عهد الرعب

(تم التحويل من Reign of Terror)

عهد الإرهاب 17 سبتمبر 1793 - 28 يوليو 1794

المقصلة، "بينما الحرس يصطف على جدار اللوڤر، إلا أنه لم يتحرك ليدافع عن الملوك..."، أثناء عهد الرعب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الأرباب عطشى

كان الإرهاب هو السمة العامة المتكررة(منذ ظهور الثورة الفرنسية) وارتبط أيضا بفترة زمنية بعينها. وعهد الإرهاب يطلق اصطلاحا على الفترة الممتدة من صدور قانون المشتبه فيهم في 17 سبتمبر 1793 حتى إعدام روبيسبير في 28 يوليو 1794 لكن كان هناك قبل ذلك إرهاب سبتمبر 1792 وكان هناك ما يمكن تسميته "الإرهاب الأبيض White Terror " في مايو سنة 1795 وثمة إرهاب آخر سنجده بعد سقوط نابليون.

سلسلة عن
تاريخ فرنسا
الغال الكلتيون
الغال الرومانية
الفرنجة
العصور الوسطى
فرنسا أوائل العصر الحديث
الثورة إلى ح.ع.1
الثورة الفرنسية
الأسباب
مجلس طبقات الأمة
الجمعية الوطنية
اقتحام الباستيل
الجمعية الوطنية
التأسيسية
(1, 2, 3)
الجمعية التشريعية
وسقوط الملكية
المؤتمر الوطني
وعهد الرعب
الديركتوار
القنصلية
الحرب في الڤندي
شوانري
متعلقات: معجم,
خط زمني, الحروب,
قائمة الشخصيات,
التاريخانية
الامبراطورية الأولى
الاستعادة
ملكية يوليو
الجمهورية الثانية
الامبراطورية الثانية
الجمهورية الثالثة
الجمهورية الرابعة
فرنسا الحديثة

وكانت أسباب عهد الإرهاب الشهير (الفترة التي نتحدث عنها متمثلة في الأخطار الخارجية والفوضى الداخلية، مما أدى إلى خوف عام وشغب فظهرت الأحكام العرفية (قانون الطورىء) فالتحالف الأوربي الأول كان قد أدى إلى إعادة الاستيلاء على ماينز Mainz (في 23 يوليو) وغزو الألزاس، ودخول ڤالنسيان Valenciennes على بعد مائة ميل من باريس، واستولت القوات الاسبانية على بيربينان Perpignan وبايون Bayonne وكانت القوات الفرنسية في حالة فوضى وكان جنرالاتها يجهلون أوامر حكومتهم. وفي 29 أغسطس سلم الملكيون للبريطانيين الأسطول الفرنسي وكذلك سلموهم القاعدة البحرية المهمة والترسانة في طولون Toulon، وحكمت بريطانيا الأمواج (تحكمت في البحار) واستولت بلا جهد على المستعمرات الفرنسية في قارات ثلاث، وتداول الحلفاء المنتصرون في "تقطيع أوصال فرنسا وأعادوا الحقوق الإقطاعية للمناطق التي تقدموا فيها(53).

وعلى الصعيد الداخلي بدت الثورة وقد انفرط عقدها فأهل ڤاندي Vendée كانوا يعملون بحماسة منقطعة النظير إلى جانب المناهضين للثورة، وهزم المتمردون الكاثوليك قوات الدولة في ڤيير Vihiers ‏(18 يوليو) وراح الأرستقراطيون في الداخل والأرستقراطيون المهاجرون يخططون بثقة لإعادة الوضع كما كان قبل الثورة. وأيدت ليون Lyons وبورج Bourges ونيم Nimes ومارسيليا وبوردو Bordeaux ونانت Nante وبرست Brest الجيرونديين الثوار (ضد الثورة)، وكانت الحرب الطبقية مُسْتَعِرة بين الأغنياء والفقراء.

وكان الاقتصاد نفسه ساحة حرب. فالنظام الذي تم وضعه لضبط الأسعار في 4 مايو و 29 سبتمبر فشل بسبب براعة الجشعين، وفقراء المدن كانوا من أنصار التطرف الشديد (الاستيلاء على أموال الآخرين) وعارضهم الفلاحون والتجار، وشيئا فشيئا رفضوا - بشكل متزايد - إنتاج البضائع التي حددت أسعارها أو توزيعها، فراح ما يرد لمخازن المدن من الأسواق أو الحقول يتضاءل شيئا فشيئا ولم يعد يكفي سوى الأقلية التي تقف صفوفاً يوميا أمام أبواب هذه المخازن. واجتاح الخوف من المجاعة باريس والمدن الفرنسية الأخرى. ففي باريس وسينلي Senlis وأميان Amiens وروان Rouen كادت الجماهير تطيح بالسلطات الحاكمة اعتراضا منها على نقص الغذاء. وفي 25 يونية قاد جاك رو Jacques Roux جماعته من الهائجين Enragés (والترجمة الحرفية للكلمة هي الكلاب المسعورة) إلى المؤتمر الوطني وطالبوا بالقبض على المستغلين كلهم - الذين ذكر جاك رو من بينهم بعض أعضاء المؤتمر الوطني - وإجبارهم على التخلي عن ثرواتهم الجديدة (التي جمعوها باستغلال الموقف الاقتصادي في فرنسا).

  "هذه الديمقراطية التي تدعونها ليست ديمقراطية لأنكم تسمحون بتكوين الثروات، فلم يجن سوى الأثرياء - خلال السنوات الأربع الأخيرة - ثمار الثورة. إنها الارستقراطية التجارية التي هي أكثر ظلماً لنا من النبلاء. إننا لا نرى حدا لاستغلالهم، فأسعار البضائع تزداد بشكل يثير الذعر.

لقد آن الأوان لمعركة حتى الموت بين المستغلين والعمال ... هل ممتلكات الأوغاد (السفلة) أكثر قداسة من حياة الإنسان؟ لا بد من إتاحة ضرورات الحياة وتوزيعها من قبل أجهزة إدارية تحت إشرافكم ، تماما كما أن القوات المسلحة تحت إشرافكم، فلن يكون كافيا تحصيل ضريبة من الأثرياء طالما أن النظام لم يتغير، لأن الرأسماليين والتجار سيرفعون في اليوم التالي الأسعار ليستردوا المبلغ الذي دفعوه كضريبة من السانس كولوت (الشريحة الدنيا من الطبقة الثالثة) ... إذا لم يتم تدمير الاحتكاريين وقوى الاستغلال فلا حل"(45).

 

وأدان جاك هيبير Jacques Hébert البورجوازيين باعتبارهم المخططين للثورة - بعبارات أقل جنوحا نحو الشيوعية - وحث العمال على الاستيلاء على السلطة من الحكومة المهملة أو المتسمة بالجبن. وفي 30 أغسطس نطق واحد من النواب بالعبارة السحرية "فليكن الإرهاب هو نظام هذه الأيام"(55). وفي 5 سبتمبر أتت جماهير من الأحياء تهتف "الحرب على الطغاة وخازني البضائع (لمنعها عن الناس) والأرستقراطيين" واتجهت إلى مقر الكومون في دار البلدية، فصحب رئيس البلدية - جان جولوم بيش Jean - Guillaume Pache - ووكيل المدينة - بيير شومت Pierre Chaumette - مفوّضين عن الجماهير المتظاهرة واتجهوا جميعا إلى المؤتمر الوطني وطالبوا بجيش ثوري يطوف فرنسا ومعه مقصلة للقبض على الجيرونديين وإجبار كل فلاح لتسليم منتجاته المخزونة وإلا جرى إعدامه في المكان نفسه(56).

وفي هذا الجو الذي يخيم فيه شبح الغزو الأجنبي، وشبح الثورة داخل الثورة - كونت لجنة الأمن العام الجيوش الفرنسية وقادتها للنصر، وكانت هي آلة الإرهاب (جهاز الرعب) التي كوت بنارها أمة شديدة الاضطراب فوحدتها.

وفي 23 أغسطس، وبناء على خطط جسورة وضعها كارنو Carnot وبارير Barère - أمر المؤتمر الوطني بتجنيد جيش شعبي بطريقة عفوية ينضم إليه الفرنسيون Levy en masse، لا نظير له في تاريخ فرنسا: "من الآن وحتى يتم طرد أعداء الجمهورية الفرنسية من أراضيها، الفرنسيون كلهم مطلوبون بشكل دائم للخدمة في قواتها المسلحة، فالشباب سيذهبون للقتال والمتزوجون سوف يعدون السلاح وينقلون الطعام والنسوة سيعددن الخيام والملابس ويخدمن في المستشفيات، وكبار السن سينتقلون إلى أماكن التجمع لبث الشجاعة في المقاتلين ويدعون لكراهية الملوك ويحثون على وحدة الأمة".

كل غير المتزوجين من سن الثامنة عشرة إلى الخامسة والعشرين تم تنظيمهم في كتائب ترفرف عليها أعلام كتب عليها "الشعب الفرنسي يتصدى للطغاة".

 
سانز-كيلوت
ممثلو الشعب (1789).

وسرعان ما تحولت باريس إلى مؤسسة نابضة لصناعة السلاح، وامتلأت حدائق قصر التوليري ولكسمبورج Luxembourg بالمحلات التي تنتج نحو 650 بندقية في اليوم بالإضافة إلى مواد أخرى. وانتهت البطالة وصودرت الأسلحة الشخصية والمعادن والملابس الزائدة عن الحاجة، ووضعت آلاف المطاحن تحت إشراف الدولة. لقد صودرت رؤوس الأموال والعمل، واقترضت الحكومة - بالضغط من الموسرين بليون جنيه (ليفر (Livres، وحددت الحكومة الأسعار وحددت للمتعاقدين معها ما ينتجون. وهكذا أصبحت فرنسا بين عشية وضحاها دولة شمولية totalitarian state.

وكان لا بد من الحصول من تربة فرنسا المحاصرة من كل ناحية وفي كل ميناء - على النحاس والحديد والملح الصخري (نترات البوتاسيوم والصوديوم) والبوتاس والصودا والكبريت، وكان الاعتماد جزئيا فيما سبق على الاستيراد للحصول على بعض هذه المواد. ومن حسن الحظ أن قام الكيميائي لافوازيه Lavoisier (الذي سرعان ما قصت المقصلة رقبته) في سنة 1775 بتحسين نوعية البارود وزيادة إنتاجه، فكان لدى الجيوش الفرنسية بارود من نوعية أفضل مما لدى أعدائهم وتم استدعاء علماء مثل مونج Monge وبيرثولية Bertholet وفوركروي Fourcroy لتدبير إمدادات من المواد التي دعت الحاجة إليها أو اختراع بدائل لها، وكان هؤلاء العلماء هم الأعلام في مجال دراساتهم في ذلك الوقت وقد أدوا خدمات جيدة لبلادهم.

وفي نهاية سبتمبر كان لدى فرنسا 500.000 مجند كانت معداتهم غير كافية، وكان تنظيمهم بائسا وكانت روحهم يعتريها التردد فلا أحد يتحمس وهو مقبل على الموت سوى القديسين. والآن ولأول مرة أصبحت الدعاية (البروباجندا) صناعة حكومية(صناعة من صناعات الدولة) تكاد تكون حكراً عليها، فدفع وزير الحرب جان-باتيست بورشوت Jean - Baptiste Bourchotte أموالاً للصحف لتقدم موضوعات عن حالة الأمة وأوصى القائمين عليها بتوزيع نسخ من هذه الصحف في معسكرات الجيش، فلم يكن هناك - إلا القليل - من يقرأها في أي مكان آخر (غير معسكرات الجيش) وذهب أعضاء من اللجنة أو ممثلون عنهم إلى جبهة القتال لإلقاء الخطب الرنانة في الجنود ولمراقبة الجنرالات.

وفي أول اشتباك مهم في المعركة الجديدة - في هوندشوت Hondschoote في 6-8 سبتمبر - مع قوات بريطانية ونمساوية كان ديبرل Debrel مبعوث اللجنة هو الذي حول الهزيمة إلى نصر بعد أن كان الجنرال هوشار (أوشار Houchard ) قد اقترح انسحاب القوات الفرنسية. ولهذا، ولأخطاء أخرى جرى إرسال هذا المقاتل العجوز لتجز المقصلة رقبته في 14 نوفمبر سنة 1793 . وسجن اثنان وعشرون جنرالا - كلهم تقريبا من بقايا النظام القديم - لأخطاء وقعوا فيها أو لعدم مبالاتهم أو لإهمالهم تعليمات اللجنة. أما الشباب الذين نشأتهم الثورة فقد تبوأوا مكانتهم - رجال مثل هوش Hoche وپيشگرو Pichegru وجوردا Jourdan ومورو Moreau الذي كان أهم من نفذ سياسة كارنو Carnot القاضية بالهجوم المتواصل، ففي واتجنز Wattignies في 16 أكتوبر عندما واجه 50.000 مجند فرنسي جديد 65.000 نمساوي حمل كارنو Carnot ذو الأربعين عاما بندقيته على كتفه وخاض هو ورجال جوردا Jourdan المعركة. حقيقة إن النصر الذي حقَّقوه لم يكن حاسما لكنه رفع من معنويات جيوش الثورة ودعم من سلطة اللجنة (لجنة الأمن العام) .

 
اعدام لويس السادس عشر

وفي 17 سبتمبر أقر المؤتمر الوطني المطيع (المقصود المذعن للجنة الأمن العام) قانون الاشتباه مخولاً اللجنة أو من ينوب عنها القبض على أى مهاجر عائد إلى فرنسا (المهاجرون هم الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة) وأي قريب لهذا المهاجر وأي موظف عام موضع شك ولا يعاد إلى وظيفته مرة أخرى، وأي شخص تبدر منه أية إشارة تفيد مقاومة الثورة أو معارضة الحق، ويحق للجنة أو من تنيبه عنها أن يقبض على أي من المذكورين آنفا دون سابق إنذار أو تحذير. لقد كان هذا (قانون الاشتباه) قانونا قاسيا فقد فرض على الجميع - باستثناء الثوريين المعروفين - أن يعيشوا في خوف دائم من القبض عليهم أو حتى من قتلهم، وكان من بين هؤلاء الذين أصابهم الرعب الكاثوليك كلهم تقريبا والبورجوازيون كلهم.

ووافق بعض المهاجرين (الذين كانوا قد تركوا فرنسا عقب أحداث الثورة) لجنة الأمن العام The Twelve على أن استخدام الرعب والخوف من الأمور الشرعية المباحة التي يحق لنظام الحكم استخدامها في الظروف الحرجة. وفي سنة 1792 كتب الكونت مونتمورين Montmorin وزير الخارجية السابق في ظل حكم لويس السادس عشر: "أعتقد أنه من الضروري معاقبة أهل باريس بالإرهاب" وقدم الكونت فلاشلاندر Flachslander الأدلة على أن المقاومة الفرنسية للحلفاء "ستستمر حتى يتم ذبح المؤتمر الوطني" وعلق واحد من سكرتارية ملك بروسيا على موقف المهاجرين: «"إن لغتهم مرعبة. فإذا كنا مستعدين للتخلية بينهم وبين مواطنيهم ليثأروا منهم، فسرعان ما ستصبح فرنسا مقبرة رهيبة لا أكثر"(57).»

لقد واجه المؤتمر الوطني خيارا بين الإرهاب والرحمة في قضية ملكة فرنسا. لقد نحى جانبا تبذيرها وإسرافها في المرحلة الأولى، وتدخلها في شئون الدولة وعدم استساغتها لجمهور باريس وكان هذا معروفاً عنها (وهي إهانة تستحق عليها الإعدام بجدارة)، فبصرف النظر عن ذلك كله فقد كان من المؤكد أنها اتصلت بالمهاجرين والحكومات الأجنبية لإيقاف الثورة وإعادة السلطات التقليدية إلى العرش الفرنسي، وكان رأيها أنها بفعلها هذا إنما هي تمارس حقا إنسانيا في الدفاع عن النفس، أما متهموها فاعتبروا أنها بفعلها هذا انتهكت القوانين التي أقرها نواب الأمة المنتخبون، وبذا فهي قد اقترفت خيانة. وكان من الواضح أنها أفشت لأعداء فرنسا بالمشاورات التي جرت في المجلس الملكي بل وأفشت لهم الخطط الحربية لجيوش فرنسا.

وقد أنجبت من لويس السادس عشر أربعة أطفال مارى تريز Marie -Thérèse وهي الآن في الخامسة عشرة من عمرها، وابن مات في مرحلة الطفولة، وابن ثان مات في سنة 1789، وطفل ثالث هو لويس - شارلز Louis - Charles هو الآن في الثامنة من عمره واعتبر هو لويس السابع عشر Louis XVII، وكانت ابنة الملكة وأخت زوجها (إليزابيث) تعاونانها في العناية بالطفل الذي راحت تنظر إليه بقلق ومن ثم بيأس لتدهور صحته وحالته المعنوية، بسبب طول فترة احتجازه. وفي مارس سنة 1793 عرضت عليها خطة للهروب لكنها رفضت لأن الخطة تتطلب ترك أطفالها(58). وعندما علمت الحكومة بهذه الخطة التي لم تنفذ نقلت ابن الملكة ونزعته منها رغم مقاومتها وأبعدته عن أقربائه، وفي أغسطس سنة 1793 - بعد عام من السجن في سجن التمبل Temple تم نقل الملكة وابنتها وأخت زوجها إلى غرفة في مسكن البواب (الكونسيرجيري) ذلك القسم من قصر العدل الذين كان يشغله قبل ذلك مشرف المبنى. وهناك راحوا يعاملون هذه الأرملة Widow Capet - كما كانوا يسمونها - برقة أفضل من ذي قبل بل إنهم أرسلوا لها قسا ليرتل القداس في زنزانتها. وفي آخر هذا الشهر وافقت على محاولة أخرى لتهريبها، وفشلت المحاولة فنقلوها إلى غرفة أخرى ووضعوها تحت مراقبة وحراسة مشددتين.

وفي 2 سبتمبر اجتمعت اللجنة لتقرير مصيرها، وكان بعض الأعضاء إلى جانب الاحتفاظ بحياتها للمساومة عليها مع النمسا مقابل سلام مقبول، أما بارير Barère وسان أندرية Saint - André فدعوا إلى إعدامها لأن هذا وسيلة لتوحيد الموقعين على الحكم وربطهم بميثاق الدم. أما هيبر Hébert عضو الكومون، فقال للجنة The Twelve : "إنني باسمكم وعدت العامة (السانز-كولوت) برأس مارى أنطوانيت، وهم (العامة) غاضبون ساخطون يطالبون بها، وأنتم لا تستطيعون الاحتفاظ بمقاعدكم بل ووجودكم دون دعم منهم.. إنني سأذهب وأقطع رأسها بنفسي إذا كان علي أن انتظر كثيرا لتسلّم هذا الرأس"(59).

وفي 12 أكتوبر جرى تحقيق مبدئي مطول مع الملكة، وفي 14 و15 أكتوبر حوكمت أمام المحكمة الثورية، وكان المدعي العام هو فوكييه-تانڤيل Fouquier-Tinville، وظلت الأسئلة توجه لها من الساعة الثامنة صباحا حتى الرابعة، ومن الساعة الخامسة حتى الحادية عشر مساء، وذلك في اليوم الأول للمحاكمة ومن الساعة التاسعة صباحا إلى الثالثة ، في اليوم الثاني من المحاكمة. لقد أتهمت بتحويل ملايين الفرنكات من الخزانة الفرنسية لأخيها جوزيف الثاني إمبراطور النمسا ودعوة القوات الأجنبية لغزو فرنسا، وكان هناك افتراض - أكد إلى بعيد - أنها حاولت أن تفسد "ابنها جنسيا". وكان هذا الاتهام الأخير هو الاتهام الوحيد الذي لم يثرها فقد أجابت: "إن الطبيعة ذاتها ترفض أن ترد على مثل هذه التهمة (تعيرها اهتماما) الموجهة إلى أم، إنني أستغيث بكل الأمهات الموجودات هنا". لقد تأثر الجمهور الحاضر بمنظر هذه المرأة التي كان جمالها وشبابها ومرحها في وقت من الأوقات حديث أوروبا، أما الآن فقد اشتعل رأسها شيبا وهي في الثامنة والثلاثين من عمرها مرتدية ملابس الحداد بعد إعدام زوجها، وراحت تناضل دفاعاً عن حياتها أمام رجال كانوا قد انتهوا - كما هو واضح - إلى قرار بتحطيم روحها وتعذيبها بإطالة فترة المحاكمة بلا رحمة لتذهب نفسها حسرات قبل تدمير جسدها. وعندما انتهت المحاكمة أصابها العمى لفرط الإرهاق وكان لا بد من مساعدتها لتتخذ طريقها إلى زنزانتها، وهناك علمت أن قرار المحلفين هو الحكم عليها بالموت.

والآن فإنها كتبت في محبسها الانفرادي خطاب وداع لمدام إليزابيث طالبة منها أن تنقل لابنها وابنتها التوجيهات التي تركها أبوهما الملك. لقد كتبت: "إن ابني يجب ألا ينسى كلمات أبيه الأخيرة والتي طالما كررتها على مسامعه وهي قوله: لا تعمل أبداً على الثأر لمقتلي"(60). ولم يسلم الخطاب إلى مدام إليزابيث فقد سلمه - بعد أن استولى عليه فوكييه-تانڤيل Fouquier-Tinville إلى روبيسپيير، وتم العثور عليه ضمن أوراقه السرية بعد موته.

وفي صباح 16 أكتوبر 1793 أقبل المنفذ (الجلاد) هنرى سانسون Henry Sanson إلى زنزانتها وعقد يديها خلف ظهرها وفض شعرها الذي يغطى رقبتها وحملها في عربة مرت على طول شارع يحفه الجنود والجموع التي كانت قبل ذلك معادية لها هازئة بها إلى أن وصلت إلى ميدان الثورة. وعند الظهر عرض سانسون Sanson على الجموع رأسها العنيد.

إن المحكمة الثورية الآن قد أنست إلى عملها، راحت تصدر أحكام الموت بمعدل سبعة أحكام في اليوم(61)، لقد تم القبض على الأرستقراطيين الذين تيسر القبض عليهم وتم إعدام كثيرين منهم، وفي 24 أكتوبر أحيل الواحد والعشرون جيرونديا الذين كانوا تحت الحراسة منذ 2 يونيه، إلى المحاكمة، فلم تغن عنهم بلاغة فيرنيو وبيسو Vergniaud &Brissot شيئاً، وطعن واحد منهم نفسه بينما هو يغادر المحكمة فوضعت جثته بين المتهمين وحملت في عربة إلى سقالة المقصلة حيث هوى النصل المحايد (الذي لا يميز بين حي وميت) على رقبته (رقبة الجثة). إن الثورة - فيما قال فيرنيو Vergniaud " مثل ساتورن Saturn تفترس أبناءها"(62).

لنضع في اعتبارنا هذا الحنق وذلك الرعب اللذين سببتهما هذه الأحداث والتي لا بد أنها قد تغلغت في أعماق مانون رولا Manon Rolan التي تنتظر مصيرها في غرفة البواب (الكونسيرجيري) التي أصبحت هي المنطلق أو العتبة الأخيرة إلى المقصلة. وقد كانت تلاقي في سجنها بعض المتع والكياسة فقد كان أصدقاؤها يحضرون لها الكتب والزهور، فجمعت في زنزانتها مكتبة تدور في غالبها حول بلوتارخ، تاكيتوس Tacius (الخطيب والمؤرخ الروماني)، ولأن موقفها كان أقوى فقد راحت تشغل نفسها بكتابة مذكراتها التي أطلقت عليها "دعوة لأجيال غير منحازة" كما لو أن الأجيال أيضا لا يمكن تقسيمها، وبينما كانت تكتب ذكريات شبابها في أيام السعادة tempi felici تعمق لديها الشعور بمرارة حاضرها . لقد كتبت في 82 أغسطس سنة 3971:

  "أشعر أنني فقدت الرغبة في متابعة هذه المذكرات . فالبؤس الذي يعانيه وطني يعذبني، إن كآبة تتغلغل في روحي رغم إرادتي فتشل خيالي، فقد أصبحت فرنسا جلجثة واسعة (ساحة إعدام)(üü).. لقد أصبحت ميدانا للإرهاب وأصبح أطفالها يبكون ويدمر بعضهم بعضا ... لا يستطيع التاريخ أن يصور هذه الأيام المرعبة، ولا الغيلان التي تملأها ومن معها (مع الغيلان) من برابرة ... أكانت باريس يوما مثل روما أو بابل؟"(36).  

وتنبأت أن دورها سيحين حالا فقد كتبت في مذكراتها المخطوطة كلمة وداع لزوجها وعشيقها اللذين هربا من الشرك الذي أعدّ لهما:

  "آه يا صديقي، ربما قادكما قدركما الملائم السمح إلى الولايات المتحدة الملاذ الوحيد للحرية .. وأنت يا زوجي وصديقي قد اعتراك الضعف فقد صرت عجوزا قبل الأوان وتملصت من القتلة بصعوبة، أيسمح لي أن أراك مرة أخرى؟ ... إلى متى يجب أن أبقى شاهدة على خراب بلادي وانحطاط مواطني ؟ "(46).  

ولم يطل الانتظار ففي 8 نوفمبر سنة 3971 مثلت أمام المحكمة الثورية ووجهت إليها تهمة الاشتراك مع رولان Roland في إساءة استخدام الميزانية العامة وإرسالها خطابات من زنزانتها لتشجيع باربارو Barbaroux وبوزو Buzot اللذين كانا في ذلك الوقت يثيران التمرد على سيطرة اليعاقبة على المؤتمر الوطني، وعندما تحدثت مدافعة عن نفسها اتهمها الحضور (المشاهدون) الذين تم اختيارهم بعناية بأنها خائنة. وصدر الحكم بأنها مذنبة وتم إعدامها بالمقصلة في اليوم نفسه في ميدان الثورة . وثمة رواية غير مؤكده تفيد أنها نظرت إلى تمثال الحرية الذي أقامه ديفد David في الميدان المهيب، وصاحت: " آه أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك!"(56).

 
جنرال كوستين، تدينه المحكمة الثورية ويُعدَم بالگيلوتين في أغسطس 1793

وتبعها إلى المقصلة موكب من الثوريين، ففي 01 نوفمبر أتى دور باييه Bailly رئيس البلدية والفلكي الذي كان قد قدم شارة الثورة الحمراء للملك وكان قد أمر الحرس الوطني بإطلاق النار على مقدمي الالتماسات في غير الوقت المحدد في معسكر دي مارس - Champ - de - Mars. وفي 21 نوفمبر هوت المقصلة على فيليب مساواه Philippé Egalité، ولم يفهم لم رغب الجبليون Montagnards (اليسار) في إرسال مثل هذا الحليف المخلص إلى المقصلة! إن السبب هو أن الدماء الملكية تجرى في عروقه وأنه كان يتلهف للوصول للعرش . من الذي يستطيع أن يقول إن هذه الرغبة الملحة يمكن أن تعتريه مرة أخرى؟، وفي 92 نوفمبر أتى دور أنطوان بارنيف Antoine Barnave الذي سبق له أن حاول حماية الملكة ثم أتى دور الجنرالات كوستين Custine وهوشار (أوشار (Houchard وبيرو Biron ... الخ .

وبعد أن شكر رولان Roland أصدقاءه الذين خاطروا بحياتهم لحمايته تابع مسيرته وحيدا، وفي 61 نوفمبر جلس إزاء شجرة وكتب كلمة وداع: "ليس الخوف هو الذي دفعني للتراجع وإنما هي السخط والنقمة، فعندما علمت بقتل زوجتي لم أعد أرغب في البقاء أكثر من ذلك على أرض لوثتها الجرائم"(66). ثم طعن نفسه بسيفه، أما كوندرسيه Condorcet فبعد أن كتب أنشودة الشكر أو التسبيح (دعاء ديني) ليواصل طريقه تناول السم (82 مارس سنة 4971) أما باربارو Barbaroux فأطلق النار على نفسه فلم يفلح في قتل نفسه فقامت المقصلة بما عجز عنه في 51 يونيو . أما بتيو Pétion وبوزو Buzot فقد جد ممثلو الحكومة في إثرهما، فانتحرا في حقل بالقرب من بوردو، وتم العثور على جثتيهما في 81 يونيو، وقد نهشتهما الذئاب فلم يبق من كل جثة إلا نصفها .


ب- الإرهاب في الدوائر (المحافظات)

كان هناك جيرونديون آخرون لا يزال كل واحد منهم يحمل رأسه، وحققوا في بعض المدن مثل بوردو Bordeaux وليون Lyons مكانة عالية وأصبح لهم اليد الطولى، فشعر اليعاقبة بضرورة استئصالهم لتكون فرنسا موحده One ويعقوبية وهذا يتطلب مد حركتهم إلى الدوائر (المحافظات) المكتفية ذاتيا . ولهذا الغرض وأغراض أخرى، أرسلت لجنة ا لأمن العام ممثلين مبعوثين عنها وتكاد تكون قد خولتهم بكل الصلاحيات والسلطات المطلقة المخولة إليها في كل المناطق المحددة لهم، فلهم الحق في عزل المسئولين المنتخبين وتعيين آخرين محلهم، والقبض على المشتبه فيهم، وإعداد الرجال للالتحاق بالجيش وفرض الضرائب وضبط الأسعار وتحديد مبلغ القروض المطلوبة ومصادرة المؤن والملابس وغيرهما من المواد وتشكيل لجان محلية للأمن العام أو إقرارها لتكون كوكيل للجنة الكبرى (لجنة الأمن العام المركزية في باريس) وحقق ممثلو اللجنة هؤلاء معجزة التنظيم الثوري والعسكري، في وسط شبه معاد أو لا مبال. لقد قمع هؤلاء الممثلون المعارضة بلا رحمة بل بإفراط في الحماس في بعض الأحيان.

وكان أكثر هؤلاء الممثلين نجاحا هو سان-جوست، ففي 71 أكتوبر سنة 3971 تم إرساله مع جوزيف ليباس Joseph Lebas (الذي ترك له القيادة عن رضى) لإنقاذ الألزاس Alsace من الغزو النمساوي الذي اجتاح بسرعة منطقة ذات طبيعة ألمانية إذا تسود فيها اللغة الألمانية والآداب الألمانية ونمط الحياة الألماني، وأجبر الجيش الفرنسي المعروف بجيش الراين Rhine على التراجع إلى ستراسبورگ وسادت فيه روح الهزيمة والتمرد . وعلم سا ن - جوست Saint - Just أن القوات الفرنسية كانت تعامل معاملة سيئة متسمة بروح الاستبداد وأن قيادتها كانت سيئة وربما ضللها ضباط غير متحمسين للثورة بما فيه الكفاية، فأمر بإعدام سبعة من هؤلاء الضباط أمام القوات العسكرية المتجمعة، واستمع إلى المظالم باهتمام وأزال أسبابها بحسم مميز، وصادر من الطبقات الموسرة كل ما هو فائض عن حاجتها من الأحذية والسترات والمعاطف والقبعات ومن 391 ثري من أثرياء المدينة جبى تسعة ملايين جنيه Livres وطرد من الخدمة الموظفين غير الأكفاء أو اللامبالين، وأمر بإطلاق النار على المستغلين الذين ثبت استغلالهم . وعندما التقى الجيش الفرنسي بالنمساويين مرة أخرى تم طرد الغزاة (النمساويين) من الألزاس Alsace الذي أعيد إلى السيطرة الفرنسية . وعاد سان - جوست إلى باريس راغبا في أداء أعمال أخرى والقيام بمهام جديدة وكاد ينسى أنه كان قد ارتبط بأخت ليباس Labas .

أما جوزيف لوبون Joseph Le bon فلم يسلك السلوك الذي يتطلبه عمله كمندوب ممثل للجنة الأمن العام، فحذره موظفوه ليحذر من "الطبيعة البشرية الزائفة والمعرضة للخطأ"، وظن الرجل ذو العينين الزرقاوين أنه يسعدهم بتقليص عدد 051 كمبري Cambrai مرموق في غضون ستة أسابيع، و 293 في آراس Arras، وكتبت السكرتارية التابعة له تقريرا ذكرت فيه أن لوبون قتلهم بطريقة محمومة وعندما وصل إلى منزله راح يقلد تقلصات الوجه التي كانت تبدر من الموتى ليسلي زوجته(76). وسرعان ما قصت المقصلة رقبته بعد ذلك بقليل في سنة 5971 . وفي يوليو سنة 3971 انتدب جان - بابتست كارييه Jean - Baptiste Carrier لقمع التمرد الكاثوليكي في الفندي the Vendée وليؤمن نانت Nantes حتى لا يحدث فيها مزيد من التمرد وشرح له عضو اللجنة الكبرى (لجنة الأمن العام) هيرول دى سيشل Hérault de Séchelles مهمته قائلا: "يمكننا أن نكون إنسانيين عندما نتأكد من النصر"(86) فكان هذا القول ملهما لهيرول . ففي لحظة حماس فرضتها ظروف فرنسا البيئية، أعلن أن فرنسا لا تستطيع أن تطعم سكانها الذين يتزايد عددهم بسرعة لذا فمن المطلوب تقليص هذه الزيادة بقطع رقاب النبلاء والقسس والتجار والحكام magistrates كلهم.

 
اعدام راهبات لا ميتيري، بريشة أوگوست-هياسينت دباي، 1838.
المقصلة، المنصوبة في قصر بوفاي في نانت شهدت 144 إعداماً[1]. 24 فنان وصنايعي أُعدِموا في 17 ديسمبر 1793، بينهم أربعة أطفال تتراوح أعمارهم بين 13 و 14 عاماً. تبع ذلك في 19 ديسمبر إعدام 27 شخص آخر منهم 7 إناث، منهم راهبات لا ميتيري، الذين تراوحت أعمارهن بين 17 و 28 عاما. وبعد أيام معدودات، قام منفذ الإعدام بالانتحار.[2].

وفي نانت Nantes اعترض على المحاكمات باعتبارها من قبيل تضييع الوقت فأمر القاضي بضرورة إعدام المشتبه فيهم كلهم في ظرف ساعتين وإلا أمرت بإطلاق الرصاص عليك وعلى زملائك"(96). ولأن السجون في نانت Nantes كانت في غالبها مزدحمة إلى حد الاختناق بالمقبوض عليهم والمدانين وكان هناك نقص في الطعام فقد أمر مساعديه بملء البوارج (السفن الكبيرة) والطوافات (نوع من السفن) وغيرها من السفن بخمسائة رجل وامرأة وطفل - معطيا الأولوية للقسس - وإغراقهم في نهر اللوار Loire. وبهذه الوسيلة وغيرها قرر مصير أربعة آلاف من غير المرغوب فيهم في غضون أربعة أشهر(07). وأقنع نفسه بأن هذا ضروري على وفق قوانين الحرب. وكان الفينديين (أهل الفيندى (the vendéans في حالة تمرد مصممين على معاداة الثورة حتى الموت، فقال: "سنجعل من فرنسا مقبرة إذا لم نستمر في طريقنا"(17) وكان على اللجنة الكبرى (لجنة الأمن العام في باريس) أن تكبح جماحه فهددته بالقبض عليه لكنه لم يخف وقال "على أية حال فإننا جميعا ستذبحنا المقصلة واحدا إثر الآخر". وفي نوفمبر سنة 4971 قدم للمحكمة الثورية، وفي 61 ديسمبر تحققت نبوءته فجزت المقصلة رقبته.

وصبغ ستانيسلاس فريرو Stanislas Fréron (ابن عدو فولتير المفضّل) وغيره من ممثلي اللجنة نهرى الرون Rhone والفار Var بدماء غير الموالين للثورة. 021 في مرسيليا، 282 في طولون و 233 في أورانج(27) Orange. وعلى النقيض من ذلك كان جورج كوثو Georges Cothon قد تجلت صفة الرحمة في بعثته لجمع متطوعين للجيش في دائرة (محافظة) بيى - دي - دوم Puy - de - Dome . وفي كليرمونت - فران Clermont - Ferrand أعاد تنظيم الصناعات من خلال التركيز على إنتاج المواد للأفواج الجديدة. وعندما رأى المواطنون أنه يمارس سلطاته بعدل وإنسانية أحبوه حتى أنهم راحوا - بالتناوب - يحملونه وهو فوق كرسيه . وفي أثناء بعثته لم يعدم أحد على وفق "العدالة الثورية"(37).

أما جوزيف فوشي Joseph Fouche` الذي كان في وقت من الاوقات أستاذا للغة اللاتينية والفيزياء، فهو يبلغ الآن الرابعة والثلاثين من عمره، ولم يكن حتى الآن "أمهر الرجال الذين قابلتهم أبداً"(47) على حد تعبير بلزاك Balazac . لقد بدا كرجل خلق للتآمر والخداع: هزيل بارز العظام مزموم الشفتين حاد العينين، مدبب الأنف كتوم صامت رزين صارم . وكان عليه أن ينافس تاليران Talleyrand في سرعة التحول والمراوغة من أجل البقاء. ومن خلال الملاحظات الظاهرية، فهو رب أسرة ملتزم معتدل في عاداته ومسلكه كما كان في الوقت نفسه جسورا في أفكاره . وفي سنة 2971 تم انتخابه للمؤتمر الوطني عن نانت Nantes . وفي البداية جلس مع الجيرونديين وصوت معهم، ثم انتقل إلى الجبليين (اليساريين) بعد أن تنبأ في نفسه بسقوط الجيرونديين وسيادة باريس وأصدر نشرة يدعو فيها الثورة للانتقال من مرحلة البورجوازية إلى المرحلة البروليتارية. ولتطوير الحرب والسير بها قدما قدم البراهين على ضرورة أن تقوم الحكومة "بالاستيلاء على كل شيء يزيد عن حاجة المواطنين، لأن ما هو زائد عن الضرورة (الفَضْل) إن هو إلا انتهاك واضح غير مسوغ لحقوق الشعب" فلا بد من مصادرة كل الذهب والفضة حتى تنتهي الحرب . "إننا سنكون مزعجين قاصرين في ملء السلطة المخولة لنا. فلا وقت لأنصاف الحلول .... ساعدونا لتوجية لكمات قوية"(57).

وباعتباره ممثلا للجنة الأمن العام في محافظة لوار الأدنى Loir Inférieure خاصة في نيفير Nevers ومولين Moulins- فتح النار على الملكية الخاصة، فاستطاع بمصادرة الأموال والمعادن النفيسة والأسلحة والملابس والطعام أن يجهز عشرة آلاف متطوع كان قد أدرجهم في قوائم المجندين الجدد. لقد نهب الكنائس وجردها مما بها من أوعية القربان المقدس المصنوعة من الذهب والفضة ومن الشمعدانات والأواني وأرسلها إلى المؤتمر الوطني ووجدت اللجنة (لجنة الأمن العام) أنه من غير المفيد معارضة حماسته واعتبرته الرجل المناسب لمساعدة كولو دربوا Collot dصHerbois في إعادة ليون Lyons إلى حظيرة العقيدة الثورية.

لقد كانت ليون تكاد تكون عاصمة الرأسمالية الفرنسية فمن بين سكانها البالغ عددهم 000.031 كان هناك ماليون ذوو صلات بأنحاء فرنسا كلها وتجار يتعاملون مع أسواق أوربا كلها وأصحاب صناعات يتحكمون في مئات المصانع، وعدد كبير من البرولتياريا، كانوا يحسدون برولتيارية باريس التي كادت تستولى على الحكم. وفي بداية سنة 3971 وتحت قيادة القس السابق (المطرود من رحمة الكنيسة) ماري جوزيف كالييه Marie - Joseph Chalier حققوا نصرا مشابها، لكن الدين أثبت أنه أقوى من الطبقة (الانتماء للدين أقوى من الانتماء للطبقة) فقد ظل نصف العمال على الأقل كاثوليكا واعترضوا بامتعاض على سياسة اليعاقبة المناهضة للمسيحية وعندما عبأت البورجوازية قواها المختلفة ضد دكتاتورية البرولتياريا انقسم العمال وطرد تحالف رجال الأعمال والملكيين والجيرونديين الحكومة الراديكالية وتم إعدام كالييه Chalier ومائتين من أتباعه (في 6 يوليو سنة 3971) وغادر آلاف العاملين المدينة واستقروا في الضواحي والمناطق المحيطة بها وراحوا ينتظرون التحول الثوري التالي.

وأرسلت لجنة الأمن العام جيشا للإطاحة بالرأسماليين المنتصرين وأقبل كوثو Couthon مقطوع الساق من كليرمونت Clermont لقيا دة هذا الجيش . وفي 9 أكتوبر شق طريقه إليها وأعاد تأسيس الحكم اليعقوبي بها. وظن كوثو Cothotn أن سياسة الرحمة مطلوبة في مدينة يعتمد سكانها إلى حد كبير على التشغيل المستمر للمصانع والمحلات لكن لجنة الأمن العام في باريس كان لها رأى مخالف، فطرح الأمر في المؤتمر الوطني في 21 أكتوبر وتم إرسال توجيه إلى كوثو Couthon . توجيه صاغه روبيسبير مطالبا بالثأر لمقتل كالييه Chalier والمائتين من الراديكاليين الذين جرى قتلهم. نقرأ في جزء من هذا التوجيه: "ستدمر مدنية ليون Lyons. لا بد من تدمير سكانها الأثرياء كلهم... وسيمحى اسم ليون من قائمة المدن الجمهورية .... وما سيبقى من منازلها سيطلق عليها اسم المدينة المحررة Ville Affranchisèe، وسيقام بين أطلال ليون عمود ليذكر الأجيال القادمة بالجرائم التي ارتكبت بالعقاب الذي حاق بالملكيين"(67).

ولم يستسغ كوثو Couthon المهمة التي أوكلت إليه لقد أدان تدمير المباني التي تكلف بناؤها الكثير، فنقل لممارسة أنشطة أكثر ملاءمة له في كليمونت فران Clemont - Ferrand وحل محله في ليون في 4 نوفمبر كولوا دربوا Collot d`Herbois الذي سرعان ما لحق به فوشي Fouche` وبدأا معا حفلاً شعائرياً دينيا هازلا في ذكرى كالييه Chalier باعتباره "ربا مخلّصا مات ليخلص الشعب" وقاد الموكب حمار ألبسوه زي الأسقف ووضعوا فوق رأس التاج الكنسي (تاج الأسقف) وربطوا في ذيله صليباً ونسخة من الكتاب المقدس، وفي ميدان عام تم تشريف "الشهيدMartyr " بمدائح لتأبينه وأعدت المشاعل من الإنجيل والكتب الدينية (كتب القداس) وخبز العشاء الرباني وتماثيل القديسين المختلفة المصنوعة من الخشب(77) وأنشأ كولو Collon وفوشي Fouche` لجنة مؤقتة من عشرين عضوا ومحكمة من سبعة أعضاء لتحقيق الطهارة الثورية في ليون، بالتحقيق مع المشتبه فيهم وأصدرت هذه اللجنة المؤقتة إعلانا بالمبادىء التي أطلق عليها "المانيفستو الشيوعي الأول" في التاريخ الحديث(87). واقترح المانيفستو (البيان) أن تعتمد الثورة على الغالبية الفقيرة" وانتقد النبلاء والبورجوازية وخاطب المانيفستو العمال: "إنكم ظلمتم ولا بد أن تقمعوا من ظلمكم " فكل ما تنتجه أرض فرنسا ملك لفرنسا والثروات الخاصة كلها لا بد أن تكون في خدمة الجمهورية، وكخطوة أولى نحو العدالة الاجتماعية لا بد من تحصيل ضريبة مقدارها ثلاثون ألف جنيه Liver من كل من لديه دخل يصل إلى عشرة آلاف جنيه في السنة. وتم تحصيل مزيد من المبالغ من السجناء من النبلاء والقسس وغيرهم وبمصادرة ممتلكاتهم.

ولم يستقبل أهل ليون هذا الاعلان الشيوعي استقبالا حسنا فقد كانت قلة لها وزنها منهم قد ارتفعت إلى مستوى الطبقة الوسطى. وفي 01 نوفمبر قدم طلب موقع من عشرة آلاف امرأة يطالبن فيه بالرحمة لآلاف الرجال والنساء الذين تزدحم بهم السجون، فأجاب مبعوثو لجنة الأمن العام بصرامة: "قرن في بيوتكن وانشغلن بأعمالكن المنزلية ... وكفى دموعاً فهذا لا يليق بكن"(97). وفي 4 ديسمبر - ربما لجعل الأمور واضحة - أدانت المحكمة الجديدة ستين سجينا فتم إخراجهم من السجن إلى ساحة مكشوفة عبر الرون Rhone ووضعوا بين خندقين وأطلقت عليهم المترليوزات زخات الرصاص، وفي اليوم التالي، وفي البقعة نفسها تم ربط سجناء عددم 902 معا (بحبل واحد) وتم حصدهم بالمترليوز (المدفع) نفسه.

وفي 7 ديسمبر تم إعدام مائتين بالطريقة نفسها وبعد ذلك وجد أن الذبح بالمقصلة أكثر متعة كما أن الجثث التي امتلأ بها الخندق كانت قد بدأت تسمم هواء المدينة . وبحلول شهر مارس 4971 بلغ عدد المعدمين في ليون 766.1 ثلثاهم من الطبقتين الوسطى والعليا(08) وتم تدمير مئات البيوت الغالية تدميرا شديدا(18).

وفي 02 ديسمبر 3971 ظهر وفد من مواطني ليون أمام المؤتمر الوطني يطالبون بإنهاء عمليات الانتقام، لكن كولو Collot ردهم إلى باريس ودافع عن سياسته بنجاح، وترك فوشي ليرعى أمور ليون فواصل سياسة الإرهاب . ولما علم بأن طولون قد تم الاستيلاء عليها مجددا كتب إلى كولو Collot : "ليس أمامنا للاحتفال بالنصر سوى طريق واحد . لقد أرسلنا هذا المساء 312 متمردا تحت نار السهام النارية المشتعلة "(28) وفي 3 أبريل 4971 تم استدعاء فوشي Fouche` ليقدم تقريرا عن نفسه أمام المؤتمر الوطني. لقد أفلت من العقاب لكن لم يسامح أبداً روبيسبير لاتهامه له بالبربرية . وسيأخذ منه ثأره يوما.

 
L’exécution de Robespierre, le 28 juillet 1794
marque la fin de la Grande Terreur

واعترفت لجنة الأمن العام شيئا فشيئا أن الإرهاب في المحافظات قد زاد زيادة مفرطة . وفي هذا الصدد كان روبيسبير ذا تأثير ملطف (مهدىء) فأخذ على عاتقه دعوة كارييه Carrier وفريرو Fréron وتاييه Tallien وطلب تقارير عن أعمالهم . لقد انتهى الإرهاب في المحافظات (الدوائر) في مايو سنة 4971 بينما كان يزداد في باريس . وفي ذلك الوقت أصبح روبيسبير نفسه ضحية له (72-82 يوليو 4971)، لقد بلغ ضحايا الإرهاب 0072 في باريس و 00081 في سائر أنحاء فرنسا الأخرى(38). وهناك من يرفع إجمالي الرقم إلى 000.04(48) وبلغ عدد المسجونين المشتبه فيهم حوالي 000.003 . وكان الإرهاب مربحا للدولة إذا نظرنا إلى أموال وممتلكات من جرى إعدامهم والتي عادت إلى لدولة .

جـ- الحرب ضد الدين

 
George Cruikshank. Caricature britannique, hostile à la Révolution française, 1819

والآن، فقد كان هناك انقسام حاد بين أولئك الذين يعتبرون العقيدة الدينية هي سندهم النهائي في الدينا التي - بغيره - تغدو بلا غاية ولا معنى ومأسوية، وأولئك الذين يعتبرون الدين - على وفق تفكيرهم، خرافات مكلفة ومحبوكة لسد الطريق أمام العقل والحرية، وهذا الخلاف كان حادا في الفندي the vendée وهي منطقة ساحلية بين اللوارLoire ولاروشيل La Rochelle حيث المناخ القاسي والأرض الصخرية الجدبة، وحيث الولادات والوفيات تجري بشكل روتيني مكرر، مما جعل السكان في غالبهم محصنين ضد أفكار فولتير ورياح التنوير. حقيقة إن أهل المدن والفلاحين قبلوا الثورة لكن عندما أعلنت الجمعية التأسيسية الدستور المدني للإكليروس - مصادرة ممتلكات الكنيسة محوِّلة القسس كلهم إلى موظفين في الدولة - أيد الفلاحون قسسهم في رفضهم الموافقة على هذا الدستور، فتحولت دعوة شبابهم للتطوع في الجيش أو التجنيد الإلزامي فيه، إلى دعوة لإشعال النار في الثورة . فلم يقدم أولادهم حياتهم لحماية حكومة كافرة؟، فالأولى هو أن يدافعوا عن قسسهم ومذابح كنائسهم ومعبودات أسرهم .

وعلى هذا ففي 4 مارس 3971 انفجر التمرد في الفندي وبعد ذلك بتسعة أيام انتشرت في الإقليم، وبحلول أول مايو أصبح هناك 000.03 متمرد مسلح، وشارك عدد من الموالين للملكية الزعماء القرويين في تنظيم هؤلاء المتطوعين في كتائب منظمة، وقبل أن يتحقق المؤتمر الوطني من قوتهم كانوا قد استولوا على توار Thouars وفونتني Fontenay وسومور Saumur وأنجر Angers وفي أغسطس أرسلت لجنة الأمن العام إلى الفندي جيشا بقيادة الجنرال كليبر (كليبه) Kléber مزودا بتعليمات بتدمير قوات الفلاحين وتدمير المناطق التي تؤيدهم كلها. وهزم كليبر جيش الكاثوليك في شولت Cholet في 71 أكتوبر ولاحقه حتى سافيني Savenay في 32 ديسمبر، وجرى تعيين مندوبين عسكريين من لجنة الأمن العام في أنجر Angers ونانت Nantes ورينز Rennes وتور Tours وزودتهم بأوامر بإعدام أي واحد من أهل فندي يحمل السلاح . وفي غضون عشرين يوما تم إعدام 364 في أنجر Angers أو بالقرب منها . وقبل إخضاع الفنديين على يد المارشال هوش Hoche (في يوليو 6971) كان نصف مليون شخص قد فقدوا حياتهم في هذه الحرب الدينية الجديدة .

وفي باريس كان عدد كبير من السكان غير مبالين بأمر الدين ولهذا سهل الاتفاق بين الجبليين the Mountain) اليسار) والجيرونديين، فقد تعاونا معا في تقليص قوة الإكليروس وعملا معا على إنشاء تقويم وثني Pagan Calendar(*)، وشجعت الثورة زواج القسس بل وصدر مرسوم بإبعاد (نفي) كل أسقف امتنع عن الزواج . وفي حماية الثورة تم تزويج ألفي قس وخمسمائة راهبة(58). وكان ممثلو لجنة الأمن العام يعمدون إلى بعض الإجراءات المناهضة للمسيحية في عملهم، وقد أمر أحدهم بسجن قس وألا يفرج عنه حتى يتزوج . وفي نيفر Nevers أصدر فوشي Fouché أحكاما صارمة فيما يتعلق بالقسس: لا بد أن يتزوجوا، ولا بد أن يعيشوا ببساطة حياة غير مترفة . لتكن حياتهم كحياة الرسل(üü) Aposttes ولا بد أن يمتنعوا عن ارتداء ثياب الكهنوت وأن يمتنعوا عن ممارسة الطقوس الدينية خارج الكنائس، وتم إبطال الطقوس الكنسية في أثناء الجنائز ولا بد أن تنقش على المقابر عبارة "الموت نوم أبدي" وأمر (فوشي) رئيس الأساقفة وثلاثين قسا أن يطرحوا قلنسواتهم الدالة على هويتهم الدينية ليضعوا فوق رؤوسهم غطاء الرأس الثوري الأحمر . وفي مولين Moulin ركب (فوشي) على رأس موكب ليحطم في طريقه الصلبان المجردة كلها "+" والصلبان التي تمثل المسيح مصلوبا والصور والتماثيل الدينية كلها(68). وفي كليرمونت - فران Clermont - Ferran أعلن كوثو Couthon أن دين المسيح قد تحول إلى دجل مالي (خداع للحصول على المال)، واستأجر طبيبا لإجراء تجارب أمام الجماهير ليثبت أن ظهور "دم المسيح" بشكل إعجازي في الزجاجة التي تقدمها الكنيسة ليس سوى زيت التربنتينة مصبوغاً باللون الأحمر(üüü) Colored Turpentine. وألغى المرتبات التي تدفعها الحكومة للقسس وصادر ما في الكنائس من آنية ذهبية وفضية، وأعلن أن الكنائس التي لا يمكن أن تتحول إلى مدارس يمكن - بموافقته - أن تهدم ليبنى مكانها مساكن للفقراء، وأعلن لاهوتا جديدا (نظرية دينية جديدة) تحل فيها الطبيعة محل الرب God، وتصبح السماء (المقصود الآخرة أو ما بعد الموت) مكانا لجمهورية مثالية (دولة مثالية - يوطوبيا) يصبح بها الناس كلهم صالحين(78).

وكان زعماء المعركة ضد الدين هم هيبير Hébert في مجلس مدينة باريس وشوميت Chaumette في كومون باريس . وبسبب الحماس الذي أثارته خطب شوميت وصحافة هيبير اقتحمت جموع من الطبقة الثالثة الدنيا (السانس كولوت) دير القديس دينيس (سان ديني) Abbey of St. Denis في 61 أكتوبر سنة 3971 وأفرغوا توابيت أفراد الأسرة المالكة المدفونين فيها، وصهروا معادن هذه التوابيت لاستخدامها في صنع أسلحة للحــرب، وفــي 6 نوفمبر وافق المؤتمر الوطني رسميا على إعطاء كومونات فرنسا الحق في نقد الكنسية المسيحية، وفي 01 نوفمبر راح رجال ونساء قادمون من أحياء الطبقة العاملة ومن النوادي (المراكز الأيديولوجية) في باريس يلوحون في الشوارع بطريقة هزلية بالملابس التي يرتديها رجال الدين الكاثوليك ويسخرون من طقوسهم، ودخلت جموعهم المؤتمر الوطني وفرضوا على أعضائه الحضور في المهرجان المسائي في كاتدرائية نوتر - دام Notre - Dam التي أصبح اسمها "معبد العقل the Temple of Reason" وهناك تم تنظيم طقوس جديدة حيث ارتدت الآنسة كاندل Mlle. Candeille ممثلة الأوبرا علم الثورة الثلاثي الألوان ووضعت فوق رأسها الكاب الأحمر، ووقفت باعتبارها ربة الحرية وراحت نسوة مقنعات يحطن بها ويغنين "نشيد الحرية" الذي ألفه لهذه المناسبة ماري جوزيف دى شينيه Marie - Joseph de Chénier . ورقص المتعبدون وغنوا في صحن الكنيسة، بينما راح المستفيدون من الحرية يحتفلون بممارسة الحب (الجنس) في المصلات الجانبية في الكنيسة، كما ذكر كتاب التقارير المعادون للثورة (88). وفي 71 نوفمبر تم إحضار جان - بابتست جوبل Jean - Baptiste Gopel أسقف باريس، بناء على طلب الجماهير، ليمثل أمام المؤتمر الوطني ليشجب منصبه ويتنكر له ويسلم لرئيس المؤتمر صولجانه (صولجان الأسقف ذا الدلالة الدينية (Crozier وجرسه ring وأن يضع فوق رأسه الكاب الأحمر الدال على الحرية(98). وفي 32 نوفمبر أمر الكومون بإغلاق الكنائس كلها في باريس(09).

ومن ناحية أخرى كان المؤتمر الوطني يرى أنه لا يجب المغالاة في تأكيد دوره في العمل ضد المسيحية . وكان أعضاء المؤتمر جميعا - تقريبا - من اللاأدريين agnostics والمؤمنين بوحدة الوجود أو من الملحدين (المقصود كما سبق القول غير المؤمنين بالثالوث والطقوس المسيحية) ومع هذا فإن كثيرين منهم تشككوا في مدى حكمة إثارة الكاثوليك المخلصين الذين كانوا يشكلون الأغلبية، وكان كثيرون منهم مستعدين لحمل السلاح ضد الثورة . وكان بعض الأعضاء مثل روبيسبير وكارنو Carnot قد شعروا أن الدين هو القوة الوحيدة التي يمكن أن تمنع تكرار حدوث التمرد الاجتماعي ضد عدم المساواة المبدأ عميق الجذور جدا في الطبيعة لدرجة يصعب معها إزالته بالتشريعات . واعتقد روبيسبير أن الكاثوليكية كانت استثمارا منظما للخرافة(19) لكنه رفض الإلحاد باعتباره افتراضاً مغروراً وقحاً باستحالة المعرفة، وفي 8 مايو سنة 3971 كان قد أدان الفلاسفة Philosophes باعتبارهم منافقين احتقروا العامة وراحوا يلتمسون المنح من لدن الملوك . وفي 12 نوفمبر قال أمام المؤتمر الوطني وكانت مهرجانات معاداة المسيحية قد بلغت ذروتها في هذا الوقت . "كل فيلسوف وكل شخص يمكنه أن يعتقد من أفكار الإلحاد ما يحلو له . وأي شخص يرغب في أن يجعل هذا الفكر جريمة متهم، لكن الرجل العام (صاحب المسئولية) أو المشرع إذا ما تبنى هذه الأفكار الإلحادية فإنه غبي بل إن غباءه يتضاعف مائة مرة عن غيره ...

فالإلحاد أرستقراطي؛ ففكرة الموجود الأعظم (الله) الذي يرى ويعلم كل شيء والمطلع على كل ما يناقض الطهارة، ويعاقب على الجرائم الكبرى هي فكرة الشعب في الأساس (فكرة شعبية) إن هذه الفكرة هي التي تمثل شعور أوربا بل والعالم . إنها فكرة الشعب الفرنسي التي تمثل مشاعره وإحساسه . إن هذه الفكرة (وجود موجود أعظم) لا علاقة لها بالقسس ولا بالخرافة ولا بالطقوس . إنها فقط مرتبطة بقوة لا يدركها أحد (مبهمة لا يمكن سبر أغوارها).. إنها فكرة مرهبة للآثمين وراحة واستقرار للمتمسكين بالفضيلة(29).

وهنا كان دانتون متفقا مع روبيسبير: "إننا لا ننوي هدم صروح الخرافة لنقيم حكم الإلحاد .. إنني أطالب بإنهاء هذه الحفلة التنكرية ضد الدين في هذا المؤتمر الوطني"(39). وفي 6 ديسمبر سنة 3971 أعاد المؤتمر الوطني تأكيده على حرية العبادة وضمن حماية الطقوس الدينية التي يقوم عليها قسس موالون، واعترض هوبير Hobért ذاكرا أنه هو أيضا يشجب الإلحاد لكنه انضم للقوى التي تهدف إلى تقليص شعبية روبيسبير . لقد أصبح روبيسبير الآن يعتبره عدوا لدودا وراح ينتهز الفرص لتدميره.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الثورة تأكل أبناءها

كانت قوة هوبير تعتمد على شريحة العوام من السانز-كولوت التي يمكن تنظيمها وحشدها عن طريق إدارات الأحياء في باريس وعن طريق الصحافة الراديكالية لاجتياح المؤتمر الوطني واستعادة حكم باريس على سائر الجمهورية الفرنسية أما قوة روبيسبير التي كانت تعتمد سابقا على جماهير باريس فقد اصبحت الآن تعتمد على لجنة الأمن العام التي سيطرت على المؤتمر الوطني من خلال تسهيلات كبرى في المعلومات والقرارات والإنجاز.

وفي نوفمبر سنة 3971 كانت لجنة الأمن العام في ذروة شهرتها ومجدها، وكان هذا يعود في جانب منه إلى نجاحها في حشد الجماهير وتجنيدهم، لكن السبب الأساسي لهذه الشهرة والمجد كان يرجع على نحو خاص للانتصارات العسكرية على مختلف الجبهات، فالجنرالات الجدد - جوردان Jourdan وكلرمان Kellermann وكليبر (او كليبه) Kléber وهوش Hoche وبيشرجو Pichergu - كانوا أبناء للثورة غير مقيدين بالنظم والتكتيكات القديمة، ولم تكن ولاءاتهم قد تناقصت بمرور الوقت، وكانوا يقودون مائة مقاتل كانوا - رغم كونهم ناقصي السلاح والتدريب - مفعمين حماسا وشجاعة فماذا يمكن أن يحدث لهم ولأسرهم إن اخترق العدو خطوط القتال الفرنسية؟ حقيقة لقد جرى صدهم عند كيزرسكوتيرن Kaiserslautern لكنهم استعادوا تقدمهم واستولوا على لاندو Landau وسبير Speyer . وقد أجبروا الإسبان على التراجع عبر جبال البرانس وأعادوا الاستيلاء على طولون Toulon بمساعدة الشاب نابليون .

ومنذ 62 أغسطس استولت على طولون ذلك الميناء المهم ذو الموقع الاستراتيجي على ساحل البحر المتوسط قوات متعددة إنجليزية وإسبانية ونابلي (قادمة من نابلي في إيطاليا) يحميها أسطول إنجليزي إسباني مشترك ويؤازرها المحافظون المحليون (غير المؤازرين للثورة)، وظل جيش الثوار يحاصرها ثلاثة أشهر بلا جدوى، وكان هناك رأس هو كشريط محدد للطرفين (رأس أوجوليت Cap L`Aiguillette) والكلمة في القواميس الفرنسية تعنى الرأس أو الشريط أو القنة الداخلة في البحر) يقسم الميناء ويشرف (من عل) على الترسانة، والقوات التي تستولي على هذا الموقع تتحكم في الميناء لكن البريطانيين كانوا قد أغلقوا الطريق إلى هذا الرأس من ناحية البر بحصن جيد التسليح ومتين جدا حتى إنهم أطلقوا عليه جبل طارق الصغير . وكان من رأي بونابرت Bonaparte وكان عمره 42 سنة أنه إذا أمكن إجبار الأسطول المعادي على مغادرة الميناء، فإن الحامية التي تحتل المدينة ستفقد المؤن والمدد اللذين يأتيانها من البحر، مما يجبرها على التخلي عن المدينة . ووجد نابليون - بعد عملية استطلاع تنطوي على المخاطرة والتصميم - داخل دغل موقعا يمكنه منه - بشيء من الأمن - أن يطلق مدافعه على الحصن الذي يتحصن به الأعداء، وعندما دمرت قذائق المدافع جدرانه شنت القوات الفرنسية هجوما عاصفا على الحصن، فقتلت المدافعين عنه واستولت على ما به من بنادق وحولت القوات الفرنسية المهاجمة جهودها لضرب أسطول العدو، فأمر اللورد هود Hood الحامية بمغادرة المدينة وأمر سفنه بمغادرة الميناء . وفي 91 ديسمبر سنة 3971 استرد الجيش الفرنسي مدينة طولون . وكتب أوغسطين روبيسبير Augustin Robespierre المبعوث المفوض المحلي من لجنة الأمن العام إلى أخيه مادحاً جهود نابليون مبينا "الجدارة التي تفوق الحد" لقائد المدفعية الشاب . وبدأت ملحمة جديدة .

هذه الانتصارات الآنف ذكرها وانتصارات كليبر Kléber في الفندي the Vendée أطلقت يد لجنة الأمن العام في التعامل مع المشاكل الداخلية . لقد كان هناك زعم بوجود "مؤامرة أجنبية" لاغتيال قادة الثورة وإن لم يوجد دليل على ذلك . وانتشر الفساد (خراب الذمم) في مجال إنتاج المؤن للجيش وتسليمها له "ففي جيش الجنوب فقد 000.03 زوج من السراويل (البناطيل) - فكانت أكثر الفضائح خزيا"(59) وساعدت المضاربات على عمليات التلاعب في السوق مما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشدة . ولم تعد الأسعار التي حددتها الحكومة (حددت لها سقفا (Maximum تسري إلا على المنتجات المهمة، ولكن المنتجين اشتكوا من أنهم لا يستطيعون الاحتفاظ بهذا السقف (الحد الأقصى للأسعار كما حددته الحكومة) إذا لم يتم ضبط أجور العمال أيضا .

وجرت مواجهة التضخم لفترة، ولكن الفلاحين والصناع والتجار خفضوا الإنتاج وزادت البطالة بينما الأسعار ترتفع وراحت المؤن تقل وراحت ربات البيوت يقفن في الصفوف للحصول على الخبز والحليب واللحم والزبد والزيت والصابون والشموع وخشب التدفئة . وراحت الصفوف تبدأ منذ منتصف الليل ليكون لمن فيها السبق في الحصول على المواد المطلوبة، فراح الرجال والنساء ينطرحون عند مداخل المحلات على الممرات انتظارا لفتح المحلات لأبوابها، وتحرك الصفوف للحصول على المؤن . وهنا وهناك راحت المومسات الجائعات يعرضن بضاعتهن على الواقفين في >الطابور<(69). وفي حالات كثيرة كانت جماعات قوية مسلحة تقتحم المخازن لتحمل معها ما تريد من بضائع وتدنت الخدمات البلدية وانتشرت الجرائم وكان عدد أفراد البوليس قليلا، وامتلأت الشوارع بالقمامة، وأفسدت جو المدن، واعترت ظروف مشابهة روان Rouen وليون Lyons ومارسيليا وبوردو Bordeaux.

ونقل عوام باريس (السانس كولوت) ولاءهم من روبيسبير إلى هيبر Hébert وشومت Chaumette لأنهم اعتبروا أن لجنة الأمن العام قد أساءت إدارة الاقتصاد وأن المستغلين والمتربحين قد حاصروا "سفينة" الدولة وراح عوام باريس يصغون بشغف ورغبة إلى اقتراحات بتأميم الثروات والممتلكات كلها أو - على الأقل - الأراضي . واقترح أحد زعماء الأحياء (أقسام باريس) معالجة المحنة الاقتصادية بقتل الأثرياء كلهم(79). وبحلول عام 4971 كانت هناك شكوى عامة بين العمال من أن البورجوازية قد سرقت الثورة (جعلتها لصالحها).

وفي نهاية 3971 ظهرت تحديات جديدة للجنة الأمن العام سببها زعيم ثوري قوي وصحفي لامع . فرغم الشراسة الظاهرة التي يبديها دانتون Danton فقد كان به لمسة محببة لدرجة أنه جفل عند إعدام الملكة وبسبب العنف الشديد في فترة الإرهاب، فعند عودته من أرسيز Arcis حكم بأن طرد الغزاة من فرنسا وإعدام معظم أعداء الثورة النشيطين لم يعد يترك مسوغا معقولاً للحرب أو الإرهاب وعندما عرضت بريطانيا السلام أوصى بقبوله، أما روبيسبير فقد رفض وكثف من الإرهاب على أساس أن الحكومة ما تزال تواجه العقبات التي يضعها غير الموالين والمتآمرين والمفسدين . أما كامبل ديمولان Camille Desmoulins الذي كان في وقت من الأوقات سكرتيرا لدانتون وصديقه المعجب به وقد كان مثله ينعم بزواج سعيد، فقد أسس جريدة هي "الكوردليري العجوز Le Vieux Cordelier " (الكلمة كوردليير تعنى الراهب الفرنسسكاني لكن هذا ليس هو المعنى المقصود فقد تم إنشاء ناد ثوري كما ذكرنا في سياقات سابقة في مقر دير للرهبان الفرنسسكان بعد طرد الرهبان منه، فعرف بنادي الكوردليير) جعلها المتحدث الناطق باسم المتسامحين أو دعاة السلام، ودعا من خلالها إلى إنهاء حكم الإرهاب: "الحرية ليست إحدى عذراوات الأساطير اللائى يشاهدن في الأوبرا، وليست غطاء رأس (كاب) أحمر وليست قميصا قذرا أو أسمالا . إنما الحرية هي السعادة والعقل والمساواة والعدالة، وإعلان حقوق الإنسان الذي هو دستوركم الأعلى الذي لا يزال يدعو إلى التحرر .

أتريدونني أن أعترف بهذه الحرية (بمعناها الثاني الذي أقره) وأخر عند قدميها وأسفك دمي من أجلها؟ إذن أفتح السجون وأخرج منها من بلغ عددهم 000.002 ممن تسمونهم المشتبه فيهم ... لا تظنوا أن في هذا الإجراء نهاية للجمهورية . إن العكس هو الصحيح. إنه إجراء أكثر ثورية مما تظنون . أتريدون إبادة أعدائكم كلهم بقطع رقابهم بالمقصلة؟ أهناك جنون أكثر من هذا؟ أيمكنكم أن تنهوا حياة شخص من غير أن توجدوا لأنفسكم عدوين من بين أسرته وأصدقائه؟ إنني مختلف تماما مع أولئك القائلين بضرورة الإبقاء على الإرهاب كنظام لهذه الفترة، إنني على ثقة من أن الحرية ستتأكد وأن فرنسا ستفتح أوربا حالما تصبح لجنتكم لجنة للرحمة والاعتدال(89) Committee of Clemency.

وانزعج روبيسبير - الذي كان حتى الآن صديقا لديمولان Desmoulins - من دعوته لفتح السجون، فهؤلاء الارستقراطيون والقسس والمضاربون والبورجوازيون المنتفخون، ألن يواصلوا - إذا ما أطلق سراحهم - بغير تردد مشروعاتهم لاستغلال الجمهورية وتدميرها؟ لقد كان روبيسبير مقتنعا أن خوفهم من القبض عليهم وإدانتهم إدانة سريعة، وشبح الموت المتراقص أمامهم، هي وحدها القوة التي تبعدهم (أعداء الجمهورية) عن حبك المؤامرات ضدها والعمل على إسقاطها .

لقد شك روبيسبير في أن تحول دانتون المفاجىء إلى سياسة الرحمة إنما هو خدعة لينقذ من نصل المقصلة بعض الذين قبض عليهم مؤخرا لقيامهم بأعمال محظورة ممن لهم علاقه به، ولحماية نفسه (دانتون) إذا افتضحت علاقته (أي دانتون) بهم . وكان بعضهم - فابر دجلانتين Fabre d`Eglantine وفرنسوا شابو Francois Chabot - قد حوكما في 71 يناير سنة 4971 واتضح أنهما مذنبان . وانتهى روبيسبير إلى أن دانتون وديمولان يميلان إلى التخلى عن مقعديهما وإنهاء أعمال لجنة الأمن العام . وخلص روبيسبير إلى أنه لن يكون آمناً أبدا طالما ظل صديقاه القديمان هذان على قيد الحياة .

وعمل (روبيسبير) على ألا يتحد أعداؤه وعمل على تحويل معارضتهما له إلى معارضة كل واحد منهم للآخر فقد شجع هجوم دانتون وديمولان Desmoulin على هيبر (إيبير) Hébert ورحب بمساعدتهما في شجب الحرب على الدين، وعول هيبير Hébert على شغب أهل المدن بسبب غلاء أسعار الطعام وندرته . ووجه النقد لكل من الحكومة وجناح المتساهلين المطالبين بالتسامح وإنهاء الإرهاب Indulgents، وفي 4 مارس 4971 أدان روبيسبير وذكره بالاسم، وفي 11 مارس هدد أتباعه في نادى الكوردليير (لأن هذا النادي أصبح أعضاؤه يجتمعون في مقر دير سابق للرهبان الفرنسيسكان - الكوردليير) صراحة بعصيان مسلح . واتفقت غالبية لجنة الأمن العام مع روبيسبير على أن الوقت قد حان لاتخاذ إجراء، فتم القبض على هيبر Hébert وكلوت Cloots وعدد آخر غيرهما وحوكموا بتهمة ارتكاب أعمال محظورة عند توزيع المؤن على الناس، وكانت تهمة ماكرة لأنها جعلت العوام من السانس كولوت يتشككون في قادتهم الجدد، وقبل أن يستطيع هؤلاء المتهمون إثارة الناس، جرى اتهامهم واقتيادهم بسرعة إلى المقصلة (في 42 مارس)، وانهار هيبير Hébert وبكى، أما كلوت Cloots، فبقى باردا هادئا - بطريقة تيوتونية منتظرا دوره ليموت، وخاطب الجماهير قائلا: "يا أصدقائي لا تخلطوا بيني وبين هؤلاء الأنذال"(99).

ولا بد أن دانتون قد تحقق أنه كان قد استخدم كأداة ضد هيبير He`bert وأنه أصبح الآن قليل القيمة بالنسبة للجنة (لجنة الأمن العام)، ومع هذا فقد استمر في محاولاته في تحويل اتجاه اللجنة إلى الرحمة والسلام . وهي سياسة تتطلب من الأعضاء نبذ الإرهاب الذي حافظوا من خلاله على مقاعدهم، ونبذ الحرب التي بررت دكتاتوريتهم.

وحث دانتون على إنهاء عمليات القتل فقال: "دعونا نترك شيئا لذبح الآراء (بدلا من البشر)" وظل يخطط لمشروعات تعليمية وإصلاحات قضائية . وظل جريئاً متحديا إذ قال له أحدهم إن روبيسبير يخطط للقبض عليه، فأجابه "إذا ظننت أن مجرد فكرة كهذه في رأسه فسأجعل قلبه يذوب حسرات"(001) فحكم الإرهاب قد حول فرنسا في غالبها إلى دولة من دول الطبيعة(üü) State Nature فغدا معظم الناس يشعرون أنه يجب عليهم أن "يأكلوا قبل أن يؤكلوا". وحثه أصدقاؤه أن يأخذ المبادرة ويهاجم لجنة الأمن العام أمام المؤتمر الوطني، لكنه كان مرهقا جدا معتل الإرادة فلم يشأ أن يعقب اجتماعاته التاريخية بحماقة . لقد استنفدت مقاومة أمواج الثورة طوال أربع سنوات طاقته وقد ترك الآن الأمواج التحتية (غير الظاهرة) تحمله بعيدا دون مقاومة . لقد قال "لأن تقطع المقصلة رقبتي أفضل عندي من أن أقطع رقاب الآخرين" (لم يكن أمره كذلك دائما) "بالإضافة إلى أنني سئمت البشر"(101).

وكان من الواضح أن بيلو - فارين - Billaud Varenne هو الذي أخذ المبادرة بالتوصية بالقضاء على حياة دانتون، واتفق معه كثيرون من أعضاء لجنة الأمن العام لأن معنى السماح باستمرار سياسة المتسامحين Indulgents هو تسليم الثورة لأعدائها في الداخل والخارج .

وكان روبيسبير لفترة يعارض فكرة "اختصار" حياة دانتون، لكنه شارك أعضاء اللجنة الآخرين الاعتقاد بأنه - أي دانتون - سمح لجزء من أموال الدولة بالتسرب بين أصابعه، لكنه أدى خدمات للثورة، وكان روبيسبير يخشى أن يؤدي الحكم بالإعدام على واحد من أكبر زعماء الثورة إلى عصيان مسلح في أحياء باريس وفي الحرس الوطني. وخلال فترة تردد وربيسبير هذه كان دانتون يزوره لمرتين أو ثلاثة لا ليدافع عن ذمته المالية فحسب، وإنما ليحول هذا الوطني العنيد (روبيسبير) إلى سياسة السلام وإنهاء حكم الإرهاب، لكن روبيسبير ظل غير مقتنع بذلك بل وزادت شراسته، فساعد سان - جوست Saint - Just (الذي كان دانتون كثيرا ما يسخر منه) في إعداد التهمة ضد منافسه الكبير (دانتون). وفي 03 مارس جمع لجنة الأمن العام ولجنة الضمان العام لاتخاذ قرار مشترك (واحد) ليضمن إصدار المحكمة الثورية حكما بالإعدام على دانتون وديمولان Desmoulins واثني عشر شخصا أدينوا مؤخراً بالاختلاس . ونقل واحد من أصدقاء هذا الجبار (التيتان (Titan الأخبار إليه وحثه على مغادرة باريس والاختباء في إحدى المحافظات، لكن "الجبار" (المقصود دانتون) رفض العرض. وفي صباح اليوم التالي قبض عليه البوليس الذي قبض أيضا على ديمولان Desmoulins الذي يعيش في طابق فوق الطابق الذي يسكن فيه دانتون في البناية نفسها .

وسجن دانتون ومن معه في الكونسير جيري (غرفة البواب في قصر التوليري) فأبدى ملاحظة "ذات يوم مثل يومنا هذا نظمتُ المحكمة الثورية .... إنني أسأل الله والبشرية أن يسامحاني على هذا ... في الثورات يظل قابضا على السلطة من هو أكثر نذالة"(201).

وفي أول أبريل اقترح لويس ليجندر Louis Legendre على النواب أن يسمح لدانتون بالدفاع عن نفسه أمام المؤتمر الوطني فقد أرسل يطلب ذلك من سجنه وأنه - لويس ليجندر الذي كان معيناً حديثا مبعوثاً مفوّضاً للجنة الأمن العام - قد وافق، لكن روبيسبير أوقفه عن مواصلة حديثه بحملقة مشئومة منذرة بسوء وصاح قائلا: "دانتون غير مميز ... سوف نرى هذا اليوم ما إذا كان كان المؤتمر الوطني قادراً على تدمير وثن (إله زائف) ..."(301) عندئذ قرأ سان - جوست قائمة الاتهامات التي كان قد أعدها سلفا فأمر النواب - وكان كل واحد منهم متنبهاً لسلامته الشخصية - بتحويل دانتون وديمولان للمحاكمة فورا .

وفي 2 أبريل قيد دانتون وديمولان ليمثلا أمام المحكمة . وربما لخلط الأمور، كانا ضمن دفعة من المتهمين بمن فيهم فابر ديجلانتين Fabre d` Eglantine ومتآمرون أو مختلسون آخرين، وهيرول دى سيشل Héraut de Séchelles (وقد أدى هذا إلى دهشة عامة ودهشة دانتون) وكان هيرول هذا عضوا مهذبا دمثا في لجنة الأمن العام لكنه متهم الآن بالتعاون مع أتباع هيبير Hébertists وبالتورط في مؤامرة خارجية ودافع دانتون عن نفسه بقوة وأمعن في السب وتوجيه التهم مما أثر في اللجنة والحاضرين لمشاهدة المحاكمة وسماعها(401). لدرجة أن فوكييه تينفيل Fouquier - Tinville أرسل يطلب من لجنة الأمن العام قرارا بإسكات الدفاع واضطرت اللجنة لأن ترسل للمؤتمر الوطني تتهم أتباع دانتون ديمولان - وفقا على ما وصلها من معلومات - بأنهم يتآمرون لإطلاق سراحهما بالقوة، وعلى هذا الأساس أعلن المؤتمر الوطني أن كلا الرجلين لم يعودا تحت حماية القانون وهذا يعني أنه يمكن إعدامهما دون إجراءات قانونية . وعندما تلقى أعضاء المحكمة هذا القرار أعلنوا أنه قد اصبح لديهم أدلة كافية وأنهم مستعدون لإصدار الحكم . وأعيد المسجونان إلى سجنهما وتم صرف من حضروا لمتابعة المحاكمة . وفي 5 أبريل صدر حكم بإجماع أعضاء المحكمة بإعدام المتهمين كلهم، وعندما سمع دانتون بالحكم تنبأ قائلا: "قبل أن تنقضي هذه الشهور سيمزق الشعب أعدائي إربا "(501). وقال: "حقير أنت يا روبيسبير ! إن المقصلة تناديك أنت أيضا. إنك ستتبعني"(601). وكتب ديمولان من سجنه إلى زوجته: "حبيبتي لوسيل! Lucile. لقد ولدت لأقرض القصائد وأدافع عن سيئي الحظ... يا عزيزتي اهتمي بصغيرك . عيشي لحبيبي هوراس Horace، وحدثيه عني... يداي المقيدتان تعانقانك"(701). وبعد ظهر الخامس من أبريل حمل المتهمان في عربة إلى ميدان الثورة، وفي أثناء الطريق تنبأ دانتون مرة أخرى قائلا: "إنني أترك الأمور مشو شة متخبطة . ليس من رجل فيهم لديه فكرة عن الحكم، إن روبيسبير سيتبعني إلى المقصلة . لقد جروه إلى المقصلة وجعلوني أسبقه"(801). وعلى سقالة المقصلة كان ديمولان هو الثالث في طابور من ينفذ فيهم حكم الإعدام وكانت أعصابه تكاد تتحطم، وكان دانتون في آخر الطابور وفكر دانتون أيضا في زوجته الشابة وراح يتمتم ببعض الكلمات ذكرها فيها ثم أمسك وقال لنفسه: "أقبل دانتون، لا تضعف" وبينما كان يقترب من نصل المقصلة، قال لجلاده (منفذ الحكم) "اعرض رأسي على الشعب. إنه جدير به"(901). لقد كان وقت إعدامه في الرابعة والثلاثين من عمره و كذلك ديمولان، لكنهما عاشا أعماراً كثيرة منذ ذلك اليوم في شهر يوليو الذي دعا فيه كاميل Camille أهل باريس للاستيلاء على الباستيل. وبعد موتهما بثمانية أيام تم إعدام لوسيل ديمولان مع أرملة هيبير Hébert وشومت Chamette.

لقد بدت الساحة ممهدة فكل الجماعات التي كانت قد تحدت لجنة الأمن العام قد تم التخلص منها أو قمعها، فالجيرونديون إما ماتوا أو تفرقوا، والعامة من السانس كولوت إما قسموا أو أرغموا على الصمت، وتم إغلاق النوادي ما عدا نادي اليعاقبة وأخضعت الصحافة والمسارح لرقابة صارمة، وتخلى المؤتمر الوطني خوفا منه وجبنا عن القرارات الكبرى كلها للجنة الأمن العام . وأقر المؤتمر الوطني - بتوصية من لجانه الأخرى - قوانين ضد المضاربين والمحتكرين (خازني البضائع Hoarders) وقوانين لمجانية التعليم الابتدائي وإتاحته للجميع، وإنهاء القنانة (عبودية الأرض) في المستعمرات الفرنسية وتأسيس دولة الرفاهية مع الأمن الاجتماعي (الضمان الاجتماعي) وقوانين تنص على تقديم إعانة لغير العاملين (إعانة بطالة) ومساعدات طبية للفقراء ومساعدات لكبار السن . وقد أدت الحرب والفوضى الداخلية إلى حد كبير بالإسراع في هذه القرارات لكنها بقيت كأفكار تلهم الأجيال ا لمتتالية .

أما روبيسبير الذي كانت يداه مخضبتين بالدم لكنهما طليقتان - فإنه الآن يعمل على إرجاع "الله" إلى فرنسا، فمحاولة إحلال "المذهب العقلي rationalism " محل المسيحية أثارت الفرنسيين ضد الثورة، ففي باريس كان الكاثوليك ثائرون لإغلاق الكنائس وإزعاج القسس بالغارات المستمرة عليهم، وشيئا فشيئا بدأت تزداد أعداد أفراد طبقة العوام والطبقة الوسطى التي تذهب لحضور قداس الأحد . وقدم روبيسبير البراهين في إحدى خطبه البليغة (7 مايو 4971) على أن الوقت قد حان لعقد وفاق بين الثورة وجدها الأعلى روسو Rousseau الذي نقلت رفاته إلى البانثيون Panthéon- (مدفن العظماء) في 4 أبريل فـــلا بد للدولة أن تدعم الدين النقي البسيط - خاصة ذلك الذي اعتنقه Savoyard Vicar في كتاب إميل Emile - القائم على الإيمان بالله واليوم الآخر، والدعوة إلى الفضائل المدنية والاجتماعية كأساس لقيام الجمهورية . ووافق المؤتمر الوطني على ذلك على أمل إرضاء الأتقياء والتخفيف من حدة الإرهاب، وفي 4 يونيو انتخب روبيسبير رئيساً له .

وترأس روبيسبير في 8 يونيو 4971 في سياق هذا التوجه ا لرسمي مهرجانا للاحتفاء "بالموجود الأسمى Fast of the superme Being " حضره مائة ألف رجل وامرأة وطفل في ساحة دي مار Champ - de - Mars وعلى رأس موكب كبير (يضم النواب المتشككين) امتد مسافة طويلة كان هذا المستقيم غير القابل للفساد أو الرشوة (المقصود روبيسبير) وقد حمل في يده الورود وسنابل القمح . وكانت هناك عربة محملة بحزم القمح يجرها ثور أبيض بلون الحليب، وخلفها سار الرعاة من رجال ونساء يمثلون الطبيعة (في فطرتها الأولى) باعتبارها - أي الطبيعة - هي تركيبة واحدة وهي صوت الله Voice of God، وفي حوض يزين ساحة دي مار، أقام ديفيد David الفنان الفرنسي الرائد في هذا العصر تمثالاً من خشب يمثل الإلحاد وقد قام على الرذيلة وتوج بالجنون، وإلى الأعلى في مواجهة هذا التمثال جعل الحكمة المنتصرة ترفع إصبعها في مواجهة الإلحاد والرذيلة والجنون . ووضع روبيسبير - الذي هو تجسيد للفضيلة - المشعل ناحية الإلحاد (ليحرقه) لكن ريحا تعسه حولت اللهب إلى "الحكمة". ووضع نقش يشير إلى المبادىء الجديدة ويتسم معناه بالسماحة: "إن الشعب الفرنسي يؤمن بالموجود الأسمى وخلود الروح"(011) وجرى إقامة احتفالات مشابهة في مختلف أنحاء فرنسا .

وكان روبيسبير سعيداً لكن بيلو فارين - Billaud - Varenne قال له: "لقد بدأت تضجرني مع موجودك الأسمى". وبعد ذلك بيومين حث روبيسبير المؤتمر الوطني على إصدار مرسوم يدعم - بشكل مثير للدهشة - حكم الإرهاب، لقد بدا روبيسبير وكأنه يجيب دانتون ويتحداه (رغم أن دانتون كان قد أعدم بالمقصلة) عندما أقام مهرجانا لتكريم "الموجود الأسمى" كما بدا وكأنه يوبخ هيبير Hébert، فالقانون الصادر في 01 يونية 4971 (22 بريريال Prairial بالتقويم الجمهوري) نص بهدف شجب الملكية والدفاع عن الجمهورية والرقي بها - على إعدام كل من يسيء للأخلاق أو يروج أخبارا كاذبة أو يسرق المال العام أو يتربح ويستغل أو يختلس أو يعوق نقل الطعام أو يعوق باي شكل مسار الحرب، وأكثر من هذا فإن هذا القانون خول المحاكم أن تقرر ما إذا كان المتهم في حاجة إلى محام أو مستشار أو شهود، إذا ظهر برهان إدانته(111). وقال واحد من المحلفين: "بالنسبة لي شخصيا، فإنني مقتنع بذلك دائما ففي ظل الثورة، يعد كل من يمثل أمام هذه المحكمة Tribunal مدانا"(211).

وكان ثمة تبريرات لهذا الإرهاب المكثف . ففي 22 مايو جرت محاولة للاعتداء على حياة كولو دربوا Collot d`Herbois، وفي 32 مايو جرى وقف شاب حاول - بشكل واضح - اغتيال روبيسبير . وأدى الاعتقاد في وجود مؤامرة أجنبية إلى أن أصدر المؤتمر الوطني مرسوما بالتعامل بغير رحمة مع أسرى الحرب البريطانيين والهانوفريين Hanoverian. وكان في سجون باريس نحو ثمانية آلاف من المشكوك في ولائهم، وكان لا بد من إرهابهم حتى لا يفكروا في إثارة الاضطرابات أو الهروب.

لهذا ظهر على نحو خاص ما يسمى "الإرهاب الأعظم Great Terror " واستمر من 01 يونيو إلى 72 يوليو سنة 4971، ففي أقل من سبعة أسابيع قطعت المقصلة رقاب 683.1 رجل وامرأة، هذا بالإضافة إلى 551 كان قد جرى إعدامهم خلال الواحد والستين أسبوعا، بين مارس 3971 و 01 يونيو 4971(311). ولاحظ فوكييه تينفيل Fouquier - Tinville أن الرؤوس تتدلى من السقف كألواح الاردواز"(411). ولم يعد الناس يذهبون لمشاهدة تنفيذ أحكام الإعدام فقد أصبح المشهد معادا مكررا، وإنما راحوا يعكفون في منازلهم يتحسسون أي كلمة ينطقون بها. وتوقفت الحياة الاجتماعية تقريبا، وكادت المواخير وبيوت الدعارة والحانات تكون خاوية على عروشها. بل وتقلص عدد الحضور في المؤتمر الوطني نفسه، فمن بين 057 عضوا لم يعد يحضر - الآن - سوى 711، وحتى هؤلاء امتنع كثيرون منهم عن التصويت حتى لا يورطوا أنفسهم، وحتى أعضاء اللجنة عاشوا في رعب من أن يقعوا تحت نصل هؤلاء الثلاثة (المتحكمين الجدد) روبيسبير، وكوثو Couthon وسان جوست Saint - just.

وربما كانت الحرب هي التي أدت إلى أن يتبوأ الصدارة أفراد أقوياء عمدوا إلى تركيز السلطة في أيديهم بشكل مثير. وفي أبريل سنة 4971 كان الأمير ساكس كوبرج Sax - Coburg` قد قاد جيشا آخر داخل فرنسا، وكانت أي هزيمة تلحق بالدفاعات الفرنسية كفيلة بإثارة الفوضى والخوف في باريس، وحاول البريطانيون من خلال فرض الحصار البحري منع الإمدادات الأمريكية عن فرنسا ولولا نجاح الدفاعات الفرنسية في إلحاق الهزيمة بالأسطول البريطاني في أول يونيو ما وصلت الحمولات الغالية الثمن إلى برست Brest واستطاع الجيش الفرنسي أن يصد الغزاة بالقرب من شارلروي Charlerio (52 يونيو) وبعد ذلك بيوم قاد سان جوست Saint - Just قوة فرنسية لإحراز نصر حاسم في فلورس Fleurus. وانسحب كوبرج Coburg من فرنسا، وفي 72 يوليو عبر جوردا Jourdan وبيشجرو Pichegru الحدود لإقامة الحكم الفرنسي في أنتورب Antwerp وليج Liége وقد يكون الانتصار الذي تحقق بصد الغزوة الكبيرة، مما ساهم في تدمير روبيسبير، فأعداؤه الكثيرون كانوا يشعرون أن الدولة والجيش قد يعملان على تفجير صراع مكشوف في قلب الحكومة، صراع لا هوادة فيه.

فلجنة الأمن العام كانت على خلاف مع لجنة الضمان العام Committee of public Safety بسبب التنازع على السلطة السياسية. وفي هذه اللجنة الأخيرة كان بيو فارين Billaud - varenne وكولو دربوا Collot d`Herbois وكارنو Carnot في حالة ثورة متزايده ضد روبيسبير وسان - جوست. فلما شعر روبيسبير بعداوتهم الشديدة له تحاشى حضور اجتماعات اللجنة في الفترة من أول يوليو إلى 32 من الشهر نفسه لعل هذا يؤدي إلى تخفيف حساسيتهم من زعامته، لكن غيابه هذا أعطاهم الفرصة ليخططوا لإسقاطه. وأكثر من هذا فإن استراتيجيته راحت تضطرب وتترنح: ففي 32 يوليو أحال المؤيدين له إلى أعداء بتسليمه لنواب السهل (المعتدلين) من رجال الأعمال بتوقيعه مرسوما بتحديد سقف الأجور (الحد الأقصى للأجور)، ومـن الناحية الفعلية، وبسبب انخفاض قيمة العملة، خفض المرسوم بعض الأجور إلـى النصف(511).

وكان هناك الإرهابيون الذين عادوا من الدوائر أو المحافظات - فوشيFouche` وفريرو Fréron وتاييه Tallien وكاريه Carrier- الذين وجدوا أن حياتهم متوقفة على إقصاء روبيسبير، فقد كان هو الذي استدعاهم إلى باريس طالباً منهم تقارير عن مهامهم لقد قال متسائلاً: "تعال يا فوشي Fouche` وأخبرنا من الذي فوضك لتقول للناس إن الله غير موجود؟"(611) وفي نادي اليعاقبة اقترح روبيسبير التحقيق مع فوشي فيما يتعلق بعملياته في طولون وليون أو سحب العضوية منه، ورفض فوشى أن يجيب عن مثل هذا الاستجواب، وانتقم لنفسه بإشاعة قائمةً بأسماء أشخاص زعم أن روبيسبير اعتزم إعدامهم بالمقصلة . أما بالنسبة لتاييه Tallien فلم يكن في حاجة إلى من يحرضه ضد روبيسبير فقد كان هذا الأخير قد أمر بالقبض على خليلته الجذابة في 22 مايو . وتقول الإشاعات أنها أرسلت إلى تاييه خنجرا، فأقسم أن يحررها (يخرجها من المعتقل) مهما كلفه ذلك. وفي 62 يوليو ألقى روبيسبير آخر خطاب له أمام المؤتمر الوطني الذي كان نوابه معادين له لأن كثيرين منهم كانوا معارضين للتسرع في إعدام دانتون ولام كثيرون منهم روبيسبير لتقليله من شأن المؤتمر الوطني . وحاول روبيسبير أن يدفع هذه التهم عن نفسه:

"أيها المواطنون... أريد أن أفتح قلبي، وأنتم في حاجة إلى سماع الحقيقة... لقد أتيت إلى هنا لأصحح أخطاء فظيعة . لقد أتيت لأبطل الأيمان المغلظة التي أقسمها بعض الرجال بقصد العصيان والتي راحوا يملأون بها معبد الحرية هذا ... أي أساس لما هو موجود من نظام إرهابي بغيض؟ وأي أساس لهذا القذف والتشهير بالسمعة؟ ألكم أنتم نبدي أنفسنا مرعبين؟ إنهم الطغاة والأنذال هم الذين يخشون بأسنا لا الوطنيون وذوو النوايا الطيبة . ألم نضرب الإرهاب في المؤتمر الوطني؟ لكن من نكون نحن بغير المؤتمر الوطني؟ إننا نحن الذين دافعنا عن المؤتمر الوطني مخاطرين بحياتنا . نحن الذين وقفنا أنفسنا للحفاظ عليه، بينما يعمل فرقاء بغيضون على التآمر لتدميره كما ترون جميعا؟ ... إلى من توجه سهام التآمر في المقام الأول؟ إننا نحن المقصودون. إننا نحن الذين يطلقون علينا سوط فرنسا أو سبب نكبها .. منذ فترة أعلنوا الحرب على بعض أعضاء لجنة الضمان العام (تسميها بعض المراجع العربية أيضا لجنة السلامة العامة).

وأخيرا بدوا يعملون على تحطيم رجل واحد ... إنهم يسمونني طاغية، إنهم يودون على نحو خاص أن يثبتوا أن محكمة الثورة إنما هي محكمة دم أنشأتها أنا وحدي وأسيطر عليها وحدي سيطرة مطلقة لقتل ذوي النوايا الطيبة كلهم ...

إنني لا أجسر على تسمية هؤلاء المتهمين هنا والآن. إنني لا أستطيع وحدي أن أزيح بشكل كامل الحجاب الذي يغطى الألغاز العميقة لهذه الجرائم . لكنني أؤكد بشكل جازم أن من بين حابكي هذه المؤامرات ممثلين لجهاز فاسد مرتشٍ يدفعه الأجانب لتدمير الجمهورية ... إن الخونة موجودون هنا مختبئون تحت مظهرهم الكاذب الزائف. إنهم سيتهمون من يوجه لهم الاتهامات وسيضاعفون خداعهم .. ليضربوا وجه الحقيقة . إن هذا جزء من مؤامرة. وأريد أن أنهي حديثي هنا بأن الطغيان يحكم بيننا، لكن ليس لهذا يجب أن أصمت. كيف يمكن لأي شخص أن يلوم رجلاً الحق بجانبه، ويعرف كيف يموت في سبيل وطنه".

وثمة بعض الاضطراب في هذا الخطاب التاريخي فقد كان روبيسبير حتى لحظة إلقاء خطابة يشق طريقة بحذر بين أشراك السياسة، والسلطة تفقد العقل أكثر مما تسبب الفساد، والاحتفاظ بالسلطة يتطلب العمل السريع (اتخاذ إجراءات سريعة أكثر مما يتطلب تأملا). إن لهجة الخطاب التي لا تكتفي بالدلالة على البراءة وسلامة الطوية فقط، وإنما تشير إلى أنه "رجل يقف الحق بجانبه" ... مثل هذا الكلام لا يصلح إلا أن يكون على لسان سقراط بعد أن قطع نصف الطريق فعلا إلى الموت . إنه لمن الصعب أن ندخل في باب الحكمة ما قام به من حث لأعدائه على معاداته، وإثارة غيظهم وحنقهم بتهديدهم بفضح أخطائهم وكشفها - وهذا يعني الحكم عليهم بالإعدام. لقد كان من غير الحكمة أن يؤكد أن المؤتمر الوطني متحرر من الخوف والإرهاب، عندما يكون معروفاً أن هذا غير صحيح . والأسوأ من كل هذا رفضه أن يسمي الأشخاص الذين سيتهمهم (يقدمهم للمحاكمة) مما ضاعف من أعداء الأعضاء الذين قد يعتبرون أنفسهم ضحايا في المستقبل لغضبه . لقد تلقى المؤتمر الوطني اتهامه ببرود وأحبط حركة نادت بطبع خطابه وكرر روبيسبير خطابه هذا المساء في نادي اليعاقبة فقوبل بتصفيق حاد، وفي النادي أضاف لخطابه الآنف ذكره هجوما واضحا على بيلو-ڤارن Billaud - Varenne وكولو دربوا Collot d`Herbois اللذين كانا حاضرين فخرجا من النادي إلى حجرات لجنة الأمن العام حيث وجدا سان - جوست Saint - Just يكتب ما ذكره لهما بجسارة وهو قرار توجيه الاتهام لهما(811).

وفي صباح اليوم التالي 72 يوليو (التاسع من شهر ثيرميدور حسب التقويم الجمهوري) هب سان - جوست Saint - Just ليقدم هذا الاتهام المكتوب إلى المؤتمر الوطني الذي أعمت العدوانية بصائر أعضائه وأرعبهم الخوف . وكان روبيسبير يجلس أمام منصة الخطابة مباشرة . وكان دبلي Dupaly وضيفه المخلص قد حذره من توقع اضطرابات، لكن روبيسبير أعاد من جديد تأكيده لمن تنبأ بذلك (دبلي) بأن "المؤتمر الوطني سائر على خط الأمانة والإخلاص، والجماهير مخلصة كلها"(911). ولسوء الحظ كان الضابط الرئيسي (رئيس الضباط) في هذا اليوم من أعدائه (أي أعداء روبيسبير) الذين أقسموا أن يتخلصوا منه - إنه كولو دربوا Collot d`Herbois . وعندما بدأ سان جوست Saint - Just يقرأ قائمة الاتهامات، توقع تاييه Tallien أن يكون من بينهم، فاندفع إلى المنصة وأزاح الخطيب الشاب جانبا، وصاح قائلا: "إنني أطالب بإزاحة الستارة" يقصد كشف حقيقة الأمور. وحاول جوزيف ليباس Joseph Lebas الموالي لسان - جوست أن يأتي لنجدته لكن كلماته ضاعت إذ أسكتته مئات الأصوات، وطلب روبيسبير الفرصة ليسمعوه، فرفع تاييه Tallien السلاح الذي أرسل إليه عاليا وأعلن: لقد سلحت نفسي بخنجر سيتغلغل في جسده إذا لم يكن لدى المؤتمر الوطني الشجاعة الكافية لإصدار قرار باتهامه"(021).

وسلم كولو Collon المقعد لثريو Thuriot الذي كان من أنصار دانتون، واقترب روبيسبير من المنصة صائحا، لكن جرس ثريو Thuriot بعثر معظم كلمات روبيسبير، واعتلى أحدهم موجة الفتنة وقال: "لآخر مرة يا زعيم الحشاشين Assassins سيكون كلامي بالإذن منك" وارتفعت أصوات أعضاء المجلس الوطني معبرة عن عدم رضائها عن هذه الطريقة في الخطاب، ونطق أحد الأعضاء بكلمات كأنها قدر نزل: "إنني أطالب بالقبض على روبيسبير" فقام أوغسطين روبيسبير يتحدث كرجل روماني "إذا كان أخي مذنبا فإنني مذنب معه، إنني أشترك معه في فضائله، فليكن اسمي مدرجا في قراركم بالقبض عليه" وطلب ليباس Lebas الطلب نفسه، وبالفعل فقد ناله. وجرى التصويت على القرار فقبض البوليس على الروبيسبيرين (روبيسبير وأخيه) وسان - جوست، وليباس Lebas وكوثون Couthon وأسرع بهم إلى سجن لكسمبرج Luxembourg.

وأمر محافظ باريس (رئيس بلديتها) فلوريو - ليكو Fleuriot Lescot بنقل السجناء إلى دار البلدية فتلقاهم كضيوف مكرمين وبسط عليهم حمايته، وأمر رؤوس الكومون (أولو الأمر فيه) هانريو Hanriot رئيس الحرس الوطني في العاصمة - أن يأخذ جنودا وأسلحة من التوليري Tuileries وأن يحاصر أعضاء المؤتمر الوطني حتى يسحبوا قرارهم بالقبض على روبيسبير والآخرين الذين قبض عليهم معه لكن هانريو Hanriot كان ثملا لإفراطه في الشراب فلم ينفذ هذه المهمة. وعين نواب المؤتمر الوطني بول بارا Barras ليكون على رأس قوة من قوات الدرك (الجندرمة) والتوجه إلى دار البلدية ليعيد القبض على السجناء، ودعا رئيس المجلس البلدي هانريو Hanriot مرة ثانية فوجده قد جمع بشكل ارتجالي مجموعة من عوام السانس كولوت، بدلا من رجال الحرس الوطني (الأهلي) الذين لم يستطع جمعهم، وكان أفراد الطبقة الدنيا قد أصبحوا الآن لا يحبون كثيرا الرجل (روبيسبير) الذي خفض أجورهم وقتل هيبير Hébert وشومت Chaumette ودانتون وديمولان، وثمة سبب آخر وهو أن الأمطار كانت قد بدأت تسقط فانصرفوا إلى منازلهم وأعمالهم، واستطاع بارا Barras - وجنود الدرك الذين معه - أن يحاصر دار البلدية بسهولة .

وحاول روبيسبير الانتحار عندما رآهم، لكن الطلقة التي أطلقها بيده غير الثابتة اخترقت وجنته ولم تحطم غير فكه(121). أما ليباس Lebas فقد كانت يده أكثر ثباتا فقد أطلق النار على رأسه فشقها وخرج مخه، أما أوغسطين روبيسبير فقفز من النافذة في محاولة لم تنجح للهروب فكسرت ساقه أما كوثون المشلول (الذي لا يحس بساقيه) فقد دفع تحت السلالم وظل هناك لا أحد يقدم له مساعدة حتى حمله الجنود إلى السجن فأودعوه إياه مع روبيسبير وأخيه وسان - جوست Saint - Just.

وبعد ظهيرة اليوم التالي (82 يوليو 1794) نقلت أربع عربات هؤلاء السجناء الأربعة بصحبة فلوريو Fleuriot وهانريو Hanriot (وكان لا يزال ثملا) وستة عشر آخرين إلى المقصلة التي نصبت فيما يعرف الآن - ويا للعجب - بميدان الوئام Place de La Concorde، وفي الطريق سمعوا من المت.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نهاية العهد

 
The execution of Robespierre.

انظر أيضاً


الهامش

  • ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.
  1. ^ {{cite book}}: Empty citation (help), p.133.
  2. ^ إيپوليت تين Les origines de la France contemporaine. La Révolution: le gouvernement révolutionnaire, le régime moderne Edition Robert Laffont, 1896, p.167.

وصلات خارجية