«آزياده» (1879) هي أول أعمال پيير لوتي، المنشورة على الأقل. وهو، في الحقيقة، ما كان أبداً ليفكر في نشرها أو حتى كتابتها مكتملة. ففي الزمن الذي دوّن مجموع الفقرات والنصوص والملاحظات التي حولها لاحقاً الى رواية، كان جوليان فيو (والذي سيعرف باسم بيير لوتي) لا يزال مجرد بحّار يجوب الآفاق في السفن الفرنسية، محققاً واحداً من حلمي طفولته وصباه: حلم أن يصبح بحاراً، وحلم أن يصبح كاتباً. تلك المقتطفات والشذرات كان البحار دوّنها عام 1877، وكان بلغ من العمر سبعة وعشرين عاماً، وكانت كما أخبر أصدقاءه يومها، وهو يقرأها عليهم، حصيلة مغامرة حقيقية وقصة غرامية عاشها في سالونيك، ثم خصوصاً في اسطنبول خلال الفترة السابقة. أصدقاؤه ما إن سمعوا ما يروي، حتى صرخوا به: ولماذا لا تحول هذا كله الى رواية... ففيها كل عناصر الرواية. وهكذا «وعى» الشاب انه، إن فعل، سيبدأ بتحقيق حلم الكتابة. وما ان انقضى عام ونصف العام على ذلك حتى كانت «آزياده» اكتملت في نص روائي، آثر صاحبه أن يصدره من دون أي توقيع. صحيح أن الرواية لم تحقق النجاح الذي كان متوقعاً، لكنها فرضت حضورها وكانت بالنسبة الى لوتي طريقه الى الكتابة، إذ منذ ذلك الحين لم يتوقف عن هذا النشاط، وصارت حياته كلها، وحتى رحيله بعد أربعة عقود من السنين، موزعة بين التجوال في الآفاق وكتابة الروايات. صحيح أن أياً من هذه الروايات، إذا استثنينا «آزياده» و «راموتتشو» (1897) و «زواج لوتي» (1880)، لا يمكن اعتبارها سفراً أدبياً خالداً، لكن هذا الوصف ينطبق على مجمل عمل لوتي إذا نظر إليه ككل متكامل متماسك، يعبق برائحة الأمكنة البعيدة، والنزعة الانسانية الكوزموبوليتية، والمغامرات الهادئة. انه عمل يمتلئ بالأماكن والأشخاص والأحداث، وتلوح منه، في نهاية الأمر رومنطيقية، تبعث الى الحياة تلك النزعة الغرائبية الرومنطيقية التي كانت أثارت المخيلات منذ اكتشاف الغرب الأول للشرق، لكنها كانت تنظر من بعيد... مع لوتي صارت النظرة مقتربة عن كثب. وصارت الرومنطيقية معيوشة، لا موضوعاً أدبياً وحسب. ومن هنا، حين اندلعت مثلاً، أوائل القرن، حملات هجومية على الإسلام انطلاقاً من العداء للدولة العثمانية، كان بيير لوتي، في مقال شهير نشره في «الفيگارو» من أول المتصدّين للحملات المتحدثين عن الإسلام كواقع حياتي يجدر التعايش معه، وليس كفكرة طوباوية تناصر أو تعادى في شكل قبلي.

آزياده
Loti-Pierre-Aziyade-Illustrations-De-Auguste-Leroux-Livre-ancien-601465901 L.jpg
غلاف رواية آزياده، برسوم توضيحية من أوگوست لى رو
المحررCalmann-Lévy
المؤلفپيير لوتي
البلدفرنسا
الصنفرواية
الصفحات200
نافورة الحريم، فردريك آرثر بريدجمان، 1875
الحياة اليومية في الشرق (رودولف إرنست)
قاعة الاحتفالات في قصر دولمه‌بهچه، اسطنبول

يا لسعادة پيير لوتي... فهو وهب موهبة مزدوجة: من ناحية يرى جيداً، ومن ناحية أخرى يعرف كيف يعبر، في شكل رائع عما يراه... وأعني بهذا انه لا يخترع شيئاً. بالأحرى هو يعيد اختراع ما يعيشه، ذلك ان شيئاً مما يسطره على اللوح لا يبدو أبداً وليد خياله (...). كل ما يحتاج إليه هو أن يفتح عينيه جيداً ليلتقي بواقع غريب وشاعري. لذلك نتمنى عليه ألا يدنو من فن الرواية أبداً، لأن هذا الدنو يحتاج الى إعمال مخيلة، وجهد ابتكار شخصي، يقيناً انه غير قادر عليه». كان هذا هو الحكم الذي أطلقه عام 1885، ناقد فرنسي شهير عند ذاك، على الكاتب بيير لوتي، حين قرأ «رواية» كان أصدرها هذا الأخير في ذلك الحين بعنوان «صياد إيسلندا». وهذا الناقد نفسه كان قبل ذلك بأعوام قليلة هاجم «رواية» أخرى، أو بالأحرى الرواية الأولى التي أصدرها بيير لوتي وعنوانها «آزياده»، وصدرت من دون اسم المؤلف. وما الفارق في هذا طالما أن اسم «بيير لوتي» نفسه لم يكن اسماً حقيقياً؟ المهم ان اعتماد لوتي في «آزياده» ثم في «صياد إيسلندا» ولاحقاً في العشرات من النصوص الروائية والقصصية التي كتبها خلال العقود التالية، على مشاهداته وملاحظاته التي دوّنها خلال تجواله حول العالم، أتى ليبرر حقاً هذا الحكم الذي أطلقه الناقد. فالحال ان قارئ اليوم، إذ يقرأ من ناحية روايات لوتي وقصصه، ومن ناحية ثانية كتب رحلاته ومشاهداته، سيضنيه البحث عن فوارق كبيرة بينها. في الحالين يشعر القارئ حقاً ان بيير لوتي، «فتح عينيه جيداً ورأى، ثم أمسك قلمه ووصف ما رأى». كتب لوتي، في الواقع، نصوصاً كثيرة جداً، ومع هذا لن يكون من الصعب علينا أن نقول ان «روايته» الأولى «آزياده» تبقى أجمل أعماله وأقواها. ولكأنه، وهو صديق العرب والمدافع، في فرنسا وغيرها، عن المسلمين في زمنه، وجد نفسه منساقاً، هو الآخر، في تطبيق المقولة التي أوردها «صديق العرب والمسلمين» الآخر لورانس في كتابه «أعمدة الحكمة السبعة» وفحواها ان العرب أهل البدايات الجيدة. إذ هنا، يكاد يتساوى لوتي مع عدد كبير من مبدعينا العرب من حيث إن أول أعماله يكاد يكون أقواها.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ملخص

 
مسجد في اسطنبول القرن 19، بريشة فابيوس برست.

وهذا الحس طغى، على أية حال على كل أعمال لوتي. وما «آزياده» على رغم انها في نهاية الأمر حكاية غرام لا أكثر، سوى المثال الأسطع على هذا. فهذه الرواية - التي هي، كما أشرنا، أشبه بسيرة ذاتية معدلة -، يطالعنا بطلها وهو ضابط بحرية يصل إلى سالونيك. وحين يقوم بجولة فيها، يطالعه من خلف مشربية نافذة قصر حريم وجه جميل لمحظية رائعة الحسن خضراء العينين. على الفور يشعر البحار انه وقع في الغرام حقاً... وأنه لن يمكنه من الآن فصاعداً أن يهنأ له عيش إن لم يحيا، حقاً، غرامه مع فتاة الأحلام هذه. وبالفعل لم يمض زمن إلا ويتعارف البحار والمحظية ذات الأصول الشركسية والشخصية المدهشة، وتبدأ بينهما حكاية غرام ولهٍ. ويدبر العاشقان أمرهما بحيث يتمكنان من اللقاء كل مساء، في مركب يتطارحان فيه الهوى بعيداً من العيون المشرئبة التي ترصد كل حبيبين وتدمر حياتهما وعواطفهما... وهذه اللقاءات، كما يصفها قلم لوتي تدور وسط أجواء الغموض الشرقي المحبب الى الغربيين في ذلك الحين، ووسط عطور الشرق ومخاطره وأجوائه الساحرة - ما سيجعل النقاد يقولون ان مثل هذه الأجواء لا وجود لها إلا في مخيلة الكاتب، لأنهم، هم، إذ زاروا الشرق، أو حدثوا عنه مراراً، لم يلتقوها -. المهم بالنسبة الى الكاتب/ العاشق/ البحار، هو أن حكاية الغرام، في جزئها الأول، في سالونيك تنقطع، إذ نودي البحار الى اسطنبول ليقوم بمهمات عمله هناك. وفي اسطنبول، وفي شكل غير متوقع تماماً، يعود البحار الى الالتقاء بحبيبته ويستأنفان هواهما هنا، من جديد، وسط وصف لوتي المتجدد، لسحر الشرق ودسائسه، كما تتجلى في عاصمة الامبراطورية هذه المرة. ولكن، لأن الغرام الحقيقي لا يدوم، يستدعى البحار مرة أخرى، الى الاهتمام بواجباته المهنية فيسافر بعيداً من حبيبته التي، إذ يضنيها هذا الفراق الذي تحسه هذه المرة نهائياً، تموت حباً وألماً ويأساً... ولكن في الوقت الذي يكون حبيبها بدوره يلفظ أنفاسه الأخيرة عند أسوار «كارس» حين كان يخوض، كجندي باسل، أعتى المعارك، دفاعاً عن وطن حبيبته.

طبعاً، هذا الجزء الأخير المتعلق بموت البحار، لا علاقة له بسيرة لوتي، حتى وإن كانت بقية الحكاية تشي بأنها حكايته. لكنه المناخ الرومنطيقي الذي أملى عليها هذه النهاية... ولن نعدم ان نلتقي - على أية حال - في أعمال بيير لوتي اللاحقة ما يفيدنا بأن هذا الكاتب، الذي عرف دائماً كيف يستخدم سيرته الذاتية اطاراً أساسياً، قد ملأ «آزياده» بالتيمات التي ستطبع كل تلك الأعمال - على حد كاتبي سيرة حياته - ومنها «فكرة الموت» و «حتمية تفريق القدر للمحبين» و «نبل المعاناة»، إضافة الى ملامح الحياة البدائية والغرائبية وعناصر الطبيعة في تشكيلها خلفية لأحاسيس المرء.


المؤلف

 
پيير لوتي، في زي أكاديمي، 1892، وعمره 42 سنة.

بيير لوتي (جوليان فيو) ولد في الجنوب الغربي لفرنسا (سانت أونج) عام 1850، وسيدفن عند موته عام 1923 في جزيرة اوليرمون غير بعيد منها. وهو أمضى حياته كما أشرنا في السفر والكتابة، وترك عشرات الأعمال بين رواية وأدب رحلة... وعاش عشقاً للشرق لا يضاهيه فيه أي كاتب غربي آخر.

المصادر

  • ابراهيم العريس. "آزياده لپيير لوتي: غرام وآلام في اسطنبول المتخيّلة". دار الحياة.