الحرب السعودية المصرية

(تم التحويل من الحرب الوهابية)

الحرب الوهابية المصرية أو الحرب السعودية العثمانية، حملات عسكرية بدأت عام 1811 حتى 1818 بين مصر تحت قيادة محمد علي باشا (ممثلا للدولة العثمانية) وجيش الدولة السعودية الأولى.

الحرب الوهابية المصرية
First-saudi-state2.jpg
التاريخأوائل 1811 – 1818
الموقع
النتيجة انتصار محمد علي ونهاية الدولة السعودية الأولى.
المتحاربون
First-saudi-state3.JPG الدولة السعودية الأولى الدولة العثمانية مصر
القادة والزعماء

First-saudi-state3.JPG سعود الكبير
First-saudi-state3.JPG عبد الله الأول

فرحان الرشيدي

بخروش بن علاس

حجيلان حمد  
الدولة العثمانية طوسون باشا
الدولة العثمانية محمد علي باشا
الدولة العثمانية ابراهيم باشا
الدولة العثمانية أحمد أغا
القوى
20,000 50,000
الضحايا والخسائر
11,000 قتيل
3,000 جريح
2,000 قتيل
1,000 جريح
50 أسير

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خلفية

إن جزيرة العرب، هي أول ميدان لحروب مصر الخارجية في عهد محمد علي، وكانت الحرب فيها من أشق الحروب التي خاضت غمارها وأطولها مدى ومن أكثرها ضحايا ومتاعب، حردت مصر في خلالها حملات عدة كلفتها الضحايا الكثيرة في الأرواح والأموال، ولقى فيها الجنود الشدائد والأهوال في قطع المراحل البعيدة المترامية بين الفيافي والقفار، ونالتهم المتاعب والأوصاب، من وعورة الطرق، وشدة القيظ، وتضطرم به الأرض والسماء، إلى قلة المؤونة وندرة المياه وفقدانها في معظم الجهات، إلى محاربة عدو مستبسل بذلك النفس والنفيس دفاعا عن وطنه.[1]

تحملت مصر في الحرب الوهابية خسائر جسيمة، وأن فداحة تلك الخسائر لتدعونا أن نتساءل عن السر في اهتمام محمد علي باشا بخوض غمار تلك الحرب الضروس، وبذل ما اقتضته من الجهود والضحايا، واحتمال أعبائها سنوات عدة متوالية بلا هوادة ومن غير أن يتردد في متابعتها أو يثنيه عنها ما أصاب الجيش في بعض أدوارها من الهزائم والمهالك، بل كان كلما أخفقت حملة جرد الأخرى حتى بلغ النصر والظفر.

نتساءل عن ذلك وخاصة لأن الحرب الوهابية قد تبدو غير ضرورية ولا لازمة لمصلحة مصر، ولم يخض غمارها إلا استجابة لنداء تركيا، فإن حكومة الأستانة ما فتئت في مختلف المناسبات تدعوه إلى تجريد جيوشه لمحاربة الوهابيين، طلبت اليه ذلك في أواخر ديسمبر سنة 1807 قبل أن يمضي عامان على ولايته، اذ ورد إليه فرمان بتجديد ولايته وإسناد منصب الدفتردار (مدير الشئون المالية) إلى ابنه إبراهيم، وتكليفه في الوقت ذاته إرسال الجنود إلى الحجاز لقمع الفتنة الوهابية، وجددت تركيا هذا الطلب بل ذلك الامر سنة 1808، ثم جملته عليهم بالوجه القبلي وعاد إلى القاهرة في سبتمبر سنة 1810 ألفى رسولا من الأستانة يحمل إليه رسالة جديدة تقضي بتكليفه الإسراع في تجريد الجيش لمحاربه الوهابيين، فلم يستطع وقد قرغ من محاربة المماليك أن يتمحل الأعذار القديمة في التاجيل والتسويف، وبادر إلى الاستجابة، وأبدى اهتماما كبيرا بتهيئة معدات الحرب في الحجاز، ومن يومئذ اعتزم السير بالحملة حتى تصل إلى غايتها وهي القضاء على الدولة الوهابية في شبه جزيرة العرب، فما هي إذن مصلحة مصر ومصلحة محمد علي باشا في الإقدام على تلك الحملة الشاقة؟

إن محمد علي لم يكن ليغفل عما بينه وبين تركيا من سوء الظن المتبادل، ولم يغرب عن ذهنه أن حكومة الأستانة سمعت غيرة مرة لتقتلعه من عرش مصر، وأن القوة هي التي ردت يدها وحالت دون تحقيق مرادها، ولكنه لى أخيرا نداءها في الحملة على الحجاز لأنه رأى في خوضه غمار الحرب الوهابية تمكينا لسلطته ورفعا لشأنه وشأن مصر وأعلاء لمكانتها.

ذلك أنه لم استفحلت الدعوة الوهابية انفذت تركيا لإخمادها حملات عدة رجعت بالخيبة والفشل، وتعطلت شعائر الحج، وامتنع ورود عشرات الآلاف من الحجاج من أنحاء الشرق، فتزلزلت هيبة تركيا واثرت هذه الحالة فيها تأثيرا كبيرا، ووقع الشك في مقدرة السلطان العثماني على الاضطلاع بمهمة حامي الحرمين الشريفين تلك التي كانت تجعل لتركيا المقام الممتاز بين المماليك الإسلامية.

فرأى محمد علي أنه إذا نجح حيث اخفقت تركيا واستطاع بقوة جيشه ان يقضي على دولة الوهابيين، ويستخلص منهم الأراضي المقدسة، فلا جرم ان يتوطد مركزه وتسمو مكانته حيال تركيا، فلا تعود تفكر في عزله أو تغييره، ولا تستطيع ان تعامله معاملة سائر الولاة الذين كانت تتصرف فيهم بالعزل والنقل، بل يدعوها تطور الحوادث إلى أن تعامله معاملة الند للند، أو الحليف للحليف، ويتدرج مركزه من وإل تابع إلى حاكم مستقل، اضف إلى ذلك أنه إذا لم يلب دعوة السلطان وتأهب لمحاربة الوهابيين فإن ذلك يكون مبررا لفعلته، ولم يكن مركزه بعد قد استقر حتى لا يحسب حسابا لأوامر الأستانة، بل كان عليه أن يتقي شرها حتى ترسخ دعائم ملكه. أفالحرب الوهابية كانت اذن وسيلة لتوطيد مركز محمد علي، كما أنها سبيل لرفع شأن مصر وإعلاء مكانتها، وتمهيدا لتتبوأ المركز الذي نالته من بعد بين الدول.

وأغلب الظن أن فكرة الانفصال عن تركيا وتحقيق استقلال مصر قد بدأت تملك عليه مشاعره من ذلك العهد، وأنه اخذ يعمل لها من طريق الفتح والحرب، وليس ثمة حرب تعلي مكانة مصر ونيلها مركزا ممتازا وتكسبها عطف الشرق والعالم الإسلامي مثل الحرب الحجازية، فقد كان الغرض منها انقاذ الحرمين الشريفين من حكم فرقة الوهابية، وتجديد ما بين الأمم الإسلامية من الصلات الأدبية والإقتصادية، وإعادة مناسك الحج وتأمين السبيل للحجاج الذين يأتون كل عام من مشارق الأرض ومغاربها.

وإذا رجعت إلى الماضي وتذكرت ما فعله علي بك الكبير رئيس المماليك عندما تولى حكم مصر سنة 1763 تجد أنه عندما سعى إلى الاستقلال والتخلص من الحكم العثماني وأعلن انفصاله عن تركيا وعزل الوالي كان اول ما وجه اليه عزمه أن جرد جيوشه على جزيرة العرب وفتح معظمها وبسط نفوذه على الحجاز، فاستحق اللقب الذي اسبغه عليه شريف مكة وهو "سلطان مصر وخاقان البحرين".

فمحمد علي قد خاض غمار الحرب الوهابية لا لمصلحة تركيا، بل تثبيا لمركزه،وإعلاء لشأن مصر، وقد حققت الأيام صدق نظره، اذ عظمت منزلته حيال تركيا خلال الحرب الوهابية وبعد انتهائها، وعلت مكانة مصر الحربية والسياسية، وامتدت سلطتها إلى جزيرة العرب، وانبسطت رفعتها واتسعت حدودها، فإن الجيوش المصرية التي جردها محمد علي لحرب الوهابية لم تنسحب منها بعد كسر الوهابيين، بل ظلت تحتلها واخذت الحكومة المصرية تبسط سلطتها في اصقاع الجزيرة وتنصب لها الحكام وقواد الجند، كما أن تركيا كافأت محمد علي باسناد سلطانها في أصقاع الجزيرة وتنصب لها الحكام وقواد الجند، كما أن تركيا كافأت محمد علي باسند مشيخة الحرم المكي وولاية جدة إلى ابنه ابراهيم، فاتسع فعلا نطاق مصر، وضمت اليها بلاد الحجاز ونجد والعسير وجزءا من اليمن ثم وصلت سيادتها إلى شاطئ الخليج الفارسي، أي أن نفوذ مصر قد امتد إلى معظم جزيرة العرب، وظل كذلك إلى أن اضطربت الأحوال السياسية سنة 1840 واضطرت مصر إلى سحب جنودها كما سيجئ بيانه.

وكان لمحمد علي أغراض اخرى محلية أدركها من الحملة الوهابية، أهمها التخلص من طوائف الجنود الأرناءود والدلاة الذين الفوا التمرد والشغب، فقد رأيت كيف ازداد طغيانهم وتمردهم حتى صاروا خطرا على الأمن وعقبة دون استقرار سلطة الحكومة فكانت الحملة الوهابية خير فرصة انتهزها محمد علي ليقذف بتلك الطوائف المتمردة إلى الاصقاع النائية من جزيرة العرب، لعله في غيبتهم يستطيع أن يدخل النظام الجديد في الجيش المصري، وقد سعى إلى ذلك فعلا خلال الحملة الوهابية وان كانت ظروف الأحوال لم تمكنه من إنفاذ مشروعه فأرجأه إلى سنة 1820 كما سنذكره في حينه.

وكذلك كانت الحملة ذريعة لإطلاق الحكومة في فرض ما تشاء من الضرائب والأتاوات من غير أن يجد الشعب مسوغا للإعتراض عليها، فإن حجة محمد علي باشا فيما فرضه إثناء الحملة الوهابية من مختلف الضرائب والاتاوات الفادحة أن الحكومة في حاجة إلى المال لإنفاقه على حرب مقدسة ترمي إلى استرداد الحرمين الشريفين وتأمين سبيل الحج، فهي من هذه الناحية جهاد مفروض وكذلك الانفاق عليها.


تلك هي البواعث التي جعلت محمد علي يقدم على تلك الحرب الشاقة، والآن لنقل كلمة عن الوهابية ونشأتها، ثم نتكلم بعد ذلك عن الحملة ووقائعها.


الدعوة الوهابية

ظهرت الدعوة الوهابية في جزيرة العرب حوالي منتصف القرن الثامن عشر على يد زعيمها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولذلك نسبت إليه وسمي أتباعه وأنصاره الوهابيين.

ولد محمد بن عبد الوهاب سنة 1115 هـ الموافق سنة1703م في العيينة من بلاد نجد، ونشأ الشيخ في حجر أبيه عبد الوهاب في تلك البلدة في زمن إمارة عبدالله بن محمد بن حمد بن مُعمَّر، وكان سباقاً في عقله وفي جسمه، حادّ المزاج، فقد استظهر القرآن قبل بلوغه العشر، وحج إلى بيت الله الحرام وهو بعد في سن الشباب، ثم رحل إلى المدينة المنورة ومكث شهرين ثم عاد إلى العيينة واشتغل بدراسة الحديث والفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، درس على والده الفقه الحنبلي والتفسير والحديث. وكان في صغره، مكباً على كتب التفسير والحديث والعقائد. وكان شديد الذكاء والحفظ، سريع الإدراك، رحل فقصد إلى الحجاز والبصرة بالعراق، وجاء الحسا وكانت آهلة بالمشايخ؛ إذ اعتنى بكتب الشيخ ابن تيمية، وابن القيم رحمهما الله، ويكثر من مطالعة كتبهما وطالت إقامته بالبصرة يتلقى فيها العلم ويقرأ كثيرا من كتب اللغة والفقه والقرآن والحديث ونحوها، ثم عاد إلى موطنه.

كان محمد بن عبد الوهاب حنبلي المذهب، يميل إلى الشدة في التعاليم الدينية، ولا يأخذ بالرخص، فاستنكر كثيرا من البدع الفاشية بين المسلمين ورأى فيها شركا بالله، فدعا إلى التوحيد وصنف فيه كتابا، وحدثته نفسه أن ينقي الدين ويخلصه مما دخله من البدع، فدعا قومه إلى نبذها وطرح كل ما لم يرد في القرآن والسنة من الأحكام والتعاليم، والرجوع بالدين إلى فطرته وبساطته الأولى، وقد أخذ دعوته من طريقة الإمام ابن تيمية، فالمذهب الوهابي هو في أصوله المذهب الحنبلي، والفكرة التي دعا إليها محمد بن عبد الوهاب في أصلها وجوهرها فكرة صالحة، لكنه غلا فيها وتشدد، حتى صار اساسها تكفير كل من لم يأخذ أخذه ولا يتبع تعاليمه، واعتباره مشركا بالله، ومن هنا جاءت تسمية الوهابيين للمخالفين لهم مشركين، ومثل هذه الدعوة قد تصادف نجاحا وتجد لها الأتباع في بلادفطر أهلها على الخشونة والبداوة، ولكنها تتعارض ومقتضيات الحضارة والعمران.

فمن تعاليم الوهابية تحريم لبس الحرير وشرب الدخان والتنباك، وكذلك تحريم إقامة المزارات ونصب القباب على القبور واعتبارها مخالفة لأحكام الدين ثم الدعوة إلى هدمها، وغير ذلك من التعاليم المنطوية على التشدد والغلو، على ان هذا الغلو لم يسئ إلى الدعوة الوهابية بمقدار ما أساء اليها انصارها في القسوة وارتكابهم الفظائع مع مخالفيهم في المذهب والعقيدة.

دعا محمد بن عبد الوهاب قومه إلى الاخذ بتعاليمه، فنالت دعوته نجاحا بين أهل نجد، وأخذ يكسب الأعوان والأنصار خلال عدة من السنوات دون أن تأبه له الحكومة العثمانية، ولكن حدث يوما أن قدمت إليه امرأة متهمة بالزنى، وثبت عليها التهمة، فأمر برجمها فقتلت على الفور، ولم تكن هذه العقوبة مما تسيغه النفوس، فاحدثت استياء شديدا وانتهى نبؤها إلى حاكم الحسا التي تمتد سلطته إلى العيينة، فأرسل يتهدد الشيخ بالقتل إذا لم يرجع عن طريقته، ولما علم بذلك أنصاره أقبلوا يعرضون عليه أن ينزل بينهم ويكون في حماهم، فرحل إلى مدينة الدرعية إذ كان أميرها محمد بن سعود، فأعجب الأمير بدعوته واعتنقها، وأوى إليه محمد بن عبد الوهاب.

كانت الدرعية من أكبر بلاد نجد، فرأى فيها محمد بن عبد الوهاب خير مثابة لنشر دعوته، وأخذت من ثم تستفيض بين القبائل.

وأعلن الأمير محمد بن مسعود مناصرته للتعاليم الوهابية، وتعاهد والزعيم على التعاون على نشر الدعوة على أن يؤيد سيادة الأمير بين العرب (سنة 1157 هـ 1744م)، ومن يومئذ اتخذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب الدرعية مقرا له، وأخذ يبث منها دعوته وكان يأتي إليه فيها اتباعه ومناصروه يتلقون عنه، واخذ هو كذلك يوفد الرسل إلى البلاد لنشر دعوته إلى التوحيد، وأيد الأمير محمد بن سعود هذه الدعوة بحد السيف، فدعا القبائل والبلاد المجاورة إلى الاخذ بها أو يقاتلهم، فلم تمض عدة من السنوات حتى عمت الدعوة معظم بلاد نجد، وحارب الأمير قبائل عدة كانت تناوئ الوهابية إلى أن توفى سنة 1765.

مخلفه في تلك السنة ابنه الأمير عبد العزيز بن سعود ، وكان من أشد أنصار الدعو’، فأصابت في عهده نوا وانتشارا، وامتد نفوذه السياسي إلى معظم بلاد نجد وتجاوزها إلى بعض أنحاء الحجاز وأطراف العراق، وتوفي محمد بن عبد الوهاب سنة 1296 هـ (1792م) بعد أن قويت دعوته واستفاضت بين القبائل.

وقد حاول شريف مكة الشريف غالب بن مساعد أن يصد دعوة الوهابيين ونفوذهم بقوة السيف والقتال، وزحف رجاله على نجد لكنه انهزم أمام قوات عبد العزيز وعاد إلى الحجاز.

وظلت الدعوة بعد وفاة زعيمها ومؤسسها تنمو وتطرد بفضل تأييد عبد العزيز لها، وتنكيله بالقبائل التي لا تدين بها، فامتد نفوذ الوهابيين إلى ولاية البصرة، وزحفوا على كربلاء مثابة الشيعة واستولوا عليها سنة 1801، وامعنوا في أهلها قتلا، ونهبوا المدينة وهدموا مسجد [[الحسين بن علي رضي الله عنه]، وأخذوا ما في قبته من النفائس والجواهر.

ضج المسلمون في سائر الأقطار وخاصة الشيعة من غزوة كربلاء وما ارتكبه الوهابيون فيها من فظائع، فجاء الدرعية شيعي متنكر واغتال الأمير عبد العزيز وهو قائم يصلي العصر في جامع الدرعية (سنة 1803).

فخلفه ابنه سعود في الإمارة ، واستمر الوهابيون في قوة ومنعة، ولم يستطع الولاة الترك الغبة عليهم في عهد عبد العزيز ولا في عهد سعود، فإن سليمان باشا والي العراق جرد حملة على الحسا لمحاربة الوهابيين فعادت الحملة مدحورة.

وصل سعود بن عبد العزيز في فتوحاته إلى حدود مسقط، وامتد نفوذه إلى شواطئ الخليج الفارسي، واعتزم فتح الحجاز، فجرد جيوشه على الشريف غالب، وزحف الوهابيون على الطائف التي تعد مفتاح مكة فاحتلوها سنة 1216 هـ 1802 م، ثم دخل سعود مكة ظافرا بعد ان جلا عنها الشريف غالب وجنوده إلى جدة (محرم سنة 1218 هـ - 1893 م).

وكتب سعود إلى السلطان سليم الثالث سلطان تركيا ينبئه بهذا الفتح ويخبره أنه قد هدم القباب التي فوق القبور، ويطلب اليه منع مجئ المحمل إلى دمشق أو القاهرة "فإن ذلك ليس من الدين في شئ".

وفي هذه الرسالة، وإخراجه من كان بمكة من الترك، إعلان بتقلص ظل السلطنة العثمانية عن مكة.

واستولى الوهابيين على المدينة بعد فتح مكة بسنتين، ونهبوا نفائس الحرم النبوي وما فيه من الجواهر، وكانت قيمتها لا تقدر بمال، ذكر الجبرتي ما ذاع عن قيمتها فنقل انها "ملأت أربع سحاير من الجواهر المحلات بالماس والياقوت العظيم القدر، من ذلك أربعة شمعدانات من الزبرجد وبدل الشمعة قطعة ماس مستطيلة يضئ نورها الظلام، ونحو مائة سيف قراباتها ملبسة بالذهب الخالص المطعم بالماس والياقوت، ونصالها من الزبرجد والبشم، وسلاحها من الحديد الموصوف وعليها دمغات باسم الملوك والخلفاء السالفين".

امتدت دعوة الوهابيين إلى عسير واليمن واتجهت أنظارهم إلى الشام، فزحفوا عليها ووصلوا في زحفهم إلى حدود فلسطين، ولكن دعوتهم لم تلق في سورية تأييدا لما ارتكبوه من القسوة والفظائع ومنعهم المحمل الذي يصحبه الحجاج من دخول مكة، وقد خرج عبد الله باشا العظم والي الشام بالمحمل فمنعه الوهابيين من التقدم وقتلوا جنوده ونهبوا الحجاج.

تعطلت مراسم الحج السنوية واضطربت تركيا بازاء امتداد دعوة الوهابيين واستيلائهم على الحرمين الشريفين ومنعهم الحجاج الذين لا يتعبون تعاليمهم من الحج وانتصارهم على الولاة في العراق والشام، فاستنجدت بمحمد علي باشا وطلبت إليه محاربتهم، وكان نفوذهم في ذلك الحين قد بلغ أقصى مداه، ولم تجي سنة 1811 التي جهز فيها محمد علي جيشه لقتالهم حتى كان سلطانهم قد امتد من أقصى الجزيرة إلى أقصاها.

معدات الحملة

اتخذ محمد علي جهة القبة القريبة من القاهرة معسكرا للحملة إلى أن يتم تجهيزها، وعين عليها نجله أحمد طوسون باشا وكان في السابعة عشر من عمره، ورتب له أبوه حفلة حافلة لإلباسه خلعة القيادة وانتقاله الى معسكر الحملة، ولما وقعت مذبحة المماليك بالقلعة في اليوم الذي كان محددا لها أول مارس سنة 1811 أرجئت الحفلة إلى يوم 30 مارس، ففي اليوم المعهود تحرك موكبه من القلعة إلى معسكر الحملة بالقبة وأخذت الحكومة تجهزها بالرجال والعتاد وقطعت في ذلك ستة أشهر ونيفا إلى أن صارت على أهبة الرحيل، وبلغ عدد رجالها 8000 مقاتل منهم ستة آلاف من المشاة وألفان من الفرسان بينهم الكثير من البدو.

وتولى إدارة مهماتها السيد محمد المحروقي كبير تجار مصر، وكان له في إعدادها وتجهيزها ورسم خططها شأن كبير، قال الجبرتي في هذا الصدد لمناسبة رحيله إلى الحجاز: "وفيه – 12 رمضان سنة 1226 – (30 سبتمبر 1811) خرج السيد محمد المحروقي إلى افر صحبة الركب وخرج في موكب جليل لانه هو المشار إليه في رياسة الركب ولوازمه واحتياجاته وامور العربان ومشايخهم، وأوصى الباشا ولده طوسون باشا أمير العسكر بألا يفعل شيئا من الأشياء إلا بمشورته واطلاعه، ولا ينفذ أمرا إلا بعد مراجعته".

كان خط سير الحملة أن تقلع السفن بالجنود المشاة من ثغر السويس إلى ينبع ميناء المدينة المنورة، أما الفرسان وعلى رأسهم طوسون باشا فيسيرون برا عن طريق برزخ السويس فالعقبة حتى يبلغوا ينبع فيلتقوا بالمشاة بها ومن هناك يزحف الجيش إلى وجهته.

وقد استوجب نقل المشاة والمهما بحرا نشاء عمارة بحرية من السفن، لان مصر لم يكن لها إلى ذلك الحين اسطول في البحر الاحمر (ولا في البحر الابيض) فاعتزم محمد علي انشاء اسطل لنقل الحملة، وأبدى في سبيل ذلك من علو الهمة ما جعله مضرب الأمثال في قوة الإرادة ومضاء العزيمة، ذلك أن كل المهمات والأخشاب والمواد اللازمة لإنشاء الاسطول كانت تنقصه، فجلب الأخشاب من أشجار مصر، واستكملها من الخارج وخاصة من الأناضول، وبادر إلى نشاء السفن في ترسانة بولاق، وجمع لهذا الغرض كل من استطاع جمعهم من صناع المراكب، وتولى الاشراف بنفسه على العمل، فأخذ الصناع يقطعون الأخشاب ويفصلونها قطعا ويضعون على كل قطعة رقما خاصا بها، ثم تنقل على ظهور الجمال إلى السويس لتركب هناك، ويقال أن عدد الإبل التي استخدمت لهذا الغرض بلغ ثمانية عشر الفا، ولم تمض عشرة أشهر حتى انشئ بالسويس ثمانية عشر مركبا كبيرا تسع أكثر ما أعد للحملة من الجنود والمؤن والذخائر والمهمات.

وباشر محمد علي ترحيل الحملة ومهماتها من السويس، فأقلعت بها السفن يوم 30 سبتمبر سنة 1811 قاصدة ينبع، وعاد هو إلى القاهرة، ثم ارتحل طوسون باشا من بركة الحاج يوم 6 أكتوبر يقود حملة الفرسان يتبعها عدد كبير من الابل تحمل ما تحمل من المهمات والمؤونة والذخائر.

وكان يصحب الحملة طائفة من الصناع من كل حرفة، وصحبها السيد محمد المحروقي مدير المهمات كما قدمنا، ومضى معها أربعة من العلماء من أئمة المذاهب الأربعة، وهم السيد أحمد الطحطاوي الحنفي، والشيخ محمد المهدي الشافعي، والشيخ الخانكي المالكي، والشيخ المقدسي الحنبلي، وكان مقررا سفر السيد حسن كريت نقيب أشراف رشيد (الذي كان له شان في مقاومة الحملة الإنجليزية سنة 1807) ، والشيخ علي خفاجي من علماء دمياط، ولكنهما اعتذارا من مصاحبة الحملة فأعفيا من السفر.

وقائع الحملة

قلنا أن الحرب التي خاضت مصر غمارها في حصاري جزيرة العرب وجبالها من أشق الحروب وأصعبها، لأن الجيش المصري واجه قوة الوهابية في اوجها، وعلى راسهم امير شديد المراس قوي الشكيمة بعيد النظر وهو الأمير (سعود بن عبد العزيز) الملقب بسعود الكبير، يمتاز موقفه بانه يحارب حربا دفاعية، في بلاده ومفاوزه، وبين معاقله ورجاله، على أن الجيش المصري قد وجد معاضدة من سكان الثغور الحجازية كجدة وينبع، لان انقطاع طريق الحج ألحق بهم ضررا كبيرا، اذ كانت أرزاقهم تأتيهم من الحجاج، فكانوا ناقمين على الوهابيين ودعوتهم، وكذلك أشراف مكة، وخاصة الشريف غالب، فان نفوذ الوهابيين قد محق سلطته، وأن كانوا قد سمحوا له بالاقامة في مكة، وفضلا عن ذلك فان محمد علي ونجليه طوسون وابراهيم استطاعوا أن يستميلوا اليهم بعض رؤساء القبائل من انصار الامير سعود بالعطاء والوعود، فكانت هذه الرسائل من العوامل التي أيدت مركز الجيش المصري في الحملة على الحجاز.

احتلال ينبع

وصلت الحملة بطريق البحر إلى ميناء ينبع فاحتلتها دون مقاومة تذكر، ولم يكن بها سوى حامية من ثلثمائة من الوهابيين فر قائدهم وبعض رجاله ووقع الباقون قتلى وأسرى.

احتلال بدر

ثم جاء طوسون باشا بطريق البر يتقدم فرقة الفرسان، فلما وصلت الفرقة (أكتوبر سنة 1811) وتلاقت وحدات الجيش أمر طوسون بالزحف على المدينة فتحرك الجيش من ينبع وسار إلى بدر وكان الوهابيون ممتنعين بها، فاشتبك بهم في معركة دامت ساعتين انتهت باحتلال بدر وارتد الوهابيون إلى وادي الصفراء حيث تحصنوا بها وأقاموا الاستحكامات لملاقاة الجيش المصري.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

هزيمة الصفراء

زحف طوسون على وادي الصفراء في قوة تبلغ ثمانية آلاف من الجنود وهاجمها الجند حتى صاروا إلى طرق ضيقة يشرف عليها الوهابيون من علي، فانهالت القذائف على الجنود وفتكت بهم فتكا ذريعا، فانقلبت الصفوف الأولى منهزمة، ووقع الذعر فيما وراءها، فاختل نظام الجيش وكانت عليه الهزيمة، وتشتت الجند تاركين مضاربهم واثقالهم ومدافعهم وتراجعوا يرمي بهم الرعب قاصدين الساحل.

كانت هذه الواقعة هزيمة كبرى فقد فيها الجيش المصري نحو ستمائة قتيل، وفقد معظم مدافعهم وذخيرته وأرزاقه، ورجعت فلوله بغير نظام إلى ينبع، وقتل منهم عدة آلاف في الطريق بحيث لم يبق من الجيش بعد أن رجع الى ينبع غير ثلاثة آلاف، ولو أن الوهابيين الذين دافعوا عن وادي الصفراء كانوا أكثر عددا وأكثر دراية بفنون القتال لتعقبوا جيش طوسون باشا بعد الهزيمة وكان من المحقق ألا ينجو منه أحد.

بعث طوسون بنبأ هذه الهزيمة إلى أبيه، ونسبها إلى اختلاف قواده وتقصيرهم وكان أكثر الجنود والضباط الهاربين من الأرناءود، ثم طلب طوسون المدد كي يسد الفراغ الذي وقع في صفوف الجيش، فتأثر محم علي باشا لهذه الهزيمة تاثرا شديدا، وأرسل يستدعي رؤساء الجيش المسئولين عنها، وعاد بعضهم إلى مصر من تلقاء أنفسهم، فغضب عليهم محمد علي وأقصاهم من مراكزهم ونفاهم من مصر، وكان منهم صالح قوش رئيس الجند الأرناءود الذي كان له شأن خطير في مذبحة المماليك بالقلعة.

لم تضعضع هذه الهزيمة من عزيمة محمد علي باشا، بل قابلها بالجلد والثبات، وأخذ يعد العدة لإرسال حملة جديدة إلى الحجاز، قال الجبرتي في هذا الصدد:

"ولما حصل ذلك لم يتزلزل الباشا واستمر على همته في تجهيز عساكر أخرى وبرزوا إلى خارج البلدة".

واضطر محمد علي باشا للقيام بنفقات الحملة إلى فرض ضرائب جديدة، فاستوفى الضريبة من باقي الاطيان الموقوفة، وطلب اتاوة من القرى، وكان الفلاحون بمنزلة من الضنك والفاقة، فأذن لهم أن يؤدوها غلالا، وأمكنه أن يمون منها الجيش المصري في الحجاز.


موقف طوسون باشا

بقى الوهابيون بعد انتصارهم في واقعة الصفراء في معاقلهم لا يفكرون في مهاجمة طوسون باشا بينبع، واكتفوا بتحصين المدينة، وانتهز طوسون باشا هذه الغفلة وأخذ في فترة انتظار المدد من مصر يستميل القبائل الضاربة بين ينبع والمدينة بالمال والهدايا، وقد رأى أن هذه الوسيلة أعود عليه بالنفع من الانتصار على الوهابيين في معركة بل معارك، كما أنها هي الوسيلة الفعالة في التغلب عليهم، وقد نجح فعلا في خطته هذه، وأرسل له محمد علي باشا صناديق الأموال والكساوي لتفريقها على رجال القبائل، فمهدت له السبيل للإستيلاء على المدينة ومكة.

احتلال الصفراء

تلقى طوسون باشا المدد، فتحرك قاصدا المدينة، وانضم إليه كثير من القبائل من عرب جهينة وحرب، واحتل الصفراء بدون مقاومة بفضل مؤازرة العرب الموالين له. قال الجبرتي في هذا الصدد: "في 24 رمضان سنة 1227 (أول أكتوبر سنة 1812) وردت هجانة مبشرون باستيلاء الاتراك على عقبة الصفراء والجديدة من غير حرب بل بالمخادعة والمصالحة مع العرب وتدبير شريف مكة (الشريف غالب)، ولم يجدوا بها أحدا من الوهابيين، فعندما وصلت هذه البشائر ضربوا مدافع كثيرة تلك الليلة من القلعة".

فتح المدينة

تابع الجيش سيره حتى بلغ أسوار المدينة، وكانت الرحلة إليها شاقة مضنية تكبد فيها الجنود المتاعب والأهوال لوعورة الطرق وبعد المسافات واشتداد الحر، فأمر الجنود أن يسيروا في الليل ويستريحوا في النهار، قطع الجيش في رحلته ثلاث ليال حتى بلغ المدينة، فضرب عليها الحصار، وتفادى إطلاق القنابل عليها خشية أن تصيب الحرم النبوي الشريف، فاستعاض عن الضرب بوضع لغم تحت سور المدينة استعدادا لنسفه، وانذر السكان بأن يلزموا بيوتهم حتى لا يصيبهم مكروه، وفي الموعد المضروب أشعل اللغم فنسف جزءا كبيرا من السور وفتح ثغرة دخل منها الجنود، فقتلوا من أدركوهم من الحامية الوهابية واحتلوا المدينة’، فكان احتلالها أول انتصار كبير للجيش المصري في حرب الحجاز، وأرسل طوسون مفاتيح المدينة إلى أبيه في مصر وبشره بهذا النصر المبين ، فأذيع الخبر في العاصمة وأطلقت المدافع من القلعة ابتهاجا بهذه البشرى.

قال الجبرتي في هذا الصدد: "في 10 ذي الحجة سنة 1227 يوم الأضحى وردت هجانة من ناحية الحجاز وعلى يدهم البشائر بالاستيلاء على قلعة المدينة المنورة، ونزول المتولي على حكمهم، وأن القاصد الذي أتت بشائره وصل إلى السويس وصحبته مفاتيح المدينة، فحصل الباشا (محمد علي) بذلك سرور عظيم، وضربوا مدافع وشنكا بعد مادفع العيد، وتقدم المصريون فاحتلوا الحناكية شمالي المدينة.

فتح مكة

(يناير سنة 1813)

عاد طوسون باشا إلى ينبع وأقلع منها الى جدة فاحتلها، واستقبله بها الشريف غالب وسار منها إلى مكة فدخلها دخول الظافر، وكان لمعاونة الشريف غالب وقبائل عرب الحجاز التي استمالها بالمال أثر كبير في استيلاء الجيش المصري عليها.

وقد وردت الأنباء إلى مصر بفتح مكة فزينت المدينة خمسة أيام متواليات ابتهاجا بهذا الفتح المبين.

قال الجبرتي: "وفي يوم الثلاثاء 7 صفر سنة 1228 (9 فبراير سنة 1813) وردت بشائر من البلاد الحجازية باستيلاء العساكر على جدة ومكة من غير حرب، فضربوا مدافع كثير، ونودي في صبح بزينة المدينة ومصر وبولاق، فزينت خمسة أيام أولها الأربعاء وآخرها الأحد".

احتلال الطائف

وبعد أن وطد طوسون باشا مركزه في مكة تقدم الى الطائف فاحتلها في 29 يناير سنة 1813.

تحرج موقف الجيش المصري

رأيت مما تقدم مبلغ ما ناله الجيش المصري من الإنتصارات المتوالية، واحتلال المدينة ومكة وأهم مواقع الحجاز، على أن هاتيك الانتصارات لم تلبث أن أعقبها تحرج مركز الجيش، ذلك أن الأمير سعود بن عبد العزيز ظل منذ نزول الجيش المصري الى ينبع يرقب تطور القتال دون أن يخاطر فيه، وترك لبعض أنصاره الاشتباك مع الجيش المصري في المعارك المتقدمة، واخذ هو في خلال الفترة يدرس أساليب الجيش المصري في الحرب، ويتعرف مبلغ قوته، ويرسم الخطط، ويستعد لملاقاته في الوقت المناسب، فلما بلغه نبأ احتلال الطائف أمر قواته بالزحف، وكانت مؤلفة من جيشين، الأول يقوده هو بنفسه، والثاني بقيادة ابنه فيصل، فزحف الجيشان بمجموعهما على مكة والمدينة واخذ الوهابيون يقطعون المواصلات بين المدينتين.

أدرك طوسون حرج موقفه، فبادر إلى ملاقاته، وشرع في مهاجمة المراكز التي احتشد فيها الوهابيون.

هزيمة الجيش المصري في تربة

اتخذ فيصل مدينة تربة معسكرا له واحاطها بالخنادق، فأنفذ طوسون باشا بقيادة مصطفى بك أحد قواده لمهاجمته فيها، فسار اليها مصطفى بك بجنوده وضربوا عليها الحصار، لكن الوهابيين انقضوا عليهم، وكانوا بقيادة سيدة من نبلائهم تدعى غالية. أثارت فيهم الحمية والحماسة فأعملوا في الجيش المصري قتلا الى أن وقعت عليه الهزيمة، وارتد بغير نظام الى الطائف بعد أن ترك مدافعه وذخيرته.

إخلاء الحناكية

وفي الوقت نفسه أخذ الأمير (سعود بن عبد العزيز) في قوة من عشرين ألفا يهاجم الحناكية التي كانت ترابط بها حامية من الجيش المصري بقيادة عثمان كاشف، وهي تبعد عن المدينة بنحو عشرين فرسخا، فدافعت عنها الحامية دفاعا شديدا، لكنها اضطرت للتسليم أمام جموع الوهابية، فاحتل الوهابيون الحناكية وساروا قاصدين الزحف على المدينة. تغير الموقف الحربي، ورجحت كفة الوهابيين، فان هزيمة الجيش المصري في تربة واخلاء الحناكية قد أضعف مركز طوسون باشا، وأخذ الوهابيون يهاجمون المخافر الأمامية للجيش المصري بدون انقطاع أو هوادة.


خسائر الجيش

وزاد في حرج الموقف انتشار الأمراض في الجيش المصري، وما أصاب الجنود من الإعياء لشدة القيظ وقلة المؤنة والماء، ورداءة الطقس والمتاعب الهائلة التي أنزلتها بهم المعارك، وقطع المراحل الشاسعة في صحراء الحجاز، ولم يكن في الجيش أطباء لمعالجة المرضى وتدبير الوسائل الصحية، ففتكت بهم الأمراض فتكا ذريعا، وقد أصاب الجيش من المعارك والأمراض خسائر فادحة ، بلغت من بدء القتال نحو ثمانية آلاف قتيل، وفقد الجيش من مؤونته نحو خمسة وعشرين ألف رأس من الماشية، وتكلفت الحملة إلى ذلك الحين 35000 كيس أي 175.000 جنيه، وهذا الإحصاء يدلك على ما تكبدته مصر من الضحايا والخسائر الجسيمة في الدور الأول وحده من الحرب الحجازية.

رأى طوسون باشا بعد تلك الخسائر أن يلزم خطة الدفاع، واعتصم هو وجيشه بمكةوالمدينة وجدة وينبع، وأرسل إلى أبيه بطلب المدد.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

سفر محمد علي إلى الحجاز

(أغسطس سنة 1813)

تلقى محمد علي باشا هذه الأنباء بالجلد والثبات، وأجمع أن يسير بنفسه إلى الحجاز لمتابعة القتال الى نهايته والقضاء على الوهابيين وبسط نفوذ مصر في جزيرة العرب، فحشد ما وسعه أن يحشد من الجنود في مصر، وفرض أتاوات على التجار، وجرد حملة جديدة، وسار إلى الحجاز في شهر أغسطس 1813 ليقود الجيش المصري في تلك الحرب الآكلة.

أبحر محمد علي من السويس ونزل بجدة، فشدد وصوله من عزائم الجيش لما كان يبعثه في النفوس من القوة المعنوية، وأخذ أثناء مقامه في جدة يدريس الحالة عن كثب ليضع الخطة التي تضمن له الفوز والغلبة، ثم مضى قاصدا مكة وأدى مناسك الحج، ومن هنا جاء لقبه الحاج محمد علي.

اعتقال الشريف غالب

وكان أول ما اتخذه اعتقال الشريف غالب، ذلك أنه ارتاب في إخلاصه، ورأى منه تراخيا في معاونة الجيش المصري مما يحتمل أن يكون سببه رغبته في إطالة الحرب ليخدم مصالحه الذاتية، ووقر في نفسه أن مسلكه كان من أسباب استفحال الدعوة الوهابية، وأن بقاءه في مركزه قد يحول دون فوز الحملة وسرعة وصولها إلى غايتها، فأمر بالقبض عليه واعتقله في نوفمبر سنة 1813 وبعث به إلى القاهرة، وولى ابن أخيه الشريف يحيى بن سرور.

وطد محمد علي مركزه في مكة ليجعلها بمنجاة من هجمات الوهابيين، ثم اعتزم السير لمهاجمتهم في معاقلهم فعهد إلى ابنه طوسون باشا أن يتخذ الطائف قاعدة للزحف، فسار ومعه جيش من خمسة آلاف من المشاة وألف من الفرسان وستة من المدافع، وفيما هو يعد هذه المعدات كان سعود يرقب حركات خصمه، وامتنعت قواته في بيشه ورنيه وتربة فسار طوسون باشا من الطائف قاصدا الاستيلاء علىتربة وضرب عليها الحصار ولكنه لم ينل منالا وكانت الحملة عليها شاقة منهكة للجنود مضنية لهم فساءت حالتهم ونفدت مؤونتهم.

فأكره طوسون على رفع الحصار عن تربة والارتداد بجنوده، فتعقبهم الوهابيون ورجع الجيش أدراجه الى الطائف بعد أن أحرق خيامه تفاديا من وقوعها في يد الأعداء.

احتلال قنفذه ثم إخلاؤها

وقد رأى محمد علي أن أهل العسير يناصرون الوهابيون ويناوشون وحدات جيشه في الحجاز، فأنفذ حملة الى ميناء قنفذه فاحتلتها وأمر بتحصينها توطئة للزحف على داخل البلاد، وأبقى بها حامية من ألف ومائتي جندي، ولكن هذه الحامية لم تلبث قليلا حتى اضطرت الى اخلائها، ذل أن قومندان الحامية فاته أن يحتل عين الماء التي تستقي منها البلدة فاحتلها العربان وقطعوا الماء عن الحامية، فأنفذ اليها القومندان كتيبة من الجنود لاستخلاصها ولكن العرب هاجموهم بقيادة زعيمهم (طامي بن شعيب) وردهم على أعقابهم فوقع الرعب في جنود الحامية ولم ير قائدهم وسيلة لانقاذهم من الظمأ سوى اخلاء المدينة والرجوع الى جدة فنجا من الحامية من استطاع النجاة بركوب السفن وقتل الوهابيون عددا كبيرا ممن أدركوهم قبل أن يتمكنوا من الفرار، وبذلك فشلت الحملة على قنفذة.

طلب محمد علي المدد من مصر

وبديهي أن هزيمة طوسون في تربة، وإخلاء قنفذة، ومناوشات الوهابيين المستمرة لوحدات الجيش المصري، كان من شأن ذلك كله أن يبعث اليأس والقنوط، لكن محمد علي باشا كان ذا عزيمة حديدية لا تنثني أمام الصعاب مهما عظمت، وهذه العزيمة من أخص صفاته، وهي من عزيمة عظمته ومجده، فقابل هذه الهزائم بالثبات وعلو الهمة، وكان قد أرسل الى كتخدا بك في مصر (محمد لاظ لاظوغلي) يطلب اليه أن يوافقه بالمدد والمؤن، فأمده بسبعة آلاف من الجنود وسبعة آلاف كيس، وتحملت مصر في إعداد هذه الحملة الجديدة تضحيات جسيمة، فإن الكتخدا بك نزولا على أمر محمد علي استولى على أملاك المتلزمين (فبراير سنة 1814) فتذمر الناس من هذا الارهاق وقصدوا إلى المشايخ ليحولوا دون انفاذه، فذهبت شكاواهم عبثا، وجمع الكتخدا سبعة آلاف كيس من المصادرات وفرض الأتاوات واستطاع أن يجند السبعة الآلاف مقاتل من مختلف طبقات المجتمع بطريقة التطوع للخدمة العسكرية. وقد تأخذك الدهشة إذ تسمع في هذا المقام عبارة التطوع، لأن المفهوم أن مثل هذه الحملات البعيدة كان يحشد لها الناس بالقوة، ولكن ما ذكرناه مستفاد من رواية الجبرتي فقد أشار إلى هذه الطريقة في حوادث ربيع الثانية سنة 1229 (مارس سنة 1814) بقوله: "وفي ليلةالاثنين سادسه حضر مميش أغا من ناحية الحجاز مرسلا من عند البااش باستعجال حسن باشا للحضور الى الحجاز، وكان قبل ذلك بأيام أرسل يطلب سعة آلاف عسكري وسبعة آلاف كيس، فشرع كتخدا بك في استكتاب أشخاص من أخلاط العالم ما بين مغاربة وصعايدة وفلاحي القرى ، فكان كل من ضاق به الحال في معاشه يذهب ويعرض نفسه فيكتبونه، وإن كان وجيها جعله الكتخدا أميرا على مائة أو مائتين".

وفاة سعود بن عبد العزيز

وصل هذا المدد الى جدة، وفيما كان محمد علي باشا يتأهب للزحف ساعدته العناية الإلهية بوفاة خصمه الشديد البأس الأمير سعود بن عبد العزيز ، توفى بالدرعية في إبريل سنة 1814.

فخلفه في الأمارة نجله عبد الله بن سعود، ولم يكن على صفات أبيه من الشجاعة والاقدام وبعد النظر وعلو الهمة، بل كان على العكس شديد التردد ضعيف الفؤاد لين العريكة لا يميل الى الحرب والقتال، فكانت وفاة سعود بن عبد العزيز من الاسباب التي ساقتها الاقدار لنجاح محمد علي، وهكذا كان للحظ اثر كبير في حياة ذلك الرجل العظيم.

حصار الوهابيين الطائف

أنفذ محمد علي عابدين بك أحد قواد جيشه لاحتلال وادي زهران الذي يفصل اليمن عن الحجاز، فزحف ولم يلق بادئ الأمر كبير مقاومة، ثم ما لبث الوهابيون أن عادوا يهاجمون الجيش المصري حتى اضطر إلى الانسحاب ونالته الخسائر الفادحة، فكان انسحابه هزيمة للمصرييين، وظفرا للوهابيين، وتعقبه هؤلاء حتى الطائف واقبلوا بجموعهم الحاشدة وضربوا عليها الحصار وكان فيها طوسون باشا.

بلغ محمد علي هذا النبأ وهو في جدة فأخذ يعمل فكرة لإنقاذ ابنه من الحصار فاهتدى إلى حيلة حربية تدل على شدة ذكائه وحضور ذهنه، ذلك أنه ركب في عشرين من رجاله وسار نحو الطائف، ووقف على جبل يشرف عليها، فشاهد مركزها وهي محصورة، وفيما هو كذلك جاءه رجاله بفارس عربي من الوهابيين وقع أسيرا في أيديهم، فلما رآه محمد علي أخذ يسأله عن قوات الوهابيين فيجيبه على ما يسأل، ثم عرض عليه أن يطلق سراحه على أن يحمل رسالة الى ابنه طوسون في الطائف، واخذ عليه موثقا أن يؤدي الرسالة، فوفى الرجل بعهده، وحمل الرسالة الى طوسون باشا فإذا هي تحوي الكلمة الآتية: "إني قادم إليك فأحضر وألحق بنا فوق الجبل".

رفع الحصار عن الطائف

وقد اطلع الوهابيون على فحوى الرسالة، فتوهموا ان جيشا عرموما قد أقبل لنجدة طوسون، وأنهم سيقعون حينئذ بين نارين، والحقيقة أنها خدعة ابتكرها محمد علي بإيهام الوهابيين أنه اقدم في قوة كبيرة، وقد كان لهذه الخدعة أثرها الفعال في سير القتال، فإن الوهابيين أجمعوا على الانسحاب ورفعوا الحصار عن الطائف.

التأهب لمعاودة القتال

عاد محمد علي ونجله إلى مكة (يونيه سنة 1814) ومنها إلى جدة وأخذ في تدريب السبعة الآلاف من الجنود الذين بعث بهم الكتخدا بك، وبقى في جدة ثلاثة أشهر بعد العدة لاستئناف القتال، وفيما هو يتأهب للزحف شبت الثورة في قبائل البدو الضاربة بين ينبع والمدينة، وسببها أن حاكم المدينة قتل شيخ قبيلة حرب، فقامت القبائل للأخذ بالثأر وقطعت السبل بين جدة ومكة وينبع والمدينة وكادت الثورة تستفحل لولا أن عالجها محمد علي باشا بالحكمة فسار طوسون إلى ينبع ومنها إلى بدر حيث التقى برؤساء القبائل فعتهد لهم بعقاب حاكم المدينة عقابا يتكافأ مع جريمته فهدأت بذلك حدة غضبهم، وساعده على تهدئتهم ما بذله لهم من المال فكان من نتائج ذلك أن تخلوا عن وادي الصفراء الذي يحتلونه.

وفي خلال تلك الحادث تلقى طوسون باشا من المدينة نبأ وفاة حاكمها الذي شبت الثورة بين القبائل بسببه، فأذاع طوسون هذا النبأ بين القبائل وأفهمهم أن أباه هو الذي أمر بقتله عقابا له على فعلته، فهدأت القبائل وجنحت إلى السلم وكفت عن قطع الطرق، وكان موسم الحج قد أقبل فصار طريق الحجاج مأمونا، وحج محمد علي للمرة الثانية وأقبل الحجاج من مصر ومن سائر الأقطار الاسلامية وأدوا الفريضة آمنين مطمئنين.

واقعة بسل

وبعد أن تمت مراسم الحج ، تجددت الحرب، وأنفذ محمد علي جنود إلى الطائف تمهيدا للزحف، وكان الوهابيون قد جمعوا من المقاتلة نحو عشرين ألفا حشدوهم بقيادة فيصل بن سعود بين بسل وتربه وكان لهم عدد ذلك احتياطي من نحو عشرة آلاف مقاتل، فزحف محمد علي في نحو أربعة آلاف مقاتل على بسل الواقعة بين الطائف وتربه، والتقى فيها بجيش الوهابيين (يناير سنة 1815) فدارت رحى القتال بين الفريقين واستعرت نار الحرب واستمرت المعركة من الفجر حتى المساء، وانتهت بهزيمة الوهابيين وقتل منهم نحو ستمائة وتشتت الباقون، وتعد واقعة بسل من أكبر وقائع الحرب الوهابية بل من أهم المعارك في تاريخ مصر الحربي.

احتلال تربه ورنيه ثم بيشه

تابع المصريون زحفهم بعد واقعة بسل فاحتلوا تربة ثم احتلوا كذلك رنيه وبيشه ولقى الجيش خلال هذه الغزوة متاعب هائلة ولم يكن غذاء الجنود في الغالب سوى التمر، وكان محمد علي يقاسمهم شظف العيش ليشجعهم على احتماله.

احتلال قنفذه

ثم رجع الى الشاطئ واحتل ميناء قنفذه وابقى فيها حامية مصرية وذهب منها الى جدة ومنها الى مكة تحف به اعلام الظفر.

احتلال الرس

وزحف طوسون من المدينة على القسم الشمالي من نجد متشجعا بتلك الانتصارات، فبلغ في زحفه إلى الرس إحدى مدن نجد المهمة فاحتلها، ثم احتل الشبيبة الواقعة على طريق الدرعية عاصمة الوهابين، واستعد الجيشان فأخذ كل منهما يتأهب لمعركة فاصلة.

طلب الوهابيين الصلح

على أن طوسون رأى من المغامرة أن يبدأ بالهجوم لأنه أدرك أنه إمام قوات تفوقه عددا، فتشاور وقواد جيشه واتفقوا رأيا على الإنسحاب إلى المدينة، ولكنه لم يكد يستقر رأيه على هذا العزم حتى أوفد إليه الأمير عبد الله بن سعود رسولا يعرض الصلح والطاعة، فدهش طوسون لهذه المفاجاة على حين كن يشعر بأن مركز عدوه قوي منيع، لكن ضعف عبد الله بن سعود وما جبل عليه من التردد كان من أهم البواعث التي مالت به إلى التسليم والخضوع.

فأجاب طوسون على طلب الصلح أنه لا يستطيع أن يجيب الطلب إلا بعد عرض الأمر على والده، وأنه يمنح الأمير الوهابي هدنة عشرين يوما حتى يراجع والده، فقبل عبد الله بن سعود، وتهادن الفريقان ووقفت الحركات الحربية، وبقى كل جيش مكانه ينتظر الهدنة أن تنتهي.

رجوع محمد علي الى مصر

وفي غضون ذلك عاد محمد علي إلى مصر فجأة: ذلك أنه تلقى من مصر أنباء شغلته وأهاجت وساوسه، إذ علم منها أن ثمة مؤامرة دربها لطيف باشا في غيبته كما سيجئ بيانه، وبلغه كذلك أن حوادث خطيرة توشك أن تقع في أوروبا إذ الصراع بالغ أشده بين نابليون والدول المتألبة عليه، وعلم من الانباء الاخيرة ان نابليون بعد ان هزمه الحلفاء ونفوه إلى جزيرة ألبا قد أفلت من منفاه ورجع إلى فرنسا واسترد عرشه وسلطته، فخشى محمد علي أن تكون عودة نابليون سببا في تجدد الحرب والقتال في أوروبا واستهداف مصر لحملة جديدة إذ يفكر نابليون ثانية في غزوها، ومع أن هذه الفكرة لم يهجس بها نابليون بعد عودته من منفاه إلا أن محمد علي كان شديد الحذر كثير الهواجس خوفا على مركزه، فأسرع بالرجعة إلى مصر لكي يتقي المفاجات التي ليست في الحسبان وعاد عن طريق القصير فقنا فالقاهرة، وذكر الجبرتي نبأ عودته في حوادث رجب سنة 1230، فقال إنه حضر إلى الجيزة ليلة 15 رجب (23 يونيه سنة 1815).

مؤامرة لطيف باشا

أما مؤامرة لطيف باشا فحكايتها كما يذكرها جمهور المؤرخين أنه كان من مماليك محمد علي شاب اسمه لطيف أغا قربه إليه واختصه وجعله أمين خزانته، فلما جاءت الأنباء باستيلاء الجيوش المصري على المدينة واستخلاصها من أيدي الوهابيين أوفده محمد علي إلى الأستانة ليزف البشرى إلى الديوان العالي، فأنعمت الحكومة التركية على لطيف أغا برتبة الميرميران فصار لطيف باشا ، فداخله ألزهو والخيلاء، وزين له بعض رجال المابين أن يأتمر بسيده ومنوه الأماني ووعدوه بالمساعدة على أن يخلفه في ولاية مصر، فقبل لطيف باشا هذه المهمة، وخيل له زهوه وغروره انها فكرة ناجحة، وخاصة لان محمد علي عازم على التوجه إلى الحجاز فيكون غيابه خير فرصة لتنفيذ مهمته واعتلائه عرش مصر، وعاد الى القاهرة ونفسه مملوءة آمالا كبارا، وبدا عليه في مصر من الغطرسة والكبرياء ما جعل الظنون تحوم حوله، واستشف محمد علي بثاقب نظره تغيرا في أطواره وحركاته، فارتاب في أمره، وما أكثر ما يستهدف الناس للشبهات والريب في ذلك العصر، وزاد في ارتيابه أن كتخداه محمد لاظ أوغلي المشهور بكراهيته لجنس المماليك نقم على لطيف باشا كبرياءه وخيلاءه وما ناله من المزايا والرتب ، فألقى في روع محمد علي على أنه يسرف في بذل المال ويستكثر من الأتباع والمماليك فعسى إن يتخذهم جندا ويحدث بهم حدثا، فتزعزعت ثقة محمد علي فيه، ولما مضى الى الحجاز عهد إلى محمط لاظ أوغلي أن يرقب حركات لطيف باشا واطلق له أن يتخذ ما يراه في شأنه، وكان التخدا معتزما التنيل به، فأخذ يؤلب عليه رؤساء الحكومة مثل حسن باشا، وطاهر باشا، وطبوز أوغلي، ومحو بك ، ومحمود بك الدويدار، وكذلك أوغر عليه صدر اسماعيل باشا ابن محمد علي، وصمم على قتله بعد أن أخذ للأمر عدته.

وفي اليوم الموعود باغته بدعوته إلى اجتماع يعقد في القلعة للنظر في بعض الشئون، وخيره بين أن يحضر أو يغادر الديار المصرية، وكان لطيف يعلم ما وراء هذه الدعوة من المهالك، فحار في أمره، وبينما هو يفكر في حيلة ينجو بها أبصر فرأى بينه يحاصره نحو ألفين من الجنود جاءوا ليقبضوا عليه وأخذوا يطلقون الرصاص على داره، فعلم أن قد أحيط به، وفكر في الفرار ، فاستتر في مخبأ بداره ومعه نساؤه ومملوك له حتى جن الليل، فتسلل هو إلى بيت خازنداره واختفى فيه.

أما العسكر فاقتحم جماعة منهم دار لطيف باشا وكشفوا مخابئها، وفتشوها تفتيشا دقيقا، فعثروا على النساء والمملوك، ولم يجدوا ضالتهم أي لطيف باشا، ولما كان الغد أراد لطيف أن يغادر بيت خازنداره خشية أن تقع عليه عيون الرقباء لقربه من بيته، فصعد الى سطح البيت، واعتزم أن يقفز من سطح إلى سطح ليلوذ بالهرب، وبينما هو يقفز من سطح خازنداره أبصره أحد الجنود المراقبين له فصاح به لينبه إليه الرقباء، فرماه لطيف باشا برصاصة جندلته، ولكنها ايقظت نظر الرقباء فتعقبوه، ولم تمض ساعات حتى القوا البض عليه فكبلوه وساقوه إلى الكتخدا لمحاكمته.

فعقد الكتخدا ديوانا من كبار رؤساء الحكومة واتفقوا على إعدامه، وسبق لطيف باشا إلى ساحة الإعدام تحت سلالم سراي القلعة وقطع رأسه.

ويلوح لنا أن ما ذكره جمهور المؤرخين من قبل أن قتل لطيف باشا يرجع إلى ممالأته لحكومة التركية على انتزاع ولاية مصر من محمد علي مشكوك فيه، ولا يسهل تصديقه، لأن الوقت لم يكن مناسبا لخلع محمد علي وهو منصرف إلى توجيه كل قواته لمحاربة الوهابيين، وحكومة الأستانة لم تكن في ذلك الحين تخشى بأس محمد علي بل كانت في حاجة إليه لتفرغ من الدولة الوهابية التي تنازعها السلطة والسيادة وتتهددها بانشاء دولة عربية قد تنتزع منها الخلافة، فمحمد علي كان وقتئذ مشمولا برضا الحكومة التركية، ولا يتفق منطق الحوادث مع تآمرها عليه في هذه الظروف.

وأغلب الظن أن محمد علي وحاشيته قد ساءهم الأنعام على لطيف باشا بالباشوية إذ لم يسبق للسلطان أن انعم بها على أحد بعد تولية محمد علي غير أبنائه، وأخذت بطانة البااش وخاصة كتخداؤه محمد لاظ أوغلي ينظرون بعين المقت والارتياب إلى لطيف باشا، وزادهم مقتلا له ما بدا عليه من الغطرسة والخيلاء بعد عودته من الأستانة، وكان لاظ أوغلي معروفا عنه كرهه للماليك، ولطيف باشا كان في الأصل مملوكا، فحقد عليه واعتزم التنكيل به كما تقدم ، واتخذ تهمة المؤامرة وسيلة لإنفاذ عزمه.

وقد ذكر الجبرتي حكاية المؤامرة، ولم يؤيدها في روايته، وكذلك لم يروها مانجان بلهجة تفيد اليقين.

مشروع الصلح واخفاقه

في خلال الهدنة التي عقدها طوسون باشا مع عبد الله بن سعود جاءه كتاب من والده ينبئه أنه سافر إلى مصر لشئون هامة وأنه ترك له عددا عظيما من الجند بقيادة خازنداره، ويوصيه بالمبادرة إلى الزحف على الدرعية عاصمة الوهابيين لاستئصالهم والقضاء عليهم. ورد خطاب محمد علي إلى ابنه فأرسل يستدعي الخازندار إلى مدينة الرس قبل انقضاء أجل الهدنة، وتشاور طوسون باشا وقواد الجيش ورؤساء القبائل الموالية، واستقر رايه على قبول الصلح، واشترط لذلك شروطا أهمها أن تحت الجيوش المصرية الدرعية وأن يرد عبد الله بن سعود كل ما أخذه الوهابيون من الحجرة النبوية من النفائس والجواهر وأن يكون رهن أوامر طوسون باشا حتى إذا طلب إليه السفر إلى أي جهة كائنة ما كانت أذعن للأمر، وأن يؤمن سبل الحج ويكون خاضعا لحاكم المدينة، وألا يتم تمام الصلح ألا بعد عرضه على محمد علي باشا وإقراره.

وأرسل عبد الله بن سعود وفدا إلى القاهرة ليعرض الصلح على محمد علي، ووصل الوفد إلى مصر في سبتمبر سنة 1815، ولكن محمد علي أظهر تشددا ولم يرض بالشروط التي عرضها ابنه، وصمم على معاملة أمير الوهابيين معاملة الخوارج والعصاة، ولعله كان يرمي الى بسط حكمه على جزيرة العرب، فرأى في بقاء ظل لدولة الوهابيين مهما تظاهر عبد الله بن سعود بالخضوع والولاء حائلا دون استقرار حكمه في الجزيرة، فآثر أن يمحق قوته ويأخذه أسيرا ليقضي على دولته القضاء الأخير، فطلب إلى الوفد قبل أن يصفح عن اميرهم أن يرد جميع ما أخذه الوهابيون من نفائس الحرم النبوي وأن يسلم الدرعية إلى حاكم المدينة وأن يحضر بنفسه ويذهب إلى الأستانة ليكون رهن أوامر السلطان وليقدم له حسابا عن أعماله، وكان محمد علي يتوقع ألا تقبل شروطه القاسية وخاصة سفر عبد الله بن سعودالى الاستانة لان معنى ذلك تسليم عنقه إلى يد الجلاد، وقد تحقق ما توقعه فإن عبد الله بن سعود لما بلغه نبأ هذه الشروط أرسل يقول أنه لم يبق لديه شيء من النفائس التي انتزعها أبوه حتى يرد منها شيئا، ورضى بأن يعين محمد علي نائبا عنه في الدرعية يولي قبض الخراج أو أن يحدد الخراج بمبلغ معلوم يتعهد بأدائه، ورفض شرط الذهاب إلى الأستانة.

فارسل محمد علي يتهدد بالحرب وينذره جيشا جرارا يكتسح بلاده ويخربها، وبذلك اخفقت مفاوضات الصلح، وتأهب عبد الله بن سعود للحرب والقتال ، وجرد محمد علي حملة جديدة على الحجاز بقيادة أكبر أنجاله ابراهيم باشا.

رجوع طوسون باشا الى مصر

علم طوسون باشا وهو في الحجاز بأنباء الفتنة العسكرية التي أثارها الجنود الأرناءود بالقاهرة وما وقع منها من النهب مما سيجئ بيانه، فقرر العودة الى القاهرة ، وسار من المدينة الى ينبع، ومنها الى السويس بحرا، وكان وصوله اليها في غاية شهر ذي القعدة سنة 1230، وقدم القاهرة يوم 5 ذي الحجة (8 نوفمبر 1815) ، وكان الاحتفال باستقباله عظيما بالغا، قال الجبرتي في هذا الصدد: "في رابع ذي الحجة سنة 1230 نودي بزينة الشارع الاعظم لدخول طوسون باشا سرورا بقدومه، ودخل من باب النصر، وعلى رأسه الطلخان وشعار الوزارة، وطلع الى القلعة وضربوا في ذلك اليوم مدافع كثيرة وشنكا وحراقات".

استئناف الحرب في الحجاز بقيادة ابراهيم باشا

أبدى محمد علي همة كبيرة في تجريد الحملة الجديدة، وظل ستة أشهر يعد معداتها، وعقد لواءها لابنه الأكبر ابراهيم باشا، فأمر بجمع المراكب في ساحل بولاق لنقل المؤونة والذخائر والمدافع والمهمات إلى قنا ومنها تنقل برا إلى ثغر القصير لتقلع منه إلى ينبع بحرا، وسار إبراهيم باشا من بولاق يوم 5 سبتمبر سنة 1816 قاصدا قنا، ولما وصل إلى اسيوط جند ألفين من الفلاحين لينضموا الى الحملة.

ولما بلغت الحملة إلى قناة نقلت على ظهور الإبل إلى القصير، واعد إبراهيم باشا ستة آلاف جمل قدمها عرب العبابدة لهذه الغاية، فمضت الحملة إلى ميناء القصير وأقلعت بهم سفن الأسطول المصري إلى ينبع، فبلغتها يوم 29 سبتمبر، وكان يصحب إبراهيم باشا ضابط فرنسي من ضباط أركان الحرب وهو المسيو فيسيير وطبيب وجراحان وصيدلي من الإيطاليين.

ولم يكد يستقر به المقام في ينبع حتى سار إلى المدينة، فادى فروض الزيارة النبوية، وأخذ يستعد للزحف والقتال.

وفي اليوم الرابع من عيد الأضحى سار بجيشه وقصد الصويدرة شمالي المدينة واتخذها معسكره العام وأخذ يجهز المعدات ويجمع الإبل للزحف على نجد، ولكنه عانى من مصاعب كثيرة في بدء الحملة، منها أن معظم القبائل كانت ممائلة للوهابيين على محاربة الجيش المصري، فأخذوا يناشدون القوافل بين الصويدرة والثغور البحرية. فانفذ إبراهيم باشا لمحاربتهم قوة من الفي جندي القت بهم على مسيرة يومين وأوقعت بهم الهزيمة.

ثم أخذ العرب يؤثرون الجانب المصري على الوهابيين لما لم يجدوا من هؤلاء منفعة أو طائلا، فانضموا إلى إبراهيم باشا وتعهدوا بتقديم ما يطلب من الإبل وغيرها.

زحف إبراهيم باشا من الصويدرة وسارى إلى الحناكية وعسكر بها وتحصن فيها، واتخذها نقطة ارتكاز لزحفه، ثم تحرك منها قاصدا الرس التي اتخذها عبد الله بن سعود معسكرا له، وكان الوهابيون قد احتلوها بعد عودة طوسون باشا الى مصر.

وفاة طوسون باشا

(سبتمبر سنة 1816)

رجع طوسون باشا إلى مصر كما قدمنا، وبعد أن استقر به المقام تولى قيادة الفرق التي أنفذها محمد علي لترابط على فرع رشيد، وكان غرض محمد علي توزيع الجنود في مختلف أنحاء الوجه البحري حتى لا يكون احتشادهم في القاهرة خطرا إلى النظام بعد ما بدا منهم من التمرد والعصيان، ولكي يلقى في روعهم أنه لا يقصد تشتيتهم أو معاقبتهم أمر بأن يصحبهم في معسكراتهم الجديدة بعض أبنائه ورؤساء جنده، فتولى طوسون باشا قيادة بعض تلك الفرق كما قدمنا، واتخذ معسكره في برنبال الواقعة بالبر الشرقي للنيل تجاه رشيد، والتمس بها الراحة من عناء المعارك التي خاضها في الحجاز، فأخذ الموسيقيين والراقصين والراقصات والمغنيات ومجالس اللهو، وبقى بها الى ان عاجلته المنية ليلة 29 سبتمبر سنة 1816 اثر مرض ثار به فجاة، قيل انه نشأ من تهالكه على الملذات، ولم يمهله أكثر من عشر ساعات ثم فاضت روحه، فنقلت جثته بطريق النيل إلى القاهرة ودفن في مقابر الإمام الشافعي.

توفى طوسون وهو مقتبل الشباب إذ لم يتجاوز العشرين من عمره، فجزع أبوع على فقده جزعا شديدا وحزن الناس لوفاته لما كان عليه من الشجاعة والجود والميل إلى الشعب.

حصار الرس

اشتبكت طلائع الجيش المصري بالوهابيين على مقربة من الرس، فكانت الغلبة للجيش المصري، لما امتاز به من النظام والتسلح بالبنادق الحديثة، ومعاونة العربان من قبيلة حرب.

هزم الوهابيون ورجعوا القهقري، وامتنع عبد الله بن سعود في الرس، فضرب عليها ابراهيم باشا الحصار، وجلب المدافع لرميها، وأقام الاستحكامات حولها، لكنها كانت على قوة ومنعة، فاستمر الحصار ثلاثة أشهر وسبعة عشر يوما دون أن ينال منها طائلا، ودافع عنها الوهابيون دفاع الأبطال بالرغم من قتالهم جيشا مسلحا بالبنادق الحديثة، ولم يكن عندهم إلا البنادق من الطراز العتيق الذي يطلق بالفتيلة، ومع ذلك صدوا هجمات الجيش المصري ثلاث مرات وكبدوه خسائر جسيمة، وبلغ عدد قتلاه مدة الحصار 2400 جندي، على حين لم يقتل من الوهابيين سوة 160 قتيلا، وهذا يدلك على فداحة الخسائر التي أصابت الجيش المصري في حصار الرس.

وقد أدرك إبراهيم باشا أن خسائره ستتفاقهم إذا هو استمر في الحصار، وان ذخيرته نقصت ومؤونته كادت تنفد، وأصبح الجيش هدفا للمجاعة. اضف الى ذلك ما خامر نفوس الجنود من الملل والياس، وما قاسوه من الشدائد والاهوال، ثم انتشار الامراض بينهم، وهبوب الزعازع والاعاصير التي كانت تقتلع الخيام فترمي بها فلا يجد الجنود وخاصة المرضى والجرحى مأوى لهم.

فاضطر ابراهيم باشا ان يرفع الحصار عن الرس، وأن يقبل من عبد الله بن سعود شروطا لوقف القتال ما كان ليرضاها لو لم تمتنع عليه، فصالحه على أن يرفع الحصار عن المدينة وأن يضع أهلها سلاحهم ويقيموا على الحياد، ولا يدخل الرس أحد من جنود إبراهيم باشا او ضباط جيشه، ولا يجبر الأهالي على تقديم شي من المؤونة للجيش ، ألا يؤدوا أتاوة، وأنه إذا استولى الجيش على مدينة عنيزة تسلم له الرس بدون قتال، وأن لم يفلح يعود القتال ثانية. أسار إبراهيم باشا قاصدا عنيزة ، واحتل في طريقه الخبراء بعد أن ضربها بالمدافع عدة ساعات، واستراح الجيش بها أحد عشر يوما، ثم سار إلى عنيزة وحاصرها ستة ايام الى ان سلمها حاكمها محمد بن حسن على الا تؤسر الحامية الوهابية وأن يؤذن لها بالذهاب إنى شاءت بشرط أن تتخلى عما لديها من الأسلحة والذخائر والمؤوننة، فرضى إبراهيم باشا الشروط ودخل المدينة، ثم أرسل كتيبة من الجند لاحتلال الرس طبقا للشروط التي اتفق عليها من قبل.

كان لسقوط عنيزة بهذه السرعة اثر كبير في سير القتال، لأنها من أهم مواقع نجد فتراجع عبد الله بن سعود إلى الشقراء، واخذ يحصن الدرعية مخافة أن تتداعى بتاثير ضربات إبراهيم باشا ، وجنحت القبائل في بلاد القصيم الى التسليم خوفا من بطش ابراهيم واذعنت له.

(((((خريطة)))))))

فتح الشقراء

(يناير سنة 1818)

استأنف إبراهيم باشا الزحف، فاحتل بردية بعد قتال طفيف، وبقى بها شهرين تلقى في خلالها المدد من مصر، ثم سار في أواخر ديسمبر سنة 1817 قاصدا الشقراء، وهي من امنع بلاد نجد فوصلها يوم 13 يناير سنة 1818 وضرب عليها الحصار، واخذ يشدد في حصارها ويضربها بالمدافع حتى طلب أهلها التسليم، ورضى منهم إلا ياخذ منهم أسرى وأن يؤذن لهم بالذهاب حيث شاءوا على ألا يحملوا السلاح ثانيا لقتال الجيش المصري وإذا نقضوا عهدهم استحل دماءهم.

ودخل ابراهيم باشا المدينة دخول الظافر يوم 22 يناير سنة 1818.

كان فتح الشقراء انتصارا كبيرا للجيش المصري لما لموقعها من الشان والخطر، ولما وصلت إلى مصر أنباء هذا الفتح قوبلت بابتهاج عظيم.

قال الجبرتي في هذا الصدد: " في أواخر ربيع ثاني سنة 1233 (فبراير سنة 1818) حضر مبشر من ناحية الديار الحجازية بخبر نصرة حصلت لابراهيم باشا وأنه استولى على بلدة تسمى الشقراء، وأن عبد الله بن سعود كان بها فخرج هاربا إلى الدرعية ليلا، وأن بين عسكر الأتراك والدرعية مسافة يومين، فلما وصل هذا المبشر ضربوا لقدومه المدافع من أبراج القلعة وذلك وقت الغروب من يوم الأربعاء سادس عشرينه".

فتح الدرعية

(سبتمبر سنة 1818)

أنشا إبراهيم باشا في الشقراء مستشفى وترك بها فصيلة من الجنود، وسار قاصدا الدرعية عاصمة الوهابيين، وكانت تبعد عن المدينة المنورة التي اتخذها إبراهيم باشا قاعدة للحركات الحربية نحو 400 ميل، وهذا بذلك على عظم المراحل التي قطعها الجيش في الحرب والقتال.

فعرج في طريقه إلى الدرعية على ضرمة إذ علم ان بها كثيرا من المؤونة والجياد، فامتنعت عليه، فضربها بالمدافع ودافع حاكمها وأهلها عن مدينتهم دفاعا شديدا وقتلوا كثير من المهاجمين، واستمر القتال حتى طلب الحاكم التسليم على أن يخلي البلد، فأخلاها وترك الأهالي هدفا لبطش الجيش، وأمر إبراهيم باشا بقتلهم عقابا لهم على ما كبدوا الجيش من الخسائر، فقتلوا جميعا.

بقى إبراهيم باشا شهرين في ضرمة حيث عاقته الأمطار عن الزحف، ثم غادرها في 22 مارس سنة 1818 قاصدا الدرعية عاصمة الوهابيين، فخط تجاهها يوم 16 إبريل في جيش مؤلف من خمسة آلاف وخمسمائة من المشاة والفرسان مجهزين باثنى عشر مدفعا.

تتألف الدرعية من خمسة أحياء متجاورة يحيط بكل منها سور، فكانت المدينة محصنة تحصينا منيعا وفيها بعض المدافع يستعملها الوهابيون في القتال.

رتب إبراهيم باشا مواقع جنوده وأعد العدة لمهاجمتها، وعاونه في رسم خط الحصار الضابط الفرنسي الذي يصحبه وهو المسيو فيسيير، وبدإ إبراهيم يضرب المدينة بالمدافع، ولكنها امتنعت عليه ودافع عنها الوهابيون دفاع الابطال واشترك نساؤهم في القتال فكان دفاعا مجيدا.

استمر الحصار اكثر من شهرين والمدينة مستعصية على الجيش المصري، فبدأ مركزه يتحرج، وزاد في حرجه أن الطبيعة أصابت الجيش بنكبة كادت تودي به لولا ثبات إبراهيم باشا وعزيمته الحديدية، فقد هبت عاصمة على معسكر الجيش يوم 21 يونيه سنة 1818 إطارت نارا كان أحد الجنود يوقدها، فاندلعت النار على خيمة منصوبة على قرب من مستودع الذخيرة، فاحترقت الخيمة وامتدت نارها إلى المستودع فانفجر لساعته ونسف الإنفجار من القنابل والرصاص ما ذهب بنصف ذخيرة الجيش، فذعر الجنود لدوي الانفجار ولما أصاب الذخيرة من التدمير، وكادت تحل الهزيمة بالجيش ويختل نظامه لولا ان قابل ابراهيم باشا تلك الكارثة بالشجاعة والجلد، وما يؤثر عنه في هذا الموقف أنه قال لمن حوله: "لقد فقدنا كل شئ، ولم يبق لدينا الا شجاعتنا فلنتذرع بها ولنهاجم العدو بالسلاح الأبيض.

وأخذ يشجع الضباط والجنود، وأرسل يطلب الذخيرة من المواقع التي يحتلها الجيش المصري، كالشقراء، وبريدة، وعنيزة، ومكة والمدينة وينبع.

وعلم الوهابيون بما حل بذخيرة الجيش المصري، فقرروا الهجمة عليه لعلهم يأخذونه من ضعف، وهاجموهم فعلا في اليوم التالي، ولكن ابراهيم باشا احكم خطط القتال وامر جنوده بالاقتصاد في الذخيرة فرد الوهابيون على أعقابهم، واستمرت الحرب سجالا إلى أن جاءته الذخيرة فسد بها النقص، وتلقى من أبيه رسالة بأنه ممدة بثلاثة آلاف من المقاتلة بقيادة خليل باشا، فاعتزم إبراهيم باشا أن يضرب الضربة القاضية قبل أن يتلقى المدد لكي لا يشاركه خليل باشا في فخر الظفر الوهابية.


رواية الجبرتي

أشار الجبرتي إلى تلك الحوادث بقوله:

"وفي منتصفه (رمضان سنة 1233 – يوليو سنة 1818) وصل نجاب وأخبر بأنه إبراهيم باشا ركب إلى جهة من نواحي الدرعية لأمر يبتغيه، وترك عرضيه (جيشه)، فاغتنم الوهابية غيابه وكبسوا على العرضي على حين غفلة وقتلوا من العساكر عدة وافرة، وأحرقوا الجبخانة (الذخيرة) فعند ذلك قوى الاهتمام وارتحل جملة من العساكر في دفعات ثلاث برا وبحرا يتلو بعضهم بعضا في شعبان ورمضان، وبرز عرضي جيش خليل باشا إلى خارج باب النصرة".

وقال في حوادث شوال من تلك السنة: "وفي ثامنة ارتحل خليل باشا مسافرا إلى الحجاز من القلزم وعساكره الخيالة على طريق البر"، ومعنى هذا أن المشاة ذهبوا من السويس بحرا وسار الفرسان برا من طريق برزخ السويس الى الحجاز، فتأمل عظم المراحل التي كان يقطعها الجنود والمتاعب الهائلة التي كانوا يتكبدونها في تلك الحرب الشاقة.

قلنا أن إبراهيم باشا اعتزم أن يضرب الدرعية الضربة القاضية، فوجه قواته إلى كل نواحي من أحيائها، وأحدا اثر آخر، فاستولى على الأول ثم على الثاني ثم على الثالث، وبذلك ضاق الخناق على الوهابيين، وكان الحصار قد دام خمسة أشهر، فرأى عبد الله بن سعود أن ليس في مقدوره المقاومة بعد ان فدحته الخسائر ونالته الاوصاب من طول الحصار واهواله، فجنح الى الصلح والتسليم، وارسل يوم 9 سبتمبر سنة 1818 رسولا الى ابراهيم باشا يطلب وقف القتال حتى يتم الانفاق على الصلح.

فابتهج إبراهيم باشا لهذه الرسالة ابتهاجا عظيما، وأذن بوقف القتال، ثم جاء عبد الله بن سعود بنفسه إلى معسكر إبراهيم باشا، فتلقاه القائد العظيم بالحفاوة والإكرام، وتم الاتفاق بينهما على ان يسلم الدرعية إلى البطل إبراهيم وأن يتعهد بالإبقاء عليها، وإلا يوقع بالوهابيين أو أنالهم بضرر، وأن يذهب عبد الله بن سعود إلى مصر ثم إلى الأستانة كما هي رغبة السلطان، فرضى عبد الله بن سعود بهذه الشروط، واستولى الجيش المصري على الدرعية بعد حصار دام نحو ستة أشهر، وبعد فتح الدرعية لم تلبث المدن الباقية من نجد أن سلمت وخضعت لقائد الجيش المظفر.

كان محمد علي في خلال تلك الوقائع قلقا على مصير الحملة التي يقودها ابنه في فيافي نجد ووهادها، وتأخرت عنه أخبارها، فاشتدت هواجسه ومرض بعينه وطلب من العلماء أن يقرءوا البخاري ويتوجهوا إلى الله بدعواتهم مبتهلين أن ينصر جيشه، قال الجبرتي في حوادث رمضان سنة 1233 (يوليو سنة 1818): "وانقضى شهر الصوم والباشا متكدر الخاطر ومتقلق ومنتظر ورود خبر يسر بسماعه".

إلى أن جاءته البشرى بانتصار إبراهيم باشا ودخوله الدرعية، فابتهج لهذه البشرى أيما ابتهاج، وأطلقت المدافع من القلعة يوم 28 أكتوبر سنة 1818، إعلانا لهذا النصر المبين.

انتهاء الحرب الوهابية

انتهت الحرب الوهابية بانتصار الجيش المصري وبسط نفوذ مصر في بلاد العرب، وكانت هذه الحرب من أشق حروب مصر في عهد محمد علي وأكثرها ضحايا وأعظمها نفقات، وقد تخللتها هزائم ومواقف عصيبة كادت تقضي على الحملة المصرية ، فإن الجيوش التي جردهامحمد علي استهدفت للخطر في مواطن عدة وخاصة في هزيمة الصفراء الأولىن وحصار الرس عندما استعصت على إبراهيم باشا، وفي حصار الدرعية، وعندما التهمت النار ذخائر الحملة تحت أسوارها، ففي تلك المرات الأربع كادت الحملة المصرية تقع في الأسر لولا أن القيادة الوهابية كان يعودها الحزم والكفاية والنظام.

ومن الأسباب التي أدت إلى اضمحلال قوة الوهابية ضعف عبد الله بن سعود والأموال التي بذلها طوسون وإبراهيم ومحمد علي واشتروا بها ذمم البدو، فإن القبائل التي انحازت إلى جانب الجيش المصري قد عاونته معاونة كبيرة، ولولا ذلك لكانت مواصلاته عرضة للانقطاع ولما استطاع أن يقطع تلك المراحل الشاقة في بلاد مقفرة، أضف إلى ذلك أن عزيمة محمد علي وابراهيم، وما احتمله الجيش المصري من الصبر على المشاق والأهوال، كل ذلك كان له الفضل الأكبر في ما أدركه من الفوز، وبفضل تلك التضحيات الجيسيمة امكن مصر ان تبسط نفوذها في مفاوز جزيرة العرب تلك التي يصعب على أي دولة أن تخضعها، وقد ظل هذا النفوذ مبسوطا على أنحائها إلى أن تقلص ظله في أواخر عهد محمد علي كما سيجئ بيانه.

انظر أيضا


المصادر

  1. ^ الرافعي, عبد الرحمن (2009). عصر محمد علي. القاهرة، مصر: دار المعارف. {{cite book}}: Cite has empty unknown parameter: |coauthors= (help)