محمد عودة (1920 - أغسطس 2006) كاتب وصحفي مصري، من مواليد قرية جهينة، مركز فاقوس، محافظة الشرقية. اشتغل بالصحافة، يطلقون عليه لقب (غاندي الثقافة العربية)، هو المثقف المصري الوحيد تقريباً الذي دخل سجون الملك فاروق وعبد الناصر والسادات على التوالي مدافعاً عن مبادئه ومعتقداته. عاصر محمد عودة أحداثاً تاريخية هامة خلال اكثر من 60 عاما وبدأ من الشارع حيث نام ذات يوم على (الرصيف).

محمد عودة
محمد عودة.jpg
الكاتب محمد عودة
وُلِدَ1920
توفيأغسطس 2006
الجنسيةمصري
المهنةكاتب وصحفي
كتاب الطريق الى صنعاء. لقراءة وتحميل الكتاب، اضغط على الصورة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المولد والنشأة

ولد محمد عودة في قرية جهينة محافظة الشرقية عام 1920 لوالد كان من كبار تجار القطن الذين أعلنوا إفلاسهم إبان احتدام الأزمة الاقتصادية العالمية في الثلاثينات.. لم يستسلم والدي لأزمته الطاحنة فرحلت أسرتي مع الأب إلى حي الحسين بالقاهرة القديمة حيث تربيت وسط أروقة وأزقة الحي فأحببته وعشقت ترابه في شهور قليلة.. الطريف أنه في أول صباح لي في حي الحسين خرجت مع والدي إلى محل (الحلوجي) لتناول طعام الإفطار من الفول المدمس فكانت المفاجأة أن صاحب المحل كان يعد صباح كل يوم طبقاً من الفول المدمس المنزوع القشر ويحمله بنفسه إلى سعد زغلول باشا الذي كنت أسمع أخبار صولاته وجولاته من اصدقاء والدي والأطفال الذين كنت ألعب معهم في القرية. التحقت بمدرسة خليل أغا الابتدائية التي أنشأها كبير الأغوات في عهد الخديوي إسماعيل وقد أحببت العلم وتفوقت في دراستي الابتدائية لدرجة أنه تم اختياري لإلقاء قصيدة ترحيب بزيارة الملك فؤاد للمدرسة، وسر جلالته سروراً بالغاً بالطفل محمد عودة وأهداني طاقم أدوات مكتب من الجلد الفاخر وعدت بالطقم فرحاً إلى بيتي لكن والدي لم يشاركني فرحتي وكاد يطردني من البيت إذ كان والدي وفدياً حتى النخاع!

وبعد أن أنهيت دراستي الابتدائية التحقت بالمدرسة السعيدية الثانوية حيث كنت من ضمن الطلاب الفقراء الذين حصلوا على مجانية التعليم لتفوقهم الدراسي. المدهش أنني كرهت كل الإقطاعيين الذين عرفتهم مصر في هذه الفترة والسبب أن أولاد الأثرياء والموسرين بالسعيدية كانت تأتيهم السندوتشات الجاهزة بينما نحن نهب مسرعين إلى اليمكخانة (قاعة الطعام) لنيل طعامنا كالقطعان.

أدمن (الزوغان) من المدرسة إلى حديقة الحيوان مباشرة حتى كان يوم استدعاني فيه الناظر وسألني عن سر غيابي وقلة تحصيلي الدراسي فطلبت منه نقلي إلى فصل آخر بعيداً عن فصل أولاد الذوات بدعوى أنني غير متوافق مع باقي زملائي في الفصل، والحقيقة أنني كرهت التفاوت الطبقي بدرجة عالية بعد أن تدهورت أوضاع والدي المالية إلى درجة الصفر.. والدي الذي كان يحبني قال لي: (يا محمد أنت أملنا الوحيد في هذه الدنيا.. لم يعد لنا بعد الله غيرك يا بني) .. تأثرت كثيراً بهذه الكلمات الطاهرة وبدأت أجاهد لأتفوق دراسياً حتى أحقق شيئاً لأسرتي المسكينة. صرت حاد المزاج وإذا بمدرس التاريخ يسألني عن سبب ذلك، وعندما قلت له السبب انفجر في حماسة وقال لي: (هؤلاء أولاد خونة ولصوص وسفاكي دماء، ولا بد لأمثالك أن يتعلموا ويتفوقوا حتى يخلصوا البلاد منهم) .. ثم ألقى على رأسي محاضرة عن تاريخ رئيس الوزراء الأسود والد أحد الطلاب الذوات في الفصل ووصفه بالخيانة والديكتاتورية ونصحني بأن أدخر من مصروفي قرشاً لأشتري جريدة (الوفد) وأقرأها بعناية. المصيبة أنني عندما تخرجت من السعيدية والتحقت بكلية الحقوق عرفت أن ما يدرس داخل هذه الكلية العليا التي نتعلم فيها معنى القانون والحرية السياسية لا علاقة له بأوضاع المجتمع المصري البائسة.. كان البحث عن الذات وعن خلاص مصر وتحررها أمراً يستبد بأبناء جيلي حتى كنت أتسلل إلى كلية الآداب للاستماع إلى محاضرات الدكتور طه حسين في الأدب والدكتور شفيق غبريال في التاريخ وسرعان ما وجدت نفسي في مكتبة الجامعة وكانت هناك مفاجأة كبرى في انتظاري.


مكتبة الجامعة

 
كتاب الوعي المفقود. لقراءة وتحميل الكتاب، اضغط على الصورة.

تعرفت في مكتبة الجامعة على أحد أمنائها.. وجدته منشغلاً بترجمة رواية من الأدب الروسي الحديث عن الإنجليزية وقال لي إنه يحذو حذو سيدة إنجليزية اسمها (كونستانسي جارنيت) وهبت حياتها لخدمة طلاب قسم الأدب الإنجليزي بكلية الآداب.. ومن هنا بدأت قراءة رواية (الجريمة العقاب) لدستويفسكي و (البعث) لتولستوي.. وذات يوم أعطاني أمين المكتبة قصتين لتشيكوف كي أجرب ترجمتهما مؤكداً لي أن ذلك أفضل للنفاذ إلى أعماق الكاتب. أنجزت الروايتين بنجاح حتى سيطر الأدب الروسي على معظم اهتماماتي فعرفت بالمصادفة أستاذاً إنجليزياً شاباً سألني ذات يوم: تقرأ عن تشرشل؟ قلت: نعم! فقال: نعم.. يا للأسف! واستغربت وصمت، وفجأة قال: (إنه أسوأ من هتلر) وزاد العجب ولم أرد! حتى أهداني كتاباً عنه في اليوم التالي عنوانه (المحافظون) صدر عن نادي الكتاب اليساري في بريطانيا.. أدركت من خلاله كم الظلم الواقع على مصر والعالم الغربي من جراء هذا الرجل الحديدي فكرهت الاستعمار البريطاني والحكومة العميلة والدنيا بظلمها!!

حلم الأب والأسرة

وهل حقق محمد عودة المحامي بعد تخرجه من الحقوق حلم الأب والأسرة؟ حاولت بعد التخرج الالتحاق بكلية الآداب قسم تاريخ لعلي أعيد كتابة تاريخ مصر كما كنت أتصور آنذاك لكن قالوا: (مصيرك إيه يا حره) مجرد مدرس (غلبان).. بينما نصحني بعض الأقارب بالالتحاق بمعهد جديد لا تستغرق الدراسة فيه عامين وبعدها أصبح معاون صحة وأجد عملاً وأستطيع المساهمة الفعلية في نفقات الأسرة لكن أمي رفضت رفضاً شديداً. كانت تتمنى أن أصبح سفيراً أسوة بأحد الأقارب أو على الأقل محامياً لأدافع عن حق والدي في استرداد قطعة أرض يتيمة هي آخر ما تبقى لنا بعد أن أنفقنا ثمن تسعة عشر فداناً بعد أن تعرضت الأسرة كلها للإفلاس! والحقيقة أن الأسرة تركت عوضي لله!.. فقد نذرت نفسي مدافعاً عن أوضاع الفلاحين البائسين الذين ظلمهم الإقطاع وأعوانه.. لم أجد من المال شيئاً أعوض به أسرتي عما تكبدته طوال أيام دراستي وكان هذا يؤرقني كثيراً لدرجة أنني انضممت إلى الوفد بين المعارضين للنظام القائم وعرفت أفكار الوفديين من خلال العمل بالمحاماة.. غرقت في أعمق القضايا التي يتعرض فيها المواطن (الغلبان) للظلم من قبل الإقطاعيين. تحولت بين عشية وضحاها إلى محامي أرياف من الطراز الأول.. عدت إلى مسقط رأسي بمركز فاقوس ففرحت أمي فرحاً شديداً.. عقدت العزم على أن أغير حال الريف بدون صراخ أو ندب.. لا أنظر إليه نظرة توفيق الحكيم، وكيل النيابة الفيلسوف، ولن أراه من شرفة الإقطاعي النبيل كما فعل محمود تيمور ولكن من (الميدان) كواحد من أهله.. ومن هنا بدأت حكاية المناضل الريفي محمد عودة المحامي.

مقاومة الإنجليز

وماذا عن (الإرهابي الخطير) محمد عودة وخليته الثلاثية؟ نعم كونت خلية (ثلاثية)، كانت مهمتها تصفية ثلاثة من أشرس الموظفين البريطانيين وأشدهم دموية وقررنا أن نرسل لكل منهم حيثيات وأسباب الحكم المباشر بتصفيتهم! أعطينا لكل واحد منهم أسبوعين لكي يستقيلوا أو يرحلوا عن بلد لا حق لهم في البقاء فيه وعن شعب ارتكبوا في حقه كل الفظائع.. تأكدنا من وصول الخطابات إليهم. كنا على علاقة مع السفرجي الذي يعمل لدى أحدهم بواسطة أحد الزملاء النوبيين.. وبالطبع هزئوا وسخروا.. وعرفنا بعدئذ أنه في الليلة المحددة للإنذار أقاموا حفلة صاخبة إمعاناً ولا شك في الزراية بنا لكن في اليوم التالي وفي نهاية الأسبوعين بالضبط تمت تصفية ثلاثتهم مما أحدث فزعاً مدوياً في الإدارة البريطانية التي استماتت في البحث عن هؤلاء الإرهابيين.. للتاريخ كان الدكتور مصطفى مشرفة واحداً من هذه الخلية!!

وهل اكتفيت بدور المحامي الريفي في مسقط رأسك بالشرقية؟ في الواقع جربت حظي في الكتابة بعدد من الصحف والمجلات التي يصدرها هواة مغامرون من عشاق الصحافة وذوي الميول الفكرية والسياسية والإبداعية في الأربعينيات.. من بين هذه المجلات مجلة صغيرة كانت ذائعة الصيت آنذاك وهي (مسامرات الجيب) وعندما تعرضت المجلة للإغلاق من قبل الحكومة آنذاك انتقلت إلى صحيفة (الجمهور المصري) الأسبوعية.. وسط مجموعة من المحررين المشاغبين الذين نجحوا في إثارة المعارك السياسية والاجتماعية والثقافية آنذاك بأسلوب غير مسبوق فيما تميزت الصحيفة عن غيرها بالأخبار الكاشفة لما وراء الستار من أسرار إضافة إلى التحقيقات و(الخبطات) الصحفية المثيرة.. رغم كل هذا فقد كنت في حالة يرثى لها نظراً لأن الأوضاع السياسية والاجتماعية قائمة على حالها و (زي الزفت) !

محمد عودة مع ثورة يوليو؟

بعد أن صنعت لنفسي مشواراً صحفياً معروفاً إلى حد ما عملت بعدها مذيعاً ومترجماً في الإذاعة الهندية التي كانت تبث برامجها بالعربية من قلب العاصمة بنيودلهي.. اضطررت إلى العودة إلى مصر بعد عامين أثر اندلاع ثورة يوليو.. عملت صحفياً في صحيفة (الشعب) تحت رئاسة عضو مجلس الثورة الصاغ (صلاح سالم) .. الأيام تلاحقت في سعادة غامرة بالحرية التي كنت أتوق لها وانتقلت إلى دار الهلال حتى تركتها وضقت ذرعاً بالنظام الحديدي الذي يفرضه أصحابها من آل زيدان.. ساقتني قدماي إلى مبنى روز اليوسف المجاورة بشارع عبد الحميد سعيد.. صعدت إلى الدور الأول أفتش عن أصدقائي المحررين فإذا بالفنان عبد الغني يخرج من غرفته وكان سكرتيراً للتحرير آنذاك.. صافحني وطلب لي كوباً من الشاي ثم وضع أمامي رزمة من ورق (الدشت) وقال لي: أكتب لنا شيئاً يا أستاذ عودة تود أن تراه على صفحات (روز اليوسف) .. تركته وغادرت إلى صالة التحرير.. ولم تمض أيام حتى بادرت فاطمة روز اليوسف إلى تعييني وأصبحت من كتاب المجلة اللامعين! وشاءت الأقدار أن أنتقل إلى مجلة (صباح الخير) في مولدها وكتبت على صفحاتها مقالات وتحقيقات مزجت بين السياسة والفن والأدب.

  • هل تذكر أول مقال كتبته وفي أي موضوع؟

كان مقالاً سياسياً وفي الحقيقة لا أتذكر موضوعه فقد كتبت عدداً كبيراً من المقالات السياسية الساخنة وكان ذلك إيذانا بانطلاقي في عالم السياسة.

هل عارضت الأسرة توجهاتك السياسية أم شجعتك؟

 
كتاب الحملة الفرنسية على مصر نحتفل او لا نحتفل. لقراءة وتحميل الكتاب، اضغط على الصورة.

الحقيقة، الأسرة لم تعارض إلا أن والدتي كانت تخشى علي ولا سيما حين كنت أذهب للأماكن التي أصيبت بالملاريا وقد أصبت مرتين بها وكنت ابنها الوحيد مع شقيقتي.

بأي الزعماء السياسيين تأثرت؟

تأثرت جداً بالنحاس باشا ومكرم عبيد، وقد أعجبت بهم كثيراً، وكنت في ذلك الوقت وفدياً إلا أنني اتجهت بعد ذلك لليسار وعندما جاء عبد الناصر بفكره ورؤيته لإنقاذ مصر تحولت إلى الناصرية.

أول كتاب

أول كتاب لي كان عن الصين وهو أول كتاب بالعربية يكتب عنها وكان ذلك عام 1952 وقد رفضته الرقابة في بادئ الأمر إلى أن وقع بين يدي عبد الناصر المخطوط الأصلي له ففوجئت بالرقابة يتصلون بي ليخبروني بموافقة عبد الناصر على نشره كاملاً. إلى أي مدى تجد فروقاً بين الكتابة السياسية في الماضي واليوم؟ الحقيقة أن التراث السياسي المصري من أرقى الفنون وأعرقها منذ أيام الخديوي إسماعيل إذ كانت هناك في ذلك الوقت حوالي 200 جريدة مصرية بكل اللغات وما زالت مصر مشهورة بالتحليل السياسي وكتابها السياسيين يحظون بسمعة طيبة إلى الآن. هل أتت كتابة المقال الصحفي والتحليل السياسي على حساب الكتاب الذي ألفت منه القليل؟ هذا صحيح فالصحافة سرقت مني الوقت وأعترف بذلك وإن كان لي كتب هامة وإن كانت قليلة منها كتاب عن الصين وآخر عن الهند وثلاثة كتب عن مصر وآخر كتبي عن الملك فاروق من إصدار الهيئة العامة للكتاب.

عيوب الثورة

كنتَ واحداً من أبناء ثورة يوليو ومن أشد المدافعين عنها ومع ذلك لم تسلم من سجن عبد الناصر.. فما تعليقك؟! نصف من أعدمتهم الثورة الفرنسية كانوا من زعماء الثورة وأذكر هنا كلمة للروائي الإنجليزي الشهير برنارد شو قال فيها: (إن أكثر دولة تقتل الشيوعيين هي الاتحاد السوفيتي.. ولا توجد ثورة في التاريخ ليس لها عيوب وخطايا).

دخوله السجن

بعد أحداث 1954 الشهيرة التي سميت آنذاك (بأزمة الديمقراطية) بدا الأمر على الساحة السياسية المصرية كأن هناك انقساماً حاداً وفوضى وأن هناك ما يسمى بانقلاب على الثورة. وكنا مجموعة من السياسيين كانت على قناعة بأن نقد الثورة أول أسباب نجاحها.. لقد كنا متحمسين ولم ندرك الأوضاع الحقيقية داخل مجلس قيادة الثورة.. وخلافنا مع عبد الناصر لم يكن تناقضاً بل كان خلافاً حول الأسلوب، أما الأهداف فكنا على اتفاق تام، وقد كان عبد الناصر يدعو كل الاتجاهات السياسية والوطنية لتساهم في بناء وطن جديد يراه عبد الناصر نموذجاً لدولة قومية ديمقراطية مستقلة، ونراه نحن كذلك لكن أسلوب التنفيذ كان موضع اختلاف بيننا. لم يدم السجن طويلاً وأفرج عنا ولم نتعرض لأي أذى يذكر.. كنا ندرك أن أيام السجن لن تدوم طويلاً وأن عبد الناصر سيفرج عنا لا محالة. أما بعد توقيع السادات لاتفاقية كامب ديفيد وفي إطار حملة سبتمبر الشهيرة التي قبض فيها السادات على مصر كلها اعتقلنا كصحفيين وكتاب وسياسيين ووطنيين بسبب معارضتنا للاتفاقية التي أفقدت مصر إرادتها وفصلتها عن عروبتها وذاتها.. وقد علمنا وقتها أن السادات كان يعد لنا معتقلاً في (وادي النطرون) لأيام طويلة لا يعلم مداها إلا الله لكنه قُتل وأفرج عنا الرئيس مبارك بعد توليه مقاليد السلطة. لهذا أقول: إن خلافنا مع عبد الناصر كان خلافاً في إطار الهدف الواحد، بينما خلافنا مع السادات كان تناقضاً رئيسياً.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تفاعل ثورة يوليو مع باقي القوى الوطنية

 
كتاب كيف سقطت الملكية في مصر. لقراءة وتحميل الكتاب، اضغط على الصورة.

في بداية الثورة التقى عبد الناصر بفؤاد سراج الدين وعقد معه أربعة اجتماعات عرض عليه فيها أن يحكم حزب الوفد بشرط أن يوافق على قانون الإصلاح الزراعي الذي أصدرته الثورة وعلى قرار عدم جواز الفصل التعسفي للعمال إلا أن الزعيم الوفدي رفض العرض مضيعاً فرصة تاريخية كان يمكن أن تغير من وجه الحياة في مصر. رفض فؤاد سراج الدين هذا تسبب في أضرار فادحة للبلاد إذ ألقى على الثورة بمسؤولية إنشاء تنظيم سياسي للحكم وهي عملية شبه مستحيلة أن تبني تنظيماً سياسياً وأنت في السلطة وقد ظلت هذه الثغرة هي نقطة الضعف الكبيرة والحقيقية في الثورة وظل عبد الناصر يبحث عن التنظيم الأمثل فتطور من هيئة التحرير الخاوية إلى الاتحاد القومي ذي التناقضات وانتهى إلى الاتحاد الاشتراكي وهي الصنيعة التي ثبت فشلها ليرحل دون أن يترك لنا تنظيماً شعبياً قوياً. الإخوان والشيوعيون.

علاقة الثورة بالإخوان المسلمين والشيوعيين

أول عمل قامت به الثورة بعد أيام من قيامها هو أن قام مجلس قيادة الثورة بكامل هيئته بزيارة قبر حسن البنا بل واعتقلت قاتل حسن البنا وحكمت عليه بالسجن المؤبد علماً بأن الإخوان كانوا ممن عرفوا بموعد الثورة قبل اندلاعها وكذلك الشيوعيون. وكان عبد الناصر قد فتح التنظيم لكل القوى الوطنية بكافة تياراتها وقامت الثورة بتعيين ثلاثة وزراء من الإخوان إضافة إلى الشيخ الباقوري إلا أن المرشد العام للإخوان أراد أن يفرض على الثورة (ولاية الفقيه) التي تطبقها إيران حالياً مما يعني قيام دولة دينية الأمر الذي رفضه عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة.. وهنا انقسم الإخوان إلى قسمين الأول مع الثورة وفيهم والد حسن البنا والثاني ناصب الثورة العداء إلى أن جاءت ذروة الصدام في حادث المنشية حيث حاول الإخوان اغتيال عبد الناصر. أما الشيوعيون فانقسموا إلى قسمين: أحدهما مع الثورة، والآخر رأى أن عبد الناصر عميل للمخابرات الأمريكية، فالثورة في رأيهم مؤامرة أمريكية للحيلولة دون قيام ثورة حقيقية يقوم بها الشيوعيون لإنقاذ البلاد مما كانت منقسمة فيه.. وهكذا وجدت الثورة نفسها في موقف صعب فرضته المواجهة الحامية مع هذه القوى المناهضة.

مسؤولية عدم اتفاق هذه القوى السياسية مع الثورة

بالقطع عبد الناصر ليس مسؤولاً وهذه التنظيمات هي التي تتحمل المسؤولية كاملة؛ ذلك أن عبد الناصر سعى إليها إذ ذهب للإخوان وعرض عليهم بل عين ثلاثة وزراء كما سبق أن قلت ومنهم الباقوري ومن الشيوعيين مثلهم خالد محيي الدين ومن الوفد كان عبد اللطيف البغدادي ومن ثم فقد كان مجلس قيادة الثورة بمثابة جبهة وطنية لكل التيارات، وهنا أؤكد أنه إذا كانت التنظيمات قد اختلفت مع رؤى عبد الناصر إلا أن الجماهير بانتماءاتها المختلفة كانت إلى جانب الثورة وعبد الناصر الأمر الذي تجلى بوضوح في أزمة مارس 1954 حيث انحازت الجماهير للثورة ولو أن هذه التنظيمات تحالفت مع الثورة لتغير تاريخ مصر للأفضل وربما لما وقعت هزيمة 1967.

هزيمة يونيه 1967

الحقيقة أن 5 يونيو لم تكن هزيمة عسكرية بل حدثت خيانة من بعض قواد الجيش.. عبد الناصر جمع القادة وأبلغهم أن الرئيس الفرنسي ديجول أخبره بمعلومات توافرت لدى أجهزة مخابراته بعزم إسرائيل توجيه ضربة قاصمة للطيران المصري يوم 5 يونيه 1967 أثناء موعد إخطار الطيارين المصريين.. فأصدر التعليمات باتخاذ التدابير اللازمة والاستعداد للمعركة إلا أن القادة وعلى رأسهم عبد الحكيم عامر التف حوله مجموعة من الضباط الخونة الذين معروفة أسماؤهم.. وهم الذين سافروا أو هربوا للخارج وعاشوا هناك حياة اللوردات وحين وقعت الواقعة وحدثت الهزيمة انتحر عامر لإحساسه بأنه هو من ضيع مصر.. وبالفعل يتحمل المسؤولية بالدرجة الأولى كقائد عام للجيش، غير أن عبد الناصر تحمل المسؤولية كاملة وأعلن قراره بالتنحي فخرجت الجماهير العربية إلى الشوارع من المحيط إلى الخليج تطالبه بالبقاء والاستعداد للمعركة القادمة.. وبالفعل مرت شهور قليلة فكانت حرب الاستنزاف لتسطر أشرف صفحات البطولة ولتثبت للعالم أن الجيش المصري لم ينكسر.. ومن هنا أطالب بفتح ملفات هزيمة يونيه 1967 لتعرف الأجيال الحالية من خان ومن ظل مرابطاً شريفاً.

هل ما زال للناصرية مكان في مصر في زمن أمريكا؟

الناصرية سيادة وعدل اجتماعي وتنمية اقتصادية؛ ولأن أعمدة التحديث التي نادى بها محمد علي لمصر لا تزال قائمة ممثلة في التعليم والتصنيع والتسليح فإن عبد الناصر كان استمراراً لمحمد علي وإبراهيم ابنه وأحمد عرابي وسعد زغلول ومصطفي النحاس. وقد تسلحت مصر وتعلمت وصنعت مما أكسبها مكانة وثقلاً دولياً حدا بالأمريكان أن يستعينوا بعبد الناصر لمساعدتهم على الخروج من فيتنام نظراً لما قدمه للثورة هناك وما يحظى به من احترام في قلوب الشعب الفيتنامي، وأعود فأقول: إن الناصرية القائمة على السيادة والعدل الاجتماعي التي تؤمن بأن الطموح إلى الاستقلال هو الطريق على نهضة الأمة فكرة جامعة فائقة وصالحة لكل زمان.

لا إذعان لأمريكا

انهار نظام عالمي وجاء نظام جديد شعاره (الإذعان لأمريكا أو الموت) فماذا عسانا أن نفعل في رأيك؟

هذا غير صحيح على الإطلاق.. فالولايات المتحدة لم تواجه بمقاومة ورفض من قبل الأصدقاء قبل الأعداء كما هي عليه الآن، بل وأكثر من هذا الداخل الأمريكي نفسه منقسم حول إدارة بوش وهو ما كشفت عنه الانتخابات الأمريكية التي أظهرت أن حوالي 47% من الشعب الأمريكي يرفض النهج الأمريكي لإدارة العالم.

نقد الناصرية

باعتباركم واحداً من أهم المراجع الناصرية، لماذا لم تنجز مهمة نقد التجربة الناصرية حتى الآن؟

بالفعل كتبت كثيراً في نقد التجربة الناصرية عبر مقالات عديدة وإن كنت أحد أبناء ثورة يوليو ومن أشد المتحمسين لها والمؤيدين للناصرية إلا أنني لا أنفي وجود أخطاء ارتكبت في ظل التجربة الناصرية ومن عبد الناصر نفسه.. لكن يجب ألا ننسى أن عبد الناصر كان بطلاً تاريخياً والأبطال التاريخيون لا يحاسبون بالحسابات العادية أو بالموازين الشائعة.. ومع ذلك فإنني بالفعل أقوم بكتابة تحليل نقدي للناصرية لقناعتي اليقينية بأنه بدون هذا النقد ستنتهي الناصرية إلى التراب.

هل تم إخراج العرب من التاريخ؟

أرفض تماماً كل ما يقال عن خروج العرب من التاريخ وعن انكسارهم ونهايتهم فهذه (خرافة أمريكية) ذلك أن المنطقة من أهم مناطق العالم سياسياً وتاريخياً وثقافياً واقتصادياً غير أنني حقيقة أرى أن هذا الحديث وما يروج عن وفاة العرب إنما يأتي في سياق حرب نفسية شرسة تشنها القوى الدولية المتربصة بالعرب بأجهزتها المخابراتية منذ أيام محمد علي وابنه إبراهيم باشا وإلى الآن. وهذا العداء الغربي للعرب ينطلق من رؤية تاريخية قديمة إذ انقسم الغرب بشأن موقفه من مشروع محمد علي الحضاري لنهضة مصر إلى قسمين: الأول رأى في هذه النهضة بانفتاح مصر والشرق على الغرب جانب إيجابي خلاق على كل من الحضارتين العربية والغربية إلا أن القسم الثاني متمثلاً في القوى الاستعمارية الإمبريالية وعلى رأس هذا الفريق وقف (بالمرستون) رئيس وزراء بريطانيا آنذاك محذراً من حدوث هذه النهضة ليقول في خطاب شهير له: (إن وجود دولة عصرية في مصر هو أكبر خطر يهدد أوروبا) . وقد عملت الولايات المتحدة على احتواء مصر لأنها قوة محورية في المنطقة، هذه هي الخلفية التاريخية لمعركتنا مع أمريكا وإسرائيل. وأشدد نحن كعرب لم نخرج من التاريخ لكن دائماً الصراع بين العرب والغرب صراع غير متكافئ إلا أن العرب قد حاربوا الصليبيين مائتي سنة وهزموهم في المنصورة وحاربوا الأوروبيين المستعمرين.

الانحياز الأعمى

إذن هي سياسة واحدة من ترومان إلى بوش الابن ؟ بالفعل سياسة واحدة، فمنذ اللحظة الأولى لقيام دولة إسرائيل حتى الآن تتسم السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل بالدعم الكامل، وكما يقولون (من الابرة إلى الصاروخ). وما قاله (كيري) مرشح الرئاسة الأمريكية وانتقاداته لإدارة بوش كانت أكثر مرارة من أي انتقادات أخرى، والغريب أنه لم يروج لهذه المقولات السياسية حول الهيمنة الأمريكية وضرورة الإذعان لها إلا السماسرة وعملاء الأمريكان وقراصنة الموانئ وبعض المثقفين المرتزقة الذين لا هوية ولا شرف عندهم. والمتابع لما ينشر في وسائل الإعلام الغربية كفيل بتوضيح مدى ما تلقاه السياسات الأمريكية من رفض لاذع.

هل يمكن الحديث عن تيار عربي رافض يمكنه الاحتماء بتيار الرفض العالمي في مواجهة الهيمنة الأمريكية ؟ بالطبع هناك هذا التيار العربي وما تكتبه الصحف العربية من مقالات وأفكار وما تزخر به من تحليلات سياسية لكبار الكتاب العرب كلها تحفر مجرى عميقاً لهذا الرفض العربي، وأذكر هنا البيان الذي أصدرته نخبة من أرفع المستويات الثقافية في الولايات المتحدة لتبرئة المثقفين الامريكيين من دم العراقيين وكل ضحايا الغطرسة الأمريكية الذي جاء تحت عنوان (ليس باسمنا) يعلنون فيه أنهم يرفضون سياسات بوش وما يحدث للشعب العراقي، إضافة إلى ما نشرته مجلة (لانسر) عن العدد الحقيقي للقتلى الأمريكان الذي زاد عن 10 الاف جندي في العراق. وتيار الرفض عاش في بريطانيا على أن الغضب والرفض العربي لا يقل عنه فهناك في مصر والدول العربية حركة نشطة للمثقفين والمفكرين لتأكيد عدم الإذعان والتبعية لأمريكا وهو ما كشفت عنه الصحف العربية ولا سيما صحف المعارضة المصرية والعربية.

هل معنى ذلك أن العالم العربي أدرك خطورة الموقف الراهن ؟ أي عالم عربي تقصد ؟!! عالم الشعوب أم عالم الحكام ؟!! فيما يتعلق بالحديث عن رغبة أمريكا في تغيير الأنظمة العربية فأتصور أنهم لا يريدون ذلك ونهاية الأمر أن أمريكا تريد تغيير الأطقم أو ما يمكن تسميته تعديل الأنظمة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كلمة أخيرة

أحمد الله كثيراً أنني عبر مسيرتي التي سردتها لك في هذا الحوار لم أتناقض لحظة مع نفسي.. وكانت مسيرة عسيرة وحافلة بالصعاب والنجاحات والاخفاقات.. ورغم ذلك لم ارتكب يوماً ما يناقض عقيدتي السياسية والفكرية وكل ما أعتقد أنه الصواب لصالح وطني ومبادئي.

الرفيق بريماكوف

ذكر الكاتب الصحفي يوسف الشريف في كتابه الشيق "مما جرى في بر مصر" صفحة 54، اسم الكاتب محمد عودة وصديقه يفغيني بريماكوف على قهوة الفيشاوي تقول:

"ولا أنسى بالمناسبة المفكر والكاتب الكبير محمد عودة عندما كان يصطحب بريماكوف مراسل صحيفة "البرافدا" بالقاهرة، حيث كان يحلو له تدخين النارجيلة وشرب الشاي الأخضر في الفيشاوي قبل أن يصبح رئيساً للحكومة الروسية فيما بعد!”


كتبه

  • الصين الشعبية، 1955
  • الباشوات السبعة، عن العرابيين في المنفى
  • قصة ثورة (جزئين) عن ثورة يوليو
  • فاروق، ملك مصر الأول والأخير
  • الوعي المفقود، ردا على كتاب عودة الوعي لتوفيق الحكيم
  • قلب نهرو