جبران خليل جبران

(تم التحويل من Kahlil Gibran)
مقال عن الشاعر والكاتب جبران خليل جبران، لأشخاص آخرين يحملون اسم جبران، انظر جبران (توضيح)

جبران خليل جبران (و. 6 يناير 1883 - ت. 10 أبريل 1931)، هو فنان، شاعر، وكاتب لبناني. وُلد في بلدة بشري شمال لبنان حين كانت تابعة لمتصرفية جبل لبنان العثمانية. توفي في نيويورك 10 ابريل 1931 بداء السل. ويعرف أيضاً بخليل جبران وهو من أحفاد يوسف جبران الماروني البشعلاني. هاجر وهو صغير مع أمه وإخوته إلى أمريكا عام 1895 حيث درس الفن وبدأ مشواره الأدبي. اشتهر عند العالم الغربي بكتابه الذي تم نشره سنة 1923 وهو كتاب النبي. أيضاً جبران هو الشاعر الأكثر مبيعًا، بعد شكسبير ولاوزي.

جبران خليل جبران
جبران، عام 1913
جبران، عام 1913
وُلِدجبران خليل جبران
6 يناير 1883
بشري، متصرفية جبل لبنان، سوريا العثمانية (حالياً لبنان)
توفي10 أبريل 1931
مدينة نيويورك، الولايات المتحدة
الوظيفةشاعر، رسام، كاتب، فيلسوف، عالم لاهوت، فنان بصري
العرقلبناني
الصنف الأدبيالشعر، الحكاية الرمزية، القصة القصيرة
الحركة الأدبيةحركة المهجر، رابطة القلم بنيويورك
أبرز الأعمالالنبي، الأجنحة المتكسرة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حياته

 
منزل جبران خليل جبران في بشري.

ولد جبران لأسرة صغيرة فقيرة في بلدة بشري في 6 يناير 1883. كان والده خليل جبران الزوج الثالث لوالدته كاملة رحمة التي كان لها ابن اسمه بطرس من زواج سابق ثم أنجبت جبران وشقيقتيه مريانا وسلطانة.

كان والده، خليل سعد جبران، يعمل راعياً للماشية ويمضي أوقاته في الشرب ولعب الورق. "كان صاحب مزاج متغطرس، ولم يكن شخصاً محباً"، كما يتذكر جبران، الذي عانى من إغاظته وعدم تفهمه. وكانت والدته كاملة رحمة، من عائلة محترمة وذات خلفية دينية، واستطاعت أن تعتني بها مادياً ومعنوياً وعاطفياً. وكانت قد تزوجت بخليل بعد وفاة زوجها الأول وإبطال زواجها الثاني. كانت شديدة السمرة، ورقيقة، وصاحبة صوت جميل ورثته عن أبيها.

لم يذهب جبران إلى المدرسة لأن والده لم يعط لهذا الأمر أهمية ولذلك كان يذهب من حين إلى آخر إلى كاهن البلدة الذي سرعان ما أدرك جديته وذكاءه فانفق الساعات في تعليمه الأبجدية والقراءة والكتابة مما فتح أمامه مجال المطالعة والتعرف إلى التاريخ والعلوم والآداب.

وبفضل أمه، تعلم الصغير جبران العربية، وتدرب على الرسم والموسيقى. ولما لاحظت ميل الرسم لديه، زودته بألبوم صور ليوناردو دافنشي، الذي ظل معجباً به بصمت. بعد وقت طويل، كتب يقول: "لم أر قط عملاً لليوناردو دافنشي إلا وانتاب أعماقي شعور بأن جزءاً من روحه تتسلل إلى روحي...".

تركت أمه بصمات عميقة في شخصيته، ولم يفته أن يشيد بها في الأجنحة المتكسرة: "إن أعذب ما تحدثه الشفاه البشرية هو لفظة "الأم"، وأجمل مناداة هي "يا أمي". كلمة صغيرة كبيرة مملوءة بالأمل والحب والانعطاف وكل ما في القلب البشري من الرقة والحلاوة والعذوبة. الأم هي كل شيء في هذه الحياة، هي التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس، والقوة في الضعف، هي ينبوع الحنو والرأفة والشفقة والغفران، فالذي يفقد أمه يفقد صدراً يسند إليه رأسه ويداً تباركه وعيناً تحرسه...".

سنواته الأولى أمضاها جبران لا مبالياً، رغم الشجارات بين والديه والسقوط من فوق ذلك المنحدر الذي ترك فيه التواء في الكتف. تتلمذ في العربية والسريانية على يد الأب "جرمانوس". وعلمه الأب "سمعان" القراءة والكتابة في مدرسة بشري الابتدائية. ويروي صديقه الكاتب "ميخائيل نعيمة" أن الصغير جبران كان يستخدم قطعة فحم ليخط بها رسومه الأولى على الجدران. ويحكى أنه طمر يوماً، وكان عمره أربع سنوات، ورقة في التراب وانتظر أن تنبت.

في العاشرة من عمره وقع جبران عن إحدى صخور وادي قاديشا وأصيب بكسر في كتفه اليسرى، عانى منه طوال حياته.

لم يكف العائلة ما كانت تعانيه من فقر وعدم مبالاة من الوالد، حتى جاء الجنود العثمانيون عام 1891 وألقوا القبض عليه أودعوه السجن بسبب لسوء إدارته الضرائب التي كان يجيبها. أدين، وجرد من كل ثرواته وباعوا منزلهم الوحيد، فاضطرت العائلة إلى النزول عند بعض الأقرباء ولكن الوالدة قررت ان الحل الوحيد لمشاكل العائلة هو الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية سعيا وراء حياة أفضل.


العودة إلى لبنان

قررت عائلة جبران وخصوصاً أمه أن الشهرة المبكرة ستعود عليه بالضرر، وأنه لابد أن يعود إلى لبنان لمتابعة دراسته وخصوصاً من أجل إتقان اللغة العربية. وكان قد أثار تردد جبران المتزايد إلى أوساط داي، الذي لم تكن سمعته تدعو للارتياح، قلق الأسرة. وازدادت الأمور سوءاً بعد أن وقع في شراك زوجة تاجر في الثلاثين من عمرها، وغيابه المتكرر عن البيت ليلاً. وكان قد فتن قبلها بامرأة أخرى. وفكرت كاملة بإعادة ابنها المراهق إلى لبنان. فلم يعترض جبران فعاد إلى بيروت وهو يتكلم لغة إنگليزية ضعيفة، ويكاد ينسى العربية أيضاً.

رحل إلى بيروت في 30 أغسطس 1898. كان بين أمتعته الأناجيل وكتاب لتوماس بلفنيتش في الميثولوجيا اكتشف فيه الفنان الناشئ جبران دراما بروميثيوس، وأسطورة أورفيوس، والنبي الفارسي زرادشت، والفلسفة الفيثاغورسية، والأساطير الهندية.

هرع جبران فوراً إلى بشري، وحضن أبيه، وتوافد الأقارب والأصدقاء لرؤية الأمريكي. كان بينهم أستاذه الشاعر والطبيب سليم الضاهر، الذي نصحه بمتابعة دروسه في كوليج دو لا ساجيس، التي بقي فيها زهاء ثلاث سنوات. ورغم تأخره في العربية الفصحى، طلب الفتى قبوله في صف أعلى وعدم سؤاله قبل ثلاثة أشهر. وقبل القيمون شروط جبران، الذي أعجبتهم جرأته وقوة شخصيته. كان من بين أساتذته الأب يوسف حداد، الشاعر والكاتب المسرحي الذي اكتشف برفقته كنوز اللغة العربية، وابن خلدون، والمتنبي، وابن سينا، والشعراء الصوفيين. وبدأ يجيد التعبير عن أفكاره بلغته الأم، وكتب أولى نصوصه بالعربية. وتعلم بالفرنسية وأخذ يقرأ آدابها. ويتذكر جبران أن تلك المدرسة كانت صارمة؛ وأنه لم يكن يمتثل لمعلميه؛ وأنه كان أقل تعرضاً للعقاب من بقية التلاميذ، لأنه كان يدرس كثيراً. كان في الصف يسرح في فكره دائماً، ويرسم، ويغطي كتبه ودفاتره برسوم كاريكاتورية لأساتذته. كان جبران في نظر رفاق الصف غريباً، بشعره الطويل الذي يرفض قصه، ومواقفه غير المألوفة.

في بداية عام 1900، مع مطلع القرن الوليد، تعرف جبران على يوسف الحويك وأصدرا معاً مجلة المنارة وكانا يحررانها سوية فيما وضع جبران رسومها وحده. وبقيا يعملان معا بها حتى أنهى جبران دروسه بتفوق واضح في العربية والفرنسية والشعر (1902) وكان في عام 1901 تم اختيار إحدى قصائده لنيل الجائزة التقديرية. وكان يتوق بحماس لنيل هذه الجائزة، لأن التلميذ الممتاز في هذه المدرسة هو الأكثر موهبة في الشعر، كما قال.

عودته للولايات المتحدة

 
جبران خليل جبران، تصوير فرد هولاند داي، ح. 1898.

وقد وصلته أخبار عن مرض أفراد عائلته، فيما كانت علاقته مع والده تنتقل من سيء إلى أسوأ فغادر لبنان عائدا إلى بوسطن، ولكنه لسوء حظه وصل بعد وفاة شقيقته سلطانة. وخلال بضعة أشهر كانت أمه تدخل المستشفى لإجراء عملية جراحية لاستئصال بعض الخلايا السرطانية. قرر شقيقه بطرس ترك المحل التجاري والسفر إلى كوبا. وهكذا كان على جبران أن يهتم بشؤون العائلة المادية والصحية. ولكن المآسي تتابعت بأسرع مما يمكن احتماله. فما لبث بطرس أن عاد من كوبا مصاباً بمرض قاتل هو السل وقضى نحبه بعد أيام قليلة (12 مارس 1903) فيما فشلت العملية الجراحية التي أجرتها الوالدة في استئصال المرض وقضت نحبها في 28 يونيو من السنة نفسها.

إضافة إلى كل ذلك كان جبران يعيش أزمة من نوع آخر، فهو كان راغبا في إتقان الكتابة بالإنگليزية، لأنها تفتح أمامه مجالا أرحب كثيرا من مجرد الكتابة في جريدة تصدر بالعربية في الولايات المتحدة (كالمهاجر) ولا يقرأها سوى عدد قليل من الناس. ولكن إنگليزيته كانت ضعيفة جداً. ولم يعرف ماذا يفعل، فكان يترك البيت ويهيم على وجهه هرباً من صورة الموت والعذاب. وزاد من عذابه ان الفتاة الجميلة التي كانت تربطه بها صلة عاطفية، وكانا على وشك الزواج في ذلك الحين جوزيفين بيبادي، عجزت عن مساعدته عملياً، فقد كانت تكتفي بنقد كتاباته الإنگليزية ثم تتركه ليحاول إيجاد حل لوحده. في حين أن صديقه الآخر الرسام هولاند داي لم يكن قادراً على مساعدته في المجال الأدبي كما ساعده في المجال الفني.

مع فجر القرن العشرين، كانت بوسطن، التي سميت أثينا الأمريكية، مركزاً فكرياً حيوياً اجتذب فنانين مشهورين وواعدين. وكان بعضهم راغباً في الخروج من معاقل المادية للبحث عن سبل فنية جديدة واستكشاف ميثولوجيا وحضارات الشرق بل وعلومه الباطنية والروحية. وغاص جبران في هذا المجتمع البوسطني الذي تزدهر فيه حركات صوفية كان أبلغها تأثيراً الحكمة الإلهية التي أنشأتها عام 1875 الأرستقراطية الروسية هيلينا پتروڤنا بلاڤاتسكي التي اطلعت على تراث الهند، والتبت وشجعت نهضة البوذية والهندوسية. وشيئاً فشيئاً، اتضح له أن الروحانية الشرقية التي تسكنه يمكن أن تجد تربة خصبة في هذه البيئة المتعطشة للصوفية.

في 6 ديسمبر 1904، عرض داي على جبران عرض لوحاته في الربيع القادم. لم يكن أمامه سوى أربعة أشهر. وبتأثيرات من عالم وليم بليك، أنجز رسوماً عديدة تفيض بالرمزية. اجتذبت أعماله كثيراً من الفضوليين، ولكن قليلاً من الشارين. وعبر عدد من النقاد عن إعجابهم بها.

قدمته جوزفين إلى امرأة من معارفها اسمها ماري هاسكل (1904)، فخطّت بذلك صفحات مرحلة جديدة من حياة جبران.

كانت ماري هاسكل امرأة مستقلة في حياتها الشخصية وتكبر جبران بعشر سنوات، وقد لعبت دورا هاما في حياته منذ أن التقيا. فقد لاحظت ان جبران لا يحاول الكتابة بالإنگليزية، بل يكتب بالعربية أولا ثم يترجم ذلك. فنصحته وشجعته كثيرا على الكتابة بالإنگليزية مباشرة. وهكذا راح جبران ينشر كتاباته العربية في الصحف أولا ثم يجمعها ويصدرها بشكل كتب ، ويتدرب في الوقت نفسه على الكتابة مباشرة بالإنگليزية.

عزم جبران على البحث عن عمل أكثر ربحاً من الرسم. ولما علم بأن شاباً لبنانياً يدعى أمين غريب أصدر صحيفة بالعربية في نيويورك اسمها المهاجر، تقرب منه وأطلعه على رسومه وكتاباته وقصائده. قبل غريب مقابل دولارين في الأسبوع لجبران. وظهرت أول مقالة له في المهاجر بعنوان رؤية. كان نصاً مفعماً بالغنائية أعطى الكلام فيه ل"قلب الإنسان، أسير المادة وضحية قوانين الأنام".

وفي 12 نوفمبر 1904، احترق مبنى معرض داي، وأتى على موجوداته كلها، بما في ذلك رسوم جبران. وتحت صدمة الحريق، الذي وصفه بأنه مشهد جديد من التراجيديا التي يعيشها منذ سنتين، أصبح جبران يكتب أكثر مما يرسم. وخصه أمين غريب بزاوية منتظمة بعنوان أفكار، ثم استبدله بعنوان دمعة وابتسامة، حيث راح جبران يتحدث عن المحبة، والجمال والشباب والحكمة. ونشرت له المهاجر عام 1905 كتاباً بعنوان الموسيقى.

السفر إلى باريس

كانت باريس في بدايات القرن العشرين حلم فناني العالم كله. بعد وصوله إليها بوقت قصير، أقام في مونبارناس، وسرعان ما انتسب إلى أكاديمية جوليان، أكثر الأكاديميات الخاصة شعبية في باريس، التي تخرج منها فنانون كبار، مثل ماتيس، وبونار، وليجيه. وانتسب كطالب مستمع إلى كلية الفنون الجميلة. أوقات فراغه، كان جبران يقضيها ماشياً على ضفاف نهر السين ومتسكعاً ليلاً في أحياء باريس القديمة. بعد أن ترك باريس لاحقاً، قال لصديقه يوسف حويك الذي عاش معه سنتين في مدينة النور:

«كل مساء، تعود روحي إلى باريس وتتيه بين بيوتها. وكل صباح، أستيقظ وأنا أفكر بتلك الأيام التي أمضيناها بين معابد الفن وعالم الأحلام...»

لم يستطع جبران البقاء طويلاً في أكاديمية جوليان، حيث وجد أن نصائح أستاذه فيها لم تقدم له أية فائدة. من المؤكد أن أسلوبه لم يستطع إرضاء روح جبران الرومانسية. في بداية فبراير 1909، عثر الفنان على أستاذ جديد، بيير مارسيل بيرونو، "الفنان الكبير والرسام الرائع والصوفي"، حسب عبارة جبران. لكنه تركه أخيراً، بعد أن نصحه الفنان الفرنسي بالانتظار والتمهل حتّى ينهي كل قاموس الرسم، فجبران نهم إلى المعارف والإبداع وراغب في حرق المراحل.. .

تردد حينذاك إلى أكاديمية كولاروسي، المتخصصة في الرسم على النموذج، والتي كانت تستقبل فنانين أجانب، غير أن جبران كان يفضل العمل وحيداً وبملء الحرية في مرسمه، وزيارة المعارض، والمتاحف، مثل متحف اللوفر، الذي كان يمضي ساعات طويلة في قاعاته الفسيحة. وأعطى دروساً في الرسم لبعض الطلبة. وانخرط في مشروع طموح: رسم بورتريهات شخصيات شهيرة، وقد ابتدأها بالنحات الأمريكي برتليت، دون أن نعرف بدقة إن كان قد التقى بهؤلاء.

في هذه الأثناء، توفي والده. وكتب إلى ميري هاسكل يقول:

«فقدت والدي.. مات في البيت القديم، حيث ولد قبل 65 سنة.. كتب لي أصدقاؤه أنه باركني قبل أن يسلم الروح. لا أستطيع إلاّ أن أرى الظلال الحزينة للأيام الماضية عندما كان أبي، وأمي وبطرس وكذلك أختي سلطانة يعيشون ويبتسمون أمام وجه الشمس...»

كان جبران دائم الشك، طموحاً، ومثالياً، متصوراً أنه يستطيع إعادة تكوين العالم، وسعى إلى إقناع الآخرين بأفكاره ونظرياته حول الفن، والطبيعة...، وقلقاً، وكثير التدخين، وقارئاً نهماً، وقد أعاد قراءة جيد وريلكه وتولوستوي ونيتشه، وكتب نصوصاً بالعربية وصفها المحيطون به بأنها "حزينة ووعظية".

في ذلك الوقت، قدم إلى باريس عدد كبير من دعاة الاستقلال السوريين واللبانيين، المطالبين بحق تقرير المصير للبلدان العربية الواقعة تحت النير العثماني. وظهرت فيها جمعيات سرية تطالب بمنح العرب في الدولة العثمانية حقوقهم السياسية وبالاعتراف بالعربية لغة رسمية... وتردد جبران إلى هذه الأوساط وتشرب بأفكارها. ورأى أن على العرب أن يثوروا على العثمانيين وأن يتحرروا بأنفسهم.

رغب جبران في التعريف بفنه. ونجح في الوصول إلى أشهر معارض باريس السنوية، معرض الربيع، حيث استطاع أن يعرض لوحة عنوانها الخريف، آملاً أن يمر بها "رودان العظيم" فيعجب بها ويثمنها. جاء الفنان الفرنسي، ووقف لحظة أمامها، وهز رأسه، وتابع زيارته. بعد ذلك، راح يهيئ اللوحات التي دعي لعرضها في معرض الاتحاد الدولي للفنون الجميلة في باريس الذي دعي إليه بشكل رسمي. إلاّ أن عدم الاستقرار أتعبه، فتخلى عن المشروع ليترك باريس ولم تتسن له بعد ذلك العودة قط إلى مدينة الجمال والفنون، ولا إلى مسقط رأسه لبنان. ولم تأته فرصة لرؤية إيطاليا التي طالما حلم بزيارتها.

من باريس إلى بوسطن

عام 1908 غادر جبران إلى باريس لدراسة الفنون وهناك التقى مجددا بزميله في الدراسة في بيروت يوسف الحويك. ومكث في باريس ما يقارب السنتين ثم عاد إلى الولايات المتحدة بعد زيارة قصيرة للندن برفقة الكاتب أمين الريحاني.

وصل جبران إلى بوسطن في ديسمبر 1910، حيث اقترح على ماري هاسكل الزواج والانتقال إلى نيويورك هربا من محيط الجالية اللبنانية هناك والتماسا لمجال فكري وأدبي وفني أرحب. ولكن ماري رفضت الزواج منه بسبب فارق السن، وان كانت قد وعدت بالحفاظ على الصداقة بينهما ورعاية شقيقته مريانا العزباء وغير المثقفة.

وهكذا انتقل جبران إلى نيويورك ولم يغادرها حتى وفاته. وهناك عرف نوعا من الاستقرار مكنه من الانصراف إلى أعماله الأدبية والفنية فقام برسم العديد من اللوحات لكبار المشاهير مثل رودان وساره برنار وگوستاڤ يانگ وسواهم.

حال وصوله إلى بوسطن في بداية نوفمبر، هرع لرؤية أخته مارينا. ثم مضى للقاء ميري، التي أعلمته على الفور ـ حرصاً منها على إبقاء الفنان تحت رعايتها ـ بأنها مستعدة للاستمرار في منحه الخمسة وسبعين دولاراً التي كانت تقدمها له إبان إقامته الباريسية. ونصحته باستئجار بيت أوسع لممارسة فنه بحرية. وساعدته في تحسين لغته الإنگليزية. وتعززت صداقتهما. وفي 10 ديسمبر، زارها في بيتها لمناسبة عيد ميلادها السابع والثلاثين، وعرض عليها الزواج. لكنها رفضت بحجة أنها تكبره بعشر سنوات. وكتب لها فيما بعد أنها جرحته بهذا الرفض. وقررت ميري أن تتراجع وتقبل. ثم عادت فرفضت مرة أخرى. ربما بسبب علاقاته مع نساء أخريات، أو لخوفها من الزواج بأجنبي. وسعى جبران بعد ذلك لإغراق خيبة أمله في العمل. وسرعان ما شعر بأن بوسطن مدينة باردة وضيقة وأنها أصغر من طموحاته الفنية، خصوصاً بعد تلك الإقامة في باريس الرحبة والدافئة، عدا الجرح الذي تركته فيه ميري. وقرر المغادرة إلى نيويورك. حزم حقائبه غير آسف، حاملاً معه مخطوطة الأجنحة المتكسرة ونسخة من هكذا تكلم زرادشت لنيتشه.

نيويورك

قال الشاعر والكاتب الفرنسي بول كلودل بعد وصوله إلى نيويورك عام 1838: " بالنسبة للغريب الذي يقع هنا، جاهلاً كل شيء ودواعي كل شيء، تكون أيامه الأولى مذهلة..". إلاّ أن جبران فهمها فوراً: "نيويورك ليست مكاناً يمكن أن يجد فيه المرء راحة". بدأ إقامته بزيارة متحف متروپوليتان للفنون، الذي خرج منه مندهشاً. تعرف إلى الجالية اللبنانية، وبعض مشاهير نيويورك. في هذه الأثناء، جاءت ميري إلى نيويورك ووجدته يرسم لوحة إيزيس. زارا بعض المتاحف والأوابد. وبعد ذلك، عادا معاً إلى بوسطن، حيث تهيأت الصديقة لقضاء عطلة في غرب البلاد. وعرضت حينذاك على جبران مبلغ خمسة آلاف دولار دفعة واحدة بدلاً من المبالغ الصغيرة المتقطعة. قبل بالعرض وألح بأن يوصي لها بكل ما يملك، عرفاناً بجميلها. وكتب وصية أدهشت أصدقاءه. أوصى بكل لوحاته ورسومه إلى ميري أو إن كانت متوفاة، إلى فرد هولاند داي وبمخطوطاته الأدبية إلى أخته وبكتبه في لبنان إلى مكتبة بشري.

استغل جبران الصيف لإنهاء الأجنحة المتكسرة وروتشة لوحة إيزيس، وبدأ برسم لوحات جديدة، وزين بالرسوم كتاباً لأمين الريحاني، وكتب مقالتين، إحداهما بعنوان "العبودية"، حيث يندد بالعبودية التي تقود شعباً وفقاً لقوانين شعب آخر، والأخرى بعنوان "أبناء أمي" يتمرد فيها على مواطنيه الذين لا يثورون في وجه المحتل. وحضر محاضرة للشاعر والكاتب المسرحي الإيرلندي وليام يتس حائز جائزة نوبل 1923، وتعارفا والتقيا مراراً.

في 18 أكتوبر عاد جبران إلى نيويورك وأقام في مبنى تنث ستريت ستوديو المخصص للفنانين. في هذه السنة نشر روايته الأجنحة المتكسرة، أكثر أعماله رومانسية، والتي أنبأت بأسلوبه وفكره المستقبليين.

في 15 أبريل 1912، هزت العالم حادثة غرق الباخرة تيتانيك، التي كان على متنها مئات الأشخاص، بينهم 85 لبنانياً، غرق 52 منهم. كانت الكارثة صدمة بالنسبة لجبران، الذي عز عليه النوم تلك الليلة. في اليوم نفسه، التقى بعبد البهاء، ابن بهاء الله مؤسس حركة البهائية الروحية في إيران، ودعاه لإلقاء خطاب أمام أعضاء "الحلقة الذهبية" حول وحدة الأديان.

في بداية الخريف، التقى جبران بالكاتب والروائي الفرنسي بيير لوتي، الذي جاء إلى نيويورك لحضور عرض مسرحية بنت السماء التي ألفها مع ابنة الأديب والشاعر الفرنسي تيوفيل گوتيه. وقد عبر له لوتي عن استياؤه من صخب الولايات المتحدة وقدم له نصيحة: "أنقذ روحك وعد إلى الشرق؛ مكانك ليس هنا‍‍!".

كيف يمكننا تصور جبران في هذه الفترة من حياته؟ كانت له ملامح أهل قريته: وجه ملوح بالسمرة، وأنف بارز، وشارب أسود وكثيف، وحاجبان مقوسن كثان، وشعر معقوص قليلاً، وشفتان ممتلئتان؛ وجبين عريض مهيب مثل قبة، وعينان يقظتان تنمان عن ذكاء هذا الشخص قصير القامة ذي الابتسامة المشرقة الموحية ببراءة الأطفال؛ "مكهرِب، ومتحرك كاللهب" (ميري)؛ وطبيعة هي أقرب إلى الحزن؛ محب للانعزال ("الوحدة عاصفة صمت تقتلع كل أغصاننا الميتة")، ويجد لذة في العمل؛ أنوف، وبالغ الحساسية، ولا يتسامح مع أي نقد؛ مستقل وثائر بطبيعته، يأبى الظلم بأي شكل.

كان يدخن كثيراً: "اليوم ـ كتب إلى ميري ـ، دخنت أكثر من عشرين سيجارة. التدخين بالنسبة لي هو متعة وليس عادة مستبدة...". وليلاً، كي يبقى متنبهاً ويستمر في عمله، كان يتناول القهوة القوية ويأخذ حماماً بارداً. إلا أن أسلوب الحياة هذا بدأ ينهك جسمه ويضفي عليه ملامح الكبر.

في عام 1913، التقى بعدد من مشاهير عالم الفن النيويوركيين، مثل الشاعر ويتر بوينر. وفي فبراير، تخلى لميري عن مجموعة من لوحاته وفاء للدين، متمنياً أن يتخلص من هذا الوضع الذي كان يضايقه. وعاد إلى إكمال مجموعة بورتريهاته، مخصصاً إحداها للمخترع الأمريكي توماس إديسون وأخرى لعالم النفس السويسري كارل يونگ اللذين قبلا الجلوس ليرسمهما جبران. والتقى بالفيلسوف الفرنسي هنري برجسون الذي وعده بأن يسمح له برسمه في باريس، معتذراً آنئذ بسبب الإنهاك من السفر، وبالممثلة الفرنسية سارة برنار: "باختصار، كانت لطيفةـ يؤكد جبران. حدثتني بفرح غامر عن أسفارها إلى سورية ومصر، وأخبرتني أن أمها كانت تتكلم العربية وأن موسيقى هذه اللغة كانت وما تزال حية في نفسها". وقبلت أن تجلس ليرسمها، ولكن عن بعد "كي لا تظهر ملامح وجهها". كانت قد أصبحت في عامها التاسع والستين.

في أبريل 1913، ظهرت في نيويورك مجلة الفنون، التي أسسها الشاعر المهجري الحمصي نسيب عريضة. ونشر فيها جبران مقالات متنوعة جداً وقصائد نثرية. ووقع فيها على دراسات أدبية كرسها لاثنين من كبار الصوفيين، الغزالي وابن الفارض، اللذين تأثر بأفكارهما.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وفاته

 
شباب من الجالية اللبنانية في بوسطن يحملون نعش جبران فور وصوله من نيويورك.
 
متحف جبران ومثواه الأخير، في بشري.

كانت صحة جبران قد بدأت تزداد سوءاً. وفي 9 أبريل، وجدته البوابة يحتضر فتوفي جبران في 10 أبريل 1931 في إحدى مستشفيات نيويورك وهو في الثامنة والأربعين بعد أصابته بالتليف الكبدي، فنقل بعد ثلاثة أيام إلى مثواه الأخير في مقبرة مونت بنيديكت، إلى جوار أمه وشقيقته وأخيه غير الشقيق. ونظمت فوراً مآتم في نيويورك وبيونس آيرس وساوباولو حيث توجد جاليات لبنانية هامة. وبعد موافقة شقيقته "ماريانا"، تقرر نقل جثمان جبران في 23 تموز إلى مسقط رأسه في لبنان. واستقبلته في بيروت جموع كبيرة من الناس يتقدمها وفد رسمي. وبعد احتفال قصير حضره رئيس الدولة، نقل إلى بشري، التي ووري فيها الثرى على أصوات أجراس الكنائس. وإلى جوار قبره، نقشت هذه العبارة:

«كلمة أريد رؤيتها مكتوبة على قبري: أنا حي مثلكم وأنا الآن إلى جانبكم. أغمضوا عيونكم، انظروا حولكم، وستروني....»

عملت شقيقته على مفاوضة الراهبات الكرمليات واشترتا منهما دير مار سركيس الذي نقل إليه جثمان جبران، وما يزال إلى الآن متحفا ومقصدا للزائرين.

جبران ومي زيادة

مي هو الاسم الذي اختارته تلك المرأة القلقة، التي تبدو، كالبحر، تارة هادئة وشفافة، وأخرى ثائرة. ولدت عام 1886، من أب لبناني وأم فلسطينية. رحلت أسرتها عام 1908 إلى القاهرة. أتقنت لغات عدة، وأظهرت مواهب استثنائية في النقد والأدب والصحافة. حولت دارتها في القاهرة إلى صالون أدبي، وراحت تستقبل فيها كبار الأدباء والمثقفين، كطه حسين وعباس محمود العقاد ويعقوب صروف. اكتشفت جبران عام 1912، عبر مقالته يوم مولدي التي ظهرت في الصحافة. وأسرها أسلوبه. وقرأت الأجنحة المتكسرة وخالفته في رأيه للمرأة في هذه الرواية. تراسلا، وتبادلا في رسائلهما الإطراء وتحدثا عن الأدب. روى لها همومه اليومية، وطفولته وأحلامه وأعماله. وانعقدت بينهما علاقة ألفة وحب. وطلب منها عام 1913 تمثيله وقراءة كلمته في حفل تكريم شاعر القطرين "خليل مطران". كانت "مي" حساسة جداً وحالمة. ولما انقطعت رسائل جبران عقب قيام الحرب العالمية الأولى، تعلقت بذكرى مراسلها البعيد ورفضت كل الطامحين إلى الزواج منها. وتمنت في مقالة لها أن تكون بقرب ذلك الوجه الذي يمنع البعاد رؤيته.

لم يلتقيا قط، غير أن الكاتبين شعرا أنهما قريبان أحدهما من الآخر، وأحس أن "خيوطاً خفيفة" تربط بين فكرهما وأن روح مي ترافقه أينما اتجه.

في عام 1921، أرسلت له صورتها، فأعاد رسمها بالفحم. واكتشف بسعادة أنها امرأة مليئة الوجه، ذات شعر بني قصير، وعينين لوزيتي الشكل يعلوهما حاجبان كثان، وشفتين ممتلئتين. وجد في نظرتها البراقة شيئاً معبراً يجتذبه، وفي ملامحها بعضاً من الذكورة، صرامةً كامنة تضفي عليها مزيداً من الجاذبية: مي تجسد الأنوثة الشرقية. كان في هذه المرأة كل ما يعجبه، غير أنها بعيدة جداً. ولم يكن يشعر أنه مهيأ بعد لترك أمريكا فيتخلى عن حريته. هذا الحب الروحي، الفكري، أعجبه. ولكن هل فكر بمجرد ما لكماته من وقع على قلب مراسلته؟.

في عام 1923، كتب لها يقول دون كلفة: "أنت تعيشين فيّ وأنا أعيش فيك، تعرفين ذلك وأعرفه". كانت مي، كلما بدت عبارات مراسلها أكثر جرأة أو شابها بعض سخرية من تعبير اختارته دون قصد منها، تلجأ إلى مقاطعته وتلوذ بصمت يستمر أشهراً أحياناً. مشاعرها الحقيقية كانت تبوح بها في مقالاتها. وإن كانت قد خصت أعماله بمقالات نقدية مدحية، فقد نهرته في أخرى. وفي مقالة بعنوان "أنت، الغريب"، عبرت عن كل هواها نحو "ذاك الذي لا يعرف أنها تحبه" و"الذي تبحث عن صوته بين كل الأصوات التي تسمعها".

في رسالة له عام 1924، عبرت له مي عن خوفها من الحب. ورد عليها جبران: ".. هل تخافين ضوء الشمس؟ هل تخشين مد البحر وجزره؟...". فاجأه موقفها. وبدا أنه اختار التراجع لإنقاذ حريته أو وقته، مفضلاً عدم الانطلاق في علاقة قد تتطلب منه ومنها تضحيات كبيرة. أدركت "مي" حينذاك، بمرارة، سوء التفاهم بين رغبتها وفكرة جبران عن علاقتهما. وأسفت أنها كانت على هذا القدر من الصراحة والمباشرة. وصمتت ثمانية أشهر، رآها جبران "طويلة كأنها أزل".

رغم كل شيء استمرت مراسلاتهما متباعدة، حتى وفاة جبران لتبقى واحدة من الأخصب والأجمل في الأدب العربي.

أسلوبه الأدبي

كان في كتاباته اتجاهين، أحدهما يأخذ بالقوة ويثور على العقائد والدين، والآخر يتتبع الميول ويحب الاستمتاع بالحياة.

أبطأ هذا النشاط الإنساني والأخبار المأساوية التي توافدت عليه من أوروبا والمشرق نتاجه الأدبي. صحيح أنه نشر عام 1914 مجموعته دمعة وابتسامة، غير أنها لم تكن سوى جمع لمقالات بالعربية، 56 مقالة، نشرت في المهاجر، وكان هو نفسه قد تردد في نشرها. كانت ذات نفحة إنسانية وضمت تأملات حول الحياة، والمحبة، والوضع في لبنان وسورية، وقد اتخذت شكل القصيدة المنثورة، الأسلوب غير المعروف في الأدب العربي، وقد كان رائده.

في هذه الفترة تقريباً، شعر بالحاجة للكتابة بالإنگليزية، هذه اللغة التي يمكن أن تفتح له الكثير من الأبواب وتمكنه من ملامسة الجمهور الأمريكي. قرأ شكسبير مرة أخرى، وأعاد قراءة الكتاب المقدس مرات عدة بنسخة كينگ جيمس. كانت إنگليزيته محدودة جداً، غير أنه عمل طويلاً وبجد حتى أتقن لغة شكسبير ولكن دون أن يتخلى عن لغته الأم: "بقيت أفكر بالعربية". ".. كان غنى العربية، التي أولع بها، يدفعه دائماً إلى سبر الكلمة التي تتوافق بأفضل شكل مع مثيلتها في الإنكليزية، بأسلوب بسيط دائماً..."، كما ذكرت مساعدته "بربارة يونغ".

من أين يبدأ؟ كان أمامه مشروع النبي، الذي نما معه منذ الطفولة. سار العمل بطيئاً جداً. أراد أخيراً أن يجد موضوعاً يستقطب أفكاره ولغته الثانية. وفكر جبران: ما الذي يمكن، مع الإفلات من العقاب، أن يكشف حماقة الناس وجبنهم وينتزعه حُجُب المجتمع وأقنعته؟. المجنون. أغرته الفكرة. لم ينس "قزحيّا" في الوادي المقدس وتلك المغارة التي كانوا يقيدون فيها المجانين لإعادتهم إلى صوابهم، كما كانوا يعتقدون. في "يوحنا المجنون"، كان قد كتب يقول إن "المجنون هو من يجرؤ على قول الحقيقة"، ذاك الذي يتخلى عن التقاليد البالية والذي "يصلب" لأنه يطمح إلى التغيير. برأيه، "أن الجنون هو الخطوة الأولى نحو انعدام الأنانية... هدف الحياة هو تقريبنا من أسرارها، والجنون هو الوسيلة الوحيدة لذلك". وهكذا، عنوان كتابه القادم: The Madman . وبقي أن يكتبه

في هذه الأثناء، شارك في مجلة جديدة، The Seven Arts¡ التي كان ينشر فيها كتاب مشهورون، مثل "جون دوس باسوس" و"برتراند راسل"، ومن خلالها أضحى مشهوراً في الأوساط الفنية النيويوركية، حيث نشر رسومه ونصوصه الأولى بالإنكليزية.

كانت فترة 1914 ـ 1916 غنية باللقاءات: تردد جبران إلى صالونات المجتمع الراقي الذي كانت تديره نساء متنفذات. تعرف إلى الفنانة الشهيرة روز أونيل، وعمدة نيويورك، والشاعرة آمي لويل، والرسام الرمزي ألبرت رايدر. ودعي عدة مرات إلى Poetry Society of America¡ التي ألقى فيها مقتطفات من كتاب Madman¡ الذي كان بصدد تأليفه، أمام حضور منتبه.

في خريف 1916، التقى مرة أخرى بمخائيل نعيمة، الذي ألف فيه كتاباً، جبران خليل جبران. كان نعيمة يدرس في روسيا قبل أن يتوجه إلى الولايات المتحدة، حيث درس أيضاً القانون والآداب. كتب كلاهما في الفنون، وكلاهما آمنا بالتقمص، وناضل كلاهما من أجل تحرير بلدهما عبر لجنة المتطوعين، جبران كمسؤول عن المراسلات بالإنكليزية ونعيمة كمسؤول عن المراسلات بالعربية.

في ديسمبر 1916، التقى أخيراً برابندراناته طاغور، الشاعر الهندي الشهير، المتوج بجائزة نوبل في الآداب لعام 1913. وكتب إلى ميري في وصفه قائلاً: "حسن المنظر وجميل المعشر. لكن صوته مخيِّب: يفتقر إلى القوة ولا يتوافق مع إلقاء قصائده...". بعد هذا اللقاء، لم يتردد صحفي نيويوركي في عقد مقارنة بين الرجلين: كلاهما يستخدمان الأمثال في كتاباته ويتقنان الإنكليزية واللغة الأم. وكل منهما فنان في مجالات أخرى غير الشعر".

مع اقتراب الحرب من نهايتها، أكب جبران أكثر على الكتابة. ألف مقاطع جديدة من النبي، وأنهى كتابه المجنون، التي اشتملت على أربعة وثلاثين مثلاً (قصة قصيرة رمزية) وقصيدة. أرسلها إلى عدة ناشرين، لكنهم رفضوها جميعاً بحجة أن هذا الجنس الأدبي "لا يباع". لكنه وجد ناشراً أخيراً، وظهر العمل عام 1918 مزيناً بثلاثة رسوم للمؤلف. وكان جبران قد كتب بعض نصوصه بالعربية أصلاً، ثم ترجمها إلى الإنگليزية. ويروي فيه حكاية شخص حساس ولكن "مختلف"، يبدأ بإخبارنا كيف أصبح مجنوناً. "... في قديم الأيام قبل ميلاد كثيرين من الآلهة نهضت من نوم عميق فوجدت أن جميع براقعي قد سرقت... فركضت سافر الوجه في الشوارع المزدحمة صارخاً بالناس: "اللصوص! اللصوص! اللصوص الملاعين!" فضحك الرجال والنساء مني وهرب بعضهم إلى بيوتهم خائفين مذعورين... هكذا صرت مجنوناً، ولكني قد وجدت بجنوني هذا الحرية والنجاة معاً...". تميز أسلوب جبران في "المجنون" بالبساطة واللهجة الساخرة والمرارة، وشكل هذا العمل منعطفاً في أعمال الكاتب، ليس فقط لأنه أول كتاب له بالإنكليزية، بل لما فيه من تأمل وسمو روحي. وأرسل نسخة منه إلى مي زيادة، التي وجدته سوداوياً ومؤلماً. وأرسل نسخة أخرى إلى جيرترود باري، حبيبته الخبيئة. ربما أخفى جبران هذه العلاقة كي لا يجرح ميري ومن أجل أن لا تمس هذه العلاقة اللاأفلاطونية صورته الروحية. كان لجبران علاقات غير محددة، أفلاطونية وجسدية: جيرترود شتيرن التي التقاها عام 1930 واعتبرت نفسها حبه الأخير، وماري خواجي وماري خوريط، و"هيلينا غوستين" التي أكدت، كما فعلت شارلوت وميشلين بأن جبران "زير نساء"، وقد روت، مازحةً ومداعبة، أنه طلب منها ذات مرة أن تشتري له مظلة ليقدمها إلى شقيقته ماريانا، لكنها اكتشفت بعد حين أنه قد أهداها لامرأة أخرى. هذه المغامرات عاشها جبران سراً،إما حفاظاً على سمعة تلك العشيقات أو خوفاً من تشويه الصورة التي كان يريد أن يعطيها حول نفسه: صورة الناسك، صورة الكائن العلوي، عاشق الروح وليس الجسد.

في نوفمبر 1918، أعلن الهدنة أخيراً. وكتب جبران إلى ميري يقول: "هذا أقدس يوم منذ ميلاد اليسوع!".

في مايو 1919، نشر جبران كتابه السادس بالعربية، المواكب. كان قصيدة طويلة من مائتين وثلاثة أبيات فيها دعوة للتأمل، كتبها على شكل حوار فلسفي بصوتين: يسخر أحدهما من القيم المصطنعة للحضارة؛ ويغني الآخر، الأكثر تفاؤلاً، أنشودةً للطبيعة ووحدة الوجود. وقد تميز الكتاب بتعابيره البسيطة والصافية والتلقائية.

في نهاية عام 1919، نشر مجموعة من عشرين رسماً تحت عنوان Twenty Drawings. وقد أدخل الناشر إلى مقدمتها نصاً للناقدة الفنية أليس رافائيل إكستين، حيث جاء فيها أن جبران "يقف في أعماله الفنية عند الحدود بين الشرق والغرب والرمزية والمثالية". وقد قيل إن "جبران يرسم بالكلمات"، إذ يبدو رسمه في الواقع تعبيراً دقيقاً عن أفكاره.

الرابطة القلمية

في ليلة 20 أبريل 1920، رأى الكتاب السوريون واللبنانيون في اجتماع لهم في نيويورك أنه يجب التصرف من أجل "إخراج الأدب العربي من الموحل، أي الركود والتقليد الذي غاص فيهما". يجب حقنه بدم جديد. وقرر المشاركون تأسيس تنظيم يتمحور حول الحداثة ويكرس لجمع الكتاب وتوحيد جهودهم لخدمة الأدب العربي. وجد جبران الفكرة ممتازة ودعا الأعضاء للاجتماع عنده بعد أسبوع لاحق.

اجتمعوا في 28 التالي وحددوا أهداف التنظيم الذي أسموه الرابطة القلمية، التي ضمت جبران، وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة وعبد المسيح حداد صاحب مجلة "السايح" وآخرين، في نشر أعمال أعضائها وأعمال الكتاب العربي الآخرين وتشجيع تعريب أعمال الأدب العالمي، فضلاً عن أهداف أخرى. انتخب جبران رئيساً، وميخائيل نعيمة أميناً للسر.

بقيت الرابطة تجتمع دورياً تقريباً حتى وفاة جبران. نشر الأعضاء مقالات في مجلة السايح وكرسوا عدداً في العام للمختارات. وأضحت الرابطة بأفكارها المتمردة رمزاً لنهضة الأدب العربي. رأى جبران أنه لن يكون للغته العربية مستقبل إذا لم تتحرر من القوالب القديمة ومن "عبودية الجمل الأدبية السطحية"، وإذا لم تتمكن من إرساء حوار حقيقي مع الغرب وتتمثل تأثير الحضارة الأوروبية دون أن تجعلها تهيمن عليها.

في أغسطس 1920، أصدرت منشورات الهلال القاهرية مجموعة تضم 31 مقالة لجبران كانت قد ظهرت في صحف مختلفة ناطقة بالعربية. حملت "العواصف" على عيوب الشرقيين ـ تعلقهم بالماضي بالتقاليد القديمة ـ، رافضة حالة خنوع المضطهدين وضعفهم، داعيةً إياهم إلى الطموح والرفعة.

بعد أسابيع لاحقة، نشر جبران كتابه الثاني بالإنكليزية، "السابق" الذي زينه بخمسة من رسومه. وقد جاء على شكل أمثال وحكايات صغيرة مفعمة بالحكمة والتصوف، وكان بمثابة تهيئة لكتاب جبران الأهم، "النبي".

سنة 1923 نشر كتاب جبران باللغة الإنكليزية، وطبع ست مرات قبل نهاية ذلك العام ثم ترجم فورا إلى عدد من اللغات الأجنبية، ويحظى إلى اليوم بشهرة قل نظيرها بين الكتب.

في هذه الأثناء، حينما كان يعمل بمثابرة على مخطوطة النبي، ساءت صحته، ولم يداوها الفرار إلى الطبيعة برفقة الأصدقاء. آثر البقاء في بوسطن قرب شقيقته "ماريانا"، ولم يعد يطمح إلا إلى إنهاء مخطوطته والعودة إلى مسقط رأسه، غير أن أمنية العودة اصطدمت بمشكلة كبيرة: ملاحقة دائني والده القضائية لاسترجاع ديونهم ممن تبقى من أفراد الأسرة، جبران وماريانا.

أعماله

الأدبية

 
الأعمال المعربة لجبران. انقر على الصورة لمطالعتها كاملة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بالعربية

بالإنگليزية

  • النبي، مكون من 26 قصيدة شعرية وترجم إلى ما يزيد على 20 لغة، 1923
  • المجنون، 1918
  • السابق 1920
  • رمل وزبد، 1926
  • عيسى ابن الانسان، 1928
  • حديقة النبي. 1933
  • آلهة الأرض. 1931
  • الأعلام للزركلي
  • التائه 1932

الفنون البصرية

 
پورتريه شخصي، ح. 1911.

لجبران أكثر من سبعمائة صورة تشمل پورتريهات لأصدقائه و.ب. يتس، كارل جونگ وأوگست رودين.[1] هناك لوحة قد تكون لجبران كانت موضوع لحلقة يونيو 2012 من المسلسل التلفزيوني تاريخ المباحث على قناة پي بي إس.

نصب تذكارية وتكريمات

 
تمثال لجبران في يرڤن، أرمنيا.

فضلاً عن الأوابد التي كرست للفنان في وطنه الأم (متحف جبران، وساحة جبران التي دشنت في وسط بيروت عام 2000)، هنالك مواقع، وتماثيل، ولوحات تذكارية تكرم ذكراه: في الولايات المتحدة نصبان تذكاريان لجبران، أحدهما في بوسطن، والآخر في واشنطن. ويضم عدد من أشهر المتاحف الأمريكية العديد من لوحات جبران. وكانت الجالية اللبنانية في البرازيل قد دشنت أيضاً مركزاً ثقافياً سمي "جبران".

وقدم العديد من الفنانين العرب أغانى من كلمات جبران خليل جبران ومنهم فيروز وماجدة الرومي، وأخيرا احتفل طوني قلدس بيوبيل 125 عام على ولادة الشاعر والأديب عام 2008 في عدة حفلات واطلق عملين من كلمات جبران.

مأثورات

من أقواله المأثورة:

  • نصيحته للمسلمين:
  أنا لبناني ولي فخر بذلك، ولست بعثماني، ولي فخر بذلك أيضاً.. لي وطن أعتز بمحاسنه، ولي أمة أتباهى بمآتيها، وليس لي دولة أنتمي إليها وأحتمي بها.

أنا مسيحي ولي فخر بذلك، ولكنني أهوى النبي العربي، وأكبر اسمه، وأحب مجد الإسلام وأخشى زواله، أنا شرقي ولي فخر بذلك، ومهما أقصتني الأيام، عن بلادي أظل شرقي الأخلاق سوري الأميال، لبناني العواطف. أنا شرقي، وللشرق مدينة قديمة العهد، ذات هيبة سحرية ونكهة طيبة عطرية، ومهما أعجب برقي الغربيين ومعارفهم، يبقى الشرق موطناً لأحلامي ومسرحاً لأمانيّ وآمالي. في تلك البلاد الممتدة من قلب الهند إلى جزائر العرب، المنبسطة من الخليج العربي إلى جبال القوقاس، تلك البلاد أنبتت الملوك والأنبياء والأبطال والشعراء، في تلك البلاد المقدسة تتراكض روحي شرقاً وغرباً، وتتسارع قبلة وشمالاً، مرددة أغاني المجد القديم، محدقة إلى الأفق لترى طلائع المجد الجديد. بينكم أيها الناس من يلفظ اسمي مشفوعاً بقوله: «هو فتى جحود يكره الدولة العثمانية ويرجو اضمحلالها». إي والله لقد صدقوا، فأنا أكره الدولة العثمانية، لأني أحب العثمانيين، أنا أكره الدولة العثمانية، لأني أحترق غيرة على الأمم الهاجعة في ظل العلم العثماني. أنا أكره الدولة العثمانية، لأني أحب الإسلام، وعظمه الإسلام، ولي رجاء برجوع مجد الإسلام. أنا لا أحب العلة، ولكنني أحب الجسد المعتل، أنا أكره الشلل، ولكنني أحب الأعضاء المصابة به، أنا أجل القرآن، ولكنني أزدري من يتخذ القرآن وسيلة لإحباط مساعي المسلمين، كما أنني أمتهن الذين يتخذون الإنجيل وسيلة للتحكم برقاب المسيحيين. وأي منكم أيها الناس لا يكره الأيدي التي تهدم، حبا للسواعد التي تبني؟ أي بشري يرى العزم نائماً ولا يطلب إيقاظه؟ أي فتى يرى العظمة متراجعة إلى الوراء، ولا يخشى انحجابها؟ خذوها يا مسلمون، كلمة من مسيحي أسكن «يسوع» في شطر من حشاشته، و«محمداً» في الشطر الآخر. إن لم يتغلب الإسلام على الدولة العثمانية، فسوف تتغلب امم الافرنج على الإسلام. إن لم يقم فيكم من ينصر الإسلام على عدوه الداخلي، فلا ينقضي هذا الجيل إلا والشرق في قبضة ذوي الوجوه البائخة والعيون الزرقاء

 

.

  • في الزواج:
  ولدتما معاً،وتظلان معاً. حتى في سكون تذكارات الله. و معاً حين تبددكما أجنحة الموت البيضاء. ولكن، فليكن بين وجودكم معاً فسحات تفصلكم بعضكم عن بعض، حتى ترقص أرياح السموات بينكم. أحبوا بعضكم بعضاً؛ ولكن، لا تقيدوا المحبة بالقيود، بل لتكن المحبة بحراً متموجاً بين شواطئ نفوسكم. ليملأ كل واحد منكم كأس رفيقه؛ ولكن، لا تشربوا من كأس واحدة. أعطوا من خبزكم كأس رفيقه؛ ولكن، لا تأكلوا من الرغيف الواحد. غنوا وارقصوا معاً، وكونوا فرحين أبداً؛ ولكن، فليكن كل منكم وحده، كما أن أوتار القيثارة يقوم كل واحد منها وحده ولكنها جميعاً تخرج نغماً واحداً. ليعط كل منكم قلبه لرفيقه؛ ولكن، حذار أن يكون هذا العطاء لأجل الحفظ، لأن الحياة وحدها تستطيع أن تحتفظ بقلوبكم. قفوا معاً؛ ولكن، لا يقرب أحدكم من الآخر كثيراً، لأن عمودي الهيكل يقفان منفصلين، و السنديانة و السروة لا تنمو الواحدة منهما في ظل رفيقتها.  

الهوامش

المصادر

  1. ^ خطأ استشهاد: وسم <ref> غير صحيح؛ لا نص تم توفيره للمراجع المسماة BBC12May12
  2. ^ "Gibran Memorial in Washington, DC". Dcmemorials.com. Retrieved December 22, 2012.
  3. ^ U.S. Society & Values; February 2000

المراجع

  • موقع كتب عربية - جبران خليل جبران
  • ترجمة: محمد الدنيا، "خليل جبران، مؤلف النبي"، بالفرنسية، تأليف ألكسندر نجار، دار نشر "بيغماليون" /باريس ـ فرنسا، أيلول/ سبتمبر 2002 (الكتاب غير معرب)
  • الكسندر نجار، Khalil Gibran, L`auteur du prohète، طبعة بيغماليون، باريس، 2002
  • Gibran, Jean (1998) [1981]. Kahlil Gibran: His Life and World. Salma Khadra Jayyusi (foreword). New York: Interlink Books. ISBN 1-56656-249-X. OCLC pj7826.i2z615. {{cite book}}: Check |oclc= value (help); Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)
  • Waterfield, Robin (1998). Prophet: The Life and Times of Kahlil Gibran. St. Martin's Press.
  • Najjar, Alexandre, "Kahlil Gibran, a biography", Saqi, 2008.
  • Khalil Gibran and Ameen Rihani: Prophets of Lebanese-American Literature. Ed. by Naji B. Oueijan, et al. Louaize: Notre Dame Press, 1999.
  • Poeti arabi a New York. Il circolo di Gibran, introduzione e traduzione di F. Medici, prefazione di A. Salem, Palomar, Bari 2009. ISBN 978-88-7600-340-0.
  • Daniel S. Larangé, Poétique de la fable chez Khalil Gibran (1883–1931): Les avatars d'un genre littéraire et musical: le maqam, Paris, L'Harmattan, 2005.

وصلات خارجية

  اقرأ اقتباسات ذات علاقة بجبران خليل جبران، في معرفة الاقتباس.
Wikisource has original works written by or about: