التاريخ الاجتماعي لإيطاليا


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إيطاليا السعيدة 1715 - 1759

المشهد العام

لم يكن في استطاعة إيطاليا أن تتحد في سبيل الدفاع عن نفسها وهي منقسمة إلى نحو اثنتي عشرة دولة متحاسدة متنابذة. وانصرف الإيطاليون إلى الاستمتاع بالحياة والتلذذ بها انصرافاً جعلهم يتركون الأجانب الذين أعوزهم النضج يقتتلون طمعاً في ثمرة السياسة المرة، وغنائم الحرب وأسلابها الملوثة. وهكذا غدت شبه الجزيرة الزاهرة ساحة قتال بين إسپانيا وفرنس البوربونيتين والنمسا الهابسبورگية. ووضعت سلسلة متعاقبة من حروب الوراثة أوزارها في 1748 وقد استردت أسبانيا مملكة ناپولي ودوقية پارما، واحتفظ الباباوات بسلطانهم على الدويلات البابوية، وظلت ساڤوي والبندقية وسان مارينو حرة، وكانت جنوة ومودينا محميتين فرنسيتين، واحتفظت النمسا بميلان وتوسكانيا. وكانت الشمس أثناء ذلك تشرق على ربوع إيطاليا والحقول والكروم والبساتين تجود بالطعام والشراب، وكانت النساء رائعات الحسن مشبوبات العاطفة، والأغاني والألحان تملأ أجواء الفضاء، ووفد عليها الأجانب سائحين وطلاب علم ليستمتعوا بالمناخ ومشاهد الطبيعة، وبالمسارح والموسيقى والفن، وبمخالطة رجال ونساء أوتوا ثقافة قرون طوال. لقد كانت إيطاليا، على الأقل في شمالها، أسعد بلد في أوربا، رغم أنها كانت نصف مغلوبة، ونصف مسلوبة منهوبة. [1]

وكان سكانها عام 1700 يناهزون الأربعة عشر مليوناً، وعام 1800 الثمانية عشر مليوناً. وكان الصالح للزارعة من أرضها يقل عن النصف ولكن كل شبر من هذا النصف كان يفلح بالجهد الصابر والرعاية الفائقة. وكانت الأرض المنحدرة تقسم إلى مصاطب لتحتفظ بالتربة، والكروم تتدلى من شجرة إلى شجرة فتزدان بها بساتين الفاكهة. أما الجنوب فكانت أرضه ضعيفة، وجففت الشمس المبتسمة في سخرية الأنهار والتربة والإنسان، ولم يرخِ الإقطاع قبضته التي فرضها على الناس في العصر الوسيط. وكان من الأمثال الساخرة قولهم "أن المسيح لم يتجاوز قط جنوبي إيبولي"- التي كانت إلى الجنوب تماماً من سورينتو. أما وسط إيطاليا فكان خصب التربة، يلفحه الزراع نظير حصة من المحصول بإشراف كبار رجال الكنيسة. وأما في الشمال-لاسيما في وادي نهر بو-فقد أشبعت القنوات الأرض رياً، وكانت هذه القنوات تتطلب رؤوس الأموال تنفق عليها، والفلاحين المدربين على تطهير الصفاية وتقوية الشواطئ. وهنا أيضاً زرع الفلاحون أرض غيرهم لقاء نصيب من المحصول. ولكن في هذه الحقول المثمرة استطاع الناس أن يحتملوا كل شيء حتى الفقر وهم محتفظون بكرامتهم.

وقامت مئات القرى على السهول، وفي التلال، وعلى شاطئ البحر: قرى قذرة متربة في الصيف، صاخبة في الصباح بأحاديث الفلاحين وهم يمشون الهوينا إلى وقدة الحر، ساكنة في الظهيرة، شاغبة في المساء بثرثرة المثرثرين وبالموسيقى ولقاءات المحبين. وكان الإيطاليون يحبون القيلولة أكثر من حبهم للمال، وهي فترة قال فيها الأب لابا "لا يرى المرء في الشوارع أثناءها غير الكلاب والحمقى والفرنسيين". وكان هناك عشرات المدن الملآى بالكنائس والقصور والمتسولين والفن، وست مدن تضارع باريس جمالاً، وألوف من مهرة الصناع ما زالوا في قمة فنهم. وكانت الصناعة الرأسمالية تتطور من جديد في مجال النسيج لاسيما في ميلان وتورين وبرجامو وفتشنتا، ولكن معظم العمل حتى في النسيج كان يؤدي على أنوال بيتية جزءاً من حياة الأسرة. وكانت هناك طبقة وسطى صغيرة (قوامها التجار والمصرفيون والفنانون والكهنة) آخذة في النمو وسطاً بين الطبقة الأرستقراطية (طبقة ملاك الأرض وكبار رجال الدين) وطبقة "العامة" (وهم أصحاب الحوانيت ومهرة الحرفيين والفلاحين)، ولكن لم تحرز هذه الطبقة الوسطى أية قوة سياسية بعد.

ولم تكن الفوارق الطبقية واضحة ملحوظة إلى حد مؤلم، اللهم إلا في البندقية وجنوه. ففي معظم المدن الإيطالية دخل النبلاء ميدان التجارة أو الصناعة أو المال. وكان في إمكان وصول أي فلاح إيطالي إلى منصب الأسقفية أو البابوية ما شاع عنصراً ديمقراطياً في الحياة الاجتماعية؛ وفي البلاط كان حامل لقب النبالة المهيب يلتقي بالأسقف المتواضع الأصل ويجالسه، وفي الأكاديميات والجامعات كان النبوغ الفكري يرجح الدعاوى الطبقية، وفي صخب الكرنفال كان الرجال والنساء المطمئنون وراء أقنعتهم ينسون مراتبهم الاجتماعية كما ينسون نواميسهم الخلقية. وكان الحديث بين الناس يتسم بالمرح شأنهم في فرنسا، هذا إذا استثنينا إجماعاً متفاهماً عليه بعدم المساس بدين يأتي بالجزية الدولية الإيطالية-حتى من فاتحيها-بنوع خاص.

على أن ذلك الدين كان بريئاً من أي شائبة تزمت، فقد تصالح مع طبيعة البشر ومناخ إيطاليا. وسمح في الكرنفالات بفترة تعطيل للاحتشام، ولكنه جاهد للمحافظة على مؤسستي الزواج والأسرة وحمايتهما من سذاجة النساء وأهواء الرجال. فكانت الفتيات في الطبقات المثقفة يرسلن إلى أحد الأديرة في سن مبكرة-في الخامسة-لا للتعليم أولاً بل لضمان الإشراف الخلقي عليهن. ولم تكن الفتاة التواقة إلى الحرية يطلق سراحها إلا إذا وفر لها صداق وهيئ لها خطيب يوافق عليه أبواها أو أولياؤها ويتقدم لزواجها. وإذا جاز لنا أن نصدق كازانوفا، فإنه كان في استطاعة راهبة شديدة الشوق إلى الرجال أن تغافل أحياناً الرئيسة الأم-أو تغافل الرئيس الأم راهباتها-وتجد سبيلاً للقاء رجل شديد الشوق إلى النساء بين الغسق والفجر، ولكن هذه كانت مغامرات نادرة محفوفة بالخطر. على أننا لا نستطيع أن نطبق هذا الحكم على أخلاقيات الرهبان.

وكان الذكر غير المتزوج إذا لم يستطع إغواء زوجة رجل آخر، يتعامل عموماً مع البغايا. وقد قدر الكونت دكايلوس أن عددهن في نابلي عام 1714 بلغ ثمانية آلاف من بين السكان البالغين 150.000. ووجد الرئيس دبروس في ميلان "إنك لا تخطو خطوة في الميادين العامة دون أن تلتقي بقوادين Courtiers de Galanterie يعرضون عليك نساء من كل لون أو جنس تشاء، ولكن لك أن تثق بأن النتيجة لا تكون دائماً باهرة كالوعد". وكان محظوراً على البغايا في روما أن يظهرن في الكنائس أو المحافل العامة، وحرم عليهن بيع مفاتنهن خلال صوم الميلاد، والصوم الكبير، وأيام الآحاد والعطلات الدينية.

وكان أشد ما يعاكس هؤلاء البغايا ويفسد عليهن حرفتهن أن طريق العشق الحرام كانت ميسرة إلى قلوب النساء المتزوجات. فهؤلاء النساء انتقمن لأنفسهن من فترة المراهقة التي ضيق عليهن فيها، ومن الأزواج الذين لم يكن لهن رأي في اختيارهن، بالانغماس في العلاقات الغرامية غير المشروعة، وباتخاذ "سيد تابع" cavaliere Servente. وقد سمحت عادة مرافقة المرأة المتزوجة هذه Cicisbeatura، بموافقة زوجها في غيبته، (وهي عادة مستوردة من أسبانيا) بأن يقوم على خدمتها سيد يخدمها، فيرافقها إلى العشاء وإلى المسرح وإلى المنتديات، ولكن نادراً ما يصاحبها إلى الفراش. واختيار بعض الأزواج مرافقين لزوجتهم لحمايتهن من علاقات العشق الحرام. وقد أفضى الانتشار الواسع لمذكرات كازانوڤا، والأخبار المتعجلة التي أذاعها الرحالة الفرنسيون الذين ألفوا التحلل الفرنسي، إلى مبالغة الأجانب في فكرتهم عن فساد الأخلاق في إيطاليا. صحيح أن جرائم العنف أو الجنس كثرت، ولكن الإيطاليين كانوا بوجه عام أبناء أوفياء لوالديهم، وأزواجاً غيورين على نسائهم، وزوجات مجدات في بيوتهن، وآباء متعقلين بأبنائهم، يحيون حياة أسرية مترابطة، ويواجهون متاعب الزواج والأبوة والأمومة بإباء في الخلق وطلاقة في الحديث وبشاشة حاضرة في الطبع.

ولم يلق تعليم النساء تشجيعاً، لأن كثيراً من الرجال كانوا يرون التعليم خطراً على العفة. وتلقت قلة من البنات في الأديرة تعليماً في القراءة والكتابة والتطريز وفنون الحياكة والترفيه. ومع ذلك نسمع عن نساء راقيات التعليم يدرن صالونات يتجاذبن فيها الأحاديث في يسر مع الكتاب والفنانين ورجال الأعمال. وفي بلرمو ترجمت "أنا جنتيلي" فولتير شعراً إيطالياً جيداً، ونشرت "الرسائل الفلسفية" التي دافعت فيها بجرأة عن أخلاقيات هلفتيوس غير القائمة على الدين. وفي ميلان سمع الرئيس دبروس ماريا جايتانا اجنيزي، البالغة من العمر عشرين عاماً، تحاضر باللاتينية في علم الوسائل، وقد درست اليونانية والعبرية والفرنسية والإنجليزية وكتبت في رسائل القطاعات المخروطية والهندسة التحليلية، وفي جامعة بولونيا كانت السنيورة ماتسوكيني تدرس التشريح، والسنيورة تامبروني تدرس اليونانية. ومن تلك الجامعة ذاتها نالت لاورا باسي درجة الدكتوراه في الفلسفة ولما تتجاوز الحادية والعشرين (1732)، وما لبثت أن ضربت بالعلم سهم وافر حتى عينت أستاذاً في الجامعة وحاضرت في "بصريات" نيوتن وألفت البحوث في الفيزياء، وأنجبت خلال ذلك لزوجها اثني عشر طفلاً قامت بنفسها على تربيتهم.

وظلت الكثرة العظمى من الجنسين أمية دون أن ينالها من ذلك أي غضاضة أو ازدراء من المجتمع. فإذا ظهرت مخايل الذكاء والنضج على غلام في القرية وجد له القسيس عادة سبيلاً إلى التعليم. ذلك أن شتى الجماعات الدينية أسست المدارس في المدن. فكان لليسوعيين عدد كبير من الكليات في إيطاليا-ست في البندقية، وسبع في ميلان وست في جنوه، وعشر في بيدمونت، وتسع وعشرون في صقلية وكليات كثيرة في مملكة نابلي وفي الولايات البابوية. وقامت الجامعات في تورين وجنوه وميلان وبافيا زبيزا وفلورنسة وبولونيا وبادوا وروما ونابلي وبلرمو، وكلها تحت إشراف رجال الكنيسة الكاثوليك، ولكن الكليات ضمت الكثير من العلمانيين. وكان المعلمون والطلاب على حد سواء يحلفون اليمين بألا يعلموا أو يقرؤوا أو يقولوا أو يفعلوا شيئاً يخالف تعليم كنيسة روما. يقول كازانوفا "في بادوا كانت حكومة البندقية تدفع المرتبات الكبيرة لمشاهير الأساتذة، وتترك للطلاب كامل الحرية في الانتظام في حضور دروسهم ومحاضراتهم أو عدمه كما يشاءون".

يضاف إلى هذا أن الفكر الإيطالي شحذه عدد كبير من الأكاديميات المخصصة للآداب أو العلوم أو الفنون، والمتحررة عادة من إشراف رجال الدين، وأشهرها الأكاديمية الأركادية التي كانت في الفترة التي نحن بصددها تموت موتاً كريماً. وكانت هناك مكتبات عامة مثل "دار الكتب الأمبروزية" الجميلة في ميلان، أو دار كتب ماجليابكينانا (دار الكتب القومية الآن) في فلورنسة، وكان الكثير من المكتبات الخاصة كمكتبة بيزاني في البندقية، يفتح أبوابه للجمهور في أيام معلومة من الأسبوع. وقد روى دبروس أن مكتبات إيطاليا كان يستخدمها القراء استخداماً يفوق في كثرته وحماسته استخدام القراء لمكتبات فرنسا. وأخيراً كانت هناك دوريات من جميع الأنواع-ثقافية، أو أدبية، أو فكاهية. وكانت مجلة الآداب الإيطالية التي أسسها أبوستولو تسينو وفرانشسكو سكييوتي دي ما في عام 1710 من أرقى المجلات في أوربا ثقافة وأحظاها بالاحترام.

وصفوة القول أن إيطاليا كانت تنعم بحياة فكرية نشيطة، فكثر عدد الشعراء الذين عاشوا على إهداء شعرهم لكبار القوم، وتعطر الجو بأريج القصائد الغنائية التي ما برحت تقلد بترارك، وتنافس المرتجلون في إفراغ التقريض فور دعوتهم إلى قرضه. ولكن العصر خلا من العشر العظيم حتى أقبل ألفييري في ختام القرن. وقامت المسارح في البندقية وفتشنتا وجنوه وتورين وميلان وفلورنسة وبادوا ونابلي وروما، وأم هذه الأبنية الأنيقة الرشيقة صفوة القوم وعامة الشعب ليتجاذبوا الحديث يسددوا نظرات الغرام. كما أتوها ليستمعوا إلى الأوبرا أو التمثيلية. وكان هناك دارسون كبار مثل مافيي، ومؤرخون شديدو الاجتهاد مثل موراتوري، وعما قليل سيأتي علماء عظام. غير أنها كانت ثقافة متكلفة بعض الشيء، حذرة خشية الرقابة، مهذبة مجاملة إلى حد أفقدها الجرأة.

ومع ذلك هبت عليها رياح متقطعة من الهرطقة عبر الألب أو البحر. فأسس الأجانب-لاسيما الإنجليز من أنصار جيمس الثاني-في جنوه وفلورنسة وروما ونابلي، من 1730 فصاعداً محافل ماسونية نزاعة إلى الربوبية. وقد أدانها البابوان كلمنت الثاني عشر وبندكت الرابع عشر، ولكنها اجتذبت الأتباع العديدين خصوصاً من طبقة النبلاء وأحياناً من الأكليروس. وجلبت إلى إيطاليا بعض مؤلفات مونثسكو وفولتير ورينال ومايلي وكوندياك وهلفتيوس ودولباخ ولامتري. ونشرت طبعات من "الموسوعة" بالفرنسية في لوكا ولجهورن وبادوا. ووصلت حركة التنوير إلى إيطاليا بدرجة متواضعة وفي صورة ميسرة لمن يقرؤون الفرنسية. ولكن الإيطالي أعرض عن الفلسفة، وأعرض عنها عمداً؛ وعن قناعة في الأكثر الأعم. فلقد كان هواه ومهارته في إبداع أو تذوق الفن والشعر أو الموسيقى، وبدا له الجمال المحسوس أو المرئي أو المسموع أفضل من حقيقة رواغة لا يضمن إطلاقاً إشاعتها البهجة في نفسه. ومن ثم فقد ترك الدنيا تناقش وتجادل بينما انصرف هو إلى شدوه وغنائه.

الموسيقى

اعترفت أوربا للموسيقى الإيطالية بمكان الصدارة وقبلت آلاتها وأشكالها، ورحبت بمزاياها، وتوجت كبار مغنيها الخصان واستسلمت لأوبراها الشجية قبل جلوك وعلى الرغم منه وبعده. وأم جلوك وهاسمي وموتسارت ومئات غيرهم إيطاليا ليدرسوا موسيقاها، وليقفوا على أسرار "الغناء الجميل Bel cant" (الملعلع) من بوربورا أو يتسلموا مدالية بادري مارتيني.

يقول بيرني في معرض حديثه عن البندقية، "إذا سار اثنان معاً يتأبط أحدهما ذراع الآخر، بدا كأنهما لا يتحدثان إلا غناء. فكل الأغاني هناك ثنائيات". وكتب إنجليزي آخر "في ميدان القديس مرقص يرفع رجل من عامة الشعب-حذاء أو حداداً مثلاً-عقيرته بأغنية، وللتو ينضم إليه أشخاص على شاكلته ويشدون بهذه الأغنية في عدة أصوات، بضبط وذوق ندر أن يصادفهما المرء في أرقى المجتمعات في بلادنا الشمالية.

وكان العشق الواقف تحت نافذة حبيبته يداعب أوتار قيثارة أو مندولين كما يداعب قلب عذرائه. وحمل مغنو الشارع أنغامهم إلى المقاهي والحانات، وفي الجندول كانت الموسيقى تعانق هواء المساء، والصالونات والأكاديميات والمسارح تحيي الحفلات الموسيقية، والكنائس ترجها أصوات الأراغن وفرق المرتلين، وفي الأوبرا كان الرجال ينتشون طرباً والنساء يغبن عن الوعي عند سمع لحن من المغنية الأولى أو الخصي المغني. وفي حفلة سمفونية أحييت في روما في مكان لا تغطيه غير نجوم السماء (1758) سمع موريلليه عبارات عاطفية مثل (إيه أيها المبارك! يا للذة الكبرى! أكاد أموت طرباً!). ولم يكن من غير المألوف في دار الأوبرا أن نسمع النشيج يتردد بين الجمهور النظارة.

وأحب القوم آلاتهم الموسيقية حباً فوق وفاءهم للجنس الآخر، وسخوا بالمال ليجعلوا منها تحفاً صنعت بدقة من الخشب الثمين وطعمت بالعاج أو المينا أو رصعت بالأحجار الكريمة، وربما زين الهارب أو القيثارة بالماس. وكان ستراديفاري قد ترك في كريمونا تلاميذ له مثل جوزيني انطونيو جوارنيري ودومنيكو مونتانيانا واصلوا العلم بسر صنع الفيولينات والفيولات والفيولنشلات النابضة بالحياة. وظل الهاربسكورد (الذي كان الإيطاليون يسمونه كلافيتشمالبو) إلى نهاية القرن الثامن عشر آلة المفاتيح المفضلة في إيطاليا رغم أن بارتولوميو كريستوفوري كان قد اخترع البيانو-فورتي بفلورنسة حوالي 1709. وحظي كبار عازفي الهاربسكورد مثل دومنيكو سكارلاتي، أو الفيولينة مثل تارتيني وجمنياني، في هذا الدجيل بشهرة دولية. فكان فرانشسكو جمنياني بمثابة "ليست" أو كما لقبه منافسه تارتيني "مجنون" القوس (إلفوريبوندو). وحين وفد على إنجلترا في 1714 حظي بشعبيته في الجزر البريطانية أغرته بالإقامة هناك معظم سنيه الثماني عشرة الأخيرة.

وقد شجع ظهور أمثال هؤلاء العازفين المهرة على إنتاج الموسيقى الآلية، وكان هذا هو العصر الذهبي للمؤلفات الموسيقية الإيطالية للفيولينة. فاتخذت شكلها الآن-خصوصاً في إيطاليا-الافتتاحية، والمتتالية، والصوناتا، والكونسرتو، والسمفونية، وكلها ركز على اللحن والإيقاع، لا على الكونترابنت البوليفوني الذي كان آنئذ بالغاً أوجه ثم مختتماً حياته مع يوهان سبستيان باخ. وكما أن المتتالية انبثقت من موسيقى الرقص، فكذلك انبثقت الصوناتا من المتتالية. لقد كانت شيئاً يعزف، كما كانت الكنتاتا شيئاً ينشد. وأصبحت الصوناتا في القرن الثامن عشر سلسلة من ثلاث حركات-سريعة (الليجرو أو بريستو)، وبطيئة (أندانتي أو أداجو) وسريعة (بريستو أو الليجرو) ويدس فيها أحياناً سكيرتسو (دعابة) تذكر السامع برقصة الجيجة المرحة، أو مونيتة رشيقة تذكره بموسيقى الرقص. وما وافى عام 1750 حتى كانت الصوناتا، على الأقل في حركتها الأولى، قد طورت "شكل الصوناتا"-وهو عرض موضوعات متعارضة وأطالتها بالتنويع، ثم تلخيصا عند الختام. وبعد تجارب ج. ب. سامارتيني ورينالدودي كابوا في إيطاليا، ويوهان شتامتس في ألمانيا، تطورت السمفونية بتطبيق شكل الصوناتا على ما كان في الماضي افتتاحية أوبرالية أو مصاحبة سردية. وبهذه الوسائل هيأ الملحن اللذة للعقل والحواس معاً، وأعطى الموسيقى الآلية ميزة فنية جديدة هي البنيان المحدد الذي يقيد ويربط اللحن بنظام ووحدة منطقيين. ذلك أنه إذا انعدم البناء في فن ما-أي العلاقة العضوية بين الأجزاء والكل، أو العلاقة بين البداية والوسط والنهاية-كان ذلك معناه انحطاط هذا الفن.

أما الكونسرتو (من اللفظ اللاتيني Concertare ومعناه يتبارى) فقد طبق على الموسيقى مبدأ الصراع الذي هو روح الدراما. فعارض الأوركسترا بعازف منفرد، وأدخل الاثنين في مناظرة هارمونية. وكان شكله المفضل في إيطاليا الكونشرتو جروسو (الكبير)، حيث التعارض بين أوركسترا صغير من الوتريات، و"وكونسرتينو" (كونسرتو صغير) من عازفين أو ثلاثة. وكان ليفاليدي في إيطاليا وهاندل في إنجلترا، وباخ في ألمانيا، الفضل في صقل شكل الكونشرتو جروسو صقلاً مطرداً، وتحدت موسيقى الآلات تفوق الأغنية.

ومع ذلك، ظل الصوت-خصوصاً في إيطاليا-هو الآلة المحببة التي لا ضريب لها. ففي إيطاليا أتيحت له ميزة لغة عذبة رخيمة، تغلب فيها الصوت اللين على الساكن، وتقليد طويل من الموسيقى الكنسية، وفن بالغ الرقي في فنون التدريب الصوتي. هنا ظهر كبار مغنيات الأوبرا (البريمادونات) الفاتنات اللائى يرتقين كل عام سلم الثراء والبدانة، والمغنون الطواشية ذوو الأجسام الريانة الذين كانوا يخرجون من إيطاليا ليأسروا الملوك الملكات. هؤلاء المغنون السوبرانو أك الكونترالتو الذكور جمعوا بين رئات الرجال وحناجرهم، وبين أصوات النساء أو الغلمان. وكانوا بعد أن يطيشوا في سن السابعة أو الثامنة، ويخضعوا لنظام طويل دقيق من التدريب على التنفس والنطق، يتعلمون ترعيشات الصوت وتحلياته وتهدجاته، وتعاقب النغمات السريع ووقفات التقاط النفس-إلى آخر هذه الفنون التي جعلت جماهير السامعين الإيطاليين تهذي طرباً تعبر عنه أحياناً بهتاف هو "ليحيى المسكين الصغير". ذلك أن معارضة الكنيسة (لاسيما في روما) في استخدام النساء على خشبة المسرح وسوء تدريب المغنيات في القرن السابع عشر، كانا قد خلقا طلباً لباه هذا السكين الصغير الذي كان يقطع القنوات المنوية للذكر. وبلغ من عظم مكانة المغنين المطوشين إذا حالفهم الحظ أن بعض الآباء كانوا-بعد أن يغروا الصبي الضحية بالرضى بمصيره هذا-يسلمونه لهذه العملية بمجرد أن تبدو منه أول بادرة صوت رخيم. ولكن كثيراً ما كانت الآمال تخيب، فكنت تجد كل مدينة بإيطاليا كما ذكر بيرني نفراً من هؤلاء الفاشلين "لا صوت لهم على الإطلاق" وبعد عام 1750 اضمحلت بدعة الخصيان هذه، لأن مغنيات الأوبرا تعلمن أن يتفوقن عليهم في نقاء النغمة وينافسنهم في قوة الصوت.

أما أشهر الأسماء في موسيقى القرن الثامن عشر فلم يكن باخ ولا هاندل ولا موتسارت، بل فارينللي-وهذا ليس اسمه الأصلي. والظاهر أن كارلو بروسكي اتخذ اسم خاله الذي كان آنئذ معروفاً في دوائر الموسيقى. وإذ كان كارلو قد ولد في نابلي (1750) لأبوين عريقي الأصل، فما كان لمثله عادة يدخل صفوف المطوشين؛ وروى أن حادثاً أصابه وهو راكب جواده اقتضى إجراء العملية التي أثمرت أبدع صوت في التاريخ. ثم درس الغناء على بوريورا، وصحبه إلى روما، وظهر هناك في أوبرا بوريورا المسماة "إيوميني". وفي أحد الألحان نافس عارفاً على الناي في إطالة نغمة وتضخيمها وغطى عليه في طول النفس، فأتته الدعوات من أكثر من عشرة عواصم. وفي 1727 في بولونيا لقي أول هزيمة له؛ ذلك أنه قاسم أنطونيو برناكي لحناً، فاعترف له بأنه (ملك المغنين)، وتوسل إليه أن يكون معلمه. ووافق برناكي، وسرعان ما بز التلميذ معلمه. وراح فارينللي يحرز الآن نصراً بعد نصر في البلد تلو البلد-البندقية وفينا وروما ونابلي وفيرارا ولوكا وتورين ولندن وباريس. وكان تفننه الصوتي عجيبة العصر. وكان فن التنفس من أسرار براعته، فقد عرف أكثر من أي مغن آخر كيف يتنفس بعمق وسرعة وهدوء، وكان في استطاعته أن يستمر في غناء بنغمة ما بعد أن تتوقف جميع الآلات الموسيقية. وفي لحن Son Qual nave (على أي مركب) بدأ النغمة الأولى مخافتاً لا يكاد يسمع، وطها تدريجياً إلى ملء حجمها، ثم هبط بها شيئاً فشيئاً إلى خفوتها الأولى. وكان جمهور السامعين أحيانا، حتى في إنجلترا-ذلك البلد الرصين-يصفق لهذه العجيبة السعيدة تصفيقاً يمتد خمس دقائق. وقد اكتسب قلوب سامعيه كذلك بحنانه وكياسته ورقته، وكانت هذه الخلال في فطرته كما كانت في صوته. وفي 1737 قام بزيارة لأسبانيا خالها قصيرة، ولكن المكث طال به في مدريد أو قربها ربع قرن وسوف نفتش عليه هناك في فصل لاحق.

وبفضل المغنين الطواشية أمثال فارينللي وسينيزينو، وكواكب الغناء من النساء أمثال فاوستينا بوردوني وفرنشسكا كوتسوني، أصبحت الأوبرا صوت إيطاليا، وبهذه المثابة استمع إليها الناس بابتهاج في كل بلد أوربي إلا فرنسا حيث اشتعلت نار الحرب. وكلمة "أوبرا" كانت في الأصل جمع "opus" ومعناها "أعمال" ولكن الجمع أصبح في إيطاليا مفرداً، واحتفظ بمعناه "العمل"، وما نسميه الآن أوبرا كان يسمى Opera Per Musica-عملاً موسيقياً. ولم تتخذ الكلمة معناها الحالي إلا في القرن الثامن عشر. وإذ كانت متأثرة بتقاليد الدراما اليونانية، فقد صممت أصلاً على أنها تمثيلية تصاحبها الموسيقى، ثم ما لبثت الموسيقى أن طغت على التمثيلية في إيطاليا، وطغت الأغاني (الآريا) على الموسيقى. وصممت أوبرات تتيح عروضاً منفردة لكل مغنية أولى وكل مغن أول في الفرقة. وكان السامعون يتجاذبون الحديث فيما بين هذه القمم المثيرة، وبين الفصول يلعبون الورق أو الشطرنج، ويقامرون، ويأكلون الحلوى أو الفاكهة أو العشاء الساخن, ويتزاورون ويغازلون من مقصورة إلى مقصورة. في مثل هذه المهرجانات كان النص عادة يغرق في طوفان معترض في الأغاني والثنائيات والكوارس والباليهات. وقد ندد المؤرخ لودقيكو موراتوري بطمس العشر على هذا النحو (1701) ووافقه كاتب النصوص أبوستولوتسينو، وانتقد المؤلف الموسيقي بنديتو مارنشيللي هذا الاتجاه في "تياترو على الموضة" (1721). وأوقف متاستاسيو حيناً هذا السيل الجارف، ولكن في النمسا لا في إيطاليا. وناضل جوميللي وتراييتا ضده، ولكن مواطنيها أنكروا عليها هذا النضال، ذلك أن الإيطاليين آثروا في في غير مواربة الموسيقى على الشعر، واتخذوا الدراما مجرد تكئة للأغنية.

وأغلب الظن أنه ما من شكل فني آخر وعاه التاريخ حظي بالشعبية التي حظيت بها الأوبرا في إيطاليا، وما من حماسة ضارعت حماسة جمهور إيطالي يرحب بلحن أو قفلة يشدو بها مغنٍ مشهور. ولو سعل أحد المستمعين في حفلة كهذه لعد ذلك منه جريمة اجتماعية كبرى. وكان التصفيق يبدأ قبل أن تختم الأغنية المألوفة، وتدعمه العصي تدق على الأرض أو على ظهور المقاعد، وكان بعض المتحمسين يقذفون بأحذيتهم في الهواء. وكان لكل مدينة إيطالية تزهو بنفسها قليلاً أو كثيراُ (وأيها كانت مبرأة من الزهو؟) دار للأوبرا، وبلغ عدد هذه الدور في الولايات البابوية وحدها أربعين. وبينما كانت الأوبرا في ألمانيا حفلة رسمية تؤدى في البلاط ويحرم منها جمهور الشعب، وبينما حد من مستمعيها في إنجلترا ارتفاع أسعار الدخول، نجدها في إيطاليا مفتوحة لكل شخص لائق الهندام نظير رسم متواضع، وأحياناً دون رسم على الإطلاق. ولما كان الإيطاليون قوماً يحبون الاستمتاع بالحياة فقد أصروا على أن يكون لأوبراتهم خاتمة سعيدة مهما كان في هذه الأوبرات من فواجع. ثم أنهم أحبوا الفاكهة كما أحبوا رقة العاطفة. فنما بينهم تقليد يقضي بدس فاصل هزلي بين فصول الأوبرا. ثم تطورت هذه الفواصل إلى نوع قائم بذاته حتى لقد نافست (الأوبرا الجادة) في شعبيتها، وأحياناً في طولها. والذي فتن باريس في 1752 كان "أوبرا هازلة-Opera Buffa" وهي الخادمة تنقلب ربة البيت La Serva Padrann لبرجوليزي، التي أشاد بها روسو دليلاً على تفوق الموسيقى الإيطالية على الفرنسية.

أياً كانت الأوبرا الإيطالية، هازلة أو جادة، فإنها كانت قوة في التاريخ. وكما غزت روما مرة غربي أوربا بجيوشها، وكما غزتها كنيسة روما مرة ثانية بعقيدتها، كذلك غزتها إيطاليا مرة ثالثة بالأوبرا. فأزاحت أوبراتها الإنتاج الوطني في ألمانيا والدنمارك وإنجلترا والبرتغال وأسبانيا بل وروسيا، وكان مغنوها معبودي كل عاصمة أوربية تقريباً. واتخذ المغنون الوطنيون أسماء إيطالية لكي يحظوا بالقبول في وطنهم. وسيمضي هذا الغزو الساحر ما بقي للحروف اللينة التفوق في الغناء على الحروف الساكنة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الدين

كانت الطبقة المسيطرة في إيطاليا هي طبقة الأكليروس بعد البريمادونات والمغنين الخصيان. وراح رجال الدين يمشون أو يركبون في غفاراتهم المتميزة وقبعاتهم العريضة الخواف في حرية تخالطها الكبرياء عبر المجتمع الإيطالي عالمين أنهم يوزعون أغلى نعمة عرفتها البشرية-هي نعمة الرجاء. وبينما كانت نسبة رجال الكنيسة إلى الشعب في فرنسا في هذا القرن على التقريب واحداً إلى مائتي نفس، كانت النسبة في روما واحداً لكل خمس عشرة، وفي بولونيا واحداً لكل شبع عشرة، وفي نابلي وتورين واحداً لكل ثمان وعشرين. وقد شكا رجل معاصر من أهل نابلي من هذا الوضع، وهو باعترافه رجل متمسك بالتقاليد:

  "لقد استفحل عدد الأكليروس بحيث اصبح لزاماً على الأمراء أن يتخذوا الإجراءات للحد من عددهم وإلا ابتلعوا الدولة بأسرها. فأي ضرورة لأن يهيمن على أصغر القرى الإيطالية خمسون قسيساً أو ستون؟...أن العدد الضخم من أبراج الأجراس والأديرة يحجب نور الشمس. وهناك مدن يبلغ فيها العدد خمسة وعشرين ديراً لرهبان أو راهبات الدومينكان وسبعة مجامع لليسوعيين، ومثلها للتياتين، ونحو عشرين أو ثلاثين ديراً للأخوة الفرنسيسكان، وما لا يقل عن خمسين أخر من طوائف دينية مختلفة من الجنسين، هذا فضلاً عن أربعمائة أو خمسمائة كنيسة ومصلى".  

ولعل هذه الأرقام بالغ فيها الكاتب دعماً لحجته. ونحن نسمع عن أربعمائة كنيسة في نابلي، و260 في ميلان، و110 في تورين، على أن هذه دخلت ضمنها المصليات الصغيرة. وكان الرهبان فقراء نسبياً، أما الأكليروس من غير الرهبان فكانوا في جملتهم يملكون ثروة تفوق ثروة النبلاء. وكان الأكليروس في مملكة نابلي يحصلون على ثلث الموارد. وفي دوقية بآرما كان نصف الأرض يملكه الأكليروس، وفي تسكانيا ثلاثة أرباع الأرض تقريباً. وفي البندقية أضافت الوصايا الجديدة في السنوات الإحدى عشرة من 1755 إلى 1765 إلى الكنيسة من الأملاك ما قيمته 3.300.000 دوقاتية. وكان بعض الكرادلة والأساقفة من أغنى الرجال في إيطاليا، ولكن هؤلاء الكرادلة والأساقفة كانوا أولاً مديرين وحكاماً، ولم يكونوا قديسين إلا أحياناً. من ذلك أن عدة رجال منهم في النصف الثاني من القرن نزلوا عن ثروتهم وترفهم وعاشوا حياة الفقر الاختياري.

أما الشعب الإيطالي فلم يبد منه أي احتجاج ذي بال على ثراء الأكليروس، اللهم إلا قلة من المعلقين والهجائين. لقد كان الشعب فخوراً ببهاء كنائسه وأديرته وأحباره وبدت لهم مساهماتهم ثمناً زهيداً يدفعونه لقاء النظام الذي وفره الدين للأسرة والدولة. وكان في كل بيت صورة أو تمثال للمسيح المصلوب، وآخر للعذراء، وأمامهما تركع الأسرة كلها في صلاة كل مساء-الأبوان والأبناء والخدم. فأي شيء يستطيع الحلول محل التأثير الأخلاقي لتلك الصلوات الموحدة بين القلوب؟ وكان الامتناع عن أكل اللحم أيام الجمع، وأيام الأربعاء والجمع في الصوم الكبير، ضبطاً نافعاً للشهوة-كما كان نعمة على الصحة وعلى صيادي السمك. أما القساوسة، الواعون لمفاتن النساء، فلم يغالوا في إدانة خطايا الجسد، وأغضوا عن مظاهر التحلل في الكرنفالات. لا بل أن البغايا كن في السبوت يوقدن شمعة أمام العذراء، ويودعن نقوداً لترتيل القداس. وقد أدهش دبروس وهو يشاهد تمثيلية في فيرونا أن يرى التمثيل يتوقف حين دقت أجراس الكنائس معلنة موعد الصلاة (الأنجيلوس)، وركع كل الممثلين وصلوا، وقامت ممثلة كانت تتصنع الإغماء في المسرحية لتشارك في الصلاة ثم عادت إلى إغمائها. حقاً ندر أن أحب الناس ديناً من الأديان حباً جماً كما أحب الإيطاليون الكثلكة في إيطاليا. على أنه كان للصورة وجه آخر-هو الرقابة على المطبوعات وديوان التفتيش. وقد طالبت الكنيسة كل إيطالي أو إيطالية أن يؤدي مرة في السنة على الأقل "واجب عيد القيامة"-أي يذهب للاعتراف على الكاهن في سبت النور، ويتناول القربان في صباح القيامة. فإذا قصر في هذا الواجب-في كل أرجاء إيطاليا باستثناء أكبر المدن-استوجب التوبيخ من الكاهن، فإذا لم يجد مع العاصي التوبيخ والنصح سراً عوقب بنشر اسمه على أبواب كنيسة الأبرشية، فإذا تمادى في الرفض كان جزاؤه الحرم، بل السجن في بعض المدن. على أن ديوان التفتيش كان قد فقد الكثير من قوته وشرته. وكان في الإمكان تفادي الرقابة الكنسية في المراكز الكبرى، فخفت الرقابة على المطبوعات، وكان هناك انتشار صامت للشك الهرطقة في أوساط المثقفين لا بل بين رجال الأكليروس أنفسهم-لأن بعضهم كانوا جانسنيين في دخيلة أنفسهم برغم أوامر البابا.

وإذا كان الكثير من القساوسة والرهبان قد عاشوا حياة الراحة والدعة، ولم يكونوا غرباء على الإثم، فقد كان هناك أيضاً الكثيرون ممن وفوا ينذروهم، واحتفظوا بالإيمان حياً بالإخلاص لواجباتهم. وقامت المؤسسات الدينية الجديدة شاهداً على بقاء نبض الحياة في الرهبنة. من ذلك أن القديس الفونسودي لجيرومي المحامي العريق الأصل أسس في 1732 جماعة "أتباع الفادي" (أي المسيح)، كذلك أسس القديس بولس الصليبي (باولودانتي)، الذي مارس أقسى ضروب النسك، في 1737 "طائفة المتألمين". أي إتباع صليب المسيح المقدس وآلامه.

وكانت جماعة اليسوعيين في 1730 تضم نحو 23.000 عضو. منهم 3.622 في إيطاليا، ونصفهم قساوسة. ولم يكن هناك تناسب قط بين سلطانهم وعددهم. فكثيراً ما أثروا في السياسة الداخلية والدولة بحكم كونهم آباء الاعتراف للملوك والملكات والأسر المرموقة، وكانوا أحياناً أكثر القوى إلحاحاً-بعد جماهير الشعب-في اضطهاد الهرطقة. ومع ذلك كانوا أكثر اللاهوتيين الكاثوليك تحرراً، وقد رأينا في غير من هذا الموضع كم حاولوا في صبر أن يتوافقوا مع حركة التنوير الفرنسية. وقد تميزت بعثاتهم الخارجية بمثل هذه المرونة. ففي الصين حولوا مئات الألوف إلى الكاثوليكية، ولكن تنازلاتهم الذكية لعبادة الأسلاف، وللكنفوشية، وللطاوية، صدمت مبعوثي الطوائف الدينية الأخرى فاقنعوا البابا بندكت الرابع عشر بأن يكبح جماح اليسوعيين ويوبخهم في مرسوم Ex quo Singulari (1743). على أنهم ظلوا برغم ذلك أقدر وأعلم على العقيدة الكاثوليكية ضد البروتستانتية والإلحاد، وأخلص المؤيدين للباباوات ضد الملوك. وقد وجد الملوك في جماعة اليسوعيين أثناء صراعات السيادة والسلطة بين الدول القومية والكنيسة التي تعلو على القوميات عدواً هو أشد أعدائهم دهاء وإلحاحاً. ومن ثم فقد صحت نيتهم على القضاء عليها. ولكن الفصل الأول في هذه الدراما مكانه البرتغال.

من تورين إلى فلورنسة

إذا دخلنا إيطاليا من فرنسا بطريق مون-سني، هبطنا جبال الألپ إلى بيدمونت التي تسمى "سفح الجبل" ثم مررنا بكروم وحقول للحبوب وبساتين لأشجار الزيتون أو الكستناء حتى نبلغ توبرين، القصبة القديمة لبيت سافوي والتي يرجع عمرها ألفي سنة. وهذا البيت من أقدم الأسر الملكية الموجود، وقد أسسه في 1003 أومبرتو بيانكامانو-هومبرت ذو اليد البيضاء. وكان رأس الأسرة في الحقبة التي نحن بصددها من أكفأ حكام العصر. فقد ورث فكتور أماديوس الثاني عرش دوقية سافوي في التاسعة من عمره (1675) واضطلع بشؤون الحكم في الثامنة عشرة وقاتل من أجل الفرنسيين آناً وضدهم آناً في حروب لويس الرابع عشر، وشارك أوجين السافواوي في طرد الفرنسيين من تورين وإيطاليا، وخرج من معاهدة أوترخت (1713) وقد أضاف صقلية إلى تاجه. وفي 1718 استبدل سردينا بصقلية، واتخذ لقب ملك ساردينا (1720) ولكنه احتفظ بتورين عاصمة له. وحكم مملكته بكفاية تشوبها الخشونة، وأصلح التعليم العام وزاد في رفاهية الشعب، وبعد أن حكم خمسة وخمسين عاماً تخلى عن العرش لابنه شارل إيمانويل الأول (حكم 1730-73).

كانت تورين خلال هذين الحكمين اللذين امتدا قرابة قرن كامل مركزاً قيادياً للحضارة الإيطالية. وقد وصفها مونتسيكو الذي شاهدها في عام 1728 بأنها "أجمل مدينة في العالم" مع أنه أحب باريس. وامتدح تشسترفيلد عام 1749 بلاط سافوي لأنه خير بلاط في أوربا يربي "أناساً مهذبين لطفاء". وبعض الفضل في بهاء تورين راجع إلى فليبو يوفار، المعماري الذي كان لا يزال يتنفس وحي النهضة الأوربية. فعلى تل سوبرجا الشامخ الذي يعلو 2.300 قدم فوق المدينة بنى (1717-31) لڤكتور أماديوس الثاني في ذكرى تحرير تورين من احتلال الفرنسيين باسيليقا جميلة بطراز الأروقة والقباب الكلاسيكي استخدمت مقبرة لأسرة سافوي الملكية قرناً من الزمان. ثم أضاف إلى قصر ماداما العتيق (1718) سلماً فخماً وواجهة ضخمة، وفي 1729 صمم قلعة ستوبينجي الهائلة (التي أكملها بنديتو ألفييري) والتي أبرز بهوها الرئيسي كل فخامة الباروك الحالية. وظلت تورين عاصمة لأدواق سافوي حتى انتقلوا بعد نصرهم النهائي (1860 وما بعدها) إلى روما ليتربعوا على عرش إيطاليا الموحدة.

أما ميلان التي طالما خنقتها السيطرة الأسبانية فقد بعثت من جديد تحت الحكم النمساوي الأكثر رفقاً. ففي 1703 أنشأ فرانترتيفن، وفي 1746 و1755 استكمل فيليتشي وروكليريتشي بمعونة الحكومة، مصانع للنسيج وسعت من إحلال الإنتاج الواسع النطاق الذي يموله ويديره رأس المال محل الحرف والنقابات الحرفية. أما التاريخ الثقافي لميلان فقد لمع فيه الآن اسم جوفاني باتيستا سامارتيني، الذي نستطيع إلى الآن الاستماع إليه أحياناً على أمواج الأثير المتدفقة. ويلاحظ أنه في سمفونياته وصوناناته استبدل بوقار موسيقى كبار الموسيقيين الألمان الكونترابنتي تفاعلاً ديناميكياً بين الموضوعات والحالات النفسية والمتعارضة. وحين وفد الفتى جلوك على ميلان (1737) ليشغل وظيفة موسيقي الحجرة للأمير فرانتشسكوملتسي، أصبح تلميذ سامارتيني وصديقه واتخذ طريقه في بناء هيكل الأوبرا. وفي 1770 صاح المؤلف الموسيقي البوهيمي يوزف مزلفتشك، وهو يصغي مع موتسارت الشاب إلى بعض سمفونيات سمارتيني في ميلان "لقد وجدت الأب الذي أنجب أسلوب هايدن!"-وهو إذن أحد آباء السمفونية الحديثة.

وأما جنوه فقد كابدت خطوباً في القرن الثامن عشر. كانت تجارتها قد انحطت إثر منافسة المحيطات للبحر المتوسط، ولكن موقعها الاستراتيجي على ربوة دفاعية تطل على ثغر حسن الإعداد لفت الانتباه الخطر من الدول المجاورة. ووقعت الحكومة المحصورة بين أعداء من الخارج وشعب غضوب جاهل من الداخل في أيدي أسر تجارية قديمة تحكم عن طريق مجلس مغلق ودوج مطيع. هذه الأولجركية العاملة على تخليد نفسها في كراسي الحكم أثقلت كاهل الشعب بالضرائب حتى هوى إلى درك الفقر الكئيب الفاقد الصبر، وسيطر عليها وابتزها هي الأخرى بنك سان جورجو. فلما حاصرت قوات سافوي والنمسا المتحالفة جنوه في 1746 لم تجرؤ الحكومة على تسليح الشعب ليقاوم خشية أن يقتل الحكام، وآثرت أن تفتح أبوابها للمحاصرين الذين فرضوا تعويضات وفديات جرت عليها الخراب المالي. أما العامة الذين فضلوا المستغلين من بني جلدتهم، فقد ثاروا على الحامية النمساوية، وقذفوها بوابل من البلاط والطوب انتزعوه من الأسطح والشوارع، وطردوها طرداً مخزياً ثم عاود الطغيان القديم سيرته الأولى.

وشيد نبلاء جنوه القصور الجديدة مثل قصر فيراري، وشاركت ميلان في رعاية مصور بلغ شهرة من المرتبة الثانية في عصرنا هذا. فتكاد كل صورة باقية من الصور التي رسمها ألساندور ماناسكو ترعنا بأصالة أسلوبها القاتمة. فصورة "بنكينللو يعزف على القيثارة"-جسد مستطيل في بقع مهملة سوداء وبنية، واللوحة الرشيقة المسماة "فتاة وموسيقى أمام المدفأة" ولوحة "الحلاق" تبدو عليه اللهفة على قطع حلقوم زبونه، ولوحة "حجرة طعام الرهبان" الضخمة الشاهدة على ازدهار مطبخ الكنيسة، هذه كلها روائع فنية تذكرنا بالجريكو في أجسادها النحيلة وحيلها الضوئية، وترهص بجويا في فضحها الرهيب لقساوات الحياة، وتنزع إلى الحداثة في احتقارها الخشن للتفاصيل المتكلفة المتزمتة.

وشهدت فلورنسة في هذا العصر نهاية أسرة من أشهر أسر التاريخ. فقد كان حكم كوزيمو الثالث (1670-1723) الذي طلا أمده أرشيدوقاً لتسكانيا نكبة على شعب مازال فخوراً بذكريات عظمة فلورنسة تحت حكم آل مديتشي الأسبقين. وقد سمح كوزيمو هذا الذي تسلط اللاهوت على تفكيره للأكليروس بأن يحكموه ويبتزوا من موارده الهزيلة منحاً سخية للكنيسة. وكان من أثر الحكم المستبد، والإدارة العاجزة، والضرائب الباهظة أن فقدت الحكومة التأييد الشعبي الذي حظيت به الأسرة المالكة طوال مائتين وخمسين عاماً.

وآثر فرديناند بن كوزيمو الأكبر الگواني على رجال حاشيته، ودمر صحته بالإفراط في اللذات، ومات أبتر لا عقب له في 1713. وكان لكوزيمو ابن يدعى جان (يوحنا) جاستوني أولع بالكتب، ودرس التاريخ والنبات، وعاش حياة هادئة. وفي 1697 أكرهه أبوه على الزواج من آن أميرة ساكس لاونبرج، وكانت أرملته فقيرة الثقافة. وذهب جان ليعيش معها في قرية بوهيمية نائية، واحتمل الملل عاماً، ثم تعزى بالخيانات الزوجية في براغ. فلما ساءت صحة فرديناند، استدعى كوزيمو جان إلى فلورنسة، ولما مات فرديناند أعلن جان وريثاً لتاج الأرشيدوقية. ورفضت زوجة جان أن تعيش في إيطاليا. وخشي كوزيمو أن ينقرض بيت مديتشي، فامتنع مجلس الشيوخ الفلورنسي بأن يصدر قراراً يقضي عند موت جان جاستوني دون عقب بأن تؤول العرش إلى شقيقة جان المدعوة آنا ماريا لودفيكا.

وحامت الدول الأوربية في لهفة حول الأسرة المحتضرة. ففي 1718 رفضت النمسا وفرنسا وإنجلترا وهولندا الاعتراف بترتيب كوزيمو، وأعلنت أنه يجب عند وفاة جان أن تعطى تسكانيا وبارما لدون كارلوس الابن الأكبر لاليزابث فارنيزي ملكة أسبانيا. واحتج كوزيمو، وأعاد تنظيم دفاعات لجهورن وفلورنسة الحربية ولكن متأخراً. وخلف موته لابنه دولة أنهكها الفقر وعرشاً مزعزع الأركان.

وكان جان جاستوني الآن (1732) في عامه الثاني والخمسين. فجاهد ليصلح مساوئ الإدارة والاقتصاد، وطرد الجواسيس والمتملقين الأذلاء الذين أثروا في عهد أبيه وخفض الضرائب وأعاد المنفيين، وأفرج عن السجناء السياسيين، وعاون على إحياء الصناعة والتجارة ورد لحياة فلورنسة الاجتماعية الأمان والمرح. وبفضل إثراء كوزيمو الثاني وجان جاستوني لقاعة الأوفيتسي للفنون، وازدهار الموسيقى تحت قيادة كما فرانسشكو فيراتشيني، والمراقص التنكرية، ومواكب العربات المزخرفة، ومعارك الحلوى والأزهار الشعبية-بفضل هذا كله أصبحت فلورنسة تنافس البندقية وروما في جذب الزوار الأجانب، مثال ذلك أنه اجتمع فيها حوالي عام 1740 الليدي ماري ورتلي مونتاجو، وهوراس ولبول، وتوماس جراي حول الليدي هنرييتا بومفريت في قصر ريدولفو. إن في المجتمع المحتضر شيئاً يجذب إليه الناس جذباً حزيناً.

ولما أضنت جان جاستوني جهوده، أحال في 1731 تبعات الحكم إلى وزرائه وانزلق إلى هوة اللذات الحسية. وجردت أسبانيا جيشاً عدته ثلاثون ألف مقاتل لتضمن الخلافة لدون كارلوس، وأرسل شارل السادس النمساوي خمسين ألف جندي ليرافقوا ابنته ماريا تريزا في طريقها إلى عرش الأرشيدوقية. وأمكن تفادي الحرب باتفاق (1736) أبرم بين النمسا وفرنسا وإنجلترا وهولندا يقضي بأن يأخذ كارلوس نابلي، وأن تأخذ ماريا وزوجها فرانسوا اللوزيني-وتسكانيا. وفي 9 يوليو 1737 قضى آخر المديتشيين نحبه وأصبحت تسكانيا تابعة للنمسا وازدهرت فلورنسة من جديد.

ملكة الأدرياتيك

بين ميلان والبندقية استرخت بعض المدن الصغرى. فبرجامو اضطرت إلى أن تقنع في نصف القرن الذي نحن بصدده بمصورين مثل جيسلاندي، وبمؤلفين موسيقيين مثل لوكاتيللي. وقدمت فيرونا الأوبرات في مسرحها الروماني، وكانت محظوظة برجل مرموق هو المركيز فرانشسكو سكبيوني دي مافي. وقد قلد فولتير مسرحيته الشعرية (ميروبي) (1713) وأهداه في كرم مسرحيته (ميروب) باعتباره "أول كاتب أوتي من الشجاعة والعبقرية ما أعانه على المغامرة بكتابة مأساة تخلوا من الغزل، مأساة جديرة بأثينا في عزها، حيث تكون محبة الأم هي قوام المؤامرة كلها، وينبعث أرق ضروب التشويق من أطهر الفضائل(32)". وهناك عمل آخر لمافي أبرز حتى من مسرحيته تلك وهو "فيرونا المصورة" (1731-32) وهو كتاب بدأ تحديد خطى علم الآثار. واعتزت مدينته به فأقامت له تمثالاً في حياته. وكانت فتشنتسا بمبانيها التي شيدها بلاديو كعبة يحج إليها المعماريون الذين يحبون الطراز الكلاسيكي. أما بادوا فكان بها جامعة اشتهرت بكليتي الحقوق والطب ولمه فيها جوزبي تارتيني، الذي اعترف به الجميع (عدا جمنياني) إماماً لعازفي الفيولينة الأوربيين، ومن الذي لم يستمع إلى موسيقى تارتيني "رعشة الشيطان"؟

هذه المدن كلها كانت جزءاً من جمهورية البندقية. وكذلك كانت تريفيزو وفريولي، وفلتري، وباسانو، وأوديني، وبللونو، وترنتو، وبولتسانو في الشمال، واستريا في الشرق، وفي الجنوب امتدت دولة فينيتسيا مخترقة كيودجا وروفيجو إلى نهر بو، وملكت عبر الأدرياتيك كتارو وبريفيتسا وأجزاء أخرى مما يقع في يوغوسلافيا وألبانيا، وكانت تملك في الأدرياتيك جزائر كورفو وكفالونيا وزنطة. وسكن هذا الملك المعقد نحو ثلاثة ملايين من الأنفس كل منها يعد نفسه مركز العالم.

الحياة الفينيتسية

أما مدينة البندقية ذاتها عاصمة الجمهورية، فكانت تضم 137.000-نسمة. وكانت الآن في فترة اضمحلال سياسي واقتصادي، بعد أن استولى الترك على إمبراطوريتها الأيجية، وانتزعت دول الأطلنطي الكثير من تجارتها الخارجية. وكان فشل الحروب الصليبية، وإعراض الحكومات الأوربية بعد انتصارها في ليبانتو (1571) عن تقديم المعونة للبندقية في الدفاع عن مخافر العالم المسيحي الأمامية في الشرق، ولهفة تلك الحكومات على أن تقبل من تركيا امتيازات تجارية ضنت بها على أشجع أعدائها-هذه التطورات كلها قد خلفت البندقية في حال من الضعف أعجزها عن الاحتفاظ ببهائها أيام النهضة، ومن ثم أن ترعى بيتها هي-فتمنح مملكاتها الإيطالية والأدرياتية حكومة صارمة في القانون، والرقابة السياسية، والإشراف الشخصي، ولكنها كفء في الإدارة، متسامحة في الدين والأخلاق، متحررة في التجارة الداخلية.

وكانت تحكمها أولجركية شأن غيرها من جمهوريات أوربا في القرن الثامن عشر. وفي هذا الخليط من حطام السلالات المختلفة-انطونيين وشيلوكيين وعطيليين، وبين جماهير لم تصب من التعليم حظاً يذكر، بطيئة التفكير سريعة الحركة، تؤثر اللذة على السلطة، كان معنى الديمقراطية -لو استقرت فيها-هو الفوضى المتوجة. ومن ثم قصر الحق في عضوية المجلس الأعلى على نحو ستمائة أسرة تضمنها "الكتاب الذهبي" ولكن هذه الأرستقراطية الوطنية أضيفت لها إضافات حكيمة من صفوف التجار ورجال المال وإن كانوا من دم غريب. وكان المجلس الأعلى يختار السناتو، الذي كان يختار مجلس العشرة القوي النفوذ. وكان جيش من الجواسيس ينتقل في صمت بين المواطنين ويبلغ القضاة بأي تصرف أو كلام مريب يصدر من أي بندقي-حتى من الدوج نفسه. وكان الأدواج الآن عادة حكاماً صوريين وظيفتهم استقطاب الوطنية وتزيين الدبلوماسية.

وكان الاقتصاد يخوض معركة خاسرة ضد المنافسة الأجنبية ورسوم الاستيراد وقيود النقابات الحرفية. ولم تتوسع صناعة البندقية لتبلغ مرحلة المشروعات الحرة والتجارة الحرة والإدارة الرأسمالية، بل قنعت بشهرة حرفها. ولم يبق في صناعة الصوف التي كانت تشغل ألفاً وخمسمائة عامل في عام 1700 غير ستمائة في نهاية القرن، واضمحلت صناعة الحرير في الفترة ذاتها فلم يبق فيها غير ألف واحد بعد أن حفلت باثني عشر ألفاً. وقاوم صناع زجاج مورانو كل تغيير في الطرق التي أذاعت في الماضي شهرتهم في طول أوربا وعرضها، وتسربت أسرارهم إلى فلورنسة وفرنسا وبوهيميا وإنجلترا، واستجاب منافسوهم لما طرأ من تقدم على الكيمياء، وللتجارب التي أجريت في الصناعة، وهكذا ولى زمان المورانو. وبالمثل استسلمت صناعة الدنتلا لمنافسيها وراء الألب، فلم يحل عام 1750 حتى كان البنادقة أنفسهم يلبسون المخرمات الفرنسية. وازدهرت صناعتان: مصايد الأسماك التي استخدمت ثلاثين ألف رجل، واستيراد العبيد وبيعهم.

ولم يسمح للدين بالتدخل في أرباح التجارة أو لذات الحياة. ونظمت الدولة جميع المسائل المتعلقة بممتلكات الكنيسة وبجرائم رجال الدين. وكان اليسوعيون قد أعيدوا في 1657 بعد طردتهم في 1606، ولكن بشروط حدت من نفوذهم في التعليم والسياسة. ووجدت تعاليم فولتير وروسو وهلفتيوس وديدرو طريقها إلى صالونات البندقية ولو بطريق الزوار رغم أن الحكومة حظرت استيراد مؤلفات الفلاسفة الفرنسيين، وداعبت الأرستقراطية في البندقية كنظيرتها في فرنسا الأفكار التي استنزفت قوتها. وقبل الناس الدين على أنه عادة لا شعورية تقريباً من عادات الشعائر والإيمان، ولكنهم كانوا يلهون أكثر مما يصلون. وقد وصف مثل بندقي أخلاقيات البنادقة بكل ما في الأبجرام من قصور، "في السباح قداس صغير، وبعد الغداء لعبة قمار صغيرة، وفي المساء امرأة صغيرة". وذهب الشبان إلى الكنيسة لا ليصلوا للعذراء ولكن ليدققوا النظر في النساء. وكان النساء برغم الغضبات الكنسية والحكومية يرتدين "الديكولتيه" الذي يكشف عن نحورهن وظهورهن وكانت الحرب المتصلة بين الدين والجنس تهيئ للجنس أسباب النصر.

وأجازت الحكومة البغاء المنظم إجراءاً واقياً لسلامة الشعب. واشتهرت غواني البندقية بجمالهن، ودماثة طباعهن، وفخامة لباسهن، وبذخ مساكنهن المشرفة على القناة الكبرى. وكان عدد المعروض من هؤلاء الغواني (Cortigiane) كبير، ولكنه رغم ذلك قصر على الوفاء بالطلب. وكان المقتصدون من البنادقة، والأغراب مثل روسو، يتجمعون معاً اثنين أو ثلاثة لينفقوا على محظية. ولكن النساء المتزوجات انغمسن في العلاقات الغرامية الخطرة رغم هذه التسهيلات، ولم يكتفين بمرافقيهن من "السادة الخدام"، واختلف بعضهن إلى الكازينوات التي وفرت فيها كل أسباب اللقاءات الغرامية. ووبخت الحكومة علناً عدة نساء نبيلات لسلوكهن المنحل، وأمرت بعضهن أن يلزمن بيوتهن، ونفت بعضهن خارج البلاد. ولكن الطبقات الوسطى كانت أكثر تعقلاً، وكان تعاقب النسل يشغل الزوجة ويشبع حاجتها لتلقى الحب وبذله. ولم تغدق الأمهات على أطفالهن في أي بلد آخر ما أغدقته في البندقية من عبارات الإعزاز الحارة. ومن عباراتهن المأثورة: (يا سبع القديس مرقص! يا بهجتي! يا زهرة ربيعي!).

أما الجريمة فكانت في البندقية أقل منها في أي بلد آخر في إيطاليا، فقد كبح جماح العدوان كثرة ضباط الشرطة والأمن ويقظتهم. ولكن القوم تقلبوا القمار على أنه عمل من أعمال الإنسان الطبيعية. ونظمت الحكومة يانصيباً في 1715. وافتتح أول نادٍ للقمار في 1638، وسرعان ما كثر عدد هذه الأندية العامة والخاصة التي تهرع إليها جميع الطبقات.

وكان في استطاعة مهرة المقامرين المخادعين من أمثال كازانوفا أن يعيشوا على مكاسبهم من القمار، في حين يخسر غيرهم مدخرات عام بأكمله في ليلة واحدة. وكان المقامرون ينحنون على مائدة القمار في حب صامت أحر من عشق الناس. أما الحكومة فكانت تتفرج بعين الرضى (حتى1774)، لأنها فرضت الضرائب على أندية القمار وبلغ إيرادها السنوي منها نحو 300.000 جنيه.

وأقبل العاطلون والأغنياء من شتى الدول لينفقوا مدخراتهم أو سني شيخوختهم وسط الاسترخاء الخلقي والمرح المطلق في الميادين والقنوات. وخفت حمى السياسة بعد أن تخلا الجمهورية عن إمبراطوريتها. ولم يجرِ حديث الثورة هنا على أي لسان، فقد كان لكل طبقة عاداتها وتقاليدها العاملة على الاستقرار، واستغراقها في الواجبات التي تقبلتها، هذا فضلاً عن المسرات المتاحة لها. وكان الخدم طيعين أوفياء، ولكنهم لا يطيقون الإهانة أو الازدراء. وكان ملاحو الجندول فقراء، ولكنهم ملوك البحيرات، يقفون على زوارقهم المذهبة في فخر وثقة بمهارتهم الموروثة عن الأسلاف، أو يدورون حول المنحنيات وهم يصيحون صيحات قوية غريبة أو يدندنون بأغنية تصاحب تمايل أجسادهم، وإيقاع مجاديفهم.

واختلطت الجنسيات المختلفة الكثيرة في الميادين. واحتفظ كل منها بميزة من زي ولغة وتبذل، وظلت الطبقات العليا ترتدي ما ارتدته في عز أيام النهضة، من قمصان من أرق الكتان، وسراويل من المخمل، وجوارب حريرية، وأحذية ذات مشابك، ولكن البنادقة هم الذين أدخلوا إلى غربي أوربا في هذا القرن لباساً تركياً هو السراويل الطويلة (البنطولونات). وكانت الباروكة قد وفدت من فرنسا حوالي 1665. وعني المتأنقون من الشباب عناية بالغة بلباسهم وشعرهم ورائحتهم حتى لقد صعب تمييز جنسهم. أما النساء العصريات فقد رفعن فوق رؤوسهن أبراجاً عجيبة من الشعر المستعار أو الطبيعي. وكان الرجال والنساء جميعاً يشعرون كأنهم عراة إذا لم يتحلوا بالجواهر والحلي. وكانت المراوح تحفاً فنية، ترسم في تأنق، وكثيراً ما كانت تغشى بالأحجار الكريمة أو تحوي منظاراً لعين واحدة (مونوكل).

وكان لكل طبقة أنديتها، ولكل شارع مقهاه، يقول جولدوني "في إيطاليا نتناول عشرة أقداح من القهوة كل يوم" وازدهرت كل ضروب الملاهي، من معارك الجوائز (Pugni) إلى المراقص التنكرية. وكلمة "بألوان" (Balloon) مشتقة من لعبة كانت تسمى باللوني Pallone-فيها تنطط كرة منفوخة براحة اليد. وكانت رياضة الماء تكرر بانتظام. فمنذ 1315 كان يقام سباق Rcgatta في 25 يناير على القناة الكبرى، بين زوارق تسير بخمسين مجدافاً وتزين كما تزين عرباتنا في المعارض، ويبلغ الاحتفال ذروته بلعبة بولو مائية ينقسم فيها مئات البنادقة إلى جماعات متصاحبة متنافسة. وكان الدوج في عيد الصعود يمخر عباب الماء في أبهة من "سان ماركو" إلى الليد وعلى متن سفينة الدولة الفاخرة الزينة المسماة "بوتشنتورو" بين مئات من السفن الأخرى ليزف البندقية إلى البحر من جديد.

واتخذت العطلات الكثيرة أسماء وذكريات القديسين والمناسبات السنوية التاريخية، لأن مجلس شيوخ البندقية وجد أن الخبر والسرك بديل مقبول عن الانتخابات. في مثل هذه المناسبات كانت المواكب البهية تنتقل من كنيسة إلى كنيسة ومن ميدان إلى ميدان، وكانت الأبسطة الزاهية الألوان، وأكاليل الزهر والحرائر تتدلى من النوافذ أو الشرفات على الطريق، وكان هناك موسيقى سهلة، وأغنية دينية أو غرامية، ورقص رشيق في الشوارع. وألف النبلاء الذين يختارون للمناصب المرموقة أن يحتفلوا بانتصاراتهم بالعروض، والأقواس، وتذكرات النصر، والمهرجانات، وأعمال البر التي تكلفهم أحياناً ثلاثين ألف دوقاتية. وكان كل عرس مهرجاناً، ومأتم الوجيه من القوم أفخم حدث في حياته.

ثم كان هناك الكرنفال-ذلك التراث المسيحي من "ساتورنالياً" روما والوثنية. وكانت الكنيسة والدولة تأملان أنهما إذا سمحتا بإجازة من الأخلاق استطاعتا التخفيف بقية العام من التوتر القائم بين الجسد والوصية السادسة. وكان الكرنفال في إيطاليا عادة لا يستغرق إلا أسبوعاً واحداً هو الأسبوع السابق للصوم الكبير، وفي بندقية القرن الثامن عشر امتد من 26 ديسمبر أو 7 يناير إلى "الثلاثاء السمين" Mardi Gras-Martedi Grasso وربما اتخذ المهرجان اسمه من ذلك اليوم الأخير من الأيام التي سمح فيها بأكل اللحم Carne Vale أي وداعاً للحم. وكان البنادقة في كل ليلة تقريباً من أسابيع الشتاء تلك، والزوار المتجمعون من طول أوربا وعرضها-يتدفقون على الميادين، يرتدون ملابس فاقعة الألوان، ويخفون سنهم ورتبهم وشخصياتهم وراء الأقنعة. وفي ذلك التخفي هزأ الرجال والنساء بالقوانين، وراجت سوق البغايا، وتطايرت قطع الحلوى، وقذف البيض الصناعي هنا وهناك لينشر ماءه المعطر حين ينكسر. وكانت شخصيات بانتالوني، وارلكينو، وكوامبينو، وغيرها من الشخصيات المحببة من المسرح الكوميدي تتبختر وتثرثر لتسلي الجمع المحتشد، ورقصت الدمى، وبهر السائرون على الحبال مئات الأنفاس. وكانت تجلب الحيوانات الغريبة لهذه المناسبة، كوحيد القرن الذي شوهد أول مرة بالبندقية في مهرجانات 1751 وفي منتصف الليلة السابقة لأربعاء الرماد (Mercoledi Della Conoi) تدق أجراس كنيسة القديس مرقص الضخمة مؤذنة بانتهاء الكرنفال، هنا يعود المعربد المنهك إلى فراشه الحلال، وبعد نفسه للاستماع إلى القسيس يقول له في الغد: "Memento, Homo, Quia Puia Pulvis es et in Pulvcrem Redieris" "تذكر يا ابن آدم أنك تراب وإلى التراب تعود".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ڤيڤالدي

كانت البندقية ونابلي مركزي الموسيقى المتنافسين في إيطاليا. فاستمعت البندقية في مسارحها إلى ألف ومائتي أوبرا مختلفة في القرن الثامن عشر. هناك خاضت أشهر كواكب الغناء في ذلك العصر، فرانشسكا كوتزوني وقاوستينا بوردوني، معاركهما المشجية في سبيل التفوق، وكانت كل منهما تهز العالم من خشبة المسرح. فأما كوتزوني فكانت تغني أمام فارينللي في مسرح، وأما بوردوني فأمام برناكي في مسرح آخر، وانقسمت البندقية بأسرها بين المعجبين بهؤلاء المغنين. ول قد غنى أربعتهم معاً لذابت ملكة الأدرياتيكي طرباً في بحيراتها.

ومقابل قلاع الأوبرا والبهجة هذه قامت الملاجئ الأربعة Ospedali التي رعت فيها البندقية بعض فتياتها اليتيمات أو غير الشرعيات. ورغبة في شغل هؤلاء الأطفال المشردات وإضفاء المغزى على حياتهن كن يدربن على الموسيقى الصوتية والآلية، وعلى الغناء في فرق الإرشاد، وإحياء الحفلات الموسيقية العامة من خلف حواجز ذات قضبان كحواجز الأديرة. وقد قال روسو أنه لم يسمع في حياته شيئاً أثر فيه كأصواتهن الرقيقة وهن يغنين في إيقاع مدرب، وذكر جوته أنه لم يسمع قط سوبرانو بهذا الإتقان، أو موسيقى "لها هذا الجمال الذي لا يوصف". وكان يعلم في هذه المعاهد نفر من أعظم الملحنين الإيطاليين ويؤلفون لها الموسيقى، ويفودون حفلاتها، أمثال مونتيفردي، وكافاللي، ولوتي، وجالوبي، ويوريورا، وفيفالدي...

واتجهت البندقية إلى مدن إيطاليا، وأحياناً النمسا وألمانيا، لتزود مسارحها بالأوبرات وتمد ملاجئها وأوركستراتها وعازفيها المهرة بالموسيقى الصوتية والآلية. وكانت هي ذاتها الأم أو الحاضنة لانطونيو لوتي، عازف الأرغن ثم رئيس فرقة المرتلين في كنيسة القديس مرقص، ومؤلف أوبرات غير ذات بال، ولكنه أيضاً ملحن قداس ذرفت له عينا بيرني البرتستانتي، ولبلدا ساري جالوبي الذي اشتهر بأوبراته الهازلة وببهاء الحانه الأوبرالية ورقتها، ولألساندور مارتشيللو الذي تتبوأ كونشرتاته مقاماً عالياً في مؤلفات عصره الموسيقية، وأخيه الأصغر بنديتو الذي قيل عن تلحينه لخمسين مزموراً أنه "من أبدع المؤلفات الموسيقية قاطبة ولانطونيو ڤيڤالدي".

ولقد كان استماع بعضنا لكونشرتو من تأليف فيفالدي أول مرة مفاجأة أشعرتنا بالخزي. فلم جهلناه طوال هذا الزمن؟ هنا انسياب جليل للنغم، وتموجات ضاحكة من اللحن، ووحدة في البناء وتماسك للأجزاء كان خليقاً بأن يكسب هذا الرجل مدخلاً أسبق من هذا إلى علمنا، ومكاناً أرفع في تواريخنا الموسيقية .

ولد حوالي 1678 لعازف فيولينة في أوركسترا مصلى الدوجات بكاتدرائية القديس مرقص. وعلمه أبوه الفيولينة؛ وحصل له على وظيفة في الأوركسترا. وفي الخامسة عشرة كرس تكريساً مبدئياً للدين، وفي الخامسة والعشرين أصبح قسيساً ولقب "البريتي روسو" لحمرة شعره. ولعل ولعه بالموسيقى تعارض مع واجباته الكهنوتية. وقال الأعداء إنه "ذات يوم بينما كان فيفالدي يتلو القداس، خطر له موضوع يصلح لفوجه، وللتو غادر المذبح...وذهب إلى غرفة المقدسات والملابس ليدون الموضوع، ثم عاد ليكمل القداس". واتهمه قاصد بابوي بأنه يحتفظ بعدة نساء، وأخيراً نهاه ديوان التفتيش (كما زعموا) عن تلاوة القداس. وقد روى انطونيو في سنوات لاحقة قصة تختلف عن هذه تمام الاختلاف. وقال:

  "كانت آخر مرة تلوت فيها القداس منذ خمسة وعشرون عاماً، لا بسبب منعي من تلاوته...ولكن بناء على قرار مني اتخذته بسبب علة أرهقتني منذ ولادتي. فبعد أن رسمت قسيساً كنت أتلو القداس عاماً أو أكثر بقليل، ثم توقفت عن تلاوته لأن هذا المرض اضطرني ثلاث مرات إلى مغادرة المذبح دون أن أتمه.

"ولهذا السبب ذاته أقضي وقتي كله تقريباً في بيتي ولا أبرحه إلا راكباً زورقاً أو عربة لأنني لم أعد قادراً على المشي بسبب حالة الصدر التي أعانيها، أو على الأصح شعور الضيق والتوتر في صدري (Strettzza di Petto) وربما كانت هي (الربو) ولا يدعوني أي نبيل لبيته، لا ولا حتى أميرنا، لأن الجميع عليمون بمرضي، وقد كانت أسفاري دائماً غالية النفقة جداً لأنني كنت مضطراً دائماً أن أصحب معي أثناءها أربع نساء أو خمساً ليساعدنني. "ثم أضاف أن هؤلاء النسوة كن نقيات السيرة" يسلم الناس في كل مكان بعفتهن..وكن يؤدين الصلاة كل يوم من أيام الأسبوع".

 

على أنه حتى لو شاء لما استطاع أن تغلب الخلاعة على خلقه لأن معهد الموسيقى الملحق بالملجأ الديني احتفظ به طوال سبعة وثلاثين عاماً عازفاً للفيولينة ومعلماً وملحناً أو رئيس للكورس. وقد لحن لتلميذه البنات معظم أعماله غير الأبورالية. وتكاثرت الطلبات عليه، ومن ثم كان يكتب في عجلة ثم يصحح فيما يتاح له من فراغ، وقد أخبر دبروس أن في استطاعته أن "يلحن الكونشرتو بأسرع مما يستطيع ناسخ أن ينسخه(46)". وبالمثل كانت أوبراته تلحن على عجل، وقد سجلت إحداها على صفحة الغلاف عبارة تشي بالفخر (أو الاعتذار) هي (Fatto in Cinque Giorni) كتبت في خمسة أيام. وقد وفر الوقت كما وفره هندل بالاستعارة من نفسه، فأقتبس من موسيقاه القديمة ما يلبي حاجاته الحاضرة.

وفي فترات فراغه من عمله في الملجأ ألف أربعين أوبرا. واتفق كثير من معاصريه مع تارتيني على أنها متوسطة الجودة، وقد سخر منها بنديتو مارتشيللو في (تياترو على الموضة) ولكن جماهير النظارة في البندقية، وفتشنتسا، ومانتوا، وفلورنسة، وميلان، وفيينا، رحبوا به، وكثيراً ما كان فيفالدي يترك بناته ليسافر مع نسائه مخترقاً شمالي إيطاليا، بل حتى إلى فيينا وأمستردام ليعزف الفيولينة أو ليقود إحدى أوبراته أو ليشرف على إخراجها وديكورها. وأوبراته الآن ميتة، ولكن هذا مصير معظم الأوبرات التي ألفت قبل جلوك. فقد تغيرت الأساليب والعادات والأبطال، والأصوات، والجنسان.

ويعرف التاريخ 554 من مؤلفات فيفالدي، منها 454 كونشرتو. وقد قال ناقد ماكر أن فيفالدي لك يكتب ستمائة كونشرتو، بل هو كونشرتو واحد أعاده ستمائة مرة. ويبدو الأمر كذلك أحياناً. ففي هذه القطع قدر كبير من نشر الأوتار ونغمات الأرغن اليدوي المتصلة، وقياس للوقت أشبه بحركات البندول، لا أننا نجد حتى في السلسلة الشهيرة المسماة (الفصول) (1725) صحارى من الرتابة، ولكن فيها أيضاً قمماً من الحيوية المشبوبة والعواصف القارصة؛ وواحات من الصراع الدرامي بين العازفين المنفردين والأوركسترا؛ وجداول سائغة من الألحان. في قطع كهذه، أبلغ فيفالدي الكونشرتو الكبير مكانة ممتازة لا سبق لها ولا يبزها إلا باخ وهيندل.

وكان فيفالدي يعاني كمعظم الفنانين من الحساسية التي غذت عبقريته. وقد عكست قوة موسيقاه طبعه الناري، وعكست رقة نغماته تقواه. فلما تقدم به العمر استغرق في واجباته الدينية حتى لقد وصفته رواية مبالغة بها لا يترك مسبحته إلا ليلحن(49). وفي 1740 فقد وظيفته في الملجأ الديني أو استقال منها، ولأسباب نجهلها الآن نزح من البندقية إلى فيينا. ولا نعرف المزيد عنه؛ اللهم إلا أنه مات هناك بعد سنة ودفن كما يدفن فقراء الناس.

ومر موته دون ان تلحظه الصحف الإيطالية، لأن البندقية كانت قد كفت عن الاهتمام بموسيقاه، ولم يقدره أحد قدراً يقرب من قمة فنه لا في وطنه ولا في جيله. على أن مؤلفاته لقيت الترحيب في ألمانيا. فاستورد كوانتسي الذي كان عازفاً للفلوت وملحناً لفردريك الأكبر؛ كونشرتات فيفالدي؛ وقبلها بصراحة نماذج تحتذى. واشتد إعجاب باخ بها حتى نقل تسعة منها على الأقل للهاربسكورد، وأربعة للأرغن، وواحداً لأربعة هاربسكوردات ومجموعة وتريات. وواضح أن باخ أخذ عن فيفالدي وكوريللي البناء الثلاثي لكونشرتاته.

وكاد فيفالدي أن يكون نسياً منسياً طوال التاسع عشر إلا من الدارسين الذين تتبعوا تطور باخ. ثم رده إلى مكان مرموق في 1905 أرنولد شيرنج في كتابه "تاريخ كونشرتات الآلات"؛ وفي عشرينات القرن العشرين دافع أرتورو توسكانيني عن قضية فيفالدي بكل عواطفه ومكانته. واليوم يحتل "القسيس الأحمر" مؤقتاً أرفع مكان بين الملحنين الإيطاليين في القرن الثامن عشر.

8- ذكريات

من صيف الفن البندق المؤذن بالأفول يبرز نحو اثني عشر مصوراً ويلتمسون أن نذكرهم. ونكتفي هنا بتحية نقرئها حباً مبتستا بيوتي، الذي لم ترفع البندقية فوقه غير تيبولو وبيتا تسيتا، وياكوبو أميگوني الذي أورث بوشيه أسلوبه الشهواني؛ وجوفاني أنطونيو بالجريني، الذي حمل ألوانه إلى إنجلترا وفرنسا وألمانيا، وهو الذي زين قلعة كمبرلتز، وقلعة هوارد، وبنك فرنسا. وألفت للنظر من هؤلاء ماركو ريتشي لأنه قتل أحد النقاد ثم انتحر. ففي عام 1699، حين كان في الثالثة والعشرين، طعن ملاح جندول استخف بصوره طعنات قضت عليه، ثم فرالي دلمماشيا، وأغرم بمشاهدها الطبيعية، وبلغ من حذقه في التقاطها بألوانه أن غفرت له البندقية جريمته وهللت له كأنه تنتوريتو مبعوثاً من جديد. وصحبه عمه سبستيانو ريتشي إلى لندن، حيث تعاون على تصوير مقبرة دوق ويفونشير. وكان ككثيرين من فناني القرنين السابع عشر والثامن عشر يجب أن يرسم الأطلال الحقيقية أو الخيالية ولا ينسى في ذلك نفسه. وفي 1729، وبعد عدة محاولات، أفلح في الانتحار. وفي 1733 بيعت إحدى لوحاته بخمسمائة دولار؛ وفي 1963 بيعت من جديد بتسعين ألف دولار، وهو ما بين مبلغ تقدير قيمة الفن وهبوط قيمة النقود.

وتأمل شخصية روزاليا كارييرا أدعى إلى السرور. فقد بدأت حياتها العملية برسم نماذج للمخرمات الڤينيسية Point de Venise؛ ثم رسمت علب السعوط (كما فعل رينوار الصغير) ثم المنمنمات، وأخيراً وجدت في ألوان الباستيل قمة تفوقها. ولم يحل عام 1709 حتى كانت قد اكتسبت من الشهرة ما جعل فردريك الرابع ملك الدنمارك يدعوها حين اعتلى العرش ليختارها لترسم له لوحات الباستيل تمثل أجمل سيدات البندقية أو أبعدهن صيتا. وفي 1720 دعاها إلى باريس پيير كروزا جامع التحف المليونير. وهناك لقيت من الترحيب والحفاوة ما لم يلقه فنان أجنبي آخر منذ بريتني. وكتب الشعراء فيها الصونيتات؛ وزارها الوصي فليب أورليان، وصورها فاتو، وصورته هي، وجلس إليها لويس الخامس عشر لتصوره؛ وانتخبت عضواً في أكاديمية التصوير؛ وقدمت لوحة الدبلوم "ربة الفن" المعروضة في اللوڤر. وبدا للناس كأن روح الروكوك قد تجسدت فيها.

وفي 1730 ذهبت إلى فيينا، حيث رسمت صوراً بالباستيل لشارل السادس؛ وإمبراطورته، والأرشيدوقة ماريا تريزا. فلما عادت إلى البندقية واستغرقت في فنها استغراقاً أنساها أن تتزوج. وفي أكاديمية البندقية ملء حجرة من اللوحات التي رسمتها، وفي قاعة الفنون يدرسن 157، معظمها يتميز بالوجوه الوردية، والخلفيات الزرقاء، والبراءة المشرقة، ورقة الوجوه ذات الغمزات؛ بل أنها حين رسمت هوراس وليول، جعلته يبدو كأنه فتاة. وكانت ترضي غرور كل من يجلس إليها لتصوره إلا نفسها، وصورتها الذاتية المعلقة في قلعة وندزر تظهرها في سنيها الأخيرة وقد أبيض شعرها وشابها شيء من الاكتئاب كأنها تتوقع أن يكف بصرها بعد قليل. وقد اضطر طوال الأعوام الأثني عشر الأخيرة من عمرها البالغ اثنين وثمانين عاماً محرومة من النور واللون اللذين كانا لها بمثابة رحيق الحياة. وقد تركت بصمتها على فن جيلها: ولعل لاتور قد أستلهم الحرارة منها، وتذكر جرو تمثيلها لشباب النساء في صورة مثالية؛ وانحدرت ألوانها الوردية-الحياة بلون الورد-إلى بوشيه ورنوار.

أما جوفاني باتستا بياتسيتا فكان فناناً أعظم يسمو فوق العواطف الهشة ويحتقر الزخرف ولا يسعى وراء إرضاء الجمهور بقدر سعيه إلى تذليل صعاب صناعته والتمسك بأرفع تقاليدها. وتبين زملاءه الفنانون هذه النزعة فيه، ومع أن تيبولو كان له فضل السبق في تأسيس أكاديمية البندقية للتصوير والنحت (1750)، فإن بياتسيتا هو الذي اختاروه أول رئيس لها. ولوحته المسماة "رفقة عند البئر" جديرة بتتسيانو، وهي أقل حتى من تتيسيانو اكتراثاً بمفاهيم الجمال المتعارف عليها. واللوحة تكشف من جسد رفقة قدراً يكفي لإثارة غريزة المتوحش، ولكن وجهها الهولندي وأنفها الأفطس لم يصورا لينتشي بهما الإيطاليون. فالذي يثير عواطفنا هنا هو الرجل، إنه شخصية بفن النهضة: وجه قوي، ولحية ملمعة وقبعة ذات ريش وومضة إغراء ماكر في عينيه. واللوحة كلها آية من آيات اللون والنسيج والتصميم، وقد تميز بياتسيتا بأنه كان أكثر المصورين البنادقة احتراماً في جيله، وأنه مات أفقرهم جميعاً.

وأشهر منه أنطونيو كانالي، الملقب كاناليتو، لأن نصف العالم يعرف البندقية بفضل مناظره Vedute. أما إنجلترا فعرفته دماً ولحماً. وقد نهج حيناً نهج أبيه الذي امتهن رسم المناظر للمسارح، ثم درس العمارة في روما، فلما عاد إلى البندقية طبق الفرجار والزاوية على رسمه، وجعل العمارة ملمحاً من ملامح صوره. وفي هذه الصور عرفنا ملكة الأدرياتك كما كانت تبدو في النصف الأول من القرن الثامن عشر. ونلحظ من لوحة باتشينودي سان ماركو Baccino بحرية القديس مرقص مبلغ ازدحام البحيرة الكبرى بالمراكب، ونبصر سباق الزوارق Regatta على القناة الكبرى ونرى أن الحياة كانت زاخرة مشوبة شأنها من قبل دائماً، ويبهجنا أن نجد "جسر الريالتو" وميدان القديس مرقص والميدان الصغير وقصر الأدواج وكنيسة سانتا ماريا ديللا سالوتا كما نجدها اليوم تقريباً، إذا استثنينا البرج الذي أعيد بناؤه. وصور كهذه هي التي احتاج إليها السياح في الشمال الملبد بالغيوم ليذكروا في عرفان شمس البندقية الشديدة الصفاء وسحرها الفتان. وقد اشتروا هذه الصور ودفعوا أثمانها ثم حملوا هذه التذكارات إلى بلادهم، وسرعان ما طالبت إنجلترا بكاناليتو نفسه. فذهب إليها في 1746 ورسم مناظر مستفيضة لهواً يتهول، "ونهر التيمز من قصر رتشموند"، واللوحة الأخيرة بجمعها المدهش بين الاتساع والتناسب والتفصيل هي تحفة كاناليتو الرائعة الصفاء وسحرها الفتان. وقد اشتروا هذه الصور ودفعوا أثمانها ثم حملوا هذه التذكارات إلى بلادهم، وسرعان ما طالبت إنجلترا بكاناليتو نفسه. فذهب إليها في 1746 ورسم مناظر مستفيضة لهوا يتهول، "ونهر التيمز من قصر رتشموند"، واللوحة الأخيرة بجمعها المدهش بين الاتساع والتناسب والتفصيل هي تحفة كاناليتو الرائعة. ولم يعد إلى البندقية إلا في 1755. وظل هناك عاكفاً بهمة على عمله حتى عام 1766 حين كان قد بلغ التاسعة والستين. وقد كتب بفخر على لوحته داخل كاتدرائية القديس مرقص هذه العبارة "رسمت بدون منظار". وقد أسلم أسلوبه في القياس الدقيق إلى ابن أخيه برناردو بللوتو كاناليتو، وولعه بالمناظر إلى "تلميذه الطبيب" فرانشسكو جواردي الذي ستلتقي به ثانية.

وكما أبرز كاناليتو المنظر الخارجي للمدينة الفخمة، كشف بييترو لنجي عن الحياة داخل جدرانها باستخدامه أسلوب تصوير مناظر الحياة اليومية في رسم الطبقة الوسطى. فالسيد التي تتناول فطورها في ثوبها الفضفاض الطويل، والأب الراهب يعلم ابنها، وابنتها الصغيرة تدلل كلباً لعبة، والخياط يعرض فستاناً، ومعلم الرقص يدرب السيدة على خطوات المنويت، والأطفال وعينهم تحملق معرض للوحوش، الصبايا يمرحن في لعبة "الأستغماية" (الغميضة)، والتجارة في حوانتيهم، والمتنكرون بالأقنعة في الكرنفال، والمسارح، والمقاهي، "والجمعيات" الأدبية، والشعراء يتلون أشعارهم، ودجاجلة الطب، وقارئات البخت، وباعة السجق والبرقوق، والتمشي في اليدان، وفريق القنص، وجماعة صيد السمك، والأسرة في عطلتها: كل نشاط برجوازي يستحق الذكر هناك، وفي إفاضة، تفوق حتى ما في كوميديات جولدوني، صديقي لونجي. إنه ليس فناً عظيماً، ولكنه فن يشرح الصدر، ويرينا مجتمعاً أكثر نظاماً وتهذيباً مما كنا نتصوره من أرستقراطي أندية القمار أو أعمال شحن السفن وتفريغها الشتامين السبابين.

تيبولو

أما البندقي الذي أوهم أوربا لحظة أن النهضة قد عادت فهو جامباتستا تيبولو. ومن المشاهد المألوفة في أي يوم من أيام الصيف أن ترى موكباً من الطلاب والسياح يدخلون مسكن أسقف فورتسبورخ ليرى بيت السلم والسقف اللذين رسم تيبولو صورهما الجصية في 1750-53، هذه الصور هي قمة التصوير الإيطالي في القرن الثامن عشر. أو تأمل لوحة "الثالوث يظهر للقديس كلمنت" في متحف الفن القومي بلندن، ولاحظ تكوينها البارع، ورسمها الدقيق، وتناولها الحاذق للضوء، وعمق لونها وتوهجه، أليس هذا قريباً لفن تتسيانو؟ ربما، ولولا أن تيبولو قد طوف كثيراً لكان واحداً من عمالقة التصوير.

أو لعل ثراءه هو الذي عوقه. ذلك أنه كان آخر طفل لتاجر بندقي غني خلف ثروة كبيرة عند وفاته. وما لبث جان، الذي كان وسيماً ذكياً مرحاً "أن اكتسب الازدراء الأرستقراطي لكل ما هو شعبي". وفي 1719 حين بلغ الثالثة والعشرين تزوج تشيشيليا أخت فرانشسكو جورادي، فولدت له أربع بنات وخمسة أولاد، أصبح اثنان منهم مصورين وعاشوا جميعاً في بين أنيق في أبرشية سانتا ترينيتا. وكانت موهبته قد تفتحت. ففي 1716 عرض لوحة "تضحية أسحق"، وهي لوحة فجة، ولكنها قوية، ووضح أنه كان في تلك الحقبة متأثراً بفن بياتيستا. وقد درس فيرونيزي أيضاً، واتخذ أسلوب باولي في الملابس الفخمة والألوان الدافئة والخطوط الشهوانية تيبولو مواضيعه من قصة إبراهيم، ولكن التناول لم يكن كتابياً تماماً. فوجه سارة المنبعث من طوق مكشكش من أطواق عصر النهضة، هو غضون وتجاعيد تكشف عن سنين أثريتين، ولكن الملاك رياضي إيطالي له ساق فاتنة. ويبدو أن تيبولو أحس أن في استطاعته، في قرن بدأ يسخر من الملائكة والمعجزات، أن يسمح لمزاجه باللهو بالتقاليد المبجلة، وقد أتاح له رئيس الأساقفة اللطيف هذا اللهو. ولكن كان على الفنان أن يكون حذراً، لأن الكنيسة لم تزل يومها من أهم مصادر تميل المصورين في العالم الكاثوليكي.

أما المصدر الآخر فكان العلمانيين أصحاب القصور التي يراد تزيينها بالصور. وقد روى جان في قصر كازالي-دونياني بميلان (1731) قصة سكبيو بالصور الجصية. ولم تكن هذه الصور معبرة عن فن تيبولو النموذجي، لأنه لم يكن بعد قد شكل أسلوبه المتميز، أسلوب الأشخاص الذين يتحركون في يسر وانطلاق في حيز غير محدد، ولكنها دلت على براعة أثارت ضجة في شمالي إيطاليا. ولم يحل عام 1740 حتى اهتدى إلى موطن النبوغ في فته، وأنجز ما أعتبره البعض( رائعته الكبرى-وهي سقف قصر كليرنتي بميلان وبهو ولائمه. واختار لهذه الرائعة مطايا لخياله "أركان الأرض الأربعة" و "مسيرة الشمس" و "أبوللو والآلهة الوثنية" وأسعده أن يترك عالم الأساطير المسيحية الكابي ويمرح على قمم أولمب حيث يستطيع استخدام الآلهة اليونانية الرومانية شخوصاً في عالم متحرر من قوانين الحركة وأغلال الجاذبية بل من قواعد الرسم الأكاديمية. لقد كان في صميمه وثنياً كأكثر الفنانين الذين يذوب قاموسهم الأدبي في حرارة مشاعره، ثم أن الجسم الجميل قد يكون نتاج روح قوية العزيمة قادرة على التشكيل. ومن ثم يكون هو ذاته واقعياً روحياً. وراح تيبولو الآن يطلق من جعبته على مدى ثلاثين عاماً أرباباً وربات رافلين في غلائل من الشاش، عراة في غير اكتراث، يسرحون ويمرحون في الفضاء، أو يطارد بعضهم بعضاً بين الكواكب أو يتطارحون الغرام على وسادة من السحب.

فلما قفل إلى البندقية عاد إلى المسيحية، وكفرت صوره الدينية عن أساطيره الوثنية. فرسم لمدرسة سان روكو لوحة قماشية سماها "هاجر وإسماعيل" يلفت النظر فيها جمال الطفل النائم. وفي كنيسة الجزواتي التي سماها الدومينكان من جديد كنيسة "سانتا ماريا ديل روزاريو" رسم لوحة "تأسيس التسبحة" ورسم لمدرسة الرهبان الكرمليين "عذراء جبل الكرمل" وكادت هذه الصورة تضارع تتسيانو "البشارة". ورسم لكنيسة القديس الفيزي ثلاث صور، إحداها المسماة "المسيح حاملاً الصليب" تزدحم بشخوص قوية صورت تصويراً نابضاً بالحياة. وهكذا سدد تيبولو دينه لعقيدة وطنه.

على أن خياله كان أكثر تحرراً على جدران القصور. ففي قصر بربارو رسم "تمجيد فرانشسكو بربارو"-واللوحة الآن في متحف لمتربوليتا للفنون بنيويورك. ورسم لقصر الأدواج لوحة "نبتون يقدم لفينوس خيرات البحر". وقد لقصر بابا دوبولي لقطتين مبهجتين للبندقية في الكرنفال-"المنويته" و"المشعوذ". ثم توج كل صور القصور التي رسمها في البندقية بزخرفة قصر لابيا بصور جصية تحكي قصة أنطونيوس وكليوباترة في مشاهد بهية نفذت تنفيذاً رائعاً. ورسم زميل له يدعى جيرولامو منجوتسي كولونا الخلفيات المعمارية في فورة من بهاء الطراز البلاديوي. فعلى جدار ترى لقاء الحاكمين، وعلى الجدار المقابل وليمتهما، وعلى السقف حشد جامع من شخوص طائرة تمثل بيجاسوس، والزمن، والجمال، والرياح التي تثيرها عفاريت نفاخة مرحة. وفي لوحة "اللقاء" تهبط كليوباترة من زورقها في ثياب تبهر الأبصار، تكشف عن صدر ناهد لتفتن حاكماً مرهقاً في الحكومة الثلاثية، حتى من هذه تسقط كليوباترة لؤلؤة غالية الثمن في خمرها، ويؤخذ أنطونيوس بهذا الثراء الذي لا يعبأ بشيء. وعلى شرفة يعزف الموسيقيون قياثيرهم ليضاعفوا الخطر مرتين والثمل ثلاثاً، وهذه الرائعة التي تذكر بفيرونيزي وتنافسه كانت إحدى الصور التي نسخها رينولدز في 1752.

هذا الإنتاج الذي تميز بالأسلوب الفخم رفع تيبولو إلى قمة ترى من وراء الألب. فأذاع الكونت فرانشكو الجاروتي صديق فردريك وفولتير اسمه في أوربا. وفي تاريخ مبكر (1736) أبلغ الوزير السويدي في البندقية حكومته أن تيبولو هو أصلح رجل يرسم القصر الملكي في استوكهولم، "كله ذكاءً وغيرة". سهل المعاملة، يتدفق أفكاراً، موهوب في اختبار الألوان الساطعة، سريع في عمله سرعة خارقة يرسم صورة في زمن يقل عما يستغرقه مصور آخر في مزج ألوانه". وكانت استوكهولم آنذاك مدينة جميلة ولكنها بدت بعيدة جداً.

وفي 1750 جاءته دعوة أقرب، فقد طلب إليه كارل فيليب فون جرايفنكلاو أمير فورتسبرج الأسقف أن يرسم صوراً للقاعة الإمبراطورية لقصر الإداري الذي بناه مؤخراً. وأغرى الأجر المعروض بإلحاح الفنان المسن. فلما وصل في ديسمبر بصحبة ابنيه دمونيكو البالغ أربعة وعشرين عاماً ولورنتسو ذي الأربعة عشرة وجد تحدياً لم يتوقعه في بهاء قاعة القصر التي صممها بلتازار نويمان. فأني لأي صورة العين وسط ذلك الضياء الباهر؟ وكان نجاح تيبولو هنا القمة التي توجت عمله. فقد رسم على الجدران قصة الإمبراطور فردريك ببروسيا (الذي كان قد ذهب في لقاء مع بياتريس أميرة برجنديا في فورتسبرج (1156) وعلى السقف رسم "أبوللو مصطحباً العروس"؛ هناك راح يصول ويجول في مهرجان من الخيول البيضاء والأرباب المرحين والضياء يتألق فوق ملائكة تطفوا وغيوم شفافة. وعلى منحدر من السقف رسم "الزفاف": وجوه مليحة؛ وأجسام مهيبة، وأغطية وأستار مزدانة بالزهر؛ وأثواب تذكر بالبندقية أيام فيرونيزي لا بالطرز الوسيطة. وأنشرح صدر الأسقف فوسع العقد ليحتوي سقف بيت السلم الكبير ونقوش مذبحين لكاتدرائية. وعلى طريق السلم الفخم رسم تيبولو القارات وجبل أولمب-مرتع خياله السعيد-وصورة رائعة لابوللو إله الشمس يجوب السماوات.

وقفل جامباتستا إلى البندقية (1753) غنياً مرهقاً، وترك دمنيكو ليكمل المهمة في فورتسبرج. وما لبث أن انتخب رئيساً للأكاديمية. وكان فيه لطف في الطبع جعل حتى منافسيه مولعين به، فلقبوه (تيبوللو الطيب). ولم يستطع مقاومة جميع المطالب التي تكاثرت على وقته المتضائل، فنحن نجده يرسم في البندقية، وترفيزو؛ وفيرونا، وبارما، فضلاً عن لوحة قماشية كبيرة طلبها "بلاط موسكوفيا". وما كنا لننتظر منه في هذه الحالة أن ينتج عملاً كبير آخر له ولكنه في 1757. حين كان في الحادية والستين، اضطلع برسم صور فيلا فالمارانا قرب فيتشنتسا. ورسم منجوتسي كولونا الإطار المعماري ووقع دمنيكو على بع الصور من المضيفة، أما جامباتستا فقد نشر ألوان فرشاته في الفيلا ذاتها. وأختار موضوعات من ملاحم الألياذة، والأنياذة، وأورلندو الغاضب، والقدس المحررة، وأطلق العنان لخداعيته المرحة فتاه اللون في الضوء، والمكان في اللانهاية، وترك أربابه ورباته يطفون على هواهم في جنة سمت فوق كل الشواغل والأزمان.وقد أخذ العجب جوته وهو يتأمل هذه الصور الخصبة فقال في دهشة:

"غاية في البهجة والجرأة"، وكانت هذه آخر انتصار مثير لتيبولو في إيطاليا.

وفي 1761 طلب إليه شارل الثالث ملك أسبانيا أن يحضر ويرسم صوراً في القصر الملكي الجديد بمدريد. وأعتذر هذا التتسيانو المتعب بشيخوخته؛ ولكن الملك رجا مجلس شيوخ البندقية أن يستعمل نفوذه. فانطلق على مضض مرة أخرى مع ولدية الوفيين ونموذجه كرستينا؛ تاركاً زوجته مرة أخرى لأنها كانت تحب كازينوات البندقية. وسوف نلقاه راكباً سقالة الرسم في أسبانيا.

جولدوني وجوتسي

يبرز في أدب البندقية في هذا العصر أربعة أشخاص كل اثنين منهم معاً: أبوستولو تسينو وبييترو متاستازيو وكلاهما كاتب نصوص لأوبرات كانت شعراً؛ ثم كارلو جولدوني وكارلو جوتسي اللذان اقتتلا ليحلا محل الكوميديا البندقية كوميديا أصبحت مأساة جولدوني. وقد كتب جولدوني عن الاثنين الأولين يقول:

"لقد أثر هذان المشهوران في إصلاح الأوبرا الإيطالية. فقبل مجيئهما لم يكن غير الأرباب والشياطين والآلات والعجائب في هذه الملاهي المنغمة. وكانت تسينو أول من فكر في إمكان تمثيل المأساة بشعر غنائي دون ابتذال، وإنشادها دون أن يرهق الإنشاد السامعين. وقد أنفذ فكرته بطريقة رضي عنها الجمهور رضاء عظيماً، مما حقق له ولأمته مفخرة كبرى".

وحمل تسينو إصلاحاته إلى فيينا في 1718، ثم اعتزل راضياً ليخلى الجو لمتاستازيو في 1730 وعاد إلى البندقية وعشرين عاماً من السلام. أما متاستازيو فقد لعب دور راسين لكورنيي تسينو كما قال جولدوني، فأضاف الصقل إلى القوة، وارتفع بالشعر الأوبرالي إلى قمة لم يرتفع إليها من قبل. وقد وضعه فولتير في مصاف كبار الشعراء الفرنسيين؛ وعده روسو الشاعر المعاصر الوحيد الذي يصل شعره إلى القلب. واسمه الأصلي بييترو تراباسي (بيتر كروس). وقد سمعه ناقد مسرحي يدعى جان فنتشنتو جرافيا يغني في الشوارع؛ فتبناه؛ وسماه من جديد متاستازيو (وهو المقابل اليوناني لتراباسي). وأنفق على تعليمه: وخلف له ثروة عند مماته. وراح بييترو يبدد هذه الثروة في غير تحرج، ثم تعاقد مع محامٍ فرض علي شرطاً هو ألا يقرأ أو يكتب بيتاً واحداً من الشعر. ومن ثم أخذ يكتب تحت اسم مستعار.

وفي نابلي طلب إليه المبعوث النمساوي أن يكتب غنائيات لكنتاتا؛ وألف بوريورا الموسيقى، وغنت الدور الرئيسي ماريانا بورلجاريللي المشهورة يومها باسم لارومانينا، وسار كل شيء على ما يرام. ودعت المغنية الكبرى الشاعر إلى صالونها، وهناك التقى بليو وفنتشي وبرجوليزي وفارينللي وهاشي والساندرو ودمنيكون سكارلاتي؛ وتطور متاستازيو سريعاً في تلك الصحبة المثيرة. ووقعت لارومانينا في غرامه وكانت في الخامسة والثلاثين أما هو ففي الثالثة والعشرين. وخلصته من شباك المحاماة وأخذته رفيقاً مع زوجها الكيس المتسامح؛ وأوحت إليه بكتابة أشهر نصوصه "Didone Abandonata ديدوني المهجورة" التي لحنها إثنا عشر ملحناً متعاقباً بين 1724 و 1823. وفي 1726 كتب "سيروي" لحبيبته وبنى عليها فنتشي وهاشي وهاندل أوبرات مستقلة. وأصبح متاستازيو الآن أكثر النصوص رواجاً في أوربا.

وفي 1730 قبل دعوة إلى فيينا وترك لارومانينا. وحاولت أن تلحق به. وخاف أن يعرضه وجودها للفضيحة، فحصل على أمر بمنعها من دخول الأراضي الإمبراطورية فطعنت صدرها محاولة الانتحار، وأخفق هذا الجهد الذي بذلته لتلعب دور ديدو؛ ولكنها لم تعش أكثر من أربع سنين أخرى.

وعند موتها خلفت لأينياسها الخائن كل ثروتها. ولكن متاستازيو رفض قبول التركة متأثراً بتأنيب ضميره ونزل عنها لزوجها. وكتب يقول "لم يعد لي أي أمل أن أوفق إلى السلوى. واعتقد أن ما بقي لي من عمري سيكون حزيناً لا لذة فيه". وكان يستمع بالنصر تلو النصر في حزن حتى تقطعت حرب الوراثة النمساوية عروض الأوبرا في فيينا. وبعد 1750 كان يكرر نفسه دون هدف. لقد استهلك الحياة قبل موته (1782) بثلاثين عام.

طردت أوبرا الدراما التراجيدية من المسرح الإيطالي كما تنبأ فولتير من قبل وتركه للكوميديا. ولكن الكوميديا الإيطالية كانت تسيطر عليه الكوميديا ديلارتي-وهي مسرحية الحديث المرتجل والأقنعة المميزة. وكانت معظم الشخوص قد تقويت منذ زمن طويل: بنتالوني البرجوازي الطيب ذو السراويل، وتارتاجليا الخادم النابوليتاتي المتهته، وبريجيللا الدساس الساذج الذي يقع في شرك دسائسة، وتروفالدينو الأكول الشهواني اللطيف، وأرلكينو-ويقابله هارلكوين (المهرج) عندنا، وبولتشنيللو-ويقابله عندنا بنش، وأضافت مختلف المدن والأجيال مزيداً من الشخوص. وترك معظم الحوار والكثير من الأحداث في الحبكة والاختراع المرتجل. ويقول كازانوفا "كان الممثل في تلك الكوميديا المرتجلة إذا توقف لأن كلمة غابت عنه، لم يعفه ردوداً مؤخرة الصالة والشرفات العليا الرخيصة من صباح السخرية والاستهجان".

وكانت المسارح العاملة في البندقية عادة سبعة، كلها مسماة بأسماء قديسين، ويؤمها جمهور من النظارة شائن السلوك. فكان النبلاء في مقاصيرهم لا يهمهم ما يلقونه على العامة تحتهم. وكانت الأحزاب المتخاصمة ترد على التصفيق بالصفير أو التثاؤب أو العطس أو السعال أو الصيحات الديكة أو مواء القطط. وفي باريس كان أكثر رواد المسرح من علية القوم، وأرباب المهن أو المثقفين والأدباء، أما في البندقية فكانوا أساساً من الطبقة الوسطى، يتخللهم هنا وهناك الغواني المتبرجات، وملاحو الجندولات البذيئون، والقساوسة والرهبان متنكرين، وأعضاء الشيوخ المتغطرسين في عباءاتهم وباروكاتهم. وكان عسيراً أن ترضى مسرحية هذه العناصر كلها في مثل هذا الخليط من البشر، ومن ثم نزعت الكوميديا الإيطالية إلى أن تكون مزيجاً من الهجاء والهزل ما دربوا عليه من تصوير شخصيات ثابتة. هذا هو الجمهور وهذا هو المسرح الذي جاهد جولدوني في رفعه إلى مكانة الكوميديا المشروعة المتحضرة.

ويسر القارئ ما كتبه في "مذكراته" من استهلال بسيط، قال: "ولدت في البندقية في 1707....جاءت بي أني إلى العالم دون كبير ألم مما زاد حبها لي. ولم تعلن مولدي صيحات كالعادة، وبدأ هذا اللطف آنئذ دليلاً على الخلق الهادئ الذي احتفظت به دائماً منذ ذلك اليوم".

وكان هذا القول تفاخراً منه ولكنه حق، فجولدوني من أحب الرجال في تاريخ الأدب، وكان من بين فضائله التواضع رغم هذا الاستهلال-وهي خلة ليست في طبيعة الكتاب. ولنا أن نصدقه إذ يقول "كنت معبود الأسرة" وذهب الأب إلى روما ليدرس الطب، ثم إلى بروجيا ليمارسه، وتركت الأم في البندقية لتربي ثلاثة أطفال.

وكان كارلو طفلاً نابغة. استطاع أن يقرأ ويكتب في الرابعة، وألف كوميديا في الثامنة. واقنع الأب والأم أن تسمح لكارلو بالذهاب إليه والعيش معه في بروجيا. وهناك درس الغلام على اليسوعيين، وتفوق ودعا الانضمام إلى الجماعة، ولكنه رفض. ولحقت الأم وابن آخر بالأب، ولكن هواء الجبل البارد في بيروجيا لم يلائمها، فانتقلت الأسرة إلى ريميني، ثم إلى كيودجا. ودخل كارلو دومنيكية في ريميني، ثم إلى كودجا. ودخل كالو كلية دومنيكية في ريميني، حيث كان يتلقى كل يوم جرعات من كتاب القديس توما الأكويني "قمة اللاهوت". وإذ لم يجد شيئاً يثير مشاعره في تلك الرائعة من روائع العقلانية فقد قرأ أرستوفان، وبلوتس، وترنس، فلما قدمت فرقة من الممثلين إلى ريميني انضم إليها فترة طالت إلى حد أدهش أبويه في كيودجا. فوبخاه وعانقاه، ثم أرسلاه ليدرس القانون في بافيا. وفي 1731 نال درجته الجامعية وبدأ ممارسة المحاماة، ثم تزوج، "وكان الآن أسعد رجل في العالم"، اللهم إلا أنه أصيب بالجدري في ليلة زفافه.

وجذبته البندقية فعاد إليها، ونجح في المحاماة، وأصبح قنصلاً هناك لجنوه. ولكن المسرح ظل يستهويه، وهفت نفسه للكتابة، واشتهى أن تخرج مسرحياته. مثلت مسرحيته "بلزاريوس" في 24 نوفمبر 1734 بنجاح ملهم، وظلت تعرض يومياً حتى 14 ديسمبر، وضاعف سروره افتخار أمه العجوز به. على أن البندقية لم تكن تستسيغ التراجيديا، ففشلت مسرحياته التالية التي من هذا النوع، فانصرف حزيناً إلى الكوميديا. ولكنه رفض كتابة الفارصات "الكوميديا ديللارتي"، وأراد أن يؤلف كوميديات السلوك والأفكار على طريقة موليير، وألا يعرض على خشبة المسرح شخوصاً ثابتة تجمدت في أقنعة، بل شخصيات ومواقف مشتقة من الحياة المعاصرة. واختار بعض الممثلين من فرقة كوميديا البندقية، ودربهم، وأخرج في 1740 "مومولو" رجل البلاط. "ونجحت التمثيلية نجاحاً مدهشاً، وكان في هذا ما أرضاني". ولكنه لم يرضَ تماماً، لأنه كان قد نزل عن بعض أفكاره بتركه الحوار كله دون أن يكتبه إلا للدور الرئيسي، ويخلفه أدواراً لأربعة من الشخوص المقنعة التقليدية.

وراح يدفع إصلاحاته خطوة خطوة. ففي مسرحية "المرأة الشريفة" كتب لأول مرة الحركة والحوار كاملين. وهبت فرقة معادية لتنافس تمثيلياته أو تسخر منها. وتآمرت عليه الطبقات التي هجاها، مثل التشيسبي (مرافقي الزوجات) فحاربها كلها وعقد لها النصر. ولكن لم يكن العثور على مؤلف آخر يزود فرقته بالكوميديات المناسبة. ومن ثم فقدت تمثيلياته هو رضاء الجمهور لكثرة تكرارها. وأكرهته المنافسة على أن يكن ست عشرة تمثيلية في سنة واحدة.

وبلغ أوجه في 1752، وأشاد ب فولتير "بوصفه موليير إيطاليا". ولقيت مسرحيته "لالوكانديرا" (صاحبة اللوكاندة) في ذلك العام "نجاحاً رائعاً حتى ... فضلت على أي عمل أنجز في هذا النوع من الكوميديا". وقد اعتز بأنه راعي "الوحدات الأرسطاطالية في الحركة والمكان والزمان، وفيما عدا ذلك كلن يحكم كل تمثيلياته بواقعية، فيقول "إنها جيدة، ولكنها لم ترقَ بقد إلى مستوى موليير". وكان قد تعجل في كتابتها تعجلاً لا يتيح له أن يجعلها أعمالاً فنية، فكانت ذكية البناء، مرحة على نحوٍ سار، مطابقة للحياة بوجه عام، ولكن أعوزها ما ميز موليير من اتساع الأفكار، وقوة الحديث، وبراعة العرض، ومن ثم ظلت على سطح الشخوص والأحداث. ومنعته طبيعة جمهوره على أن يحاول التحليق في أجواء العاطفة أو الفلسفة أو الأسلوب وكان في فطرته من البشر ما منعه من سبر الأغوار التي عذبت موليير من قبل.

وقد صدم مرة أخرى على الأقل صدمة أخرجته عن لطفه وجرحته في الصميم، وذلك حين تحداه كارلو جوتسي على مكان الصدارة المسرحية في البندقية وفاز في المعركة. وكان هناك رجلان باسم جوتسي شاركا في الضجة الأدبية التي أثيرت في ذلك العهد، أحدهما جسبارو جوتسي الذي ألف تمثيليات أكثرها مقتبس من الفرنسية، وكان محرراً لدورتين بارزتين وقد بدأ حركة إحياء دانتي. أما الثاني وهو أخوه كارلو فلم يكن فيه هذا اللطف والأنس، كان رجلاً طويل القامة وسيماً مغروراً متحفزاً للعراك على الدوام. وكان أذكى عضو في أكاديمية جرانلليسكي "التي شنت حملة لاستعمال الإيطالية التسكانية النقية في الأدب بدلاً من اللهجة التي استعملها جولدوني في معظم تمثيلياته. ولعله-وهو العشيق (أو المرافق الخادم) لتيودورا ريتشي-أحس بوخز موجع حين هجا جولدوني مرافقي الزوجات هؤلاء. وقد كتب هو أيضاً "مذكرات" هي البيان المفصل للحروب التي خاضها. وقد حكم على جولدوني كما يرى مؤلفاً آخر فقال:

  "تبينت في جولدوني وفرة من الدوافع الكوميدية، والصدق والطبيعية. ولكني اكتشفت فيه فقراً وحقارة في الحبكة، وهذه محاسن ومساوئ متنافرة، والمساوئ كثيراً ما تكون الغالبة، ثم هناك عبارات سوقية ذات توريات منحطة...ونتف وأقوال فيها تنطع، مسروقة لا أدري من أين أو مجلوبة لتخدع جمهوراً من الجهال، وأخيراً فهو بوصفه كاتباً للإيطالية (إلا أنه يكتب باللهجة البندقية التي دل على تمكنه منها) لم يبدُ غير جدير بأن يوضع في مصاف أغبى المؤلفين الذين استخدموا لغتنا وأحقرهم وأقلهم دقة وصواباً...وعلي أن أضيف في الوقت ذاته أنه لم يخرج قط تمثيلية دون أن يكون لها سمة كوميدية ممتازة. وقد بدا لعيني أن له دائماً مظهر رجل ولد بإحساس فطري بالطريقة التي يجب أن تؤلف بها الكوميديات الأصلية، ولكنه-لعيب في تعليمه، ولافتقار إلى التمييز، ولضرورة إرضاء الجمهور وتقديم بضاعة جديدة للكوميديين المساكين الذين يكسب قوتهم على حسابهم، وللعجلة التي كان ينتج بها هذا العدد الوفير من التمثيليات كل سنة ليقي نفسه من الغرق-أقول أنه لهذا كله لم يستطع قط أن يبتكر تمثيلية واحدة لا تزخر بالأغلاط".  

وفي 1757 أصدر جوتسي ديوان شعر يعرب عن انتقادات مماثلة في "أسلوب كبار كتاب التسكانية القدامى". ورد جولودوني بشعر مثلث القافية (على طريقة دانتي) بما معناه أن جوتسي أشبه بالكلب الذي ينبح القمر (Come il Cane Che Abbaja la luno) ورد عليه جوتسي بالدفاع عن "الكوميديا ديللارتي" ضد انتقادات جولدوني القاسية، واتهم جولدوني بأن تمثيلياته تفوق كوميديا الأقنعة مائة مرة في فجورها ونبوها وعدوانها على مكارم الأخلاق، وصنف معجم من "العبارات الغامضة، والتوريات البذيئة وغيرها من القذارات"

أخذها من أعمال جولدوني. يقول مولمنتي أن الجدل "أثار في المدينة ضرباً من الهوس، فكان الخلاف يناقش في المسارح والبيوت والحوانيت والمقاهي والشوارع".

وتحدى كاتب مسرحي آخر يدعى أباتي كياري جوتسي أن يكتب تمثيلية خيراً من التمثيليات التي ندد بها، وكان هذا الكاتب قد لدغه من قبل صل جوتسي التسكاني. ورد جوتسي أن هذا يسير عليه، حتى عن أتفه المواضيع وباستخدام كوميديا الأقنعة التقليدية دون غيرها. وفي يناير 1761 أخرجت فرقة في تياترو سان صمويلي تمثيليته المسماة "خرافة حب البرتقالات الثلاثة" وهي مجرد سيناريو أظهر بتالوني، وترتاجليا، وغيرهما من أصحاب (الأقنعة) يبحثون عن ثلاث برتقالات يعتقد أن لها قدرات سحرية، وأما الحوار فترك للارتجال. وكان نجاح هذه (الخرافة) حاسماً: ذلك أن الجمهور البندقي العائش على الضحك استطاب خيال القصة والهجاء الضمني لحبكات كياري وجولدوني. وأردفها جوتسي بتسع (خرافات) أخرى في خمس سنوات، ولكن قدم فيها حواراً شعرياً، وبهذا سلم جزئياً بنقد جولدوني للكوميديا ديللارتي. على أية حال بدا انتصار جوتسي كاملاً. وظل جمهور مسرح القديس صموئيل شيدي الإقبال عليه، في حين هبط الإقبال على مسرح جولدوني (سانت أنجيلو) إلى ما يقرب من الإفلاس. وانتقل كياري إلى بريشا، أما جولدوني فقبل دعوة إلى باريس .

وتوديعاً للبندقية أخرج جولدوني (1762) "أمسية من أمسيات الكرنفال الأخيرة" وتروي قصة مصمم منسوجات هو السنيور انتسوليتو الذي كان على وشك أن يفارق وهو حزين في البندقية النساجين الذين طالما زود أنوالهم بالرسوم. وسرعان ما تبين الجمهور في هذا رمزاً للكاتب المسرحي الذي يترك آسفاً الممثلين الذين طالما زود مسرحهم بالتمثيليات. فلما ظهر انتسوليتو في المشهد الأخير ضج المسرح (كما يقول جولدوني) "بتصفيق كهزيع الرعد تسمع خلاله هتافات...(رحلة سعيدة) (عد إلينا ثانية) (لا يفتك أن تعود إلينا)". وغادر البندقية في 15 إبريل 1762 ولم يرها بعد ذلك قط.

وفي باريس شغل عامين بتأليف كوميديات لمسرح الإيطاليين، وفي 1763 رفعت إليه دعوى إغواء، ولكن بعد سنة كلف بتعليم الإيطالية لبنات لويس الخامس عشر. وقد كتب بالفرنسية، بمناسبة زفاف ماري أنطوانيت والأمير الذي أصبح فيما بعد لويس السادس عشر، مسرحية من أفضل مسرحياته، واسمها (الجلف الأخير) وكوفئ عليها بمعاش قدره 1200 فرنك، ألغته الثورة حين بلغ الحادية والثمانين. وقد واسى فقره بإملاء مذكراته لزوجته (1792)-وهي مذكرات غير دقيقة، خصبة الخيال، مثيرة، مسلية، وفي رأي جولدوني أنها (درامية على نحو أصدق من كوميدياته الإيطالية)، ومات في 6 فبراير 1793. وفي 7 فبراير، بناء على اقتراح قدمه الشاعر ماري-جوزف دشنييه، رد إليه المؤتمر الوطني معاشه. وإذ لم يجده المؤتمر في حال تسمح له بتسلمه، فقد أعطاه لأرملته بعد أن خفضه.

كان انتصار جوتسي في البندقية قصير الأجل. فقبل أن يموت (1806) بسنين طويل اختفت (خرافاته) من خشبة المسرح، وبعثت كوميديات جولداني في مسارح إيطاليا. وما زالت تمثل عليها في كثرة تكاد كوميديات موليير في فرنسا. ويقوم تمثاله في الكامبوسان بارتولوميو بالبندقية، وفي اللارجو جولدوني (بفلورنسة). ذلك لأن الإنسانية كما كتب في مذكراته واحدة في كل مكان، والحسد يعلن عن نفسه في كل مكان، وفي كل مكان يكسب الرجل الهادئ الطبع في النهاية محبة الشعب وييلي خصومه".

روما

في جنوبي نهر بو، وعلى طول الأدرياتيك وعبر الأبنين، كانت تقوم ولايات الكنيسة-فيرارا وبولونيا وفورلي ورافنا وبروجه وبتفنتو وروما-فتكون بهذا القسم الأوسط والأكبر من الحذاء السحري.

أما فيرارا فحين أدمجت في الولايات البابوية (1598) جعل الدوق آل استنسي مودينا مقراً لهم، وجمعوا فيها محفوظاتهم وكتبهم وفنونهم. وفي 1700 أصبح لودفيكو موراتوري القسيس والباحث وفقيه القوانين أميناً على هذه الكنوز. واستطاع خلال خمسة عشر عاماً من العمل الدءوب، ومن ثماني وعشرين مجلداً، أن يصنف "كتاب الشؤون الإيطالية" (1723-38)، وأضاف بعد ذلك عشرة مجلدات للآثار والنقوش الإيطالية. وكان أثرياً أكثر منه مؤرخاً، وما لبث كتابه "الحوليات الإيطالية" الذي أصدره في اثني عشر مجلداً أن تقادم، ولكن أبحاثه في الوثائق والنقوش جعلته الأب والمصدر للتأليف التاريخي الحديث في إيطاليا.

وكانت بولونيا أكثر هذه الولايات ازدهاراً باستثناء روما. وظلت مدرسة تصوريها الشهيرة حية في عهد جوزيبي كرسبي (الأسباني)، وكانت جامعتها لا تزال من خير الجامعات الأوربية. وكان قصر بفيلاكو (1749) من أعظم أبنية القرن أناقة. وسمت أسرة ممتازة تركزت في بولونيا بالعمارة والمسرحية ورسم المناظر المسرحية إلى ذرى الإتقان في العصور الحديثة. فبنى فرديناندو جاللي داببيينا (التياترو ريالي) في مانتوا (1731) وكتب نصوصاً شهيرة عن فنه، وأنجب ثلاثة أبناء واصلوا مهارته في الزخرفة الخداعة الفاخرة. وصمم أخوه فرانشسكو المسارح في فيينا ونانسي وروما، والتياترو فيلارمونيكا بفيرونا-الذي كثيراً ما يعتبر أجمل مسرح في إيطاليا. وأصبح الساندرو بن فرديناندو كبير معماريي ناخب البلاتينات. وصمم ابن ثان يدعى جوزيبي مدخل دار الأوبرا في بايرويت (1748)-أجمل بناء موجود من نوعه. ورسم أنطونيو الابن الثالث تصميمات "التياترو كومونالي" في بولونيا.

وقد ترددت في ذلك المسرح وفي كنيسة سان بترونيو القديمة الضخمة أفضل الموسيقى الآلية التي عزفت في إيطاليا، لأن بولونيا كانت المركز الإيطالي الرئيسي للتعليم والنظرية الموسيقيين. فهناك كان بادري جوفاني باتستا مارتيني يعقد مجلسه المتواضع الصارم كأجل معلم للموسيقى في أوربا. وكان يقتني مكتبة موسيقية تضم سبعة عشر ألف مجلد، وقد ألف نصوصاً ممتازة من الكونترابنت وتاريخ الموسيقى، وأرسل عشرات من مشاهير الرجال في أكثر من عشر دول. وكان وسام الأكاديمية فيلارومونيكا التي ترأسها سنين كثيرة مشتهى جميع الموسيقيين. فإلى هنا سيأتي الصبي موتسارت 1770 ليواجه الاختبارات المقررة، وهنا سيعلم روسيني ودونيتستي. وكان المهرجان السنوي للمؤلفات الموسيقية الجديدة، التي يؤديها أوركسترا الأكاديمية ذو المئة عازف، في نظر إيطاليا الحدث الأعظم للسنة الموسيقية.

قدر جيبون سكان روما في 1740 بنحو 156.000 نسمة. وحين تذكر زهوة ماضيها الإمبراطوري وتناسى فقراء هذا الماضي وأرقاءه، وجد أن سخر العاصمة الكاثوليكية يجافي ذوقهم:

"في داخل الأسواق الأوريلية الفسيحة تغشي القسم الأكبر من التلال السبعة الكروم والأطلال. ولعل جمال المدينة الحديثة وبهاءها راجع إلى مفاسد الحكومة وتأثر الخرافة. فقد تميز كل حكم (إلا فيما ندر) بصعود أسرة جديدة صعوداً سريعاً، أثرت بفضل الخير الذي لا عقب له على حساب الكنيسة والدولة. وقصور أبناء الأخوة والأخوات المحظوظين هؤلاء هي أغلى صروح الأناقة العبودية، فقد سخرت لها أسمى فنون المعمار والتصوير والنحت، وأبهاؤها وحدائقها تزينها أنفس الآثار القديمة التي جمعوها تذوقاً أو غروراً".

وقد تميز باباوات هذا العهد بسمو الخلق، وكانت فضائلهم تسمو كلما هبط سلطانها. وكانوا كلها إيطاليين، لأن أحداً من الملوك الكاثوليك أبى أن يسمح لأي من الآخرين أن يقتضي البابوية. وقد برر كلمن الحادي عشر (حكم 1700-21) اسمه (ومعناه الرحيم) بإصلاحه سجون روما أما إنوسنت الثالث عشر (1721-24) فهو في رأي رانكي البروتستنتي:

"كان يملك مؤهلات رائعة للحكم الروحي والزمني معناً، ولكن صحته كانت هشة جدة..وقد وجدت الأسر الرومانية المتصلة به بصلة القرابة، والتي راودها الأمل في أن يرفع من شانها، أنها واهمة كل الوهم: لا بل إن ابن أخيه لم يستطع الظفر بالأثنتي عشر ألف دوقاتية كل عام (التي أصبحت الآن الدخل العادي لابن الأخ) دون مشقة".

أما بندكت الثالث عشر (1724-30) فكان "رجلاً ذا تقوى شخصية عظيمة". ولكنه (كما قال مؤرخ كاثوليكي) سمح بقدر كبير جداً من السلطة لمحاسيب غير جديرين بعطفه". وأغرق كلمنت الثالث عشر (1730-40) روما بأصدقائه الفلورنسيين، وسمح لنفسه حين شاخ وكف بصره أن ينقاد لأبناء أخيه الذين زاد تعصبهم الصراع بين اليسوعيين والجانسنيين في فرنسا مرارة فوق مرارة.

وفي رأي ماكولي أن بندكت الرابع عشر (1740-58) "كان أفضل وأحكم خلفاء القديس بطرس المائتين والخمسين" وهو حكم فضفاضي، ولكن البروتستانت والكاثوليك وغير المؤمنين على السواء مجمعون على الثناء على بندكت لأنه كان رجلاً واسع العلم، ذا شخصية محببة ونزاهة خلقية. ولم يرَ وهو رئيس لأساقفة بولونيا أي تناقض بين الاختلاف إلى دار الأوبرا ثلاث مرات في الأسبوع والاهتمام الصارم بواجبات الأسقفية، وقد وفق أثناء ولايته منصب البابوية بين حياته الشخصية ومرح الطبع وتحرر الحديث وتذوق الأدب والفن تذوقاً يكاد يكون وثنياً. وقد أضاف تمثالاً لفينوس عارية إلى مجموعته، وقال للكردينال دتنسان أن أمير وأميرة فورتمبرج خطا أسميهما على جزء من التشريح جميل الاستدارة لا يذكر كثيراً في المراسلات البابوية. وكاد يشبه فولتير في حدة الذكاء والظرف، ولكن هذا لم يمنعه من أن يكون إدارياً حازماً ودبلوماسياً بعيد النظر.

وقد وجد مالية البابوية تشكو الفوضى: فنصف الإيرادات يضيع في الانتقال من بلد إلى بلد وثلث سكان روما كنسيون يفوق عددهم كثيراً ما تحتاج إليه شؤون الكنيسة، ويكلفونها من النفقة ما لا تطيقه. فأنقص بندكت موظفيه الشخصيين، وطرد أكثر جنود الجيوش البابوية، وأنهى محسوبية الأقارب، وخفض الضرائب، وأدخل الإصلاحات الزراعية، وشجع المشروعات الصناعية، ولم يمر طويل وقت حتى أثمرت أمانته واقتصاده وكفاءته فائضاً للخزانة البابوية. أما سياسته الخارجية فقد قدمت تنازلات ودية للملوك المشاغبين، فوقع مع سردينيا والبرتغال ونابلي وأسبانيا اتفاقات سمحت لحكامها الكاثوليك بالترشيح لكراسي الأسقفية. وجاهد ليهدئ الضجة العقائدية في فرنسا، بالتراخي في تنفيذ الأمر البابوي Unigenitus (الوحيد الجنس) الصادر ضد الجانسنيين، "ماد الإلحاد يزداد كل يوم فعلينا أن نسأل إن كان الناس يؤمنون بالله لا إن كانوا يقبلون الأمر البابوي".

وبذل جهوداً شجاعة ليعثر على حل وسط مؤقت Modus Vivendi مع حركة التبرير. وقد لاحظنا تقبله الودي لإهداء فولتير مسرحية (محمد) إليه رغم أن المسرحية كانت تسلط عليها نيران الكنيسة في باريس (1746). وعين لجنة لمراجعة كتاب الصلوات اليومية ولتخليصه من بعض الأساطير الأبعد تصديقاً، على أن توصيات اللجنة لم تنفذ. واستطاع بنشاطه الشخصي أن يحقق انتخاب دالمبير بمجمع بولونيا. وكان يثبط التحريم المتعجل للكتب. فلما أشار بعض مساعديه عليه بشجب كتاب لامتري "الإنسان الآلة" أجاب أليس من واجبكم أن تكفوا عن إبلاغي بوقاحات الحمقى؟ "اعلموا أن للبابا يداً مطلقة ليمنح البركات فقط" وقد تخلت قائمة الكتب المحرمة التي أصدرها في 1758 عن جميع محاولات تعقب المؤلفات غير الكاثوليكية. واقتصرت-فيما عدا استثناءات قليلة-على خطأ بعض الكتب التي ألفها كتاب كاثوليك. وأمر بألا يدان كتاب قبل أن يعطى مؤلفه إن وجد فرصة للدفاع عن نفسه، ولا يدان كتاب في موضوع علمي إلا بعد استشارة الخبراء. وينبغي أن يؤذن لرجال العلم أو الدرس دون إبطاء بقراءة الكتب المحرمة. واتبعت هذه القواعد في طبعات القائمة الثالثة، وأكدها ليو الثالث عشر في 1900.

وقد ألفى الباباوات حكم روما عسيراً عسر يقرب من عسر حكم العامل الكاثوليكي. ولعل جمهور المدينة كان أشد الجماهير فظاظة وعنفاً في إيطاليا وربما في أوربا. فأي سبب يمكن أن يفضي إلى مبارزة بين النبلاء أو إلى صراع دامٍ بين الزمر المتحزبة التي قسمت المدينة المقدسة. وأما في المسرح فإن حكم النظارة كان يمكن أن يكون قاسياً لا رحمة فيه خصوصاً إذا أخطأ، وسنرى مثالاً عليه في حالة برجوليتزي. وجاهدت الكنيسة لتهدئ الشعب بالأعياد والمواكب والغفرانات والكرنفال، وسمحت للناس في الأيام الثمانية السابقة للصوم الكبير بأن يرتدوا ملابس تنكرية مرحة غريبة الأشكال، وأن يسرحوا ويمرحوا على (الكورسو) والتمس النبلاء رضى الجماهير باستعراضاتهم على الخيل أو العربات تحمل راكبين مهرة أو نساء حساناً في أبها زينة، وعرضت البغايا بضاعتهم لقاء أجور رفعتها مؤقتاً، وخففت المغازلات المقنعة من ثقل الزواج الأحادي بضع ساعات. فإذا انقضى الكرنفال عاودت روما مسيرتها المتناقضة من التقوى والإجرام.

أما الفن فلم يزدهر وسط العائدات المتناقضة التي يغلها إيمان مضمحل. لقد أسهمت العمارة ببعض الإسهامات الصغيرة: مثال ذلك أن الساندرو جاليلي أضاف لكنيسة جان جوفاني القديمة في اللاتيرانو واجهة فخمة، وخلع فرديناند وفوجا على كنيسة سانتا ماريا مادجوري وجهاً جديداً، وشيد فرانشسكو دي سانكتيس "السكالا دي سبانيا الفسيحة المهيبة من ميدان أسبانيا إلى مزار "الثالوث الأقدس" في مونتني. وأضاف النحت أثراً مشهوراً هو "الفونتانا دي تريفي"-حيث يلقى السائح المسرور قطعة نقود من وراء كتفه في الماء ليضمن عودته لزيارة روما ثانية. وكان لنافورة المخارج الثلاثة تاريخ طويل. ولعل برتيتي ترك رسماً تخطيطياً لها، وافتتح كلمنت الثاني عشر مسابقة لإنشائها، وقدم التصميمات لها أدمي بوشاردان الباريسي ولامبير سجبير آدم النانسي، واختير جوفافي مايني ليصممها، ونحت بييترو براتشي مجموعة نبتون وفريقه الوسطي (1732)، ونحت فليبو ديللافاللي تمثل الخصوبة والشفاء، وقد نيكولو سالقي الخلفية المعمارية، وأكمل جوزيبي يانيني العمل في 1762، وربما أوحت مشاركة العقول والأيدي الكثيرة على هذا النحو خلال ثلاثين سنة بأنه هناك شيء من التخاذل في الإرادة أو الفقر في الموارد، ولكنها تدحض أي فكرة بأن الفن في روما كان ميتاً. وأضاف براتشي إلى مآثره مقبرة (هي الآن في كاتدرائية القديس بطرس) لماريا كلمنتينا سوبيسكا، الزوجة التعسة لجيمس الثالث المطالب الاستيوراني بالعرش، وخلف دللافاللي في كنيسة القديس أغناطويس نقشاً بارزاً رقيقاً يمثل البشارة، جديراً بالنهضة الأوربية في أوجها.

أما التصوير فلم يتمخض عن عجائب في روما في هذا العصر، ولكن جوفافي باتستا بيرانيزي جعل الحفر فناً من الفنون الكبرى. ولد لبناء بالحجر قرب البندقية، وقرأ باللاديو وحلم بالقصور وأضرحة القديسين. على أن البندقية كانت تحوي من الفنانين أكثر مما تحوي من المال، أما روما فكان فيها مال أكثر من الفنانين، ومن ثم نزح جوفاني إلى روما وبدأ عمله معمارياً. غير أتن الكلب على المباني كان ضعيفاً. ولكنه صمم المباني على أي حال، أو على أصح رسم مباني غريبة الأشكال تبدو كأن "السلالم الأسبانية" سقطت فوق "حمامات دقلديانوس". ونشر هذه الرسوم في 1750 باسم "رسوم مختلفة" و"كارتشيري" (المسجون)، واشتراها الناس كأنهم يشترون الألغاز أو الأسرار الغامضة. ولكن بيرانيزي وجه مهارته في حالاته النفسية الأنبل إلى حفر رسومه التخطيطية للآثار القديمة. فقد عشقها كما عشقها بوسان وروبير، وأحزنه أن يرى هذه الأطلال الرائعة تزداد تحللاً يوماً بعد يوم بفعل النهب أو الإهمال، وظل طوال خمسة وعشون عاماً، في كل يوم تقريباً، يخرج ليرسمها، وفوته أحياناً تناول وجباته من الطعام، بل أنه حتى وهو يموت من السلطان واصل الرسم والنقش والحفر. وقد ذاع مؤلفاه "الآثار الرومانية" و"مناظر روما" في شكل نسخ مطبوعة في أوربا كلها وشاركت في الإحياء المعماري للأساليب الكلاسيكية.

وقد وجد ذلك الأحياء حافزاً قوياً من الحفائر التي أجريت في هركولانيوم وبومببي وهما أغرقهما ثوران فيزوف في 79م ففي 1719 أبلغ بعض الفلاحين أنهم وجدوا تماثيل مدفونة في التراب في هركولانيوم. وأقضت تسعة عشر عاماً قبل أن يمكن الحصول على المال اللازم لارتياد الموقع على نحو نسقي. وفي 1748 بدأت حفائر مماثلة تكشف عن عجائب بومبيي الوثنية، وفي 1752 كشف عن معابد بايستوم الضخمة الجليلة بعد اجتثاث الأجمة التي غطتها. وأقبل الأثريون من شتى البلاد ليدرسوا الكشوف ويصفوها، وأثارت رسوم هذه الآثار اهتمام الفنانين والمؤرخين جميعاً، وسرعان ما غزا المتحمسون للفن الكلاسكي روما ونابلي، وقدموا على الأخص من ألمانيا. فأتى منجز في 1740، وفنكلمان في 1755. وهفت نفس لسنج للذهاب إلى روما، "لأمكث هناك على الأقل سنة، وإلى الأبد أن أمكن"(92). ثم جوته-ولكن لنرجي هذه القصة الآن.

إما انطون رفائيل منجر فمن العسير أن نضعه في مكان واحد، لأنه ولد في بوهيميا (1728)، وخص بجهوده إيطاليا وأسبانيا، واختار روما موطناً له. وسماه باسم كوريدجو ورفائيل، وكان رساماً للنمنمات في درسدن، ونذره للفن، وظهرت على الصبي مخايل النجابة فأخذه أبوه وهو في الثانية عشرة إلى روما. ويروى أنه حبسه هناك في الفاتيكان يوماً بعد يوم ولا غداء له إلا النبيذ والخبز، وأخبره أن أراد مزيداً أن يطعم على آثار رفائيل وميكل أنجيلو والعالم الكلاسيكي. وبعد أن أقام أنطون برهة قصيرة في درسدن عاد إلى روما واسترعى الأنظار بلوحة رسمها للعائلة المقدسة، وكانت نموذجه فيها مارجاريتا جواتسي "عذراء فقيرة فاضلة جميلة" وتزوجها في 1749، وفي المناسبة ذاتها دخل في المذهب الكاثوليكي الروماني. وعاد ثانية إلى درسدن، وعين مصوراً لبلاد أوغسطس الثالث براتب قدره ألف طالر في العام. ووافق على أن يرسم لوحتين لكنيسة بدرسدن، ولكنه أقنع الملك الغاضب بأنه يسمح له برسمها في روما، وفي 1752 استقر هناك وهو بعد في الرابعة والعشرين. ولما بلغ السادسة والعشرين عين مديراً لمدرسة الفاتيكان للتصوير. وفي 1755 التقى بفنكلمان، واتفق معه على أن الباروك غلطة؛ وأن الفن يجب أن يطهر نفسه ويهذبها بأشكال الكلاسيكية الجديدة. ولعله في هذه الفترة أو نحوها رسم بالباستل صورته الذاتية الموجودة الآن في متحف فن درسدن-وجه فتاة وشعرها، ولكن العينين تلمعان بكبرياء رجل واثق من أن في استطاعته أن يهز العالم.

وحين طارد فردريك الأكبر أوغسطس من سكسونيا (1756) توقف راتب منجز الملكي، وكان عليه أن يعيش على الأجور المتواضعة المعروضة عليه في إيطاليا. وجرب العمل في نابلي، ولكن الفنانين المحليين هددوا حياته باعتباره دخيلاً، وذلك عملاً بتقليد نايولتاني قديم، فقفل منجز إلى روما سريعاً. وزين فيللا ألباني بصورة جصية حظيت بالشهرة ذات يوم،وما زالت ترى هناك لوحته "برناس" (1761) الممتازة فنياً، الكلاسيكية هدوءاً، الميتة عاطفياً. ومع ذلك أحس الوزير الأسباني في روما أن هذا هو الرجل الذي يصلح لرسم صور يزدان بها القصر الملكي في مدريد. وأرسل شارل الثالث في طلب منجز ووعده بألفي دبلون في العام مضافاً إليها مسكن ومركبة ورحلة مجانية على بارجة أسبانية موشكة على الإقلاع من نابلي. وفي سبتمبر 1761 وصل منجز إلى مدريد.

نابلي

الملك والشعب

أصابت مملكة ناپولي التي ضمت كل إيطاليا جنوب الولايات البابوية اللطمات الشديدة في الصراع على السلطة بين النمسا وأسبانيا وإنجلترا وفرنسا. ولكن هذا دأب التاريخ في تمزيقه الكئيب للمنطق، والتأرجح الدامي بين النصر والهزيمة، وحسبنا هنا أن نلاحظ أن النمسا استولت على نابلي في 1707، وأن دوس كارلوس، دوق بارما البوربوني وابن فليب الخامس ملك أسبانيا، طرد النمساويين في 1734، وحكم حتى 1759 باسم شارل الرابع ملك نابلي وصقلية. وكانت عاصمته التي ضمت 300.000 من الأنفس أكبر مدينة في إيطاليا.

وبلغ شارل النضج في فن الملك ببطء. ففي أول عهده اتخذ الملكية جوازاً للبذخ: فأهمل شؤون الحكومة، وأنفق نصف أيامه في القنص، وأسرف في الأكل حتى أصبح بديناً. ثم حوالي 1755، وبوحي من وزير العدل والشؤون الخارجية المركيز برناردو دي تانوتشي اضطلع بالتخفيف من مظالم تلك الإقطاع القاسي الذي توارى خلف كد الحياة النابولية ونشوتها.

وكانت تحكم المملكة طويلاً ثلاث جماعات متشابكة. فالنبلاء يملكون ثلثي الأرض تقريباً ويستعبدون أربعة أخماس الملايين الخمسة الذين يسكنونها ويسيطرون على البرلمان، ويتحكمون في نظام الضرائب، ويعرقلون كل إصلاح. والأكليروس يملكون ثلث الأرض، ويسترقون الشعب روحياً بلاهوت قوامه الرعب، وكتاب حافلة بالأساطير، وشعائر تستغل المصلين، ومعجزات على شاكلة تسبيحهم المصطنع كل نصف سنة لدم القديس ياتيوراس (حامي نابلي) المتخثر. وكانت الإرادة في يد قانونيين يدينون بالطاعة للنبلاء أو الأحبار، ومن ثم التزموا بالوضع الموروث من العصر الوسيط. وكانت الطبقة الوسطى الفقيرة المؤلفة أكثرها من التجار عاجزة سياسياً. وعاش الفلاحون والبرولتاريا في فقر أكره بعضهم على قطع الطريق وكثيراً منهم على التسول، وكان هناك ثلاثون ألف شحاذ في نابلي وحدها. وقد وصف دبروس جماهير العاصمة بأنهم "أبغض الرعاع، وأقذر الحشرات"-وهو حكم أدان النتيجة دون أن يدمغ السبب. على أننا يجب أن نعترف بأن هؤلاء النابوليين المهلهلي الثياب، المتشبثين بالخرافات، الخاضعين لسلطان الكهنة، يبدو أنهم كانوا يملكون من نكهة الحياة وبهجتها أكثر من أي جمهور آخر في أوربا.

وكبح شارل قوة النبلاء باجتذابهم إلى بلاطه حتى يكونوا تحت ناظري الملك، وبإقامة نبلاء جدد يلتزمون بتأييده. وثبط تدفق الشباب على الأديرة، وأنقص جموع الكنسيين من 100.000 إلى 81.000، وفرض ضريبة قدرها اثنان في المائة على ممتلكات الكنيسة، وحد من حصانات الأكليروس القانونية. وضيق تانوتشي من سلطة النبلاء القضائية، وحارب الفساد في القضاء، وأصلح الإجراءات القضائية، وخفف من صرامة قانون العقوبات. وأبيحت حرية العبادة لليهود، ولكن الرهبان أكدوا لشارل أن افتقاده الوريث الذكر لعرشه هو العقاب الذي أنزله به الله جزاء تسامحه الآثم فسحب الغفران من اليهود.

وكان ولع الملك بالبناء الفضل في إقامة صرحين شهيرين في نابلي. وأحدهما هو "التياترو سان كارلو" الشاسع، وقد أقيم 1737 وما زال واحداً من أوسع وأجمل دور الأوبرا الموجودة. وفي 1752 بدأ لويجي فانفيلتي يبني الصرح الآخر في كازوتا على واحد وعشرين ميلاً شمالي العاصمة، وهو قصر ملكي هائل صمم لينافس فرساي وليقوم بوظيفة في إيواء الأسرة المالكة ونبلاء الحاشية وأهم الموظفين الإداريين. وقد اقتضى بناؤه كد العبيد سوداً وبيضاً طوال اثنين وعشرين عاماً. وكانت الأبنية ذات المنحيات تقوم على جانبي مدخل فسيح إلى الصرح الأوسط الذي مد واجهته 30 قدماً. وقام في الداخل مصلى ومسرح وغرف لا حصر لها وسلم مزدوج عريض كانت كل درجة فيه لوحة رخام واحدة. وامتدت وراء القصر على طول نصف ميل الحدائق المنسقة، وعدد غفير من التماثيل، ونافورات فخمة تغذيها قناة طولها سبعة وعشرون ميلاً.

ولم يكن في نابلي فن متميز في هذا العصر غير قصر كازيرتا هذا (لأن القصر أطلق عليه اسم مدينته شأن الأسكوريال وفرساي)، ولا كان هناك شيء يستحق الذكر في الدراما أو الشعر. لقد ألف رجل كتاباً جريئاً "التاريخ المدني لملوك نابلي" (1723) وهو هجوم متواصل على جشع الأكليروس، ومفاسد المحاكم الكنسية، وسلطة الكنيسة الزمنية، ودعوى البابوية يحقها في نابلي كإقطاعية بابوية، أما المؤلف واسمه بييترو وجانوني فقد حرمه رئيس أساقفة نابلي، وفر إلى فيينا، وزج به ملك سردانيا في السجن، ثم مات في تورين (1748) بعد أن قضى اثنتي عشرة سنة حبيساً. وفقد أنطونيو جينوفيزي إيمانه وهو يقرأ لوك، وحاول في كتابه "مبادئ الميتافيزيقا" (1743) أن يدخل سيكولوجية لوك إلى إيطاليا. وفي 1754 أنشأ رجل أعمال فلورنسي في جامعة نابلي أول كرسي أوربي للاقتصاد السياسي بشرطين، إلا يشغله كنسي أبداً، وأن يكون أول شاغل له أنطزنيو جينوفيزي. ورد جينوفيزي صنيعه (1756) بأول بحث اقتصادي نظامي في اللغة الإيطالية "دروس في التجارة"، ردد صرخة التجار ورجال الصناعة المطالبين بالتحرر من القيود الإقطاعية والكنسية وغيرها على المشروعات التجارية الحرة. وفي العام نفسه أعرب كزنيه عن هذا المطلب ذاته للطبقة الوسطى الفرنسية في مقالاته، التي كتبها لموسوعة ديدرو.

ولعل بعض الاتصال كان قد تم بين جينوفيزي وكزنيه على فرديناندو جالياني النابولي الباريسي. وقد نشر جالياني في 1750 "بحثاً في النقود" قرر فيه ببراءة اقتصادي في الثانية والعشرين من عمره ثمن السلعة حسب تكلفة إنتاجها. وألمع منه كتابه "حوار حول تجارة الغلال" الذي ذكرناه من قبل نقداً لكزنيه. فلما اضطر إلى العودة إلى وطنه بعد السنين المثمرة التي قضاها في باريس، أحزنه ألا يجد في نابلي صالونات، ولا امرأة كمدام جوفران تطعمه وتثير ذكاءه وظرفه. على أنه كان فيها على أية حال فيلسوف بصمته على التاريخ.

جامباتيستا فيكو

تروي ترجمته الذاتية أنه حين كان في السابعة سقط من على سلم نقالي، فصدم الأرض برأسه أولاً، وظل غائباً عن الوعي خمس ساعات. وأصيب برأس في الجمجمة تكون من حوله ورم ضخم. وكان الورم يخفف بشقه بمبضع المرة تلو المرة. ولكن الصبي فقد من الدم في هذه العملية ما جعل الجراحين يتوقعون موته القريب. ولكنه بقي على قيد الحياة "بفضل الله، ولكن نتيجة لهذه البلية شببت بمزاج مكتئب حاد". كذلك أصيب بالدرن. ولو كانت العبقرية رهناً بمعوق بدني لكان فيكو موفور الحظ.

وحين بلغ السابعة عشرة (1685) كسب قوته بإعطاء الدروس الخصوصية في فاتوللا (قرب سالرنو) لأبناء أخي أسقف اسكيا. ومكث هناك تسع سنين، ولكنه كان أثناءها عاكفاً في حماسة محمومة على دراسة القانون وفقه اللغة والتاريخ والفلسفة. وافتتن على الأخص بقراءة أفلاطون وأبيقور ولوكريتيوس ومكيافللي وفرانسيس بيكن وديكارت وجروتيوس، وخرج من هذا كله بشيء من الأذى لإيمانه الديني. وفي 1697 حصل على كرسي أستاذ البيان في جامعة نابلي، ولم يؤجر عليه بأكثر من مائة دوقاتية في العام، زادها بإعطاء الدروس الخصوصية، ومن هذا الدخل كان يعول أسرة كبيرة. وماتت ابنة له في ريعان الصبي، وظهرت على ابن له ميول شريرة اقتضت إرساله إلى إصلاحية للأحداث، أما زوجته فكانت أمية عديمة الكفاية، فكان على فيكو أن يكون الأب والأم والمعلم جميعاً. وفي وسط هذه الشواغل المشتتة للفكر كتب فلسفته للتاريخ.

وقد قدم كتابه "مبادئ علم جديد في الطبيعة المشتركة للأمم" (1725)، وحاول إن وجد في فوضى التاريخ انتظامات من التعاقب قد تنير الماضي والحاضر والمستقبل. ورأى فيكو أن في استطاعة أن يتبين ثلاث فترات رئيسية في تاريخ كل شعب:

(1) عصر الأرباب الذي اعتقدت فيه الأمم (غير اليهود) أنها تعيش في ظل حكومات إلهية، وأن كل شيء كان بأمر الأرباب عن طريق التكهن والوحي. (2) عصر الأبطال حين كانوا يسيطرون على الجمهوريات أرستقراطيةـ‎، بحكم تفوق في طبيعتهم اعتقدوا أنهم يمتازون به على العامة. (3) عصر البشر، وفيه أقر الجميع بأنهم متساوون في الطبيعة البشرية فأقاموا أولى الجمهوريات الشعبية ثم الملكيات.

وقد طبق فيكو الفترة الأولى على التاريخ (الأممي واللاتيني) (غير الكتابي)، فما كان في استطاعته أن يقول إن يهود العهد القديم إنما "اعتقدوا أنهم) يعيشون في ظل حكومات إلهية" دون المساس بالتقاليد المقدسة. ولما كان ديوان التفتيش (وهو في نابلي أشد صرامة منه في شمال إيطاليا) قد حاكم باحثين نابوليين لأنهم تكلموا على بشر وجدوا قبل آدم، فإن فيكو وفق بجهد بين صيغته وبين سفر التكوين بالافتراض بأن جميع ذراري آدم، إلا اليهود، قد ارتدوا بعد الطوفان إلى حالة أقرب إلى الوحشية فسكنوا الكهوف وتسافدوا دون تمييز في شيوعية نساء. ومن (حالة الطبيعة) الثانية هذه تطورات الحضارة بطريق الأسرة والزراعة والملكية والأخلاق والدين. وكان يذكر الدين أحياناً على أنه طريقة أرواحية (لتفسير الأشياء والأحداث) وأحياناً يشيد به باعتباره قمة التطور.

ويقابل مراحل التطور الاجتماعي الثلاث، ثلاث (طبائع) أو طرق لتفسير الكون: اللاهوتية، والأسطورية والعقلية. وكانت الطبيعة الأولى، بحكم خداع الخيال (وهو أقوى ما يكون في أضعف الناس قدرة على التدليل العقلي)، طبيعة شعرية أو إبداعية، قد نسمها على سبيل التجوز إلهية، لأنها تصورت الأشياء المادية على أنها تحيا بقوة الآلهة...وكان الناس نتيجة لخطأ خيالهم هذا يخافون خوفاً رهيباً من الأرباب التي خلقوها هم أنفسهم....أما الطبيعة الثانية فهي الطبيعة البطولية، فقد اعتقد الأبطال أنهم من أصل إلهي....وأما الثالثة فالطبيعة (الطريقة) البشرية، طبيعة ذكية. ومن ثم متواضعة، معتدلة، منطقية، تسلم بأن الضمير والعقل والواجب كلها نواميس".

وقد حاول فيكو لتاريخ اللغة والأدب والقانون والحكومة مكاناً ملائماً في هذا النظام الثلاثي. ففي المرحلة الأولى كان الناس يتواصلون بالإشارات والإيماءات، وفي الثانية بالرموز والتشبيهات والصور، وفي الثالثة بالكلمات التي اتفق عليها القوم...ليحددوا بهذا معنى القوانين. ومر القانون نفسه بتطوير مقابل لهذا: فكان أول الأمر إلهياً؛ منزلاً كما كان أول الأمر إلهياً؛ منزلاً كما كان الحال في ناموس موسى، ثم بطولياً كقانون ليكورجوس، ثم بشرياً-أملاه العقل البشري المكتمل النمو كذلك مرت الحكومة بثلاث مراحل: التيوقراطية؛ وفيها زعم الحكام أنهم صوت الله، والأرستقراطية، وفيها اقتصرت جميع الحقوق المدنية على طبقة الأبطال الحاكمة، والبشرية، وفيها يعتبر الجميع سواء أما القوانين...، وهذه هي الحال في المدن الشعبية الحرة،..، وكذلك في الملكيات التي تجعل جميع رعاياها سواء أمام قوانينهم. وواضح أن فيكو استعاد تلخيص أفلاطون للتطور السياسي من الملكية إلى الأرستقراطية إلى الديمقراطية إلى الدكتاتورية (حكم الطغاة)، ولكنه غير الصيغة لتقرأ: تيوقراطية وأرستقراطية، وديمقراطية، وملكية. وقد اتفق مع أفلاطون في أن الديمقراطية تنزع إلى الفوضى، واعتبر حكم الرجل الواحد علاجاً ضرورياً للخلل الديمقراطي، "أن الملكيات هي الحكومات النهائية،...التي تصل إليها الأمم لتستريح.

وقد ينبعث الخلل الاجتماعي من التدهور الخلقي، أو الترف، أو تركيز الثروة تركيزاً يمزق الأمة، أو الحسد العدواني بين الفقراء. ومثل هذا الخلل يفضي عادة إلى الدكتاتورية، كما نرى في حكم أوغسطس الذي كان فيه الشفاء من الفوضى الديمقراطية في الجمهورية الرومانية. فإذا عجزت حتى الدكتاتورية عن وقف الانحلال، فإن أمة أشد قوة وعنفواناً تدخل فاتحة للبلاد.

"وإذا كان الناس الذين بلغ منهم الفساد هذا المبلغ قد انقلبوا عبيداً لشهواتهم الجامحة...فإن العناية الإلهية تقضي بأن يصيروا عبيداً بحكم القانون الطبيعي للأمم،....فيستعبدوا لأمم أفضل منهم يحكمونهم بعد أن يغلبوهم كما يحكم الغالب الأقاليم الخاضعة له...وهنا يستطيع ضوءان عظيمان من أضواء النظام الطبيعي. أولهما أن من يعجز عن حكم نفسه يجب أن يدع القادر على حكمه أن يحكمه، والآخر أن العالم يحكمه دائماً من هم بالطبيعة أصلح الحاكمين.

وفي مثل هذه الحالات يرتد الشعب المغلوب إلى مرحلة التطور التي وصل إليها غالبوه. وهكذا أرتد سكان الإمبراطورية الرومانية إلى الهمجية والتخلف بعد غزوات الشعوب الهمجية واضطروا إلى أن يبدءوا بالتيوقراطية (حكم الكهنة واللاهوت)؛ وتلك كانت العصور المظلمة. ثم جاء عصر بطولة آخر بمجيء الحروب الصليبية؛ وأمراء الإقطاع يقابلون أبطال هومر ودانتي هو هومر مكرراً.

ونسمع في فيكو أصداء للنظرية التي تزعم أن التاريخ تكرار دائر، ولقانون مكيافللي "Corsi e Ricori التطور والتقهقر" وفكرة التقدم تضار في هذا التحليل، فليس التقدم إلا نصف حركة دورية نصفها الأخر الانحلال؛ والتاريخ، شأنه شأن الحياة، هو تطور وانحلال في تعاقب وحتمية لا محيص عنهما.

وقدم فيكو في الطريق إلماعات مدهشة. فقد رد الكثيرين من أبطال الأساطير الكلاسيكية إلى الأسماء البعدية Eponyms والتشخيصات التالية لعمليات ظلت طويلاً لا شخصية أو متعددة الشخصيات، فأورفيوس مثلاً كان المدمج الوهمي لموسيقيين بدائيين كثيرين، وليكورجوس كان التجسيد لسلسلة القوانين والعادات التي جمدت إسبارطة، ورومولوس كان ألف رجل جعلوا من روما دولة.(107) وبالمثل رد فيكو هومر إلى الخرافة، مدللا على ذلك-قبل كتاب فردريك فولت "مقدمات نقدية لهومر (1795) بنصف قرن-بأن الملاحم الهومرية إنما هي حصيلة تجمعت وأدمجت شيئاً فشيئاً لجماعات وأجيال من رواة الملاحم الذين كانوا ينشدون بطولات طروادة وأوديسيوس في مدن اليونان. وقبل قرن تقريباً من صور كتاب بارتولد نيبور "تاريخ روما" (1811-32) رفض فيكو الفصول الأولى من تاريخ ليفي لأنه أسطورية. "كل تواريخ الأمم غير اليهودية كان لها بدايات خرافية(109)" (وهنا أيضاً يتجنب فيكو في حذر أن يمس تاريخية سفر التكوين).

وهذا الكتاب الخطير يكشف عن عقل قوي تزعجه المضايقات المتصلة، يكافح لصياغة أفكار أساسية دون أن يقضي به المسير إلى سجن من سجون ديوان التفتيش. وقد بذل فيكو قصاراه المرة بعد المرة ليعلن ولاءه للكنيسة وأحس أنه جدير بثناء الكنيسة لتفسيره مبادئ القانون بطريقة تتفق واللاهوت الكاثوليكي. ونحن نسمع نغمة أكثر إخلاصا في رأيه في الدين دعامة لا عنى عتها للنظام الاجتماعي والفضيلة الشخصية: "أن للأديان دون غيرها القوة على جعل الناس يعملون الأعمال الفاضلة..." ومع ذلك، ورغم تكرار استعماله للفظ "العناية الإلهية"، يبدو أنه يبعد الله عن التاريخ ويرد الأحداث إلى التفاعل الحربين الأسباب والنتائج الطبيعية. وقد هاجم دارس دومنيكي فلسفة فيكو لأنها ليست مسيحية بل لوكريتية.

ولعل العلمانية المنبعثة من تحليل فيكو كان لها بعض الصلة بإخفاقها في أن تظفر بالاستماع إليها في إيطاليا، وما من شك في أن ما شاب عمله من استطرد فوضوي وعاب فكره من اختلاط قد قضى على "علمه الجديد"، بأن يولد ميتاً وأن تكون ولادته مؤلمة. فلم يوافقه أحد على اعتقاده بأنه كتب كتاباً عميقاً أو مثيراً. وعبثاً ناشد لكلير ولو ليذكره في دورية "أخبار عالم الدب"، وبعد عشر سنوات من ظهور كتاب العلم الجديد خف شارل الرابع لنجده فيكو، فعينه مؤرخاً رسمياً للملك براتب سنوي قدره مائة دوقاتية. وفي 1741 قرت عين جامباتستا برؤية ولده جنارو يخلفه أستاذاً في جامعة نابلي. وفي سنواته الأخيرة (1743-44) ضعف عقله فترى في غيبية أشرفت على الجنون.

وكان في مكتبة مونتسيكو نسخة من كتابه، وقد أقر الفيلسوف الفرنسي في هوامش مذكرات خاصة بدينة لنظرية فيكو في التطور والانحلال الدوري، ويظهر هذا الدين الذي لم يفصح عنه في كتاب مونتسيكو "عظمة الرومان وانحطاطهم" (1734). وفيما عدا هذا ظل فيكو مجهولاً في فرنسا حتى جول ميشليه (1827) ترجمة مختصرة لكتاب العلم الجديد. وقد وصف ميشليه إيطاليا بأنها "الأم الثانية والحاضنة التي غذتني في صباي بفرجل، وفي شبابي بفيكو". وفي 1826 بدأ أوجست كونت المحاضرات التي أصبحت فيما بعد "مجموعة محاضرات في الفلسفة الوضعية" (1830-42)، وفيها يشعر بتأثير فيكو في كل خطوة.

أما الإنصاف الكامل لفيكو فلم يأت إلا على يد رجل نابولي هو بنديتو كروتشي(114)، الذي ألمع هو الآخر إلى أن التاريخ يجب أن يتخذ مكانه إلى جوار العلم أساساً ومدخلاً للفلسفة.

موسيقى نابلي

تليت نابلي قول فيثاغورس، قرأت أن الموسيقى أرفع ضروب الفلسفة. وقد كتب لالاند، الفلكي الفرنسي، بعد جولة في إيطاليا في 1765-66 يقول:

  "إن الموسيقى هي الانتصار الأعظم للنابوليين، وكأن أغشية طبلة الأذن في ذلك البلد أشد توتراً وتناغماً ورنيناً منها في أي بلد آخر في أوربا. فالأمة كلها تغني. وإيماءات الجسد، والنبرة، والصوت، وإيقاع المقاطع بل والحديث نفسه-كلها تتنفس الموسيقى. ومن ثم كانت نابلي المصدر الرئيسي للموسيقى الإيطالية، ولكبار الملحنين، والأوبرات الممتازة، ففيها أخرج كوريللي وفنتشي ورينالد وجومللي ودورانتي وليو وبرجوليزي ... وكثير غيرهم من أعلام الملحنين روائعهم".  

على أن نابلي تفوقت في الأوبرا الألحان الصوتية فقط، أما في الموسيقى الآلية فقد عقدت الزعامة للبندقية، وشكا هواة الموسيقى من أن أهل نابلي أحبوا جيل الصوت أكثر من لطائف الهارموني (التوافق) والكونترابنت. هنأ ملك نيكولوبو ريورا، "الذي ربما كان أعظم من عاش من معلمي الغناء". وكان كل شادٍ إيطالي يصبو إلى أن يكون تلميذه، فإذا قبله احتمل في ذلة شذوذاته العاتية؛ وروى أنه أبقى جايتانو كفاريللي خمس سنوات في صفحة تمارين واحدة، ثم صرفه مؤكداً له أنه الآن أعظم المغنين في أوربا. وكان هناك معلم غناء آخر يدعى فرانشيسكو دورانتي، لم يفوقه مرتبة غير يوريورو، وقد علم الغناء لفنتشي، وجوملي، وبرجوليزي، وبايزيللو، وبتشيني.

أما ليوناردو ڤنتشي Leonardo Vinci فقد بدأ معوقاً بسبب اسمه، ولكنه ظفر بالغناء المبكر بتلحينه أوبرا متاستازيو Didone Abband Onate. وقال الجاروتي "أن فرجل نفسه كان يبهجه أن يسمع تلحيناً فيه هذه الحيوية وهذا التعذيب؛ تهجم فيه على القلب والروح كل قوى الموسيقى". وأشهر منه ليوناردو ليو، في الأوبرا الجادة والهازلة، والاوراتوربو. والقداسات والموتيتات، وقد ترددت نابولي فترة بين الضحك على أوبراه الكوميدية La Finta Fraeastana (الضجة المفتعلة) والبكاء على لحن Miaerenr (ارحمني) الذي لحنه لخدمات الصوم الكبير في 1744.

وحين استمع ليو حوالي عام 1735 إلى كنتاتا من تلحين نيكولو جوملي Niccolò Jommelli قال في عجب "لم يمضِ طويل زمن حتى يغدو هذا الفتى محط عجب أوربا وإعجابها.." وقد حقق جوميللي النبوءة تقريباً. ففي الثالثة والعشرين من عمره ظفر بإطراء نابلي الحماسي على أوبراه الأولى، وفي السادسة والعشرين حقق نصراً مماثلاً في روما. وحين مضى إلى بولونيا قدم نفسه على أنه تلميذ لبادري مارتيني، ولكن حين سمعه ذلك المعلم المبجل يرتجل فوجيه بكل تطورها الكلاسيكي صاح "إذن فمن أنت؟ أتراك تسخر مني؟ إنني أنا الذي يجب أن يتعلم منك". وفي البندقية أثارت أوبراته من الحماسة ما حمل مجلس العشرة على تعيينه مديراً للموسيقى في مدرسة ذوي الأمراض المستعصية، وهناك كتب قطعاً من أفضل موسيقى ذلك الجيل الدينية. وحين انتقل إلى فيينا (1748) أخذ يلحن مع متاستازيو الذي ارتبط معه برباط صداقة وثيقة. وبعد أن حقق مزيداً من الانتصارات في البندقية وروما استقر في شتوتجارت ولودفجسبرج (1753-68) رئيساً لفرقة مرتلي دوق فورتمبرج. وهنا عدل أسلوبه الأوبرالي في اتجاه ألماني، فزاد من توافقه تركيباً، وأضفى مزيداً من المادة والثقل لموسيقاه الآلية، وتخلى عن تكرار الألحان من البداية Da Capo وأضاف مصاحبة أوركسترالية للسرديات وأحل الباليه محلاً بارزاً في أوبراته، ربما متأثراً بجان جورج نوفير، أستاذ الباليه الفرنسي في شتوتجرد، وقد مهدت هذه التطورات في موسيقى جوميللي، إلى حد ما، لإصلاحات جلوك.

فلما عاد الملحن المسن إلى نابلي (1768) أنكر الجمهور ميوله التيوتونية، ورفضوا أوبراته رفضاً باتاً. وقد قال موتسارت بعد أن سمع إحداها هناك في 1770-"إنها جميلة، ولكن أسلوبها أرفع وأقدم مما يحتمله المسرح"، ولقي جوميللي حظاً أفضل بموسيقاه الكنسية. فرتلت موسيقى لحن "ارحمني" و"قداسة للموتى" في العالم الكاثوليكي طولاً وعرضاً. وقد كتب وليم بكفورد بعد استماعه إلى القداس يرتل في لشبونة في 1787 "لم أسمع قط ولعلي لن أسمع ثانية مثل هذه الموسيقى المهيبة المؤثرة". واعتزل جوميللي في بلدته أفرسا بعد أن ادخر لمستقبله بحرص تيوتوني، وأنفق سنواته الأخيرة شيخاً بديناً ثرياً. وفي 1774 شيع جثمانه جميع موسيقيي نابلي البارزين.

وقد ضحك نابلي أكثر حتى مما غنت. فبأوبرا كوميدية غزا برجوليزي باريس بعد أن أبت تلك المدينة المستكبرة دون سائر العواصم الأوربية أن تخضع لأوبرا إيطاليا الجادة. ولم يخض جوفاني باتستا برجوليزي تلك المعركة بشخصه، ووفد على نابلي وهو في السادسة عشرة. وما أن بلغ الثانية والعشرين حتى كان قد كتب عدة أوبرات، وثلاثين صوناتا، وقداسين، حظيت كلها بالإعجاب الشديد، وفي 1733 قدم أوبرا تسمى Il Prigioniero "السجين" وقد لها بمقدمة "الخادمة التي تنقلب سيدة البيت": والنص قصة مرحة تحكي كيف تحتال الخادمة سربينا على سيدها حتى يتزوجها، أما الموسيقى فساعة حافلة بالمرح والألحان الرشيقة. وقد أسلفنا كيف أسر هذا المرح البارع مزاج باريس وقلبها في "حرب المهرجين" في 1752، التي عرضت في الأوبرا مائة مرة، ثم ستاً وتسعين مرة أخرى في 1753 في التياتر فرانسيه. وقاد برجوليزي أثناء ذلك أوبراه "الأولمبياد" في روما (1735)، فقوبلت بعاصفة من صفير الاستهجان، وببرتقالة صوبت بدقة على رأس الملحن. وبعد سنة ذهب إلى بوتسرولي ليعالج من إصابته بالسل، الذي ازداد فداحة من جراء أسلوب حياته الخليع. وقد كفر موته الباكر عن آثامه، ودفنه في الكاتدرائية المحلية الرهبان الكبوشيون الذين أنفق معهم أيامه الأخيرة. أما روما التي ندمت على فعلتها بعثت "الأولمبياد" من جديد، وصفقت لها في طرب شديد، واليوم تحفظ له إيطاليا ذكرى مجيدة لا لفواصله المرحة بقدر ما تحفظها له لرقة العاطفة في "آلام العذراء" التي لم يعش ليكملها. وقد جعل برجوليزي نفسه موضوعاً لأوبراوين.

وقد أصاب دومنيكو سكارلاتي ما أصاب برجوليزي من مبالغة طفيفة نفختها فيه رياح الذوق، ولكن من ذا الذي يستطيع مقاومة تألق براعته وخفة يده؛ ولد في عام العجائب، عام هندل وباخ (1685)، وكان الطفل السادس لألكساندور سكارلاتي، الذي كان آنئذ فردي الأوبرا الإيطالية. وقد تنفس الموسيقى منذ ولد. فقد كان أخوه بييترو، وابن عمه جوزيبي، وعماه فرانشيسكو وتومازو موسيقيين. وكانت أوبرات جوزيبي تخرج في نابلي وروما وتورين والبندقية وفيينا. وخشي الأب أن تختنق عبقرية الفتى دومنيكو بهذه الوفرة في المواهب فبعث به إلى البندقية وهو في العشرين وقال، إن ابني هذا نسر كبر جناحاه، فيجب ألا يبقى في العش، وعلي ألا أعطل طيرانه.

وفي البندقية واصل الشاب دراساته والتقى بهندل. ولعلهما قصدا روما حيث دخلا بتحريض من الكردينال أوتوبوني في مباراة ودية على الهاربسكورد ثم على الأرغن. وكان دومنيكو يومها أفضل عازف على الهاربسكورد في إيطاليا، ولكن يروى أن هندل لم يكن دونه مهارة عليهم، أما على الأرغن فإن سكارلاتي اعترف بصراحة بتفوق "السكسوني العزيز" عليه. وتوثقت الصداقة بين الرجلين، وهذا أمر عسير جداً على كبار الممارسين لفن واحد، ولكن يقول معاصر لهما أن "دومنيكو كان صاحب طبع غاية في اللطف وسلوك غاية في النبل". أما هندل فكان قلبه كبير كهيكله. ومنع الإيطالي تواضعه وحياؤه من عرض براعته في العزف على الهاربسكورد أمام الجماهير. ونحن نعرفها من أخبار السهرات الموسيقية الخاصة فقط. وقد خيل لأحد سامعيه في روما (1714) "أن عشرة آلاف شيطان كانوا يعزفون على الآلة" إذ لم يسمع قط من قبل "مثل هذه الفقرات تنفيذاً وتأثيراً" وكان سكارلاتي أو من طور إمكانات لوحة مفاتيح اليد اليسرى بما في ذلك إمرارها فوق اليد اليمنى. قال "إن الطبيعة منحتني عشرة أصابع، وبما أن آلتي تتيح تشغيلها جميعاً، فلست أرى سبباً ألا أستعملها".

وفي 1709 قبل وظيفة "مايسترو دي كابللا" لمملكة بولندا السابقة ماريا كازيميرا. ذلك أنها بعد موت زوجها جان سويبكي نفيت لاعتبارها دساسة مثيرة للقلاقل. فلما قدمت إلى روما في 1699 صممت على إنشاء ندوة تحفل بالعبقريات كصالون كرستينا ملكة السويد التي ماتت قبل ذلك بعشر سنين. فجمعت الكثير من رواد صالون كرستينا السابقين في قصر على ميدان "ترينيتا دي مونتي" وفيهم عدة أعضاء في الأكاديمية الأركادية. وهناك (1709-14) أخرج سكارلاتي عدة أوبرات. ولما شجعه نجاحها ، قدم "أمليتو" (هاملت) على مسرح الكايرانيكو. ولم تلق قبولاً حسناً من الجمهور. ولم يعد دومنيكو بعدها قط لتقديم أوبرا لجمهور إيطالي. فلقد وضع أبوه مستوى للأوبرا كان أعلى من أن يدركه.

وظل أربع سنين (1715-19) يقود الكابيلا جوليا بالفاتيكان، ويعزف الأرغن في كاتدرائية القديس بطرس؛ ثم لحن الآن "آلام العذراء" التي حكم الجمهور عليها بأنها "رائعة أصلية" وفي 1719، قاد أوبراه "نار تشيزو" في لندن. ثم نجده بعد عامين في لشبونة قائداً لفرقة المنشدين للملك يوحنا الخامس ومعلماً لأبنة الملك ماريا بربارا، التي أصبحت بفضل تعليمه عازفة ماهرة على الهاربسكورد، ومعظم صوناتاته الباقية ألفها باستعماله. فلما عاد إلى نابلي (1725) تزوج وهو في الثامنة والأربعين بماريا جنتيلي التي لم تتجاوز السادسة عشرة، وفي 1729 اصطحبها إلى مدريد. في تلك السنة تزوجت ماريا بربارا من فرديناند، ولي عهد أسبانيا. فلما انتقلت معه إلى إشبيلية رافقها سكارلاتي وظل في خدمتها إلى أن ماتت.

وماتت زوجة سكارلاتي في 1739 مخلفة له خمسة أطفال. وتزوج ثانية، وسرعان ما أصبح الخمسة تسعة. فلما أصبحت ماريا بربارا ملكة على أسبانيا (1746) جلبت أسرة سكارلاتي معها إلى مدريد. وكان فارينلي Farinelli الموسيقي الأثير لدى الملك والملكة، ولكن المغني والعازف أصبحا صديقين حميمين. وكانت وظيفة سكارلاتي وظيفة خادم مميز، ويمد البلاط الأسباني بالموسيقى. وحصل على إذن بالذهاب إلى دبلن في 1740 وإلى لندن في 1741؛ ولكنه كان أكثر الوقت يعيش في قناعة هادئة بمدريد أو قربها، متوارياً عن العالم تقريباً، لا يخامره الظن على الأرجح بأنه سيكون أثيراً لدى عازفي البيانو في القرن العشرين.

ولم ينشر سكارلاتي في حياته سوى ثلاثين صوناتا من بين 555 صوناتا تستند الآن إليها شهرته استناداً قلقاً بفضل حلياتها النغمية. وقد دل عنوانها المتواضع (تمارين على الهاربسكورد) على هدفها المحدود، وهو ارتياد إمكانات التعبير بتقنية الهاربسكورد. وهي ليست صوناتات إلى بالمعنى الأقدم للفظ، أي قطع آلية "تعزف" ولا تغنى. ولبعضها موضوعات متعارضة، وبعضها تزاوج في مقامات كثيرة وصغيرة، ولكنها كلها في حركة مفردة لم تبذل فيها أي محاولة لتفصيل الموضوع وتلخيصه. وهي تمثل تحرر موسيقى الهاربسكورد من تأثير الأرغن، وتلقى التأثيرات من الأوبرا بمؤلفات للوحة المفاتيح. وقد تفوقت على حيوية أصوات السوبرانو والمغنين ورقتها ورعشاتها وحيلها بالأصابع الخفيفة الرشيقة الطيعة لخيال لعوب مسرف.

لقد "لعب" سكارلاتي الهاربسكود بمعنى الكلمة الحرفي. يقول في هذا: "لا تتوقعوا أي عمق في العلم، بل معابثة بارعة للفن". وهناك أثر في الرقص الأسباني وما فيه من أرجل طافرة وتنورات مدومة وصاجات رنانة تحسه في هذه التموجات والتدفقات؛ وفي كل موضع من الصوناتات تجد استسلام العازف للذة التحكم في آلته.

ولابد أن هذا الفرح بالآلة كان من بواعث السلوى لسكارلاتي في سنوات خدمته تلك في أسبانيا. وقد نافسته لذة لعب الميسر الذي أتى على الكثير من معاشه، واضطرت الملكة إلى سداد ديونه غير مرة. ثم ساءت صحته بعد عام 1751، وزادت تقواه وورعه. وفي 1754 عاد إلى نابلي ومات فيها بعد ثلاث سنين. وتولى فارينلي Farinelli الطيب إعالة أسرته المعوزة.

وقد أرجأنا الكلام على سيرة فارينلي Farinelli الغريبة في أسبانيا حتى فصل لاحق. وقد يكون هو ودومنيكو سكارلاتي، وجوڤاني باتيستا تيپولو وابناه جوڤاني دومنيكو ولورنزو بالديسرا، من الإيطاليين الموهوبين الذين كان لهم الفضل، هم ومنگز المتطلين تقريباً، في استخدام الموسيقى والفن الإيطاليين في النهضة الأسبانية. وفي 1759 لحق بهم ملك نابلي أو يبقهم. ففي ذلك العام مات فرديناند السادس دون عقب، وورث أخوه شارل الرابع ملك نابلي العرش الأسباني باسم شارل الثالث. وأسفت نابلي على رحيله عنها. وكان هذا الرحيل في أسطول من ست عشرة سفينة يوم عطلة حزينة لأهل نابلي، فاجتمعوا في حشود كبيرة بطول الشاطئ ليشاهدوه وهو يقلع، ويروى أن كثيرين منهم بكوا وهو يودعون "ملكاً أثبت أنه أب لشعبه". وقد كتب له أن يتوج أعماله ببث الشباب في حياة أسبانيا.

المصادر

  1. ^ ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.