التاريخ الاقتصادي للصين

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

في الحقول

فقر الزراع - الوسائل الاقتصادية - المحصولات - الشاي - الطعام - صبر أهل القرية


لقد كان خصب التربة هو الدعامة التي يقوم عليها آخر الأمر كل ما حوته تلك اللغة من آداب، وكل ما اشتمل عليه التفكير الصيني من دقة وعمق، وكل ما انطوت عليه الحياة الصينية من نعيم وترف. وبعبارة أصح لقد كانت هذه الدعامة هي جهود الصينيين أنفسهم، لأن التربة الخصبة لا تخلق خلقاً بل تنشأ إنشاء. وما من شك في أن سكان الصين الأولين قد ظلوا قروناً طوالاً يكافحون الأدغال والغابات، والوحوش والحشرات، والجفاف والفيضان، وأملاح التربة والصقيع، حتى استطاعوا في آخر الأمر أن يحولوا تلك البراري الشاسعة الموحشة إلى حقول خصبة مثمرة، وكان لابد لهم أن يعودوا حيناً بعد حين إلى خوض هذه المعارك لكي يحتفظوا بما نالوا من نصر، فإذا ما استمروا يقطعون أشجار الغابات مائة عام مثلاً استحالت الأرض صحراء مجدبة ، وإذا أهملوا تقطيعها بضع سنين استحالت حراجاً وغابات كثيفة.

ولقد كان هذا الكفاح كفاحاً مريراُ ينطوي على أخطار جسيمة، وكان يزيد من مرارته أن البلاد كانت معرضة لهجمات البرابرة واستيلائهم على محصولات الأرض المستصلحة، ومن أجل هذا كان الزراع يتقون هذه الإغارة بأن يعيشوا في جماعات صغيرة لا في منازل متفرقة متباعدة، وكانوا ينشئون حول قراهم أسواراً ويخرجون لزرع الأرض مجتمعين، وكثيراً ما كانوا يقضون الليل ساهرين يحرسون الحقول.

وكانت طرق الزراعة عندهم ساذجة وإن كانت لا تختلف كثيراً عن طرق الزراعة في هذه الأيام. وكانوا في بعض الأحيان يفلحون الأرض بالمحاريث، وقد اتخذوها أولاً من الأخشاب ثم من الحجارة واتخذوها بعدئذ من الحديد، ولكنهم كانوا في أكثر الأحيان يقلبون ما يمتلكون من قطع الأرض الصغيرة بالفأس يكدحون بها صابرين. وكانوا يستعينون على إخصاب التربة بكل ما يجدونه من المخصبات الطبيعية ولا يستنكفون أن يجمعوا لهذا الغرض فضلات الكلاب والآدميين. ولقد احتفروا من أقدم الأزمنة قنوات يجرون فيها مياه أنهارهم المثيرة إلى مزارع الأرز أو حقول الذرة، فشقوا ترعاً عميقة يبلغ طولها عدة أميال في الصخور الصماء ليصلوا بها إلى مجرى مائي بعيد أو يحولوا مجراه حتى يصل إلى سهل جاف، واستطاع الصينيون دون الاستعانة بالدورة الزراعية أو المخصبات الصناعية، ومن غير حيوانات الجر في كثير من الأحيان أن يزرعوا نصف أرضهم على الأقل زرعتين أو ثلاث زرعات في العام، وأن يستخرجوا منها من أنواع الغذاء أكثر مما استخرجه أي شعب آخر في التاريخ(34).

وكانت أهم الحبوب التي زرعوها هي الأرز والذرة ويليها في الأهمية القمح والشعير. وكانوا يتخذون من الأرز غداء وخمراً، ولكن الفلاح لم يدمن هذا الشراب في يوم من الأيام. أما شرابه المحبب إليه ومحصوله الذي يلي الأرز في أهميته فهو الشاي. وكان استعماله في مبدأ الأمر مقصوراً على التداوي ثم زاد انتشاراً حتى صار في عهد أسرة تانج من المحصولات التي تصدر إلى خارج البلاد، والتي يتغنى بها الشعراء في أشعارهم. ولم يحل القرن الخامس عشر حتى كانت جميع بلاد الشرق الأقصى مغرمة بشرب الشاي تتغنى بمديحه، وحتى أخذ المولعون به يعملون لاستنبات أنواع جديدة منه ويعقدون مجالس الشراب للحكم على خير ما يقدم منها للحاضرين(35). وكان من محصولاتهم الأخرى الخضر اللذيذة والمغذية كفول الصويا، والتوابل المقوية كالثوم والبصل، وعشرات المئات من أنواع الفاكهة(36)؛ وكانت اللحوم أقل المنتجات الريفية شأناً؛ وكانت الثيران والجاموس تستخدم أحياناً في حرث الأرض، أما تربية الماشية للانتفاع بلحومها فكانت مقصورة على الخنازير والدجاج(37)، وكانت طائفة كبيرة من السكان تتخذ غذاءها من سمك البحر والمجاري المائية العذبة.

وكان أهم ما تتغذى به الطبقات الفقيرة هو الأرز الجاف والمكرونة والشعرية وقليل من الخضر والسمك. أما الطبقات الوسطى فكانت تضيف إلى هذا لحم الخنازير والدجاج وتضيف إليه الغنية لحم البط، وكانت أرقى المآدب التي تقام في بيكين تحتوي على مائة صنف من أصناف البط(38). وكان لبن البقر نادراً وكذلك كان البيض قليلاً وقلما كان يؤكل طازجاً. غير أن فول الصويا كان يمد الأهلين باللبن الصالح والجبن. وقد تطور فن الطهي في الصين حتى أصبح من الفنون الجميلة، وكان يستخدم فيه كل منتجات الأرض والماء وطيور الهواء، فكانت الحشائش والأعشاب البحرية تقتلع من الأرض وأعشاش الطير، تنتهب لتعمل منها أنواع الحساء اللذيذ، وكانت أطعمة لذيذة تتخذ من زعانف كلب البحر وأمعاء السمك والجراد والجنادب وصغار الديدان ودود القز ولحم الخيل والبغال والجرذان وثعابين الماء والقطط والكلاب(39). وكان الصينيون يحبون لذيذ المأكل ولم يكن من غير المألوف أن تشتمل مائدة الرجل الغني على أربعين صنفاً وأن يظل القوم حول موائد الطعام ثلاث ساعات أو أربعاً يأكلون فيها ويشربون.

أما الرجل الفقير فلم يكن يصرف هذا الوقت كله في طعامه الذي كان يتناول منه وجبتين في اليوم. ولم يكن الفلاح رغم كدحه المتواصل بمنجاة من الجوع طيلة أيام حياته إذا استثنينا بعض الحالات في مختلف الأقاليم والأوقات. وكان في وسع الأقوياء الماهرين منهم أن يستحوذوا على ضياع واسعة وأن يركزوا ثروة البلاد في أيد قليلة. وكان يحدث في بعض الأحيان، كما حدث في أيام الإمبراطور شي هوانج-دي، أن يعاد توزيع الأرض على السكان، غير أن ما بين الناس من فروق طبيعية سرعان ما كان يؤدي إلى تركيز الثروة مرة أخرى(41). وكان معظم الزراع من ملاك الأراضي، ولكن متوسط ما كان يملكه الفرد أخذ يتضاءل في كل قرن عن الذي قبله نظراً لتزايد عدد السكان أسرع من ازدياد مساحة الأرض الصالحة للزراعة. فكانت نتيجة هذا هي الفقر الذي لا مثيل له إلا في أفقر أقاليم الهند! فقد كان دخل الأسرة المتوسطة لا يزيد على 83 ريالاً أمريكياً، وكان كثيرون من الأفراد يعيشون بما يعادل 1/50 من الريال في اليوم كما كان الملايين منهم يموتون من الجوع في كل عام(42). وقد ظلت الصين عشرين قرناً كاملاً تعاني القحط بمعدل مرة في كل عام(43)، ويرجع بعض السبب في هذا إلى أن الفلاح كان يُستغل أسوأ الاستغلال ولا ينال من الطعام إلا ما يمسك الرمق، ويرجع بعضه إلى ازدياد المواليد أسرع من تحسين الإنتاج الزراعي واتساع مساحة الأرض المنزرعة، كما يرجع بعضه الآخر إلى سوء سبل الاتصال والنقل إلى حد يجعل السكان في بعض الأقاليم يهلكون من الجوع بينما الطعام في البعض الآخر يزيد على حاجة الأهلين. وآخر ما نذكره من هذه الأسباب أن الفيضان كان في بعض الأحيان يتلف ما يتركه المالك والجابي للزراع، فكثيراً ما كان نهر هوانج-هو، الذي يسميه الناس "حزن الصين"، يغير مجراه ويغرق ألفاً من القرى ويترك ألفاً أخرى صادية.

وكان الفلاحون يصبرون على هذه الكوارث ويتجرعون غصصها، ومن أمثالهم المأثورة: "كل ما يحتاجه الإنسان في هذه الحياة الفانية هو قبعة وحفنة من الأرز"(44). وكانوا يكدحون ولكنهم لا يسرعون في عملهم، فلم تكن ثمة آلة معقدة تدفعهم إلى العمل سراعاً أو تنهك أعصابهم بضجيجها وخطرها وسرعتها. ولم يكن لهم أيام راحة في آخر الأسبوع ولا أيام آحاد، ولكن كانت لهم أيام إجازات وأعياد كعيد رأس السنة وعيد الفوانيس تتيح للعامل فرصة يستريح فيه من عناء كدحه ويخفف فيها بالمسرحيات والأساطير ما في سائر فصول السنة من اكتئاب. فإذا ما ولى الشتاء بزمهريره ووجهه الكالح ولانت تربة الأرض بما سقط عليها من مطر الربيع بعد أن ذاب ما تراكم عليها من ثلج الشتاء، خرج الفلاحون مرة أخرى ليزرعوا حقولهم الضيقة، ويغنوا في مرح وحب أغاني الأمل التي انحدرت إليهم من ماضيهم السحيق.


في المتاجر

الحرف اليدوية - الحرير - المصانع - الطوائف - الحمالون - الطرق والقنوات - التجار - الائتمان والنقود - تجارب في العملة المتداولة - التضخم الناشئ من الطباعة


وازدهرت الصناعة في تلك الأيام ازدهاراً لم ير له مثيل في كافة أنحاء الأرض قبل القرن الثامن عشر. فمهما تتبعنا تاريخ الصين إلى ماضيه السحيق وجدنا الحرف اليدوية منتشرة في البيوت والتجارة رائجة في المدن.

وكانت أهم الصناعات الأساسية هي صناعة النسيج وتربية دود القز لاستخراج خيوط الحرير. وكانت كلتا الحرفتين تقوم بها النساء في أكواخهن أو بالقرب منها. وكان غزل الحرير من الحرف القديمة في البلاد وترجع بدايتها في الصين إلى الألفي السنة السابقة لميلاد المسيح . وكان الصينيون يطعمون الدود ورق التوت الحديث التقطيع ويحصلون من تربيته على نتائج عجيبة، ولعل القارئ لا يصدق إذا قيل له إن رطلاً من الديدان (أي 700,000 دودة) يتغذى على هذا الورق كان يتضاعف إلى 9,500 رطل في اثنين وأربعين يوماً(47). وكانت الديدان الكبار توضع بعدئذ في خيام صغيرة من القش تنسج حولها شرانقها بما تفرزه من الحرير، فإذا أتمت عملها أخذت الشرانق وألقيت في ماء ساخن فخرج الحرير من القالب الذي لف عليه وعالجوه ونسجوه وصنعوا منه أنواعاً عدة من الثياب والأقمشة المزركشة والمطرزة والأنسجة المشجرة التي كانت تصنع منها ملابس الطبقات العليا في العالم كله%=@لم يكن من غير المألوف عند المضيف إذا جاءه ضيوف أن يمر عليهم بنسيج رقيق من الحرير يعرضه عليهم(48) كما يعرض عليهم غيره آنية من الخزف أو يبسط أمامهم ملفاً من الصور أو من الخط الجميل.@ ، أما من ينتجون الحرير وينسجونه فكانوا يتخذون ثيابهم من القطن.

وكانت هذه الصناعة المنزلية تكمل بحوانيت في المدن حتى في القرون السابقة لميلاد المسيح، ولذلك وُجدت من بداية القرن الثالث قبل الميلاد جماعات من العمال في المدن نظمت هي والمشرفون عليها في طوائف من أرباب الحرف. وكان نمو هذه الصناعة في الحوانيت سبباً في ازدحام المدن بالسكان العاملين المجدين الذين جعلوا الصين في أيام كوبلاي خان تضارع من الوجهة الصناعية أوربا في القرن الثامن عشر بعد الميلاد. وقد كتب ماركو پولو في ذلك يقول:

"لكل حرفة من الحرف مائة متجر يهيئ كل واحد منها العمل لعشرة أو خمسة عشر أو عشرين من الصناع، وقد يصل هذا العدد في بعض الصناعات إلى أربعين ... والسادة الأغنياء أصحاب الحوانيت لا يعملون بأيديهم بل يتظاهرون بالرقة والتسامي والتأنق في حديثهم وحركاتهم"(50).

وكانت هذه النقابات تعمل ما تعمله الصناعات المنظمة في هذه الأيام فتحدد التنافس وتنظم الأجور وساعات العمل؛ وكان الكثير منها يحدد الإنتاج ليحتفظ بمستوى أسعار منتجاته، ولعل رضاها بأساليبها القديمة واطمئنانها إليها كانا من أسباب تأخر العلوم في الصين ومقاومة الانقلاب الصناعي في تلك البلاد مقاومة دامت حتى أخذت كل الحواجز والأنظمة في هذه الأيام تنهار أمام طوفان الصناعة الأوربية الجارف.

وكانت النقابات في الصين تضطلع بكثير من الواجبات التي عهد بها السكان الغربيون المتكبرون إلى الدولة ! فكانت هذه النقابات تسن قوانينها بنفسها وتعدل في تنفيذها، وقد قللت من الإضراب بما كانت تقوم به من تسوية النزاع بين العمال وأصحاب الأعمال بطرق التحكيم على يد لجان الوسطاء التي يمثل فيها كلا الطرفين بالتساوي. وكانت هذه النقابات بوجه عام هيئات صناعية تحكم نفسها وتنظم شئونها، وكانت مخرجاً يدعو أي الإعجاب من التذبذب الحادث في هذه الأيام بين مبدأي التخلي وترك الأمور تجري في مجراها وبين سيطرة الدولة على جميع الشئون.

ولم تكن النقابات مقصورة على التجار والصناع وعمالهم، بل كانت هناك نقابات لطوائف أقل من هؤلاء شأناً كالحلاقين والحمالين والطباخين. بل أن المتسولين كانت لهم هيئة تفرض على أعضائها قوانين صارمة(51). وكانت أقلية ضئيلة من عمال المدن من الأرقاء يستخدم معظمهم في الأعمال المنزلية ويبقون تحت سلطان سادتهم عدة سنين أو طول الحياة، وكان اليتامى والبنات يُعرضون للبيع في أيام القحط ويباعون بعدد قليل من "الكاشات"، وكان من حق الأب في كل وقت أن يبيع بناته أو عبيده. على أن هذا الاسترقاق لم يبلغ في يوم من الأيام ما بلغه في بلاد اليونان أو الرومان، وكانت كثرة العمال من أعضاء النقابات أو الوكلاء الأحرار- كما كانت كثرة الزراع من ملاّك الأراضي- يحكمون أنفسهم في هيئات قروية مستقلة في معظم شئونها عن إشراف الدولة(52).

وكانت منتجات العمل تنقل على ظهور الناس، بل إن الناس أنفسهم كان معظمهم ينقلون في الحدوج فوق أكتاف الحمالين المكدودة المتصلبة، ولم يكن هؤلاء يشكون من عملهم أو يتضجرون منه ، وكانت الدلاء الثقيلة أو الحزم الضخمة تعلق في طرف قوائم خشبية تحمل على الكتفين، وكانت عربات النقل تجرها الحمير أحياناً ولكنها في أكثر الأحيان كان يجرحها الرجال. ذلك أن عضلات الآدميين قد بلغت من الرخص حداً لا يشجع على رقيّ النقل الحيواني أو الآلي، كما كانت حال النقل البدائية غير حافزة على إصلاح الطرق وتعبيدها.

ولما أن أنشئ أول خط حديدي في الصين بين شانغهاي وووسونج بفضل رؤوس الأموال الأجنبية احتج الصينيون على هذا العمل وقالوا إنه سيزعج الأرواح التي في باطن الأرض، واشتدت مقاومتهم حتى اضطرت الحكومة إلى شراء الخط الحديدي وإلقاء القاطرات والعربات في البحر(53). وقد أنشئت في أيام شي هوانج- دي وكوبلاي خان طرق عامة رصفت بالحجارة ولكنها لم يبق منها الآن إلا جوانبها. أما شوارع المدن فلم تكن سوى أزقة لا يزيد عرضها على ثمان أقدام صممت لكي تحجب الشمس، وكانت القناطر كثيرة العدد جميلة في بعض الأحيان، ومن أمثلتها القنطرة الرخامية التي كانت عند القصر الصيفي، وكان التجار والمسافرون يستخدمون الطرق المائية بقدر ما كانوا يستخدمون الطرق البرية، وكان في البلاد قنوات مائية يبلغ طولها 25,000 ميل، تستخدم بدل السكك الحديدية، ولم يكن في الأعمال الهندسية الصينية ما يفوق القناة الكبرى التي تربط هانجتشاو بتيانشين والتي يبلغ طولها 650 ميلاً، والتي بُدئ في حفرها سنة 300 م وتم في عهد كوبلاي خان، لم يكن يفوقها إلا السور العظيم. وكانت القوارب المختلفة الأشكال والأحجام لا ينقطع غدوها ورواحها في الأنهار، ولم تكن تتخذ وسائل للنقل الرخيص فحسب بل كانت تتخذ كذلك مساكن للملايين من الأهلين الفقراء.

والصينيون تجار بطبعهم وهم يقضون عدة ساعات في المساومات التجارية، وكان الفلاسفة الصينيون والموظفون الصينيون متفقين على احتقار التجار، وقد فرض عليهم أباطرة أسرة هان ضرائب فادحة وحرموا عليهم الانتقال بالعربات ولبس الحرير.

وكان أفراد الطبقات الراقية يطيلون أظافرهم ليدلوا بعملهم هذا على أنهم لا يقومون بأعمال جثمانية، كما تطيل النساء الغربيات أظافر أيديهن لهذا الغرض عينه(64)، وقد جرت العادة أن يعد العلماء والمدرسون والموظفون من الطبقات الراقية، وتليهم في هذا طبقة الزراع، ويأتي الصناع في المرتبة الثالثة، وكانت أوطأ الطبقات طبقة التجار لأن هذه الطبقة الأخيرة- على حد قول الصينيين- لا تجني الأرباح إلا بتبادل منتجات غيرها من الناس.

لكن التجار مع ذلك آثروا ونقلوا غلاّت حقول الصين وسلع متاجرها إلى جميع أطراف آسية، وصاروا في آخر الأمر الدعامة المالية للحكومة الصينية. وكانت التجارة الداخلية تعرقلها الضرائب الفادحة، وأما التجارة الخارجية فكانت معرضة لهجمات قُطّاع الطريق في البر والقرصان في البحر. ومع هذا فقد استطاع التجار الصينيون أن ينقلوا بضائعهم إلى الهند وفارس وبلاد النهرين ورومة نفسها في آخر الأمر بالطواف حول شبه جزيرة الملايو بحراً وبالسير في طرق القوافل التي تخترق التركستان(55). وكانت أشهر الصادرات هي الحرير والشاي والخوخ والمشمش والبارود وورق اللعب، وكان العالم يرسل إلى الصين بدل هذه الغلات والبضائع الفِصْفِصَة والزجاج والجزر والفول السوداني والدخان والأفيون.

وكان من أسباب تيسير التبادل التجاري نظام الائتمان والنقود. فقد كان التجار يقرض بعضهم بعضاً بفوائد عالية تبلغ في العادة نحو 36%، ونقول إنها عالية وإن لم تكن أعلى مما كانت في بلاد اليونان والرومان(65). وكان من أسباب ارتفاع سعر الفائدة ما يتعرض له المرابون من أخطار شديدة، فكانوا من أجل ذلك يتقاضون من الأرباح ما يتناسب مع هذه الأخطار، ولم يكن أحد يحبهم إلا في مواسم الاستدانة. ومن الحكم الصينية المأثورة قولهم: "السارقون بالجملة ينشئون المصارف"(57). وأقدم ما عرف من النقود ما كان يتخذ من الأصداف البحرية والمدي والحرير.

ويرجع تاريخ أقدم عملة معدنية إلى القرن الخامس قبل الميلاد على الأقل(58). وجعلت الحكومة الذهب العملة الرسمية في عهد أسرة شين، وكانت العملة الصغرى تصنع من خليط من النحاس والقصدير، وما لبثت هذه أن طردت الذهب من التعامل . ولما أخفقت التجربة التي قام بها وو دي والتي أراد بها أن يضرب عملة مصنوعة من الفضة والقصدير لكثرة ما زيف وقتئذ من النقود، استعيض عنها بشرائح من الجلد يبلغ طول الواحدة منها قدماً، وكانت هذه الشرائح مقدمة لاستعمال النقود الورقية. ولما أن أضحى ما يستخرج من النحاس أقل من أن يفي بالأغراض التجارية لكثرة البضائع المتداولة، أمر الإمبراطور شين دزونج في عام 807م أن تودع العملة النحاسية كلها في خزائن الحكومة وأن يصدر بدلاً منها شهادات مدينة أطلق عليها الصينيون اسم "النقود الطائرة"، لأنهم كما يبدو تحملوا متاعبهم المالية بنفس الطمأنينة التي تحمل بها الأمريكيون متاعبهم في عام 1933م. ولم تستمر هذه الطريقة إلا ريثما زالت الضائقة؛ ولكن اختراع الطباعة بالقوالب أغرى الحكومة على أن تستخدم هذه الطريقة الجديدة في عمل النقود، فشرعت ولاية سشوان شبه المستقلة في عام 935 م والحكومة الوطنية في شنجان عام 970 تصدران النقود الورقية. وأسرفت الحكومة في عهد أسرة سونج في إصدار هذه النقود، فنشأ من ذلك تضخم شديد قضى على كثير من الثروات(59).

ويقول ماركو بولو عن خزائن كوبلاي خان: "إن دار السك الإمبراطورية تقوم في مدينة كمبلوك (پكين)، وأنت إذا شاهدت الطريقة التي تصدر بها النقود قلت إن فن الكيمياء أتقن أتقاناً لا إتقان بعده، وكنت صادقاً فيما تقول. ذلك أنه يصنع نقوده بالطريقة الآتية"، ثم أخذ يستثير سخرية مواطنيه وتشككهم فيما يقول وعدم تصديقهم إياه فوصف الطريقة التي يؤخذ بها لحاء شجر التوت فتصنع منه قطع من الورق يقبلها الشعب ويعدها في مقام الذهب(60). ذلك هو منشأ السيل الجارف من النقود الورقية الذي أخذ من ذلك الحين يدفع عجلة الحياة الاقتصادية في العالم مسرعة تارة ويهدد هذه الحياة بالخراب تارة أخرى.

المخترعات والعلوم

البارود - الألعاب النارية والحروب - ندرة المخترعات الصناعية - الجغرافية - الرياضيات - الطبيعة - "فتح شوى" - الفلك - الطب - تدبير الصحة


لقد كان الصينيون أقدر على الاختراع منهم على الانتفاع بما يخترعون. فقد اخترعوا البارود في أيام أسرة تانج، ولكنهم قصروا استعماله وقتئذ على الألعاب النارية، وكانوا في ذلك جد عقلاء؛ ولم يستخدموه في صنع القنابل اليدوية وفي الحروب إلا في عهد أسرة سونج (عام 1161م). وعرف العرب ملح البارود (نترات البوتاسيوم)- وهو أهم مركبات البارود- في أثناء اتجارهم مع الصين وسموه "الثلج الصيني" ونقلوا سر صناعة البارود إلى البلاد الغربية، واستخدمه العرب في أسبانيا في الأغراض الحربية، ولعل سير روجر بيكون أول من ذكره من الأوربيين قد عرفه من دراسته لعلوم العرب أو من اتصاله بده- برو كي الرحالة الذي طاف في أواسط آسية.

والبوصلة البحرية أقدم عهداً من البارود. وإذا جازفنا أن نصدق ما يقوله عنها المؤرخون الصينيون فإن دوق جو قد اخترعها في عهد الإمبراطور تشنج وانج (1115-1078 ق.م.) ليهتدي بها بعض السفراء الأجانب في عودتهم إلى بلادهم. ويقول الرواة إن الدوق أهدى إلى السفارة خمس عربات جهزت كل منها "بإبرة تشير إلى الجنوب"(62). وأكبر الظن أن الصينيين الأقدمين كانوا يعرفون ما لحجر المغنطيس من خواص مغنطيسية، ولكن استعماله كان مقصوراً على تحديد الاتجاهات في بناء الهياكل. وقد ورد وصف الإبرة المغنطيسية في السونج- شو وهو كتاب تاريخي مؤلف في القرن الخامس الميلادي. ويقول المؤلف إن مخترعها هو الفلكي جانج هنج (المتوفى في عام 139م)، على أن هذا العالمِ لم يفعل أكثر من أن يكشف من جديد ما كانت الصين تعرفه قبل أيامه. وأقدم ما ورد عن الإبرة من حيث فائدتها للملاحين هو ما جاء في كتاب أُلّف في أوائل القرن الثاني عشر الميلادي وهو يعزو استخدامها في هذا الغرض إلى البحارة الأجانب- وأكبر الظن أنهم من العرب- الذين كانوا يسيرون سفنهم بين سومطرة وكانتون(63). وأول إشارة معروفة لنا عن البوصلة في أقوال الأوربيين هي ما ذكر عنها في قصيدة لجنيو ده بروفن(64).

على أننا لا نستطيع أن نصف الصينيين بأنهم من الأمم النشيطة في ميدان الاختراعات الصناعية رغم اختراعهم البوصلة والبارود والطباعة والخزف. لقد كانوا مخترعين في الفنون وقد ارتقوا بها في صورها التي ابتدعوها حتى بلغت درجة من الكمال لا نظير لها في غير بلادهم أو في تاريخهم، ولكنهم ظلوا حتى عام 1912م قانعين بالجري على طرقهم الاقتصادية القديمة، يحتقرون الأساليب والحيل التي تغني عن العمل الشاق، وتضاعف ثمار الجهود البشرية، وتعطل نصف سكان العالم لتزيد من ثراء النصف الآخر، كأنهم في احتقارهم هذا كانوا يتنبئون بما تجره هذه الاختراعات على البشر من شرور. وكان الصينيون من أوائل الأمم التي اتخذت الفحم وقوداً واستخرجوه من الأرض بكميات قليلة منذ عام 122 ق.م.(65)، ولكنهم لم يخترعوا آلات تريحهم من كدح استخراجه وتركوا معظم ما تخبئه أرضهم من الثروة المعدنية دون أن يستغلوها، ومع أنهم عرفوا كيف يصنعون الزجاج فقد رضوا أن يستوردوه من الغرب، ولم يصنعوا ساعات للجيب أو للحائط، ولم يخترعوا المسامير المحواة بل إنهم لم يصنعوا من المسامير العادية إلا أغلظها(66). وقد ظلت حياة الصين الصناعية في أهم نواحيها على حالها لم تتغير كثيراً خلال الألفي العام التي بين قيام أسرة هان وسقوط المنشو- شأنها في هذا شأن الحياة الصناعية في أوربا من أيام بركليز إلى عهد الانقلاب الصناعي.

كذلك كانت الصين تفضل سلطان التقاليد والعلماء على سلطان العلم والمال المثير للأعصاب، ولذلك كانت الحضارة الصينية أفقر الحضارات العظمى فيما أفادته منها فنون الحياة المادية. فقد أخرجت هذه الحضارة كتباً من أرقى الكتب الدراسية في الزراعة وفي تربية دود القز قبل ميلاد المسيح بقرنين كاملين وألفت رسالات قيمة في علم تقويم البلدان(67).

الرياضيات

وقد خلف عالمها الرياضي المعمر جانج تسانج (المتوفى في عام 152ق.م) وراءه كتاباً في الجبر والهندسة فيه أول إشارة معروفة للكميات السالبة. وقد حسب دزو تسو تشونج- جي القيمة الصحيحة للنسبة التقريبية إلى ثلاثة أرقام عشرية، وحسن المغنطيس أو "الأداة التي تشير إلى الجنوب"، وقد وردت إشارة عنه غير واضحة قيل فيها إنه كان يجري التجارب على سفينة تتحرك بنفسها(68).

واخترع تشانج هنج آلة لتسجيل الزلازل (سيزموغرافيا) في عام 132م . ولكن علم الطبيعة الصيني قد ضلت معظم أبحاثه في دياجير الفنج جوي السحرية واليانج والين من أبحاث ما وراء الطبيعة . وأكبر الظن أن علماء الرياضة الصينيين قد أخذوا الجبر عن علماء الهند، ولكنهم هم الذين أنشئوا علم الهندسة في بلادهم مدفوعين إلى هذا بحاجتهم إلى قياس الأرض(70). وكان في وسع الفلكيين في أيام كنفوشيوس أن يتنبئوا بالخسوف والكسوف تنبؤاً دقيقاً، وأن يضعوا أساس التقويم الصيني بتقسيم اليوم إلى اثنتي عشرة ساعة وتقسيم السنة إلى اثني عشر شهراً يبدأ كل منها بظهور الهلال، وكانوا يضيفون شهراً آخر في كل بضع سنين لكي يتفق التقويم القمري مع الفصول الشمسية(71). وكانت حياة الصينيين على الأرض تتفق والحياة في السماء؛ وكانت أعياد السنة تحددها منازل الشمس والقمر، بل إن نظام المجتمع من الناحية الأخلاقية كان يقوم على منازل الكواكب السيارة والنجوم.

الطب

وكان الطب في الصين خليطاً من الحكمة التجريبية والخرافات الشعبية. وكانت بدايته فيما قبل التاريخ المدون، ونبغ فيه أطباء عظماء قبل عهد أبقراط بزمن طويل، وكانت الدولة من أيام أسرة جو تعقد امتحانا سنوياً للذين يريدون الاشتغال بالمهن الطبية، وتحدد مرتبات الناجحين منهم في الامتحان حسب ما يظهرون من جدارة في الاختبارات. وقد أمر حاكم صيني في القرن الرابع قبل المسيح أن تشرح جثث أربعين من المجرمين المحكوم عليهم بإعدامهم، وأن تدرس أجسامهم دراسة تشريحية، ولكن نتائج هذا التشريح وهذه الدراسة قد ضاعت وسط النقاش النظري، ولم تستمر عمليات التشريح فيما بعد. وكتب جانج جونج- تنج في القرن الثاني عدة رسائل في التغذية والحميات ظلت هي النصوص المعمول بها مدى ألف عام، وكتب هوا- دو في القرن الثالث كتاباً في الجراحة، وأشاع العمليات الجراحية باختراع نبيذ يخدر المريض تخديراً تاماً. ومن سخافات التاريخ أن ضاعت أوصاف هذا المخدر فيما بعد، ولم يعرف عنها شيء. وكتب وانج شو-هو في عام 300 بعد الميلاد رسالة ذائعة الصيت عن ضربات القلب(72).

وفي أوائل القرن السادس كتب داو هونج- جنج وصفاً شاملاً لسبعمائة وثلاثين عقاراً مما كان يستخدم في الأدوية الصينية، وبعد مائة عام من ذلك الوقت كتب جاو يوان- فانج كتاباً قيماً في أمراض النساء والأطفال ظل من المراجع الهامة زمناً طويلاً. وكثرت دوائر المعارف الطبية في أيام أباطرة أسرة تانج كما كثرت الرسائل الطبية المتخصصة التي تبحث كل منها في موضوع واحد في عهد الملوك من أسرة سونج(73). وأنشئت في أيام هذه الأسرة كلية طبية؛ وإن ظل طريق التعليم الطبي هو التمرين والممارسة. وكانت العقاقير الطبية كثيرة متنوعة حتى لقد كان أحد مخازن الأدوية منذ ثلاثمائة عام يبيع منها بنحو ألف ريال في اليوم الواحد(74). وكان الأطباء يطنبون ويتحذلقون في تشخيص الأمراض، فقد وصفوا من الحميات مثلاً ألف نوع، وميزوا من أنواع النبض أربعاً وعشرين حالة. واستخدموا اللقاح في معالجة الجدري، وإن كانوا لم يستخدموا التطعيم للوقاية منه، ولعلهم قد أخذوا هذا عن الهند، ووصفوا الزئبق للعلاج من الزهري. ويلوح أن هذا المرض الأخير قد ظهر في الصين في أواخر أيام أسرة منج وأنه انتشر انتشاراً مروعاً بين الأهلين، وأنه بعد زواله قد خلف وراءه حصانة نسبية تقيهم أشد عواقبه خطورة. غير أن الإجراءات الصحية العامة والأدوية الواقية، والقوانين الصحية لم تتقدم تقدماً يذكر في بلاد الصين؛ كما كان نظام المجاري والمصارف نظاماً بدائياً إذا كان قد وضع لهما نظام على الإطلاق(75). وقد عجزت بعض المدن عن حل أول الواجبات المفروضة على كل مجتمع منظم- ضمان ماء الشرب النقي والتخلص من الفضلات.

وكان الصابون من مواد الترف التي لا يحصل عليها إلا الأثرياء الممتازون، وإن كان القمل وغيره من الحشرات كثير الانتشار. وقد اعتاد الصيني الساذج أن يهرش جسمه ويخدشه وهو مطمئن هادئ هدوء الكنفوشيين. ولم يتقدم علم الطب تقدماً يستحق الذكر من أيام شي هوانج-دي إلى أيام الملكة الوالدة. ولعل في وسعنا أن نقول هذا القول بعينه من علم الطب في أوربا من عهد أبقراط إلى عهد باستير. وغزا الطب الأوربي بلاد الصين في صحبة المسيحية ولكن المرضى الصينيين من الطبقات الدنيا ظلوا إلى أيامنا هذه يقصرون الانتفاع به على الجراحة. أما فيما عداها فهم يفضلون أطباءهم وأعشابهم القديمة على الأطباء الأوربيين والعقاقير الأوربية.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

انظر أيضاً