السادات وإثيوبيا

منذ تولي أنور السادات رئاسة مصر في مطلع أكتوبر 1970، فقد انكفأ على توطيد حكمه والاعداد لحرب أكتوبر. نتيجة ذلك فقد استحوذت الجبهة الداخلية على معظم جهده وانتباهه في أول ثلاث سنوات من حكمه. ولم يولِ السادات اهتماماً بالسياسة الخارجية حتى وقـّع اتفاقية فض الاشتباك الثانية في 1 سبتمبر 1975، التي حققت استقراراً سياسياً لحكمه، كما وطدت علاقته بالولايات المتحدة. بعدها شعر بحرية في التعبير عن اتجاهاته في السياسة الخارجية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

البعد السوداني للعلاقات المصرية الإثيوبية

وإن لم يمنع ذلك الإنكفاء الداخلي من التعامل مع الأزمات الطارئة في السودان الشقيق؛ إذ تعرض الرئيس جعفر نميري لتمردين من الصادق المهدي، وانقلاب هاشم العطا (1971)، انقلاب حسن حسين (1975). وفي تلك الفترة 1971-1973، شجعت مصر نظام نميري بالخرطوم على الاقتراب من الولايات المتحدة، ونشأ تحالف استخباراتي وثيق بين السودان وأمريكا، سرعان ما استقل عن مصر. كان أحد نتائجه الدور المحوري الذي قامت به المخابرات السودانية في ترحيل يهود الفلاشا إلى إسرائيل في 1984. وكان لرجال المخابرات السودانية، عثمان السيد وعمر الطيب، دوراً محورياً في ثورة الإنقاذ الوطني بالسودان عام 1989، التي أتت بالرئيس عمر البشير. وكان تنفيذ عملية تهجير الفلاشا يتطلب تجنيد بعض المنظمات المعارضة (الماركسية بالصدفة) في الشمال الجبلي بإثيوبيا، من قبائل التقراي والتقرينيا. وفي 1995 انفصلت الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا بإرتريا عن إثيوبيا بتراضي أبناء عمومتهم الجبهة الشعبية لتحرير التقراي الذين استولوا على الحكم في أديس أبابا، في نفس الوقت. لذلك فإن النظم الثلاث الحاكمة اليوم في أديس أبابا وأسمرة والخرطوم يرتبطون بوشائج بالغة الوثاقة، بالرغم مما نقرأ عن خلافات إرترية مع البلدين الآخرين.


السادات وإثيوبيا

وفي الجانب الإثيوبي، فمع وصول السادات لسدة الحكم في مصر، فقد أصبح الامبراطور هيلاسلاسي (مواليد 1892) شيخاً طاعناً، يطحن بلده الفقر والمجاعات، وأهمها مجاعات وولو (1966 و 1972 و 1973) التي راح ضحيتها مئات الآلاف من القتلى. وازداد تكلس النظام الحاكم في أديس أبابا وانعزاله عن الواقع، حتى أن رجال البلاط، من أقلية الأمهرة الحاكمة، كانوا يخفون تلك الحقائق المزعجة عن الإمبراطور الإله (حسب الديانة الرستفارية). وقد استغلت الدعاية الشيوعية تخلف الحكم في إثيوبيا وطفقت تقارنه بالحكم التقدمي في الصومال واليمن الجنوبي وريف شمال إثيوبيا الواقع تحت السيطرة الفعلية لمنظمات شيوعية لتحرير إرتريا وتقراي.

 
جمال عبد الناصر مع الإمبراطور هيلاسلاسي

تلخصت العلاقات بين مصر وإثيوبيا منذ 1967 وحتى 1974 في علاقات صورية بين الكنيستين الشقيقتين الأرثوذكسية القبطية بمصر و"التوحيد الأرثوذكسية" بإثيوبيا، برعاية الدولتين. وكانت لدعوة جمال عبد الناصر للإمبراطور هيلاسلاسي لحضور افتتاح الكاتدرائية المرقسية في القاهرة عام 1968 أثراً كبيراً في التدليل على خصوصية العلاقة بين الشعبين.

 
الرئيس اللواء أمان عندوم، خريج الحربية المصرية.

أطاح المد اليساري بالامبراطور هيلاسلاسي في سبتمبر 1974، ليحل محله مجلس عسكري، يُسمىَ "دِرگ". وكان على رأس المجلس اللواء "أمان عندوم" الإرتري الذي تخرج من الكلية الحربية المصرية في 1954. الطبقة الحاكمة المخلوعة في إثيوبيا من الأمهرة، تنظر بتعالي شديد إلى الأقليات الأخرى، ومنها إرتريا المطالبة بالاستقلال. وعلى الفور بدأ أمان عندوم في الإعلان عن نواياه التقارب مع إقليم إرتريا لإثنائه عن المطالبة بالانفصال. كما أعلن عن نواياه للتقارب مع مصر. والتحركان أضرما الشكوك في قلب الأمهرة، واتهموا مصر بأن لها يد في الإتيان بهذا الجنرال الإرتري على رأس الحكم. إلا أن الدرگ ما لبث أن قتل رأسه الصوري "أمان عندوم" بعد شهرين، ليظهر الرأس الحقيقي للثورة، منگستو هايله مريم ويكشف عن توجه شيوعي متشدد. ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم لا يكف الإثيوبيون عن تشبيه "أمان عندوم" باللواء محمد نجيب في مصر، بسبب الدور الصوري لكلاهما، ولقبولهما ترأس ثورة دون أن يعرفا ميولها الحقيقية. ودون أن يكون لهما أي سلطات، وخير من يعبر عن تلك المقارنة هو رئيس الوزراء اللاحق فكرى سلاسي.[1]

بعد الإطاحة بهيلاسلاسي بدأت تتراجع قوة العلاقات المصرية الإثيوبية إلى أن وصلت إلى مرحلة العلاقات الرسمية الشكلية، وكانت من نتيجة ذلك أن إستقلت كنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإثيوپية عن الكنيسة الأم في مصر والتي ظلت منذ دخول المسيحية إلى إثيوبيا تابعة للكنيسة المصرية حتى عام 1959 حين أصبح لها بابا إثيوبي خاص بها وإنفصلت قيادتها عن مصر.

نادي سفاري

 
السادات وسياد بري، 1975.
 
منگستو يلقي بإحدى الزجاجات المملوءة بالدم على أسماء "أعداء إثيوبيا: مصر والسعودية". ميدان مسكل، أديس أبابا، 1977

ما أن وقعت مصر اتفاقية فض الاشتباك الثانية في سيناء عام 1975، حتى أحس السادات بالحرية في التعبير، على الملأ، عن قناعاته في السياسية الخارجية، بأن يصبح أكثر قرباً من الولايات المتحدة بأن يُقرن مصر بمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية بالمنطقة - الأمر الذي يجعل منه لاعباً إقليمياً حليفاً لأمريكا. فاقترب من فرنسا، التي اقترح رئيس مخابراتها على السادات تشكيل تعاون إقليمي لمكافحة المد الشيوعي في أفريقيا. فتكون نادي سفاري في عام 1975 من فرنسا ومصر السادات والمغرب والسعودية وإيران الشاه. وكان من أولى أنشطة النادي مجابهة المد الشيوعي في إثيوپيا وزائير.

ساند نادي سفاري الصومال في حرب الأوجادين (1977–1978) ضد إثيوبيا بعد أن انضمت كل من كوبا والاتحاد السوفيتي إلى جانب إثيوبيا. وقد نشب النزاع حين حاولت إثيوبيا استعادة إقليم أوجادين، ذا الأغلبية من العرق الصومالي، من إثيوبيا. قبل الحرب، كان الاتحاد السوفيتي يساند البلدين عسكرياً.[2] بعد الفشل في التفاوض لوقف اطلاق النار، تدخل الاتحاد السوفيتي للدفاع عن إثيوبيا. القوات الإثيوبية المدعومة سوفيتياً—والتي يؤازرها أكثر من عشرة آلاف جندي كوبي وأكثر من ألف مستشار عسكري، ونحو 1 بليون دولار من العتاد السوفيتي—هزمت الجيش الصومالي وهددت بهجوم مضاد.[3] اتصل الرئيس السادات بالزعيم الصومالي سياد بري وعرض عليه السلاح مقابل التخلي عن الاتحاد السوفيتي. وافق بري، ودفعت السعودية لمصر 75 مليون دولار لأسلحتها السوفيتية القديمة.[4] وقامت إيران بإمداد الصومال بأسلحة قديمة (قيل أنها ضمت دبابات إم-48) من الولايات المتحدة.[5][6]

اعتبر منجستو هايلا مريام الدعم المصري مؤامرة ضد إثيوبيا. وفي خطبة له عام 1979 حطم زجاجات مملوءة دماً على اسمي مصر والسعودية.

زمزم الجديدة: ترعة السلام

 
شاؤل أرلوزوروڤ، مشروعه "يؤر" تحول إلى ترعة السلام، الذي احتجت عليه إثيوپيا.

شهد نادي سفاري إرهاصات عملية السلام بين مصر وإسرائيل، بتشجيع من شاه إيران وألكساندر دو مارانش رئيس المخابرات الخارجية الفرنسية.

في المفاوضات المصرية الإسرائيلية التالية لمبادرة السادات إلى القدس عام 1977، تقدم الباحث الإسرائيلي شاؤل أرلوزوروڤ، نائب مدير هيئة مياه إسرائيل، ب"مشروع يؤر" إلى الرئيس السادات لنقل مياه النيل إلى إسرائيل، عبر شق ست قنوات تحت قناة السويس. وبإمكان هذا المشروع نقل 1 مليار م³ من المياه سنوياً، لري صحراء النقب، ومنها 150 مليون م³ لقطاع غزة.[7] شاؤل أرلوزوروڤ انتقل من مصلحة المياه الإسرائيلية ليعمل مديراً لمشاريع المياه في البنك الدولي في الفترة من 1980-1993.

وفي عام ديسمبر 1977، عرض الرئيس المصري أنور السادات إمداد صحراء النقب الإسرائيلية بالماء عبر ترعة السلام التي سيقوم ببنائها عبر قناة السويس وسيناء.[8]

عرض السادات مد مياه النيل إلى إسرائيل، أثار حفيظة الرئيس الإثيوبي منجستو هايلى مريم، الذي قال أن هناك مناطق فقيرة في حوض النيل الأزرق هي أكثر حاجة من إسرائيل لمياه النيل، بالاضافة لأن لها أولوية على إسرائيل في مد مياه النيل إليها. ولكن حتى ذلك الوقت لم يكن لدى إثيوبيا أي خطط محددة لإنشاء أي سدود أو ترع على أي من أنهارها.

ومع استمرار تحرش مصر بإثيوبيا بدعم الصومال واستئناف دعم جبهة التحرير الإرترية (عثمان صالح سبي)، خرج الرئيس الإثيوبي منگستو هايلى مريم، في 16 فبراير 1978، بتصريح يتحدى حق مصر التاريخي في مياه النيل، ومعظم تلك المياه تأتي من النيل الأزرق في إثيوبيا.[8] مما حدى بأنور السادات، في 1 مايو 1978، أن يرد على تهديد منگستو بأن مصر ستشن حرباً إذا تعرضت حقوقها المائية للخطر،[8] قائلاً:

  نحن لا نحتاج إذناً من إثيوبيا أو الاتحاد السوفيتي لتحويل مياه نيلنا (إلى إسرائيل). ... إذا اتخذت إثيوپيا أي فعل ضد حقنا في مياه النيل، فلن يكون أمامنا بديل عن استخدام القوة. التلاعب بحق أمة في الماء هو تلاعب بحقها في الحياة، والقرار بالذهاب للحرب من أجل ذلك، لن يكون موضع جدل في المجتمع الدولي.  

—السادات، 1 مايو 1978[9]

وفي 16 يناير 1979، نشرت مجلة أكتوبر الأسبوعية نص خطاب أرسله السادات إلى مناحم بيگن رئيس وزراء إسرائيل آنذاك قال فيه: "حيث أننا شرعنا في حل شامل للمشكلة الفلسطينية، فسوف نجعل مياه النيل مساهمة من الشعب المصري باسم ملايين المسلمين كرمز خالد وباق على اتفاق السلام، وسوف تصبح هذه المياه بمثابة مياه زمزم لكل المؤمنين أصحاب الرسالات السماوية في القدس ودليلاً على أنّنا رعاة سلام ورخاء لكافة البشر".[10]
وقالت المجلة أن السادات أعطى بالفعل إشارة البدأ لحفر ترعة السلام بين فارسكور (تقع على قرع دمياط) وبين التينة (تقع على قناة السويس شمال الإسماعيلية) حيث تقطع مياه الترعة بعد ذلك قناة السويس خلال ثلاثة أنفاق لتروى نصف مليون فدان، وأن السادات طلب عمل دراسة جدوى دولية لتوصيل المياه إلى القدس. لكن تراجع السادات عن الفكرة دون تصريح رسمي بذلك، وأعلن إشارة بدء العمل فى تنفيذ حفر قناة السلام من فرع دمياط فى 27 نوفمبر من نفس العام.

وفي 5 سبتمبر 1979، أثناء زيارة السادات لمدينة حيفا في إسرائيل، طلب من المختصين عمل دراسة عملية كاملة لتوصيل مياه نهر النيل إلى مدينة القدس، لتكون في متناول المترددين على المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وحائط البراق، في مشروع أسماه "زمزم الجديد".

وتتواصل أعمال مد ترعة السلام شرقاً، فتم إنشاء سحارة، مكونة من أربعة أنفاق القطر الداخلي لكل منهم 5.10 متر، تحت قناة السويس لتصل الترعة إلى سيناء في عام 2001. ويجري العمل في مد ترعة الشيخ جابر، التي هي الجزء السينائي من ترعة السلام، بطول 175 كيلومتر، من المفترض اكتمالها في صيف 2015.

خرافات شاعت

في العامين الأخيرين 2014-2015، في ظل التطور المضطرد في بناء إثيوبيا لسد النهضة دون أن تعير أي اهتمام لمخاوف الشعب المصري، ومع غياب كامل لأي معارضة من الدولة المصرية، ظهرت مجموعة الخرافات الحضرية شاعت بين الشعب المصري في عام 2014-2015 حول بطولات عسكرية مزعومة من الرئيس السادات بقيامه بقصف سدود إثيوبية في السبعينيات. إثيوبيا لم يكن لديها سدود في السبعينيات، ولم يقم السادات بأي أعمال عسكرية خارج الحدود المصرية في عهده، إلا الاشتباكات مع ليبيا (1977) التي تكبد فيها الطرفان خسائر فادحة، والمحاولة الفاشلة لتحرير طائرة مصرية مختطفة في لارناكا (1978) بقبرص.

انظر أيضاً

الهامش

  1. ^ Michael Wossen (2014-02-14). "FikreSelassie Wogderess on Aman Andom and 60 officials". زى‌حابشا.
  2. ^ Lefebvre, Arms for the Horn (1992), pp. 179.
  3. ^ Gebru Tareke, "The Ethiopia-Somalia War of 1977 Revisited", The International Journal of African Historical Studies, 33(3), 2000; accessed via JStor.
  4. ^ Bronson, Thicker than Oil (2006), p. 134. "Encouraged by Saudi Arabia, Safari Club members approached Somali president Siad Barre and offered to provide the arms he needed if he stopped taking Russian aid. Barre agreed. Egypt then sold Somalia $75 million worth of its unwanted Soviet arms, with Saudi Arabia footing the bill."
  5. ^ Miglietta, American Alliance Policy (2002), p. 78. "American military goods were provided by Egypt and Iran, which transferred excess arms from their inventories. وقيل أن الدبابات إم-48 الأمريكية المباعة لإيران شُحنت إلى الصومال عبر عُمان."
  6. ^ Lefebvre, Arms for the Horn (1992), p. 188. "Washington had done little to control, and seemingly ahd encouraged, Egypt, Iran, and Saudi Arabia to take advantage of the more liberal policies of other Western states and make third-party arms transfers to Somalia. Reports surfaced that U.S.-made M-48 tanks,originally sold to Iran, had reached Somalia عن طريق عُمان."
  7. ^ د. عمر فضل الله. حرب المياه على ضفاف النيل - حلم إسرائيلي يتحقق. نهضة مصر. pp. 318–319.
  8. ^ أ ب ت Frank Caso (2010). Freshwater Supply. Infobase Publishing. pp. 318–319.
  9. ^ Mwangi Kimenyi, John Mbaku (2015). "Chapter 9: Egypt, Ethiopia, and the Nile River". Governing the Nile River Basin: The Search for a New Legal Regime. The Brookings Institution. pp. 318–319.
  10. ^ محمد عبدالحليم (2015-10-25). "لماذا رغب السادات في توصيل مياه النيل إلى القدس؟". دوت مصر.