روجر بيكون

للوزير الأول في نوڤا سكوتشيا، طالع روجر بيكون (سياسي).

روجر بيكون
تمثال روجر بيكون في متحف جامعة أكسفورد

روجر بيكون Roger Bacon، ن.ر.أ. (ح. 1214–1294)، ويعرف أيضاً باللقب Doctor Mirabilis (لاتينية: "المعلم البديع")، كان فيلسوفاً إنچليزي وراهب فرانسيسكان الذي شدد على أهمية التجريبية (أو الإمپريقية). ويـُنسب له أحياناً أنه كان أحد أوائل الاوروبيين المنادين بالطريقة العلمية الحديثة[1] المستلهمة من أعمال العلماء المسلمين.[2][3]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حياته

ولد أشهر علماء العصور الوسطى في سمرست حوالي عام 1214،ونحن على يقين من أنه عاش حتى عام 1292، وأنه قال عن نفسه في عام 1267 إنه شيخ كبير(96). ودرس في أكسفورد على جروستستي وكسب من هذا العالم المحيط بشتى الفنون افتتاناً بالعلم. وكانت الروح الإنجليزية، روح النفعية والاعتماد على الاختبار، قد أخذت تتشكل. وسافر بيكن إلى باريس حوالي عام 1240، ولكنه لم يجد فيها الحافز القوي الذي بعثته فيه أكسفورد؛ وأدهشه كثيراً أن لم يجد إلاّ قلة ضئيلة من أساتذة جامعة باريس تعرف لغة من لغات العلم خلاف اللغة اللاتينية، وأنهم لا يولون العلم إلاّ قدراً ضئيلاً من وقتهم، وأنهم ينفقون الكثير منه في الجدل المنطقي والميتافيزيقي وهو الذي كان يبدو لبيكن عديم النفع في الحياة إلى حد الإجرام. ودرس الطب وشرع يكتب رسالة في تخفيف متاعب الشيخوخة. وسعى للحصول على ما يلزمه من المعلومات لهذه الرسالة بالسفر إلى إيطاليا؛ ودرس اللغة اليونانية في بلاد اليونان الكبرى ، وفيها عرف بعض المؤلفات الطبية الإسلامية، ثم عاد إلى أكسفورد في عام 1251، وانضم إلى هيئة التدريس في تلك الجامعة؛ وكتب في عام 1267 يقول إنه أنفق في العشرين السنة السابقة على ذلك العام ألفي جنيه في شراء "الكتب السرية والآلات" وفي تعليم الشبان اللغات والعلوم الرياضة(97). واستأجر اليهود ليعلموه هو وطلابه اللغة العبرية وليعاونوه على قراءة العهد القديم بلغته الأصلية.

وانضم إلى طائفة الرهبان الفرنسيس حوالي عام 1255، ولكن يبدو أنه لم يصبح في يوم من الأيام قساً.


أعماله

 
دراسات في علم الضوء لبيكون

نظرته للماضي

وعافت نفس بيكن ميتافيزيقية المدرسيين، فألقى بنفسه بحماسة بالغة في تيار العلوم الرياضية، والتاريخ الطبيعي، والفلسفة. وليس من حقنا أن نفكر فيه على أنه مبتكر فذ، وصوت عالمي يدوي في بيداء الفلسفة المدرسية؛ لأن الواقع أنه كان في كل ميدان مديناً لمن سبقوه، وأن ما وهب من القدرة على الابتداع كان هو الذروة المحتومة لتطور طويل المدى. ولقد وضع ألكسندر نكهام، وبارثلميو الإنجليزي Bartholomew the Englishman، وروبرت جروستستي، وآدم مارش Adam Marsh في أكسفورد تقاليد علمية ثابتة، ورثها بيكن، وأعلنها إلى العالم؛ وكان يعترف بفضل أولئك السابقين عليه ويثني عليهم ثناءً لا حد له: وكان يعترف كذلك بما للعلوم والفلسفة الإسلامية من فضل عليه وعلى العالم المسيحي كله، وربما هو مدين به لليونان عن طريق العلماء المسلمين؛ وأشار إلى أن علماء اليونان والمسلمين "الكفرة" كانوا هم أيضاً ممن تلقوا الوحي والهداية من الله(98). وكان يجل إسحق إسرائيلي، وابن جبيرول وغيرهما من المفكرين العبرانيين، ووجد في نفسه من الشجاعة ما يمكنه من أن يقول كلمة طيبة عن اليهود الذين كانوا يقيمون في فلسطين حينما صلب المسيح(99). ولم يكن يأخذ العلم بنهم عن العلماء وحدهم، بل كان يأخذه أيضاً عن أي إنسان تستطيع معارفه في الصناعات اليدوية أو الأعمال الزراعية أن تزيد ما لديه من معلومات. وكتب في هذا المعنى بتواضع لا عهد لنا به:

لا ريب في أن إنساناً ما لن يستطيع، قبل أن يرى الله وجهاً لوجه، أن يعرف شيئاً مؤكداً تأكيداً نهائياً...لأنه لا يوجد إنسان ملم بجميع أحوال الطبيعة إلماماً يمكنه من أن يعرف كل شيء... عن طبيعة ذبابة واحدة وخواصها. وإذ كانت الأشياء التي يجهلها الإنسان لا حصر لها، وكانت أعظم وأجمل إذا قيست إلى ما يعرفه منها، فإن من يمتدح نفسه بكثرة ما يعرفه، مخبول قد اختلت موازين عقله. وكلّما زاد الناس حكمة، كانوا أكثر تواضعاً واستعداداً لتلقي العلم من غيرهم؛ وهؤلاء لا يحتقرون من يأخذون عنهم لسذاجته، ولكنهم يظهرون التواضع للفلاحين، وللعجائز من النساء والأطفال، لأن السذج وغير المتعلمين يعرفون أشياء كثيرة تخفى على الحكماء.... ولقد عرفت أنا نفسي من ناس ذوي مكانة وضيعة حقائق أكثر أهمية من التي عرفتها من جلة العلماء الذائعي الصيت. فليحذر كل إنسان إذن أن يفاخر بما أوتي من حكمة(100).

واندفع في العمل بجهد وسرعة أثرنا في صحته حتى أعتل جسمه في عام 1256، فانسحب من الحياة الجامعية ولم نعد نعرف عنه شيئاً في العشر سنين التالية. وأكبر الظن أنه ألّف في هذه الفترة بعض كتبه الصغيرة أمثال: في العدسات المحرقة وفي قوى الاختراع والطبيعة العجيبة، وتقدير الحادثات الطبيعية. ووضع في هذا الوقت خطة ((الكتاب الرئيسي))، وهو موسوعة من عمل رجل واحد أراد أن تكون في أربعة مجلدات: (1) النحو والمنطق. (2) الرياضة، والهيئة، والموسيقى. (3) العلوم الطبيعية - البصريات، والجغرافية، والتنجيم، والكيمياء القديمة، والزراعة، والطب، والعلوم التجريبية. (4) ما وراء الطبيعة والأخلاق.

منحى جديد

وبعد أن كتب أجزاء متفرقة من هذه الموسوعة واتته فرصة خيل إليه أنها فرصة سعيدة، فحالت بينه مبين إنجاز برنامجه. ذلك أن گاي فولك Guy Foulques كبير أساقفة نربونة ارتقى عرش البابوية في شهر فبراير من عام 1265 وتسمى باسم كلمنت الرابع، وجاء معه إلى البابوية ببعض الروح الحرة التي نشأت في جنوبي فرنسا من اختلاط الشعوب والعقائد الدينية. وكتب إلى بيكن في شهر يونية بأمره بإرسال "نسخة مبيضة" من مؤلفاته "سراً وعاجلاً" و"دون مبالاة بتحريم أي رئيس ديني، أو لائحة الطائفة التي تنتمي إليها"(101). وشرع بيكن بكل ما في وسعه من جهد (كما يتبين ذلك من أسلوبه الحماسي) يعمل ليتم موسوعته؛ ولكنه خشي أن يتوفى كلمنت أو يفقد اهتمامه بالعمل قبل تماما، فأجله، وألف في اثني عشر شهراً - أو جمع من مخطوطاته - الرسالة الأولية المعروفة لنا بسام الكتاب الأكبر Opus Maius. وظن أن هذا المؤلف نفسه قد يكون أطول مما يريده البابا الكثير المشاغل فكتب عناصر منه سماها الكتاب الأصغر؛ وأرسل هذين المخطوطين في أوائل عام 1268 إلى كلمنت ومعها قال عن تضاعف الرؤية. وخشي أن تضيع هذه في طريقها إلى البابا فكتب خلاصة أخرى لآرائه هي الكتاب الرابع وأرسلها إلى كلمنت مع رسول خاص، مصحوبة بعدسة، وأشار على البابا أن يجري بها تجارب بنفسه. وتوفي كلمنت في شهر نوفمبر من عام 1268. ومبلغ علمنا أن كلمة واحدة لم ترسل إلى الفيلسوف من البابا نفسه أو ممن جاءوا بعده اعترافاً منه أو منهم بوصول هذه الكتب.

ذكراه

 
"Friar Bacon's Study", in Oxford. By the late 18th century this study, on Folly Bridge, had become a place of pilgrimage for scientists. The building was pulled down in 1779 to allow for road widening.

فالكتاب الأكبر إذن هو عندنا "أكبر مؤلفات" بيكن، وإن كان هو لم يرده إلاّ أن يكون فاتحة لمؤلفاته. وهو كتاب ضخم يضم ثمانمائة صفحة مقسمة إلى سبع رسائل: (1) في الجهل والخطأ. (2) وفي العلاقة بين الفلسفة وعلوم الدين. (3) وفي دراسة اللغات الأجنبية. (4) وفي فائدة العلوم الرياضية. (5) وفي فن المنظور والبصريات، (6) وفي العلوم التجريبية. (7) وفي الفلسفة الأخلاقية. وفي الكتاب قدره الخليق به من السخافات، وفيه كثير من الاستطراد، وأكثر مما يليق من المقتبسات الطويلة من مؤلفات غيره؛ ولكنه يمتاز بالقوة، والإخلاص، والاتجاه إلى القصد مباشرة، ويقبل عليه القراء في هذه الأيام أكثر من إقبالهم على أي مؤلف آخر من مؤلفات العصور الوسطى في العلوم أو الفلسفة. وإنّا ليسهل علينا أن نفهم الاضطراب الحماسي، والإشادة البابوية، والحرص الشديد على الجهر بالتمسك بالدين القويم، والنزول بالعلم والفلسفة إلى منزلة الخدم لعلوم الدين، نقول إنّا ليسهل علينا أن نفهم وجود هذا كله في كتاب يبلغ هذا المبلغ من اتساع المدى وتعدد الموضوعات، كتب ليكون خلاصة عاجلة، ويراد به الحصول على تأييد البابا للتربية العلمية والبحث العلمي. ذلك أن روجر بيكن كان يشعر بما يشعر به فرانسس بيكن وهو أن تقدم العلوم في حاجة إلى معونة رؤساء الدين وكبار رجال الدولة، وإلى أموالهم لتبتاع بها الكتب، والآلات والسجلات، ومعامل الاختبار، والتجارب، ولأداء أجور الموظفين.

وكأنما أراد أن يستبق سميه إلى تحطيم "الأصنام" بثلاثمائة عام، فبدأ بذكر أربعة أسباب هي التي توقع الإنسان في الخطأ وهي: "الاقتداء بالمراجع الراهنة غير الجديرة بأن يقتدى بها، والعادة التي استقرت من زمن بعيد، وإحساس الجماهير الجاهلة، وتغشية الجهل بستار من التظاهر بالحكمة"(102). ويحرص على أن يضيف إلى هذا أنه "لا يشير بحال من الأحوال إلى تلك السلطة القوية الموثوق بها التي... وهبت إلى الكنيسة". (5) وهو يأسف لتسرع أهل زمانه واعتقادهم أنه يكفي لأن تكون قضية ما في رأيهم قد ثبتت بالدليل إذا وجدت في أرسطو، ويجهر بأنه لو أوتي السلطة الكافية لأحرق جميع كتب هذه الفيلسوف، لأنها في رأيه منبع الأخطاء ومصدر الجهل(103)، ثم تراه بعد هذا لا تخلو صفحتان من كتابه دون عبارة مقتبسة من أرسطو.

ويكتب في أول الجزء الثاني يقول: "وبعد أن أقصيت أسباب الخطأ الأربعة وألقيت بها في الدرك الأسفل أحب أن أبين حكمة واحدة لا أكثر هي الحكمة الكاملة، وهي الحكمة التي يحتويها الكتب المقدس". وفي رأيه أنه إذا كان فلاسفة اليونان قد ألهموا نوعاً من الإلهام الثانوي، فسبب ذلك أنهم اطلعوا على كتب الأنبياء والبطارقة(104). ويبدو أن بيكن يؤمن بقصص الكتاب المقدس إيماناً ساذجاً، ويعجب لم لا يسمح الله للناس أ، يعيشوا ستمائة عام(105). ويؤمن كذلك بقرب نزول المسيح وبنهاية العالم. وهو يدافع عن العلم لأنه يكشف عن الخالق في خله، ولأنه يمكن المسيحيين من أن يهدوا الكفار الذين لا يتأثرون بالكتاب المقدس. وهكذا "يتأثر العقل البشري فيؤمن بحقيقة مولد المسيح من العذراء، لأن بعض الحيوانات تحمل وهي عذراء وتلد صغاراً،ومن أمثلة ذلك الصقورة والقردة، كما يقول أمبروز في كتابه الأيام الستة . هذا إلى أن الخيل في كثير من البلدان تحمل بفعل الرياح وحدها حين تشتهي الذكر كما يقول بلني(106)، وتلك كلها أمثلة يؤسف لها اعتمد فيها على أصحاب "السلطة" العلمية لا أكثر.

ويبذل بيكن في الجزء الثالث من كتابة غاية جهده ليعلّم البابا اللغة العبرية لأن دراسة اللغات في رأيه لازمة للدين، والفلسفة، والعلوم، وذلك لأن الترجمة أياً كانت لا تنقل معنى الكتب المقدسة أو أقوال الفلاسفة الكفرة نقلاً دقيقاً. ويتحدث بيكن في الكتاب الأصغر حديثاً علمياً مدهشاً عن التراجم المختلفة للكتاب المقدس ويثبت علمه الواسع بالنصوص العبرية واليونانية. ويقترح أن يعين البابا لجنة من العلماء المتبحرين في اللغات العبرية، واليونانية، واللاتينية لمراجعة الترجمة اللاتينية القديمة لهذا الكتاب، وأن تكون هذه الترجمة المراجعة - لأحكام بطرس لمبارد هي التي تدرس مع علوم الدين. ويحث على إنشاء كراسي أساتذة لتدريس اللغات العبرية واليونانية والعربية، والكلدانية؛ ويعارض في استخدام القوة لتحويل غير المسيحيين إلى الدين المسيحي، ويتساءل كيف تستطيع الكنيسة أن تتصل بالمسيحيين اليونان، والأرمن، والسوريين، والكلدان إلاّ عن طريق لغاتهم. وكان بيكن يعمل بجد في هذا الميدان ويعظ الناس، وكان أول العلماء في العالم المسيحي الغربي يتم وضع كتاب نحو يوناني ليستخدمه الذين يعرفون اللاتينية، وأول مسيحي يؤلف في نحو اللغة العبرية. وكان يقول إن في مقدوره أن يكتب باللغتين اليونانية والعبرية، ويبدو أنه درس أيضاً اللغة العبرية(107).

وحين يصل بيكن إلى موضوع الرياضيات تصبح كتبه مسرحاً للتحمس البليغ والنظريات الغامضة. ويقول عن الرياضيات: "واعتقادي أن العلوم الرياضية لازمة وأنها تلي في ذلك اللغات". ويكشف عن خضوعه لتأثير الدين حين يقول إن العلوم الرياضية "يجب أن تساعد على معرفة مكان الجنة والنار"، وتزيد من علمنا بجغرافية الكتاب المقدس والتواريخ الدينية، وتمكن الكنيسة من إصلاح التقويم(108)، ويقول: ولنلاحظ كيف تساعدنا "القضية الأولى في الهندسة" - وهي إنشاء مثلث متساوي الأضلاع على خط معلوم - على "أن ندرك أننا إذا سلمنا بشخص الله الأب، تبدى أمامنا الثالوث ذو الأشخاص المتساوين"(109), ثم ينتقل من هذا المركز السامي الذي يضع فيه الرياضة فيستبق استباقاً مدهشاً علم الطبيعة الرياضية الحديث بإصراره على أن العلم لا يبلغ حد الكمال في الخصائص العلمية إلاّ إذا صاغ نتائجه كلها في صورة رياضية، وإن كان لابد له أن يجعل التجارب هي الطريقة التي يستخدمها في الوصول إلى تلك الغاية. وعنده أن جميع الظواهر غير الروحية آثر من آثار المادة والقوة، وأن جميع القوى تعمل في تناسق وانتظام، ولهذا فإنها يمكن التعبير عنها بخطوط وأشكال؛ "ومن الواجب تحقيق الأشياء بالبراهين المبينة بخطوط وأشكال"؛ وليست جميع العلوم الطبيعية في آخر الأمر إلاّ علوماً رياضية(110).

ولكن إن كانت الرياضة هي النتيجة، فإن التجربة يجب أن تكون وسيلة العلم وطريقة اختبار نتائجه. ولقد أحدث بيكن ثورة علمية أداتها الرياضيات والتجارب، على حين أن الفلاسفة المدرسيين من أبلار إلى تومس أكوناس قد وضعوا كل ثقتهم في المنطق، وكادوا يضمون أرسطو إلى الثالوث المقدس، لأنهم في واقع الأمر جعلوه روحاً قدساً. فهو يقول إن أدق النتائج التي يؤدي إليها المنطق تتركنا غير واثقين من صدقها، حتى تؤيدها الخبرة، فالحرق وحده هو الذي يقنعنا بحق أن النار تحرق؛ "ومن يُرد أن يبتهج ابتهاجاً لا ريب فيه بالحقائق الكامنة وراء الظواهر الطبيعية فليهب نفسه للتجارب العلمية"(111). ويبدو أنه في بعض الأوقات يرى أن التجربة experimentum ليست وسيلة من وسائل البحث، بل هي الطريقة النهائية من طرق البرهان بوضع الأفكار - التي وصل إليها الإنسان بالخبرة والاستدلال - موضع الاختبار، وذلك بأن تصنع على أساسها أشياء ذات فائدة علمية(112). وهو يدرك ويعلن في وضوح أكثر من فرانسس بيكن أن التجربة في العلوم الطبيعية هي البرهان الذي لا برهان غيره. ولم يكن يدّعي أن هذه الفكرة جديدة أتى بها من عنده، بل يعتقد أن أرسطو، وجالينوس، وبطليموس، والعلماء المسلمين، وأدلارد، وبطرس الاسبانيولي، وربرت جروستستي، وألبرتس مجنس وغيرهم قد قاموا بالتجارب العلمية أو امتدحوها، وكل ما فعله روجر بيكن أن جعل الضمني صريحاً، وأن ثبت راية العلم في الأرض المنتزعة من بيداء الجهل.

ولم يفد روجر بيكن العلوم نفسها، كما لم يفدها فرانسس بيكن، إلاّ في القليل الذي لا يغني، إذا استثنينا من ذلك علم البصريات وإصلاح التقويم. ذلك أن هذين الرجلين لم يكونا عالمين بل كانا من فلاسفة العلم. وقد واصل روجر عمل جروستستي وأمثاله فاستنتج أ، التقويم اليوليوسي البالغ في طول السنة الشمسية فزادها يوماً في كل 125 سنة - وهو أدق تقدير وصل إليه العالم في ذلك الوقت - وأن التقويم كان في عام 1267 متقدماً عن الشمس بعشرة أيام. ولهذا اقترح إسقاط يوم من التقويم اليوليوسي في كل 125 سنة. ولا تكاد الصفحات المائة التي خصها بعلم الجغرافية في الجزء الرابع من الكتاب الكبير تقل براعة عن هذه الفكرة البارعة. فقد تحدث روجر بحماسة بالغة مع وليم ربرسكوي William of Rubresquis عن عودة زملائه الرهبان الفرنسيس من الشرق، وعرف الشيء الكثير عنه، وانطبع في ذهنه قول وليم إن ثمة ملايين لا حصر لها من الناس لم يسمعوا شيئاً قط عن الدين المسيحي. وأعلن بالاستناد إلى أقوال وردت في أرسطو وسنكا أن "البحر الذي يفصل طرف أسبانيا الغربي عن شرقي الهند يمكن اجتيازه في بضعة أيام قليلة جداً إذا كانت الريح مواتية"(113). وقد اقتبس كولمبس الفقرة التي نقلت عنه في مصور العالم (1480) الكردنال بيير دايي Pierre d'Ailly في خطاب كتبه إلى فرديناند وإزبلا في عام 1480 وقال إنها مما أوحي إليه بالرحلة التي قام بها في عام 1492(114).

وكأنما كان بيكن في العمل الذي قام به في علم الطبيعة يرى بعين الخيال المخترعات الحديثة، وإن كان يغشاها من حين إلى حين الآراء السائدة في عصره. وإلى القارئ ترجمة حرفية لفقرات مشهورة يقفز فيها من القرن الثالث عشر إلى القرن العشرين: يختص جزء من خمسة أجزاء من كل بصنع آلات عظيمة النفع إلى أقصى حد كالآلات التي تستخدم في الطيران، أو بالانتقال في مركبات لا تجرها دواب، ولكنها تجري مع هذا بسرعة لا تعادلها قط سرعة أخرى؛ أو في عبور البحار من غير مجاديف وبسرعة أكبر مما يظن إنها مستطاعة على أيدي الآدميين. ذلك أن هذه الأشياء قد حدثت في أيامنا هذه. وليس من حق أي إنسان أن يسخر أو يدهش منها. وهذا الجزء من العلم يرينا كيف تصنع آلات يستطاع بها رفع أثقال لا يصدقها العقل أو إنزالها بغير مشقة ولا جهد...(115). ألا إن من المستطاع صنع آلات طائرة... إذا جلس الرجل في وسط الواحدة منا أمكنه أن يدير دولاباً عجيب الابتكار تستطيع به أجنحة صناعية أن تضرب الهواء كما يضربه جناحا الطائر... ويمكن أيضاً صنع آلات يمشي بها الإنسان في البحر أو النهر وفي قاعهما نفسه، من غير خطر عليه(116).

وفي الكتاب الأكبر فقرة فسرت بأنها تشير إلى البارود:

لقد كشفت فنون جديدة لمقاومة أ'داء الدولة يستطاع بها إهلاك كل من يجرؤ على مقاومتها وإن لم يستخدم في ذلك سيف أو غيره من الأسلحة التي تحتاج إلى الاتصال البدني... ذلك أن دوياً مروعاً يصدر من قوة الملح المعروفة بنيترات البوتاس إذا اشتعل فيه جسم ضئيل الحجم، وهو قطعة صغيرة من الرق؟... وهذا الدوي المروع يفوق هزيم الرعد وينبعث منه بريق أشد من البرق الذي يصحب الرعد. وفي فقرة لعلها مدسوسة على الكتاب الثالث يضيف بيكن إلى القول السابق قوله إن بعض اللعب "المفرقعة" تستعمل في ذلك الوقت وتحتوي على خليط من نيترات البوتاس (بنسبة 41.2%) والفحم النباتي (بنسبة 29.4%) والكبريت (بنسبة 29.4%)(117)، ويشير إلى أن قوة هذا المسحوق المفرقعة يمكن مضاعفتها بوضعه في داخل مادة صلبة. وهو لا يدّعي بأنه اخترع البارود، وكل ما في الأمر أنه كان من أوائل من درسوه كيميائياً وتنبئوا بإمكانياته.

وخير ما كتبه بيكن على الإطلاق هو الجزء الخامس من الكتاب الأكبر "في علم المنظور". وفي الرسالة المكملة له في تضاعف الرؤية. وقد تفرعت هذه المقالة البارعة في البصريات من كتاب جروستستي عن قوس قزح، ومن تلخيص وتلو Witelo لكتاب ابن الهيثم، ومن دراسات علم البصريات التي تنقلت من ابن سينا، إلى الكندي، إلى بطليموس، وبلغت غايتها في إقليدس (300 ق.م) الذي برع في تطبيق الهندسة النظرية على حركات الضوء. وكان من البحوث التي قام بها بيكن: هل الضوء هو انبعاث جزيئات من الجسم المرئي؟ أو هل هو تحرك الوسط الكائن بين هذا الجسم والعين؟ ويعتقد بيكن أن كل جسم مادي يشع قوة في جميع الاتجاهات، وأن هذه الإشعاعات قد تنفذ في الأجسام الصلبة: ليس ثمة جسم يبلغ من الكثافة حداً يمنع الأشعة منعاً باتاً من أن تمر فيه. ذلك أن المادة التي تتركب منها الأجسام واحدة فيها جمياً، ولهذا فليس ثمة جسم لا تحدث الأفعال التي تصحب مرور شعاع ما تغيراً فيه... إن أشعة الحرارة والصوت تخترق جدران إناء من الذهب أو الشب، ويقول بؤيثيوس إن عين الوشق تخترق الجدران السميكة(118).

ولسنا واثقين من هذه القوة المعزوة إلى الوشق، ولكننا إذا استثنينا هذا القول حق علينا أن نعجب بهذا الخيال الجريء لذلك الفيلسوف،وهو "الخيال المتماسك في كل أجزائه". وحاول بيكن وهو يقوم بالتجارب على العدسات والمرايا أن يصوغ قوانين انكسار الضوء، وانعكاسه، وفعل الأشعة الضوئية في تكبير الأجسام وتصغيرها. ومثل لنفسه قدرة العدسة المجدبة على تركيز كثير من أشعة الشمس في نقطة واحدة، ثم تشتيت هذه الأشعة خلف هذه النقطة لتتكون منها صورة مكبرة فكتب يقول:

في مقدورنا أن نشكل الأجسام الشفافة (العدسات) ونرتبها بالنسبة إلى قوة بصرنا وللأجسام المرئية ترتيباً يجعل الأشعة تنكسر وتنحني في أي اتجاه نريده، فنرى من أية زاوية نشاء الجسم قريباً منا أو بعيداً عنا. وعلى هذا فإن في وسعنا أن نقرأ أصغر الحروف من بعد لا يصدقه الإنسان، وأن نعد حبات التراب أو الرمل... وعلى هذا فإن جيشاً صغيراً يمكن أن يبدو للناظر كبيراً... وقريباً منه كل القرب... وفي وسعنا أيضاً أن نجعل الشمس، والقمر، والنجوم تبدو كأنها قد نزلت إلينا،... وما إلى هذا من الظواهر الكثيرة المماثلة مما لا يتقبله عقل الشخص الذي يجهل الحقائق...(119) ويمكن إلى هذا تصوير السماء بكل ما لها من طول وعرض بصورة مجسمة تتحرك حركتها اليومية،وقيمة هذا عند الرجل العاقل تعادل مملكة بأسرها... ثمة عجائب أخرى غير هذه يخطئها الحصر ويمكن عرضها على العين(120).

تلك فقرات ذات روعة وجلال، ويكاد كل عنصر من عناصر النظرية التي نبسطها يوجد قبل بيكن وخاصة في كتب ابن الهيثم؛ ولكنه هو الذي جمع مادتها كلها في صورة عملية ثورية استطاعت وقت أن حل أوانها أن تبدل العالم. وهذه الفقرات هي التي أرشدت ليونارد دجس Leonard Diggis (المتوفى حوالي 1571) إلى وضع النظرية التي اخترع المرقب على أساسها(121).

ولكن ما الذي يحدث إذا زاد تقدم العلوم الطبيعية من قدرة الإنسان دون أن يسمو بأغراضه؟ لعل أكثر نظرات بيكن نفاذاً إلى الصميم هي سبقه إلى تصور مشكلة لم تتضح للعالم إلاّ في أيامنا هذه، فهاهو ذا في الكتاب الأكبر يعبر عن اعتقاده الراسخ أن العلم وحده لا ينجي الإنسان:

كل هذه العلوم السالفة الذكر نظرية. ولسنا ننكر أن لكل علم وجهة عملية؛... ولكن الفلسفة الأخلاقية وحدها هي التي نستطيع أن نقول عنها... إنها عملية في جوهرها... لأنها تبحث في سلوك الإنسان، في الفضيلة والرذيلة، في السعادة والشقاء... والعلوم الأخرى كلها لا قيمة لها إلاّ من حيث أنها تعين على العمل الصالح؛ وعلى هذا الاعتبار تصبح العلوم "العملية"، كالتجارب والكيمياء، وغيرها علوماً نظرية إذا قورنت بالعمليات التي تعنى بها العلوم الأخلاقية أو السياسية. وعلم الأخلاق هذا هو سيد كل رفع من فروع الفلسفة(122).

ويصور بيكن حكمه الأخير في صالح الدين لا في اصلح الفلسفة، فبالأخلاق وحدها يؤيدها الدين يستطيع الإنسان أن ينجي نفسه. ولكن أي دين يقصد؟ إنه يحدثنا عن ندوة الأديان - البوذية، والإسلام، والمسيحية - وهي الندوة التي عقدت، على ما يقول وليم الربرسكوي في قرقورم Karakorum بناءً على دعوة منجوخان وتحت رياسته(123). ويفاضل بيكن بين الأديان الثلاثة، ويصدر حكمه في صالح الدين المسيحي، ولكنه لا يصدر هذا الحكم بوصفه ديناً يتعبد به الناس في العالم وكفى. وهو يشعر بأن البابوية، مهما وجه إليها جروستستي من نقد لاذع، هي الرابطة الروحية لأوربا، وبدونها تمزقها فوضى العقائد والحروب، وكان يأمل أن يدعم الكنيسة بالعلوم، واللغات، والفلسفة ليمكنها من أن تحكم العالم حكماً روحياً خيراً من حكمها الحاضر(124). وختم كتابه كما بدأه بالجهر الصادر عن عقيدة قوية بولائه للكنيسة، ويمجد في نهايته القربان المقدس - كأنه يقول إن الإنسان إذا لم يعمل من حين إلى حين للاتصال بأسمى مثله العليا احترق في لهيب هذا العالم.

ولعل عجز البابوات عن الاستجابة بوسيلة ما إلى المنهج الذي وضعه بيكن وإلى دعواته المتكررة وقد أظلم روحه وأمرَّ قلمه. وكانت نتيجة هذا أنه نشر في عام 1271 موجز الدراسات الفلسفية غير كامل لم يضف إلاّ القليل للفلسفة، ولكنه أضاف الشيء الكثير إلى الأحقاد الدينية التي كانت تمزق المدارس تمزيقاً. وفيه قضى قضاءً عاجلاً على الجدل الآخذ وقتئذ في الضعف بين الواقعية والصورية فقال: "ليس الكلى إلاّ تماثيل عدة أفراد" و"في الفرد الواحد من الواقعية أكثر مما يف الكليات كلها مجتمعة"(125). وأخذ بنظرية أوغسطين ووصل إلى أن جهود الأشياء كلها لإصلاح شأنها قد أحدثت سلسلة طويلة من التطورات(126). كما أخذ بفكرة أرسطو القائلة بوجود العقل الفاعل أو العقل الكوني الذي "يسري إلى عقولنا وينيرها" وأقترب اقتراباً شديداً من مبدأ وحدة الوجود الذي ينادي به ابن رشد(127).

ولكنه لم يهز مشاعر معاصريه بآرائه الفلسفية بقدر ما هزها بهجومه على منافسيه وعلى مبادئ زمانه الأخلاقية. ذلك أنه في موجز الدراسات الفلسفية كاد يلهب بسوطه جميع نواحي الحياة في القرن الثالث عشر: اضطراب نظام المحاكم البابوية، وانحطاط طوائف رهبان الأديرة، وجهل رجال الدين، وثقل مواعظهم وخلوها من التشويق، وفساد أخلاق طلاب العلم، وما في الفلسفة من لغو وتلاعب بالألفاظ. وذكر في رسالة له عن أخطاء الطب "ستة وثلاثين عيباً أساسياً كبيراً" في النظريات والأعمال الطبية في عصره، وكتب في عام 1271 فقرة ربما تدعونا إلى التسامح في عيوب أيامنا هذه:

يُرتكب في عصرنا هذا من الذنوب أكثر مما يرتكب في أي عصر قبله. فالكرسي البابوي يمزقه خداع الظالمين وغدرهم... ولقد فشا الكبرياء بين الناس، وغلت مراجل الطمع في الصدور، وأنشب الحسد أنيابه في جميع النفوس؛ والبلاط البابوي كله يسربله الفجور بالعار، والنهم هو سيد الجميع... وإذا كان هذا هو شأن الرأس فماذا عسى أن تفعل سائر الأعضاء؟ فلننظر إلى كبار رجال الدين كيف يجرون وراء المال، ويهملون العناية بالأرواح، ويرفعون إلى المناصب العليا أبناء أخوتهم وأخواتهم وغيرهم من الأصدقاء وأولي الأرحام؛ والمحامين الماكرين الذين يفسدون كل شيء بنصائحهم... ولننظر إلى طوائف الرهبان من رجال الدين، لست أستثني أحداً مما أشاهده بينهم؛ انظروا في أية هاوية تردوا، وهووا من شامخ مجدهم فرادى وجماعات، وهاهم أولاء الرهبان (الإخوان) الجدد قد فسدوا فساداً مروعاً وحادوا عن تقواهم الأولى. إن رجال الدين على بكرة أبيهم لا هم لهم إلاّ التكبر، والفجور، والبخل، وحيثما يجتمع طلاب العلم...

لا تسمع منهم إلاّ اغتياب غير رجال الدين والتشهير بحروبهم ومنازعاتهم ويغرها من الرذائل. والأمراء، والأشراف، والفرسان يظلم بعضهم بعضاً، ويُشقون رعاياهم بحروبهم ومطالبهم التي لا حد لها... والشعب الذي يشقى بأمرائه، يحقد على هؤلاء الأمراء، ولا يدين لهم بولاء إلاّ إذا أرغم على ذلك قوة واقتداراً؛ وقد أفسده المثل السيئ الذي ضربه له سادته وكبراؤه، فترى أفراده يظلم بعضهم بعضاً ويخدعه ويغشه، ونحن نشهد هذا كله بأعيننا في كل مكان، وهم منهمكون في فسقهم ونهمهم، وقد بلغوا من الانحطاط حداً يعجز اللسان عن النطق به. أما التجار والصناع فحدث عنهم ولا حرج، لأن الخداع والغش هما ديدنهم في جميع أقوالهم وأفعالهم... لقد كان الفلاسفة الأقدمون، وإن أعوزتهم الكياسة المنعشة التي تجعل الناس خليقين بالخلود، يعيشون خيراً منا إلى ابعد حد مستطاع، سواء في أدبهم أو في احتقارهم هذا العالم وكل ما فيه من بهجة وغنى، وثروة، وألقاب التكريم، كما يتبين الناس جميعاً من مؤلفات أرسطو، وسنكا، وتلي Tully، وابن سينا، والفارابي، وأفلاطون، وسقراط وغيرهم؛ وبهذا وصلوا إلى أسرار الحكمة،وكشفوا عن جميع المعارف؛ أما نحن المسيحيين فلم نكشف شيئاً شبيهاً بما كشفه أولئك الفلاسفة، بل إننا لنعجز عن إدراك حكمتهم. ومنشأ جهلنا هذا هو أن أخلاقنا شر من أخلاقهم... وليس ثمة بين العقلاء من يخالجه أدنى شك في أن الواجب يقضي بتطهير الكنيسة(128).

ولم تنطبع في عقله صورة طيبة من الفلاسفة المعاصرين له، وشاهد ذلك ما كتبه عنهم إلى كلمنت الرابع يقول إن أحداً منهم لا يستطيع في عشر سنين أن يؤلف كتاباً مثل الكتاب الأكبر، فقد كانت مؤلفاتهم في نظر بيكن مجلدات ضخمة من "الكذب الذي لا يستطاع وصفه" والحشو الذي لا ضرورة له(129)؛ وكان هيكل تفكيرهم كله يقوم على الكتاب المقدس ومؤلفات أرسطو، وذاك قد أسيء فهمه وهذه قد أسيئت ترجمتها(130). وكان يسخر من نقاشا تومس الطويل في عادات الملائكة، وسلطانهم، وذكائهم، وحركاتهم(131).

وما من شك في أن هذا الإسراف في اتهام حياة أوربا وأخلاقها، وتفكيرها، في ذلك القرن المتلألئ الباهر قد جعل بيكن وحده في ناحية أوربا كلها في ناحية أخرى. ولكننا لا نجد دليلاً على أن طائفته أو الكنيسة قد اضطهدته أو تدخلت في حرية فكره أو قوله قبل عام 1277، أي قبل أن يكتب المرثاة السالفة الذكر بست سنين.ولكن حدث في تلك السنة أن أخذ يوحنا الفرشلي John of Vercelli رئيس الرهبان الدمنيك وجيروم الأسكولي Jerom of Ascoli رئيس الرهبان الفرنسيس يتفاوضان ليخففا من حدة بعض النزاع الذي شجر بين الطائفتين. واتفقا على أن يمتنع الإخوان في كل طائفة عن نقد الطائفة الأخرى، وأن "كل أخ يتبين أنه أساء إلى أخ من الطائفة الأخرى بالقول أو بالفعل يجب على مجلس مقاطعته أن يوقع عليه من العقاب ما يرضى أخاه الذي أسيء إليه(132). وبعد قليل من ذلك الوقت قام جيروم - على حد قول أخبار قادة الطائفة الأربعة والعشرين التي كتبت في القرن الرابع عشر - "عملاً بمشورة كثيرين من الإخوان فعارض واستقبح تعاليم الأخ روجر بيكن مدرس علم اللاهوت المقدس لأنها تحتوي على بدَع تثير الشك، ومن أجل هذا حكم على روجر المذكور بالسجن"(133). ولسنا نعلم عن هذه المسألة شيئاً غير هذا؛ فهل كانت هذه "البدع" هي الإلحاد، أو ارتياب من حكموا عليه في أنه يمارس فنون السحر، أو أن هذا الأمر يخفي في طياته قراراً بإسكات هذا الناقد البغيض إلى الدمنيك والفرنسيس على السواء؟ ولسنا نعرف كذلك ما فرض من التضييق على بيكن في سجنه أو طول الزمن الذي ظل فيه سجيناً مضيقاً عليه. وكل ما نعرفه أن بعض المساجين الذين حكم عليهم بالسجن في عام 1277 قد أطلق سراحهم في عام 1292، وربما كان بيكن ممن أطلق سراحهم في ذلك الوقت أو قبله، لأنه نشر في عام 1292 موجزاً في الدراسات اللاهوتية، ثم لا نجد بعد ذلك إلاّ كلمة في سجل قديم: دفن الدكتور روجر بيكن الجليل القدر في كنيسة جريسي فريزر Grecy Frairs (كنيسة الرهبان الفرنسيس) بأكسفورد في عام 1292"(134).

ولم يكن لبيكن في عصره إلاّ أثر قليل. فكل ما يذكره به ذلك العصر أنه رجل يأتي بكثير من الأعاجيب، وأنه ساحر ومشعوذ. وقد صور بهذه الصورة في مسرحية كتبها روجر جرين Roger Green بعد ثلاثمائة سنة من وفاته. وليس من السهل علينا أن نعرف مقدار ما يدين له سمه فرانسس بيكن (1561 - 1626)؛ وكل ما نستطيع أن نقوله في هذا أن فرانسيس وروجر على السواء كليهما رفضا منطق أرسطو، والطريقة المدرسية، وارتابا في الاعتماد على المراجع القديمة، وعلى العادات وغيرها من أصنام التفكير التقليدي، وامتدحا العلوم، وذكرا ما يتوقع اختراعه بالاعتماد عليها، ورسما منهاجاً لها، وأكدا فائدتها العملية؛ وطالبا بالمعونة المالية للبحوث العلمية. وأخذت شهرة بيكن تعظم وتنتشر ببطئ من القرن السادس عشر حتى أصبحت حياته من القصص الخرافية - فقيل إنه هو مخترع البارود، والبطل الحر التفكير، الذي ظل طول حياته مضطهداً من رجال الدين، والمبتكر العظيم للتفكير الحديث. والآن أخذت الآية تنقلب، فالمؤرخون يقولون أنه لم تكن لديه إلا فكرة مهوشة عن التجارب العلمية، وإنه لم يجر من هذه التجارب إلا القليل، وإنه كان في الدين أكثر حرصاً على تقاليده من البابا نفسه، وإن صفحات كتبه تنتشر فيها الخرافات والسحر، والخطأ في الاقتباس، والتهم الكاذبة، والقصص غير الصادقة المأخوذة من التاريخ.

وهذا كله صحيح؛ وصحيح أيضاً أنه وإن لم يجر من التجارب إلا القليل، قد ساعد على دعم مبدأ التجربة العلمية، ومهد السبيل الى قيامها، وأن جهره بالتمسك بالسنن الدينية قد يكون إجراءً سياسياً من رجل يسعى للحصول على تأييد البابوية للعلوم التي كانت مثاباً للريبة. أما أخطاؤه فقد كانت عدوى زمانه، أو لعلها قد نشأت من العجلة التي تسير بها روح تحرص على أن تجعل المعارف كلها ميداناً لها. وأما امتداحه نفسه فقد كان هو البلسم الشافي لتجاهل عبقريته؛ كذلك كان هجومه على غيره تنفيساً لغرض إنسان جبار خابت آماله، فأخذ يشهد إخفاق أحلامه النبيلة تغرق في بحرٍ من الجهل وهو عاجز عن إنقاذها. وأما هجومه على النقل في الفلسفة والعلم فقد أنار السبيل لتفكيرٍ أوسع مجالاً وأكثر حريةً مما كان في زمانه؛ كذلك كان تأكيده لأسس العلم وأهدافه الرياضية تقدما بخمسمائة عام عن العصر الذي يعيش فيه؛ وخير من هذا كله أن تحذيره الناس من إخضاع الأخلاق للعلم درس لرجال الغد يجب أن يأخذوا به. وملاك القول أن الكتاب الأكبر، رغم أخطائه وآثامه، خليق باسمه، وأنه أعظم من أي مؤلف في جميع آداب ذلك القرن العجيب.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مأثورات

  اقرأ اقتباسات ذات علاقة بروجر بيكون، في معرفة الاقتباس.

Bacon's approach is well-characterized by two quotations from his works:

If in other sciences we should arrive at certainty without doubt and truth without error, it behooves us to place the foundations of knowledge in mathematics."

— Opus Majus, bk. 1, ch. 4

Mathematics is the gate and key of the sciences. …Neglect of mathematics works injury to all knowledge, since he who is ignorant of it cannot know the other sciences or the things of this world."

— Opus Majus

طالع ايضاً

هامش

  1. ^ Randall Noon (1992). Introduction to Forensic Engineering. CRC Press. {{cite book}}: Unknown parameter |ibsn= ignored (help)
  2. ^ Glick, Thomas F.; Livesey, Steven John; Wallis, Faith: Medieval Science, Technology, and Medicine: An Encyclopedia, first edition, Routledge, September 29, 2005, ISBN-13: 978-0415969307
  3. ^ Moorstein, Mark: Frameworks: Conflict in Balance, page 237, iUniverse, Inc., June 9, 2004, 308 pp, ISBN-13: 978-0595318247

المصادر


  • قالب:A Short Biographical Dictionary of English Literature
  • Clegg, Brian (2003). The First Scientist: A Life of Roger Bacon. Constable & Robinson. ISBN 0-7867-1358-5.
  • Easton, Stewart C. Roger Bacon and his Search for a Universal Science, New York: Columbia Univ. Pr., 1952.
  • Hackett, Jeremiah, ed. Roger Bacon and the Sciences: Commemorative Essays, Studien und Texte zur Geistesgeschichte des Mittelalters, 57, Leiden: Brill, 1997. ISBN 90-04-10015-6
  • Lindberg, David C. "Science as Handmaiden: Roger Bacon and the Patristic Tradition," Isis, 78 (1987): 518–36; reprinted in Michael H. Shank, ed., The Scientific Enterprise in Antiquity and the Middle Ages, Chicago: Univ. of Chicago Pr., 2000. ISBN 0-226-74951-7

وصلات خارجية