم ارتداد قلب الجيش التركي بغير نظام وتشتته في الجبال.

وترى زحف الالاي الثالث عشر من المشاة على ميمنة الترك، فقد تحرك ومعه عدد من المدافع الى الموقع 26، ووصل الرماة الى الاكمة 27 تمهيدا لزحف بقية الجند، ولكن الترك لم يصمدوا للقتال بعد ما علموا بما حل بالميسرة، فتقهقروا في الجبال وتخلوا عن معاقلهم كما تخلى بقية الترك عن مواقعهم على طول الخط وبذلك انتهت الواقعة.

زحف الجيش المصري في الاناضول

اجتاز المصريون بعد واقعة بيلان حدود سوريه الشمالية، ودخلوا ولاية ادنه من بلاد الاناضول، وعبروا نهري حيحون وسيحون واحتلوا ادنه وطرطوس،واخذ ابراهيم باشا يوطد مركزه وينظم الولايات التي فتحها قبل ان يزحف بجيشه الى الامام، واحتشد معظم الجيش في مدينة ادنه ذا كانت مفتاح الزحف على الاناضول وكانت ايضا صلة المواصلات بطريق البحر بين مصر والجيش المصري، وانفذ ابراهيم باشا كتائب من جنده فاحتلوا اورفا، وعينتاب ومرعش وقيصرية.

لم تنكسر عزيمة السلطان محمود امام الهزائم التي حاقت بجيشه، واعد جيشا جديدا عهد بقيادته الى الصدر الاعظم محمد رشيد باشا، وكان هذا الجيش مؤلفا من 53 الف مقاتل، هم خليط من اجناس السلطنة العثمانية لا تربطهم رابطة ولا تجمعهم غاية، فلا غرور ان يفقد الجيش اهم عامل لقوته المعنوية وخاصة اذا كان الجيش الذي يقاتله قويا بوحدته متماسك الصفوف معتزا بقيادته.

كان رشيد باشا من خيرة قواد تركيا، لكنه دون ابراهيم باشا في الكفاية والمران، وقد اشترك معه من قبل في حرب الموره وخاصة امام مدينة مسيولونجي، ومن تهكم الاقدار ان هذين القائدين اللذين اشتركا معا في ميدان القتال زمنا ما وكانا يدافعان عن غاية واحدة، صارا عدوين لدودين يعمل كل منهما ليسحق الاخر.

احتشد الجيش التركي في الاستانة، وعرضه السلطان محمود بنفسه ليبث في قلوب رجاله روح الشجاعة والاقدام، وزوده ببعض الالايات المشاة النظاميين وعدد وافر من المدافع.

ثم تقدم رشيد باشا بهذا الجيش العرمرم في بطاح الاناضول، ليلتقي الجيش المصري، وكان ابراهيم باشا يواصل زحفه في الاناضول، فانفذ قوة من الجند احتلت مضيق كولك من مضايق جبال طوروس، واقصت عنه الترك، وباحتلال هذا المضيق ذللت عقبة من اكبر العقبات التي تعترض الجيش المصري في زحفه على الاناضول، ثم اعترضتهم عقبة اخرى وهي واد منيع يلي المضيق كان الترك ممتنعين به بالقر بمن مدينة شفت خان فانفذ ابراهيم باشا قوة اخرى من الجند بقيادة سليم بك الحجازي وابراهيم اغا الجوخدار فهاجموا الترك في الوادي ونشبت معركة انتهت بانسحاب الترك بعد ان فقدوا 200 قتيل وثلثمائة اسير، وكذلك امتنع الترك في اولو قشلاق وهاجمهم فيها المصريون واجلوا عنها، وبعد هزيمة الترك في اولو قشلاق جلوا ايضا عن هرقلة اركلي فانفتح الطريق امام الجيش المصري ومضى في زحفه حتى بلغ قونية التي اخلاها الترك من غير قتال، فاتخذها ابراهيم باشا قاعدة عسكرية واخذ يتاهب لملاقاة الجيش التركي ويدرب جنوده على التمرينات في المواقع التي توقع نشوب القتال فيها، فكان ذلك دليلا على نفاذ بصريته وبعد نظره وبراعته في القيادة، ولئن كان جيشه اقل عددا من الجيش التركي اذ بلغ نحو الف مقاتل منهم الف من العرب (البدو) المصريين الا انه يمتاز بحسن النظام وكفاية القيادة والمران على القتال في المعارك العديدة التي خاض غمارها، ولا غرو ان بعثت الانتصارات التي احرزها في نفوس الجنود روح الامل والثقة ، فكانت هذه الروح من اقوى اسباب النصر والظفر.

واقعة قونيه

(21 ديسمبر سنة 1832)

في 18 ديسمبر سنة 1832 وصلت طلائع الجيش التركي بقيادة رءوف باشا الى شمالي قونيه وكانت مؤلفة في الغالب من الجنود غير النظامية، فناوشهم ابراهيم باشا ليتحقق مبلغ قوتهم، ولما آنس منهم ضعفا اراد ان يكرههم على القتال، لكن رءوف باشا تجنب الدخول في معركة، فانقضى يوما 18 و19 ديسمبر في مناوشات حربية استولى فيها المصريون على كثير من الاسرى وغنموا فيها بعض المدافع.

وفي صبيحة يوم 20 ديسمبر تقدمت جيوش رشيد باشا الى قونيه، واخذ كل من القائدين يرتب مواقع جنوده.

وفي اليوم التالي ، يوم الواقعة، كان الضباب يخيم على ميدان القتال من الصباح فحال دون اكتشاف كل من القائدين موقع الجيش الاخر، على ان ابراهيم باشا كان يمتاز على رشيد باشا بانه درس الجهة التي دار فيها القتال دراسة دقيقة، ومرن جنوده على المناورات فيها قبل اشتباك الجيش.

وقد رابط الجيش المصري شمالي قونيه، وعلى مقربة من ميمنته شمالا بشرق مستنقعات من المياه، وعلى مسيرة فرسخ من ميسرته تقع مدينة سيله، وامامه الجبال، وعلى سفحها يرابط الجيش التركي الذي كان الضباب يحجبه عنه عن انظار المصريين.

وكان البرد قاسيا، ولا غرو فالمعركة وقعت في شهر ديسمبر في اشد ايام الشتاء، فنزلت درجة البرد يوم الواقعة الى 11 فوق الصفر.

واصطف الجيشان في مواقعها، تفصل بينهما نحو ثلاثة آلاف متر، ومرت لحظة خفت فيها، وطأة الضباب قليلا، فأمكن ابراهيم باشا ان يلمح موقع الجيش التركي، وقد رتب خطة الهجوم ترتيبا محكما، فرأى أن الهجوم على ميمنة الترك امر لا تحمد عواقبه، لانها مرابطة على سفح الجبل في مواقع حصينة، بعكس الميسرة التي كانت تستند الى مستنقعات مكشوفة.

وقبل ان يبدأ ابراهيم باشا بالهجوم تقدمت صفوف الترك حتى صارت على بعد نحو ستمائة متر من مواقع المصريين، واخذت المدافع التركية تطلق القنابل عليهم، فلح يجب المصريون على الضرب بضرب مثله، الى ان تعرف ابراهيم باشا على صوت الضرب مواقع الترك، وتقدم الصف الثاني من المصريين حتى اقترب من الصف الاول تفاديا من فتك القنابل التركية التي كانت تنصب عليه.

واتجه ابراهيم باشا الى بئر نمرة 23 على الخريطة ص 247 تقع على يمين الصف الثاني من الجيش المصري ليزداد علما بمواقع الترك، وكان يصحبه من خاصة اركان حربه مصطفى مختار بك وكاني بك، واحمد افندي، ومعه قوة من الف وخمسمائة من العرب.

وهناك لمح مواقع الترك، وعرف بثاقب نظره نقطة الضعف التي يصيب منها الهدف، ذلك ان قوة الفرسان كانت تؤلف ميسرة الجيش التركي، وقد أخطأت القيادة التركية في انها لم تحكم الصلة بين الفرسان والمشاة اثناء التقدم، فحدثت بينهما ثغرة يبلغ طولها نحو الف خطوة جعلت الميسرة في شبه عزلة عن بقية الجيش (كما تراه على الخريطة).

فانتهز ابراهيم باشا هذه الفرصة، واعتزم الدخول بقوات الحرس والفرسان في هذه الثغرة ليخترق صفوف الترك، وبادر فعلا فاصدر تعليماته لتحرك هذه القوات، وتولى بنفسه قيادة هذه الحركة، فزحفت قوة الحرس يتبعها الفرسان واجتازت البئر بقليل، ثم انعطفت نحو الشمال حيث ميسرة الترك وهاجمتها هجوما شديدا، وشدت المدفعية ازرها، فصبت قنابلها على الترك واخذتهم من الجنب، وكان الهجوم شديدا، والضرب محكما، فتقلقل الترك من مراكزهم لشدة الهجوم وتقهقروا من غير نظام في المستنقعات، وبذلك انهزمت ميسرة الجيش التركي.

ثم تابع المصريون تقدمهم وتوسطوا ميدان المعركة حيث واجهوا الصف الثالث من مشاة الترك الذين اقتحموا الميدان ووصلوا الى تلك الناحية نمرة 17 فأصلتهم المدافع نارا حامية، واحاط بهم المصريون وضربوهم ضربا شديدا واوقعوا بهم حتى سلموا سلاحهم.

ولما ادرك الصدر الاعظم ان ميسرته قد وقع فيها الاضطراب والفشل اراد ان يلم شعثها ويبث الحمية في نفوس رجاله، فنزل الى حيث مواقع الجند، لكنه لم يفز بطائر ، وضل الطريق لكثرة تكاثف الضباب، وبينما هو يسير على غير هدى وقع في ايدي العرب المصريين، فاحاطوا به وجردوه من سلاحه، واقتادوه اسيرا الى ابراهيم باشا، وكان قد مضى على نشوب القتال نحو الساعتين.

وتابع المصريون من المشاة والفرسان تقدمهم شمالا، واستأنفوا معهم بعض المدافع، وهاجموا الصف الرابع من مشاة الترك ، فحاقت به الهزيمة وسلم وتمزق شمله، وبذلك تم للجيش المصري الفوز على ميسرة الترك والصف الثالث والرابع من مشاتهم.

وبينما كانت قوات الحرس والفرسان تقوم بهذه الحركات والهجمات الموفقة تقدم الصف الأول من صفوف الاعداء نحو ميسرة الجيش المصري واتخذوا مواقعهم حولها في خط منكسر بقصد الاحاطة بها، واشترك في هذه الحركة الصف الثاني من صفوفهم، وعاونهم فرسانهم، فكانت الهجمة هائلة، عنيفة في شدتها، خطيرة في عواقبها، ولكن ميسرة الجيش المصري تلقتها بثبات وشجاعة وتحركت مدافع الاحتياطي فشدت ازر المدفعية التي تحمي الميسرة، وصبت المدافع المصرية قنابلها على صفوف الترك، فحصدت صفوفهم حصدا، واستبسلت الميسرة في الضرب والقتال، وكان على دفاعها يتوقف مصير المعركة، واستمرت الملحمة ثلاثة أرباع ساة، ثم اسفرت عن كسر هجمة الترك وهزيمتهم وتشتيت شملهم في الجبال.

وكأنما اراد الترك ان يبذلوا آخر جهد في المعركة، فتحركت قوة من الفرسان ووصلت تجاه الصف الاول من الجيش المصري، فلم يحفل بها المصريون لانها كانت سائرة نحو الفشل المحقق، فما زالت تتقدم حتى وصلت الى ما وراء صفوف الجيش المصري، وهناك تشتت شملها وولت الادبار.

انتهت الواقعة بهزيمة الجيش التركي، ودام القتال فيها سبع ساعات، اذ بدأت في الظهر وانتهت بعد غروب الشمس بساعتين، ولم تزد خسارة المصريين عن 262 قتيلا، و530 جريحا ، أما الجيش التركي فقد اسر قائده ونحو خمسة آلاف الى ستة آلاف من رجاله، من بينهم عدد كبير من الضباط والقواد، وقتل من جنوده نحو ثلاثة آلاف ، وغنم المصريون نحو 46 مدفعا، وعددا كثيرا من الرايات.

فلا غرو كانت معركة قونيه نصرا مبينا للجيش المصري، وصفحة فخار في تاريخ مصر الحربي.

ولقد كانت من المعارك الفاصلة في حروب مصر،لانها فتحت امام الجيش طريق الاستانة، اذ اصبح على ميسرة ستة أيام من البوسفور، وكانت الطريق مخلاة لا يعترضه فيها جيش ولا مقعل، فلا جرم ان ارتعدت فرائص السلطان محمود بعد هذه الواقعة اذ راى قوائم عرشه تتزلزل امام ضربات الجيش المصري وانتصاراته المتوالية.

{{{خريطة}}} 249

مواقع المصريين

1-2 الصف الاول من صفوف الجيش المصري يقوده سليم بك المانسترلي. 3-4 الصف الثاني بقيادة سليمان بك (باشا) الفرنساوي على بعد ثلثمائة خطوة فقط من الخط الاول، وقد اقترب منه الى هذا الحد بسبب تكاثف الضباب صبيحة يوم الواقعة وتساقط قنابل الترك عليه. 5 جنود الحرس يقودهم سليم بك الحجازي ويتألف منهم الصف الثالث . 6 الفرسان يقودهم احمد بك (باشا) المنكليواحمد بك المانسترلي. 7و 8و 9 المدافع وقد نصبت في الميمنة والقلب والميسرة بقيادة سليم بك قائد الطوبجية. 10 بطاريتان من مدافع الاحتياطي. 11 بطارية من مدافع الاحتياطي مع الحرس. 12 و13 اورطتان في هيئة مربعين لحماية الجناحين.

مواقع الترك

14-15 الصف الاول من المشاة. 16 الصف الثاني من المشاة. 17 الصف الثالث من المشاة. 18 الصف الرابع من المشاة. 19 الايان من الفرسان على يمين الصف الاول من المشاة. 20 الايان من الفرسان على يسار الصف الاول من المشاة. 21 الاي من الفرسان خلف 19 22 الاي من الفرسان عن يسار الصف الثاني من المشاة. ،/، مدافع الترك موزعة امام صفوف المشاة والفرسان. 23 موقع البشر التي اتجه اليها ابراهيم باشا ليستطلع مواقع الترك. 24 الموقع الذي وصل اليه الفرسان المصريون لمهاجمة الجناح الايسر للجيش التركي بمعاونة جنود الحرس. 25 الموقع الذي وصلت اليه المدافع المصرية لشد ازر هذه الهجمة. 26 النقطة التي ارتد اليها الجناح الايسر للجيش التركي في المستنقعات بعد هزيمته امام هجمة الفرسان المصريين. 27و 28و 29 المواقع التي وصل اليها المصريون من الفرسان والحرس في تقدمهم واحاطوا بالصف الثالث من المشاة الترك نمرة 17 الذي زحف من موقعه الاصلي الى حيث سلم سلاحه في الموقع نمرة 17. 30 الموقع الذي تقدمت اليه المدافع المصرية الاتية من 26 لتشترك في الحركة السابقة. 31 المكان الذي اسر فيه الصدر الاعظم محمد رشيد باشا قائد الجيش التركي. 32 المكان الذي كان به ابراهيم باشا حينما وقع الصدر الاعظم اسيرا. 33 و34 المواقع التي وصل اليها المصريون في تقدمهم شمالا. 35 الموقع الذي تقدمت اليه المدافع المصرية اتية من الموقع 30. 36 الموقع الذي هزم فيه الالاي التركي نمرة 18 امام هجوم المصريين. 37و 38 و39 المواقع التي تقدم اليها الصف الاول من مشاة الترك نمرة 14-15 للاحاطة بمسيرة الجيش المصري. 40 و41 المواقع التي تقدم اليها الصف الثاني من مشاة الترك نمرة 16 للاشتراك في الحركة السابقة. 42 المواقع التي تقدم اليه الفرسان الترك نمرة 19 و21 للاشتراك في الحركة السابقة. 43 انتقال المدفعية المصرية من الموقع 10 وانضمامها الى مدافع الجناح الايسر حيث اشتركت في كسر هجمة الترك وتشتيت شملهم. 44 المواقع التي تقدم اليها الفرسان الترك نمرة 22 حيث تشتت شملهم.

حركات الاسطول المصري

كان للاسطول المصري فضل كبير في معاونة الجيش خلال الحرب السورية من مبدئها الى منتهاها، فان هذه الحرب لم تقتصر على البر. بل تعدته الى البحر، ونا ذاكرون هنا ما قام به الاسطول من الاعمال الجليلة التي ساعدت الجيش على بلوغ النصر.

اشترك قسم من الاسطول في حصار عكا كما قدمنا، فقد اصدر ابراهيم باشا تعليماته الى سر عسكر الدونئمة المصرية عثمان نور الدين بك يضرب قلاع عكا من البحر فتقدم الاسطول (ديسمبرة سنة 1831) واصطفت سفنه امام حصون المدينة، واخذت تضربها بالمدافع.

كان عدد هذه السفن تسع بوارج تقل 3810 من البحارة، وسلاحها 484 مدفعا، وهذه اسماؤها كما ذكرها اسماعيل باشا سرهنك ، وهي: الفرقاطة كفر الشيخ وعليها القومندان برسيك الانجليزي، والفرقاطة الجعفرية وقومندانها برغمه لي احمد قبودان وعليها علم الاميرال الاول قائد الاسطول، والفرقاطة البحيرة وقومندانها عبد اللطيف قبودان (الذي صار باشا وتولى نظارة البحيرة فيما بعد) وتحمل علم الاميرال الثاني مصطفى مطوش باشا، والفرقاطة رشيد وعليها السيد علي قبودان، والفرقاطة شير جهاد وعيها نوري قبودان، والفرقاطة دمياط وعليها هدايت محمد قبودان، والفرقاطة مفتاح جهاد وعليها مصطفى قبودان الجزائري، والسفينة بومبه وعليها بيجان قبودان، والسفينة رهبر جهاد وعليها علي رشيد قبودان.

اخذت هذه البوارج تطلق مدافعها على حصون عكا طول النهار، ولكنها لم تصبها بضرر يذكر لمتانتها، ثم رست مع باقي سفن الاسطول التي لم تشترك في الضرب، واصيبت بعض السفن المصرية باضرار اضطرتها الى العودة للاسكندرية.

وكان للاسطول المصري جولات مهمة على ظهر البحار خلال الحرب، فقد تلقى محمد علي باشا من احدى سفن العمارة المصرية في شهر يونيه سنة 1832 نبأ خروج الاسطول التركي من الدردنيل بقيادة الاميرال خليل باشا رفعت ليشترك في القتال، وكان مؤلفا من خمس وثلاثين سفينة حربية، فاصدر تعليماته الى العمارة المصرية بالاقلاع الى بحر الارخبيل لتبحث عن الاسطول العثماني وتقاتله، فسارت الى مياه رودس وكان الاسطول العثماني قد اتجه في ذلك الحين الى ثغر الاسكندرية لامداد الجيش التركي بالرجال والمؤونة والعتاد.

فلما وصل الى الاسكندرية كانت الهزيمة قد حلت بالجيش التركي في حمص، ثم وقعت هزيمة بيلان، فعاد ادراجه واقلعت سفنه الى جزيرة رودس تاركة كميات كبيرة من المؤونة لم يستطع الترك حملها لما كانوا فيه من العجلة.

اما العمارة المصرية فكانت مؤلفة من سبع وعشرين سفينة حربية معقودا لواؤها للاميرال عثمان نور الدين باشا، فسارت تمخر العباب باحثة عن الاسطول العثماني، واجتمع الاسطولان بعد واقعة بيلان في مياه قبرص، ومع ان الاسطول التركي كان اكثر عددا وعددا من العمارة المصرية فان قبودانه تجبن الاشتباك في قتال مع الاسطول المصري، وخشى ان يلحقه البوار اذا اصطدم به، فآثر ان يلزم خطة الدفاع، واخذ الاميرال عثمان نور الدين باشا من ناحيته يرقب حركات الأسطول العثماني، دون ان يسعى لمهاجمته، وبقى الاسطولان طويلا في هذا الموقف، الى ان سار اميرال الاسطول التركي الى ميناء مرمريس من ثغور الانضول ليأوي اليها، فتعقبته العمارة المصرية، وحاصرت الميناء، ولكن هياج البحر واشتدد الانواء في ذلك الفصل من الشتاء حالا دون استمرار الحصار، فاتجه نور الدين باشا بالعمارة المصرية الى خليج السودة بجزيرة كريت، وبعد ان بقى الاسطول التركي في ثغر مرمريس عشرين يوما اقلع الى مياه الدردنيل ثم رجعت العمارة المصرية الى الاسكندرية.

وقد كان للاسطول المصري عامة فضل كبير في تسهيل المواصلات البحرية بين مصر وسورية، ولولاه لما وجدت مصر من سبيل الى امداد جيشها الا بطريق البر المحفوف بالمتاعب والاخطار، ولتعذر عليها الاتصال به وبالبلاد التي فتحتها. فللأسطول المصري فضل كبير في نجاح الحملة على سورية.

المسألة المصرية وتدخل الدول

استرعت انتصارات الجيش المصري انظار الدول الاوروبية، وفتحت باب المسالة المصرية على مصراعيه.

ان المسألة السياسية العالمية المعروفة بالمسألة المصرية بدأت تظهر – في تاريخ مصر الحديث منذ الحملة الفرنسية، فمن ذلك العهد اتجهت المطامع السياسية الدولية الى مصر، وتعددت المنازع في شأن مصيرها، فالحملة الفرنسية اول مثار للمسألة المصرية اذ انها كانت صراعا بين فرنسا وانجلترا على فتح مصر واستعمارها، اما قبل ذلك فان التنافس بشأنها كان في الغالب تنافسا اقتصاديا ، فلما جر نابليون حملته على مصر تحول الى صراع سياسي، واخذت مطامع انجلترا تتجه نحو فتح مصر والسيطرة السياسية عليها، ولقد رأيت مما فصلناه في الجزيأت الأول والثاني من "تاريخ الحركة القومية" ان الصراع بين فرنسا وانجلترا بشان المسالة المصرية استمر طوال الحملة الفرنسية، وبعد انتهائها، وان انجتلرا لم تحارب فرنسا لاجلائها عن مصر فحسب، بل لتحل فيها محلها ولكي تحقق مطامعها السياسية والاستعمارية في وادي النيل.

واستمرت المسالة المصرية مثارا للمطامع الانجليزية منذ اسس محمد علي الدولة المصرية الحديثة، فلما اشتبكت مصر وتركيا في الحرب السورية اقترنت المسالة المصرية بالمسالة الشرقية، فاشتدت المنازعات الدولية بشانها وانبعثت المطامع القديمة التي كانت تسعى لها كل دولة حيال السلطنة العثمانينة.

فالروسيا نظرت بعين الخوف والوجل الى تقدم الجيش المصري واقترابه عن عاصمة تركيا، وخشيت اذا أطرد هذا التقدم ان يستولي محمد علي باشا على عرش السلطنة ويمد نفوذ الدولة المصرية الى ضفاف البوسفور والدردنيل والبحر الاسود فيؤسس دولة قوية تقوم على انقاض السلطنة العثمانية المتداعية الاركان المختلة النظام، وليس مما يوافق سياسة الروسيا ان يقع هذا الانقلاب لانه يحول دون تحقيق اطماعها في الوصول الى البواغيز والبحر الابيض المتوسط، فبادرت الى التدخل لمعاونة تركيا، واوفدت الجنرال مورافييف الى السلطان محمود ليعرض عليه استعدادها للدفاع بقواتها البرية والبحرية عن السلطنة العثمانية، ومعنى هذا الدفاع من الروسيا بسط حمايتها الفعلية على تركيا، فهال فرنسا وانجلترا امر هذا التدخل وخشيتا على سياستهما ومصالحهما ان تستهدف للخطر اذا بسطت الروسيا حمايتها او نفوذها في تركيا، واتقاء لهذا الخطر بذلنا جهودهما لوقف تقدم الجيش المصري حتى لا تجد الروسيا مسوغا لحماية تركيا، ففرنسا وانجلترا لم تقصدا من تدخلها في المسالة المصرية والمسالة الشرقية مصلحة مصر ولا مصلحة تركيا، بل كانتا تعملان لتحقيق اغراضها الذاتية.

واستخدمت فرنسا علاقاتها الودية مع مصر لاقناع محمد علي بتسوية الخلاف بينه وبين السلطان، واوفدت الى الاستانة الاميرال روسان سفيرا لها ليسعى في فض الخلاف بين تركيا ومصر ويمنع التدخل الروسي.

وبذلك صارت مصر قبلة انظار الدول الاوروبية، اذ كان مناط آمالهن اقناع محمد علي باشا بتسوية الخلاف مع تركيا حتى لا يدي تدخل الروسيا الى ازمة اوروبية قد تنتهي بتحكيم السيف بينهن.

فعلى خطة مصر في ذلك الحين كان يتوقف التوزان الاوروبي، من اجل ذلك وفدت رسل التفاهم على محمد علي باشا من كل صوب.

فجاء الجنرال مورافييف الى الاسكندرية، وقابله وعرض عليه الوساطة بينه وبين السلطان، فاكرم محمد علي وفادته واحسن لقاءه، ولكن تمسك بوجهة نظره.

وكذلك ارسل السلطان بايعاز من السفارة الفرنسية مندوبا عنه وهو خليل باشا ليفاوض محمد علي في حسم الخلاف وديا، وارسل الاميرال روسان الى محمد علي يطلب اليه الا يشتط في طلباته حقنا للدماء، وان يكتفي من فتوحه بولايات صيدا (عكا) وطرابلس والقدس ونابلس.

فرفض هذه الشروط واصر على ضم سورية وولاية ادنه الى مصر، وق اصر على الاحتفاظ باقليم ادنه وهو من صميم الاناضول لما اشتهر عنه من كثرة مناجمه ووفروة اخشابه، ولانه ينتهي بجبال طوروس التي اراد محمد علي جعلها الحد الفاصل بين مصر وتركيا، أما تركيا فقد ازدادت خضوعها للروسيا ورضيت ان تحميها بقواتها البحرية والبرية، فجاء اسطول روسي ورسا في مياه البوسفور، ونزلت قوة من الجنود الروس الى الشواطئ التركية الاسيوية لتدفع غزوة الجيش المصري.

وقد رأى محمد علي باشا ان الدول انما تسعى الى هضم حقوق مصر ارضاء لتركيا، فوقف تجاهها موقفا مشرفا استمسك فيه بحقوق مصر، وبعث في هذا الصدد برسائل عدة تدل على قوة يقينه ومضاء عزيمته، واهما الخطاب الذي ارسله الى الاميرال روسان سفير فرنسان في الاستانة بتاريخ 8 مارس سنة 1833 ردا على رسالته اليه، قال فيه:

"تلقيت رسالتكم المؤرخة 22 فبراير التي تسلمتها من ياوركم والتي تعترضون فيها على وتعلنوني بأن لاحق لي في المطالبة بما عدا بلاد عكا والقدس ونابلس وطرابلس الشام، وان الواجب علي أن أسحب جيشي فورا، وتنذروني باني في حالة الرفض استهدف لاخطر العواقب، وقد اضاف ياوركم شفويا بناء على تعليماتي باني اذا بقيت متمسكا بمطالبي فسيجئ الاسطول الانجليزي والروسي الى سواحل مصر.

"على اني يا جناب السفير اتساءل باي حق تطلبون مني هذه التضحية؟ ان امتى باجمعها تؤيدني في موقفي، وان في استطاعي بكلمة مني ان احرض شعوب الرومللي والاناوضل على الثورة فيلبو ندائي، ويمكنني بتأييد امتى ان افعل اكثر من ذلك، لقد امتدت سيطرتي على اقطار عدة، والنصر حليفي في كل الميادين، ومع ان الراي العام يؤيدي في امتلاك سورية باكملها فاني قد وقفت زحف جنودي رغبة مني في حقن الدماء ولكي يتسع الوقت امامي لاتعرف ميول الدولة الاوروبية، ومقابل هذا الاعتدال وحسن النية وتلك التضحيات العديدة التي بذلتها امتي، والتي نلت الانتصارات الباهرة بفضلها وبفضل تأييدها لي، تطلبون من ان اتخلى عن البلاد التي فتحتها وان انسحب بجنودي الى منطقة صغيرة تسمونها ولاية! اليس في هذا حكم علي بالاعدام السياسي؟

"على أن لي ملء الثقة الا تأبى فرنسا وانجلترا الاعتراف بحقوقي ومعاملتي بالانصاف فان ذلك مرتبط بشرفها، واذا خاب املي فليس امامي الا ان اذعن لقضاء الله، وهنالك اوثر الموت الشريف على احتمال الذل والعار، وسأبذل نفسي بكل ابتهاج فداءا لقضية امتي، مغتبطا بخدمة بلادي حتى آخر نسمة من حياتي، ذلك ما صممت عزمي عليه، وقد روى التاريخ امثلة عديدة لمثل هذا الاخلاص، ومهما يكن ما صممت عزمي عليه، وقد روى التاريخ أمثلة عديدة لمثل هذا الاخلاص، ومعما يكن فان لي وطيد الامل في انكم ستقدرون عدالة مطالبي وتزيدون اقتراحي الاخيرة التي قدمتها الى خليل باشا، وفي انتظار تحقيق هذا الامل قد كتبت لكم هذا الخطاب الودي الذي تسلمه مني ياوركم يدا بيد".

الاسكندرية في 8 مارس سنة 1833

محمد علي والي مصر

احتلال كوتاهية ومغنيسيا واقامة الحكم المصري في أزمير

وفي غضون ذلك تقدم ابراهيم باشا بجيشه فاحتل كوتاهية وصار على مسافة خمسين فرسخا من الاستانة، ثم انفذ كتيبة من الجنود احتلت مغنيسيا بالقرب من ازمير (انظر الخريطة الملحقة بهذا الفصل) ، وأنفذ رسولا الى ازمير ليقيم الحكم المصري بها، وقد وصل الرسول اليها ولم يلق بها مقاومة، وعزل حاكم المدينة طاهر باشا واقام بدلا منه احد اعيانها منصور زده (فبراير سنة 1833)، ورحبت المدينة بهذا الانقلاب، ولكن الاميرال روسان سفير فرنسا في الاستانة تدخل في الامر حتى لا يستفحل النزاع و تتخذ الروسيا احتلال ازمير ذريعة الى حماية تركيا، فارسل الى ابراهيم باشا يعترض على ما فعله رسوله في ازمير وينذره بقطع العلاقات ، فلم يسع ابراهيم باشا الا الاجابة بانه لا يقصد احتلال ازمير، وبذلك انتهى الخلاف وعاد الحاكم القديم الى منصبه (مارس سنة 1833).

اتفاق كوتاهيه

(أبريل - مايو سنة 1833)

بذلت فرنسا جهدها لحسم الخلاف بين محمد علي وتركيا، وجددت مساعها بين الفريقين، وكان ابراهيم باشا يتهدد تركيا بالزحف على الاستانة اذا لم تجب مطالبه، فاضطر الباب العالي الى الاذعان وارسل الى كوتاهية، حيث كان ابراهيم باشا يقيم بها، مندوبا عنه يدعى رشيد بك يصحبه البارون دي فارين سكرتير السفارة الفرنسية ليقوم بالوساطة بين الطرفين. وبعد مفاوضة دامت اربعة أيام تم الاتفاق على الصلح في 8 أبريل سنة 1833، وهو المعروف باتفاق كوتاهية، ويقضي بألن يتخلى السلطان لمحمد علي عن سورية واقليم ادنه، مع تثبيته على مصر وجزيرة كريت والحجاز مقابل ان يجلو الجيش المصري عن باقي بلاد الاناضول.

وقد صدرت التوجيهات السلطانية بمضمون هذا الصلح، وارسل الصدر الاعظم الى محمد علي وثيقة مكتوبة بفحوى هذه التوجيهات، وفيها اسناد ولاية سورية اليه والحقاها بولاية مصر وكريت.

ولكن هذا التوجيهات كان ينقصها اقليم ادنة، فبان من ذلك ان الباب العالي اراد الرجوع عن اتفاق كوتاهية بالنسبة لهذا الاقليم، وقد بقيت المسالة موضع خلاف بين الطرفين ووقف ابراهيم باشا جلاء الجيش حتى ينفذ الباب العالي ما تم الاتفاق عليه، فلم يسع السلطان الا ان يسلم التنازل عن ادنه، واصدر فرمانا في 6 مايو سنة 1833 بمضمون الاتفاق بتمامه، اعلن فيه تثبيت محمد علي باشا على مصر وكريت واسناد ولايات سورية اليه، وتجديد ولاية ابراهيم باشا على جدة مع مشيخة الحرم المكي، اي اسناد ادارة الحجاز الى عهدته، وتخويله ادارة اقليم ادنه.

وبمقتضى اتفاق كوتاهية صارت حدود مصر الشمالية تنتهي عند مضيق كولك بجبال طوروس، ويسمى بوغاز كولك تبعا التسمية التركية المضايق بالبواغيز (وترى موقعه على الخريطة).

وبذلك انتهت الحرب السورية بتوسيع نطاق الدولة المصرية وبسط نفوذها على سورية وادنه وتأييد سلطنها على كريت وجزيرة العرب.

ولا يغرب عن البال ان السلطان لم يقبل اتفاق كوتاهية الا مرغما، وكان يضمر السعي لنقضه اذا تهيأت له الفرصة في المستقبل، يدلك على ذلك انه لم يكد يقر صلح كوتاهية حتى عقد سرا مع الروسيا المعاهدة المعروفة بمعاهدة هنكار اسكله سي (8 يوليوة سنة 1833) وهي معاهدة دفاعية هجومية التزمت كل دولة بمقتضاها ان تساعد الدولة الاخرى اذا استهدفت لخطر خارجي او داخلي، وتهدت تركيا بان تاذن للاسطول الروسي بالمرور من البحر الاسود الى البحر الابيض المتوسط، وتسد البواغيز في وجه جميع السفن التابعة للدول الاخرى، ومؤدى هذه المعاهدة تخويل الروسيا مد يدها في شئون تركيا وبسط حمايتها الفعلية عليها ، وهذه المعاهدة لم يبرمها السلطان على ما فيها من مهانة لتركيا الا ليسعى في نقض اتفاق كوتاهية، لان تركيا لم تكن مهددة في ذلك الوقت بخطر خارجي او داخلي الا من ناحية مصر. فابرام معاهدة (هنكار اسكله سي) غداة اتفاق كوتاهية معناه ان تركيا لم تكن خالصة النية في ابرام هذا الاتفاق ولا في اقراره.

الحكم المصري في سورية

دخلت الشام في حكم الدولة المصرية بعد صلح كوتاهية الذي توج انتصارات الجيش المصري، واصبحت مصر المرجع الاعلى لحكومة الشام، وصار ابراهيم باشا حاكما عاما للبلاد السورية وقائدا للجيش المصري.

نظام الحكم المصري فيها

واخذ ابراهيم باشا في تنظيم سورية وتدبير امورها الادارية والسياسية والحربية، فعنى باقرار الامن والنظام في ربوعها، وامن الطرق، ومنع اعتداء البدو على غلات الاهالي واملاكهم وارواحهم.

واخ من الوجهة الحربية يعنى بتوطيد مركز مصر في سورية، فأمن حدودها الشمالية وعنى بتحصين مضايق جبال طوروس لصد هجوم الترك اذا حدثتهم انفسهم بالزحف على الشام، ورمم حصون عكا وأسوارها، وشيد الثكنات والمستشفيات، وخطط الطرق الحربية، واستقرت الحاميات المصرية في اهم المدن السورية.

وبلغ عدد الجيش المرابط في سورية نحو سبعين الف مقاتل رابط معظمه في الجهات الشمالية القريبة من الحدود التركية.

واتخذ ابراهيم باشا مقره العام في انطاكية لموقعها الحربي وقربها من التخوم الشمالية وعين محمد شريف بك (باشا) حاكما عاما على سورية سنة 1832 ولقب حكمدار عربستان، وظل في معظم سنوات الحكم المصري يتولى ادارة الايالات السورية جميعا.

وجعل سليمان باشا الفرنساوي على ايالة صيدا (عكا)، وعين اسماعيل بك سنة 1837 حاكما لولاية حلب، وعين محمود نامي بك احد خريجي البعثات المصرية محافظات لبيروت وبقى في هذا المنصب من سنة 1833 الى سنة 1840.

وجعل على ادارة الشئون المالية حنا بك بحري احد اعيان السوريين، فصار صاحب النفوذ الاكبر في ادارة شئون الحكومة واحوالها، وقد ذكر المسيو جومار ان تعيين احد السوريين الاكفاء في هذا المنصب الكبير دليل على رغبة ابراهيم باشا في اسناد كبار المناصب الى ابناء البلاد، وهو ما لم يكن مالوفا في عهد الادارة التركية، وقال الدكتور مشاقة ، وهو معاصر للحكم المصري:

"لم يمض على حصار عكا زمان حتى ارسل محمد علي تفويضا الى حنا البحري في سن النظامات لحكومة سورية على النمط الحديث، وكان حنا البحري على جانب عظيم من اصالة الراي، وله القدح المغلي في السياسة المدنية، وكان العدل والانصاف شانه والنزاهة زمامه، لا فرق عنده بين القوى المثري والضعيف الفقير او المسلم والذمي، وكان يعاملهم بالقسط والعدل حسب وصية محمد علي باشا الذي كان عارفا ان لا قيام للدولة الا بالعدل والانصاف".

وعين ابراهيم باشا لكل بلد متسلما اي حاكما يتولى ادارتها.

والف في كل مدينة يزيد عدد سكانها على عشرين الف نسمة مجلسا يسمى (ديوان المشورة) يتراوح عدد اعضائه بين 12 و21 عضوا ينتخبون من بين نبهاء (أعيان) البلد وتجارها، وتنظر هذه المجالس في مصالح كل بلدة ومطلوبات الميري واليها ترفع بعض الدعاوى للفصل فيها.

ووحد الادارة ووطد سلطة الحكومة المركزية، وابطل سلطة الامراء والرؤساء الاقطاعيين وخضد شوكتهم، وضرب على ايدي الاشقياء وقطاع الطرق وبسط رواق الامن في البلاد، ونظم طرق الجباية، وعامل الاهلين بالعدل والمساواة من غير تفريق بين الطبقات والمذاهب والاديان، وكان ذلك اجل اعمال الادارة المصرية في سورية.

ونشطت التجارة والزراعة في عهد الحكم المصري، فعمم ابراهيم باشا تربية دود القز (الحرير)، واكثر من غرس اشجار التوت لهذا الغرض، وغرس في ضواحي انطاكية اشجار الزيتون، وازدهرت زراعة العنب، وعنى باستخراج بعض المعادن ولاسيما الفحم الحجري في لبنان، وراجت التجارة واتسع نطاقها، وكثرت المعاملات بين سورية والبلاد الاوربية.

وقد كان دخل الولايات السورية اقل من الخرج اي ان غلاتها تقل عن نفقاتها، وخاصة لما يقتضيه الانفاق على الجيش الموزع على المدن من المال، فكانت الخزانة المصرية توازن بينها فتسد عجز الميزانية وتحتمل مصر هذا الغرم في مالها.

كانت الادارة المصرية في سورية رغم ما بها من عيون اصلح من الحكم التركي السابق، وحسب هذه الادارة فضلا انها اقرت الامن في البلاد واستنقذتها من الفوضى.

ويكفيك لتتحق مبلغ تقدم الادارة السورية في ظل الحكم المصري ان تقرأ ما كتبه مؤرخو سورية في هذا الصدد.

قال الاستاذ محمد كرد علي بك رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق خلال كلامه عن الفتح المصري:

"كان من اول اعمال ابراهيم باشا الجليلة في بلاد الشام ترتيب المجالس الملكية والعسكرية واقامة مجالس الشورى وغيرها من النظم الحديثة، وترتيب المالية، فجعل نظاما لجباية الخراج ومعاملة الرعايا بالمساواة والعدل، لا تفاوت في طبقاتهم ومذاهبهم، ولذلك لم يلبث الامراء والمشايخ وارباب النفوذ ان استثقلوا ظل الدولة المصرية. وتمنوا رجوع العثمانيين ليعيشوا معهم كالحلمة الطفيلية تمتص دماء الضعفاء، وينالهم من ذلك مصة الوشل، مع ان البلاد رات في ايام ابراهيم باشا ابطال المصادرات وتقرير حق التملك، وتوطد الامن في ربوعها، واحييت الزراعة والتجارة والصناعة، وعممت تربية دودة القز (الحرير)، واستخرجت بعض المعادن ولاسيما معدن الفحم الخجري في قرنايل (لبنان)، وفرض على لبنان 6782 كيسا يتقاضى الامير ضعفيها ويدخل في خزانته الخاصة المال الزائدة على المفروض.

"وأكد كثيرون ان بعمله هذا استعادت اكثر قوى حوران وعجلون وحماة وحمص وغيرها من اعمال الشام عمرانها القديم، واخربت بعض القلاع التي كان يعتصم بها الثائرون احيانا مثل قلاع جبل اللكام وقلعة القدموس، وقرب العلماء والشعراء، ورخص الاجانب في ارسال معتمديهم الى دمشق، وكانوا يمنعون من دخولها قبله، فينزل وكلاؤهم السواحل مثل صيدا وعكا وبيروت وطرابلس، ويقال على الجملة ان الناس حمدوا دولة محمد علي في الشام، ولم يتبرموا بها لو لم يقم ابنه ابراهيم باشا بايعاز ابيه بتجنيد الشبان ولو لم يثقل كاهل الاهلين بالضرائب، واقل الضرائب الشخصية 15 قرشا، واعظمها خمسمائة قرش، فان هذا مما نفرت منه بعض القلوب ولاسيما من كان يقع عليهم عبء معظمها مثل اهل حلب واهل دمشق".

وقال الدكتور اسد رستم احد اساتذة التاريخ بجامعة بيروت الامريكية لمناسبة الكلام عن محمود نامي بك محافظ بيروت في عهد ابراهيم باشا:

"لما عزم عزيز مصر على ارسال بعض ضباط بحريته الى فرنسا وانجلترا لاتمام علومهم وممارسة الفنون الحربية انتخب حسن افندي الاسكندراني وشنان افندي والامير محمود نامي وارسلهم الى فرنسا، فتلقى محمود علومه العالية وتخصص في الرياضيات، ولما رجع من فرنسا ، عينه محمد علي باشا محافظا لبيروت، وابقاه في هذا المنصب سبع سنوات (1833-1840) تنشقت بيروت في خلالها نسيما منعشا من الغرب المتمدن، فاستيقظت من سبات العصور الوسطى، وخطت خطوتها الاولى في سبيل رقيها الحديث، وكان محمد علي باشا وابنه ابراهيم وعامله الامير محمود نامي لبيروت اول العثمانيين الذين اخذوا الافكار الحديثة فيما يتعلق بالحكومة ولاادارة وهم اول من وضعها، وضع الاجراء والتنفيذ، نعم ان سلطتهم في بيروت كان مطلقة، ولكنهم احكموا التدبير واحجموا عن الحجم الاستبدادي، فشكلوا في هذه المدينة من سكانها مجالس تباحثوا مع اعضائها في جميع اعمالهم المتعلقة فكان هناك مجلس للمشورة يدعى مجلس شورى بيروت وديوان للصحة واخر للتجارة".

وقال سليمان بك ابو عز الدين احد ادباء سورية:

"على انه لا يسع المنصف الا الاعتراف بان المبادئ التي شاء محمد علي ان يؤسس عليها الادارة والقضاء في سوريا كانت صحيحة بوجه عام، لانها كانت ترمي الى تنظيم الاعمال وتوزيع الاختصاص بين هيئات مختلفة ومنع الاستبداد بتقييد الحكام وغيرهم من الموظفين بالنصوص القانوينة، وتدريب الاهلين على ادارة شئونهم المحلية، غير ان جهل الحكام كيفية تطبيق القوانين وفطرتهم الاستبدادية وعدم وجود مراقبة فعالة على اعمالهم وعدم مراعاة تقاليد البلاد وعادتها وكثرة الاضطرابات في البلاد حالت دون بلوغ الغاية التي وضعت تلك القوانين من اجلها، ولابراهيم باشا فضل خاص في السنين الاولى بعد الفتح في ضبط الاحكام وشدة مراقبة الحكام واجراء العدل بين الاهلين، وقد كان شديد الوطاة على المستخدمين الذين يحيدون عن السبيل القويم، فعاقب كثيرين منهم بالطرد والضرب والحبس للاعتداء على اهل البلاد او عدم النزاهة او غير ذلك مما يخرج عن جادة الاستقامة، فلو استمرت حكومة محمد علي في سوريا ناهجة هذا المنهج القويم الحكيم لملكت قلوب السوريين".

وقال في موضع آخر: "من التغييرات الاجتماعية التي نشات عن حكم محمد علي في سوريا اطلاق الحرية الدينية، ونشر روح الديمقراطية بالضرب على ايدي الزعماء والمتغلبين، ونزع السلطة من ايديهم، وانشاء العلاقة ما بين افراد الشعب وحكامه مباشرة، وتاليف مجالس مشورة تمثل الشعب بعض التمثيل ولها حق النظر في الشئون المحلية بعد ان كان النظر في جميع الشئون منوطا بحكام مستبدين".

ثم قال في موضع آخر: لم تقم حكومة محمد علي في سوريا باعمال علمية وادبية ذات شأن ، فالمدارس التي انشاتها كانت قليلة العدد والتاثير، وكانت في معظم الاوقات مشتغلة بالفتح وتسكين الاضطرابات واخماد الثورات ومقاومة الدسائس والاعتداءات الداخلية والخارجية، على ان قيامها في سورية مهد السبيل لنهضة علمية ادبية، لان تنظيماتها استوجبت اختبار المتنورين لادارة الاحكام والقيام بالاعمال القضائية والمالية والكتابية، وسهلت قدوم الافرنج عن مرسلين دينيين وتجار وغيرهم، فانشئت بواسطتهم المدارس، كما ان ارسال بعض الشبان لدرس الطب في القطر المصري واستخدام بعض السوريين في حكومة محمد علي باشا انشا صلة ادبية دائمة بين القطرين فامتدت تلك الصلة ونتائجها الى وقتنا الحاضر ، وأدخلت حكومة محمد علي روحا علمية الى البلاد في اعمالها، فانشات محجرا صحيا في بيروت وبذلت اهتماما يذكر في الامور الصحية، وكانت تجرى فيها حسب مشورة الاطباء الصحيحة كما فعلت في دمشق بانشاء مصارف للمياه الراكدة، واستخدام المهندسين في ذلك وفي الانشاءات التي تحتاج الى معرفة فنية".

هذا، وقد زار المارشال مارمون (الدوق دي راجوز)، سورية سنة 1834 فاجاب بما راه من اقرار السكينة والامن فيها، وكتب في رحلته يقول:

"اذا بقيت اعمال محمد علي وبقى الامن الذي بسطه فيما فتحه من البلاد كما صار اليه الان من الاستقرار الذي يدعو الى الاعجاب فان حالة هذه البلاد سينبه شانها وستتطور تطورا كبيرا.

ويقول المسيو لويس بلان المؤرخ الفرنسي في كتابه (تاريخ عشر سنوات):

"إذا اردنا ان نعرف ما افادته سورية من انتقالها من الحكم التركي الى حكم المصريين فما علينا الا ان نلقي نظرة على سهول انطاكية التي اكتست باشجار الزيتون وضواحي بيروت التي كثر فيها الكروم، والنشاط الذي انبعث في حلب ودمشق، صحيح ان محمد علي اظهر جنفا وقسوة في حكم سورية، ولكن في ظل هذا الاستبداد العارض الذي كان ضرورة ولزاما حيث سادت الفوضى في تلك البلاد، قد نالت سورية النظام والعمران".

الثورات في الشام

لكن الادارة المصرية في سورية لم تلبث ان اصطدمت بثورات محلية نشبت في مختلف الجهات ورزأت مصر بضحايا كثيرة، وحملتها متاعب وجهودا كثيرة لاخمادها.

فلنتكلم عن اسباب هذا الثورات.

وعد ابراهيم باشا السوريين بان يعفيهم من التجنيد ويخفض الضرائب ولا يكلفهم الا دفع الاموال الاميرية، وقد بر بوعده في السنوات الاولى من حكمه، فخفف عنهم بعض الاعباء المالية، واخذ في تنشيط الزراعة والتجارة، فشعر السوريين بالاطمئنان الى الحكم المصري وركنوا اليه.

ولكن هذه الحالة ما لبثت ان تبدلت لمااصدره محمد علي باشا الى ابنه في اواخر سنة 1833 واوائل سنة 1834 من الاوامر التي اثقلت كاهل الاهلين باعباء فادحة وهي: أولا: احتكار الحرير في البلاد السورية. ثانيا: اخذ ضريبة الرءوس من الرجال كافة على اختلاف مذاهبهم. ثالثا: تجنيد الاهالي. رابعا: نزع السلاح من ايديهم.

وقد تبرم الاهالي بهذه المحدثات وتذمورا منها، لان احتكار الحكومة للحرير من شانه الحاق الضرر بمنتجيه ومنع تنافس التجار على شرائه وحرمان المنتجين مكاسبهم منه.

وقد نفروا كذلك من ضريبة الرءوس وخاصة المسلمين لانهم ما كانوا ملزمين بها من قبل، وزاد في تذمرهم تسخير الحكومة للأهالي في الاعمال العامة.

وكانت التجنيد ونزع السلاح اهم الاسباب المباشرة التي افضت الى الثورة، فقد نفذ التجنيد بطريقة قاسية تثير الخواطر، وكان كثير من المجندين يرسلون الى جهات لا يقع على اهلهم شيء من اخبارهم فيها، وجاء نزع السلاح ثالثة الاثافي، لان معظم الاهالي كانوا يحملون السلاح ليدفعوا به سطوات البدو والرحل وعدوانهم، فانتزاع السلاح من ايديهم امر لا تقبله نفوسهم عن طاعة واختيار، ومن هنا نشات الثورات والفتن.

وقد كان للدسائس التركية والانجليزية عمل كبير في تحريك تلك الثورات، فان الترك والانجليز ما فتئوا يستفزون السوريين الى الثورة ويوزعون عليهم الاسلحة ويحرضونهم على القتال ويستميلون اليهم رؤساء العشائر والعصبيات، تارة بالمال وطورا بالوعود، حتى افلحوا في تهيئة البلاد للثورة، كما ان بعض اصلاحات ابراهيم باشا كانت من اسبابها، فقد مر بك ان ابطل سلطة الرؤساء الاقطاعيين وضرب على ايدي الاشقياء وقطاع الطرق الذين كانت لهم سطوة كبيرة في بعض البلاد، فؤلاء اولئك قد ساءهم انتزاع السلطة من ايديهم، فكانوا مدفوعين بوازع المنافع الشخصية الى تحريض الاهلين على الثورة بالحكم المصري، قال الدكتور مشاقة في هذا الصدد خلال كلامه عن نظام الحكم المصري في سورية:

"هذا النظام وان يكن عادلا وشريفا قد كان باعثا قويا على كره الاعداء والمشايخ للمصريين حيث كف يدهم واوقف مطامعهم عند حد لا يمكن اجتيازه، وأمات استبدادهم بالشعب، وجعلهم امام الشريعة سواء لا امتياز ولا فرق بينهم وبين افراد الرعية، فحنقوا على الدولة المصرية وردوا ازالتها وارجاع الحكومة التركية".

وقائع الثورة

ثورة فلسطين

وصلت اوامر محمد علي بالمحدثات الجديدة الى ابراهيم باشا وكان في يافا ، فبادر من فوره الى اذاعتها بين القبائل وفي انحاء البلاد، فثقلت هذه الاوامر على الناس وطلبوا رفعها، فلم يجابو الى طلبهم، فظهرت بوادر الاضطرابات في فلسطين.

ابتدأت الثورة على شواطئ نهر الاردن بالقرب من بيت المقدس في شهر ابريل سنة 1834، وتواطأت القبائل في هذه الجهات على الا يذعنوا لتلك الاوامر، وفي هذا اعلان للثورة.

فلما اعلم ابراهيم باشا بنبا هذا العصيان سار بالجيش من يافا الى بيت المقدس، قد كان لمبادرته تاثير كبير اضعف عزيمة الثوار، وهناك جمع نبهاء القوم واكابرهم (ابريل سنة 1834) فاستوضحهم مقصدهم، فاجابوه بانهم لا يعارضون في احتكار الحكومة للحرير، ذلك يؤدون الضريبة ضعفين ويقدمون بعض اولاد المشايخ رهينة لضمان طاعتهم واخلاصهم، غير ان ابراهيم باشا ابى ان يتهاون في تنفيذ اوامر ابيه، فاستمهلوه مدة يراجعون قومهم وعشريتهم، وانفض الاجتماع على غير طائل، وعاد ابراهيم باشا الى يافا ينتظر الجواب الاخير الذي وعد المجتمعون بابلاغه اياه بعد مشاورة الاهالي، ولكي ينتظر ورود النجدات والتعليمات من مصر، وكانت انتشار الوباء في هذه الجهات مما دعاه الى التعجيل بمغادرة بيت المقدس فاثر البقاء في يافا اذ لم يكن الوباء وقع فيها.

اخذت الثورة تستفح ، وخاصة لما ذاع بين الاهالي من ان تركيا تتاهب بجيش جديد لاسترجاع الشام من محمد علي، فجنح البدو الضاربون بجوار البحر الميت الى العصيان، وامتدت الثورة الى نابلس.

قمع العصيان

كان زعماء العصيان في تلك الجهات حاكم نابلس المسمى الشيخ قاسم الاحمد، وهو من رؤساء العشائر ذوي العصبيات القوية، وكان منهم زعيم آخر لا يقل عنه نفوذا ومكانة وهو أبو غوش صاحب قريبة العنب الواقعة بين بيت المقدس ويافا.

هاجمت جماعة أبو غواش المخافر المصرية المعهود اليها تامين السبيل بين يافا وبيت المقدس من سطو قطاع الطرق، فقفلت الحامية راجعة الى يافا لقلة عددهم ازاء المهاجمين.

وكذلك هاجم العصاة حامية بيت المقدس، وكانت تبلغ الف مقاتل، فقتل منهم خمسون جنديا واضطر القائد الى الامتناع في قلعة المدينة حتى يأتيها المدد.

فلما علم ابراهيم باشا بهذه الواقعة انفذ الايا من الفرسان بقيادة الميرلاي حسن بك لنجدة الحامية وللتنكيل بقبيلة ابي غواش، ولكن النجدة المصرية لم تقو على مقاومة العصاة، ورجعت مهزمة مضعضعة بعد ان قتل قائدها ونحو ثلاثين من جنودها، وتكاثر الثوار على القدس واقتحموا باب داود (من ابواب المدينة) ودخلوا منه ، ووقع قتال شديد بينهم وبين الحامية المحصورة في القلعة، ونهبوا حوانيت المدينة وبعض بيوت لليهود، كذلك هاجم العصاة الخليل وقتلوا حاميتها وكان عددها 200 جندي.

فلما علم ابراهيم باشا باستفحال الثورة جمع جيشا من ستة آلاف جندي وقام على راس هذا الجيش. فسار من يافا في شهر يونية سنة 1834. وزحف على معقل العصاة في قرية العنب التي امتنع بها جماعة ابي غوش، وكانت محصنة تحصينا منيعا، فحاصرها الجيش المصري واستمر القتال حولها ثلاثة أيام متوالية، وفي اليوم الثالث دخل المصريون القرية، فكان سقوطها في يدهم سببا في تشتيت العصاة، واحتل المصريون الطرق المفضية الى بيت المقدس وفرق الجيش جموع العصاة ودخل المدينة بعد ان فر كثير ممن انضموا الى الثوار، ووقعت ثلاث معارك بين الجيش المصري والعصاة كان النصر فيها للمصريين.

على ان هذا القتال قد حمل الجيش خسائر جسيمة ومتاعب هائلة، فتحصن ابراهيم باشا في بيت المقدس.

وفي غضون ذلك عمل على التفريق بين القبائل وضرب بعضها ببعض على الطريقة التي اتبعها في حرب الحجاز، وافلح في استمالة بعض القبائل فتفككت عراها، وعقد سليمان باشا الفرنساوي اتفاقا مع اولاد ابي غوش تعهدوا فيه ان يؤمنوه على اجتياز معاقلهم وان يوالوا الحكومة المصرية على ان تطلق سراح ابيهم الذي كان سجينا في عكا، وعلى العفو عنهم، وبذلك امنت الطريق بين يافا وبيت المقدس.

وفي اثناء ذلك عرض الشيخ قاسم حاكم نابلس على ابراهيم باشا ان يقدم طاعته على ان يعفي النابلسيون من الخدمة العسكرية، وجرت بينهما في هذا الصدد مفاوضات، فلما تم الاتفاق مع جماعة ابي غوش واستوثق ابراهيم باشا من ولائهم قطع تلك المفاوضات.

حضور محمد علي باشا

لما استفحل امر الثورة عتزم محمد علي باشا المجئ الى فلسطين ليطمئن بنفسه على الموقف وليشرف على حركات القتال التي كان الغرض منها قمع العصيان، فحضر الى يافا يصحبه عدد كبير من الجند، وكان ابراهيم باشا وقتئذ في القدس، فذهب لاستقباله في يافا.

وكان العصيان قد امتد الى صفد، فقطع اهلها الطرق ونهبوا اليهود، فعهد محمد علي الى الامير بشير الشهابي حاكم جبل لبنان، وكان على ولاء تام للحكومة المصرية، ان يخمد هذا العصيان ، فصار بالامر وزحف على صفد وحاصرها وسلمت من غير قتال واعاد العصاة ما نهبوه من اليهود.

وقد بر ابراهيم باشا بوعده لآل ابي غوش فاطلق سراح زعيمهم وعين احد ابنائه متسلما (حاكما) للقدس.

اخماد الثورة

وجرد جيشا لمحاربة الشيخ قاسم حاكم نابلس، فدار قتال شديد بينهما انتهى بهزيمة الشيخ قاسم وفراره مع اتباعه الى الخليل.

وفي غضون ذلك عاد محمد علي باشا الى الاسكندرية بعد ان اطمأن من ناحية الجيش المصرية ومركزه، فوصل الى الاسكندرية في يوليه سنة 1834.

احتل الجيش المصري قرى نابلس: ثم تعقب الشيخ قاسم ورجاله الاشداء الى الخليل، وتطاحن الفريقان ثلاث ساعات انكسر بعدها الثوار، فدخل الجيش الخليل وانسحب المنهزمون الى الكرك والسلط فتعقبهم ابراهيم باشا الى الكرك ولقى جنوده مشقات هائلة في هذه الحملة لاشتداد القيظ والعطش، وسقط منهم نحو ثلثمائة مصابين بالرعن (ضربة الشمس)، واحتل الجيش المصري الكرك، وحمى القتال حول قلعتها التي اعتصم بها الثوار، وتكبد المصريون خسائر جسيمة في هجومهم على القلعة وارتدوا عنها قليلا ريثما تبلغهم المدفعية، فانتهز الثوار هذه الفرصة واخلوا القلعة واسنلوا منها الى السلط، وتقدم ابراهيم باشا الى السلط فسلم اهلها من غير قتال.

وفر الشيخ قاسم ومن معه من زعماء العصيان الى البادية، ونزلوا على عرب عنزة، ولكن ابراهيم باشا تعقبهم وما زال بهم حتى اخذهم جميعا وقتلهم، وبذلك تم اخماد الثورة في فلسطي، واذعنت القبائل لسطوة ابراهيم باشا وشدة بأسه.

اضطرابات اخرى

وقد هاجت الخواطر في دمشق لما اوقع التجنيد من الحزن في نفوس اهالي المجندين، وفر عدد كبير من الناس الى البادية والى الجبال، وخشى شريف باشا والى ايالات الشام ان يعم الهياج، وخاصة بعد ورود انباء ثورة فلسطي، وفكف عن التجنيد ، لكنه جمع السلاح من ايدي الاهالي.

وكذلك وقعت اضطرابات في طرابلس سنة 1824 وائتمر الاهلون بالحامية، فاضطرت ان تنسحب الى الميناء، فارسل ابراهيم باشا المدد الى طرابلس، وعاقب مثيري الفتنة باعدام ثلاثة عشر منهم وثارت الفتن في عكار وصافيتا والحصن. فاخمدتها القوة المسلحة، ووقعت كذلك اضطرابات أقل شانا منها في حلب وانطاكية وبعلبك وبيروت.

ثورة النصيرية

وشهدت الثورة في بلاد النصيرية شرق اللاذقية في اكتوبر سنة 1834، وكانت اهم ثورة بعد ثورة فلسطين، وهاجم الثوار اللاذقية فامدها ابراهيم باشا، وزحفت قواته على بلاد النصيرية ونشبت معارك عدة بينها وبين الثوار انتهت بانتصار الجش المصري ونزع السلاح من ايدي الثوار وتجنيد نحو اربعة آلاف من اهل تلك البلاد.

وقد نفذ ابراهيم باشا قاعدة نزع السلاح والتجنيد في البلاد التي اخمد الثورة فيها، واستتب الامن في ربوعها، وكان البنانييون يعاونون الجيش المصري في اخماد تلك الثورات فترك لهم سلاحهم الى سنة 1835 ثم عمد الى تجريدهم منه وبدا بالدروز وخادع المسيحيين انه لا يريد نزع اسلحتهم، فعاونوه على تجريد الدروز، وبعد ان تم له ذلك عاد الى اولئك فجردهم من سلاحهم، واستتبت السكينة في سورية ولبنان، فعمدت الحكومة الى تجنيد الاهالي من البلاد كافة، وترتب على ذلك فرار الكثير من الشبان الى البادية مما اضر بالحالة الاقتصادية ضررا بليغا.

ثورة حوران

كان ابراهيم باشا قد اعفى دروز حوران من التجنيد، ثم تراءى له ان يطبق عليهم نظام التجنيد، وحجته انه في حاجة الى زيادة عدد الجيش استعدادا لمقاومة هجوم العثمانيين الذي جاءت الاخبار بقرب وقوعه.

فتمرد الدروز على طلب حكومة دمشق، وكان من ذلك نشوب ثورة خطيرة في حوران (نوفمبر سنة 1837) وهي شاد ثورة عاناها الحكم المصري في سورية.

انفد ابراهيم باشا ثلاث حملات لكفاح تلك الثورة واخمادها، فالحملة الاولى الفها من 459 من فرسان الهوارة، ففازت في بدء القتال على الثوار في بصرى ولكن الثوار استدرجوها الى الجهات الجبلية الوعرة فيبلاد اللجاة، وامر قائد الحملة بالزحف عليها، حتى اذا بلغ الوعر وانحصر فيه، انقض عليه الدروز، فدارت بين الفريقين معركة بطش فيها الدروز بالحملة المصرية، فقتل قائدها وبادت الحملة قتلا واسرا وتشريدا.

ولما ابلغ ابراهيم باشا نبأ هذه الواقعة وكان في انطاكية اجمع لحملة جديدة يقودها بنفسه، لكنه علم باحتمال تقدم الترك نحو الحدود الشمالية، فاضطر الى البقاء في حلب وارسل الى ابيه يستمده. وطلب منه ان ينفذ اليه احمد باشا المنكلي وزير الحربية المصرية لقيادة الحملة، فجاء هذا على جناح السرعة، وقاد الحملة الجديدة وكان فيها 6000 مقاتل، وزحف على حوران، فاخذ الثوار يستدرجونها كما استدرجوا الحملة الاولى من قبل الى ان توغلت في الجهات الوعرة، فقاتلها الثوار في معركة انتهت بهزيمة الحملة، وخسرت من رجابها نحو اربعة آلاف بين قتيل وجريح، وجرح قائدها احمد باشا المنكلي جراحا بالغة.

تصدعت هيبة الجيش المصري بانتصارات الدروز، واستشرت الثورة من حوران الى وادي التيم فثار الدروز فيها بقيادة (شبلي العريان) وقطعوا مواصلات الجيش.

وجهز ابراهيم باشا حملة ثالثة من عشرين الف مقاتل اطبق بها على ثوار حوران ووادي التيم.

ونشبت الحرب وكانت سجالا. الى ان انتهت بتسليم دروز (وادي التيم)، ثم تسليم شبلي العريان وانحصار الثورة في اللجاة ثم انتهت باخماد ثورة اللجاة (أغسطس سنة 1838).

وبذلك انتهت ثورة الدروز بعد ان استمرت تسعة اشهر تكبد فيها الجيش المصري خسائر فادحة، ولقى فيها الاهوال ما لم يلقه في اخماد الثورات السورية الاخرى.

وعنى عن البيان انه كان في امكان مصر ان تتفادى هذه التضحيات الاليمة والخسائر الفادحة لو لم يتشدد محمد علي باشا في تجنيد السوريين ونزع اسلحتهم، اذ لم يكن من الحكمة ولا من حسن السياسة ان تبادر دولة فاتحة الى تجنيد الاهالي في بلاد حديثة عهد بفتحها ولما يستقر بعد حكمها فيها، وخاصة اذا كان اهلها قد اعتادوا من قديم الزمن حمل اسلحتهم ولم يألفوا نظام التجنيد الاجباري، لما استهدف الجيش المصري لهذه الثورات الى اودت بحياة عشرة آلاف مقاتل ونيف، وذلك اكثر من العدد الذي استطاع تجنيده من السوريين، واكثر مما خسرته مصر في المعارك الحربية بسورية والاناضول، هذا فضلا عن ان اخماد الثورات بالقوة والجبروت قد اوغر صدور السوريين على الحكم المصري، فبعد ان استقبلوه في بدء الفتح بقبول حسن وفضلوه على الحكم التركي جنحوا بعد ذلك الى قديمهم ولقيت الدعاية التركية بينهم مرعى ومأوى.

على أنه يجب الا يغرب عن البال ما كان للدسائس الانجليزية والتركية من الاثر الكبير في تحريض السوريين على الثورة كما قدمنا، ولكن مما لا نزاع فيه ان هذه الدسائس ما كانت لتفلح لو لم تلجأ الحكومة المصرية الى اثارة الخواطر بنزع سلاح الاهلين وتجنيدهم جبرا، ومن جهة أخرى فان الحكومة المصرية رغبة منها في منع ورود الاسلحة الى البلاد امرت بمنع دخول جهة اخرى فان الحكومة المصرية رغبة منها في منع ورود الاسلحة الى البلاد امرت بمنع دخول السفن التركية الى الثغور السورية، وصدت ورود القوافل من جهات الاناضول، فاصاب التجارة من هذه وتلك ضرر كبير، وقد كان للدسائس الانجليية وسوء الحالة الاقتصادية في اواخر عهد الادارة المصرية اثر كبير في الحرب السورية التي شبت بين مصر وتركيا وحلفائها عقب ابرام معاهدة لوندره، فان الجيش المصري قد لقى فيها من مقاومة السوريين ما زاد مركزه جرحا كما سيجئ بيانه.

الحرب السورية الثانية وواقعة نصيبين

(24 يونية سنة 1839)

ما فتئت تركيا بعد هزيمتها في معركة قونية وابرامها اتفاق كوتاهية تعد المعدات وتبذل الوسائل لاسترجاع سورية واقليم ادنه الى حوزتها، فحشدت منذ سنة 1834 جيشا في سيواس تاهبا للزحف على سورية عند سنوح الفرصة، وعهدت بقيادته الى رشيد باشا قائد الجيش العثماني الذي اسر في واقعة قونيه، فاخذ يستعد للزحف آملا ان يظفر بالجيش المصري فيمحو ما لحقه من العار والهزيمة في واقعة قونية.

فتصميم تركيا على القتال واعتزامها استرجاع سورية بدا عقب هزيمتها في قونية، ولم يؤخرها عن امتشاق الحسام حتى سنة 1839 الا شعورها بانها اضعف جندا من مصر، فاخذت تتحين الفرصة المناسبة للثار. على انها ما فتئت طول هذه المدة تدس الدسائس لمصر في سورية وتحرض اهلها على الثورات وخلع ايديهم من الطاعة.

ثم توفى رشيد باشا سنة 1836، فخلفه في قيادة الجيش العثماني محمد حافظ باشا احد قواد تركيا المشهورين في ذلك العصر.

وفي خلال ذلك حدثت مفاوضات بين تركيا ومصر لتسوية الخلاف بينهما بطريقة ودية، فاوفد السلطان محمود سنة 1837 مدوبه (صارم أفندي) ليفاوض في ذلك محمد علي، لكن هذه المفاوضة اخفقت اذ لم يتفق الطرفان على شروط يقبلانها.

محمد علي واعلان الاستقلال

ولما اخفقت تلك المفاوضات وراى محمد عي دسائس الاستانة تزداد في سورية اعتزم اعلان الاستقلال ليقطع اخر سبب يربط مصر وتركيا، واستدعى وكلاء الدول في مصر واعلنهم بعزمه هذا (مايو سنة 1837).

وهذه هي المرة الثانية التي اعتزم فيها محمد علي اعلان الاستقلال، فالمرة الاولى سنة 1834 عقب الحرب السورية الاولى اذ صارح وكلاء الدول بما صمم عليه، فرفضت الدول طلبه، وحذرته من العاقبة ثم جدد عزمه سنة 1838 معتمدا على حق مصرن ولان استقلالها هو خير ضمانة لاستباب السلام في الشرق.

وكان محمد علي يعتقد ان الدول لا تعارضه في اعلان الاستقلال اسوة بما فعلته حيال اليونان، اذ عضدتها في تحقيق استقلالها وانفصالها عن تركيا وتاييدها في مطالبها القومية، ولكن الدول الاوروبية تنظر الى مصر بغير العين التي تنظر بها الى اليونان، فاعترضت على ما عزم عليه محمد علي، وحذرته من جديد عواقب عمله، وبدا تحيزها لتركيا جليا، وظهر تحاملها على مصر، مما جرأ السلطان محمود على التحرش بمحمد علي، فادى ذلك الى وقوع الحرب السورية الثانية.

مقدمات الحرب السورية الثانية

كان سفير انجلترا في الاستانة (اللورد بونسونبي) يحرض الباب العالي على التشدد في شروطه، مما ادى الى اخفاق المفاوضة، وكانت انجلترا لا تفتأ تضع العراقيل امام سياسة محمد علي وتؤلب تركيا والدول الاوروبية على مصر.

فمن ذلك انها توصلت في سنة 1839 الى عقد معاهدة تجارية مع تركيا، من شروطها الغاء الاحتكار في جميجع انحاء السلطنة العثمانية، وكان المفهوم ان هذه المعاهدة تسري على مصر لانها كانت الى ذلك الحين جزءا من السلطنة، وقد وافقت فرنسا على هذه المعاهدة (نوفمبر سنة 1838) لان ظاهرها يوافق المبادئ الانسانية، ولم يكن من سبيل الى رفض مثل هذه المعاهدة.

وقد فطن محمد علي باشا الى ان المقصود من وضعها هو احراجه، فلم يعلن اعتراضه عليها ولا قبوله اياها، وتغيب عن مصر ذاهبا الى السودان في رحلة طويلة، واظهر انه ماض للبحث عن مناجم الذهب في فازوغلي وتنظيم حكومة السودان، ولكنه كان يقصد الغياب حتى لا يواجه طلبات وكلاء الدول.

وكانت تركيا تزداد تحفزا لتجريد جيشها على سورية، ولم يكن غرضها استرجاع سورية فحسب، بل كانت ترمي اذا ما ظفرت بالجيش المصري ان تستمر في زحفها حتى تغزو مصر، واخذت حركات الجيش العثماني تزداد نشاطا بالقرب من التخوم السورية.

وفي غضون ذلك بذلت الدول الاوروبية مساعي عدة لحل الخلاف بالطرق الودية بين الدولتين (مصر وتركيا) فاخفقت في مساعيها لان انجلترا كانت من وراء تركيا تحرضها على القتال.

خطة الترك في الزحف على الشام

حصن المصريون مضيق كولك من مضايق جبال طوروس تحصينا منيعا، اذ هو طريق الزحف على سوريا من ناحية الاناضول ، فشيدوا فيه القلاع المحكمة، وركبوا فيها المدافع الضخمة على الاساليب الهندسية الحديثة، وبلغ عدد المدافع التي ركبها المصريون في قلاع المضيق ونواحيه 115 مدفعا.

وبلغت الحاميات المصرية في ولاية ادنة عشرة آلاف مقاتل، واصبحت مواقع المصريين من المنعة بحيث صار من المتعذر ان يهاجمها الجيش التركي، فاعتزم قائده حافظ باشا ان يدع اجتياز هذه المضايق ويزحف على الشام من جهات اورفه وديار بكر، حيث لا تفصلها عن الشام جبال وعرة كجبال طوروس.


فلما علم ابراهيم باشا بهذه الخطة حشد معظم جنوده حول مدينة حلب ليرقب حركات الجيش التركي ويصد هجماته من كل طريق يجئ منه، وكانت طلائعه ترابط في عينتاب وكليس القريبة من الحدود التركية.

عبور الترك نهر الفرات

ولما اتم حافظ باشا استعداده اعتزم عبور الفرات ليزحف على الشام، فعهد الى اسماعيل باشا احد قواده اجتياز هذا النهر عند بيرة جك الى عدوته اليمنى، فانتقل اسماعيل باشا الى الشاطئ الايمن يوم 21 ابريل سنة 1839، ووصل هذا النبا الى ابراهيم باشا، فارسل الى والده بمصر يساله ماذا يكون موقفه اذا هاجمه الاتراك كما تدل الدلائل، واخذ في الوقت نفسه يحشد الجنود في حلب ويزد موقفه مناعة في المدينة وما حولها، وارسل الطلائع من العربان لاكتشاف حركات الجيش التركي.

ارسال محمد علي المدد الى الشام

وكان محمد علي قد بلغه تقدم الجنود التركية نحو الحدود، فعلم انها الحرب لا محالة وامر بجمع الجند وانفاذهم الى الشام ومعهم الذخائر، وعهد الى وزير الحربية احمد باشا المنكلي ان يلحق ابراهيم باشا ليعاونه في الحرب المنتظرة، فكان سفر المنكلي باشا اعلانا بقرب وقوع القتال، وقد علم وكلاء الدول بعزم المنكلي باشا على السفر فتدخل قنصل فرنسا العام لدى محمد علي لوقف سفر وزير الحربية حتى لا تستعر نار الحرب ثانية بين تركيا ومصر، فطلب اليه محمد علي ان تعطيه الدول موثقا الا يزحف الجيش التركي على الشام، وفي مقابل ذلك يمنع سفر وزير حربيته بل ويستقدم ابراهيم باشا ايضا، فضمن له القنصل الفرنسي ذلك، وارتكن على خطاب بهذا المعنى جاءه من سفير فرنسا بالاستانة، وكان الحديث بحضور قنصل النمسا، فالتفت اليه محمد علي يساله: أتؤيد الرسائل الواردة له من السفير النمساوي ما يقوله قنصل فرنسا؟ فاجاب بالنفي، فلم يسع محمد علي الا ان صارح القنصلين بانه ازاء هذا التضارب يرى من واجبه ان يتخذ وسائل الاهبة والاحتياط، وانفذ من فوره وزير الحربية الى حلب، فوصل اليها بعد تسعة ايام من مغادرته مصر، وكانت الحرب قاب قوسين او ادنى.

حركات الجيش التركي قبيل واقعة نصيبين

احتشدت طلائع الجيش التركي في قرية نصيبين وحولها، وهي بلدة واقعة في الاراضي العثمانية ، لكنها على مسيرة ساعات قليلة من الحدود التركية السورية.

واخذ حافظ باشا يستعد للزحف، فاحتل طلائعه من القرى ما حول مدينة عينتاب واجتازت سرية من الجيش التركينهر الساجور، وهو الحد الفاصل بين سوريا وتركيا، فتخطت بذلك الحدود المرسومة في اتفاق كوتاهية، وتقدمت القوات التركية فاحتلتقرية تل باشر بعد ان قتلوا واسروا فريقا من حاميتها التي كانت مؤلفة من خمسمائة من عرب الهنادي.

وفي غضون ذلك كان ابراهيم باشا قد ارسل الي ابيه نبا تخطى الاتراك حدود الاتفاق وساله ما يامر به حيال هذا الاعتداء، ولم ينتظر ورود جواب ابيه، بل قام بجيشه من حلب لاجبار الاتراك على اخلاء تل باشر، ولكن هؤلاء اخلوا البلدة اثر وصول الجنود المصرية (3 يونيه سنة 1839) ثم احتل الترك مدينة عينتاب واخلتها الحامية المصرية.

وفي منتصف يونيه ورد جواب محمد علي باشا يعهد الى ابنه بالا يكتفي بارجاع الاتراك الى الحدود، بل عليه حربهم وسحق جيشهم ما داموا لم يراعوا العهود والمواثيق، فلما تلا ابراهيم باشا الجواب اطمأن اليه، فاصدر اوامره الى قواده بالاستعداد لمهاجمة الجيش التركي الذي احتشد في نصيبين.

قوات الطرفين

كان الجيش التركي يتالف من 38 الف مقاتل ويحتل مواقع حصينة، ولم يكن ينقصه القواد الاكفاء لان فريقا من الضباط الالمان وعلى راسهم القائد الشهير البارون دي مولتك الذي انتصر فيما بعد على الفرنسيين في الحرب السبعينية كانوا يرافقون القواد الترك، وهم الذين تولوا تحصين نصيبين حتى جعلوها من امنع المواقع الحربية، ولو ان الامر ترك كله للقواد الالمان لكان الحظ في معركة نصيبين متراوحا بين الجيش المصري والتركي، ولكن القواد الاتراك وعلى راسهم حافظ باشا لم يعملوا بنصائح دي مولتك وزملائه اثناء القتال، فدارت الدائرة على الجيش التركي.

أما الجيش المصري فكان عدده اربعين الف مقاتل، فالجيشان كانا متقاربين من جهة العدد، لكن الجيش المصري كان يفوق جيش الترك في النظام وبراعة القيادة، ودربه جنوده، ومرانهم على القتال، وثقتهم بانفسهم وبقوادهم الذين خاضوا واياهم المعارك ورفعوا معا علم النصر من قبل، فكان لهذه الميزة تاثير معنوي كبير في نفوس الجنود، هذا فضلا عن ان الجيش المصري كان مؤلفا من جنس واحد وهم المصريين، اما الجيش التركي فكان اخلاطا من الاتراك والاكراد وسائر عناصر السلطنة العثمانية.

واقعة نصيبين

(24 يونيه سنة 1839)


اعتزم ابراهيم باشا ان يتبع خطة الهجوم في واقعة نصيبين، فحشد الجيش مشاة وركبانا على ضفاف نهر الساجور الذي كان يفصل الحدود المصرية والتركية.

وتحرك يوم 20 يونيه سنة 1839 صوب قرية مزار ليتخذها قاعدة الهجوم.

وتقع هذه القرية جنوبي نصيبين بغرب، وهي على ساعتين من معسكر الجيش التركي (أنظر خريطة الواقعة ص 279).

لم يلق المصريون مقاومة تذكر في احتلال مزار فقد اخلتها الحامية التركية وانسحبت منها الى معسكر الجيش في نصيبين، ورتب ابراهيم باشا مواقع جيشه في ضواحي مزار بالعدوة اليسرى من النهر المسمى باسمها.

وفي اليوم التالي 21 يونيه استقر راي ابراهيم باشا على اكتشاف مواقع الاتراك اولا لمعرفة الجهة الضعيفة فيهاجمهم فيها، فسار بصحبة سليمان باشا لارتياد هذا الاكتشاف ومعهما قوة مؤلفة من الف وخمسمائة من العرب واربعة الايات من الفرسان وبطاريتان من المدافع، واقتربوا من مواقع الاتراك، فانفذت القيادة التركية بعض كتائب من الفرسان النظاميين ومن الجنود غير النظامية (الباشبوزق) فاشتبكوا مع طلائع الجيش المصري في مناوشة ارتدوا على اثرها الى مواقعهم، وتعقبهم المصريون، فامكنهم اكتشاف التحصينات المنيعة التي اقامها الاتراك امام نصيبين، فادرك ابراهيم باشا انه يتعذر بل يستحيل على الجيش المصري ان يستولي على معسكر الجيش التركي مواجهة، وعاد يجهد الفكر في الخطة التي تكفل له الفوز على خصمه، فراى ان خير وسيلة يتبعها هي الدوران حول مواقع الترك ليهاجمهم من الخلف.

وغداة هذا اليوم 22 يونيه شرع ابراهيم باشا ينفذ هذه الخطة واخذ ينسحب من مواقعه الاولى استعدادا لحركة الالتفاف.

اما حافظ باشا فقد جمع مجلسا حربيا ليقرر الخطة الواجب اتباعها حيال هذه المناورة، فكان راي البارون دي مولتك وزملائه الالمان ان يهاجموا المصريين اثناء حركة الالتفاف وقبل ان ترسخ اقدامهم في المواقع الجديدة، لكن حافظ باشا وزملاءه الاتراك لم يقبلوا هذا الراي السديد، وابو ان يغادروا مواقعهم واستحكاماتهم المنيعة ويغامروا بقواتهم في مهاجمة الجيش المصري في العراء وفي سهل مكشوف خال من الاستحكامات التي تحميهم، واستقر رايهم على البقاء في معاقلهم بنصيبين.

انفذ ابراهيم باشا حركة الالتفاف، فترك مواقعه الاولى، وسار مشرقا ، محاذيانهر مزار ثم نهر كرزين بعد ان يلتقي هو ونهر مزار، ثم انعطف شمالا حتى بلغ الطريق الموصل من حلب الى بيرة جك والمفضي الى ما وراء مواقع العدو في نصيبين، فسار في ذلك الطريق الى ان بلغ قنطرة هركون القائمة على نهر كرزين وامر الجيش بعبور النهر على هذه القنطرة، ولو ان حافظ باشا فكر في مفاجاة الجيش المصري اثناء هذا العبور حيث كان قواته موزعة على جانبي النهر لكان محتملا ان تتغير مصاير الواقعة، لكن القيادة التركية كانت في غفلة من الجمود وعدم الكفاية، فتركت هذه الفرصة تفلت من يدها، وعبر الجيش المصري باجمعه نهر كرزين ليلا واحتش على الضفة اليسرى خلف معسكر الجيش التركي، وبذلك واجهه من الجهة الضعيفة، فاضطر حافظ باشا ان يدير وجه جيشه ليواجه الجيش المصري في مواقعه الجديدة، واقام استحكامات على عجل بدلا من الاستحكامات القديمة التي كانت امام وجهته القديمة ولم يعد لها بعد ان تغير موقف الجيشين وانقضى يوم 23 يونيه والجيشان يتاهبان للقتال.

وفي ليلة 24 يونيه سنة 1839 هاجم حافظ باشا المصريين في جنح الليل املا ان ياخذهم على غرة ويوقع الفشل في صفوفهم، ولكنه ارتد بعد ان فتكت نيران المدافع المصرية بعدد كبير من جنوده، واستمر ابراهيم باشا تلك الليلة يتاهب لمهاجمة الاتراك في صبيحة الغد.

الواقعة

ففي صبيحة ذلك اليوم، 24 يونيه، بدات المعركة طبقا لخطة الهجوم التي رسمها ابراهيم باشا، وكان الجناح الايمن للجيش التركي يرتكز على اخوار عميقة لا سبيل الى اجتيازها، والقلب تحميه الاستحكامات التي اقامها الترك، اما الجناح الايسر فكان يمتد الى نصيبين ويتجاوزها قليلا مرتكزا الى غابة من اشجار الزيتون، فراى ابراهيم باشا ان نقطة الضعف انما هي في هذه الناحية، فقرر مهاجمة الجناح الايسر، وامر يتقدم الصفوف المصرية لانفاذ هذه الخطة.

كان في هذه الخطة خطر كبير على الجيش المصري، اذ لم يكن له من سبيل الى مهاجمة الجيش التركي من هذه الناحية الا اذا سار امام جناحه الايمن، ثم امام القلب، وبذلك تتلقفه نيران الترك اثناء مسيره، ولكن القيادة التركية لم تغتنم هذه الفرصة، وبقى حافظ باشا غارا في معاقله لا يبي حراكا، وصمم على ان يدخر قوته الى ان يهاجمه المصريون، وترك الجيش المصري ينتقل الى مواقعه الجديدة، ولقد رتب ابراهيم باشا خطة الانتقال والهجوم باحكام ودقة وفطنة استرعت اعجاب الضباط الاوروبيين الذين كانوا في معسكر الجيش التركي، فقد شهدوا بان حركات الجيش المصري كانت تسير طبقا لخطط الجيوش الاوروبية المدربة على ارقى فنون القتال العملية.

ومما دل على براعة ابراهيم باشا في وضع الخطط الحربية انه راى اكمة عالية (نمرة 22 على الخريطة ص 279) تجاه مسيرة الاتراك وقد اهملوا احتلالها، فامر لفوره سليمان باشا الفرنساوي الذي كان على ميمنة الجيش المصري باحتلال تلك الاكمة، فبادرها ومعه فريق من الفرسان والمدفعية ونصبوا عليها المدافع، فانكشفت أمام نيرانها مواقع الترك، وكانت هذه الحركة مفتاح النصر في واقعة نصيبين.

وقد تنبه الترك الى خطتهم في اهمال تلك الاكمة، وحاولوا ان يحتلوها، ورماها حافظا باشا بقوة من فرسانه لاقصاء المصريين عنها، ولكنهم عجزوا عن مقابلة النيران التي سلطها عليهم حماة الاكمة وابطالها، فارتدوا عنها الى مواقعهم الاولى.

ولما اكتمل الجيش المصري تجاه الجناح الايسر امر ابراهيم باشا باطلاق المدافع على ميسرة الاتراك والهجوم عليهم، فتلقى الترك الهجوم بثبات وشجاعة، واشتد الضرب بالمدافع والبنادق بين الفريقين، واستمر نحو ساعة ونصف حمى فيها وطيس القتال واستحرث ناره.

وفي اثناء ذلك فرغت ذخيرة الجيش المصري، فانتظر جنود المدفعية وهدموا ريثما ترد اليها الذخيرة، بينما كان الترك يصبون عليهم نارا حامية، فتقلقل المشاة من الجناح الايمن المصري وارتدوا الى الوراء، فصدر الامر الى الفرسان بالهجوم، فاقدموا، لكنهم اضطروا الى الارتداد اما رصاص الترك، وتقهقروا هم والمشاة، ولكن ابراهيم باشا تمكن بعد جهد شديد من وقف تيار التقهقر.

وفي غضون ذلك وردت الذخائر للمدفعية، فصبت نيرانها على الترك، واشترك المشاة والفرسان والمدفعية في الضرب، الى ان تزلزلت صفوف الجيش التركي والتوت امام هجمات المصريين، وظهر الضعف في اطلاق مدافعهم، فاخذ الاكراد يفرون متقهقرين ، فشدد ابراهيم باشا الهجوم على الميسرة، فلم يقو الترك على صد هذا الهجوم، ولجاوا الى الفرار تاركين بنادقهم وذخيرتهم، فاحتل الجيش المصري مواقعهم، وغنم جميع مدافعهم وذخائرهم وخيامهم وكل ما فيها من العتاد والميرة اذ لم يتمكن الترك من حمل شيء منها اثناء هزيمتهم، حتى ان حافظ باشا ترك خيمته المزخرفة، وفيها اوراقه واوسمته، فكانت معركة نصيبين نصرا مبينا للجيش المصري.

{{{{خريطة 281}}}}

موقع الجيش المصري يومي 20 و21 يونيه (على نهر مزار). حركة الاستطلاع التي قام بها ابراهيم باشا لاكتشاف مواقع الترك يوم 21 يونيه. 3-4-5 موقع الجيش التركي قبل المعركة (على شكل مثلث). استحكمات لحماية وجهة الجيش التركي. استحكامات لحماية ميسرة الجيش التركي. الاي من المشاة الترك في اكمة محصنة تحمي الجناح الايمن. بطارية من المدافع بالاكمة المذكورة. خط سير الجيش المصري يوم 22 يونيه وانتقاله من موقعه الاول على نهر مزار الى موقعه الاخير استعدادا للاحاطة بالجيش التركي من الخلف. الايان من المشاة المصريين احتشدا على يمين الجيش المصري ومعها بطاريتان من المدافع لحمايته اثناء انتقاله الى موقعه الجديد. الايان من المشاة والفرسان المصرية احتشدا على يسار الجيش للغرض المتقدم. قنطرة هركون التي عبر عليها الجيش المصري نهر كرزين. موقع الجيش المصري يوم 23 يونيه على الضفة اليسرى لنهر كزرين بعد اجتيازه قنطرة هركون. خيمة ابراهيم باشا القاعد العام للجيش المصري. خيمة سليمان باشا الفرنساوي. موقع المدافع التركية ليلة 24 يونيه بعد عبور الجيش المصري نهر كرزين. خط سير الجيش المصري يوم 24 يونيه للاحاطة بالجيش التركي. 19-20 موقع الجيش التركي عند بدء القتال بعد ان ادار وجهه الى الخلف استعدادا لملاقاة الجيش المصري في موقعه الجديد. 21 استحكامات اقامها الترك امام وجهة جيشهم. 22 الاكمة التي قصد اليها المصريون للتسلط على مواقع الترك ونصبوا فيها المدافع الثقيلة. 23 الايان من المشاة المصريين، واربع الايات من الفرسان، واربع بطاريات من المدافع الخفيفة في اقصى الميمنة لحماية هجوم الجناح الايمن على مواقع الترك. 24-25 موقع الاحتياطي المصري من المشاة والمدفعية الذين احتلوا الآكام اثناء تقهقهر الترك. 26 اتجاه تقهقر الترك.

نتائج الواقعة

بلغت خسائر الترك في معركة نصيبين نحو اربعة آلاف قتيل وجريح، وكان من قتلاهم بعض القواد والضباط، واسر منهم بين اثنين عشر الف الى خمسة عشر الف اسير، واستولى المصريون على نحو عشرين الف بندقية و44 مدفعا، واستولوا في اليوم التالي على 30 مدفعا في حصن (بيرة جك) وكذلك استولوا على خزانة الجيش التي لم يتمكن الترك من اخذها عند الهزيمة، وكان بها من النقد ما قيمته ستة ملايين فرنك.

اما الجيش المصري فقد بلغت خسائره نحو اربعة الاف بين قتيل وجريح، وهي خسارة عظيمة، ولكنها كانت فداء للنصر المبين الذي نالته مصر في هذه الواقعة.

قضت هذه الواقعة على قوة تركيا الحربية، وانقذت مصر من الخطر الذي كان يتهددها من ناحية تركيا، وكان فيها اكبر انتصار حازه الجيش المصري في حروبه مع تركيا، وهي اعظم الوقائع التي خاض غمارها من جهة اهميتها الحربية ونتائجها السياسية، اما من الوجهة الحربية فقد رايت انا تفوق المعارك الاخرى في عظم الجهود والخسائر التي بذلت فيها، واما من الوجهة السياسية فلانها حفظت استقلال مصر، وكانت له بمثابة السياج الذي صانه من الحظر، فلو ان تركيا فازت في هذه المعركة لاستمرت في زحفها على سورية ثم على مصر، ولقضت على استقلال مصر وردتها وزلاية تركية لا تمتاز عن سائر ولايات السلطنة العثمانية في شئ.

وهذه الواقعة تشبه ان تكون كواقعة جيماب التي فازت فيها جيوش الثورة الفرنسية على الجيش النمسوي وانقذت فرنسا من خطر الغارة عليها وصانت كيانها، وكذلك كان شان واقعة نصيبين بالنسبة لمصر.

وكان وقع هذه المعركة اليما شديد المضض على تركيا لانها خاتمة الهزائم التي حاقت بجيوشها في معاركها المتعاقبة مع الجيش المصري.

وفاة السلطان محمود

توفى السلطان محمود في اول يولية سنة 1839 قبل ان يبلغه نبا انكسار جيشه، اذ كان على فراش الموت، فاسلم الروح دون ان يعلم بالطامة التي حلت بالجيش التركي في تلك الواقعة الفاصلة، وخلف بعده السلطان عبد الحميد في الوقت الذي تزلزلت فيه قوائم السلطنة من ضربات مصر، ولم تكن سن السلطان الجديد تتجاوز السابعة عشر، فلم يدر كيف ياخذ في امره ولا كيف يتجه بين العواصف التي هبت على عرشه.

تقدم ابراهيم باشا

اما ابراهيم باشا فانه استمر في تقدمه عقب انتصاره، واحتل بيرة جك على ضفة نهر الفرات اليسرى ثم عينتاب ومرعش واورفه.

تسليم الاسطول التركي

واعقب هذه الواقعة كارثة اخرى اصابت تركيا في اسطولها، وذلك انه لما بدات الحركات العدائية الاخيرة بين مصر وتركيا صدرت الاومر للاسطول التركي بالتحرك من بوغاز الدردنيل بقيادة القبودان احمد باشا فوزي لمنازلة العمارة المصرية، ولكن فرنسا وانجلترا ارسلتا بعض السفن لمنع التصادم بين الاسطولين تنفيذا للخطة التي كان عليها العمل بينهما من الحيلولة بين تصادم مصر وتركيا.

ولما هزم الجيش التركي في واقعة نصيبين وتولى السلطان عبد المجيد وراى دعائم عرشه تتزلزل امام فتوحات الجيش المصري، جنح للسلم، فبعث برسول يدعى عاكف افندي الى مصر يعرض على محمد علي باشا عقد هدنة يمكن في خلالها اجراء المفاوضات للاتفاق على حل يرضي الطرفين، وعهد اليه ان يامر فوزي باشا قائد العمارة التركية ان يعود الى الاستانة ولكن فوزي باشا كان قلقا على مركزه بعد موت السلطان محمود، اذ كان مقربا لديه ولدى اختصاص به، فلما خلفه السلطان عبد المجيد عين خسروا باشا صدرا اعظم، وكان بينه وبين فوزي باشا عداء قديم، فعظمت وساوس فوزي باشا، (ظن ان استدعاءه الى الاستانة لم يكن الا لعزله او لقتله، وزين له وكيله عثمان باشا ان يلتجئ الى محمد علي باشا خصم خسروا باشا القديم ويسلمه الاسطول التركي باكمله هدية خالصة، فينال منه المكافاة وحسن الجزاء، فاصغى فوزي باشا لهذا المشورة التي تنطوي في ذاتها على الخيانة والدناءة، واقلع بالعمارة التركية وخرج بها من الدردنيل ومضى الى الاسكندرية ، وكانت هذه العمارة على شان من القوة، مؤلفة من تسع بوارج كبيرة (غلايين) واحدى عشرة سفينة من نوع الفرقاطة، وخمس من نوع الكورفت، وعلى ظهرها 16107 من الملاحين، والايان من الجنود يبلغ عددهم 5000 فيكون الجميع 21.107.

فلما وصل فوزي باشا على راس هذه العمارة الىرودس ارسل وكيله الى محمد علي باشا بمصر يخبره بعزمه، فابتهج محمد علي بهذه الفرصة السعيدة ابتهاجا عظيما، وانفذ رسولا على السفينة البخارية النيل ليبلغه سروره مما اقدم عليه، ثم اقلعت الدوننمة العثمانية من رودس بقيادة فوزي باشا وبلغت الاسكندرية، وكانت الدوننمة المصرية خارج البوغاز لاجراء التمرينات البحرية بقيادة الاميرال مصطفى مطوش باشا، فدخلت الدوننمتان الى الميناء معا، وعدد سفنها نحو بخمسين سفينة حربية تقل نحو ثلاثين الف مقاتل، وعليها نحو ثلاثة الاف مدفع، فكان منظر دخول تلك العمارة الضخمة الى ميناء الاسكندرية يملا القلب جلالا وروعة، وصارت مصر بهذه القوة البحرية المزدوجة اقوى دولة بحرية في البحر الابيض المتوسط.

ولما علم جنود الاسطول العثماني بالامر، وكان مكتوما عنهم الى ذلك اليوم، هرب بعضهم على الصنادل وعادوا الى الاستانة.

وتسلم محمد علي باشا هذا الاسطول الضخم، فكان لهذا الحادث تاثير كبير في سير المسالة المصرية، لان تسليم الاسطول التركي الى مصر بعد انتصارها في معركة نصيبين جعل كفتها الراجحة على تركيا في البر والبحر، وبلغت مصر في ذلك الحين اوج قوتها على عهد محمد علي.

الانسحاب

وفي ٢٩ كانون الأول ١٨٤٠: جلاء الجيش المصري بقيادة ابراهيم باشا عن دمشق وفق معاهدة لندن التي فرضتها الدول الأوروبية لمنع انهيار الدولة العثمانية. استمر حكم ابراهيم باشا لبلاد الشام ٨ سنوات.

المصادر

  1. ^ الرافعي, عبد الرحمن (2009). عصر محمد علي. القاهرة، مصر: دار المعارف. {{cite book}}: Cite has empty unknown parameter: |coauthors= (help)