يورپيدس

(تم التحويل من يوريبيدس)

يورپيدس Euripides (باليونانية القديمة: Ευριπίδης) (ح. 480 ق.م.406 ق.م.) كان آخر التراجيديين الثلاثة العظام في أثينا الكلاسيكية (الاثنان الآخران كانا اسخيلوس وسوفوكليس). ظن الدارسون القدماء أن يوربيدس كتب خمس وتسعين مسرحية، إلا أن أربعة منهم كتبهم، على أغلب الظن، كريتياس. وقد وصلنا من مسرحيات يوربيدس ثمانية عشر مسرحية كاملة. ويعتقد على نطاق واسع الآن أن ما كان يـُعتقد أنها المسرحية التاسعة عشر، رسوس Rhesus، غالباً لم يكتبها.[1] قطع، أحياناً كبيرة، من معظم مسرحياته الأخرى وصلتنا. فقد وصلنا من مسرحياته أكثر مما وصلنا من اسخيلوس و سوفوكليس معاً، وذلك بسبب الطبيعة الفريدة لتقليد المخطوطات اليوربيدية (انظر أدناه).

تمثال يمثل يوربيديس.

ويـُعرف يوربيدس أساساً بإعادة تشكيله للبنية الرسمية للتراجيديا الأتيكية التقليدية باظهار شخصيات نسائية قوية وعبيد أذكياء، وبالسخرية من العديد من أبطال الميثولوجيا اليونانية. وتبدو مسرحياته عصرية بالمقارنة مع مسرحيات معاصريه، وتركز على الحيوات الداخلية ودوافع الشخصيات بطريقة لم تكن معهودة قبله للجمهور اليوناني.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حياته

 
كتاب "يورپيدس وعصره"، بقلم گلبرت موري. انقر على الصورة لمطالعة الكتاب بأكمله.


مولده

ولد في سالامينا في سنة 480 ق.م. في اليوم الذى كان فيه لهيب معركتها يحتدم، بعض الرويات تذكر أنه ولد في العام 485 ق.م.

نشأته

ولد يوربديس في عام سلاميس، ويقول بعضهم إنه ولد في يوم معركة سلاميس بالذات، وأكبر الظن أن مسقط رأسه هو تلك الجزيرة التي يقال إن أبويه فرا إليها هرباً من الغزاة الميديين (80). وكان أبوه رجلاً من أصحاب المال والسلطان في مدينة فيلا Phyla الأتكية، وكانت أمه تنحدر من أسرة شريفة(81)، وإن كان منافسه أرسطوفان يصر على أنها كانت تدير حانوت بدال، وتبيع الفاكهة والأزهار في الطرقات. وقضى يوربديز أيامه الأخيرة في سلاميس، مولعاً بعزلة تلالها، وجمال مناظرها، وزرقة بحارها؛ وكما أراد أفلاطون أن يكون كاتباً مسرحياً فكان فيلسوفاً، كذلك أراد يوربديز أن يكون فيلسوفاً فكان كاتباً مسرحياً. ويقول استرابون (82) إنه "تلقى منهج أنكساغورس كله، ودرس بعض الوقت على برودكس، وكان صديقاً حميماً لسقراط، وبلغ من صلته به أن بعض الناس يظنون أن قد كان للفيلسوف يد في مسرحيات الشاعر(83). وكان للحركة السوفسطائية كلها أثر كبير في تعليمه، واستحوذت عن طريقه على المسرح الديونيشي، فكان هو فلتير عصر الاستنارة اليوناني، يعبد العقل ويلمح إلى هذه العبادة في ثنايا مسرحياته التي كانت تمثل لتمجيد إله من الآلهة تلميحاً أفسدها وكان له أسوأ الأثر فيها.

  • بعض النقاد يؤكدون أنه لم يبد في حياته ما يدل على أنه من طبقة أرستقراطية أو متوسطة،وأن مؤلفاته توشك أن تكون خالية خلوا تاما من التقاليد القديمة التى هي من طابع الأسر النبيلة.

حياته الأدبية

كانت بداية كتاباته في عام 455 ق.م.، حيث قدم أولى مآسيه في إحدى المسابقات فنال المركز الثالث. فاز بالأولوية بعد أربعة عشر عاما، ظفر بها أربع مرات في حياته وفازت بها إحدى مآسيه بعد موته. غادر أثينا -على أثر مأساة أوريستيس في عام 408 ق.م.-إلى بيلا حيث استقبله أرخيلاوس ملك مقدونيا في بلاطه استقبالا حافلا، وظل هناك حتى وفاته.

أعماله

عزا القدماء-وعلى رأسهم سويداس-إلى يوربيديس اثنتين وتسعين مسرحية، ولكن يبدو أن عددا منها قد فقد في العصر الذى تلا الشاعر مباشرة والعصور التى تليه، ومنها من ارتاب النقاد في صحة نسبه إليه.

لم يبق من هذا العدد الضخم إلا سبع عشرة مأساة وفاجعة ساتيروسية واحدة ولم يعرف إلا تواريخ ظهور سبع منها، وها هي حسب الترتيب الزمني يقيناً كان أو ترجيحاً:

  • الكيستيس
  • ميديا
  • هيبوليتو
  • الطرواديات
  • هيلينية
  • لوريستيس
  • ايفيجينافي أوليس
  • الباكوسيات
  • اندروماخيه
  • الهيراكليسيون
  • هيكوبيه
  • الضارعات
  • ايليكترا
  • هيراكليس مخبولا
  • ايفجنيا في توريس
  • يون
  • الفينيقيات


1- المسرحيات

كما شق جوتو Giotto الطريق الوعر للتصوير الإيطالي في بداية عهده، ثم أوصله بروحه الهادئة إلى كماله الفني، وأتم ميكل أنجلو تطوره بأعماله التي صدرت عن عبقريته المعذبة؛ وكما شق باخ Bach بجهوده الجبارة الطريق الرحب إلى الموسيقى الحديثة، وأبلغها موزار ببساطتها العذبة الرخيمة إلى أرقى الدرجات، ثم أتم بيتهوفن تطورها بمؤلفاته التي لا يدانيها شيء في فخامتها وجلالها؛ كذلك شق إسكلس بشعره القوي وفلسفته الصارمة الطريق الذي سارت فيه المسرحيات اليونانية، وحدد أشكالها، ثم هذب سفكليز هذا الفن بموسيقاه المتزنة وحكمته الهادئة، وأتم يوربديز تطوره بمؤلفاته التي تفيض بالشعور الجائش والشك القوي. لقد كان إسكلس في مسرحياته واعظاً لا يكاد يقل صراحة عن أنبياء بني إسرائيل، وكان سفكليز فناناً سامياً يتشبث بإيمان مزعزع موشك على الانهيار، وكان يوربديس شاعراً عاطفياً إبداعياً لا يستطيع أن يكتب مسرحية كاملة لأن الفلسفة شتت قواه. وكان هؤلاء هم إشعيا وأيوب والجامعة في كتاب اليونان المقدس.

وتعزو إليه سجلات المسرح الديونيشي فضل تأليف خمس وسبعين مسرحية، بدأت ببنات بلياس في عام 455 واختتمت بالباخية Bacchae في عام 406، ووصلت إلينا منها ثمان عشرة كاملة وهتامات مختلفة من باقي المسرحيات . ومادتها هي أساطير اليونان الأولين، تتخللها إشارات من التشكك تبدو أولاً في حذر ثم تظهر سافرة جريئة بين السطور. ونرى في مسرحية أيون Ion أبا القبائل الأيونية المزعوم وقد وقع في ورطة حرجة: فقد جاء على لسان وحي أبولو أن أباه هو أكسوثوس Xuthus، ولكن أيون يكشف أنه ابن أبلو الذي أغوى أمه ثم خلعها على أكسوثوس، ويسأل أيون نفسه أيمكن أن يكون الإله النبيل كاذباً؟ وفي مسرحيتي هرقل وألسستيز Alcestis نرى الفتى الغوي ابن زيوس وألكمينا في صورة إنسان سكير طيب القلب، له نهم جارجنتوا Gargantua وعقل لويس السادس عشر. وتقص مسرحية ألسستيز القصة المنفرة فتصف كيف اشترطت الآلهة نظير إطالة عمر أدميتس Adametuas (ملك فيري Pherae في تساليا) أن يرضي إنسان ما أن يموت بدلاً منه. وتعرض زوجته أن تفتديه بحياتها، وتودعه بقصيدة من مائة بيت يستمع إليها في صبر ونبل، وتُحمل ألسستيز باعتقاد أنها قد ماتت ولكن هرقل يخرج من مجلس الخمر والولائم، ويجادل الموت، وينهره، ويرغمه على ترك ألسستيز، ويعيد إليها حياتها. ولا يمكن فهم المسرحية إلا على أنها محاولة خبيثة لتسخيف هذه الخرافة .

وتستخدم مسرحية هيبوليتس Hippolytus هذه الطريقة عينها طريقة إقامة البرهان بنقض نقيضه، ولكن بطريقة أظرف وأكثر دهاء. فالبطل الوسيم هنا شاب صياد يقسم لأرتميس Artemis العذراء إلهة الصيد أن يكون على الدوام وفياً لها، وأن يتجنب النساء طول حياته، وأن يجد أعظم لذته في الأدغال. وتغضب أفرديتي لهذه العزوبة المهينة فتصب في قلب فدرا Phaedra زوجة ثسيوس هياماً جنونياً بهبوليتس بن ثسيوس من أنتيوبي Antiope زوجته المحاربة. وهذه هي أولى مآسي العشق فيما لدينا من كتابات أدبية، وفيها نجد من بداية الأمر جميع أعراض الحب في أعقد أزماتها وأقوى درجاتها، وذلك حين يصد هبوليتس عن فدرا فيتحطم قلبها، ويذوى غصنها، وتكاد تقضى من فرط الأسى. وتصبح مربيتها فيلسوفة على غير انتظار فتأخذ في التفكير في الحياة بعد الموت، وتظهر في تفكيرها هذا من الشك في هذه الحياة ما لا يقل عن شك هملت فيها:

"ومع هذا فحياة الإنسان كلها ألم وكدر، وليس ثمة راحة على ظهر هذه الأرض؛ وإذا كانت هناك حالة بعيدة أحب إلى الموتى من الحياة فإن يد "الظلماء" تقبض عليها وتحجبها في ظلمات من فوقها ومن أسفل منها. ومن الناس من يرغبون في الحياة ويتعلقون بالبقاء على هذه الأرض بهذا الشيء البراق الذي لا أعرف ماذا أسميه، وذلك لأن الحياة الأخرى نبع مختوم مغلق، والأعماق التي من تحتنا لم تكشف لنا، ونحن تتقاذفنا الخرافات والأوهام إلى أبد الدهر"(84). وتحمل المربية رسالة إلى هبوليتس تقول إن فدرا ترحب به في فراشها؛ ويرتاع هو لهذه الرسالة لأنه يعرف أن التي تدعوه إلى فراشها زوجة أبيه، وينطلق لسانه بإحدى الفقرات التي اشتهر من أجلها يوربديز بأنه عدو النساء:

"رباه! لم وضعت في سبيلنا هذا الشرك البراق، تلك النساء اللاتي يتعقبن خطانا على ظهر هذه الأرض السعيدة؟ هل إرادتك هي التي اقتضت أن يولد الإنسان عن طريق الحب والمرأة؟"(85). ثم تموت فدرا، ويجد زوجها في يدها رسالة كتب فيها أن هبوليتس أغواها. ويستشيط ثسيوس غضباً، ويدعو بوسيدن أن يقتل هبوليتس؛ ويحتج الشاب بأنه بريء ولكن أحداً لا يصدقه؛ ويخرجه ثسيوس من البلاد. وبينما كانت عربته تمر في سيرها بشاطئ البحر إذ يخرج من الموج أسد بحر ويطارده؛ ويجفل جواداه ويقلبان العربة ويجران هبوليتس (بعد أن مزقه الجوادان) فوق الصخور حيث يموت شر ميتة. وترفع فرقة المنشدين صوتها بهذه الأبيات التي أدهشت أثينة وأزعجتها بلا ريب:

"أيتها الآلهة، يا من أوقعته في الشرك، إني أقذف في وجهك كرهي واحتقاري".

وفي مسرحية ميديا ينسى يوربديز إلى حين غضبه على الآلهة ويصوغ من قصة ركاب السفينة أرجوس أقوى مسرحياته على الإطلاق. فعندما يصل جيسن Jason إلى كلشيز، تهيم الأميرة ميديا بحبه، وتساعده على أخذ الجزة الذهبية، وفي دفاعها عنه تخدع أباها وتقتل أخاها. ويقسم جيسن أن يحبها حبا أبديا ويأخذها معه إلى أيوكلس Iolcus. وهناك تدس ميديا الوحشية الطباع السم إلى الملك بلياس لكي تجلس جيسن على العرش الذي وعد به. وإذ كانت شريعة تساليا تحرم الزواج من الأجنبيات فإن جيسن يعيش مع ميديا عيشة العاشقين بغير زواج وتلد له طفلين. ولكنه لا يلبث أن يضيق ذرعا بشهوتها الوحشية، ويتطلع حوله باحثا عن زوجة شرعية ووارث لملكه، ويعرض أن يتزوج ابنة كريون ملك كورنثة. ويوافق كريون على هذا الزواج وينفي ميديا من البلاد؛ وتفكر ميديا فيما ارتكبته من أخطاء، وتنطق بفقرة من أشهر فقرات يوربديز التي يدافع فيها عن النساء: "لم أر بين جميع الأشياء التي تنمو ويسيل منها الدم، شيئاً تهشم كما تهشمت المرأة. إن علينا أن نقدم كل ما جمعناه من الذهب وادخرناه لهذا اليوم الوحيد، لنبتاع به حب رجل ، ولكننا نبتاع به سيداً ليتصرف في أجسامنا ! وهذا لعمري أشد ما يؤلمنا في هذا العمل المشين .ولا نعرف بعد ذلك هل سيكون هذا السيد إنساناً خيراً أو شريراً ، وذلك هو خطر يتهددنا طوال حياتنا... إن بيتها لم يعلمها أحسن وسيلة تهدي بها ذلك الشيء الذي ينام بجانبها سبل السلام. وإن التي تجد بعد جهودها المضنية الطويلة وسيلة تجعله يحسب لها حسابها، فلا ينفض عن ظهره عبأها بعنف، تعد نفسها سعيدة. أما التي تعجز من النساء عن العثور على تلك الوسيلة فلتتمن الموت. إن زوجها إذا مل رؤية وجهها في داخل المنزل غادره، وذهب إلى مكان أروح من المنزل وأحب منه إلى قلبه؛ أما هي فقد كتب عليها البقاء حيث هي، لا تقع عيناها إلا على نفس واحدة. ثم يقولون بعدئذ إنهم هم الذين يلبون نداء الحرب، على حين أننا نجلس في عقر دورنا وفي حمايتها بعيدات عن كل خطر! إن هذا لسخرية وبهتان! ولأن أنزل ثلاث مرات إلى ميدان القتال، أخوض المعارك وترسي في يدي لأحب إليَّ من أن أحمل طفلاً واحداً(86).

ثم تتبع هذه القصة انتقامها الرهيب، فترسل إلى منافستها مجموعة من الأثواب الثمينة متظاهرة بأنها تريد بذلك أن تسترضيها. وتلبس الأميرة الكورنثية أحد هذه الأثواب فتحترق بالنار؛ ويحاول كريون أن ينجيها فيحترق هو أيضاً ويموت. وتقتل ميديا أطفالها، وتخرج بجثثهم على مرأى من جيسن، وتنشد فرقة المرتلين هذه الخاتمة الفلسفية:

"لزيوس في السماء ردهات ملأى بالكنوز يفرق منها على بني الإنسان مصائرهم القريبة من خير وشر لم يكونوا يرجونه أو يرهبونه. فأما الغاية التي كانوا يتطلعون إليها فلا ينالونها؛ فهناك طريق لم يفكر أحد فيه! ذلك ما حدث في هذا المكان".

وتدور سائر المسرحيات في الغالب حول قصة طروادة. ففي مسرحية هلن نرى القصة كما رواها استسكورس Stesichorus وهيرودوت(87)؛ فملكة إسبارطة حسب هذه الرواية لا تفر مع باريس إلى طروادة، بل تنقل رغم إرادتها إلى مصر، حيث تنتظر مجيء زوجها دون أن يعتدي أحد على عفافها؛ ويقول يوربديز إن بلاد اليونان كلها قد خدعتها خرافة هلن في طروادة. وفي مسرحية إفجينيا في أوليس يغمر يوربديز قصة تضحية أجممنون بفيض من العواطف لم تعهد من قبل في المسرحيات اليونانية، وبطائفة من أشنع الجرائم التي دفع الناسَ إليها دينُهم القديم. وكان إسكلس وسفكليز قد كتبا أيضاً في هذا الموضوع، ولكن مسرحياتهما لم تلبث أن نسيت وطغى عليهما سناً من المسرحيات الحديثة. وفي هذه المسرحية ينظر يوربديز إلى قدوم كليتمنسترا وابنتها نظرة عطف وحنان، ويظهر أرستيز "وهو لا يزال بعد طفلاً رضيعاً لا يستطيع الكلام" ليشهد خرافة القتل التي تقرر مصيره فيما بعد. وترى الفتاة يجللها الخفر وتغمرها السعادة وهي تهرول لتحيي الملك:

إفجينيا: ما أشد شوقي يا أبتاه إلى أن أرتمي على صدرك بعد هذا


الغياب الطويل؟ وأرجو ألا يغضبك أنني قد سبقت غيري

إليك- لأني مشتاقة إلى طلعتك.... ولأنك يسرك كل

السرور أن تراني. ولكن لم أراك مهموماً محزوناً؟

أجممنون: إن الملوك والقادة كثيرو الهموم.

إفجينيا: لتكن هذه الساعة لي- هذه الساعة لا أكثر. لا تستسلم للهموم!.

أجممنون: سأكون كلي لك؛ فلا تتشتتي يا أفكاري. . .

إفجينيا: ومع هذا- ومع هذا- فإني أرى الدموع تترقرق في عينيك!

أجممنون: نعم، لأن الغياب في المستقبل سيطول.

إفجينيا: لست أعرف، لست أعرف، يا أبتي العزيز ماذا تقصد؟

أجممنون: إن فطنتك الرشيدة تضاعف أحزاني.

إفجينيا: سأنطق إذن بالسخف لأدخل السرور على قلبك(88).

وحين يقبل أخيل تتبين أنه لا يعرف شيئاً عن زواجهما المزعوم، بل تعرف بدل هذا أن الجيش قد طال انتظاره للتضحية بها؛ فتلقي بنفسها على قدمي أجممنون وتتوسل إليه أن يبقى على حياتها: لقد كنت أولى أبنائك- وأولى من قال لك يا أبت، وأولى من جلس على ركبتيك من أطفالك؛ وتبادلت وإياك الحديث في مسرات الحياة. وهذا ما كنت تقوله لي: "أي بنيتي العزيزة، هل يقدر لي أن أراك ممتعة سعيدة في بيت سيدك وزوجك الخليق بك؟" واحتضنت لحيتك التي أمسك بها الآن متوسلة، وأجبتك بقولي: "وأنا الأخرى سأرحب بك يا أبت، حين يبيض شعرك من طول السنين، في داخل بيتي الحلو الجميل، وسأجزيك على حبك إعزازاً وتكريماً". هذا كنا ما نتحدث عنه، أذكره جيداً، ولكني أراك تنساه وتريد أن تقضي على حياتي"(89). وتندد كليتمنسترا باستسلام أجممنون لهذه الطقوس الوحشية، وتتوعده بعبارات تحتوي على الكثير من المآسي: "لا تضطرني إلى الغدر بك"، وتشجع أخيل على ما يبذله من الجهد لإنقاذ الفتاة، ولكن إفجينيا تغير رأيها وتأبى أن تهرب:

استمعي يا أماه إلى ما خطر ببالي وأنا أقلب الفكر في أمري:

لقد اعتزمت أن أموت، ويسرني أن أموت هذه الميتة المجيدة- وأن أبعد عني جميع الأفكار الدنيئة ... إن هلاس العظيمة كلها تتطلع إلي، وما من أحد غيري يستطيع أن يمد إليها يداً ويسدي إليها تلك النعم: فتسير سفنها، وتهزم فيريجيا عدوتها، وتنقذ بناتها من البرابرة في أيامها المقبلة، حتى لا يستطيع الناهبون أن يختطفونهم من بيوتهن ويقضوا بذلك على سعادتهن، بعد أن يعاقب باريس على اعتدائه وهلن على ما جللت به نفسها من عار. كل هذا الخير ستناله البلاد بموتي، وسيكون اسمي مباركاً محوطاً بالإجلال لأني وهبت الحرية لهلاس (90).

وحين يقبل الجنود ليأخذوها تأمرهم بألا يمسوها بأيديهم وتسير طائعة مختارة إلى كومة وقود التضحية. وفي مسرحية هكيبا تضع الحرب أوزارها، ويستولى اليونان على طروادة، ويقتسم المنتصرون الأسلاب. وترسل هكيبا زوجة بريام بوليدورس أصغر أبنائها ومعه كنز من الذهب إلى بولمنستر Polymnestor ملك تراقيا وصديق بريام. لكن بولمنستر يطمع في الذهب فيقتل الغلام ويلقي بجثته في البحر، فتقذفها الأمواج فوق ساحل إليون. وتحمل إلى هكيبا. وفي هذه الأثناء يمنع شبح أخيل الميت الريح من أن تدفع الأسطول اليوناني إلى بلاده، حتى يضحي له بيولكسينا Polyxena أجمل بنات بريام. ويأتي تلثبيوس Talthybius رسول اليونان إلى هكيبا ليأخذ منها الفتاة، فيجدها ملقاة على الأرض منفوشة الشعر ذاهلة، وقد كانت منذ قليل ملكة مكرمة، ينشد أبياتاً من الشعر تدل على تشكك يوربديز:

ماذا أقول يا زيوس؟- أأقول إنك تنظر إلى الخلق؟ أم إلى قولنا إن هناك جيلاً من الآلهة ليس إلا وهماً وخداعاً كاذباً نستمسك به ولا يجدينا نفعاً، وإن المصادفة دون غيرها هي التي تسيطر على جميع مصائر البشر؟(91). والفصل التالي في المسرحية المركبة هو المرأة الطروادية. وقد مثلت هذه المسرحية الجزئية في عام 415، بعد أن دمر الأثينيون ميلوس في عام 406 بزمن قليل، وقبيل الحملة التي سيرت إلى صقلية للاستيلاء عليها وضمها إلى الإمبراطورية الأثينية. وكانت هذه هي اللحظة التي روع فيها يوربديز بالمذبحة التي وقعت في ميلوس، وبالنزعة الاستعمارية الوحشية التي دفعت الأثينيين إلى مهاجمة سرقوصة، فجرؤ على الجهر بدعوة حارة إلى السلم، صور فيها ما حدث تصويراً جريئاً على أنه انتصار من وجهة نظر المغلوبين، وكان تصويره هذا "أعظم تشهير بالحرب في الأدب القديم"(92). وهو يبدأ حيث ينتهي هومر- بعد الاستيلاء على طروادة. فالطرواديون ملقون على الأرض بعد مذبحة جامعة، ونساؤهم قد ذهب الروع بعقولهن، وهن يخرجن من مدينتهن المخربة ليكن سبايا للغالبين. وتقبل هكيبا مع ابنتيها أندرمكي وكسندرا بعد أن ضحى بحياة بولكسينا، ويأتي تلثيبيوس ليأخذ كسندرا إلى خيمة أجممنون. وتسقط هكيبا على الأرض من فرط الحزن، وتحاول أندرمكي أن تواسيها، ولكنها هي الأخرى يغلب عليها الجزع حين تضم الأمير الصغير أستياناكس Astyanax إلى صدرها وتذكر أباه الميت. أندرمكي:... ولقد شددت وتر قوسي من زمن بعيد وصوبت سهمي نحو حسن سمعتي، وأدركت أن سهمي قد أصاب هدفه، ومن أجل هذا فأنا بعيدة كل البعد عن السلام. لقد أحببت من أجل هكتور كل ما يثني عليه الرجال فينا، وبذلت جهدي في الوصول إليه. لقد عرفت أن التجوال في خارج البلاد يسيء إلى سمعة المرأة سواء أصابها شر في هذا التجوال أو عادت منه بريئة طاهرة، ومن أجل هذا قمعت في نفسي هذه الرغبة، وكان تجوالي في حديقة بيتي، ولم تدخل قط من باب داري ألفاظ النساء المستهترة أو أحاديثهن المرحة. وتحدثت إلى قلبي، ولم أكن أبغي ذلك الحديث، فسعدت به. وكثيراً ما لزمت الصمت وأسبلت العين حين كان هكتور يحييني، وحرصت كل الحرص على أساليب الحياة الطيبة وعرفت أين أرشد، وأين أطيع...

ولقد قال الناس إن ليلة واحدة تذلل المرأة وتلقيها في أحضان الرجل. فيا للعار، يا للعار! أي شفتين هاتين اللتين توردان المرأة موارد الهلكة وتسمحان للغريب أن يقبلهما؟. إن أنثى الحيوان الأعجم، إن المهرة، لا تجري خالية من الهموم إذا كان رفيقها بعيداً عنها... أي هكتور! يا أحب الناس إليّ، لقد كنت زوجي، وكنت كل شيء لي، كنت أميري، وحكيمي، يا أشجع الشجعان! إن رجلاً ما لم يمسني أو يقترب مني من يوم أن أخذتني من دار أبي وجعلتني زوجة لك... وها أنت ذا قد مِتَّ وقذفت بي الحرب إلى الرق وعيش المذلة في هلاس وراء البحار الكريهة!.

وتفكر هكيبا في يوم انتقام بعيد فتأمر أندرمكي أن ترضى بسيدها الجديد لعله يسمح لها أن تربي استياناكاس، حتى يستطيع في يوم من الأيام أن يعيد بيت بريام ومجد طروادة. غير أن اليونان كانوا قد فكروا هم أيضاً في هذا، ويقبل تلثبيوس ليعلن أن استياناكاس لابد أن يموت : "لقد قرروا أن يلقي ولدك من فوق سور طروادة العالي ذي الأبراج". وينتزع الطفل من بين ذراعي أمه، وتتشبث به أندرمكي إلى آخر لحظة وتودعه وداعاً حاراً وعقلها مشتت مضطرب:

الق الموت يا أحب الناس إليّ وأعزهم عليّ، بأيدي رجال قساة غلاظ الكباد، واتركني وحيدة في هذا المكان؛ لقد كان أبوك شجاعاً مقداماً، ومن أجل هذا يقتلونك...ولا تجد من يرحمك!...ألا أيها المخلوق الصغير الذي تتلوى بين ذراعي، ما أزكى هذه الرائحة التي تنبعث من حول عنقك! أيها الحبيب أعبثاً ضمك هذا الصدر وغذاك، وهل إلى غير غاية قضيت الليالي قلقة أسهر عليك في مرضك حتى أضناني السهر؟ قبلني قبلة واحدة لن تتكرر بعد ذلك أبداً. امدد ذراعيك وارفع نفسك حول عنقي، قبلني الآن وضع شفتيك فوق شفتي...آه أيها اليونان الظرفاء، لقد عثرتم على نوع من العذاب لم يعرف مثله الشرق من قبل!...أسرعوا خذوه، جروه، ألقوه من فوق الأسوار، إن كنتم تريدون أن تلقوه من فوقها! مزقوه أيها الوحوش، عجلوا! لقد خارت عزيمتي فلست أقوى على رفع يدي لأنجي طفل من الهلاك.

ثم تأخذ في الهذيان، ويغشي عليها، ويخرج بها الجند، وحينئذ يظهر منلوس، ويأمر جنوده أن يأتوا بهلن، وكان قد أقسم ليقتلنها، وترتاح هكيبا حين تفكر أن هلن ستلقى آخر الأمر جزاءها: أباركك يا منلوس، أباركك إن أنت قتلتها! ولكن حذار أن تنظر إلى وجهها لئلا تأسرك فتخر صريعاً!. وتدخل هلن، لم يمسسها أحد بسوء. ولا تخش أن تمس بسوء، تزهو إذ تشعر بأنها جميلة.

هكيبا: هل أتيت الآن مزدانة الصدر والجبين، وهل تتنفسين مع سيدك ما يتنفسه من هواء، أنت يا ذات القلب الخبيث، فليطأطأ رأسك، ولينفش شعرك، ولتمزق أثوابك، فلن يكون من تحتها شيء يرفع من شأنك، بل سيكون من داخلها ما يجللك العار لما ارتكبت من الآثام. كن صادق العزم أيها الملك، وضع على جبين هلاس تاج العدالة؛ اقتل هذه المرأة...

منلوس: صه، أيها العجوز صه... (ثم يلتفت إلى الجند):

أعدوا لها سفينة كبيرة متعددة الحجرات تجوب فيها البحار....

هكيبا: إن من أحب مرة سيظل محباً على الدوام.

وحين تخرج هلن ويخرج منلوس يعود تلثبيوس يحمل جثة أستياناكس القتيل!.

تلثبيوس: لقد سحرت أندرمكي...هذه الدموع في عيني وهي تبكي بلادها من وراء البحار. لقد نظرت إلينا، وأخذت تتحدث إلى قبر هكتور، وترجو أياً كان ما نفعله به ألا نغفل المراسم المرعية في دفن هذا الطفل...وأمرتني أن ألفه في أربطة الموت وأثوابه وأن أضعه بين يديك...(تأخذ هكيبا الطفل). هكيبا: آه! أي موت لاقيت أيها الصغير!...أيها الذراعان الرقيقان. إن صورتكما العزيزة لهي بعينها صورة ذراعيه...ويا أيتها الشفتان اللتان يشع منهما الكبرياء، لقد انطبقتما إلى أبد الدهر! ماذا كانت تلك الكلمات الكاذبة التي نطقت بها وأنت تحبو إلى فراشي؟ لقد ناديتني بأسماء رقيقة وقلت لي: أي جدتي، سأقص شعري حين تموتين وأركب على رأس القواد إلى قبرك". لم خدعتني هذا الخداع؟ وهاأنذا، العجوز، الطريدة، الثكلى، أبكيك بالدمع الغزير، أبكي طفولتك وأبكي ميتتك التعسة. أي إلهي! وأبكي خطاك حين تجيء لترحب بي، وأبكي جلوسك في حجري، وأبكي رقادنا معاً! لقد ذهب كل هذا ولن يعود. وكيف يستطيع شاعر أن ينحت شاهد قبرك ليقص قصتك صادقة؟

"هنا يثوي طفل خافه اليونان، فقتلوه لأنهم خافوه". نعم، وستبارك بلاد اليونان بأجمعها القصة التي يقصها ذلك الشاهد.

ألا ما أشد غرور الإنسان، إنه يتباهى بمسراته ولا يخاف شيئاً، ومن حوله صروف الزمان ترقص رقص البلهاء في الريح!....(تلف الطفل في أكفانه).

إن أحسن الثياب الفريجية التي كنت أحتفظ بها ليوم زواجك بإحدى ملكات الشرق بعد أن جبت البلاد القاصية للبحث عنها، إن هذه الثياب تلفك الآن إلى أبد الدهر(93)... وفي مسرحية إلكترا نرى الموضوع القديم قد خطا خطوات إلى الأمام فأجممنون قد مات، وأرستيز في فوسيس، وإلكترا قد زوجتها أمها بفلاح يخلص لها إخلاصاً ساذجاً، ويرهب أصلها الملكي أشد رهبة، ولا يؤثر في إخلاصه لها ورهبته إياها طول تفكيرها في أمرها وإهمالها شئونه. وبينما هي تفكر هل يعثر عليها أرستيز ويأتي إليها إذ يأمره أبلو نفسه (ويؤكد يوربديز هذه النقطة ويحرص على إبرازها) بأن يثأر لموت أجممنون. وتستفزه إلكترا، وتقول إنه إذا لم يقتل السفاح فستقتله هي، ويبحث الصبي عن إيجسثس ويقتله ثم ينقلب على أمه. وتبدو كليتمنسترا هنا عجوزاً شمطاء، ذليلة، منهوكة القوى، ويؤنبها ضميرها على جرائمها، يتنازع قلبها خوف الأطفال الذين يكرهونها وحبها إياهم في نفس الوقت، وتطلب الرحمة في غير توسل، وترضى إلى حد ما بما جوزيت به على ذنوبها. وحين ينتهي القتل يرتاع أرستيز من هول ما حدث ويقول: شقيقتي، هل لمستها مرة أخرى، واحسرتاه غطي جسدها، وضعي عليه ثوبها الجميل، وسدي هذا الجرح الأحمر المميت. أي أماه، هل كانت نتيجة آلامك أن ولدت قاتلك(94)؟.

ويسمي يوربديز الفصل الخامس من فصول المسرحية إفجينيا في توريس أو إفجينيا بين التوريين. وفيه يبدو أن أرتميس قد وَضعت على كومة الحريق في أوليس غزالة بدل ابنة أجممنون، واختطفت الفتاة من اللهب، وجعلتها كاهنة في معبد أرتميس بين التوريين أنصاف الهمج سكان القرم. وكانت عادة التوريين أن يضحوا للآلهة بكل غريب تطأ قدمه بلادهم، وتقوم إفجينيا بدور العاملة البائسة الشقية التي تقدم الضحايا. وكانت الثمان عشرة سنة المليئة بالأحزان التي قضتها خارج بلاد اليونان قد بلدت ذهنها، وكان أبلو قد وعد أرستيز على لسان الوحي أن ينزل السكينة على قلبه إذا انتزع من التوريين صورة أرتميس المقدسة وجاء بها إلى أتكا. ويبحر أرستيز وبيلاديز ويصلان آخر الأمر إلى أرض التوريين، ويقبلهما هؤلاء الناس ويرونهما هدية طيبة أهداها البحر إلى أرتميس، ويسرعون بهما ليذبحوهما على مذبحها. وتنتاب أرستيز نوبة عصبية يخر على أثرها مغشياً عليه عند قدمي إفجينيا، وهي، وإن كانت لا تعرفه، تأخذها الشفقة عليه حين ترى رفيقين في نضرة الشباب يساقان إلى الموت:

إفجينيا: إن أحداً من الناس لم يعط علم بداية أحزانه أو نهايتها؛ ذلك أن اللّه خفي، وأساليبه كلها تخفيها المصادفات العمياء عنا فلا نعرفها. ألا أيها الرجلان الشقيان، من أين جئتما؟...ومن أمكما؟ ومن أبوكما؟ أفصحا أيها الغريبان، ومن هي أختكما إن كانت لكما أخت؟ ولم تتركانها من غير أخوة وكلاكما في ميعة الصبا ونضرة الشباب وشجاعته...؟

أرستيز: ألا ليت يد أختي تسبل عيني وأنا مسجي على فراش الموت!

إفجينيا: وا أسفاه، إنها تعيش تحت سماوات بعيدة، ودعاؤك أيها الشقي لا يجديك نفعاً. ولكنك من أرجوس، ومن أجل هذا فسأقدم لك كل ما في وسعي من عناية، ولن أضن عليك بشيء منها. سآتيك بثياب ثمينة تدفن فيها، وبزيت يبرد كومة حريقك حين يلفها اللهب الذهبي، وسألقي عليها الشهد الذي جمعه النحل الطنان من آلاف الأزهار الجبلية لكي يفنى معك في وسط العبير.

وتعدهما بأن تنجيهما إذا حملا معهما إلى أرجوس رسالة تأمرهما بأن ينقشاها في ذاكرتهما. إفجينيا. قولا "لأرستيز بن أجممنون إن التي قتلت في أويس، والتي فقدتها بلاد اليونان ولكنها لا تزال حية، إن إفجينيا تبعث إليه السلام".

أرستيز: إفجينيا! أين هي؟ أعادت من بين الأموات؟

إفجينيا: أنا هي! ولكن لا تتكلم حتى لا تفسد عليّ تدبيري. "خذني يا أخي إلى أرجوس قبل أن أموت".

ويريد أرستيز أن يضمها بين ذراعيه، ولكن الحراس يمنعونه، لأن كاهنة أرتميس لا يصح أن يمسها إنسان. ويعلن أنه أرستيز، ولكنها لا تصدقه فيقنعها بأن يذكر لها القصص التي روتها لهما إلكترا. إفجينيا: أهذا هو الطفل الذي عرفته، الطفل الصغير قد انتقل خفيفاً كما ينتقل الطير؟. أي أرض أرجوس، أيها الموقد، أيها اللهب المقدس الذي أشعلك سكلوبس الشيخ؛ إني أباركك لأنه عاش، ولأنه نما، وصار ضياء وقوة، أخي وابن أبي، إني أبارك اسمك إلى أبد الدهر(95).

ويعرضان عليها أن ينجياها من أسرها، وتساعدهما هي على أن يأخذا صورة أرتميس. ويستطيعان بحيلتها الماهرة أن يصلا آمنين إلى سفينتهما، ويحملان التمثال إلى برورون Brauron. وفيها تصير إفجينيا كاهنة، وتصبح بعد موتها إلهة معبودة. ويتخلص أرستيز من ربات الانتقام، وينعم بالطمأنينة والسلام بضع سنين، وتروي الآلهة غليلها وتتم مسرحية أطفال تنتالوس.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

2- يورپيدس الكاتب المسرحي

لا مناص لنا من أن نوافق أرسطاطاليس على أن هذه المسرحيات، إذا نظرنا إليها من ناحية الفن المسرحي، لا تصل إلى المستوى الذي وضعه له إسخيلوس وسفكليز(96). نعم إن مسرحيات ميديا، وهبوليتس، والباخيات قد رسمت لها خطة محكمة، ولكن هذه المسرحيات نفسها لا يمكن مع ذلك أن توازن من حيث سلامة التركيب والبناء بمسرحية أرستيا، أو من ناحية الوحدة المعقدة بمسرحية أوديب الملك. ذلك أن يوربديز لا يثب دفعة واحدة إلى الحادثة الهامة في المسرحية فيعرضها ثم يفسر بعدئذ مقدماتها تفسيراً تدريجياً طبيعياً في سياق القصة، بل نراه يستخدم الوسيلة المصطنعة وسيلة المقدمة التمهيدية؛ بل يفعل ما هو أسوأ من هذا فيضعها على لسان إله من الآلهة. وهو لا يظهر لنا هذه الحادثة من بادئ الأمر كما يقضي بذلك فن التمثيل، بل نراه يأتي في كثير من الأحيان برسول يصفها وإن لم يكن فيها شيء من العنف. يضاف إلى هذه أنه لا يجعل الغناء الجماعي جزءاً من الحوادث التي تمثل، بل يحوله إلى عمل فرعي ثانوي، ويستخدمه لوقف تطور حوادث المسرحية بما يتضمنه من أغان جميلة على الدوام، ولكنها كثيراً ما تكون عديمة الصلة بتلك الحوادث. وهو لا يعرض ما يريد من آراء عن طريق الحادثات التي تتضمنها المسرحية، بل يعمد إلى استبدال الأفكار بالحادثات ويجعل المسرح مدرسة للتأمل والبلاغة والجدل. وما أكثر ما تعتمد حبكات مسرحياته على المصادفات "والذكريات" - وإن كانت الأفكار هنا حسنة التنظيم ومعروضة عرضاً مسرحياً صادقاً. وتختتم معظم مسرحيات يوربديز بإله ينزل من إله (كما كان يفعل بعض الكُتاب من قبله)، وتلك وسيلة لا يمكن أن نغتفرها له إلا إذا افترضنا أن المسرحية الحقيقية قد اختتمت قبل هذه الحيلة الدينية، وأن إله لم ينزل إلا لكي يختتم التمثيل بخاتمة فاضلة لولاها لكان في نظرهم شائناً فاضحاً(97). وقد استطاع عظماء الكتّاب الإنسانيين دون غيرهم أن يعرضوا بهذه الوسيلة مروقهم وإلحادهم على المسرح.

أما مادة المسرحية فهي، كصيغتها وشكلها، خليط من العبقرية والصناعة، وسبب ذلك أن أهم ما يمتاز به يوربديز هو الإحساس المرهف كما يجب أن يكون سائر الشعراء. وهو يحس بمشاكل الجنس البشري إحساساً قوياً ويعبر عنها تعبيراً مؤثراً عظيم الوقع في النفوس؛ ومآسيه أشد المآسي فجائع وهو أعظم كتابها إنسانية، ولكن إحساسه يكون في أغلب الأحيان مفرطاً في الحنو أو متكلفاً له؛ و "إذرافه الدمع السخين"(98) أيسر مما يجب أن يكون؛ وهو لا يدع فرصة تفلت منه ويستطيع أن يظهر فيها أماً تفارق طفلها، وينتزع كل ما يستطيع انتزاعه من العواطف من كل موقف من المواقف. وتلك المناظر دائمة الحركة، وهو يصفها في بعض الأحيان بقوة لا تعادلها قوة أي وصف من المآسي قبله أو بعده، ولكنها تنحط أحياناً إلى التمثيل الشجوي الغنائي وتتخم بالعنف والرعب كما ترى في خاتمة مسرحية ميديا. وقصارى القول أن يوربديز في بلاد اليونان هو بيرن، وشلي، وهوجو، مجتمعين، وهو بمفرده حركة إبداعية كاملة.

وهو يفوق منافسيه في تصوير الشخصيات، ويحل عنده التحليل النفسي، أكثر مما يحل عند سفكليز نفسه، محل تصاريف القضاء. وهو لا يمل من تقصي القوانين الأخلاقية والبواعث التي تحدد سلوك بني الإنسان. ويدرس أنواعاً مختلفة من الرجال: من زوج إلكترا الفلاّح إلى ملوك بلاد اليونان وطروادة؛ ولسنا نجد كاتباً مسرحياً غيره قد صور مثل ما صور هو من أصناف النساء المختلفة، أو صورها بمثل ما صورها هو من العطف عليها، فقد كان كل لون من ألوان الرذيلة أو الفضيلة يهمه ويسترعي انتباهه، فيصوره تصويراً واقعياً. وهو في هذا يختلف عن إسكلس وسفكليز، فقد كان هذان الكاتبان مستغرقين فيما هو عام وأبدى استغراقاً عجزا معه عن رؤية ما هو فردي ومؤقت سريع الزوال؛ وقد خلقاً بذلك أصنافاً من الشخصيات عميقة غير عادية، أما يوربديز فقد صور أفراداً أحياء، وحسبنا شاهداً على هذا أن أحداً ممن عاش قبله لم يتصور إلكترا بمثل الوضوح الذي تصورها هو به. وفي هذه المسرحيات نرى المسرحيات التي تمثل الصراع مع الأقدار تتخلى عن مكانها شيئاً فشيئاً إلى المسرحيات التي تمثل الموقف والأخلاق، وهي تمهد السبيل للمسلاة الخلقية التي استحوذت في القرن التالي على المسرح اليوناني على أيدي فلمون Philemon، ومنندر Menander.

3- يورپيدس الفيلسوف

لكن من السخف أن يكون أهم ما نقدر به يوربديز هو مسرحياته، ذلك أن أهم ما يعنى به لم يكن الفن المسرحي، بل كان البحث الفلسفي والإصلاح السياسي؛ فهو وليد السوفسطائيين، وشاعرة الاستنارة، وممثل الشباب المتطرف الذي كان يسخر من الأساطير القديمة، ويرنو بطرف إلى الاشتراكية، ويدعو إلى نظام اجتماعي جديد يقل فيه استغلال الرجال للرجال والرجال للنساء، واستغلال الدولة لهؤلاء وأولئك؛ وهذه النفوس الثائرة هي التي كان يكتب لها يوربديز؛ وهي التي كان من أجلها يضيف إلى مسرحياته تلك الغمزات المتشككة، ويحشر مئات الضلالات بين سطور مسرحياته الدينية المزعومة، وهو يغطي هذه وتلك بفقرات مليئة بعبارات التقي والصلاح وبالأغاني الوطنية. وكان يعرض الأساطير المقدسة بحرفيتها فيبدو ما فيها من سخافات وأباطيل واضحاً جلياً، ومع ذلك فإن أحداً لا يستطيع أن يتهمه بالمروق من الدين؛ وهو يدعو في مسرحياته بوجه عام إلى التشكك في الآلهة والدين، ولكنه يوجه ألفاظها الأولى والأخيرة إلى الآلهة. ويرجع بعض ما يمتاز به من الدهاء والذكاء، كما يرجع دهاء رجال دوائر المعارف الفرنسيين وذكائهم، إلى أنه قد أرغم على أن يفصح عن آرائه وهو يحاول إنقاذ حياته. ولقد كان شعاره هو شعار لكريشيوس:

Tantum religio potuit suader emalorum. ما أكثر الشرور التي يدفع إليها الدين: نبوءات تولد العنف في أثر العنف، وأساطير ترفع من شأن الفساد الخلقي بما تضربه من أمثلة قدسية، وما تعلنه من رضاء الآلهة عن الخيانة والزنا، والتلصص، والتضحية بالآدميين، والحروب. وهو يصف العراف بأنه "رجل ينطق بقليل من الحقائق وكثير من الأباطيل"(99) ؛ ويقول: إن "من البلاهة المحضة" تعرف المستقبل بالفحص عن أحشاء الطير(100)؛ ويندد بجميع الوسائل التي تستخدم لمعرفة الغيب واستنزال الوحي(101)؛ وأهم من هذا كله أن يستنكر أشد الاستنكار ما تؤدي إليه الخرافات الرائجة من نشر الفساد ويقول:

سيدرك الناس أن لا وجود لآلهة، وأن لا ضوء في السماء، إذا كان الباطل سيغلب الحق في آخر الأمر...لا تقل إن في السماء زانياً وزانية، وآلهة مسجونين وآلهة سجانين: لقد أحس قلبي من زمن بعيد أن هذه خسة ودناءة، ولن أتحول قط عن هذا الإحساس ... إنما هذه كلها أقاصيص كاذبة، شأنها شأن الحفلات الهمجية التي تقام لتنتالوس، وللآلهة التي تمزق أجساد الأطفال. إن هذه الأرض أرض السفاحين قد خلعت على الآلهة ما تتصف به هي من جشع وشهوانية. والشر ليس مقره في السماء... وهذه كلها أقاصيص ميتة آثمة من اختراع المغنين(102).

وتراه أحياناً يقلل من حدة هذه الفقرات بترانيم لديونيشس أو مزامير دينية للآلهة مجتمعة، ولكنه في بعض الأحيان ينطق إحدى شخصياته بتشككه في الآلهة جميعها:

هل في الناس من يقول إن في السماء آلهة؟ كلا! ليس في السماء آلهة، ليس فيها آلهة، لا تسمحوا لأحد هؤلاء الحمقى الذين غرتهم هذه الخرافات الباطلة أن يخدعكم ويضللكم هذا الضلال. انظروا إلى الحقائق في ذاتها، ولا تثقوا بكلماتي أكثر مما تستحق أن يوثق بها؛ إني أصارحكم أن الملوك يقتلون، وينهبون، ويحنثون في أيمانهم، ويخربون المدن زوراً وغدراً، ولكنهم رغم هذه الآثام أسعد حالاً من الذين يحيون حياة هادئة ملؤها التقي والصلاح(103).

وهو يبدأ مسرحية ميلانبي المفقودة بهذين البيتين اللذين يثيران أعظم الدهشة: أي زيوس، إن كان ثمة زيوس، لأني لا أعرف عنه إلا ما يقوله الناس فيه.

ويقال إن النظارة حين سمعوا هذا القول هبوا واقفين احتجاجاً عليه، وهو يختم هذه المسرحية بقوله: والآلهة الذين يعدهم البشر حكماء، ليسوا أكثر وضوحاً من أحلام مجنحة؛ ولا تختلف أساليبهم عن أساليب الآدميين، فهي كلها فوضى واضطراب يتلوه اضطراب. ومن أراد أن يكون أقل الناس عذاباً، وألا تعمى بصيرته كما يعمى الكهنة بصائر البلهاء، يمض إلى الموت الذي يعرفه من يعرفونه(104).

وهو يعتقد أن مصائر الناس نتيجة لأسباب طبيعية، أو للمصادفات العمياء، وليست من تدبير قوى عاقلة مفكرة تتصف بها كائنات تسمو على الكائنات البشرية(105)، ويفسر بعض ما يظنه الناس معجزات تفسيراً يستند إلى العقل والمنطق: فيقول مثلاً إن ألستيز لم تمت حقاً، بل أخذت لكي تدفن حية، ولكن هرقل أدركها قبل أن تموت(106). وهو لا يقول لنا صراحة ما يعتقده هو نفسه في هذا، ولعل منشأ ذلك هو شعوره بأن ما يورده من الشواهد لا يؤدي إلى الاعتقاد الواضح؛ لكن عباراته التي هي أكثر ما يمتاز بها عن غيره هي العبارات الدالة على الإيمان بوحدة الوجود، وعلى العقيدة التي أخذت من ذلك الوقت تحل عند المتعلمين من اليونان محل عقيدة الشرك القديمة:

"يا صاحب الأساس العميق الذي يقوم عليه العالم، ويا ذا العرش الرفيع الذي يعلو على العالم، أياً كنت، يا من لا نعرفك ويصعب علينا أن نتصورك، يا منسق الموجودات، ويا عقل عقولنا؛ إليك يا اللّه أرفع صوتي بالثناء، لأني أرى فيك السبيل الصامتة التي تأتي بالعدالة، قبل أن يصل إلى نهاية أجله كل من يحيا ويموت(107).

والعدالة الاجتماعية هي النغمة الصغرى في أغانيه؛ وهو يتمنى، كما يتمنى جميع من امتلأت قلوبهم عطفاً على الخلق، أن يحين الوقت الذي يكون فيه الأقوياء أكثر مم هم عطفاً على الضعفاء، والذي يقضي فيه على أسباب البؤس والنزاع(108)؛ وتراه حتى في أيام الحرب، وما تستلزمه من إثارة الروح الوطنية والحماسة للقتال، يصف مصائب الحرب وأهوالها وصفاً واقعياً لا يخفى فيه شيئاً هذه الأهوال: كيف تعمى عيونكم يا من تدكون المدن، وتخربون المعابد، وتدمرون القبور، تلك الأحداث المحرمة التي يثوي فيها الموتى القدامى؟ ألا تعلمون أنكم عما قريب ستموتون(109)؟.

ويمتلئ قلبه حسرة حين يرى الأثينيين يقاتلون الإسبارطيين، وتدوم الحرب بينهم خمسين عاماً، يستعبد فيها بعضهم بعضاً، ويهلك فيها خير رجالهم؛ ويدعو في إحدى مسرحياته المتأخرة دعوة حارة مؤثرة إلى السلام: "أيتها السلم؛ إنك تفيضين بالخير العميم كأنك تأتين به من نبع عميق؛ ليس في العالم كله جمال كجمالك، بل إنا لا نرى له مثيلاً حتى بين الآلهة الأخيار. إن قلبي يكاد يتفطر لطول غيابك، لقد وهن العظم مني ولم تعودي؛ وهل تكل عيناي قبل أن تريا زهرتك وجمالك؟ وهل يقضي عليّ المشيب والأحزان قبل أن تسمع أذناي مرة أخرى أغاني الراقصين الشجية ووقع أقدام من تطوق رؤوسهم أكاليل الزهر؟ ألا عودي إلى مدينتنا أيتها الحبيبة المقدسة ولا تقيمي بعيدة عنا يا من تطفئين الحقد. إن العداوات والأحقاد ستفارقنا إذا أقمت معنا وسيخرج من أبوابنا الجنون وظبا السيوف(109 أ).

ويكاد ينفرد من بين كُتاب عصره العظام بالجرأة على مهاجمة الرق. ذلك أنه قد اتضح له في أثناء حرب البلوبونيز أن معظم الأرقاء لم يكونوا كذلك بطبيعتهم، بل إنهم قد ساقتهم إلى هذه الحال ظروف الحياة وحدها؛ وهو لا يعترف بوجود أرستقراطية طبيعية، ويرى أن البيئة لا الوراثة هي التي تخلق الرجال. والأرقاء في مسرحياته يضطلعون بأدوار هامة، وكثيراً ما ينطقون بأجمل أشعاره. وهو حين يبحث حال النساء يعطف عليهن عطف الشاعر الواسع الخيال؛ فهو يعرف أغلاطهن ويعرضها عرضاً واقعياً جعل أرسطوفان يتهمه بأنه يكره النساء؛ ولكنه في الحقيقة قد عرض قضية المرأة أحسن مما عرضها أي شاعر قديم آخر أيد حركة تحريرها التي كانت وقتئذ في بداية عهدها. وتكاد بعض مسرحياته أن تكون حديثة الطابع، تحتوي على دراسات في مشاكل الجنس البشري كالدراسات التي نشأت بعد أيام إبسن Ibsen بل إنها تحتوي على دراسات في الشذوذ الجنسي نفسه(110). وهو يصف الرجال وصفاً واقعياً، أما النساء فوصفه إياهن ينطوي على كثير من الشهامة، وتنال ميديا الرهيبة من عطفه أكثر مما يناله جبسن البطل غير الوفي؛ وهو أول كاتب مسرحي جعل المسرحية تدور حول الحب؛ حتى لقد كان آلاف من شباب اليونان يتغنون بأغنيته إلى إيروس إله الحب في مسرحية إندرمدا التي لم تصل إلينا:

"أيها الحب، إلهنا، ملك الآلهة والبشر! هلا امتنعت عن تعليمنا ما هو الحب؟ أو ساعدت المحبين المساكين، الذين تشكلهم كما تشكل الطين، كي يصلوا بكدحهم وجدهم إلى غاية موفقة سعيدة"(111).

ويوربديز بطبيعته متشائم، لأن كل من يروي قصص الحب يصبح متشائماً حين تصطدم الحقيقة بالخيال، وفي ذلك يقول هوراس وولبول Horaces Walpole "إن الحياة مسلاة عند من يفكرون، ومأساة عند من يحسون"(112): ويقول شاعرنا:

لقد نظرت من أمد بعيد إلى حياة الإنسان فلم أجد إلا خيالاً أشمط. وفي وسعي أن أؤكد أيضاً أن الذين يعدون من بين الناس حكماء، شديدي الذكاء، مبتدعين لأعظم الخطط، يجزون على هذا شر الجزاء. وهل أبصرت عين اللّه مذ بدأت الحياة رجلاً واحداً سعيداً(113)؟. وهو يعجب من جشع الإنسان وقسوته، ومن الشريرين وسعة حيلتهم، ومن اختطاف الموت للناس اختطافاً دنيئاً خبط عشواء. وهو ينطق الموت في بداية مسرحية ألسيس بقوله: "أليست مهمتي أن أقبض أرواح المقضي عليهم؟"؛ ويجيبه أبلو بقوله: "لا؛ بل مهمتك أن تقبض من نضجوا ووصلوا إلى الشيخوخة الكاملة". ومن رأيه أن الموت إذا جاء بعد أن يحيا الإنسان حياته كاملة كان أمراً طبيعياً، لا يصح أن يغضب أحد منه: "لو أن كل جيل من الناس جاء في أثر الجيل الذي قبله، وازدهر ثم ذبل، ثم انقضى أجله، كما يأتي الحصاد بعد الحصاد على مر السنين، لو أن هذا حدث لما بكينا صروف الزمان وما تصيبنا به الأقدار. إن هذا هو الذي تجري به سنن الطبيعة، ومن واجبنا أن لا نبتئس بما تجعله قوانينها أمراً محتوماً لا مفر منه"(114). وينتهي أمره إلى الرواقية: "اصبر كما يجب أن يصبر الرجال، ولا تضجر"(115). وتراه من حين إلى حين يحذو حذو أنكسيمانس Anaximenes ويستبق فلسفة الرواقيين فيواسي نفسه بالتفكير في أن روح الإنسان جزء من الهواء المقدس، النيوما Pneuma، وفي أنها ستبقى بعد الموت جزءاً من روح العالم(116):

من يدري؟ لعل هذا الذي نسميه موتاً هو حياة، ولعل ما نسميه حياة هو الموت؟ وكل ما هنالك من فرق أن الناس وهم أحياء يقاسون مرارة الأحزان، فإذا ما أسلموا الروح، لم تبق لديهم أحزان، ومن ثم لا يحزنون(117).


4- يورپيدس الطريد

إن الرجل الذي نصوره من مسرحياته هذا التصوير ليشبه تمثاله الجالس في متحف اللوفر، وتماثيله النصفية في نابلي، شبهاً يحملنا على الاعتقاد بأن هذه التماثيل منقولة نقلاً أميناً عن أصول يونانية حقيقية. فوجهه الملتحي وسيم، ولكنه أضناه التفكير، ورققه الحزن الحنون. ويتفق أصدقاؤه وأعداؤه على أنه كان مكتئب الطبع يكاد أن يكون نكداً، لا يميل إلى المرح أو الضحك، وأنه قضى سنيه الأخيرة في عزلة في أرض الجزيرة التي ولد فيها. وكان له ثلاثة أبناء ذكور كانت طفولتهم سبباً فيما استمتع به من سعادة قليلة(118). وكان يجد سلواه في الكتب، ومبلغ علمنا أنه كان أول مواطن فرد في بلاد اليونان جمع لنفسه مكتبة كبيرة . وكان له أصدقاء أخيار، منهم بروتاغوراس ومنهم سقراط؛ ولم يكن ثانيهم يهتم بالمسرحيات ولكنه كان يقول إنه لا يتردد في أن يسير إلى ببريه مشياً على قدميه ليشهد مسرحية من مسرحيات يوربديز، وذلك لعمري قول خطير لصدوره من فيلسوف كبير. وكان الجيل الناشئ ممن تحررت عقولهم، من أسر التقاليد يعدونه زعيماً لهم، ولكنه كان له من الأعداء أكثر مما كان لأي كاتب آخر في تاريخ اليونان. وقد اقتصر القضاة الذين كانوا فيما نظن يرون أن واجبهم يقضي عليهم بأن يحموا الدين والأخلاق من سهام تشككه، اقتصر هؤلاء القضاة على تتويج خمس من مسرحياته بتاج النصر. ولقد كان الأركون المشرف على شئون الدين سخياً غاية السخاء حين قبل هذا العدد من مسرحيات يوربديز ضمن المسرحيات التي يجيز تمثيلها الدين. وكان المحافظون على اختلاف نزعاتهم يلقون عليه هو وسقراط تبعة انتشار نزعة الكفر بالآلهة بين شباب أثينة. وحاربه أرسطوفان من بادئ الأمر في مسرحية الأركانيين، وهجاه وصوره تصويراً هزلياً مرحاً في مسرحية الشموفريازوسي؛ وفي السنة التالية لموت الشاعر واصل هجومه عليه في مسرحية الضفادع. على أنه يقال لنا رغم هذا إن الكاتبين كاتب المآسي وكاتب المسالي، ظلا صديقين إلى النهاية(120). أما النظارة فكانوا ينددون بإلحاده ويهرعون إلى مشاهدة مسرحياته. ولما أن نطق الصياد الشاب في السطر 612 من مسرحية هبوليتس بقوله "لقد أقسم لساني، ولكن عقلي لا يزال طليقاً" احتج الجمهور احتجاجاً قوياً على ما ظنه انتهاكاً شديداً لحرمة الآداب والدين حتى اضطر يوربديز أن يقف في مكانه ويهدئ ثائرتهم بأن يؤكد لهم أن هبوليتس سيجزى على قوله هذا الجزاء الأوفى قبل انتهاء القصة - وهو وعد مأمون العاقبة يكاد يصدق على كل شخصية في المأساة اليونانية.

ووجهت إليه حوالي عام 410 تهمة المروق من الدين، ولم يمض بعدئذ إلا قليل من الوقت حتى وجه إليه هجيانون Hygianon تهمة أخرى، تتصل بالجزء الأكبر من ثروته، واستدل على خيانة يوربديز بالبيت الذي نطق به هبوليتس. وبرىء الشاعر من التهمتين، ولكن موجة السخط التي قوبلت بها مسرحية المرأة الطروادية أشعرت يوربديز أنه لم يكد يبقى له صديق واحد في أثينة. ويقال إن زوجته نفسها قد انقلبت عليه لأنه لم يشترك في حفلات الزواج الحماسية في المدينة، وما وافت سنة 408،وكان قد بلغ الثانية والسبعين من العمر، حتى قبل دعوة وجهها إليه الملك أرخلوس Archelaus لينزل ضيفاً عليه في عاصمة مقدونية. ووجد يوربديز في مدينة بلا Pella تحت حماية هذا الفردريك - ولم يكن كملك بروسيا يخشى منه على عقائد شعبية - وجد في هذه المدينة الطمأنينة والراحة، وفيها كتب مسرحية إفجينيا في أوليس التي تكاد تكون كلها من قصائد الرعاة، ومسرحية الباخيات الدينية العميقة. ومات بعد ثمانية عشر شهراً من قدومه إلى تلك المدينة، ويقول أشقياء اليونان إن موته كان نتيجة لهجوم كلاب الملك وتمزيقها جسده.

وبعد سنة من موته عرض ابنه المسرحيتين في احتفال المدينة بعيد الديونيشيا ومنحهما القضاة الجائزة الأولى. ويظن النقاد، ومنهم العلماء المحدثون أنفسهم، أن مسرحية الباخيات كانت ترضية قدمها يوربديز للدين اليوناني(122). على أنه ليس ببعيد أن يكون قد قصد بالمسرحية أن تكون قصة رمزية لما لقيه يوربديز من معاملة على أيدي الشعب في أثينة.

وتقص المسرحية كيف مزقت جماعة من النساء المتظاهرات في الحفلات الديونيشية تقودهن أجيف Agave أم بنثيوس Pentheus ملك طيبة، نقول كيف مزقت أولئك النسوة جسم هذا الملك لأنه طعن في خرافتهن الباطلة الهمجية وتدخل من غير حق في شئون حفلاتهن. ولم تكن هذه فكرة جديدة، فإن القصة من الأساطير الدينية المأثورة. وكانت أسطورة التضحية بحيوان أو تمزيق جسم إنسان إذا جرؤ على حضور هذه المواكب جزءاً من الطقوس الديونيشية. وقد ربطت هذه المسرحية القوية بين المأساة اليونانية في عنوان قوتها وبين المأساة اليونانية في بداية نشأتها، وذلك بعودتها إلى استمداد حبكتها من قصة ديونيشس. وقد ألف الشاعر هذه المسرحية بين جبال مقدونيا التي تصفها في أشعار لا تضعف قوتها، ولعله كان يقصد أن تمثل في بلا حيث كانت عبادة باخوس Bacchus ذات قوة عظيمة. وهي تدل على علم مدهش غزير بالطقوس الدينية ونشوتها؛ وفيها ينطق عباد باخوس بمزامير تدل على الخشوع والصلاح ليس ببعيد أن يكون الشاعر قد تجاوز فيها حدود العقلية، وأدرك وقتئذ ضعف العقل، وأن العواطف والشاعر لا بد منها للنساء والرجال على السواء. ولكن القصة تحيي من طرف خفي الدين الديونيشي، وموضوعها هي الأخرى هو ما قد ينشأ من العقائد الخرافية من شرور.

وتفصيل ذلك أن الإله ديونيشس يزور طيبة متخفياً في صورة باخوس أو متجسداً ويدعو إلى عبادة ديونيشس. وترفض بنات كدمس رسالته فيسلبهن وعيهن ويبث فيهن نشوة دينية قوية، فيذهبن إلى التلال ليعبدنه بالرقص الهمجي العنيف، ويرتدين جلود الحيوان. ويتمنطقن بالأفاعي، ويضعن على رؤوسهن أكاليل من الخلباب، ويرضعن صغار الذئاب والظباء، ويقاوم ملك طيبة هذه الطقوس ويقول إنها تناقض العقل والأخلاق والنظام، ويسجن الداعي إليها فيصبر على العقاب صبر المسيحيين الأولين. ولكن الإله الذي يتجلى ويفتح جدران السجن ويستعين بقوته الإلهية على تخدير الحاكم الشاب. ويلبس بنثيوس تحت هذا التأثير ثياب امرأة، ويتسلق التلال، وينضم إلى جماعة المحتفلات. وتتبين النسوة أنه رجل، فيمزق جسمه إرباً. وتحمل أمه، التي تملكتها "النشوة" فأفقدتها وعيها، رأسه المفصول في يديها ظناً منها أنه رأس أسد، وتغني عليه أغنية نصر. ثم تفيق فتدرك أنها تمسك برأس ابنها، وتشمئز من تلك الطقوس التي أسكرتها وأفقدتها وعيها، ويقول لها ديونيشس إنها سخرت منه وهو إله، وإن ذلك هو جزاؤها على هذه السخرية، فتجيبه بقولها وهل يليق بالإله أن يشبه بالرجل المتكبر في نوبة غضبه؟ والدرس الأخير الذي يلقيه علينا يوربديز في هذه المسرحية هو بعينه الذي يلقيه علينا في أولى مسرحياته، ولقد كان يوربديز في مسرحيته التي وضعها وهو يحتضر هو بعينه يوربديز الذي عهدناه في أيامه الأولى.

وذاع صيته وأحبه الناس بعد موته حتى في أثينة نفسها، وأصبحت الفكرة التي جاهد من أجلها هي الآراء المسيطرة على العقول في القرون التالية. ولما انتشرت الحضارة اليونانية خارج بلاد اليونان نفسها أخذ المتحضرون الجدد يعدونه هو وسقراط أعظم من عرفتهم بلاد اليونان من أصحاب العقول الملهمة الحافزة. ذلك أن يوربديز كان يعالج المسائل الحية لا أقاصيص الشعر الميتة، ولقد ظل العالم يذكره ولم ينسه إلا بعد زمن طويل. فقد خيم النسيان على مسرحيات من سبقوه من المؤلفين؛ أما مسرحياته فكان تمثيلها يتكرر في كل عام، وفي كل مكان أنشئ فيه مسرح يوناني. ولما أخفقت الحملة التي وجهت إلى سرقوصة (415) والتي تنبأ يوربديز بإخفاقها في مسرحية المرأة الطروادية، وواجه الأسرى الأثينيون الموت أحياء وهم يعملون عبيداً مصفدين بالأغلال في محاجر صقلية، ولما حدث هذا أطلق سراح كل من استطاع أن ينشد فقرات من مسرحيات يوربديز (كما يحدثنا بذلك بلوتارخ (123)). وقد صيغت المسلاة الجديدة على غرار مسرحياته، وتطورت منها؛ وفي ذلك يقول أحد زعماء هذه المسلاة: "لو أنني كنت واثقاً من أن للموتى عقولاً تدرك لشنقت نفسي لكي أرى يوربديز"(124). وكان إحياء فلسفة التشكك، والحرية العقلية، والنزعة الإنسانية، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كان هذه الإحياء سبباً في بعث يوربديز إلى الوجود وجعله أكثر اندماجاً في ذلك العهد من شكسبير. وجملة القول أن شكسبير وحده هو الذي كان يضارع يوربديز، وإن كان جيته يستكثر هذا على شكسبير نفسه. ومن الأسئلة التي يوجهها جيته إلى إكرمان: "هل أنجبت أمم الأرض بعد يوربديز كاتباً مسرحياً جديراً بأن يخلفه؟"(125). والجواب عن هذا أنها لم تنجب أكثر من كاتب واحد .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مكانته الأدبية

يعتبر أول شاعر مسرحي تراجيدي صور الحياة وما يجري فيها من أحداث تصويرا واقعيا،صور شخصيات مسرحياته كما هي، لا كما ينبغي أن تكون. وهذا يميزه عن زمليه إسخيلوس وسوفوكليس، اللذين صورا الشخصيات تصويرا ساميا بعيداً عن الواقع. يرجع البعض هذا التباين إلى ان يوربيديس كان يمثل أثينا الحديثة، التى أصبحت مسرحا للمساجلات الخطابية والمناقشات العلمية والفلسفية، أما إسخيلوس كان يمثل عقلية المحاربين القدماء الذين انتصروا على الفرس في معركة ماراثون ومعركة سالاميس بفضل آلهتهم،أما سوفوكليس كان يمثل عصر پركليس الذهبي. يرى البعض أن النجاح الذى حققه كان ضئيلاً بالمقارنة بحظ سوفوكليس، ويرجع ذلك أنه لم يكن محبوباً من الأثينيين.

وفاته

توفى سنة 406 ق.م.، وكان في الخامسة والسبعين من العمر، ويرجع بعض المؤرخين أن وفاته كانت بحادثة، دفن في وادي ارثوزا بمقدونيا، وقد أعقب ثلاثة أبناء كان أصغرهم سنا -كان يحمل نفس اسم والده-شاعرا وهو الذى قدم إلى التمثيل مأساة والده بعد وفاته.

تكريمه

أقامت له أثينا هيكل قبر نقشت عليه أبياتا تشهد بموهبته ومجده.

مأثورات

  • صديق وفي يساوي عشرة آلاف قريب.
  • للأب المسن، ليس هناك أغلى من ابنة.
  • المهارة ليست حكمة.
  • أعظم متعة في الأرض الحب.
  • الحب هو كل ما نملك، وكل ما يمكننا منحه للآخرين.
  • ليس بحبيب من لا يحب للأبد.
  • إذا ما خاطبت الأحمق بالعقل، سيعتبرك أحمق.
  • اسأل عن كل شيء، تعلم بعض الشيء، ولا تجب عن شيء.
  • الصمت هو أفضل رد من الحكمة الحقة.
  • عشر جنود بقيادة حكيمة سيهزمون مائة بلا رأس.
  • ليس الجمال، بل الخلال الحسنة، يا ابنتي، ما يحافظ على الزوج.
  • ليس هناك ما هو أقوى من الحاجة الماسة.
  • أفضل الأشياء وأكثرها أمناً أن تحافظ على توازن في حياتك. راعي القوى الكبرى حولك وفيك. لو استطعت ذلك، فأنت حقاً حكيم.
  • العبودية هي ألا تقول ما تفكر.
  • الثروة تبقى معنا للحظات، لو بقيت: فقط خلالنا هي التي تبقى، وليس الذهب.
  • من يهمل التعلم في الصغر، يخسر الماضي، ولا يعيش ليرى المستقبل.
  • دع الأمور تسير في أعنتها، ولا تغضب منها؛ فالحكيم من يقلـّب الأمور لأفضل أوجهها.
  • يا بني، تسامح؛ فالرجال هم الرجال، لابد أن يخطئوا.
  • الخطر يلمع كضوء الشمس في أعين الشجعان

المصادر

الخالدون من أعلام الفكر-الجزء الغربي-أحمد الشنواني-دار الكتاب العربي

ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.

للاستزادة

  • Barrett, W. S. (ed.), Euripides, Hippolytos, edited with Introduction and Commentary (Oxford: Clarendon Press, 1964; Toronto: Oxford University Press, 1964)
  • Croally, N.T. Euripidean Polemic: The Trojan Women and the Function of Tragedy. Cambridge University Press, 1994.
  • Ippolito, P. La vita di Euripide. Napoli: Dipartimento di Filologia Classica dell'Universit'a degli Studi di Napoli Federico II, 1999.
  • Kovacs, D. Euripidea. Leiden: Brill, 1994.
  • Lefkowitz, M.R. The Lives of the Greek Poets. London: Duckworth, 1981.
  • Rutherford, Richard. Euripides: Medea and other plays. Penguin, 1996.
  • Scullion, S. Euripides and Macedon, or the silence of the Frogs. The Classical Quarterly, Oxford, v. 53, n. 2, p. 389-400, 2003.
  • Sommerstein, Alan H. Greek Drama and Dramatists, Routledge, 2002.
  • Webster, T. B. L. The Tragedies of Euripides, Methuen, 1967.
  • Multispectral imaging. Oxyrhynchos online. [1] Retrieved on 28 Oct 2007.
  • Barrett, W. S., Greek Lyric, Tragedy, and Textual Criticism: Collected Papers, ed. M. L. West (Oxford & New York, 2007)

وصلات خارجية

  اقرأ اقتباسات ذات علاقة بيورپيدس، في معرفة الاقتباس.
Wikisource has original works written by or about: