نيل مصر هو القسم من مجرى النيل ، الذي ينساب إلى الشمال من موقع بلدة أسوان .

خريطة توضح نهر النيل بمصر

ولعل أهم مايلفت النظر هو اعتدال الجريان في المجرى ، الذي يتسع بشكل ملحوظ من ناحية. وظهور السهول الفيضية في استمرار وتكامل تأمين ، على جانب من جانبي النهر على الأقل من ناحية أخرى . وما من شك في أن الجريان المعتدل يتحقق بطريقة نموذجية ومثلى ، حيث يكون النهر معتدلا ، فلا هو بالريع ولا هو بالبطيء . ويمكن القول أن هذا الجريان الأمثل قد حقق فرصة هائلة فيما يتعلق بقيمة الماء واستغلاله ، من وجهة النظر البشرية . والمفهوم أن درجة الانحدار التي ادت إلى هذه الصورة المناسبة هي صور الجريان على المناسيب المختلفة ، تتراوح بين 1 : 10.000 و 1 : 14.000 . وقد ساعد هذا الانحدار – على كل حال – على إرساب الرواسب والحمولة العالقة وعل خلق وتكوين السهل الرسوبي الفيضي . كما أنه أسهم من ناحية أخرى في خلق تكوينات الدلتا ، التي ينتهي إليها الجريان النيلي صوب المصب .

ويعني ذلك أن نيل مصر يجري في حيز تتضمنه تكوينات ورواسب من صنع النهر نفسه . ويفهم ذلك على ضوء العلم بأن الرواسب التي تتضمن حيز المجرى ، قد تمخض عنها الجريان النهري النيلي في كل طور من أطوار جريانه . منذ حوالي أواخر اليوسين الأعلى إلى الوقت الحاضر . وما من شك في أن النهر قد مر بعدد من دورات النحت والإرساب ، التي أدت إلى خلق مجموعة من المدرجات النهرية على جوانب الوادي المنحوت في نهاية الأمر إلى تكوين السهل الفيضي الحالي على المناسيب الظاهرة على جانبي المجرى الحالي .

ونذكر في مجال الحديث عن السهل الفيضي أنه منتشر في انتظام واضح فيما بين أسوان إلى الموقع الذي تبدأ عنده رأس الدلتا . ومع ذلك فإن رواسب هذا السهل الفيضي ، يلتزم معظمها حاليا من جانبي النهر ، وخاصة فيما بعد ثنية قنا شمالا . ويعني ذلك أن الفيض الأكبر من رواسب النهر والفاء الحمولة العالقة بالماء يكون على جانب ، في الوقت الذي يكون النحت عاملا ونشيطا على الجانب الآخر . والمفهوم أن معظم السهل الفيضي جنوب خط عرض قنا يقع على جانب النهر الأيمن ، ويكون النحت واضحا على الجانب الأيسر ، أما شمال خط عرض قنا فإن المجرى يلتزم بالجريان على الجانب الأيسر ، ويتخلى النهر عن الوراسب والسهل الفيضي على الجانب الأيسر .

وهكذا تكون مساحات السهل الفيضي شمال خط عرض قنا على الجانب الأيمن مجرد جيوب سهلية منعزلة متفرقة ، تفصل بينها الأجزاء البارزة من حافات الوادي ، التي تقترب من جانب النهر وضفته اليمنى على شكل جروف هاوية بشكل مباشر . وقد تمزق هذه الحافات وتلك الجروف ، بعض الوديان الجافة التي تهبط من على سطح الأرض الوعرة المضرسة المنحدرة ، التي يتضمنها الحوض ويحدد امتدادها خط تقسيم المياه على جبال البحر الأحمر . وقل أنها الوديان التي إن زاد المطر أصبحت سيولا سريعة الجريان وتكاد تهلك الحرث والنسل .

ويمكن القول أن هذه الوديان تعبر عن صورة من صور الروافد النهرية التي كانت تمد الجريان النيلي بالفائض في كل عصر من عصور زيادة المطر من أواخر الميوسين الأعلى . أما السهول الفيضية على الجانب الأيسر فهي عريضة واسعة ، بقدر ما هي متصلة على طول امتداد المجرى ، وهي تنتشر صوب الغرب إلى أقصى امتداد تتخلى عنه الحافة الغربية للوادي المنحوت . ويمكن القول أن هذه الحافة لاتقع على مسافات كبيرة من الحد الغربي ، الذي يحدد أرض حوض النيل ، ويفصل بينها وين أرض مجموعات الأحواض والمنخفضات ، التي تتضمنها الحصراء الغربية في غرب مصر . والمفهوم أن هذا لحد يمر على مقربة من وادي النيل ، ومع ذلك فإنه ينفرج فجأة لكي يتضمن حوض منخفض الفيوم .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مجرى النيل في مصر

 
قارب شراعي في نيل مصر بالقرب من أسوان.

يجري النيل بين أسوان والبحر الأبيض المتوسط بإنحدار يتراوح بين متر واحد لكل 15 كيلومترا من المجرى عند منطقة قنا إلى متر واحد لكل 11.4 كيلومتر عند منطقة بني سويف ويقطع النهر مجراه خلال هذه الرحلة في رواسبه التي بناها بنفسه وتكونت عاماً وراء آخر في واديه وهي الرواسب التي إنقطع وصولها بعد بناء السد العالي ويتفرع النهر إلى الشمال من القاهرة إلى فرعي دمياط ورشيد اللذين يشقان دلتا النهر في الوقت الحاضر أما في الماضي فقد كا للدلتا عدد أكبر من الفروع كان أقصاها شرقاً الفرع البيلوزي الذي كان يصب إلى الشرق من بورسعيد في سيناء كما كان أقصاها غرباً الفرع الكانوبي الذي كان يصب إلى الغرب من الإسكندرية.


دلتا النيل

أما دلتا النيل التي تمثل صورة من صور الإرساب النهري ، فإنها نموذج من النماذج التي تعبر عن صورة من صور التكامل القائم بين عدد من العوامل . والمفهوم أن بعض هذه العوامل يرتبط بالجريان النيلي ، وما يطرأ عليه من تغيرات من حيث الكمية ومن حيث المناسيب ، وأن بعضها الآخر يرتبط بالظروف والتغيرات التي تطرأ على منسوب السطح المائي الذي ينساب إليه النهر عند المصب .

وما من شك في أن هذه العوامل قد تضافرت في خلق الدلتا وإرساب الحمولة التي أدت إلى نموها نموا سريعا ، بالشكل الذي يكاد يتفق وعلمنا بأن النيل في صورته الحالية ليس نهرا قديما من وجهة النظر الجيمورفولوجية . ويبدو ان شكل الخليج الذي يتمخض عنه تقلص ذراع البحر البلايوسيني ، وانخفاض مستوى سطح البحر في أواخر عصر البلايوسين ، قد حقق القطاع النموذجي لبناء الدلتا . ويفهم ذلك على اعتبار أنه كان يحقق الموقع المناسب لتجمع الرواسب ، كما أنه كان لايتعرض لتأثير المد والجزر أو لفعل التيارات الساحلية المنتظمة .

ومهما يكن من أمر فإن حجم الرواسب الذي أسهمت بها الروافد النهرية للنيل في أثناء العصر المطير من جبال البحر الأحمر ، ومن النوبة ، كان كبيرا ، وأسهم في ردم الخليج بشكل واضح . ثم تلى تلك حجم كبير آخر من الرواسب ، التي تمخض عنها الجريان النهري بعد الاتصال بالأحباس الحبشية والأحباس الاستوائية ، في حوالي العصر المطير الثاني أو ما يعادل البلايستوسين الأعلى . وما من شك أيضا في أن بعض الحركات الباطنية التوازنية ، قد أسهمت بدورها في نضد الدلتا واكتمال تكوينها من ناحية ، وتناقص عدد الفروع التي تتضمن الجراين النيلي عليها إلى المصب من ناحية أخرى .

وبعد تلك صورة النيل والجراين النيلي الذي يتضمن كل معنى من معاني الحياة ، وارتباطها الأصيل به منذ أن شهد تجمع البشر على ضفاته في سهولة الفيضية الطيبة . وما من شك في أن هذه الصورة قد حتمت على المنتفعين بماء النهر دراسة النهر دراسة عميقة ، من أجل إلقاء الضوء على أمور كثيرة تتعلق بالصورة في حد ذاتها ، أو بسيل تهذيب المجرى وصيانته وترويض الجريان والسيطرة عليه .


التاريخ

 
قارب شراعي في النيل، منطقة الزمالك، مصر.

إن تاريخ نيل مصر معقد وصعب البناء فهو ينبسط أساساً من معاينة مجارية القديمة وما تركته من مصاطب وسطوح ففي إرتفاعها عن النهر الحديث وفي طبيعة رواسبها وما تحتويه من حفريات أو أدوات صنعها الإنسان فهم لمسار النهر القديم وأحواله والظروف التي تكونت فيها هذه الرواسب والمنابع التي جاءت منها. ولما كان الجزء الأكبر من هذه الرواسب والسطوح التي تركها النهر تجرف بعد تكونها وتزال بالأمطار وعوامل التعرية الأخرى. فإن التاريخ الجيولوجي للنهر الذي يمكن أن يستنبط مما بقى من رواسب وسطوح هو بطبيعته ناقص يحتاج إستكماله إلى إعمال الخيال. فإذا أضفنا إلى ذلك أن جزءاً كبيراً من رواسب النهر الباقية توجد مدفونة تحت السطح بعيدة عن الفحص والمشاهدة فإننا يمكن أن نرى مقدار الصعوبة اليت يقابلها من يتصدى لمحاولة بناء تاريخ النهر . . وفي حالة نيل مصر فإن جزءاً كبيراً من رواسب النهر القديمة والمدفونة تح السطح قد أصبحت متاحة للدراسة بعد أن إخترقتها آلات الحفر التي إستخرجت الكثير من العينات من الآربار التي دقت بغرض البحث عن البترول أو بغرض إستخراج المياه الجوفية في الدلتا ووادي النيل.

ومن أكبر الصعوبات التي تقابلنا في محاولتنا حل أسرار تاريخ النيل هي عدم إستطاعتنا تأريخ رواسب النهر تأريخاً مطلقاً. فباستثناء الرواسب الحديثة جداً فإن كل الرواسب القديمة الأخرى لا تحمل أية مواد قابلة للتأريخ بالطرق الراديومترية . . كما أنه لا توجد بها طفوح بركانية أو صخور حاملة لمواد إشعاعية قابلة للتأريخ المطلق يمكن عن طريقها إيجاد سطوح معروفة التاريخ تصلح للرجوع إليها عند بناء تاريخ النهر. وتختلف رواسب النيل في ذلك عن رواسب أفريقيا الشرقية وبلاد الشام التي تتخلل رواسب عصورها الحديثة فترات من النشاط البركاني الذي تحمل طفوحه مواد قابلة للتأريخ المطلق.

وبإستثناء الرواسب الحديثة التي إستخدمت فيها طريقة الكربون المشع لتأريخها فإن كل التواريخ المعطاة لأطوار النهر القديمة هي تواريخ نسبية ومقدرة.

 
منظر من قارب رحلة نيلية بين الأقصر وأسوان، نيل مصر.

ولنعد قليلاً لكي ننظر في التاريخ الجيولوجي لمصر حتى تتكون لنا صورة واضحة عن شكلها قبل أن يصلها نهر النيل, كانت أرض مصر في ذلك الوقت مغطاة ببحر كان قد جاءها من الشمال وأخذ يزحف عليها حتى بلغ أقصى حد له في الجنوب منذ حوالي 60 مليون سنة عندما غطى مصر كلها وإمتد لكي يغطي جزءاً كبيراً من شمال السودان, وبعد ذلك التاريخ بدأ البحر يتراجع بإنتظام حتى أصبح شاطئه على خط يمتد فيما بين الفيوم وسيوة منذ حوالي 30 مليون سنة وبعد ذلك بعشرين مليون سنة أصبح شاطئ البحر قريباً من وضعه الحالي, وفي هذه الأثناء تكونت شبكة لتصريف مياه الأرض التي إنحسر عنها البحر نتيجة هذا التارجع وقد إنتهت أنهار كثيرة من أنهار هذه الشبكة في دلتاوات بقيت آثارها حتى الآن وهي مليئة ببقايا النباتات والحيوانات التي عاشت عليها أو جرفت إليها - من هذه الدلتاوات دلتا الفيوم القيدمة التي جذبت الإهتمام لأحتوائها على بقايا حيوانات فريدة من بينها أقدم القردة الإنسانية. وكذلك دلتا واحة المغرة بشرق منخفض القطارة. ولم يكشف أحد حتى الآن عن أي أثر لمجاري الأنهار التي كونت هذه الدلتاوات إذ يبدو أنها كانت ضحلة العمق كثيرة المنعطفات زال كل أثر لها بعوامل التعرية التي كسحتها بكاملها.

على النقيض من هذه الأنهار الضحلة التي زال آثارها نجد نهر النيل الذي نشأ في منخفض طولي بسطح مصر وحفر لنفسه فيه مجرى عميقاً ملأه بعد ذلك برواسبه التي حملتها مياهه فكونت فيه عموداً سميكاً من الرواسب التي مازالت محفوظة حتى الآن. وقد أصبحت هذه الرواسب التي تركها النيل وراءه وعلى طول تاريخه متاحة للدراسة بعد أن إخترقها آبار كثرة وعميقة خاصة في منطقة الدلتا.

ويستطيع المرء أن يتصور شكل القاع الذي ترسبت عليه أول رواسب الأنهار التي تتالت على مجرى النه رالحالي بدراسة الآبار الهميقة التي دقت في دلتا النيل وراء البحث عن البترول وإستخدامها لبناء مقاطع طولية وأخرى عرضية في الدلتا. والناظر إلى هذه المقاطع يرى أن قاع الدلتا لم يكن مستوياً عندما جاءها النيل وبدأ ترسيب أول الرواسب عليه فقد كان القاع الذي يمثل الجزء الشمالي من الدلتا وحتى مدينة طنطا واطئاً ومغموراً بمياه البحر حتى بدء ترسيب أول الرواسب النهرية للنيل بينما كان الجزء الجنوبي من الدلتا في ذلك الوقت مرتفعاً عن سطح البحر. كان الجزء الشمالي من الدلتا خليجاً تصله الرواسب البحرية وقت بدء نشأة النيل في القوت الذي كان فيه الجزء الجنوبي هضبة عالية من الحجر الجيري المغطاة بطفوح بركانية سميكة من البازلت التي كانت قد بثتها براكين كثيرة قبل تاريخ بدء النيل بحوالي عشرة ملايين سنة. وكانت الحافة الشمالية لهضبة الدلتا الجنوبية شديدة الإنحدار تشكل جرفاً عالياً كان يطل على الخليج الشمالي من على إرتفاع لا يقل عن ألف متر.

وعندما بدأ النهر تاريخه فإنه كان يقطع مجراه ويعمقه في الكتلة الجنوبية العالية ويرسب ما كان يحمله من رواسب في الخليج الشمالي. ولذلك وكما هو فإن أسمك وأكمل عمود للرواسب النيلية يوجد بالخليج الشمالي. ففي الوقت الذي كان فيه هذا الخليج يتلقى رواسب النهر كان مجرى النيل في الهضبة الجنوبية للدلتا وكذلك على طول إمتداده بمصر يتعمق ولم يكن يتلقى أي رواسب وقد إستمر الحال كذلك في أطوار نشأة النهر ولم يبدأ الوادي والكتلة الجنوبية للدلتا في تلقي روسب النهر إلا بعد أن إمتلأ الخليج الشمالي بالرواسب وإرتفع حتى أصبح بسواء كتلة الدلتا الجنوبية وشكل جزءاً من نهر سهل الإنحدار على طول مساره في الدلتا.

إن عمود رواسب النهر الذي يصل سمكه في الخليج الشمالي للدلتا إلى أكثر من أربعة كيلومترات مكون من وحدات تختلف عن بعضها البعض في نسيجها وتركيبها. وقد ترسبت كل وحدة من هذه تحت ظروف خاصة بها تعكس التغيرات التي لابد أن النهر مر بها. وينقسم عمود الرواسب الموجودة بمجرى النيل ودلتاه إلى خمس وحدات مثلت كل وحدة منها رواسب نهر متميز من حيث هيدرولوجيته ومنابعه. لقد مر النيل منذ نشأته بخمسة أطوار على الأقل, تغير في كل منها شكله وكمية المياه التي يحملها ومنابعه التي جاءته بالمياه, أما الأطوار الثلاثة القديمة فقد كانت منابع النهر فيها محلية تقع بمصر وبلاد النوبة وفي طور واحد منها ربما إمتدت منابع النهر إلى داخل أفريقيا وإن كان الدليل هنا ليس قاطعاً تماماً. أما الطوران الأخيران فقد إتصل نيل مصر فيهما بأفريقيا. وكان النهر عند بدء إتصاله بالمنابع الأفريقية صاخباً وحاملاً لكميات هائلة من المياه كما كانت منابعه في أفريقيا دائمة ولم تنقطع طيلة عمره, ولكن سرعان ما راح هذا النهر الذي أسميناه نهر ما قبل النيل ليحل محله نهر آخر هو النيل الحديث الذي لم يكن إتصاله بمنابعه الأفريقية دائماً ومستمراً كالنهر الذي سبقه كما كانت كمية المياه التي يحملها أقل بكثير.

الأنيال الأولى بمصر

رجع تكوين مجرى النيل في مصر إلى حادث فريد حدث في التاريخ الجيولوجي منذ حوالي ستة إلى سبعة ملايين سنة عندما إنقطع إتصال البحر الأبيض المتوسط ببحار العالم نتيجة إنسداد فتحة بوغاز جبل طارق التي تشكل الوصلة الوحيدة لهذا البحر مع بحار العالم. ويرجع سبب هذا الحدث الفريد إلى إرتفاع السد أسفل البوغاز نتيجة حركات أرضية فصلت البحر عن المحيط الأطلنطي ومنعت وصول مياه المحيطات إليه. وقد غير هذا الحدث البحر الأبيض المتوسط وحوله هائلة بدأت مياهها في التبخر وملوحتها في الإزدياد نظراً لوقوعها في إقليم دافئ لا تصله أمطار غزيرة وفي ظروف عدة آلاف من السنين تعري قاع البحر بعد أن تغطي بطبقة سميكة من الأملاح التي أخذت تتراكم فوق قاع القاع عاماً بعد عام حتى بلغ سمكها عدة آلاف من الأمتار - ونحن مدنيون بهذا الإكتشاف المذهل للمشروع العالمي لدراسة أعماق البحار الذي كان من ضمن برنامجه في عام 1972 دق عدد من الآبار في قاع شرق البحر الأبيض المتوسط في محاولة لمعرفة طبيعة الرواسب التي ستخترقها هذه الآبار وما يمكن أن تعطيه من فهم للبيئات القديمة التي مر بها البحر خلال نشأته.


كان لإنخفاض منسوب البحر الأبيض المتوسط ثم جفافه خلال ما يسمى بأزمة نهاية عصر الميوسين وهو العصر الذي حث فثه إنقطاع وصول مياه المحيط إلى البحر تأثير كبير على الأراضي المجاورة. فقد سبب ذلك الإنخفاض من بين ما سبب تعميق مجاري الأنهار التي كانت تصب في البحر حتى تتواءم وهذا الإنخفاض وقد تم الآن إكتشاف عدد من الأنهار ذات المجاري العميقة في شمال أفريقيا وجنوب فرنسا والتي كانت قد حفرت مجاريها إلى هذه الأعماق الكبيرة خلا هذه الفترة. ولم يكن إكتشاف هذه الأنهار سهلا ًلأنها لم تكن ظاهرة على سطح الأرض فقد إمتلأت مجاريها بالرواسب وسوي سطحها بباقي السطوح المجاورة بحيث لم يعد من الممكن تمييز مجاريها القديمة إلا بإستخدام الطرق الجيوفيزيقية أو بحفر الآبار. ومن الأمثلة على ذلك نهر النيل نفسه فقبل البدء في عمليات البحث عن البترول في دلتاه وحفر الآبار فيها وبإستخدام الطرق الجيوفيزيقية المعقدة لمعرفة عمقه فإن أحداً ما كان ليتصور العمق الهائل الذي كان عليه مجرى النيل.

وكان ليتصاعد بخار الماء من سطح البحر خلال أزمة آخر الميوسين أثره في زيادة الأمطار على سطح مصر, إذ يبدو أنه تكثف مطراً عندما قابل جبال الصحراء الشرقية المصرية العالية التي كانت قد إرتفعت قبل ن تنحسر المياه عن البحر المتوسط بعدة ملايين من السنوات, وكانت هذه الجبال عند نشأتها أعلى مما هي عليه الآن بعدة آلاف من الأمتار. وقد سببت هذه الأمطار بناء شبكة تصريف فوق هذه الجبال إلتقت كلها في ذلك الحوض الطوالي الذي يقع بين هذه الجبال وهضبة الصحراء الغربية لتكوين النيل الأول أو ما أسميناه بنهر فجر النيل (أيونيل). وفي هذه الفترة حفريات وديان الصحراء الشرقية التي كونت جزءاً من شبكة التصريف التي إمتدت فجر النيل بمياهه بل وبرواسبه التي جاءت من طبقات الصخور التي كانت ترسو فوق جبال الصحراء الشرقية في ذلك الوقت, أما الروافد التي كانت تغذي النهر من ناحية الغرب فإننا لا نعرف الكثير عنها لأنها إمتلأت بالرمال التي كانت تتحرك في هذه الصحراء المنبسطة دون عائق في عصور الجفاف التي تلت هذه الوديان فسوتها وأخفت مجاريها وإن كانت صور فضاء الرادار الحديثة قد أظهرت البعض منها, على ا،ه من المحتمل أن العديد من منخفضات الصحرراء الغربية الكبيرة كمنخفض القطارة أو الواحات تمثل بقايا المجاري الأساسية لشبكة تصريف هذه الصحراء. وفي الحقيقة فإن موضوع نشاة هذه المنخفضات الكبرى هو أمر مثير للجدل التكهنات فهناك الكثير من المؤلفين من يعزون نشاة هذه المنخفضات إلى فعل الرياح ولكن وجه الإعتراض هنا هو أن معظم هذه المنخفضات كان لها غطاء من الحجر الجيري الصلب الذي يصعب نحره بالريح. وهناك من المؤلفين من يعتقدون أن هذه المنخفضات تكونت بفعل المطر الذي رشح في الصخور الجيرية التي تغطي العروض الوسطى فأذابتها وكونت فيها حفراً وكهوفاً بل وتصريفاً تحت السطح وعندما إتسعت هذه الكهوف إنهارت سقوفها وإتصلت ببعضها فكونت منخفضات طولياً كانت في بدئها مغطاة بحطام الأسقف الذي تراكم على قاعها ولكن الرياح التي تميزت بها فترات الجفاف ذرت هذا الحطام إلى أماكن بعيدة أما في الفترات المطيرة فقد كان لهذه المنخفضات إتصال بالنيل. وقد تم حديثاً التعرف علىالمجاري التي كان يتم بها هذا الإتصال والتي لم تكن معروفة أو واضحة على الخرائط من قبل نظراً لإمتلائها بالرمال التي سوتها مع باقي الأرض المجاورة وطمست بذلك معالمها. ومن هذه الوصلات رافد توشكا الذي إكتشف حديثاً في صحراء النوبة وكان يصل فيما بين منخفضات الواحات الخارجة والداخلة والنيل. وفي السابق عندما لم تكن هذه الوصلات معروفة فقد كان الرأي الشائع هو أن هذه المنخفضات داخلية ليس لها تصريف يصلها بالبحر. وقد كان إكتشاف الرافد الذي يوصل هذه المنخفضات بالنيل فالبحر سبباً يرجع إرجاع سبب تكوين هذه المنخفضات إلى فعل المياه الجارية. وقبل هذا الإكتشاف لم يكن هناك من عامل يمكن أن يشكل هذه المنخفضات غير الريح أما الآن لإغننا يمكن أن ننظر إلى هذه المنخفضات على أنها اجزاء من شبكة تصريف مائي فصلت وتوسعت بفعل ذوبانم الأحجار الجيرية بالأمطار وتذرية نواتج هذا الذوبان بالريح.

وقد كان للهبوط التدريجي لمنسوب البحر الأبيض المتوسط خلا أزمة الميوسين أثره على نهر النيل الذي أخذ يعمق مجراه ليتواءم وهذا المنسوب الجديد حتى بلغ عمقاً يزيد بكثير من منسوب البحر الحديث. وبدراسة الآبار التي حفرت على طول مجرى النيل ودلتاه فقد أمكن الآن معرفة عمق قاع فجر النيل في اماكن عدة فقد كان على عمق 170 متراً عند أسوان و 800 متر عند أسيوط و2500 متر إلى الشمال من القاهرة كما كان على عمق أكثر من 4000 متر في شمال الدلتا - وعلى هذا فقد كان معدل إنحدار النهر عند نشأته هو متر واحد لكل 1.7 كيلومتر من المجرى. بالمقارنة بالنهر الحديث الذي يبلغ متوسط إنحداره متراً واحداً لكل 12 كيلومتراً من المجرى ونهر بهذه الأعماق لابد أنه شكل خانقاً بلغ من العمق والطول ما يفوق أشهر الخوانق الحديثة وهو الخانق العظيم لنهر كولورادو بشمال أمريكا . لقد فاق نهر فجر النيل بلا شك أي نهر مماثل في العصر الحديث في روعته وبهائه. ويبدو منحدر مجرى فجر النيل والذي يبدو أنه كان مليئاً بالعوائق والإختناقات, فبالإضافة إلى الشلال العظيم الذي كان يقع بين كتلة الدلتا الجنوبية وخليج الدلتا الشمالية فقد كانت هناك شلالت عند القاهرة وملوي وجبل السلسلة

نهر ما قبل النيل (البرينيل)

النيل الحديث (النيونيل)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المصادر

سعيد, رشدي (2001). رشدي سعيد. القاهرة، مصر: دار الهلال. {{cite book}}: Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)