يوهان ڤنكلمان

يوهان يواكيم ڤنكلمان Johann Joachim Winckelmann (عاش 9 ديسمبر 1717 – 8 يونيو 1768) مؤرخ فني ألماني وعالم آثار،[1] كان رائداً للهلينية فكان أول من أوضح الفرق بين الفن اليوناني واليوناني-الروماني والروماني. و"كان النبي والبطل المؤسس لعلم الآثار الحديث،"[2] وكان فنكلمان أحد مؤسسي علم الآثار العلمي وأول من طبق تصنيفات الأسلوب على أساس منهاجي واسع في تاريخ الفن. ويعتبره الكثيرون أبو مجال تاريخ الفن.[3] كان له التأثير الحاسم في صعود حركة النيوكلاسيكية أثناء أواخر القرن الثامن عشر. أثـَّرت كتاباته ليس فقط على على علم الآثار الناشئ وتاريخ الفن ولكن أيضاً على الرسم الغربي والنحت والأدب وحتى الفلسفة. كتاب فنكلمان تاريخ الفن القديم (1764) كان أحد أول الكتب بالألمانية التي تصبح من كلاسيكيات الأدبيات الاوروبية. تأثيره اللاحق على لسنگ وهردر وگوته وهولدرلن وهاينه ونيتشه وجورج, وشپنگلر أُطلِق عليه باستفزاز "طغيان اليونان على ألمانيا."[4]

يوهان يواكيم ڤنكلمان
Johann Joachim Winckelmann
پورتريه بريشة رفائل منگس, after 1755
پورتريه بريشة رفائل منگس, after 1755
وُلِد(1717-12-09)9 ديسمبر 1717
شتندال
توفي8 يونيو 1768(1768-06-08) (aged 50)
ترييسته
الوظيفةعلم الآثار، تاريخ الفن
القوميةألماني
الفترة1755–1768
المواضيععلم الآثار؛ تاريخ الفن
الحركة الأدبيةالهلينية، الإحياء اليوناني، النيوكلاسيكية

واليوم، تخصص جامعة هومبولت في برلين معهد فنكلمان لدراسة علم الآثار الكلاسيكي.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

سيرته

كان أعظم الشخصيات أثراً في تاريخ الفن في هذا العهد لم يكن فناناً بل دارساً كرس حياته الناضجة لدراسة تاريخ الفن، وحرك موته الغريب روح أوربا المثقفة. ولد في 9 ديسمبر 1717 بمدينة ستندال في براندنبورج. وكان أبوه الإسكافي يأمل أن يحترف ابنه حرفته، ولكن يوهان رغب في درس اللاتينية. وقد أدى نفقات تعليمه الباكر بالغناء. ثم تقدم سريعاً مدفوعاً بشوقه واجتهاده. فكان يعلم التلاميذ الذين تنقصهم الكفاية، ويشترى الكتب والطعام. فلما كف بصر معلمه كان يوهان يقرأ له، وراح يلتهم مكتبة أستاذه. وأجاد تعلم اللاتينية واليونانية، ولم يكن ميالاً إلى اللغات الأجنبية الحديثة. وحين سمع بأن مكتبة يوهان ألبرت فابريكوس الدارس الكلاسيكي الشهير ستباع بالمزاد لوفاته، سار 178 ميلاً من برلين إلى همبرج، واشترى روائع الكتب اليونانية واللاتينية، وحملها على كتفه عائداً إلى برلين(49). وفي 1738 دخل جامعة هاله طالب لاهوت، ولم يكن به شغف باللاهوت، ولكنه اغتنم الفرصة لدراسة العبرية. وبعد أن تخرج اكتسب قوته بتعليم التلاميذ الخصوصيين وقرأ مرتين كل قاموس بيل "القاموس التاريخي والنقدي". ولعل هذه القراءة خلفت بعض الأثر على إيمانه الديني. وفي عام واحد قرأ الألياذة والأوديسة ثلاث مرات من أولهما لآخرهما باليونانية.

وفي 1743 قبل دعوة ليكون مديراً معاوناً لمدرسة بزيهاوزن في ألتمارك، بمرتب قدره 250 طالراً في العام. وكان في النهار يعلم "أطفالاً جرب الرؤوس أبجديتهم. بينما كنت...أتحرق شوقاً لمعرفة "الجنين"، وأردد تشبيهات من هومر"(50). وكان في المساء يدرس لتلاميذه الخصوصيين ليحصل على نفقات مسكنه وطعامه، ثم يعكف على الروائع الكلاسيكية حتى منصف الليل وينام حتى الرابعة، ثم يعود إلى روائعه الكلاسيكية ثانية، ثم يخرج متعباً ليدرس. وقبل بابتهاج دعوة وجهها إليه الكونت فون بون بوناو ليكون مساعداً لأمين مكتبة في قصره الريفي بنوتهنتز، قرب درسدن، لقاء السكن وخمسين إلى ثمانين طالراً في العام (1748). هناك ألفى المتعة البالغة في مجموعة من أضخم مجموعات الكتب في ذلك العصر.

وممن كانوا يختلفون إلى هذه المكتبة الكردينال أركنتو، القاصد البابوي في بلاط ناخب سكسونيا. وقد راعه علم فنكلمان وحماسته، ونحوله وشحوبه. فقال له "ينبغي أن تذهب إلى إيطاليا". وأجاب يوهان أن هذه الرحلة غاية مشها قلبه، ولكن موارده تعجز عن نفقتها. ودعاه القاصد لزيارته بدرسدن، فذهب إليه مرات. وقد أبهجه تفقه اليسوعيين الذين التقى بهم في بيت القاصد وأدبهم. وعرض عليه الكردينال باسونيي-وكان يقتني 300.000 مجلد في روما-وظيفة أمين مكتبته هناك، لقاء السكن والمعيشة وسبعين دوقاتية، ولكن الوظيفة لا يمكن أن يشغلها غير كاثوليكي. ووافق فنكلمان على الدخول في الكاثوليكية. وإذا كان قد أعرب من قبل عن إيمانه بأنك "بعد الموت ليس هناك ما يخيفك، ولا ما تؤمل فيه"(51) فإنه لم يجد صعوبات لاهوتية في هذا التحول، وكل صعوباته كانت اجتماعية. وقد كتب إلى صديق لأمه يقول "إن حب المعرفة، وهذا الحب وحده، هو الذي يستطيع إغرائي بالاستماع إلى الاقتراح الذي رض علي".

وفي 11 يوليو 1754، في مصلى القاصد في درسدن، أعلن إيمانه الجديد، واتخذت الترتيبات لرحلته إلى روما. ولأسباب شتى مكث في درسدن عاماً آخر، ساكناً دارساً مع الرسام-النحات-الحفار آدم وايزن. وفي مايو 1755 نشر في طبعة محدودة لم تتجاوز خمسين نسخة أول كتبه "خواطر في تقليد الآثار اليونانية في الرسم والنحت". وقد وصف فيه الآثار التي جمعت في درسدن، ورأى بالإضافة إلى هذا الوصف أن فهم اليونان للطبيعة كان أسمى من الفهم العصري لها، وهذا هو السر في التفوق الهليني في الفن. ثم اختتم بقوله "إن سبيلنا الوحيد إلى العظمة، بل إلى العظمة التي لا تحاكي...هو بمحاكاة القدماء"(56). ومن رأيه أن روفائيل دون جميع الفنانين المحدثين هو الذي حقق هذا الهدف الأسمى. وكان هذا الكتيب علامة بداية للحركة الكلاسيكية الجديدة في الفن الحديث. وقد لقي قبولاً طيباً، وأجمع كلويشتوك وجوتشيد على الإشادة بعلمه وأسلوبه. وحصل الأب رواخ، كاهن الاعتراف الخاص بفردريك أوغسطس، لفنكلمان من الملك الناخب على معاش من مائتي طالر لكل من العامين التاليين، وأعانه بثمانين دوقاتية لرحلته إلى روما. وأخيراً، في 20 سبتمبر 1755، انطلق فنكلمان إلى إيطاليا في صحبة يسوعي شاب. وكان قد بلغ السابعة والثلاثين.

فلما بلغ روما لقي عنتاً في جمرك المدينة الذي صادر عدة مجلدات لفولتير من حقائبه، على أنها أعيدت له بعد ذلك. ووجد سكناً من خمسة مصورين في بيت على التل الينسي-الذي قدسته ظلال بوسان وكلود لوران. والتقى بمنجز، الذي أعانه بشتى الطرق الكثيرة. وأطلق له الكاردينال باسيونيي في العمل بمكتبته، ولكن فنكلمان كان إلى الآن يرفض أي وظيفة ثابتة لرغبته في ارتياد فن روما. فحصل على إذن بزيارات متكررة لبلفيدير الفاتيكان وأنفق الساعات أمام تماثيل أبوللو، وهرقول النصفي، واللاوكون، واتخذت أفكاره شكلاً أوضح بعد تأمله في هذه المنحوتات. وزار تيفولي وفراسكاتي وغيرهما من الضواحي ذات الأطلال القديمة. وأكسبه حبه للفن القديم صداقة الكردينال الساندور الباني، وأعطاه الكردينال أركنتو مسكناً في البلاتسوديللا كانسلليريا-وهو المقر البابوي، وفي مقابل هذه المنحة أعاد فنكلمان تنظيم مكتبة القصر. وأصبح الآن في سعادة غامرة. قال "لقد كان الله مديناً لي بهذا، فأنني قاسيت كثيراً جداً في شبابي"(57). وكتب إلى صديق في ألمانيا كما كان يكتب عشرات الزوار الكبار:

"كل شيء صفر إذا قورن بروما! لقد ظننت فيما مضى أنني درست كل شيء دراسة كاملة، وهاأنذا أدرك بعد مجيئي أنني لم أعرف شيئاً. لقد أصبحت هنا أصغر مما كنت يوم خرجت من المدرسة إلى مكتبة بوناو. فإذا شئت أن تتعلم كيف تعرف الرجال، فهذا مكانك، هنا رؤوس ذات مواهب لا حد لها، رجال أوتوا قدرات فائقة، وآيات في الطابع الرفيع الذي خلعه اليونان على تماثيلهم...وكما أن الحرية التي يتمتع بها الناس في الدول الأخرى ليست إلا ظلاَ إذا قيست بحرية روما-وهو ما قد تخاله مفرقة-كذلك تجد في هذه المدينة أسلوباً مختلفاً في التفكير. فروما في اعتقادي هي المدرسة العليا للعالم، وأنا أيضاً امتحنت فيها وهذبت"(58).

وفي أكتوبر 1757 غادر روما قاصداً نابلي مزوداً بخطابات تعريف.

وسكن هناك ديراً ولكنه كان يتناول طعامه مع رجال كتانوكي وجالياني. وزار مدناً عابقة بأريج التاريخ القديم-بوتسولي، وبايا، وميزينوم، وكاوماي-ووقف مدهوشاً أمام هياكل بايستوم المهيبة. وفي مايو 1758 قفل إلى روما محملاً بذخائر العلم بالآثار. في ذلك الشهر استدعى إلى فلورنسة ليصنف ويوصف المجموعة الضخمة من الجواهر، والمحفورات، والخرائط، والمخطوطات التي خلفها البارون فليب فون ستوش. وشغلته المهمة قرابة عام وكادت تهدم صحته. ومات أركنتو أثناء ذلك، واجتاح فردريك الأكبر أرض سكسونيا، وفقد فنكلمان مسكنه في الكانسليريا ومعاشه من الملك الناخب التعس. وخف ألباني لنجدته إذ قدم له أربع حجرات وعشرة أسكوزات في الشهر لقاء العناية بمكتبته. وكان الكاردينال نفسه اثرياً متحمساً، وفي كل أحد كان يركب مع فنكلمان لتصيد التحف القديمة.

وأضاف فمكلمان جديداً إلى سمعته بإصداره كتيبات عميقة في هذه الموضوعات المفردة "في جمال الأعمال الفنية، ملاحظات على عمارة القدماء، وصف لتمثال هرقول النصفي في البلفدير، دراسة الآثار الفنية". وفي 1760 حاول ترتيب رحلة إلى اليونان مع الليدي أورفورد، زوجة أخي هوراس ولبول؛ ولكن الخطة أخفقت. كتب يقول "ما من شيء في الدنيا تقت إليه بحرارة كهذه الرحلة. وما كنت لأضن بإصبع من أصابعي تقطع، لا بل وددت أن أجعل من نفسي كاهناً لسيبيل (إلاهة الطبيعة) لو استطعت أن أشهد هذا البلد في فرصة كهذه"(50) أما كهنة سيبيل فكان الشرط فيهم أن يكونوا خصياناً، ولكن هذا لم يمنع فنكلمان من التنديد بأمر قديم للحكومة الرومانية يشترط تغطية الأعضاء الداخلية لابوللو واللاردكون وغيرهما من التماثيل في البلفدير بمآزر المعدن، وقد أعلن "إنه لم يشرع في روما طوال عهدها مثل هذه السنة الغبية".

وكان للإحساس بالجمال من السلطان عليه ما ألغى تقريباً كل وعي فيه بالجنس. فإذا شعر بتفصيل جمالي فإن تفضيله يؤثر جمال جسم الذكر المكتمل الرجولة عن حلاوة المرأة الهشة العابرة. ويبدو أن تمثال هرقل النصفي (التورسو) قد أثر فيه أكثر مما أثرت خطوط جسد فينوس الناعمة الملفوفة. وقال كلمة طيبة في الخناثي-على الأقل في التمثال الذي شهده في فيللابورجيزي(60). وقال مؤكد "لم أكن في حياتي عدوا للجنس الآخر، ولكن أسلوب حياتي أبعدني عن كل اتصال به. ولعلي كنت أتزوج، وأكبر ظني أنه كان واجباً على أن أفعل، لو أنني عدت إلى زيارة وطني الأول، أما الآن فإن هذا لا يكاد يخطر لي ببال"(61). وفي زيهاوزن كانت صداقته لتلميذه لامبريشت تقوم مقام التعلق بالمرأة، وفي روما عاش مع رجال الكنيسة، وندر أن التقى بالشباب مع النساء. وذكروا "إنه كان يتناول العشاء في السبوت فترة طويلة مع فتى من روما، نحيل وسيم الطلعة، فارع القامة، يتحدث معه عن الحب"(62). وقد "رسمت بناء على طلبه صورة لمغن جميل من الخصيان"(63) ثم إنه أهدى للشريف الفتى البارون فريدرش راينهولد فون برج "رسالة في القدرة على الإحساس بالجمال"، "وقد وجد القراء فيها وفي خطاباته لبرج لغة الحب لا لغة الصداقة، وهي في الواقع كذلك"(64).

وفي 1762 و1764 عاد إلى زيارة نابلي. وقد قدم للدارسين الأوربيين قي "خطاب عن آثار هوكولانيوم" (1762) و"تقرير عن أحدث كشوف هوكولانيوم"(1764) أول معلومات منظمة وعلمية عن الكنوز التي تم الحفر عنها في تلك المدينة وفي بومبي. وكان الآن معترفاً به أعظم حجة في الفن الكلاسيكي القديم. وفي 1763 عين بالفاتيكان في وظيفة "أثرى الحجرة الرسولية" وأخيراً، في 1764، نشر المجلدات الضخمة التي كان يؤلفها ويحيلها بالصور طوال سنوات سبع Geschichte der Kunst des Alterthums "تاريخ الفن القديم". وقد أحتوى الكتاب على أخطاء كثيرة رغم ما أنفق في إعداده من وقت وجهد، واثنان من هذه الأخطاء كانا خدعتين قاسيتين. ذلك أن صديقه منجز كان قد درس رسمين هما وليدا خيال منجز وزعم إنهما نسختان دقيقتان لصورة أثرية. وأدرج فنكلمان الصورتين في كتابه، واستعمل الرواسم وأهدى الكتاب كله لمنجز. وتضمنت المترجمات التي ظهرت سريعاً في الفرنسية والإيطالية كل الأخطاء تقريباً، مما أشعر فنكلمان بالخزي، فكتب إلى بعض أصحابه "إننا اليوم أحكم مما كنا بالأمس. ليتني أستطيع أن أريك كتابي "تاريخ الفن" وقد نقح تنقيحاً كاملاً ووسع توسيعاً كبيراً! لم أكن قد تعلمت الكتابة بعد حين شرعت في تأليفه فلم تكن الأفكار مترابطة بدرجة كافية، وفي مواضع كثيرة افتقار إلى الانتقال من السابق إلى اللاحق-وهو ملاك الفن الأسمى"(65). ومع ذلك أنجز الكتاب عملاً غاية في العسر-هو إجادة الكتابة في الفن. وقد رفعه حبه الشديد لموضوعه إلى مستوى الأسلوب الجميل.

وقد اتجه حرفياً إلى تاريخ الفن لا إلى الفنانين، وهو موضوع أيسر مأخذاً بكثير. وبعد أن مسح مسحاً متعجلاً الفن المصري والفينيقي واليهودي والفارسي والاتروري، أطلق العنان لحماسته الفياضة في 450 صفحة تناولت فن اليونان القديم. وفي فصول ختامية ناقش الفن اليوناني في عهد الرومان. وكان توكيده دائماً على اليونان لأنه كان مقتنعاً بأنهم عثروا على أسمى صور الجمال: في رهافة الخط لا في لمعة اللون، في تمثيل الأنماط لا الأفراد، في طبيعة الأجسام ونبلها، في انضباط التعبير العاطفي، في هدوء المظهر وصقله، في اطمئنان القسمات حتى في الحركة، وفوق هذا كلها في النسبة والعلاقات المتسقتين بين الأجزاء المتميزة في كل موحد توحيداً منطقياً. لقد كان الفن الإغريقي في رأي فنكلمان هو عصر العقل مجسماً.

وقد ربط تفوق الفن الإغريقي بالاحترام العظيم الذي كان الإغريق يكنونه بامتياز الجسد في الجنسين. "كان الجمال امتياز يقضي إلى الشهرة، لأننا نجد تواريخ الإغريق تذكر أولئك الذين تميزوا به"(66)، على نحو ما تفعل التواريخ الآن في ذكر كبار الساسة والشعراء والفلاسفة. وكانت هناك مباريات في الجمال عند الإغريق كما كانت مباريا للألعاب الرياضية. وعند فنكلمان أن الحرية السياسية، وتزعم اليونان لعالم البحر المتوسط قبل حرب البلوبونيز، هذان أفضيا إلى مركب من العظمة والجمال، وأنتجا "الطراز الفخم" في فيدياس مكانه لبراكستليس، وبدأ الاضمحلال. وكانت حرية الفن جزءاً من الحرية اليونانية، وتحرر الفنانون من القواعد الصارمة وجزءوا على خلق أجساد مثالية لا توجد في الطبعة. فلم يقلدوا الطبيعة إلا في التفاصيل، وكان العمل الفني كله مجموعة كمالات لا توجد في أي شيء طبيعي إلا جزئياً. لقد كان فنكلمان رومانتيكياً يبشر بالشكل الكلاسيكي.

ولقي كتابه القبول في أوربا بأسرها باعتباره حدثاً في تاريخ الأدب والفن. وأرسل إليه فردريك الأكبر دعوة (1765) للحضور إلى برلين مشرفاً على المكتبة الملكية وإدارة الآثار. ووافق فنكلمان نظير ألفي طالر في العام، وعرض فردريك ألفاً فقط، وأصر فنكلمان على موقفه، وذكر فردريك بقصة المغني الخصي الذي طالبه بمبلغ ضخم نظير أغانيه، فشكا فردريك من أنه يطلب أكثر مما يكلفه خير قواده، فكان رد المغني "إذن فليكلف قائده بالغناء".

وفي 1765 عاد فنكلمان لزيارة نابلي، هذه المرة في صحبة جون ولكز الذي كان قد جعل أوربا تدوي بتحديه للبرلمان ولجور الثالث. وبعد أن جمع المزيد من المعلومات عاد إلى روما وأكمل كتابه الهام الثاني "آثار قديمة غير منشورة" (1767). وكان أصدقاؤه من الأحبار قد شكوا من كتابته "تاريخه" بالألمانية التي لم تكن إلى ذلك الحين أداة كبرى من أدوات الدرس فأبهجهم الآن استعماله الإيطالية، وانتشى المؤلف السعيد، الجالس بين كردينالين، بقراءة جزء من كتابه في كاستل جاندولفو على كلمنت الثالث عشر وجمع غفير من الأعيان. على أنه أتهم بحيازته كتباً مهرطقة وإبدائه ملاحظات(68)، ولم يحصل من البابوية قط على المنصب الذي شعر بأنه جدير به.


وفاته

 
فنكلمان، في روب فاخر، بريشة أنطون فون مارون, 1768: ونقش لـأنتينوس يوجد أمامه (Schlossmuseum Weimar)

وقرر أن يزور ألمانيا (1768) ربما مؤملاً أن يحصل فيها على مورد يمكنه من رؤية بلاد اليونان. ولكن استغراقه الشديد في الفن الكلاسيكي وأساليب الحياة الإيطالية أفقده اللذة في وجوده بأرض الوطن، فتجاهل مناظرها الطبيعية وساءه معمارها وزخارفها الباروكية. وكان يردد مائة مرة لرفيق رحلته(69)، "لنعد إلى روما" وقد احتفى به القوم في ميونخ، وأهدوه جوهرة أثرية رائعة. وفي فيينا أعطته ماريا تريزا مداليات غالية، ودعته الإمبراطورة والأمير فون كاونتز للإقامة هناك، ولكنه ما لبث أن قفل إلى إيطاليا في 18 مايو وهو لم يكد يغيب عنها شهراً واحداً.

وفي تريستا تعطل انتظاراً لسفينة يستقلها إلى أنكونا. وأثناء أيام الانتظار هذه تعرف إلى مسافر آخر يدعى فرانشيسكو أركانجيلي. وكانا يتمشيان معاً ويشغلان حجرتين متجاورتين في الفندق. وسرعان ما أراه فنكلمان الميداليات التي تلقاها في فيينا. على أنه-على قدر علمنا-لم يريه كيسه المملوء بالذهب. وفي صبيحة 8 يونيو 1768 دخل أركانجيلي حجرة فنكلمان، ووجده جالساً إلى منضدة، فألقى أنشوطة حول عنقه، ونهض فنكلمان واشتبك معه، فطعنه أركانجيلي خمس مرات وفر هارباً. وضمد طبيب جروحه ولكنه قال أنها مميتة. وتناول فنكلمان الأسرار المقدسة، وأملى وصيته، وأعرب عن الرغبة في أن يرى مهاجمه ويصفح عنه، ثم لفظ أنفاسه الأخيرة في الرابعة بعد الظهر. وقد خلدت تريستا ذكراه بتماثل جميل.

وقبض على أركانجيلي في 14 يونيو. فاعترف بجريمته، وفي 18 يونيو صدر عليه هذا الحكم: "عقاباً على جريمة القتل التي اقترفتها على جسد يوهان فنكلمان..قضت محكمة الجنايات الإمبراطورية بأن...تحطم حياً على دولاب التعليم، من رأسك إلى قدميك حتى تفارق روحك بدنك" وكذلك صنع به في 20 يوليو.

كانت عيوب فنكلمان وثيقة الصلة بالجغرافيا. فلأنه لم يحقق قط أمله في زيارة اليونان في ظروف كانت ستتيح له الدرس المستفيض للآثار القديمة، كان يفكر في الفن اليوناني وكأنه الفن اليوناني الروماني كما وجده في المتاحف والمجموعات والقصور في ألمانيا وإيطاليا، وفي إطلال هركو لانيوم وبوميي. وتفضيله النحت على التصوير، وتمثيل الأنماط لا الأفراد، والهدوء لا التعبير عن العاطفة، وإيثاره النسبة والتناسق، ومحاكاة القدامى دون الابتكار والتجريب. كل هذا فرض على الدوافع الخلاقة في الفن عدة قيود أسفرت عن الانتقاص الرومانتيكي على ما في الأشكال الكلاسيكية من الصرامة الباردة. وقد أعماه التركيز على اليونان والرومان عن حقوق الطرز الأخرى وإمكاناتها، وكان يرى-كما رأى لويس الرابع عشر-إن رسوم الحياة اليومية التي أنتجتها الأراضي الواطئة ليست إلا من قبيل "الجروتسك".

ومع ذلك كان إنجازه رائعاً. فقد أحدث انتفاضة في كل دنيا الفن والأدب والتاريخ الأوربي بتمجيده لليونان. ولقد جاوز حدود النزعة الشبيهة بالكلاسيكية التي نزعت إليها إيطاليا النهضة وفرنسا لويس الرابع عشر إلى الفن الكلاسيكي ذاته. ونبه العقل الحديث إلى ما في النحت اليوناني من كمال ناصع مطمأن. وجعل من فوضى مئات التحف الرخامية والبرونزية والصور والمجوهرات والعملات آثار علمية. وكان تأثيره على أفضل العقول في الجيل التالي هائلاً. فقد ألهم لسبخ، ولو بالاعتراض على آراءه، وشارك في إنضاج هيردر وجوته، ولعله لولا الإلهام الذي انبعث من فنكلمان لما توج بيرون شعره بالموت في بلاد اليونان. وقد أعان هذا الهلنستي الغيور على تشكيل مبادئ منجز وثورفالدسن الكلاسيكية الحديثة، وتصوير جاك-لوي دافيد الكلاسيكي الحديث. يقول هيجل "يجب أن يعد فنكلمان واحداً من أولئك الذين عرفوا في ميدان الفن كيف يخلقون أداة جديدة للروح الإنسانية".

المصادر

ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.

الهامش

  1. ^ The biography in English is a popular account, Wolfgang Leppmann, Winckelmann (London) 1971; David Irwin offers a brief account to introduce his volume of selected writings, Winckelmann: Writings on Art (London: Phaidon) 1972.
  2. ^ Daniel J. Boorstin, The Discoverers, p. 584, Random House (New York, 1983)
  3. ^ Robinson, Walter. "Introduction". Instant Art History. Random House Publishing Group. p. 240. ISBN 0-449-90698-1. The father of official art history was a German named Johann Joachim Winckelmann (1717–68). {{cite book}}: Unknown parameter |origmonth= ignored (help)
  4. ^ Boorstin, p.586-587; Butler, Eliza M., "The Tyranny of Greece over Germany" (Cambridge Univ. Press, London, 1935)

للاستزادة

  • Efthalia Rentetzi, "Johann Joachim Winckelmann und der altgriechische Geist," in Philia (Universität Würzburg), vol. I, (2006), pp. 26–30, ISSN 0936-1944

وصلات خارجية