أدب ياباني

إن الأدب الياباني وخاصة الشعر و النثر انبثقا من وسط رماد الحرب ، فخلال فترة الحرب لم يكن هناك من الشعراء الذين لم يتأثروا بالنشاطات العسكرية القومية المتطرفة إلا القليل جداً ، فقد عبيءّ جميع الشعراء تقريباً ليكتبوا قصائد تشجع على الحرب ، وقد شاركوا تلقائياً أكثر من أن يكون ذلك إجبارياً ، في هذا النوع من الجهد الأدبي ، وبالطبع ، لم يكن باستطاعة أية أعمال أدبية عن المحنة أن تنشأ من مثل هذه النشاطات ، ولذلك عندما قهرت القوات الحليفة اليابان عام 1945 ، لم يكن هناك أساس يمكن أن يقوم عليه الشعراء الجدد ، عدا ما يدعى "الديمقراطية الموهوبة" رماد ، فراغ ، وديمقراطية موهوبة ، ولكن ما من شيء إبداعي يمكن توقعه من ذلك. غير أنه من الملاحظ في الأدب الياباني هو استلهام كل ما هو أجنبي ، وهذا ما يفسر كون اليابان منذ القديم ميّالاً إلى الاستيراد: البوذية من الصين و كوريا ونظام الحالة المدنية من فرنسا والنظام العسكري من ألمانيا والتقانة من الولايات المتحدة ، قبل الحرب ابتدع الطلبة اليابانيون أغنية مشهورة عنوانها "دكنشو" وهو منحوت من أسماء ديكارت و كانت و شوبنهاور ، أي الفلاسفة الثلاثة الذين كان الطلبة يخصصون لهم جلّ وقتهم.

書.svg
هذه المقالة تحتوي على نصوص يابانية. بدون دعم العرض المناصب، فقد ترى علامات استفهام، مربعات، أو رموز أخرى بدلاً من كانجي وكانا.

ويعتبر الأدب الياباني أدب حديث نسبيا لا يرقى إلى أبعد من القرن السابع للميلاد. ولعل أقدم أثر أدبي ياباني ذي شأن هو (مقتطفات العشرة آلاف ورقة) Manyoshu التي جمعت حوالي العام 760 للميلاد والتي اشتملت على نحو أربعة آلاف قصيدة نظمها شعراء من أهل القرنين السابع والثامن. وابتداء من منتصف القرن العاشر عرف النثر القصصي وثبة بلغت أوجها في مطلع القرن الحادي عشر مع (حكاية جنجي) Gengi Monogatari التي تعد من أروع الآثار القصصية في الأدب العالمي كله والتي وضعتها سيدة بلاط تدعى موراساكي شيكيبو Murasaki Shikibu وصورت فيها حياة الأمير گنجي ومغامراته العاطفية. وفي القرن الرابع عشر ظهر مسرح النو No Theater الذي اعتمد اعتمادا كبيرا على الموسيقى والرقص. حتى إذا كان القرن السابع عشر شهد الأدب الياباني نهضة جديدة فوضعت روايات ومسرحيات كثيرة استمدت موضوعاتها من وقائع الحياة اليومية. وأبرز كتاب هذه الفترة تشيكاماتسو Chikamatsu الذي يعتبر أكبر كتاب اليابان المسرحيين. ومع انتصاف القرن التاسع عشر بدأ تأثر الأدب الياباني بالأدب الغربي. فظهرت منذ العقود الأولى من القرن العشرين المدرسة الرومانتيكية ممثلة بكودا روهان Koda Rohan ، والمدرسة الطبيعية ممثلة ب شيمازاكي توسون Shimazaki Toson ، والمدرسة الواقعية ويمثلها عدد كبير من الكتاب.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

النثر الياباني

گنجي مونوجاتاري

تبلغ روائع القصص في الأدب الياباني عشرين جزءاً ، بل قد تبلغ أحياناً ثلاثين ، وأرفع هذه القصص مكانة هي قصة "گنجي مونوجاتاري" (ومعناها الحرفي والصحيح هو "ثرثرة تدور حول گنجي") ، فهذه القصة في إحدى طبعاتها تملأ أربعة آلاف ومائتين وأربعاً وثلاثين صفحة ، وألفت هذه القصة الممتعة حوالي سنة 1001 ميلادية ، ألفتها "السيدة موراساكي نوشيكيبو" ، وهي من قبيلة فوجبوارا العريقة ، وقد تزوجت من رجل من هذه القبيلة عينها ، لكنه مات عنها فخلفها أرملة بعد الزواج بأربعة أعوام ، فجعلت تُسَرِّي عن نفسها بتأليف قصة تاريخية في أربعة وخمسين جزءاً ، وبعد أن استنفذت كل ما كان لديها من ورق ، سرقت أوراق "السُّتْرات" البوذية المقدسة من معابدها ، واستخدمتها ورقاً لمخطوط قصتها ، فحتى الورق كان يوماً ضرباً من الترف. وبطل القصة ابن لإمبراطور أنجبه من أقرب محظياته إلى نفسه ، وهي "اكبريتسوبو" ، وهي من روعة الجمال بحيث أثارت الغيرة في صدور سائر المحظيات جميعاً ، وجعل هؤلاء يغظنها حتى قضين على حياتها غيظاً ، فاقرأ كيف تصف الكاتبة "موراساكي" الإمبراطور بأنه لا يجد في موتها ما يعزيه ، ولعل الكاتبة في هذا قد أسرفت في تقديرها لمدى استطاعة الرجل أن يخلص في حبه ، قالت: "وكرت الأعوام ، لكن الإمبراطور لم ينس فقيدته ؛ وعلى الرغم من كثرة النساء اللائى جيء بهن له في القصر لعلهن يثرن اهتمامه ، فقد أغضى عنهن جميعاً ، مؤمناً بأن العالم كله ليس فيه امرأة واحدة تشبه فقيدته.

ولم ينفك يشكو من القدر الذي لم يسمح لهما معاً بأن يفيا بالعهد الذي كانا يكررانه كلما أصبح صباح أو أمسى مساء ، وهو أن تكون حياتهما كحياة الطائرين التوأمين اللذين يشتركان في جناح واحد ، أو كحياة الشجرتين التوأمتين اللتين تشتركان في غصن واحد". وكبر "گنجي" وأصبح أميراً فاتناً ، له من وسامة الشكل أكثر مما له من استقامة الأخلاق ، فجعل يتنقل من غانية إلى غانية تَنَقُّل "توم جونز" ، إلا أنه قد بذ في تنقله ذلك البطل المعروف في أنه لم يفرق بين ذكر وأنثى ، فهو يمثل فكرة المرأة عن الرجل - كله عاطفة وكله إغراء ، دائم التفكير ودائم الحب لهذه المرأة أو لتلك ؛ وكان "گنجي" أحياناً "إذا ما ألمت به الملمات ، يعود إلى بيت زوجته".

وترى الكاتبة "السيدة موراساكي" تقص لنا مغامراته بالتفصيل على نحو تحس فيه بفرحها برواية قصته ، ملتمسة له ولنفسها العذر التماساً رقيقاً: "إن الأمير الشاب كان ُيعَدُّ مهملاً لواجبه إهمالاً لا شك فيه ، إذا لم يكن قد أسرف في "فلتاته" الكثيرة ، وإن كل إنسان لا يسعه إلا أن يعد سلوكه هذا طبيعياً لا غبار عليه ، حتى لو كان سلوكاً يعاب على عامة الناس. إنني في الحقيقة لأكره أن أقص بالتفصيل أموراً قد تحوط هو نفسه كل الاحتياط في إخفائها ، لكني سأقص هذه التفصيلات ، لأنني أعلم أنك لو وجدتني قد حذفت شيئاً ، فستقول: لماذا؟ ألأن المفروض فيه أنه ابن إمبراطور ، اضطرت إلى ستر سلوكه بستار جميل ، وذلك بحذف كل نقائصه ، وستقول إن ما أكتبه ليس تاريخاً ، والقصة ملفقة أريد بها التأثير على الأجيال التالية تأثيراً يخدعهم عن الحقيقة ، والقصة كما هي ستجعلني في أعين الناس ناقلة لأنباء الدعارة ، لكن لا حيلة في ذلك". ويمرض "گنجي" خلال مغامراته الغرامية ، فيندم على مغامراته تلك ، ويزور ديراً ليرتد إلى حظيرة التقوى على يدي كاهن ، لكنه في الدير يلتقي بأميرة جميلة (يأبى تواضع الكاتبة إلا أن تسميها باسمها هي ، موراساكي) فتشغله تلك الأميرة حتى ليتعذر عليه أن يتابع الكاهن وهو ينحو إليه باللوم على خطاياه: "بدأ الكاهن يقص القصص عن زوال هذه الحياة الدنيا وعن الجزاء في الحياة الآخرة ، ولقد ارتاع گنجي حين تمثل له فداحة خطاياه التي اقترفها ، إنه لعذاب أليم أن يعلم أن هذه الخطايا ستظل واخزة لضميره ما بقي حياً في هذه الدنيا ، فما بالك بحياة أخرى ستتلو هذه ، فياله من عقاب شديد ذلك الذي ينتظره في مستقبله! وكلما قال الكاهن شيئاً من هذا ، أخذ گنجي يفكر في تعاسته ، ألا ما أجملها فكرة أن يرتد راهباً وأن يقيم في مكان كهذا!... لكن سرعان ما استدارت أفكاره ناحية الوجه الجميل الذي قد رآه ذلك الأصيل واشتاق أن يعرف عن تلك المرأة شيئاً فسأل الكاهن: من ذا يسكن معك هاهنا؟" وتعاون الكاتبة المؤلفة بطلها گنجي على موت زوجته في الولادة ، بحيث أتيح له أن يخلي مكان الصدارة في بيته لأميرته الجديدة "موراساكي" .

وربما كان جمال الترجمة لهذا الكتاب هو الذي أضفى عليه هذه الروعة التي يمتاز بها من سائر الآيات الأدبية اليابانية التي ترجمت إلى الإنجليزية ، ويجوز أن يكون مترجمه - وهو مستر ويلي - قد فاق الأصل بترجمته كما هي الحال مع فتزجرولد (في ترجمته لرباعيات الخيام) ، فإذا ما تناسينا تشريعنا الخلقي برهة - أثناء قراءة هذا الكتاب - وسايرنا حوادث هذه القصة التي تجعل الرجال والنساء "يتلاقحون كما يتلاقح الذباب في الهواء" - على حد تعبير وردزورث في ولهلم مايستر - لوجدنا في "قصة گنجي" أروع لمحة في مستطاعنا اليوم ، مما يتيح لنا رؤية ألوان الجمال المخبوء في الأدب الياباني ، فإن كاتبته "موراساكي" قد كتبته بأسلوب طبيعي سلس ، سرعان ما يجعل موضوعها مادة حديثة مع أصدقائه ، فالرجال والنساء والأطفال بصفة خاصة ، الذين يحيون على صفحات قصتها الطويلة ينبضون جميعاً بالحياة الصحيحة ، والعالم الذي تصفه مصطبغ بصبغة الحياة الحقيقية التي نعيشها ونراها ، على الرغم من أنها كادت تحصر نفسها في القصور الإمبراطورية والدور الفخمة ، إن الحياة التي تصفها هي حياة العلية التي لا تهتم كثيراً بما تتكلفه الحياة وما يتكلفه الحب من نفقات ، لكنها في حدود تلك الحياة ، تراها تؤدي الوصف أداء طبيعياً دون أن تضطر إلى الاستعانة في قصتها بشواذ الشخصيات والحوادث لتثير بها اهتمام القارئ فالأمر هو كما جاء في العبارة التالية على لسان "أومانو كامي" عن بعض الرسامين الواقعيين ، معبرة عن رأي الكاتبة "السيدة موراساكي". "إن التلال والأنهار كما هي في صورها المألوفة التي تراها الأعين ، والمنازل كما تقع عليها أينما سرت ، بكل ما لهذه وتلك من جمال حقيقي في التناسق والشكل - لو أنك رسمت مناظر كهذه رسماً هادئاً ، أو بينت ما يكمن وراء حاجز حبيب إلى قلبك ، معزول عن العالم مستتر عن الأبصار ، أو رسمت أشجاراً كثيفة على تل وطئ لا يشمخ بأنفه ، أقول لو رسمت هذا كله بالعناية اللازمة من حيث سلامة التكوين والتناسب والحياة - لكانت أمثال هذه الرسوم مما يتطلب أدق الحذق من أنبغ الأعلام ، وهي هي التي توقع الفنان العادي في ألوف الأخطاء".

سانتو كُيودِنْ

ولم ينتج الأدب الياباني بعدئذ في القصة ما يوازي في روعته قصه "گنجي" أو ما يساوي هذه القصة في مبلغ تأثيرها على تطور اللغة تطوراً أدبياً ؛ نعم إن القرن الثامن عشر قد بلغ في أدب القصة أوجاً ثانياً ، ووفق كثيرون من أدباء القصة في التفوق على "السيدة موراساكي" لكنهم تفوقوا عليها في طول ما رووا من حكايات أو في مدى ما أباحوه لأنفسهم من تصوير للدعارة ، من ذلك مثلاً كتاب "القصص التهذيبي" الذي نشره "سانتو كُيودِنْ" سنة 1791 ، لكنه كان بعيداً عن الغاية التي زعمها لنفسه - غاية التهذيب - بعداً حدا بأولي الأمر أن ينفذوا القانون الذي يحرم الفحش ، فيحكموا على الكاتب بأن تغل يداه خمسين يوماً وهو في داره ، وكان "سانتو" هذا يتاجر في أكياس الطباق والأدوية "البلدية" وتزوج من عاهرة ، وكسب الشهرة أول ما كسبها بكتاب أخرجه عن بيوت الدعارة في طوكيو ، وبعدئذ أخذ يهذب من أخلاق قلمه شيئاً فشيئاً ، لكنه لم يقتلع بهذا التهذيب من جمهور القراء ما تعودوه من إقبال على شراء كتبه إقبالاً عظيماً ، ولما وجد كل هذا التشجيع ، خرج على كل السوابق المعروفة في تاريخ القصص الياباني فطالب الناشرين بدفع شيء من المال ثمناً لكتبه ، إذ يظهر أن سابقيه من المؤلفين كانوا يكتفون من الأجر بدعوة يدعونها على عشاء ، وقد كان معظم كتاب القصة من الداعرين الفقراء ، الذين أنزلهم المجتمع مع الممثلين منزلة هي أدنى ما تكون المنزلة امتهاناً.

كيوكوتي باكين

وظهر قصصي آخر هو "كيوكوتي باكين" (1767-1848) كان أقدر فناً في قصصه من "كيودن" لكنه أقل استثارة لاهتمام قرائه ، وهو يماثل "سْكُتْ" و"ديماس" في صبِّه للتاريخ في قالب قصصي يفيض بالحياة ، ولقد بلغ إعجاب قرائه به في نهاية الأمر مبلغاً جعله يمط إحدى قصصه في مائة جزء ، وكان "هوكوساي" يوضح قصص "باكين" بالرسوم ، ولبثا في العمل زميلين حتى نشب بينهما الخلاف - وما داما من أبناء عبقر فلا بد من خلاف- ثم افترقا.

جيبشنا إيكو

وكان من أمرَحُ هؤلاء القصاصين جميعاً هو "جيبشنا إيكو" (مات سنة 1831)، وهو في اليابان يعادل "لي ساج" و "دكنز" ; "بدأ "إيكو" حياته الراشدة بثلاث زيجات ، فشل منها اثنتان بسبب أن حمويه في كلتا الحالين لم يفهما شذوذ مسلكه الناشئ عن اشتغاله بالأدب، فقد رضى بالفقر متفكهاً ، لم يكن في بيته أثاث. فعلق على جدرانه العارية صوراً للأثاث الذي كان يشتريه لو استطاع ، وفي أيام المواسم الدينية كان يضحي للآلهة بصور فيها رسوم لخير ما يمكن تقديمه من قرابين ؛ وقدم له الناس حوضاً للاستحمام- رغبة منهم في التخلص من قذارته- فحمله على رأسه مقلوباً ، وراح يوقع به من اعترض طريقه من المارة معلقاً بالنكات في بداهة سريعة على كل من وقع ؛ ولما جاءه الناشر في زيارة إلى داره ، دعاه أن يستحم ، وقبل الناشر الدعوة ، فلبس صاحبنا ثياب الناشر أثناء استحمامه وزار كل من أراد زيارته في ذلك اليوم- وكان رأس السنة الجديدة - وهو في تلك الثياب الفاخرة ، وآيته الأدبية هي قصة "هيزا كورياج" التي نشرها في اثني عشر جزءاً في الفترة التي تمتد من 1802 إلى 1822 ، وهي تحكي قصة تهز قارئها هزاً بالضحك ، على نحو ما تراه في قصة "مجموعة مذكرات نادي بِكْوَك" (للكاتب الإنجليزي دكنز) ؛ ويقول "آستن" عن هذه القصة إنها أفكه وأمتع كتاب في اللغة اليابانية كلها ، ولما كان "إيكو" في فراش موت ه، التمس من تلاميذه أن يضعوا على جثمانه قبل حرقه - وكان إحراق الموتى مألوفاً في اليابان عندئذ - بضعة لفائف أعطاها إياهم في وقار وجد ، ولما كان يوم جنازته ، وفرغ المصلون من تلاوة الدعوات ، وأشعِل الحطب الذي أعد لإحراق جثمان ه، تبين أن تلك اللفائف كانت تحتوي على مفرقعات نارية أخذت تطقطق أثناء حرق الجثة طقطقة كلها مرح ونشوة ؛ وهكذا وفي "إيكو" بالعهد الذي قطعه على نفسه وهو شاب ، بأن يجعل حياته كلها مفاجآت حتى بعد موته.


التاريخ

لا يوجد في كتابة التاريخ عند اليابانيين ما يمتع بمثل ما يمتعك في أدبهم القصصي ، على الرغم من أنه يتعذر علينا أن تفرق عندهم بين التاريخ والقصة ، وأقدم كتاب باق في الأدب الياباني هو "كوجيكي" ومعناها ثبت "بالآثار القديمة" وهو مكتوب بالأحرف الصينية بقلم "باسومارو" سنة 712 ، وفي هذا الكتاب كثيراً ما تحل الأساطير محل الحقائق ، حتى ليحتاج القارئ أن يمعن في إخلاصه للعقيدة الشنتوية لكي يقبل هذه الأساطير على أنها تاريخ ، ثم رأت الحكومة بعد "الإصلاح العظيم" في سنة 654 أن الحكمة تقتضي أن تروى قصة الماضي رواية جديدة ، فظهر تاريخ جديد حول سنة 720 عنوانه "ينهونجي" ومعناها "نيبون" وهو مكتوب باللغة الصينية ، ويزدان بفقرات سرقها الكاتب سرقة جريئة من الأدب الصيني ، وأحياناً أجراها على ألسنة أشخاص من اليابانيين القدماء ، دون أن يأبه مطلقاً للترتيب الزمني للحوادث ؛ ومع ذلك فقد جاء الكتاب محاولة أكثر جداً في روايته للحقائق من كتاب "كوجيكي" ، وكان هو بمثابة الأساس للكثرة الغالبة مما كتب بعدئذ من كتب في التاريخ الياباني القديم ، فمنذ ذلك الحين كتبت عدة كتب في تاريخ اليابان كل منها يبزّ سابقه في روحه الوطنية ، وقد كتب "كيتاباتاكي" كتاباً أسماه "جنتوشوتوكي" - ومعناها تاريخ التسلسل الحقيقي للملوك الإلهيين - وضعه على أساس هذه العقيدة المتواضعة الآتية ، التي أصبحت اليوم أمراً مألوفاً. "إن ياماتو العظمى (أي اليابان) بلد إلهي ، فالسلف الإلهي لم يضع أساساً لبلد من بلاد الأرض سوى بلدنا ، وهو دون سائر البلاد قد لقي الرعاية من آلهة الشمس بحيث ولَّت على أموره سلسلة طويلة من أبنائها ، ولن تجد لمثل هذا شبيهاً في البلاد الأخرى ، ومن ثم سميت اليابان بالأرض الإلهية".

وطبع هذا الكتاب أول ما طبع سنة 1649 ، فكان بداية للحركة التي قصدت إلى استعادة الإيمان القديم والدولة القديمة ، وهما الجانبان اللذان بلغا أقصى حدودهما في المناقشات الحامية التي أقامها "موتو - موري" وشاءت الأيام أن يكون "متسو - كوني" - وهو حفيد "أيياسو" نفسه - هو الذي يتصدى لكتابة كتابه الذي أسماه "داي نيهونشي" (ومعناها "التاريخ الأكبر لليابان" 1851) فأخرج به صورة من مائتين وأربعين جزءاً صور بها الماضي الذي ساد فيه الأباطرة وساد النظام الإقطاعي ، فكان هذا الكتاب بعدئذ من العوامل التي هيأت اليابانيين لخلع حكومة توكوجاوا العسكرية من مراكز السلطان.

وقد يكون "آراي هاكوسيكي" أعلم المؤرخين اليابانيين وأبعدهم عن الميل إلى الهوى ، فعلمه هو الذي ساد الحياة العقلية في "بيدو" في النصف الثاني من القرن السابع عشر ، وقد سخر "آراي" من اللاهوت الذي كان يأخذ به مبشرو المسيحية الأرثوذكسية ، ووصفه بأنه "ممعن في صبيانيته" ، لكن جرأته قد حدت به كذلك أن يهزأ ببعض الأساطير التي ظنها أهل وطنه تاريخاً ، وكتابه العظيم "هانكامبو" - وهو تاريخ "لدايمو" يتألف من ثلاثين جزءاً - يعد من أعاجيب الروائع الأدبية ، لأنه - فيما يظهر - قد تم تأليفه في أشهر قلائل ، على الرغم مما لابد أن يكون قد اقتضاه من كثرة البحث ، وقد استمد آري بعض علمه وطائفة من أحكامه من دراسته للفلاسفة الصينيين ، ويقال إنه لما جعل يحاضر في الآداب الكونفوشيوسية ، كان الحاكم العسكري "أينوبو" يستمع إليه في إقبال وإجلال حتى لم يكن ليذب البعوض عن رأسه في الصيف ، وكان في الشتاء ينحو بوجهه جانباً إذا أراد أن يمسح الرشح عن أنفه احتراماً للمحاضر ، وكتب "آراي" ترجمة لحياته فصور أباه تصويراً جليلاً رسم به المواطن الياباني في خير صورة له وأبسطها. "إنني أعود بذاكرتي إلى أول لحظة بدأت عندها أتعمق الأمور إلى صميمها ، فأجد حياته الرتيبة اليومية لم تكن تختلف في يوم عنها في يوم آخر ؛ فما كان يفوته قط أن يستيقظ قبل شروق الشمس بساعة ، ثم يستحم بماء بارد ، ويصفف شعره بنفسه ؛ وإذا اشتد برد الشتاء تعرض عليه امرأته - وهي أمي - أن تعد له ماء ساخناً ، لكنه لم يكن يرضى بذلك ، لأنه لم يكن يريد أن يتعب الخدم ؛ فلما زاد عمره على السبعين ، وتقدمت أمي كذلك في سنها ؛ وكان البرد يشتد إلى درجة لا يحتملانها ، كانا يستحضران في غرفتهما موقداً وينامان وأقدامهما ممدة تجاهه ؛ وكان يوضع إبريق من الماء الساخن إلى جانب المدفأة ، فيشرب منه أبي عند استيقاظه ؛ وكلاهما كان يقدس بوذا ، فكان أبي لا يفوته قط - بعد أن يصفف شعره ويسوي ثيابه - أن يبدي علائم خشوعه لبوذا. وبعد أن يرتدي رداءه ، كان يجلس هادئاً في انتظار تباشير الصباح ، وعندئذ يخرج إلى عمله الرسمي. إن أحداً لم يره قط وعلامات الغضب على وجهه ، ولست أذكر أبداً أني رأيته يوماً - حتى إن ضحك - يستسلم للمرح الصاخب ؛ وأقل من ذلك حدوثاً أن تراه يسفل إلى الألفاظ الجارحة إذا ما شاءت له الظروف أن يؤنب أحداً ، وكان في سمره لا يتكلم ما أمكنه السكوت ، كان رصيناً في سلوكه ، فما رأيته قط جازعاً أو مضطرباً أو قلقاً. يحافظ على نظافة الغرفة التي كان يشغلها عادة، ويعلق على الجدار صورة قديمة ، ويضع في أصيص بعض زهرات من زهور الموسم ، وقد ينفق يومه ناظراً إليها ؛ كان قليل الرسم للصور يرسمها باللون الأسود على ورق أبيض ، لأنه لم يكن محباً للألوان الزاهية ، وإذا جادت صحته لم يطلب إلى الخادم أن يعينه في شيء قط ، لأنه كان يعد كل شيء لنفسه بنفسه".


المقالة

كان "آرامي" كاتباً للمقالة كما كان مؤرخاً ، وله نتاج عظيم في هذا اللون من الأدب (أدب المقالة) الذي ربما كان أمتع ضروب الأدب الياباني جميعاً ؛ على أن الزعامة في أدب المقالة- كما هي الحال في القصة- كانت لامرأة ؛ فكتاب "صُوَر على الوسادة" "ماكورازوشي" الذي كتبته "السيدة سي شوناجون" يوضع عادة في أعلى مراتب هذا الأدب ، كما أنه أول ما كتب فيه ؛ والسيدة الكاتبة قد نشأت في نفس البلاد ونفس الجيل اللذين نشأت فيهما "السيدة موراساكي" ، واختارت لقلمها الحياة المترفة الداعرة من حولها ، فراحت تصف تلك الحياة في صور عابرة ، يستحيل علينا أن نلم بروعتها في لغتها الأصلية إلا على سبيل التخمين ، مهتدين بما نراه باقياً في الترجمة الإنجليزية لتلك الصور من آثار جمالها الفاتن ؛ والكاتبة من طائفة "فيوجيورا" ، وصعدت حتى أصبحت وصيفة الإمبراطورة ؛ فلما قضت الإمبراطورة نحبها ، توارت "السيدة سي": فمن قائل إنها أوت إلى دير ، ومن قائل إنها انطوت في ثنايا الفقر ؛ لكن كتابها ليس فيه ما يدل على صدق هذا القول أو ذاك ؛ وهي تنظر إلى الإباحية الخلقية في عصرها ، بالعين المتساهلة التي عرف بها ذلك العصر ، ثم هي لا تنزل رجال الدين الماديين منزلة عالية من نفسها. "إن الواعظ الديني لابد أن يكون وسيم المحيا ، إذ يسهل عليك عندئذ أن تحدج بعينيك في وجهه ، وبغير ذلك يستحيل الانتفاع بحديثه ، لأن عينيك ستحومان هنا وهناك ، ويفوتك أن تصغي إلى قوله ؛ وإذن فالواعظون الدميمون تقع عليهم تبعة كبرى.

ولو كان رجال الوعظ يحيون في عصر أنسب لهم من عصرنا ، لسرني أن أحكم عليهم حكماً أقرب إلى صالحهم من حكمي عليهم الآن ؛ لكن الأمر كما أراه في الواقع ، يدعوني إلى القول بأن خطاياهم أشنع فحشاً من أن تحتمل منا مجرد التفكير". ثم تضيف الكاتبة إلى ذلك قوائم صغيرة بما تحب وما تكره:


فالأشياء التي تبعث في نفسها النشوة:

أن أعود إلى البيت من رحلة وقد امتلأت العربات حتى فاضت؛ وأن يكون حول العربة عدد كبير من المشاة الذين يحفزون الثيرة والعربات تسرع في السير ؛ زورق نهري يسبح على الماء. الأسنان زينت بالسواد على نحو جميل.

والأشياء التي تثير في نفسها الكراهية: غرفة مات فيها طفل ، مدفأة انطفأت نارها ، حوزي يكرهه ثور عربته ، ولادة سلسلة متصلة من البنات في بيت عالم.

ومن الأشياء الممقوتة: الناس الذين إذا قصصت عليهم قصة قاطعوك بقولهم: إننا نعرفها ثم يقولون القصة على صورة تختلف كل الاختلاف عما كنت تنوي أن تقوله. والرجل الذي تصادفه امرأة ، ويكون بينهما ود ، فيثني على امرأة أخرى يعرفه. والضيف الذي يقص عليك قصة طويلة وأنت عجلان. شخير رجل تحب أن تخفيه ، والرجل ينام في مكان لا شأن له به. البراغيث .

وليس ينافس هذه السيدة في مكان الصدارة من أدب المقالة في اليابان ، إلا "كامونو- شومي" ؛ الذي حُرِمَ خلافة أبيه في حراسة الضريح الشنتوي "لكامو" في مدينة كيوتو ، فاعتنق البوذية حتى أصبح راهباً من رهبانها ؛ ولما بلغ من عمره عامه الخمسين ، اعتكف في حديقة في الجبل ، حيث انصرف إلى حياة التأمل ، وهناك كتب كتاباً يودع به الحياة الصاخبة ، وأسمى كتابه "هوجوكي" (1212) ومعناها "مدوَّن الأقدام العشر المربعة" فبعد أن بين الصعاب والمضايقات التي يلاقيها الإنسان في حياة المدنية ، ووصف مجاعة سنة 1181 ، وأخذ يروي لنا كيف أقام لنفسه كوخاً مساحته عشرة أقدام مربعة وارتفاعه سبع أقدام ، واستقر فيه راضي النفس بفلسفة لا يعكر هدوءها شيء وزمالة هادئة لما يحيط به من كائنات الطبيعة ؛ ولا يسع الأمريكي الذي يقرؤه إلا أن يسمع فيه صوتاً شبيهاً بصوت "ثورو" وإن يكن صادراً من اليابان في القرن الثالث عشر ؛ فالظاهر أن كل جيل لابد له من كاتب يدعو إلى معاشرة الطبيعة بمثل كتاب "بِركة وولدِنْ".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المسرحية

إن المسرحية اليابانية من أعسر ألوان الأدب الياباني فهماً علينا ، فما دمنا قد نشأنا في جو من تقاليد المسرح الإنجليزي الذي يبدأ من رواية هنري الرابع وينتهي برواية "مارية اسكتلندة" ، فكيف يمكن أن نعد آذاننا إعداداً يتقبل المسرحيات الغنائية اليابانية بما فيها من إطناب وحركات صامتة بالنسبة إلينا؟ إنه لابد لنا من نسيان شكسبير والعودة إلى "إفريمان" ، بل والعودة إلى ما هو أبعد من ذلك في الماضي ، إلى الأصول الدينية للمسرحية اليونانية والمسرحية الأوروبية الحديثة ؛ عندئذ نجد ما يعيننا على متابعة تطور التمثيل الصامت الشنتوي القديم ، والرقص الكهنوتي المسمى "كاجورا" ، حتى أصبح هذه الصورة التمثيلية الناطقة بالحوار ، التي تتألف منها المسرحية الغنائية عند اليابانيين ؛ ففي نحو القرن الرابع عشر أضاف الكهنة البوذيون أناشيد جوقية إلى التمثيل الطقوسي الصامت ، ثم أضافوا إلى ذلك شخصيات فردية ، ودبروا حبكة للمسرحية بحيث تفسح المجال أمام هذه الشخصيات فتفعل الأفعال كما تقول الكلام ، ومن ثم ولدت المسرحية.

كانت هذه المسرحيات - مثل المسرحيات اليونانية - تُؤدي في ثلاثيات وكانوا يمثلون في الفترات التي بين الفصول أحياناً ، ما يطلقون عليه "كيوجن" أي المهازل (أو التهريج) قاصدين بذلك أن يخففوا ويلطفوا من حدة العاطفة والفكر ؛ أما الجزء الأول الثلاثي المسرحي فقد كانوا يخصصونه لاسترضاء الآلهة ، فكاد لا يزيد على تمثيل ديني صامت ؛ وأما الجزء الثاني فكان يؤدي بعدة مسرحية كاملة ، ويبتغون به طرد الأرواح الشريرة بتخويفها ؛ وأما الجزء الثالث فكان ألطف جواً ، يراد به تصوير جانب رائع من جوانب الطبيعة ، أو وجه ممتع من وجوه الحياة اليابانية؛ وكانت أسطر المسرحية تصاغ عادة في صورة الشعر المرسل ، بحيث يتألف البيت الواحد من اثني عشر مقطعاً ؛ وكان الممثلون ذوي منزلة اجتماعية حتى بين العلْية ؛ فلا تزال بين أيدينا وثيقة تثبت أن "نوبونجا" و "هيديوشي" و "أيياسو" قد اشتركوا جميعاً كممثلين في إحدى المسرحيات الغنائية حول سنة 1850 ، وكان كل ممثل يلبس قناعاً منحوتاً من الخشب نحتاً فنياً دقيقاً يجعل هذه الأقنعة تحفة عند هواة الآثار الفنية في عصرنا هذا ، وكانت مناظر المسرح قليلة ، إذ كانوا يعتمدون على الخيال القوي عند النظارة في خلق البطانة التي يتم الفعل المسرحي في جوّها ؛ وأما الحكايات التي تمثل فمن أبسط الحكايات تأليفاً ، ولم يكن مجرى الرواية هو نقطة الاهتمام ؛ ومن أشيع تلك الروايات رواية تحكي عن "سياف" أصابه الفقر ، طرق بابه راهب جوال أراد الدفء ، فقطع له السياف أعز نباتاته ليوقد له بها ناراً ؛ وعندئذ تبين أن الراهب لم يكن إلا الوصي على العرش ، فأجزل العطاء للفارس ، وكما أننا في الغرب لا نفتأ نختلف إلى المسرح مرة بعد مرة لنسمع مسرحية غنائية ، روايتها قديمة ، وربما كانت رواية سخيفة أيضاً ، فكذلك ترى أهل اليابان - حتى يومنا هذا - يبكون كلما شهدوا هذه الرواية التي يتكرر تمثيلها بغير انقطاع ، ذلك لأن براعة التمثيل تعيد لهذه الرواية في كل مرة قوتها ومغزاها ؛ ولو قصد إلى المسرح متفرج متعجل عملي المقاييس ، فإنه قد يجد في أمثال هذه الأغاني التي صبت في قالب تمثيلي ، تسلية أكثر مما يجد فيها عظمة تأخذ عليه نفسه ، لكن اسمع ما يقوله فيها شاعر ياباني: "كم في المسرحية الغنائية من عناصر المأساة وعناصر الجمال ، ولطالما طاف برأسي خاطر ، هو أننا نؤدي خدمة جليلة لا شك فيها ، إذا نحن أحسنّا تقديم مسرحيتنا الغنائية في الغرب ، ولو فعلنا لنتج عن ذلك احتجاج شديد ضد المسرح الغربي ، إن ذلك لو تم كان بمثابة الإيحاء باتجاه جديد" - ومع ذلك فاليابان نفسها لم تنتج من هذا الضرب المسرحي شيئاً منذ القرن السابع عشر على الرغم من أنها تقوم بتمثيلها اليوم ، وتقبل عليها إقبالاً شديداً.

إن تاريخ المسرحية في معظم البلاد عبارة عن تحول تدريجي من سيادة الجوقة إلى سيادة دور يقوم به فرد من الأفراد - وعند هذه النقطة تنتهي مراحل التطور في الكثرة الغالبة من الحالات التي يتم فيها هذا الانتقال ، ولما تقدم الفن المسرحي في اليابان من حيث تقاليده وروعته ، خلق شخصيات محببة إلى الناس صارت هي القوة السائدة في المسرحية ، وأخيراً قل شأن التمثيل الصامت والموضوعات الدينية ، وباتت المسرحية حرباً بين أفراد تملؤهم قوة الحياة وقوة الخيال ، وهكذا ظهر المسرح الشعبي في اليابان الذي يطلق عليه "كابوكي شيباي" ، وأول مسرح من هذا القبيل الشعبي ظهر حول عام 1600 ، أنشأته راهبة ملت جدران الدير ، فأقامت مسرحاً في أوساكا وجعلت ترتزق بالرقص على ذلك المسرح ، وكان ظهور المرأة على المسرح- كما هي الحال في إنجلترا و فرنسا بمثابة الثورة واقتراف إثم محرم ، ولما كانت الطبقات العليا قد اجتنبت هذه المحرمات (اللهم إلا في خفاء يؤمّنها من الخطر) فقد أوشك الممثلون أن يصبحوا طبقة منبوذة ، ليس لهم حافز اجتماعي يدفعهم إلى صيانة مهنتهم من الدعارة والفساد ؛ واضطر الرجال أن يقوموا بأدوار النساء ، وذهبوا في إتقان تقليد النساء إلى حد لم يستطيعوا عنده أن يخدعوا النظارة فحسب ، بل خدعوا أنفسهم كذلك ، حتى لقد ظل كثير من هؤلاء الرجال الذين كانوا يمثلون أدوار النساء ، ظلوا نساء خارج المسرح ، وكان من عادة الممثلين أن يصبغوا وجوههم بألوان زاهية ، وربما يرجع ذلك إلى خفوت الأضواء على المسرح ؛ كذلك كانوا يلبسون أردية ذات رسوم فاخرة لكي يدلوا بها على عظمة أدوارهم ، ثم لكي يرفعوا من قدر تلك الأدوار ؛ وغالباً ما كان يجلس خلف المسرح أو حوله أفراد أو جوقات ، تلقي الكلام المراد إلقاؤه ، وكان هؤلاء أحياناً هم الذين ينطقون بالكلام بينما يقصر الممثلون أنفسهم على الحركات المناسبة صامتين ؛ وأما النظارة فقد كانت تجلس على الأرضية المفروشة بالبُسُط ، أو في مقصورات على الجانبين. وأشهر الأسماء التي تصادفك في المسرحية الشعبية في اليابان هو "شيكاماتسو مُنْزايمون" (1653-1724) الذي يقرنه مواطنوه بشكسبير ، وأما النقاد الإنجليز فتراهم يمقتون هذه المقارنة ، فيتهمون "شيكاماتسو" بالعنف والإسراف والمبالغة في قوة اللفظ وبُعد حبكاته عن الواقع ، إلا أنهم يعترفون له "بشيء من القوة والفخامة البدائيتين" ؛ والظاهر أن التشابه تام ، فتلك المسرحيات الأجنبية بالنسبة لنا تبدو لنا مجرد مسرحيات غنائية ، لأنه إما أن يكون معناها أو تكون دقائقها اللغوية خافية علينا ، وقد يكون هذا نفسه هو وقع شكسبير على رجل لا يستطيع أن يقدر جمال لغته أو يتابعه في أفكاره ، وربما كان "شيكاماتسو" قد غالى في جعل العشاق في مسرحياته ينتحرون على المسرح ليكون انتحارهم بمثابة الذروة التي تعلو إليها حوادث القصة ، على نحو ما نرى في رواية "روميو وجوليت" ، لكن قد يكون له في ذلك هذا العذر ، وهو أن الانتحار في الحياة اليابانية أوشك أن يكون من الشيوع بمثل ما كان على المسرح.

إن المؤرخ الأجنبي عن البلاد ، لا يسعه في هذه الأمور إلا أن يسجل ، لا أن يصدر حكمه ، فالتمثيل الياباني في عيني مُشاهد عابر ، يبدو أقل في درجة الرقي والنضوج من التمثيل الأوربي ، لكنه أكثر منه قوة ورفعاً لأفئدة المشاهدين ؛ إن المسرحيات اليابانية قد تكون أكثر تمشياً في سذاجتها مع سواد الشعب ، لكنها أقل تعرضاً لعوامل الضعف التي تنشأ عن الصيغة العقلية السطحية ، من زميلاتها في فرنسا وإنجلترا وأمريكا اليوم ؛ والعكس صحيح ، وهو أن الشعر الياباني يبدو لنا خفيفاً ميتاً ، مبالغاً في رقته الأرستقراطية ، نحن الذين تعودت أذواقنا المقطوعات الغنائية التي تكاد تبلغ في طولها طول الملاحم (مثل قصيدة Maud)، كما تعودت أذواقنا الملاحم التي يبلغ الملل من قراءتها حداً لا أشك معه في أن هومر نفسه إذا اضطر أن يقرأ الإلياذة مجتمعة لترنح رأسه من نعاس ؛ وأما القصة اليابانية فالظاهر أنها عاطفية تثير حب التطلع في نفس القارئ ، ومع ذلك فيخيل إلينا أن آيتين من آيات القصة الإنجليزية - هما قصة "توم جونز" وقصة "أوراق بِكْوِك" - يقابلان تمام التقابل قصتي "گنجي مونوجاناري" و "هيزا كوريج" في الأدب الياباني ؛ ويجوز أن تكون "السيدة موراساكي" أنبغ من "فيلدنج" العظيم نفسه في دقتها ورشاقتها وسعة فهمها ؛ إن كل ما هو بعيد عن أنفسنا غامض علينا ، يكون مملولاً سخيفاً بالنسبة لنا ، وستظل الأشياء في اليابان غامضة علينا حتى نستطيع أن ننسى نسياناً تاماً تراثنا الغربي ، لنشرب تراث اليابان تشرباً كاملاً.

فن الدقائق الصغيرة

جاءت القوالب الخارجية للفن الياباني من الصين ، مثلها في ذلك مثل كل ظاهرة بادية من ظواهر الحياة اليابانية ؛ أما القوة والروح الداخليان ، فمثلهما مثل كل ما هو حيوي من أمور اليابان ، في صدورهما عن الشعب نفسه ؛ نعم إن الموجة الفكرية والهجرة اللتين جاءتا إلى اليابان بالبوذية في القرن السابع ، قد جاءتاها كذلك من الصين وكوريا بصور الفن وبالدوافع النفسية المرتبطة بتلك العقيدة ، التي ليست أصل في الصين وكوريا منها في اليابان ، بل إنه لمن الحق أيضاً أن العناصر الثقافية لم تدخل إلى اليابان من الصين والهند وحدهما ، بل جاءتها كذلك من أشور واليونان - فالملامح التي تراها في بوذا كاما كورا مثلاً أقرب إلى الملامح "اليونانية البكتيرية" منها إلى الملامح اليابانية ؛ لكن هذه الحوافز وإن تكن قد جاءت إلى اليابان من الخارج ، إلا أنها استُخدمت هناك في إبداع ما هو جديد ؛ فسرعان ما تعلم شعب اليابان أن يفرق بين الجمال والقبح ؛ وكثيراً ما كان أغنياء تلك البلاد يؤثرون تحف الفن على الأرض أو الذهب ، وكان رجال الفن فيها يعملون بإخلاص لفنهم أنساهم نفوسهم ، وهؤلاء الفنانون ، على الرغم من أنهم كانوا يجتازون دوراً طويلا عنيفاً من التدريب الفني ، قَلَّ أن تقاضوا على فنهم أجراً أكثر ممـا كـان يتـقاضاه الصـناع مـن أجـور ؛ وإن شاءت لهم الأيام مرة أن يجيئهم شيء من ثراء ، راحوا يبددونه في إسراف مستهتر ، ثم لم يلبثوا بعدئذ أن يعودوا إلى فقرهم الطبيعي الذي ترتاح إليه نفوسهم ، أما من حيث النشاط والذوق والمهارة ، فلم يكن يدانيهم إلا أرباب الفن من أهل مصر القديمة واليونان في عصورها الوسطى.

إن حياة الشعب نفسها كانت تتخللها علائم الفن - تراها في نظافة بيوتهم وجمال ملابسهم ، وظرف حليهم ، وإقبالهم إقبالاً فطرياً على الغناء والرقص ؛ ذلك لأن الموسيقى - كالحياة - جاءت إلى اليابان من الآلهة نفسها ؛ ألم تُغَن "إيزانامي" في جوقات جمعية عند خلق الأرض؟ ونقرأ عنهم أن الإمبراطور "إنكيو" عزف على آلة موسيقية بعد ذلك بألف عام ، وقامت الإمبراطورة ترقص لعزفه ، وكان ذلك في مأدبة إمبراطورية سنة 419 ، أقيمت احتفالاً بافتتاح قصر جديد ؛ ولما مات "إنيكو" أرسل أحد ملوك كوريا ثمانين موسيقاراً ليعزفوا في جنازته ، فعلم هؤلاء العازفون أهل اليابان آلات موسيقية جديدة وأنغاماً جديدة - بعضها من كوريا ، وبعضها من الصين ، وبعض ثالث من الهند - ولما نُصِب الـ "دايبوتسو" في معبد "تودايجي" في نارا عزفت موسيقى الأساتذة من الصين في احتفال التنصيب ؛ ولا يزال "بيت المال" الإمبراطوري في نارا يعرض علينا الآلات التي استخدمت في تلك الأيام السوالف ، وكان الغناء والإلقاء ، وموسيقى القصر وموسيقى الرقص في الأديرة ، هي الضروب الرفيعة الموقرة من الموسيقى ، أما الأنغام الشعبية فكانوا يعزفونها على آلة يسمونها "بيوا" "أي قيثارة" أو على آلة يطلقون عليها "ساميزانة" و (هي آلة ذات ثلاثة أوتار) ، ولم يكن لليابانيين نوابغ في التأليف الموسيقي ، ولا كان لهم كتب في الموسيقى ، وتآليفهم الموسيقية الساذجة التي كانوا يعزفونها في خمسة أنغام على السلم الهارموني الصغير ، لم يكن فيها اتساق في النغم ، ولا كان عندهم تمييز بين ما هو صغير وما هو كبير من مفاتيح الموسيقى ، ومع ذلك فكل ياباني تقريباً كان يستطيع العزف على آلة من الآلات العشرين التي جاءتهم من القارة الآسيوية ؛ ويقول اليابانيون إن أية واحدة من هذه الآلات لو أتقن العزف عليها ، استطاعت أن ترقص الغبار العالق بسقف المكان ، والرقص نفسه شاع بينهم "شيوعاً لا نظير له في أي بلد آخر" - ولم يكونوا يرقصون على سبيل إتمام مقتضيات الغرام بين عشيقين ، بمقدار ما كانوا يرقصون تنسكا في العبادة أو في الحفلات الجمعية ؛ فكان يحدث أحياناً أن يخرج أهل قرية بأسرهم ، في أبهى حللهم ، ليحتفلوا بإحدى المناسبات السعيدة احتفالاً راقصاً يشترك فيه الناس جميعاً ؛ وكانت الراقصات المحترفات يجتذبن حشوداً من الجماهير بمهارتهن في الرقص ؛ وكنت تجد الرجال والنساء على السواء - حتى في أرفع الطبقات - ينفقون من وقتهم زمناً طويلاً في هذا الفن؛ فتقول "السيدة موراساكي" في قصتها عن "گنجي" إنه حين رقص رقصة "موجات البحر الأزرق" مع صديقته "تونو - شوجو" تحركت العواطف في صدور المشاهدين جميعاً؟ "فلم يشهد أولئك المشاهدون قط في حياتهم أقداماً تطأ الأرض بهذه الرشاقة كلها ، ولا شاهدوا رؤوساً قامت على أعناقها بهذا الجلال كله.

كانت هذه الرقصة من عمق التأثير في النفوس ومن جمال الحركات ، بحيث اغرورقت عينا الإمبراطور في ختامها ، وأجهش الأمراء والسادة كلهم بالبكاء" وقد كان كل من تسعفه ظروفه المالية ، يزيِّن نفسه زينةً ، لا يكتفي فيها بالوشي الجميل والدمقس المصور بالرسوم، بل يضيف إلى ذلك تحفاً رقيقة هي من الخصائص المميزة لليابان القديمة ، بل توشك أن تكون تعريفاً يحدد معناها ؛ فكان النساء ينكمشن ليغازلن الرجال من وراء مراوح فتانة الجمال ، بينما الرجال يسيرون في خيلاء بما حملوا من سيوف نقشت نقشاً نفيساً ، وما علقوا في مناطقهم من صناديق (يسمون الواحد منها "إنْروُ") تدلت من أوساطهم بخيط سميك ، وكان الصندوق منها يتألف عادة من عيون نقشت في العاج أو الخشب نقشاً دقيقاً ، يضعون فيها التبغ والنقود وأدوات الكتابة وغير ذلك مما يلزم استعماله أحياناً ؛ ولكي يمتنع سقوط الخيط منزلقاً تحت المنطقة ، كانوا يربطونه في الجانب الآخر من المنطقة بوصلة صغيرة يسمونها "نتسوكا" (وهي كلمة مكونة من جزئين: "ني" ومعناها طرف ، و "تسوكا" ومعناها يربط) وكانت تلك الوصلة تعهد إلى فنان يرسم على سطحها المتغضن رسماً مسرفاً في الرقة والنفاسة ، رسماً لآلهة أو شياطين أو فلاسفة أو حور أو طيور أو زواحف أو سمك أو حشر أو زهر أو أوراق شجر أو مناظر من حياة الناس ؛ وهاهنا وجدت روح الفكاهة الشيطانية التي يتفوق فيها الفن الياباني على سائر الفنون تفوقاً فسيحاً ، وجدت متنفساً طليقاً ، وإن يكن متواضعاً ، فلن يتكشف لك ما في هذه التحف الفنية من لطف بالغ ودلالة كبرى ، إلا بعد فحص دقيق لها ، غير أن لمحة سريعة تنظر بها إلى صورة مصغرة لامرأة بدينة أو كاهن سمين أو قرد خفيف الحركات أو حشرات لطيفة ، مما كانوا ينقشونه على مساحة لا تبلغ بوصة واحدة مكعبة من العاج أو الخشب ، لتكفيك للتأكد مما كان للشعب الياباني من خصال فنية فذة تنبض بحرارة العاطفة.

وكان أشهر من حفر الخشب من اليابانيين هو "هيداري جنجارو" (هيداري معناها مبتور اليد اليسرى) ، فتنبئنا الأساطير كيف فقد ذراعاً وكسب إسماً ؛ وذلك أن ظافراً في القتال طالب مولى "جنجارو" بحياة ابنته ، فنحت "جنجاروا" رأساً مبتوراً يمثل رأس ابنة مولاه تمثيلاً بلغ من الصدق حداً جعل ذلك الظافر يأمر ببتر الذراع اليسرى لهذا الفنان عقاباً له على قتـل ابنـة مـولاه ؛ جنـجارو هـو الـذي نـحت بـإزميله الفـيلة والقطـة النائمة التي نراها في ضريح "أيياسو" في نِكُو" ، وهو الذي نحت كذلك "باب السفير الإمبراطوري" في معبد "نيشي - هنجوان" في كيوتو ؛ وقد قص الفنان على الجانب الداخلي من ذلك الباب قصة الحكم الصيني الذي طهر أذنه مما أصابها من دنس باستماعها لاقتراح عُرض عليه بقبول عرش بلاده ، وكيف تجمع قطيع الماشية في تجهم ، يقاتل ذلك الحكيم لأنه أصاب ماء النهر بالنجاسة حين أراد تطهير أذنه الدنسة؛ على أن "جنجارو" لم يكسب شهرته هذه إلا لأنه أبرز فنان في وضوح شخصيته ، من بين طائفة الفنانين الذين ذهب الزمان بأسمائهم ، والذين زينوا ألوف المباني بالخشب المنقوش أو المدهون نقشاً أو دهناً جميلاً ؛ ولقد لقيت شجرة "اللاكيه" في جزر اليابان منزلة تتناسب مع شغف أولئك الناس بالفنون ، فكانوا يروونها في عناية عظيمة ؛ وكان رجال الفن أحياناً يكسون نقوشهم التي نحتوها في الخشب بطبقات من "اللاكيه" ، وأحياناً أخرى يسرفون في فرض العناء على أنفسهم بأن يصبوا تمثالاً من الطين ، ثم يجعلونه أجوف ، ثم يضعون في جوفه عدة طبقات من "اللاكيه" ، كل طبقة تكون أسمك من سابقتها؛ وهكذا رفع الفنان الياباني مادة الخشب إلى منزلة المرمر ، وملأ الأضرحة والمقابر والقصور بأجمل ما نعرفه في القارة الآسيوية من الزخارف الخشبية.


الشعر الياباني

الشعر هو أقدم ما وصل إلينا من الأدب الياباني ، وأقدم الشعر الياباني هو خير شعر اليابان إطلاقاً في رأي أصحاب العلم من أهل اليابان أنفسهم ؛ ومن أقدم وأشهر الكتب اليابانية ، كتاب الـ "مانيوشو" ومعناها "كتاب العشرة آلاف ورقة" وهو عشرون مجلداً ، جمع فيها ناشران للكتاب أربعة آلاف وخمسمائة قصيدة ، نظمها الشعراء خلال الأربعة القرون السالفة ، وفيها تجد على الأخص شعر "هيتومارو" وشعر "أكاهيتو" ، وهما الشاعران الرئيسيان اللذان ازدهر فيها الشعر في عصر نارا ، ومن شعر "هيتومارو" هذه الأسطر الموجزة التالية التي كتبها يرثي بها حبيبته حين ماتت وتصاعد الدخان من جثمانها المحترق إلى شعاب التلال:

أواه؟ أهذه السحابة هي حبيبتي؟

هذه السحابة التي تجوب في الوهد العميق

الذي يتخلل جبل هاتسوزو المنعزل؟

حاول الإمبراطور "دايجو" محاولة أخرى ليحفظ الشعر الياباني من أيدي الفناء ، فجمع ألفاً ومائة قصيدة نُظمت خلال القرن والنصف قرن الماضيين ؛ فجمعها في ديوان مشترك أطلق عليه اسم "كوكنشو"، ومعناها "قصائد قديمة وحديثة"، وكان مساعده الأيمن في هذا العمل "تسورايوكي" الشاعر الظالم الذي كتب مقدمة للديوان ، هي لنا أمتع من المقطوعات التي جاء لنا بها ربة الشعر عندهم ، التي توجز القول إيجازاً- قال في تلك المقدمة:

"الشعر في اليابان كالبذرة ، تنبت من قلب الإنسان فتورق من اللغة أوراقاً لا حصر لعددها. ففي هذا العالم المليء بالأشياء ، ترى الإنسان مجاهداً في سبيل ألفاظ يعبر بها عن الانطباع الذي تركته المرئيات والمسموعات في قلبه. وهكذا حدث لقلب الإنسان أن وجد التعبير المنشود في ألفاظ تمتعه ، وجدها في جمال الزهر ، وفي إعجابه بتغريد الطير ، وفي حسن استقباله للضباب الذي يغسل بِنَدَاه سهول الأرض، كما وجدها في حزنه الذي شاطر به العطف على ندى الصباح السريع الزوال. لقد اهتز الشعراء إلى قرض الشعر كلما رأوا البطاح بيضاء برذاذ الثلج الذي يتناثر من زهرات الكريز الساقطة في أصباح الربيع ، أو سمعوا في أمسيات الخريف حفيف الأوراق وهي تتساقط أو كلما رأوا مشاهد الأيام المؤلمة البشعة تنعكس أمام أعينهم على مرآة الحوادث عاماً بعد عام. أو كلما أخذتهم الرعدة حينما رأوا قطرة الندى الزائلة ترتعش على الكلأ المزدان بلآلئه".

لقد أجاد "تسورايوكي" التعبير عن الموضوع الذي لم يفتأ الشعر الياباني يتناوله- وهو ما تبديه الطبيعة من أوجه وحالات ، ومن ازدهار وذبول الطبيعةُ في تلك الجزر ، التي جعلتها البراكين مشهداً للروائع ، وجعلها المطر الغزير دائمة الإيناع ، وإن الشعراء في اليابان ليمرحون فيما لم تلكه الألسن من جوانب الحقول والغابات والبحر- فصغار السمك تنثر الرذاذ وهي تتقلب في مجاري الجبال ، والضفادع تقفز فجأة من البرك الساخنة ، والشطئان تخلو من المد والجزر ، والتلال تقطعها كِسَف الضباب الذي سكن بلا حراك ، وقطرة المطر تأوي كأنها الجواهر المكنونة في ثنية نجم من أنجم الكلأ؛ وكثيراً ما يمزج شعراء اليابان في شعرهم بين أغاني الحب وأشعار عبادتهم للطبيعة النامية ، أو تراهم يرثون رثاء مراً لما يرونه في الازدهار والحب والحياة من قصر الأمد. والعجيب أن هذه الأمة التي تموج بالمقاتلين ، قلما تتغنى في شعرها بالقتال ، بل تراهم لا يثنون الحماسة في القلوب إلا بترانيم يترنمون بها حيناً بعد حين.

وكانت الكثرة الغالبة من القصائد قصيرة بعد "عهد نارا" ، فهذه مجموعة "كوكنشو" التي تحتوي ألفاً ومائة قصيدة ، لا تجد إلا خمساً منها فقط صيغت في صورة الـ "تانكا"- وهي صورة تكون فيها القصيدة مؤلفة من خمسة أبيات ، أولها من خمسة مقاطع وثانيها من سبعة ، وثالثها من خمسة ، ورابعها من سبعة ، وخامسها من سبعة ، كذلك وليس في هذه القصائد قافية ، ذلك لأن ألفاظ اللغة اليابانية كلها تقريباً تنتهي بحرف مد ، فلا تترك مجال الاختيار أمام الشاعر من الاتساع بحيث ينتفي مختلف القواف ، وكذلك ليس في شعرهم تفعيلات ولا نغم ولا مقدار معين من الكلمات في البيت الواحد ، لكنك تجد فيه كثيراً من ألاعيب اللغة ، فتراهم مثلاً يضيفون مقاطع في أوائل الكلمات لا يكون لها معنى سوى ما تضيفه إلى الكلام من تنغيم، ويستهلون قصائدهم بأبيات تعمل على تكملة الصورة أكثر مما تؤدي إلى تمام الفكرة ، ويربطون العبارات بألفاظ تحمل معنيين على نحو يثير في القارئ الدهشة والانتباه ، ولقد خلع الزمن ثوباً من الجلال على أمثال هذه الألاعيب اللفظية عند اليابانيين ، كما هي الحال في توافق اللفظ والمعنى وفي القافية عند الإنجليز ، وأشعارهم محببة لدى طبقات الشعب ، ومع ذلك فلا يؤدي ذلك بالشاعر إلى السوقية في شعره ، بل الأمر على نقيض ذلك ، إذ تميل هذه القصائد الكلاسيكية إلى الأرستقراطية في فكرها ولفظها ، فلأنها ولدت في جو تشيع فيه أبهة القصور، تراها مصوغة صياغة روعي فيها الإحكام على نحو يكاد يجعل منها تعبيراً عن الأنفة والكبرياء ، وهذه القصائد تنشد كمال اللفظ والصياغة أكثر مما تبحث عن جدة المعنى ، وهي تكسب العاطفة أكثر مما تعبر عنها، وهي في كبريائها أرفع من أن تطنب القول وتطيل، فلن تجد أرباب القلم في أي بلد من بلاد الأرض سوى اليابان ، لهم ما لأدباء اليابان من تحفظ في القول يعترفون به اعترافاً صريحاً ، فكأنما أراد شعراء اليابان أن يكفروا بتواضعهم في القول عما زل فيه مؤرخوها من تهويل في الفخر بأنفسهم ، فيقول اليابانيون إنك إذا كتبت ثلاث صفحات عن الرياح الغربية ، زللت في ثرثرة السوقة ، فالفنان الأصيل لا ينبغي له أن يفكر للقارئ ، بل واجبه أن يغريه حتى يستثير فيه نشاط التفكير لنفسه ، فلا بد للفنان أن يبحث وأن يجد صورة حسية جديدة تثير في القارئ كل الأفكار وكل المشاعر التي يصر الشعر الغربي على بسطها في تفصيلاتها ؛ فكل قصيدة عند الياباني لا بد أن تكون سجلاً هادئاً لوحي اللحظة التي كتبت فيها.

وعلى ذلك فإننا نضل سواء السبيل لو أننا بحثنا في هذه الدواوين ، أو في مجموعة المختارات التي تسمى "هياكونن إشيو"، ومعناها "أشعار متفرقة لمائة شاعر" ، والتي هي شبيهة بالديوان الذي يجمع مختارات من الشعر الإنجليزي ويطلق عليه "الكنز الذهبي"- أقول إننا نضل سواء السبيل لو أننا بحثنا في هذه المجموعات عن قصيدة فيها حماسة أو عن ملحمة فيها حروب، أو عن مطولات غنائية ، فهؤلاء الشعراء إنما أرادوا أن يخلدوا أنفسهم بسطر واحد يقوله الواحد منهم ، فهاهو ذا "سايجيوهوشي" قد فقد أعز أصدقائه ، وانقلب راهباً ووجد في أضرحة "إيسي" ما كانت تنشده نفسه المتصوفة من عزاء ، فراح يقرض الشعر في عزيزه الفقيد ، لكنه لم يكتب قصيدة مثل "أدونيس" أو حتى "ليسيداس" (وهما قصيدتان من الشعر الإنجليزي) بل اكتفى بهذه الأسطر البسيطة:

ما هذا الذي

يسكن هاهنا

لست أدري

لكن قلبي مليء بنشوة الرضى

والدموع تنهمر من عيني


ولما فقدت "السيدة كاجا نوشيو" زوجها لم تكتب فيه سوى هذه السطور:


إن كل ما يبدو من أشياء

ليست سوى

حلم يطوف بحالم

إني لأنام.... وإني لأستيقظ....

فما أفسح السرير بغير زوج في جواري


وبعدئذ فقدت ابنها ، فأضافت إلى القصيدة بيتين آخرين:


كم طاف اليوم

هذا الباسل الذي يقتنص اليعاسيب


وبات نظم المقطوعات الشعرية (ويسمونها تانكات) لعبة أرستقراطية شاعت في الدوائر الإمبراطورية في "نارا" و "كيوتو" حتى ليستطيع الناظم أن يشتري عفة المرأة بواحد وثلاثين مقطعاً من الشعر يجيد صياغتها ، كما كانت عفة المرأة تباع في الهند القديمة بفيل ؛ وكان من المألوف أن يحيي الإمبراطور ضيوفه بكلمات يعطيها لهم مما يصلح لصياغة الشعر ، ونرى في أدب ذلك العصر إشارات ترد هنا وهناك ، تدل على أن جماعة من الناس يتطارحون الشعر أو ينشدونه وهم سائرون في الطريق ، وكان الإمبراطور- في أوج العصر الهيوي- ينظم مباريات في الشعر يشترك فيها ما يقرب من ألف وخمسمائة شاعر يتنافسون أمام محكمين من العلماء ، ليحكموا أيهم أفحل في صياغة الموجزات الشعرية ، بل أنشئ في سنة 951 مكتب خاص للشعر ، يشرف على تنظيم هذه المباريات ، والقصائد الرابحة في كل مباراة تحفظ في دار المحفوظات. وجاء القرن السادس عشر ، فأحس الشعر الياباني عندئذ أنه يسرف في طول القصائد ، وصمم على تقصير "التانْكاتْ"- وكانت "التانكا" في الأصل تكملة يضيفها شخص إلى قصيدة بدأها شخص آخر- فأصبحت بعد التقصير ما يسمونه "هوكو" ، أي "العبارة الواحدة" تتألف من ثلاثة أسطر تتكون أولها من خمسة مقاطع ، وثانيها من سبعة ، وثالثها من خمسة ، أي أن مجموعة المقاطع تكون سبعة عشر مقطعاً ، وكان نظم القصائد من نوع "الهوكو" هو البدْع الشائع في عصر "جنروكو" (1688-1704) ، ثم بات البدْع عندهم شغفاً بلغ حد الهوس ، ذلك لأن الشعب الياباني شبيه بالشعب الأمريكي في شدة حساسيته العاطفية العقلية التي تسبب سرعة التقلب في الأنماط الفكرية ، وكنت ترى الرجال والنساء ، والتجار والجند ، والصناع والفلاحين ، يهملون شؤون الحياة اليومية ليشتغلوا بصياغة شعرية موجزة من نوع "الهوكو" يصوغونها في لحظة حين يُطلب إليهم ذلك ، ولما كان اليابانيون مولعين بالمقامرة فقد راحوا يراهنون بمبالغ جسيمة من المال في مباريات تقام لنظم قصائد "الهوكو" حتى لقد خَصَّصَ بعض المغامرين في ميدان الأعمال أنفسهم لإقامة أمثال هذه المباريات يجعلونها مرتزقاً لهم ، فكانوا يحشدون كل يوم آلاف الناس المعجبين بهذا الضرب من التنافس ، ولذلك اضطرت الحكومة آخر الأمر أن تقاوم هذه الحلبات الشعرية ، وأن تمنع هذا الفن المأجور الجديد ، وأنبغ من أجاد الشعر من نوع الهوكو هو "ماتسوراباشو" (1643-94) الذي كان مولده- في رأي يوني نوجشي- "أعظم حادثة في تاريخ اليابان" ، وكان ماتسوراباشو هذا سيافاً ناشئاً ، مات مولاه وأستاذه ، فكان لموته أعمق الأثر في نفسه بحيث اعتزل حياة القصر ، وزهد في لذائذ الجسد جميعاً ، وراح يضرب في فجاج الأرض على غير هدى ، متفكراً ، معلماً ، وعبر عن فلسفته الهادئة في نتف من شعر الطبيعة الذي ينزل من ذوَاقة الأدب في اليابان منزلة رفيعة ، لأنه يضرب أروع الأمثلة للكلام كيف يوحي بالمعاني رغم إيجازه الشديد ، ومن قوله:


البركة القديمة

وصوت الضفدعة وهي تثب في الماء


ومن قوله أيضاً:


ساق من حشيش حَطَّ عليه

اليعسوب محاولاً أن يضيئه.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أهم الكتـّاب والأعمال

Famous authors and literary works of significant stature are listed in chronological order below. For an exhaustive list of authors see List of Japanese authors:

الأدب الكلاسيكي

أدب العصور الوسطى

الأدب المعاصر المبكر

الأدب المعاصر

الجوائز والمسابقات

المصادر

  • Birnbaum, A., (ed.). Monkey Brain Sushi: New Tastes in Japanese Fiction. Kodansha International (JPN).
  • Donald Keene
    • Modern Japanese Literature, Grove Press, 1956. ISBN 0-384-17254-X
    • World Within Walls: Japanese Literature of The Pre-Modern Era 1600–1867, Columbia University Press © 1976 reprinted 1999 ISBN 0-231-11467-2
    • Dawn to the West: Japanese Literature in the Modern Era, Poetry, Drama, Criticism, Columbia University Press © 1984 reprinted 1998 ISBN 0-231-11435-4
    • Travellers of a Hundred Ages: The Japanese as Revealed Through 1,000 Years of Diaries, Columbia University Press © 1989 reprinted 1999 ISBN 0-231-11437-0
    • Seeds in the Heart: Japanese Literature from the Earliest Times to the Late Sixteenth Century, Columbia University Press © 1993 reprinted 1999 ISBN 0-231-11441-9
  • McCullough, Helen Craig, Classical Japanese prose : an anthology, Stanford, Calif. : Stanford University Press, 1990, ISBN 0804716285
  • Miner, Earl Roy, Odagiri, Hiroko, and Morrell, Robert E., The Princeton companion to classical Japanese literature, Princeton, N.J. : Princeton University Press, 1985. ISBN 0691065993
  • Ema Tsutomu, Taniyama Shigeru, Ino Kenji, Shinshū Kokugo Sōran (新修国語総覧) Kyoto Shobō © 1977 revised 1981 reprinted 1982

انظر أيضاً


المصادر

وصلات خارجية

مكتبات نصوص اونلاين

المراجع

المصادر

  • الموسوعة العربية
  • موقع الامبراطور
  • ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.