استعراش مـِيْ‌جي

(تم التحويل من استعادة المـِيْ‌جي)

استعراش مـِيـْجي (明治維新): فترة انتقالية من تاريخ اليابان عرفت فيها البلاد تحولات واسعة بعد أكثر من قرنين من حكم أسرة توكوگاوا (راجع: "فترة إدو").

عرفت اليابان في الثلث الثاني من القرن الـ19 وخلال هذه الفترة تحولات جذرية، سياسية واجتماعية، قادت هذه إلى إنهاء شوگونية أسرة "توكوگاوا" و"فترة إدو" التي صاحبتها، ودخلت البلاد بعدها الفترة المعاصرة من تاريخها.

تم في الـ3 من يناير 1868 إعادة الإمبراطور أو "الـتن‌نو" إلى مكانه على رأس هرم السلطة في البلاد، كان الأباطرة ورغم أنهم حكموا البلاد بصورة مستمرة، مجردين من السلطة الفعلية، كانت هذه بين أيدي الشوگونات (راجع "فترة كاماكورا" و "ميناموتو نو يوريتومو"). قام المؤرخون بتعميم هذه التسمية (استعراش مييجي) فأصبحت تطلق على الفترة التي سبقت ومهدت هذا الأحداث ثم فترة الحروب الأهلية التي تلتها.

لم تكن الحركة التي حملت هذه التغيرات ثورة شعبية بالمعنى الذي نعرفه اليوم، اقتصر الصراع على أبناء طبقة واحدة (المحاربين). كرست هذه هيمنة المحافظين (قد يبدوا هذا اللفظ غريبا في يومنا) كان هؤلاء يدعون إلى إعادة النظام الإمبراطوري القديم. عرفت هذه الفترة الانتقالية بداية انفتاح اليابان على الخارج، وانطلاق عملية الإصلاحات.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تصاعد الحركات الاحتجاجية

مع حلول العشرية السادسة من القرن الـ19 (1860) دخلت البلاد مرحلة جديد من الصراعات. أصبحت العديد من الجماعات تندد بالنظام الحاكم. كان النظام الشوگوني قد قام سنة 1858 بتوقيع معاهدة تجارة جديدة مع القنصل الأميركي "تاوزند هاريس"- بعد المعاهدة الأولى في 1854 - ، أدى ذلك إلى تأليب الجماعات المحافظة والتي كانت تعارض عملية فتح البلاد على الخارج. في نفس السنة (1858 م) توفي الشوگون "إيئه-سادا" (徳川) ع (1824-1858 م) تبع ذلك خلافات حادة بين ورثته ثم تطور الأمر إلى بروز جبهتين بين رجالات الحكم، جبهة يغلب عليها الطابع المحافظ وترى إبقاء الأمور على حالها، وجبهة أخرى كانت تريد الإسراع في عملية إصلاح النظام الشوگوني.

أسفرت الجولة الأولى على انتصار المحافظين وتم تعيين "توكوگاوا إيئه-موتشي" (徳川 家茂) ع (1846-1866) شوگونا جديدا. قاد رئيس المجلس الوطني "إيئي ناؤوسوكه" (1815-1860) ـ زعيم التيار المحافظ داخل النظام والذي كان الحاكم الفعلي للبلاد ـ سياسة متشددة اتجاه المعارضين للنظام الشوگوني. كان من عواقب ذلك أن توحدت كل قوى المعارضة في بلاد تحت راية واحدة، وكان هدفها يلخصه الشعار التالي: "الطاعة لإمبراطور والطرد للأجانب". في حقيقة الأمر لم تكن قضية إعادة الإمبراطور إلى السلطة الشغل الشاغل لهذه الجماعات، كان أنصار هذه القضية يمثلون أقلية بين أفراد المعارضة، إلا أن الأغلبية كانت تتفق في كون ذلك ذريعة وسببا وجيها لتوحيد الصفوف ضد النظام الشوگوني.


تشكل التحالف ضد الـ"توكوگاوا"

 
المعاقل الرئيسية أثناء إستعراش مييجي

سنة 1860 م يتولى "أندو نوبوماسا" (1819-1871 م) رئاسة المجلس، خلفا لـ"إيئي ناؤوسوكه". كان همه الأول أن يقرب إليه البلاط الإمبراطوري حتى يكسر شوكة أعداء النظام. كانت خطته تقضي بزواج الشوغون "إيئه-موتشي" من إحدى الأميرات من الأسرة الإمبراطورية. بعد أن أقنعه بعض مستشاريه وافق الإمبراطور "كوميي" (1831-1867 م)، كان الأخير ولترضية أنصاره قد وضع شرطا أساسيا للقبول بتلك التسوية: طرد الأجانب من البلاد.

أخذ العديد من رجال الساموراي ("كيدو تاكايوشي" (木戸孝允)، "أوكوبو توشيميتشي" (大久保 利通)، "سائيگو تاكاموري" (西郷 隆盛) و"إيتو هيروبومي" (伊藤 博文)) في المعاقل الغربية ـ على غرار "تشوشو" (長州)، "ساتسوما" (薩摩) و"توسا" ـ ينظمون أنفسهم، كان يحدوهم الطموح لبلدهم، وتجمعهم الرغبة في تحديثه وتزويده بجيش قوي، قاد هؤلاء الرجال حركات التمرد الأولى. كانت أغلبيتهم من القوميين إلى درجة التعصب. أرادوا طرد الأجانب من البلاد، وإجبار النظام الشوگوني على تنفيذ وعوده (بموجب القرارات التي تم توقيعها سنة 1863 م)، وجدوا هؤلاء ضالتهم في الانضمام إلى الجبهة التي كانت تطالب باسترجاع الحق الإمبراطوري. أمام إلحاح قادة المعاقل الغربية حاول الـ"باكوفو" (التسمية التي كانت تطلق على الحكومة الشوگونية) ربح المزيد من الوقت من خلال المفاوضات. إلا أن هذه لم تثمر، وبدأ المتمردون في شن هجمات على المراكب الغربية التي تحاول الاقتراب من سواحل البلاد.

قام النظام بتجهيز جيش كانت مهمته إخضاع المتمردين في معقل "تشوشو" (長州)، إلا أن هؤلاء استطاع صد هذه القوات. حاول الـ"دائي-ميو" (كبير الزعماء) في معقل "ساتسوما" أن يعرض على النظام حلا وسطا: تشكيل حكومة وطنية يتم انتخاب أعضائها من قبل الشوگون، الإمبراطور والزعماء الـ"دائي-ميو". إلا أنه وبعد ضغوطات مارسها عليه زعماء المتمردين في معقله، عدل عن رأيه ووافق بمضض على التحالف التي تم عقده سنة 1866 م مع معقل "تشوشو". كان كل من "كيدو تاكايوشي" و"سائيگو تاكاموري" قد مهدا لهذه العملية منذ مدة.

ثم تسارعت الأحداث، فتوفى الشوگون "إيئه-موتشي" (徳川) في أغسطس من عام 1866 م وهو في ريعان شبابه، انتقل الأمر من بعده إلى "توكوگاوا يوشينوبو" (徳川慶喜) ع (1837-1868 م)، ثم توفي الإمبراطور في يناير من العام الموالي، فاعتلى ابنه "ماتسوهيتو" (睦仁) العرش وتلقب بـ"مييجي" (明治). أصبح الشوگون الجديد مجردا من السلطة كان الأمر في أيدي زعماء المقاطعات، وأمام زحف قوات معقلي الـ"تشوشو" والـ"ساتسوما" (薩摩) على العاصمة "إدو"، كان من السهل على زعيم معقل الـ"توسا" (والذي انظم مؤخرا إلى التحالف الإمبراطوري، أن يقنع الشوگون بتقديم استقالته للإمبراطور. وافق "يوينوبو" على الفكرة، فقام يوم 19 نوفمبر 1867 بالتنازل عن جميع سلطاته للإمبراطور.

قام أعضاء من المعاقل المتحالفة المنتصرة بتشكيل حكومة وطنية في "كيوتو"، أعلنت هذه (رسميا) يوم 3 من يناير 1868 استعراش الإمبراطور وتقلده حكم البلاد. كما تم إلغاء منصب الـ"شوگون" ومصادرة الأراضي التابعة له. حرص أتباع الحركة على إعطاء صفة الشعبية على عملية انتقال السلطة، فتم إصدار مراسيم يضمن فيها حرية التعبير للشعب، بينما تم إقرار كل الاتفاقيات التجارية التي وقعها النظام السابق مع الأجانب.

الحرب الأهلية "بوشين"

 
رجال "ساموراي" من معقل "ساتسوما" (薩摩) يراجعون بعض الخرائط قبل إحدى المعارك، الصورة تعود إلى الفترة التي عرفت باسم حرب "بوشين" (戊辰戦争) ح 1869 م.

انتهت المرحلة الأولى من عملية انتقال السلطة بدون إراقة دماء، إلا أن المواجهات الأولى كان لا مفر منها وبالأخص مع الموالين من أتباع الشوگون المعزول وحاشيته. كان هؤلاء يخشون أن يتم تجريدهم من أراضيهم ومن ممتلكاتهم، فقاموا بتسليح أنفسهم. اندلعت حرب أهلية بين الطرفين عرفت باسم "بوشين سنسو" (戊辰戦争)، لم تشهد أحداثها وقوع خسائر كبيرة. كانت أغلب الأطراف تنادي بإصلاح المؤسسات وتريد تحديث البلاد. اندلعت المعارك متعددة وفي أرجاء متفرقة من البلاد بين أنصار النظام القديم والحكومة الجديدة. تم إخضاع أتباع النظام السابق في وسط اليابان بعد هزيمة هذه القوات في "توبا" و"فوشيمي". تقدمت القوات الحكومية ـ والتي يتشكل أغلب تعدادها من المعاقل الغربية للبلاد ـ إلى العاصمة "إيدو"، فتسلمت مفاتيح القصر الشوگوني بدون أية مقاومة تذكر. خاضت هذه القوات في العام الموالي (1869) معارك متفرقة ضد قوات مشكلة من تحالف العديد من الـ"دائي-ميو" والذين انضووا تحت راية عشيرة الـ"آئيزو". آخر المتمردين والذين كان على رأسهم قائد الأسطول الشوگوني السابق "إيموتو تاكي-آكي" تم دحرهم في "هوكاداتى" في شهر يونيو من السنة نفسها (1869).

رغم أحداث الحروب التي عرفتها البلاد، تم إصدار مرسوم إمبراطوري بتاريخ 25 من فبراير 1869 م يعلن انتهاء عملية إعادة السلم في البلاد. في شهر أكتوبر تم الإعلان عن ميلاد "الحكومة المستنيرة" وهي التسمية التي أطلقت على الفترة الزمنية التي تلت. اختارت الحكومة الاستقرار في "إيدو" (江戸) والتي تم إعادة تسميتها إلى "طوكيو" أو "العاصمة الشرقية" (東京).

الثورة السياسية

 
الإمبراطور "مييجي" أو "مـِيـْجي تينو" (明治天皇)

تدهور الحكم العسكري - أمريكا تطرق الباب - عودة السلطة الإمبراطورية - تغريب اليابان - التجديد السياسي - الدستور الجديد - القانون - الجيش - الحرب مع روسيا - نتائجها السياسية

تدهور الحكم العسكري

يندر أن يأتي الموت إلى مدينة من خارجها، بل لا بد للانحلال الداخلي أن يفت في نسيج المجتمع أولاً قبل أن يتاح للمؤثرات أو الهجمات الخارجية أن تغير جوهر بنائها، أو أن تقضي عليها قضاء أخيراً؛ فقلما يكون للأسرة الحاكمة تلك الحيوية الدؤوب والمرونة السريعة التشكل، اللتان يتطلبهما استمرار السيادة، فمؤسس الأسرة المالكة يستنفذ نصف القوة الكامنة في أصلاب أسرته ثم يترك لغير الممتازين من خلفه عبثاً لا يستطيع حمله إلا العباقرة؛ فأسرة "توكوجاوا" بعد "أيياسو" حكمت البلاد حكماً لا بأس به، لكننا لو استثنينا منها "يوشيموني" لما وجدنا بين أفرادها شخصيات بارزة تستوقف النظر؛ فما انقضت بعد موت "أيياسو" ثمانية أجيال حتى راح أمراء الإقطاع يزعزعون قوائم تلك الأسر العسكرية بثوراتهم التي ما فتئت تنهض حيناً بعد حين؛ فكانوا يسوِّفون في دفع الضرائب أو يمتنعون عن دفعها؛ وعجزت خزانة "ييدو" - بالرغم من التدابير الاقتصادية العنيفة التي اتخذت - عن تمويل الدفاع القومي أو صيانة الأمن في البلاد(1). وقد مر على البلاد أكثر من قرنين حيث ساد السلام فتطرَّت خشونة "السيافين" وضعف احتمال الشعب لمكاره الحروب وتضحياتها؛ وحلَّت في الناس نزعات أبيقورية (ترمي إلى التمتع) محل البساطة الرواقية التي كانت سائدة في عهد هيديوشي؛ فلما أن دعيت البلاد فجأة لحماية سيادتها، وجدت نفسها منزوعة السلاح بمعناه المادي والخلقي جميعاً؛ وانحل العقل الياباني بفعل اعتزالها الاتصال بالأجانب، وأخذ الناس يسمعون بتطلع قلق عن ازدياد الثروة وتغير المدنية في أوربا وأمريكا؛ وراح هؤلاء الناس يدرسون ما جاء بكتابي "مابوشي" و "موتو - أوري" وشاع بينهم في الخفاء أن الحكام العسكريين مغتصبون للحكم، وقد فككوا باغتصابهم ذاك استمرار سيادة الإمبراطورية، ولم يستطع الشعب أن يوفق بين الأصل الإلهي للإمبراطور، وبين فقره المدقع الذي فرضته عليه أسرة "توكوجاوا"؛ وجعل الدعاة إلى قلب نظام الحكم العسكري القائم، يخرجون من مكانهم في "يوشيوارا" وغيرها ويغمرون البلاد بنشراتهم التي تحرض الناس على ذلك الانقلاب، وإرجاع الإمبراطور للحكم.

أمريكا تطرق الباب

ونزلت النازلة على رأس هذه الحكومة المرتبكة الفقيرة، حين شاع النبأ سنة 1853 بأن أسطولاً أمريكياً قد تجاهل الأوامر اليابانية التي تحرم دخول خليج أوراجا، ودخل ذلك الخليج، وأن قائده يلح في مقابلة صاحب السلطة العليا في اليابان، والحقيقة أن "الكومودور بري" كان يقود أربع سفن حربية فيها خمسمائة وستون رجلاً، وبدل أن يعرض هذه القوة المتواضعة عرضاً فيه معنى التهديد، أرسل مذكرة ودية إلى الحاكم العسكري "أييوشي" يؤكد له أن الحكومة الأمريكية لا تطلب أكثر من فتح بضعة موان يابانية في وجه التجارة الأمريكية، واتخاذ بعض الإجراءات لحماية البحارة الأمريكيين الذين قد تتحطم بهم سفائنهم على الشواطئ اليابانية، ولم يلبث "بري" أن اضطر إلى العودة إلى قاعدته في المياه الصينية بسبب "ثورة تاي - ينج"، لكنه عاد إلى اليابان من جديد سنة 1854 مسلحاً بقوة بحرية أكبر، ومزوداً بمختلف الهدايا المغرية - عطور وساعات ومدافئ وشراب الويسكي، يقدمها للإمبراطور والإمبراطورات وأمراء البيت المالك؛ غير أن الحاكم العسكري الجديد "أييسادا" تعمد ألا يرسل هذه الهدايا إلى أفراد الأسرة المالكة، ووافق على توقيعه لمعاهدة "كاناجاوا" التي اعترفت بكل ما طلبه الأمريكان؛ وهنا أثنى "بري" على حسن لقاء أهل الجزر اليابانية، وأعلن مدفوعاً بقصر نظره أنه "لو جاء اليابانيون إلى الولايات المتحدة، وجدوا المياه الصالحة للملاحة في البلاد مفتوحة أمامهم، وأنه ستفتح لهم أبواب مناجم الذهب نفسها في كاليفورنيا"(2)؛ وهكذا فتحت الموانئ اليابانية الكبرى للتجارة الخارجية بمقتضى هذه المعاهدة وما تلاها من معاهدات؛ وحددت الضرائب الجمركية وفصِّلت مقاديرها وأنواعها؛ ووافق اليابانيون على أن يحاكم المتهمون من الأوربيين والأمريكيين في اليابان أمام محاكمهم القنصلية؛ واشترطت شروط اتفق فيها على أن يوقف اضطهاد المسيحية في الإمبراطورية اليابانية، ووافقت الولايات المتحدة في الوقت نفسه أن تبيع لليابان كل ما تحتاج إليه من أسلحة وسفن حربية، وأن تعيرها الضباط والصناع لعل هذه الأمة المسالمة مسالمة صبيانية أن تتعلم على أيديهم فنون القتال(3).

عودة السلطة الإمبراطورية

وعانى الشعب الياباني أقسى عناء مما فرضته هذه المعاهدات عليه من فروض الذل، ولو أنه عاد فنظر إليها على أنها أدوات محايدة جاءته لتعمل على تطوره، وتقرير مصيره؛ وود بعض اليابانيين أن يقاتل الأجانب مهما تكلف في سبيل ذلك، وأن يطردهم ويعيد للبلاد نظامها الزراعي الإقطاعي الذي يكفيها مؤونة الاعتماد على غيرها؛ لكن بعضهم الآخر كان من رأيه أن تقليد الغرب أجدى من طرده من بلادهم؛ فالوسيلة الوحيدة التي تستطيع بها اليابان أن تتجنب الهزائم المتكررة والخضوع الاقتصادي الذي يشبه ما كانت أوربا تفرضه عندئذ على الصين؛ هي أن تتعلم اليابان بأسرع طريقة ممكنة أساليب الصناعة الغربية، فن الحرب الحديثة؛ وهنا نهض الزعماء الداعون إلى تغريب البلاد، واستعملوا اللباقة البالغة في استخدام سادة الإقطاع أعواناً لهم في قلب الحكم العسكري، وإعادة الإمبراطور، وبعدئذ استخدموا السلطة الإمبراطورية في قلب نظام الإقطاع وإدخال الصناعة الغربية في البلاد، وهكذا حدث سنة 1867 أن حمل أمراء الإقطاع "كيكي" - آخر الحكام العسكريين - على النزول عن سلطته، وقد قال "كيكي": "إن معظم أعمال الإدارة الحكومية معيبة، وإني لأعترف خجلاً بأن الأمور في وضعها الراهن يرجع نقصها إلى ما أتصف به أنا من نقص وعجز، وهاهو ذا اتصالنا بالأجانب يزداد يوماً بعد يوم؛ فما لم تتولَّ إدارة البلاد سلطة مركزية موحدة، انهار بناء الدولة انهياراً من أساسه"(4)؛ وعلى هذا القول أجاب الإمبراطور "ميجي" في اقتضاب قائلاً: "قد قبلنا ما عرضه توكوجاوا كيكي من إعادة السلطة الإدارية إلى البلاط الإمبراطوري، وفي اليوم الأول من يناير سنة 1868 بدأ العهد الجديد "عهد ميجي" بداية رسمية.

ورجعت الديانة الشنتوية القديمة، وقام أولو الأمر بدعاية قوية في الشعب حتى أقنعوه بأن الإمبراطور العائد إلى عرشه إلهيُّ النسب والحكمة، وأن ما يصدره من مراسيم يجب طاعته، كما تجب طاعة أوامر الآلهة.

تغريب اليابان

فلما أن توفرت هذه القوة الجديدة لأنصار التغريب تمت على أيديهم معجزة أو ما يوشك أن يكون معجزة في تحول البلاد تحولاً سريعاً؛ فقد شق "إتوا" و "إنويي" طريقهما إلى أوربا رغم كل ما صادفهما من صعاب وعقبات، ودَرَسَا أنظمتها وصناعاتها، ودهشا لطرقها الحديدية وسفنها البخارية، وأسلاكها البرقية وسفنها الحربية؛ ثم عادا إلى بلادهما تشتعل في صدريهما الحماسة الوطنية نحو تحويل اليابان إلى صورة أوربية، فدُعِي رجال من الإنجليز للإشراف على بناء السكك الحديدية وإقامة الأسلاك البرقية وتكوين الأسطول، كذلك دُعي رجال من الفرنسيين ليعيدوا صياغة القوانين ويدربوا الجيش؛ وكلف رجال من الألمان بتنظيم شؤون الطب والصحة العامة، واستخدم الأمريكان في وضع نظام للتعليم العام، ولكي يتم لهم الأمر من جميع نواحيه جاءوا برجال من إيطاليا ليعلموا اليابانيين النحت والتصوير(5)، وقد كان يحدث بعض الحركات الرجعية أحياناً، وكانت تصل هذه الحركات إلى حد إراقة الدماء، بل كانت الروح اليابانية كلها تثور آناً بعد آن على هذا التحول المصطنع الذي رج أوضاع الحياة كلها، لكن الآلة شقت طريقها آخر الأمر، ودخلت اليابان بلداً جديداً في نطاق الانقلاب الصناعي.

ورفعت هذه الثورة بالطبع (وهي الثورة الوحيدة الحقيقية في التاريخ الحديث)، طبقة جديدة من الرجال إلى منازل الثروة والقوة الاقتصادية - منهم الصناع والتجار والممولون - وقد كان هؤلاء في اليابان القديمة يوضعون في أسفل درجات السلّم الاجتماعي؛ وجعلت هذه الطبقة (البرجوازية) الصاعدة تستخدم في هدوء ما أتيح لها من مال وقوة نفوذ في تحطيم النظام الإقطاعي أولاً، ثم عقبت على ذلك بالحد من سلطة العرش العائدة بحيث جعلت منها سلطة وهمية؛ ففي عام 1871 حملت الحكومة أشراف الإقطاع على النزول عن امتيازاتهم القديمة، وعوضتهم عن أراضيهم بسندات أصدرتها الحكومة .

ولما كانت الطبقة الأرستقراطية قد ارتبطت هكذا بروابط المصلحة المادية مع المجتمع الجديد، فقد بذلت خدماتها للحكومة عن ولاء ورضى، ومكنتها من تحويل البلاد من عصرها الوسيط إلى عصرها الحديث دون أن تسفك الدماء في هذا السبيل، وكان "إيتو هيرو بومي" قد عاد لتوه من زيارته الثانية لأوربا؛ فجرى في بلاده على غرار ما رآه في ألمانيا، إذ أنشأ بها طبقة عالية جديدة مؤلفة من خمس درجات:

أمير؛ فماركيز، فكونت، ففيكونت، فبارون.

لكن هؤلاء جميعاً لم يكونوا هم الأعداء الإقطاعيين للنظام الصناعي الجديد بل كانوا لهذا النظام أعوانه المأجورين.

جاهد "إيتو" في تواضعه جهاداً لم يعرف الكلل، ليحقق لبلاده ضرباً من الحكومة لا تعيبه العيوب التي بدت في عينيه عيوباً ناشئة من الإفراط في الديمقراطية، على ألا يحد ذلك من تجنيد أصحاب النبوغ وتشجيعهم مهما تكن طبقتهم الاجتماعية لكي يحققوا للبلاد رقياً اقتصادياً سريعاً؛ وتمكنت اليابان في ظل زعامته أن تعلن أول دستور لها سنة 1889؛ فكان الإمبراطور في قمة البناء التشريعي، إذ كان من الوجهة الدستورية رأس الحكومة الأعلى، ومالكاً للأرض كلها، وقائداً للجيش والأسطول، المسئولين أمامه وحده، وهو الذي يكسب الإمبراطورية وحدتها واستمرارها وقوتها وسمعتها المستمدة من سمعة مليكها، وقد شاءت إرادته الكريمة أن يفوض لقوته التشريعية إنشاء مجلسين نيابيين يظلان قائمين ما شاء هو لهما أن يقوما - مجلس الأشراف، ومجلس النواب، غير أنه هو الذي يعين وزراء الدولة، الذين يسألون أمامه وحده لا أمام مجلس البرلمان، وكان تحت هؤلاء طبقة من الناخبين عددها يقرب من أربعمائة وستين ألفاً، حصروا في هذه الدائرة الضيقة باشتراط مؤهلات كثيرة في الناخب من حيث مقدار ما يملكه؛ ثم ارتفع عدد الناخبين بفعل حركات تحريرية متعاقبة حتى بلغ ثلاثة عشر مليوناً في سنة 1928، ولكن فساد الحكومة كان يساير التوسع في الديمقراطية خطوة خطوة(6).

وساير هذا التقدم السياسي نظام تشريعي جديد (1881) قائم إلى حد كبير على تشريع نابليون، وهو يحقق خطوة تقدمية جريئة بالنسبة لتشريع العصور الوسطى التي ساد فيها نظام الإقطاع؛ فمنحت للناس حقوقهم المدنية منحاً سخياً - إذ منحت لهم حرية الكلام وحرية الصحافة وحرية الاجتماع وحرية العبادة وعدم انتهاك الرسائل والبيوت، والحصانة من القبض والعقاب إلا بإجراء قانوني ، وحرم التعذيب والمحنة وفُكتْ عن جماعة الـ "إيتا" قيودهم الطبقية، وسُوِّى بين الطبقات كلها أمام القانون من الوجهة النظرية، وأصلحت السجون، ودفعت الأجور للمسجونين على عملهم، حتى إذا ما أطلق سراح المسجون أعطي مبلغاً من المال متواضعاً يبدأ به حياة جديدة في زراعة أو تجارة؛ وعلى رغم ما أتاحه هذا التشريع للناس من حرية فقد ظلت الجرائم قليلة الحدوث(7).

ولو اعتبرنا رضى الناس بالقانون عن طواعية علامة على مدنيتهم، عددنا اليابان في طليعة الأمم الحديثة حضارة (إذا استثنينا عدداً قليلاً من حوادث الاغتيال).

ولعل أهم ما يميز الدستور الجديد هو إعفاء الجيش والأسطول من كل رئاسة إلا رئاسة الإمبراطور، فإن اليابان لم تنس قط ما وقع لها من ذل في عام 1853، ولذا صممت على إنشاء قوة عسكرية تمكنها من السيطرة على تقرير مصيرها بنفسها، وتجعلها في النهاية سيدة الشرق كله؛ فلم يكفها أن تعمم التجنيد، بل جعلت من كل مدرسة في البلاد معسكراً للتدريب الحربي، وثدياً يُرضع النشء بلبان الحماسة الوطنية؛ وكان لهؤلاء الناس استعداد عجيب للنظام والطاعة، سرعان ما انتهى بقوتهم العسكرية إلى درجة أتاحت لليابان أن تخاطب "الأجانب الهمج" مخاطبة الند للند، كما أتاحت لها احتمال ابتلاعها للصين جزءاً جزءاً، وهو أمل طاف برأس أوربا، لكنه لم يتحقق لها؛ وحدث عام 1894 أن أرسلت الصين حملة عسكرية لإخماد ثورة في كوريا، وأن لبثت تعيد وتكرر القول بأن كوريا دولة تابعة لسلطة الصين، فلم يعجب اليابان هذا كله، وأعلنت الحرب على معلمتها القديمة، وأدهشت العالم بسرعة انتصارها إذ أرغمت الصين إرغاماً على الاعتراف باستقلال كوريا، وعلى التنازل لها عن "فرموزا" و "بورت آرثر" (على رأس شبه جزيرة لياوننج)، وعلى دفع تعويض مالي قدره مائتا مليون من التيلات، وقد أيدت ألمانيا وفرنسا روسيا في "نصحها" لليابان بالانسحاب من "بورت آرثر" مقابل زيادة في تعويضها المالي قدرها ثلاثون مليوناً من التيلات (والزيادة تدفعها الصين)، وخضعت اليابان لما طلب إليها، لكنها احتفظت بذكرى هذه المعاكسة على مضض، وراحت ترقب فرصة الانتقام.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الحرب الروسية اليابانية

ومنذ تلك الساعة أخذت اليابان تعد نفسها إعداداً جاداً لا يعرف اللهو، تعد نفسها للصراع مع روسيا صراعاً كان لا بد من وقوعه نتيجة اتساع الإمبراطوريتين في آمالهما الاستعمارية؛ ونجحت اليابان في إثارة مخاوف إنجلترا من احتمال التوغل الروسي في الهند فأبرمت مع سيدة البحار تحالفاً (1902-1922)، تعهدت به كل من الدولتين أن تساعد الأخرى إذا ما اشتبكت في قتال مع دولة ثالثة ودخلت دولة أخرى في القتال؛ وقلما وقّع الساسة الإنجليز على ما يقيد حريتهم كل هذا التقييد الذي فرضته عليهم تلك المعاهدة؛ فلما بدأت الحرب مع روسيا سنة 1904 أقرض الممولون الإنجليز والأمريكان أموالاً طائلة لليابان، لتعينها على كسب النصر من القيصر(8)، واستولى "نوجي" على "بورت آرثر" وزحف بجيشه نحو الشمال قبل فوات الفرصة لإخماد مذبحة مكدن - وهي أفظع ما شهد التاريخ من مواقع دامية، قبل أن يشهد حربنا العالمية (الأولى) التي لا يضارعها مضارع، والظاهر أن ألمانيا وفرنسا فكرتا في مساعدة روسيا بالسياسة أو بالسلاح، لكن الرئيس روزفلت صرح بأنه إذا حدث شيء، كهذا، فلن يتردد في الوقوف إلى جانب اليابان(9)، وفي ذلك الوقت أقلع أسطول روسي قوامه تسع وعشرون سفينة، وشق طريقه جريئاً حول رأس الرجاء الصالح، مرتحلاً بذلك رحلة لم يسبق لأسطول حديث أن ارتحل مثلها طولاً، وذلك لكي يقابل اليابان في مياهها وجهاً لوجه؛ غير أن الأميرال "توجو" استعان لأول مرة في تاريخ الأساطيل البحرية باللاسلكي، وظل على علم متصل بسير الأسطول الروسي، ثم وثب عليه وثبة قوية في مضيق تسوشيما في السابع والعشرين من شهر مايو سنة 1905، وأبرق "توجو" لقادته جميعاً رسالة تصور نفسية اليابان كلها. إذ قال: "إن نهوض الإمبراطورية أو سقوطها يتوقف على هذه المعركة"(10)، فقتل من اليابانيين فيها 116، وجرح منهم 538، وأما الروس فقتل منهم أربعة آلاف، وأسر سبعة آلاف، وأغرقت أو أسرت كل سفنهم إلا ثلاثاً.

نتائجها السياسية

كانت "موقعة بحر اليابان" نقطة تحول في مجرى التاريخ الحديث؛ فهي لم تقتصر على إيقاف التوسع الروسي في الأراضي الصينية، بل أوقفت كذلك سيطرة أوربا على الشرق، وبدأت ذلك البعث الذي اشتمل آسيا، والذي يبشر بأن يكون محور الحركات السياسية كلها في هذا القرن الحاضر؛ ذلك أن آسيا كلها قد دبت فيها الحماسة حين رأت الإمبراطورية الجزرية الصغيرة تهزم أكثر دول أوربا عمراناً بأهلها، فدبرت الصين خطة لثورتها، وبدأت تحلم بحريتها، أما اليابان، فلم يَطُف ببالها أن توسع من نطاق الحرية، بل فكرت في الزيادة من سلطانها؛ فانتزعت من روسيا اعترافاً بأن لليابان المكانة العليا في كوريا، ثم ما جاءت سنة 1910 حتى أعلنت اليابان نهائياً ضم كوريا إليها رسمياً، وهي تلك المملكة القديمة التي بلغت من المدنية يوماً شأناً عظيماً، فلما مات الإمبراطور "ميجي" عام 1912، بعد حياة طويلة طيبة أنفقها حاكماً وفناناً وشاعراً استطاع أن يحمل معه إلى الآلهة الذين انسلوا اليابان رسالة بأن الأمة التي خلقوها، والتي كانت في بداية حكمه لعبة في يد الغرب الفاجر، قد باتت اليوم رفيعة المكانة في الشرق، وقطعت شوطاً بعيداً في طريقها نحو أن تكون محوراً للتاريخ كله.

الانقلاب الصناعي

حركة التصنيع

لم تلبث اليابان نصف قرن إلا وقد غيرت كل وجه من أوجه حياتها؛ فتحرر الفلاح رغم فقره، وأصبح في مستطاعه أن يملك جزءاً متواضعاً من الأرض يدفعه ضريبة سنوية أو أجراً سنوياً للدولة، ولم يكن من حق أحد من سادة الإقطاع أن يقف في سبيله لو أراد أن يترك الزراعة ليلتمس وسيلة رزقه في المدن؛ ذلك لأن مدناً عظمى قامت عندئذ على طول الساحل؛ منها "طوكيو" (التي معناها العاصمة الشرقية) بقصورها الملكية والأرستقراطية وحدائقها الفسيحة وحماماتها المزدحمة وعدد سكانها الذي لم يفقها فيه إلا لندن ونيويورك، ومنها "أوساكا" التي كانت في سابق عهدها قرية للسّماكة وحصناً، فأصبحت اليوم جباً مظلماً من الأكواخ الحقيرة والمصانع وناطحات السحاب، وهي مركز الصناعات في اليابان، ومنها "يوكوهاما" و "كوبي" اللتين ترسلان من مرفأيهما الهائلين المعدين بكل ضروب الآلات الحديثة، تلك الصناعات إلى مئات المواني، محملة على ثاني أسطول تجاري في العالم .

واستعانت البلاد في وثبتها من نظام الإقطاع إلى النظام الرأسمالي باستخدامها لكل وسيلة ممكنة استخداماً لم يسبق له نظير؛ فاستدعت الخبراء الأجانب الذين وجدوا من مساعديهـم اليـابانيين طاعـة المـتحرق لمـعرفة إرشاداتهم؛ ولم تمض خمسة عشر عاماً، حتى تقدم المتعلمون الأذكياء فيما تعلموه تقدماً أتاح لليابان أن تدفع للأخصائيين الأجانب آخر أجورهم وأن ترسلهم إلى أوطانهم بكل إجلال؛ واقتفت اليابان أثر ألمانيا، فاستولت الحكومة على البريد والسكك الحديدية والتلغراف والتليفون؛ لكنها في الوقت نفسه عرضت قروضاً سخية لمن يريد أن ينهض لنفسه بصناعة ما، وجعلت تحمي تلك الصناعات الخاصة بالضرائب الجمركية العالية، من منافسة المصانع الأجنبية في سائر الأقطار؛ واستعانت البلاد بالتعويض المالي الذي أخذته من الصين بعد حرب سنة 1894 على تمويل حركة التصنيع في اليابان وتشجيع الصناعات، على نحو ما استعانت ألمانيا بالتعويض الفرنسي سنة 1871 على استحثاث حركة التصنيع في أرضها؛ وشبهت اليابان ألمانيا قبل ذلك بجيل واحد، في قدرتها على البدء بآلات حديثة مقرونة بطاعة من العمال كالتي سادت في عصور الإقطاع، على حين كانت الدول الأخرى المنافسة لهما، تعاني من آلات قديمة وعمال ثائرين؛ وكانت مصادر القوة في اليابان رخيصة والأجور قليلة، كما كان العمال يخضعون لرؤسائهم خضوع الولاء؛ لهذا تأخرت عندهم قوانين تنظيم المصانع، وفرضت على العمال فرضاً لا عنف فيه(12)؛ وفي سنة 1933 كنت ترى مغازل "أوساكا" الجديدة لا تحتاج إلى أكثر من فتاة واحدة لكل خمس وعشرين آلة، بينما كانت مغازل لانكشير القديمة تتطلب رجلاً لكل ست آلات(13).

المصانع

وتضاعف عدد المصانع ما بين 1980 و 1918؛ ثم تضاعف مرة أخرى بين 1918 و 1924، حتى إذا ما كانت 1931 زادت المصانع نصف عددها(14) بينما كانت الصناعة في الغرب عندئذ تخوض أغوار أزمة عميقة؛ وفي سنة 1933 كانت لليابان الصدارة الأولى في تصدير المنسوجات، بحيث أرسلت بليوني ياردة من الخمسة بلايين ونصف البليون من ياردات المنسوجات القطنية التي استهلكها العالم في ذلك العام(15)؛ وفي سنة 1921 تنازلت عن معيار الذهب، وسمحت لعملتها الـ "ين" أن تهبط إلى أربعين في المائة من قيمتها السابقة في التجارة الدولية، وبذلك استطاعت أن ترفع مبيعاتها في الخارج خمسين في المائة عما كانت بين عامي 1932 و 1933(16)؛ وازدهرت التجارة الداخلية كما ازدهرت التجارة الخارجية، وأتيح لأسرات تجارية كبرى، مثل أسرتي "متسوي" و "متسوبيشي" أن تكدسا ثروة طائلة جعلت رجال الجيش يتحالفون مع طبقات العمال في حركة ترمي إلى جعل الحكومة تتولى بنفسها، أو تفرض رقابتها على الصناعة والتجارة.

الأجور

وبينما كان التقدم التجاري يخلق طبقة وسطى جديدة من الأغنياء، كان العمال الذين ينتجون بأيديهم يتحملون عبء الأثمان المنخفضة التي جعلتها اليابان أداة تهزم بها منافساتها في الأسواق العالمية؛ فكان متوسط أجر العامل سنة 1931 - 1.17 من الريال كل يوم، ومتوسط أجر العاملة 48 سنتاً في اليوم؛ وكان واحد وخمسون في كل مائة من العمال نساء، كما كان اثنتا عشر في كل مائة ممن تقل سنهم عن ستة عشر عاماً.

الاضرابات

وكانت الإضرابات كثيرة الوقوع، والشيوعيـة تزداد اتساعـاً، حتى هبت على البلاد روح الحرب سنة 1931، فنفخت في الناس وطنية دعتهم إلى التعاون والتماسك؛ وحرم القانون "الآراء الخطيرة"، وفرضت قيود شديدة على نقابات العمال التي لم تبلغ قط مبلغ القوة في اليابان(20).

الفقر

واتسعت رقعة المساكن الفقيرة في أوساكا وكوبي وطوكيو، فقد كانت الأسرة ذات الخمسة أعضاء في طوكيو تسكن من تلك المنازل الفقيرة غرفة تبلغ في المتوسط من ثماني أقدام إلى عشرة أقدام مربعة - وهي مساحة لا تزيد إلا قليلاً عن المساحة التي يشغلها سرير لشخصين؛ وكان يسكن في أمثال هذه المساكن في مدينة كوبي عشرون ألفاً من المتسولين والمجرمين والشائهين والبغايا، كانوا يسكنون في قذارة بلغت حداً جعل الوباء يتفشى فيهم مرة كل عام، وزادت نسبة الوفيات في الأطفال أربعة أمثال ما كانت عليه في بقية اليابان(21)، ونهض شيوعيون مثل "كاتاياما"، واشتراكيون مسيحيون مثل "كاجاوا" يقاومون بالعنف أو باللين تلك الحالة السيئة، حتى استيقظت الحكومة آخر الأمر وقامت بحركة تطهيرية لتلك المساكن الفقيرة ، لم يشهد التاريخ أعظم منها.

وقد كتب "لافكاديو هيرن" منذ جيل، يعبر عن رأيه الناقم على النظام الحديث في اليابان، فقال:

"إن التاريخ لم يشهد قط فيما مضى أمثال هذه الألوان من البؤس التي تجد مجالها في ظل النظام الجديد؛ وتستطيع أن تكوّن لنفسك صورة تقريبية عن هذا البؤس، إذا عرفت أن عدد الفقراء في طوكيو الذين يعجزون عن دفع ضريبة المسكن، يربو على خمسين ألفاً، ومع ذلك فهذه الضريبة لا تزيد قيمتها على عشرين "سنًّا" وهو ما يقابل عشرين "سنتا" بالعملة الأمريكية؛ ولم يكن في أي جزء من أجزاء اليابان مثل هذا العوز قبل أن تتراكم الثروة في أيدي نفر قليل - إلا إذا استثنينا بالطبع الأعقاب المؤقتة التي تلحق عهود الحرب".

وجهة نظر يابانية

ولاشك أن "تراكم الثروة في أيدي نفر قليل" عامّ في العالم كله، والظاهر أنه عامل مصاحب للمدنية لا يتخلف؛ ويقول الممولون اليابانيون، إن أجور العمال هناك ليست أقل مما ينبغي إذا روعي عدم كفايتهم في العمل نسبياً، وإذا روعي إلى جانب ذلك رخص العيش في اليابان(23)، والرأي في اليابان هو أن الأجور المنخفضة شرط لازم لانخفاض الأسعار، وانخفاض الأسعار شرط لازم للسيطرة على الأسواق الخارجية، والأسواق الخارجية شرط لازم لصناعة تعتمد على حديد وفحم يستوردان من الخارج؛ والصناعة شرط لازم لسد حاجات شعب يتزايد عدده في جزء لا تصلح الزراعة إلا في اثني عشر في كل مائة جزء من أجزاء أرضها، وهي كذلك ضرورية لاكتساب الثروة وإعداد السلاح اللذين بغيرهما لا تستطيع اليابان أن تحمي نفسها ضد عدوان الغرب.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الانقلاب الثقافي

التغيير في الشباب - وفي آداب السلوك - الخلق الياباني - الأخلاق والزواج في مرحلة انتقال - الدين - العلم - الطب في اليابان - الفن والذوق - اللغة والتعليم - القصص الطبيعي - صورة جديدة من الشعر


إنا لنسأل هل تغير الشعب نفسه نتيجة للانقلاب الصناعي؟ إن العين لتلمح بعض ألوان التجديد؛ فالبدلة الأوربية المقبضة ذات الشعبتين، قد سيطرت على معظم سكان المدن ولَفَّتْ أبدانهم، غير أن النساء مازلن يرتدين ثياباً فضفاضة زاهية الألوان، يربطها عند الوسط شريط مزخرف يلتئم طرفاه بعقدة عريضة عند الظهر ، وكلما أصلحت الطرق حلت الأحذية محل القباقيب الخشبية؛ غير أن نسبة كبيرة من الجنسين ما تزال تمشي بأقدام حافية سليمة من التشويه؛ وإذا نظرت خلال المدن الكبرى ألفيت كل ضروب التشكيلات والتركيبات التي تجمع بين الثياب الوطنية والثياب الغربية، كأنما أرادوا بذلك أن يرمزوا إلى تحول اسُتعجلَت خطواته فابتُسر ابتساراً.

ولا تزال آداب المعاملة عندهم نموذجاً "للتشريفات" الدبلوماسية، ولو أن الرجال ما برحوا عند عادتهم القديمة في تقدمهم على النساء، إذا ما دخلوا غرفة أو خرجوا منها، أو مشوا في الطريق؛ واللغة عندهم نسيج وحدها في احتشامها، فقلَّ أن يداخلها فحش في اللفظ، وتراهم يكسون بغطاء ظاهري من التواضع احتراماً للنفس يبلغ حد التوحش، وآداب السلوك قد تبلغ من رقتها حداً يلطف من حدة العداوة مهما بلغت مـن استيلائها على النفوس، والخـلق الياباني - شأنه شأن الخلق الإنساني في كل بقاع الأرض - مؤلف من أشتات متناقضة، لأن الحياة تضعنا في ظروف مختلفة كل حين، وتتطلب منا أن نأخذها بالشدة حيناً والرقة حيناً، وباليسر حيناً وبالصرامة حيناً، وبالصبر حيناً والشجاعة حيناً، وبالتواضع حيناً والكبرياء حيناً، لهذا لا ينبغي لنا أن نأخذ على أهل اليابان جمعهم بين العاطفية والواقعية، وبين رقة الإحساس وصرامة الجد في الحياة، وبين طلاقة التعبير والكتمان، وبين سرعة التأثر وكبح الجماح؛ إنهم يغلب عليهم المرح والفكاهة وحب المتعة، ويميلون إلى الانتحار الذي يروع المتفرج بمنظره، وهم رقاق القلب - نحو الحيوان غالباً ونحو المرأة أحياناً - لكنهم قساة في بعض الأحيان على الحيوان والرجال ، وإن الياباني الصادق في يابانيته ليتصف بكل صفات الجندي المحارب - الاعتداد والشجاعة والاستعداد لملاقاة الموت استعداداً لا يضارعه فيه مضارع؛ ومع ذلك كله تراه في كثير من الأحيان يحمل بين جنبيه روح الفنان - فهو مرهف الحس سهل التأثر رقيق نشيط محب للاطلاع والبحث ذو ولاء وصبر، وله قابلية شديدة لاستيعاب التفصيلات، وهو ذو دهاء وحيلة ككل ذي جسد ضئيل، وذكاؤه وقّاد، تراه لا يبرع في الخلق الفكري، لكنه قادر على الفهم السريع والاقتباس والمهارة العملية؛ ولقد اجتمعت في الياباني روح الرجل الفرنسي وغروره، وشجاعة البريطاني وضيق أفقه، وحرارة الإيطالي واستعداده للفنون، ونشاط الأمريكي وميله للتجارة، وحساسية اليهودي ودهاؤه.

ثم جاء اتصالهم بالغرب وصراعهم معه، فغيروا حياة اليابان الأخلاقية وطرائق السلوك فيها، غير أن أمانتهم التقليدية لا تزال قائمة بينهم إلى حد كبير، وإن يكن التوسع في حقوق الانتخاب وحدَّة التنافس التي تلازم التجارة الحديثة، قد أدخلا اليابان نصيبها النسبي من الرشوة التي هي من خصائص الحكم الديمقراطي، والقسوة التي تتصف بها الحياة الصناعية، وخفة اليد في عالَم المال؛ نعم إن "خُلُق الفرسان" (ويسمونه بوشيدو) لا يزال باقياً هنا وهناك بين طبقات الجنود العليا، ولذا فهو بمثابة الضابط الأرستقراطي الخفيف للجموح الشيطاني الذي استولى على عالمي التجارة والسياسة؛ والاغتيال كثير الوقوع على الرغم مما تتصف به عامة الناس من طاعة القانون والصبر على أحكامه - والاغتيال هناك لا يقع خلاصاً من استبدادية رجعية، بل يقع عادة لتشجيع روح الوطنية التي لا تبالي الاعتداء؛ من ذلك أن "جمعية الأفعوان الأسود" التي يرأسها "توياما" الذي يبدو في مظهر المنبوذ، قد كرست نفسها أكثر من أربعين عاماً، لبث سياسة غزو كوريا ومنشوريا بين أصحاب المناصب الحكومية في اليابان ، وقد اتخذت الاغتيال أداة للوصول إلى هذا الغرض، ومنها اكتسب الاغتيال مهمة شعبية ظل يقوم بها في تحريك العالم السياسي في اليابان(26).

لقد شارك الشرق الأقصى بلاد الغرب في الاضطراب الخلقي الذي يصحب كل تغير عميق يتناول الأساس الاقتصادي للحياة؛ وازدادت الحرب التي ما فتئت قائمة بين الأجيال المتعاقبة، بين الشباب الطافح بحماسته، وبين الشيوخ المفرطين في حرصهم، ازدادت تلك الحرب حدة لنمو الصناعة التي تعمل على إبراز شخصية الفرد، ونتيجة لإضعاف الإيمان الديني؛ فالانتقال من الريف إلى المدينة، وإحلال الفرد محل الأسرة باعتباره الوحدة القضائية المسئولة للمجتمع الاقتصادي والسياسي، قد قوض أركان السلطة الأبوية، وأخضع عادات القرون الطويلة وأخلاقها للحكم المتسرع الذي يحكم به المراهق على أمثال هذه الأمور؛ وكنت ترى الشباب في المدن الكبرى يثورون على نظام الزواج تحت إشراف الأبوين، وترى العروسين لا يجريان على مألوف العادات من حيث السكنى في بيت والد العريس، بل هما أميل إلى إنشاء بيت مستقل أو "شقة" مستقلة؛ هذا إلى أن سرعة تصنيع النساء قد حتم انحلال الروابط التي كانت تربطهن بالدار واعتمادهن في العيش على الرجال؛ والطلاق في اليابان قد كثر حتى شابه الحال في أمريكا، بل هو هناك أخف عاقبة منه في أمريكا، لأن الرجل قد يستطيع الطلاق بمجرد توقيعه على دفتر للتسجيل، ودفعه رسوماً تبلغ ما يساوي عشر "سنتات"(27)، ولئن حرم القانون نظام الخليلات إلا أنه لا يزال قائماً فعلاً يتمتع به كل من تمكنه حالته المالية من تجاهل القانون(28).

والآلة هي عدو رجل الدين في اليابان كما هي في سائر أنحاء العالم، ولما استوردت اليابان من إنجلترا أوضاعها الصناعية الفنية، استوردت معها "سبنسر" و "ستيورت مِلْ"، وبهذا أسدل الستار فجأة على سيادة المذهب الكنفوشيوسي في الفلسفة اليابانية، ولقد قال تشمبرلين سنة 1905: "إن الجيل الموجود الآن في المدارس يتشكل على صورة فولتيرية واضحة المعالم"(29)، ومن نتيجة هذا الاتجاه نفسه أن ازدهر العلم بارتباطه الحديث بالآلة، واكتسب في اليابان قلوب أعظم الباحثين في عصرنا هذا، بحيث انصرفوا إليه مخلصين على نحو ما نعهده في اليابانيين من الولاء فيما يخلصون له ؛ فالطب في اليابان - على الرغم من اعتماده في معظم مراحله على الصين وكوريا - قد تقدم تقدماً سريعاً حين احتذى مثل الأوربيين واندفع بحافزهم، وخصوصاً الألمان؛ وإذا أردت أن تعلم مدى السرعة التي انتقلت بها اليابان من مرحلة التتلمذ إلى مرحلة الأستاذية التي أخذت تعلم فيها العالم أجمع، فانظر إلى ما عمله "تاكامين" في استكشافه للأدرنالين وفي دراسته للفيتامينات؛ وما أداه "كيتاساتو" في مرض التتنوس وفقر الدم، وفي تقدم التلقيح ضد الدفتريا؛ ثم ما عمله ألمعهم جميعاً وأشهرهم جميعاً، وهو "نجوشي" في مرض الزهري ومرض الحمى الصفراء.

ولد "هيديونجوشي" سنة 1876 في إحدى الجزر الصغرى، من أسرة بلغ بها الفقر حداً جعل أباه يترك أسرته حين علم أن طفلاً ثانياً في طريقه إلى الحياة؛ وأهمل الوليد هذا إهمالاً جعله يسقط في مدفأة فاحترقت يده اليسرى حتى شاهت، وأوذيت يده اليمنى إيذاء كاد يفقد نفعها، فكان أن اجتنبه التلاميذ في المدرسة لما في جسده من وصمات وتشويه، وراح الناشئ يفكر في الانتحار، لكن جراحاً قدم إلى القرية حينئذ، وعالج له يده اليمنى علاجاً ناجحاً، واعترف "نجوشي" للجراح بالجميل اعترافاً جعله يقرر لتوه أن يكرس نفسه للطب؛ ومن أقواله عن نفسه سأكون نابليون ينقذ البشرية لا نابليون يفتك بها، إنني أستطيع الآن أن أعيش معتمداً على نعاس أربع ساعات في الليل"(30)؛ وكان "نجوشي" مفلساً، فاشتغل في صيدلية حتى حمل صاحبها على رصـد مبلغ مـن المال يتعلم بـه الطب؛ وبعـد أن تخرج فـي الطب من الجامعة، ذهب إلى الولايات المتحدة وعرض خدماته على الهيئة الطبية في الجيش في واشنطن مقابل نفقاته؛ وهيأت له مؤسسة روكفلر للأبحاث الطبية معملاً، وشرع "نجوشي" يعمل وحده لا يشاركه أحد على الإطلاق في إجراء التجارب والقيام بالبحث العلمي، مما انتهى إلى أطيب الثمرات؛ فهو الذي أنتج أول عينة خالصة من جراثيم الزهري، وكشف عن أثر الزهري في الشلل العام وفي الشلل البطيء الذي يصيب حركة العضلات، وأخيراً استطاع في سنة 1918 أن يعزل طفيليّ الحمى الصفراء؛ فلما كسب الشهرة والثروة المؤقتة، عاد إلى اليابان، وكرَّم أمه العجوز، وجثا على ركبتيه أمام الصيدلي الذي أنفق على دراسته الطبيعية اعترافاً له بالجميل، ثم ذهب إلى أفريقيا ليدرس الحمى الصفراء التي كانت تفتك بساحل الذهب من أوله إلى آخره، فأصابته هذه الحمى ومات سنة 1928؛ ومما يزيدنا حسرة على موته أنه لم يكن قد بلغ من العمر أكثر من اثنين وخمسين عاماً.

كان التقدم العلمي في اليابان - كما كان كذلك في الغرب - مصحوباً بانحلال في الفنون التقليدية؛ فتقويض الطبقة الأرستقراطية القديمة قد قوض عشاً كان يترعرع فيه حسن الذوق، وراحت الأجيال بعدئذ تتخذ لنفسها ما شاء لها هواها من معايير الجمال، بحيث يستقل كل جيل في معياره الذوقي عما سلفه؛ وتدفقت الأموال من البلاد الخارجية سعياً وراء المنتجات الوطنية، فأدى ذلك إلى الإنتاج السريع الذي يعني بالكم وحده، وانحطت مستويات الرسوم اليابانية تبعاً لذلك، فلما عاد الشارون إلى طلب المصنوعات القديمة، انقلب الصناع جماعة من المزورين، وأصبحت صناعة الآثار القديمة في اليابان - كما هي الحال في الصين - أروج الصناعات في الفنون الحديثة؛ ولعل جانب الصناعة الخزفية المعروف باسم Coloisonne أن يكون الفرع الوحيد من فروع تلك الصناعة، الذي تقدم في اليابان منذ قدوم الغرب إلى البلاد؛ فالانتقال المضطرب من الصناعة اليدوية إلى الصناعة الآلية، وهجمة الأذواق والأساليب الأجنبية على أهل البلاد متسترة برداء من الظفر والثروة، قد أدى إلى زعزعة الحس الجمالي عند اليابانيين وإضعاف ذوقهم بحيث لم يعد على ما كان عليه من ثبات؛ وهاهي ذي اليابان قد اختارت السيف اتجاهاً، فلعلها قد كُتب لها أن تعيد تاريخ الرومان - بأن تقلد في الفن - وتسود في الإدارة والحرب.

لقد لبثت الحياة العقلية في الإمبراطورية الحديثة جيلاً اتجهت خلاله نحو ممالأة الأساليب الغربية، فتكاثرت الكلمات الأوربية في لغة القوم، ونظمت الصحف على الطريقة الغربية، وأنشئت مجموعة من المدارس العامة على غرار المدارس النموذجية الأمريكية؛ إذ صممت اليابان تصميم الأبطال على أن تجعل من نفسها أمة تكون أسبق أمم الأرض جميعاً في إزالة الأمية، وقد نجحت فيما أرادت، ففي سنة 1925 كان يختلف إلى المدارس من أبناء البلاد 4ر99 في المائة(31)، وفي سنة 1927 كان في مستطاع 93 في كل مائة من أهل البلاد جميعاً أن يقرءوا(32)؛ فقد أقبل الطلاب على الحركة العرفانية العلمانية الجديدة إقبالاً فيه حرارة الإيمان الديني، حتى لقد أفسد مئات منهم صحة أبدانهم بسبب حماستهم في كسب المعرفة(33)؛ واضطرت الحكومة اضطراراً أن تتخذ الوسائل الفعالة لتشجيع الرياضة البدنية والألعاب بكافة صنوفها، القومي منها والمستعار من البلاد الخارجية؛ وخرج التعليم من كنفه الديني واصطبغ بصبغة علمانية أكثر مما اصطبغ به التعليم في معظم الأقطار الأوربية؛ وأعينت خمس جامعات إمبراطورية، وقامت إحدى وأربعون جامعة أخرى - قد تقل في نزعتها الإمبراطورية عن تلك الخمس - وضمت بين جدرانها آلاف الطلاب المتحمسين؛ وفي سنة 1931 كانت الجامعة الإمبراطورية في طوكيو تشتمل على 8064 طالباً، وجامعة كيوتو تشتمل على 5552 طالباً(34).

وأما الأدب الياباني في الربع الأخير من القرن (التاسع عشر) فقد أفنى نفسه في سلسلة من ألوان المحاكاة، وتوالت على الطبقة المثقفة موجات الحرية الإنجليزية والواقعية الروسية والفردية النيتشية والبراجماتية الأمريكية، فاكتسحتها واحدة بعد واحدة، حتى عادت روح الوطنية فأكدت نفسها، وبدأ الكتاب اليابانيون يكشفون عن مادتهم القومية فيعبرون عنها بأساليبهم القومية؛ وقد ظهرت فتاة شابة تدعى "إيشي يو" فافتتحت حركة في كتابة القصة تنحو منحى المذهب الطبيعي قبل موتها سنة 1896 وهي في عامها الرابع والعشرين، وذلك بتقديمها صورة ناصعة عن تعاسة النساء وذلهن في اليابان(35)، وفي سنة 1906 دفع الشاعر "توسون" هذه الحركة إلى أوجها بقصة طويلة عنوانها "هاكاي" أي عدم الوفاء بالعهد، قصَّ فيها بنثر شعري قصة معلم وعد أباه ألا يفضح عن نفسه حقيقتها وهي أنه من طبقة "إيتا" أي الطبقة التي انحدرت من أسلاف عبيد، وبهذا أتيح له بما كان له من قدرة وما ظفر به من تعليم أن يحتل مكانة عالية، فأحب فتاة مهذبة من ذوات المكانة الاجتماعية؛ وبعدئذ فار فورة صدق اعترف فيها بأصله، وتنازل عن حبيبته ومكانته، وغادر اليابان لغير عودة، فكانت هذه القصة عاملاً قوياً في تحريك النفوس تحريكاً انتهى آخر الأمر بإسدال الستار على العوائق التي لبثت طوال التاريخ مفروضة على طبقة "إيتا".

وكانت صورتا الشعر الموجز المعروفتان باسم "تانكا" و "بوكا" آخر صور الثقافة اليابانية استسلاماً للمؤثرات الغربية، إذ لبثتا أربعين عاماً بعد عودة الإمبراطور إلى عرشه الفعلي، هما الصورتين المنشودتين لقرض الشعر الياباني، وفني الروح الشعري في آيات معجزات من البراعة والصناعة، حتى كان عام 1897، ظهر معلم شاب، هو "توسون" في "سنداي"، وباع لأحد الناشرين ديواناً من الشعر بخمسة عشر ريالاً، فجاء هذا الديوان بقصائده الطويلة ثورة تكاد تبلغ في عنفها مبلغ أية ثورة أخرى مما زعزع نسيج الدولة؛ وكان الشعب قد ملَّ الأقوال القصيرة الرشيقة، فأقبل على هذا الديوان (ذي القصائد الطويلة) إقبال الشاكر، وسبَّبَ بإقباله هذا ثراء للناشر؛ وسار بعض الشعراء الآخرين في إثر توسون، وانتهى الأمر بصورتي الشعر الموجز الـ "تانكا" والـ "بوكا" أن أسلمتا زمام السيطرة بعد أن ظلتا ممسكتين به ألف عام(36).

وعلى الرغم من ظهور هذه الصور الشعرية الجديدة، فقد ظلت "المباراة الإمبراطورية في قرض الشعر" قائمة كما كانت؛ فالإمبراطور يعلن في كل عام موضوعاً، ثم يسوق مثالاً بنشيد يمليه في ذلك الموضوع؛ وتقتفي الإمبراطورة أثره، وبعدئذ يرسل خمسة وعشرون ألف شاعر ياباني من كافة الأشكال والطبقات، يرسل هؤلاء قصائدهم إلى "مكتب الشعر" في القصر الإمبراطوري، وتشكل لها هيئة تحكيم من أعلى أعلام البلاد؛ حتى إذا ما انتهى التحكيم إلى القصائد العشر الأولى، قرأت على الإمبراطور والإمبراطورة، وطبعت في الصحف اليابانية في العدد الذي يصدر في اليوم الأول من العام(37)، فياله من تقليد بديع خليق أن يدير النفس لحظة عن دنيا التجارة والحروب، وهو يدل على أن الأدب الياباني مازال جزءاً حيوياً في حياة أمة هي أكثر الأمم حيوية في العالم المعاصر.

المصادر

ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.

وصلات خارجية