عريان يوسف سعد

عريان يوسف سعد (25 مايو 1899 في ميت غمر - ) وفدي قبطي، حاول اغتيال يوسف باشا وهبة، رئيس حكومة الموظفين عام 1919، ضمن ثورة 1919.

عريان يوسف سعد

فى خضم أحداث متلاطمة هزت القاهرة عام ١٩١٩، كان «عريان يوسف سعد»، الطالب الثورى الجامح للتمرد، يختم عامه الـ ١٩. ويحلو لبعض المؤرخين تقديم ثورة ١٩١٩ باعتبارها «سلمية»، إلا أنها في واقع الأمر لم تكن سلمية لدرجة يمكن وصفها بـ «المخملية»، فقد كان لها وجهها العنيف، الذى اضطر الثوار إلى الكشف عنه في مواجهة رصاص القوات البريطانية المتطاير في وجوه المظاهرات الشعبية.

ولأن ثورة ١٩ لم تخل من الشهداء الذين تساقطوا، فقد حفزت دماؤهم الثوار على تدبير الاغتيالات ضد من اعتبروهم أعوانا للاستعمار، ومناهضين للحركة الوطنية. وفى بلد رازح تحت نير الاحتلال، كان الشعب يطرب لأصوات القنابل التى يستهدف بها الفدائيون «وزراء الاستعمار». كانت تلك العمليات «هى الشهب التى تضىء ظلام الحكم الحديدى»، منذ ١٩١٩ وحتى إعلان الدستور سنة ١٩٢٣، «ذلك المخدر الذى تراخت تحت تأثيره عضلات الثوار.. إلى أن فتحت (مصر) عينيها وهى بين يدى ثوار الجيش سنة ١٩٥٢».

صورة غلاف "مذكرات عريان يوسف سعد".

هكذا تحدث «عريان يوسف سعد» في مذكراته الخاصة.. استفاض في سرد وقائع حيوية ترنو لدرجة التوثيق، وفاض مداد قلمه في سرد مشاعره، قائلا: «فى ذلك الجو الخانق، جو ثورة شعب أعزل يواجه جيشا مدججا بالسلاح، كنت أعيش شابا يختم عامه الـتاسع عشر».

ولد «عريان» في 25 مايو 1899 في ميت غمر لأسرة أرستقراطية، حصل على البكوية عام ١٩٥١، وتوفى عام ١٩٧٤. ومن بين إخوته الـ ١١، دوّن تاريخ النضال الوطنى اسم عريان، الذى انتقل مع أسرته من عزبتها التى نشأت بها في ميت محسن إلى القاهرة، ليتلقى تعليمه الثانوى في المدرسة التوفيقية، قبل أن يلتحق بكلية الطب – جامعة فؤاد الأول.

ويلخص «عريان» تجربته وهو في عنفوان شبابه، بأن «موجات الفتوة كانت تتدافع في جسده وتغمر رأسه قصص كفاح قرأها، وهو في أولى مراحل الحياة.. فلا عجب أن يبحث في ظلال الثورة عن المغامرة، ولا عجب أن يجدها ويحياها».

دخل عريان حلبة السياسة على مراحل، وكان استعداده لها قويا منذ البداية، أما أول خطوة له فجاءت عن طريق المصادفة بدعوة من زميل له في مدرسة الطب ليذهب معه إلى مكتب شقيقه المحامى في القاهرة لتوقيع عريضة توكيل للوفد المصرى. وما هى إلا ساعات وكان «عريان» يمسك بالعريضة والقلم، مقرا فيها بأنه يوكل «سعد زغلول ومن معه للسعى في المطالبة باستقلال مصر، ما وجد إلى السعى سبيلا». أما الإمضاء فكان: عريان يوسف سعد - طالب طب.

مثلت هذه الوثيقة نقطة تحول لـ«السعديين»، وأصبح سعد زغلول، وكيل الأمة، وحامل الراية التى حملها من قبله أحمد عرابى ثم مصطفى كامل ثم محمد فريد، وبها اعتبر سعد عريان نفسه «صاحب قضية»، استقلال الوطن، بل وكل لها محاميا، هو سعد زغلول.. «إذن فقد حق لى أن أتتبع خطوات ذلك المحامى.. وهل يقوم على الوكالة الخطيرة.. أم أنه تصدى لها لحاجة في نفسه؟!».

عايش «عريان» بعد ذلك مظاهرات الطلبة التى خرجت هادرة بعدما قبض الإنجليز على سعد زغلول هاتفين: «تحيا مصر حرة!» و«يحيا سعد» و«تسقط الحماية». وعايش طالب الطب المتمرد تلك اللحظات التى وقف لها شعر رأس الطلبة وغلى الدم في عروقهم «كأنه سيل من نار».

جاب مع مسيرات الطلبة الحاشدة الملتهبة بنار الوطنية شارع قصر العينى، قاصدة كلية التجارة العليا في شارع المبتديان، بالقرب من سكة حديد حلوان، الذى أغلقته «سواري» و«بيادة» البوليس (المجندين) بأكمله في وجه الطلبة، ملوحين بالعصى الغليظة. وقعت اشتباكات أسفرت عن اقتياد ما لا يقل عن ١٥٠ طالبا – بينهم «عريان» – إلى قسم شرطة السيدة زينب.

يستدعى عريان في مذكراته لحظات خروجه وزملائه الـ ١٥٠ من القسم محاطين بجنود البوليس من الجانبين، وهم لايزالون يهتفون: «تحيا مصر» في مشهد «لا عهد للقاهرة بمثله». وكان البوليس يقتاد الطلاب المتظاهرين من قسم السيدة إلى مبنى المحافظة في باب الخلق، فساروا في الشوارع لتطل عليهم وجوه النساء من شرفات منازلهن التى «ما كانت تظهر لأحد غير أهلها».

يقول عنهن عريان: «اخترقت زغاريد النساء هتاف الطلبة، فعلت عليه، وكأنها أصوات الملائكة نزلت من السماء لتشارك شباب مصر في هتافه مطالبا بحقه وحق بلاده في الحرية»، «كلما قطعنا جزءا من الطريق.. ارتفعت من المساكن التى نمر بها على الجانبين زغاريد كأجراس الفضة تبعث في نفوس الشباب روح المغامرة، واستصغار المخاطر». ومن باب الخلق إلى معتقل القلعة، شقت لوريات الجيش الإنجليزى، محملة بالطلبة، ظلام الليل الدامس.

ينتقل عريان بنعومة عبر الزمان والمكان، فنروح معه ونغدو في رحلة داخل الثورىّ الإنسان.. ومن شارع قصر العينى إلى مسقط رأسه ميت غمر، يقول بروح مفعمة بالوطنية البعيدة عن المذهبية: «كانت ميت غمر قد أعلنت استقلالها، وتألفت فيها وزارة من الأعيان وقام الطلبة والعمال بحفظ الأمن»، هذا الاستقلال الذى سرعان ما أجهضه الجنود البريطانيون.

ومضى يقول في مذكراته إن أول مظاهرة نشبت فيها «كان يقودها محمود حسني وأندراوس رزق وسعد يوسف سعد وكانت نار الخلاف بين المسلمين والأقباط لاتزال جذوتها تحت الرماد منذ مؤتمر الأقباط الذى انعقد في أسيوط ١٩١٠ والمؤتمر الإسلامى الذى انعقد في هليوبوليس والمقالات النارية التى كان يكتبها الشيخ عبدالعزيز جاويش والردود القاسية التى كانت تنشرها جريدتا الطائفة القبطية (الوطن لصاحبها جندى إبراهيم ومصر لصاحبها تادرس شنودة المنقبادى)» وبموضوعية بعيدة عن أى انحياز دينى يضيف: «كانت جمرات الحقد بين العنصرين لاتزال تحت رماد النسيان، أطفأها سعد زغلول في قلوب المثقفين وعقولهم، ولكنها بقيت بين كثيرين من قليلى الحظ من الثقافة وكانوا كثرة في البلاد».

كان عريان طالبا في مدرسة الطب.. رأي بعينيه كفاح المصريين ضد الإنجليز.. رأي كيف يستهينون بأرواحهم في سبيل تحرير البلد من الاستعمار.. تحول المصريون جميعهم إلي أبطال.. الفدائيون كلما ألقوا بقنبلة علي وزير من وزراء الاستعمار، ادخلوا السعادة في قلوب الناس حتي لو لم يصب هذا الوزير.. المواطنون يرفضون أن يرشدوا عن الفدائيين رغم الاغراءات المادية.. العمليات الفدائية كانت سببا في كسر شوكة الإنجليز وأخضعتهم للتفاوض وأجبرتهم في سنة 1922 علي انهاء الحماية علي مصر وإعلانها دولة مستقلة ذات سيادة.. كانت وطنية المصريين في قمتها وعريان يوسف سعد يكمل عامه العشرين.. تتدافع في جسده فتونة الشباب.. وتغمر رأسه قصص كفاح قرأها وسمعها من شعراء الريف في بلده «ميت غمر».. أول خطوة له في طريق السياسة بدأها عندما طلب منه زميله بمدرسة الطب أن يعمل توكيلا لـ«سعد زغلول» حتي يمكنه التفاوض باسم الأمة.. في هذه اللحظة شعر بأنه صاحب قضية وكَّل فيها محاميا.. القضية قضية استقلال الوطن والوكيل هو الزعيم سعد زغلول. الإنجليز لم يتركوا سعد زغلول ورجال الوفد في حالهم.. أصدر الحاكم العسكري العام البريطاني أمرا باعتقالهم.. قبضوا علي سعد زغلول.. لينهض الشعب ويقرر طلبة الحقوق الإضراب عن الدراسة وتنتقل العدوي إلي بقية المدارس الزراعة والمهندسخانة خرجوا في مشهد رهيب أترككم مع عريان يوسف سعد ليصفه كما جاء في مذكراته التي نشرتها دار الشروق :«يدوي في الآذان صوت لا عهد للآذان به.. صوت ينطلق من مئات الحناجر الفتية القوية لتحيا مصر حرة.. ليحيا الاستقلال.. ليحيا الوطن.. ليحيا سعد! ويقف شعر الرأس ويغلي الدم فإذا هو داخل الجسم كأنه سيل من نار.. وقف الطلاب أمام مدرسة الطب هتفوا لهم: يحيا الاستقلال.. يحيا طلبة الطب.. لكن الوقفة طالت ولم يخرج طلاب الطب لأن مدير المدارس الطبية منعهم من الخروج فهتف الطلاب من الخارج: يسقط طلبة الطب! فيقوم واحد من طلاب الطب بقذف المدير بحافظة كتبه في وجهه ويدفعه فيسقط الرجل علي السلم ويندفع الطلاب للخارج فينضمون إلي زملائهم من المدارس الأخري فيهتفون لهم: يحيا طلبة الطب ثم يهتف الجميع: تحيا مصر حرة.. يحيا سعد.. يسقط الاستعمار تسقط الحماية!

سار الحشد الملتهب بنار الوطنية والشباب في شارع قصر العيني في اتجاه مدرسة التجارة العليا فوجدوا البوليس في انتظارهم واشتبك مع الطلاب.. لم يحاول رجال البوليس إيذاء الطلبة لأن الوطنية كانت تقع في صدورهم أيضا واكتفوا بالتلويح بالعصي الغليظة اللهم إلا بعض ضباط الإنجليز الذين هاجموا الطلاب بهدف التفريق.. لم تفلح المحاولات.. وسار الطلاب في طريقهم وأغلق أصحاب المحلات محلاتهم وانضموا بعمالهم إلي المسيرة.. اقتاد البوليس الطلاب إلي قسم السيدة زينب.. كانوا أكثر من 500 طالب.. ضاق بهم القسم ورفضوا نصائح المأمور بالانصراف ردوا عليه بالهتاف لسعد والاستقلال وسقوط الحماية.. جاء مدد من الجنود لاصطحاب الطلاب إلي مبني المحافظة.. في الطريق كانت زغاريد النساء تخترق هتاف الطلبة وكأنها أصوات ملائكة نزلت من السماء لتشارك شباب مصر في المطالبة بحق بلاده بالحرية.. في مبني المحافظة دخل 150 طالبا التقط منهم أحد الضباط 40 طالبا كان من بينهم عريان يوسف سعد ووضعوهم في التخشيبة.. ضاقت التخشيبة بهم فذهبوا بهم إلي القلعة.. ناموا في العراء فالمسجد كان معظم سقفه منزوعا.. 24 ساعة دون أكل وشرب حتي أغمي علي واحد منهم وكاد يموت.. 10 أيام اعتقال بنفس الملابس وأهالي الطلبة لا يعرفون عنهم شيئا.. فالأخبار انقطعت تماما بين القاهرة والمحافظات فقد تم قطع السكك الحديدية وكانت وسيلة الانتقال الوحيدة.. الأخبار كان يعرفها طلاب مع ورود معتقلين جدد.. خليط من الأزهريين والعمال وأصحاب المهن كالنجار والجزار والحداد فقد أصبح الشعب كله يدا واحدة للافراج عن سعد والافراج عن الطلبة.. كانوا يقولون لهم إن كل يوم تخرج مظاهرة ضخمة من الأزهر قلب ثورة 19 النابض ومصدر المظاهرات ومكان الاجتماعات السياسية.. كان يقف علي منبره القسيس بعمامته السوداء والطالب والشيخ والشاعر والزجال.. كل منهم يلقي في أتون الثورة بما يجيش في صدره من عوامل إشعالها وزيادتها.. تم اعتقال الطلاب في 9 مارس وأفرج عنهم يوم 21 مارس.. بعد الافراج وضع عريان سعد وزملاؤه خطة للهروب من القاهرة إلي ميت غمر فالسلطة العسكرية منعت وقتها الانتقال من القاهرة وإليها.. وهربوا في قارب شراعي ووصلوا إلي ميت غمر فوجدوا أن ميت غمر أعلنت استقلالها ونصبت أحمد بك عبده سلطانا عليها وكان طلبة المدارس العليا والعمال يقومون بدور الحرس الوطني أما مأمور المركز وموظفوه فلزموا منازلهم.. لم يقع بالمدينة حادث اعتداء واحد أو حادث سرقة خلال فترة الاستقلال التي دامت أسبوعين وانتهت بوصول قوة السواري النيوزيلنديين، ففور وصولهم عاد المأمور إلي مكتبه واختفي الحرس الوطني.

عندما أعلن موظفو الحكومة والمحامون الاضراب.. أضرب الموظفون في ميت غمر لكن الوحيد الذي لم يضرب هو سكرتير النيابة.. هنا اتفق عريان يوسف سعد مع زميلين له علي تأليف جمعية سرية كجمعية اليد السوداء.. الجمعية التي كان هدفها اغتيال ضباط الاحتلال الإنجليزي والمتعاونين معهم من المصريين لإرهاب سكرتير النيابة وإجباره علي الانضمام إلي المصريين.. تربص الثلاثة له في الظلام وكان مع أحدهم مسدس قديم الطراز من نوع كان معروفا بـ«الجيل الأسود» وضعه في صدره وقالوا له «إننا لا نحب أن يكون أول دم يراق في ميت غمر دم مصر وهذا إنذار لك إن لم تتضامن مع زملائك قدمك علي رأسك».. انتشر خبر الواقعة وشاع في البلد أن لمنظمة «اليد السوداء» فرعا في ميت غمر.. سعي الثلاثة للاتصال بالمنظمة خوفا من أن يعرف أهالي البلد أنهم لا ينتمون إلي المنظمة وأن سلاحهم مجرد طبنجة يعلوها الصدأ فيسخرون من المنظمة ويقللون من شأنها.. سافر أحدهم إلي القاهرة وعاد بدون سلاح علي وعد أن يوصلهم صديق من طلبة الحقوق بالمنظمة لكن لم يحدث شيء.

وحده سعي عريان سعد للانضمام إلي المنظمة.. في مدرسة الطب كانت هناك جمعية الأنس.. انتهز إحدي اجتماعاتها لمناقشة الأحداث السياسية فوقف عريان وعرض عليهم اللجوء إلي أعمال العنف فوجد معارضة شديدة منهم بعد الاجتماع التقطه أحد الزملاء وعرف منه أنه جاء فيما قاله فعرض عليه الانضمام إلي جماعة اليد السوداء ووعده بأنه يأتيه بطلب انضمام ونفذ وعده.. في أكتوبر 1919 تم الإعلان عن قدوم لجنة إنجليزية برئاسة اللورد ملنر وزير المستعمرات البريطانية لبحث مطالب البلاد في مصر وأعلن سعد زغلول من باريس مقاطعتها وهبت الأمة إلي المقاطعة كرجل واحد.. وأعلن محمد سعيد باشا رئيس الوزراء وقتها أنه سيستقيل إذا جاءت لجنة «ملنر».. وجاء خبر بأن اللجنة في طريقها إلي مصر واستقال سعيد باشا.. وتم تكليف يوسف وهبة باشا ـ الوزير القبطي في حكومة سعيد ـ بتشكيل الوزارة فاعترض الأقباط وأرسل بطريرك الأقباط الأرثوذكس الأنبا كيرلس الخامس وفدا من أعيان الأقباط يرجوه ألا يقبل الوزارة في ذلك الظرف العصيب حتي لا يساء الظن بالأقباط وايقاع الفرقة بين العنصرين ورفض يوسف وهبة لقاء الوفد وقام بتأليف الوزارة ووصلت لجنة ملنر وهاجت البلاد من جديد وقامت مظاهرات الاحتجاج وعقدت اجتماعات في الأزهر والكنيسة الكبري في الدرب الواسع واستشهد خطيب بآية قرآنية: «اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين».. وخاف الناس أن يتم الاعتداء علي يوسف وهبة مثلما اعتدي علي محمد سعيد باشا فيقال إن المعتدي عليه مسلم إن لم يقبض عليه وأن دافعه للاعتداء ديني ومن ثم تشوه الحركة الوطنية وتظهر مسألة الأقلية والأكثرية وهو ما يتمناه الاستعمار حتي يجد مبررا لبقائه.. هنا أدرك عريان يوسف الخطورة.. فالخلاف بين المسلمين والأقباط لم يهدأ بعد منذ مؤتمر الأقباط الذي عقد في أسيوط سنة 1910 والمؤتمر الإسلامي الذي عقد في هليوبوليس والمقالات النارية التي كان يكتبها الشيخ عبدالعزيز جاويش والردود القاسية التي كانت تنشرها جريدتا الطائفية القبطية.. قرر عريان أن يضحي بنفسه.. أن يوهب روحه للوطن بدلا من أن تشتعل فتنة مدمرة لن يكسب أحد منها سوي الاستعمار.. عرض أن يقوم هو بعملية الاغتيال حتي لا يدان المسلمون وتشوه الحركة الوطنية.. «لقد جاء وقتك».. قالها لنفسه ثم مضي يتدبر الأمر مع المنظمة.. قال لنفسه أيضا إنه سينفذ العملية ويسلم نفسه حتي يعلم العالم أن المعتدي ليس من المسلمين.. قال لصاحبه: أنا ميت علي كل حال إن لم أمت اليوم فأنا ميت حين تدركني الشيخوخة لكن الوطن حي لن يموت.. لا يحق لنا أن نترك الوطن يخلد في القيود لكي نحتفظ بأرواحنا إلي حين.. اتفق مع صاحبه أن يأتيه بمسدسين وقنبلتين لتنفيذ العملية واختار ميدان سليمان باشا مكانا لها وكافيه رمسيس نقطة انطلاق.. جلس في المقهي يراقب الميدان حتي حانت الساعة وجاءت سيارة رئيس الوزراء ووراءها جنديان علي موتوسيكلين من شارع قصر النيل.. وقف في وجهها.. أخذ قنبلة من جيبه ورمي بها تجاه السيارة..كان السائق يقظا استدار بالسيارة فانفجرت القنبلة بجانب العجلة الخلفية.. وأمسك بالقنبلة الثانية ورمي بها لتنفجر فوق السيارة.. أمسك الجنديان بعريان يوسف سعد وذهبوا به إلي رئيس الوزراء في مكتبه ودار حوار بينهما قتل فيه عريان يوسف سعد بكلامه رئيس الوزراء عندما قال: أنا قبطي أردت أن أغسل بدمي ودمك ما وصمت به الأقباط بقبولك تأليف الوزارة.

أمر بعدها رئيس الوزراء رجاله بأن يأخذوه من أمامه.. أخذوه وذهبوا به إلي قسم عابدين وهناك جري معه التحقيق.. اعترف عريان بما قام به وأنكر أن يكون أحد قد ساعده في العملية وأنه اشتري القنبلتين من رجل أجنبي لا يعرف ملامحه ولا اسمه.. طوال التحقيقات تمسك عريان باعترافاته وتعاطف معه الجميع النائب العام والسجان والباشسجان.. أحبوا فيه شجاعته ووطنيته.. لم يضايقوه وعملوا علي راحته حتي جاء يوم المحاكمة في يناير 1920 أمام المحكمة العسكرية البريطانية فعرض عليه شقيقه أن يترافع عنه محام إنجليزي ومعه محام قبطي فرفض في بداية الأمر لأن محاميه إنجليزي إلا أن شقيقه أقنعه في النهاية.. واستطاع المحامي وبصعوبة أن يعدل اعتراف عريان من تعمد القتل إلي ارهاب رئيس الوزراء لتخفيف الحكم.. انتهت المحاكمة وتم ترحيل عريان إلي السجن مرة أخري وفي طريقه التف آلاف الشباب حول السيارة يهتفون يحيا الوطن.. تحيا البطولة.. تحيا التضحية.. بعد 4 أيام صدر الحكم 10 سنوات أشغالاً شاقة لكنه لم يقضها كاملة فقد أفرج عنه بعد 4 سنوات ضمن من شملهم العفو في وزارة سعد زغلول.

بعد خروجه من السجن لم يتمكن عريان سعد من العودة إلي الجامعة لاستئناف تعليمه بسبب نشاطه السياسي وعين بمجلس الشيوخ الذي ظل يعمل به حتي الخمسينيات عندما افتتحت جامعة الدول العربية أول مكتب لمقاطعة إسرائيل في دمشق فانتقل للعمل هناك حتي سنة 1957 وعاد إلي القاهرة ثم دخل في مشروع تجاري لإنتاج الورق. مذكرات عريان يوسف سعد تستحق القراءة لكنك ستشعر بالخجل بعد أن تنتهي منها فالرجل ضحي بحياته من أجل الوطن.. رمي ثراءه خلف ظهره وودع عيشته الهنية ليأتي ومعه مصريون للبلد بحرية تم سلبها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الهامش