هنري فيلدنگ

هنري فيلدنگ (شارپهام، 22 أبريل 1707 – بالقرب من لشبونة، 8 أكتوبر 1754) كان روائي وكاتب درامى إنگليزى المعروف بروح الدعابةوغنى المشاعر و بآراؤه الساخرة بالبراعة، كما أنه مؤلف رواية اللقيط توم جونز. وبصرف النظر عن إنجازاته الأدبية، لديه مكانة هامة في تاريخ إنفاذ القانون، بعد أن أسس (مع اخيه غير الشقيق جون) ما أسماه البعض قوة لندن الشرطية الأولى ، وبو ستريت حيث فاز بالمركز الثاني ، وذلك باستخدام سلطته باعتباره القاضي. شقيقته الصغرى سارة فيلدينغ أصبحت كاتبة ناجحة.[1]

هنري فيلدنگ
Henry Fielding.png
الاسم الأدبي"Captain Hercules Vinegar", also some works published anonymously
الوظيفةNovelist, dramatist
القوميةEnglish
الفترة1728–54
الأصنافsatire, picaresque
الحركة الأدبيةالتنوير, Augustan Age
الأقاربSara Banerji (1900s author)

هنري فيلدنغ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

سيرته

ولد الروائي البريطاني هنري فيلدنگ (Henry Fielding) بالقرب من گلاستون‌بري بإنكلترا عام 1707. درس القانون في جامعة لايدن بهولندا ، ثم احترف العمل المسرحي فكتب بعد أن صار مدير مسرح حوالي خمس وعشرين مسرحية ، من أشهرها المسرحية الهزلية إبهام طوم عام 1730. أستدعي في العام 1740 إلى المحكمة ، وعين قاضي صلح في وستمنستر عام 1748 ، وفي ميدلسكس عام 1749. في تلك الفترة ، بدأت حياته الروائية براوية ( تاريخ مغامرات جوزيف أندروز وصديقه السيد أبراهام آدامز، وهي عبارة عن محاكاة ساخرة للرواية الوجدانية الأخلاقية الشهيرة (باميلا ) عام 1741 ، التي كتبها المؤلف البريطاني صموئيل ريتشاردسون. لكن موهبة فيلدنغ في عرض الشخصيات وتصوير بيئة الطبقات الدنيا جعلت روايته المذكورة أكثر من مجرد محاكاة ساخرة. نشر هنري فيلدنگ في العام 1749 عمله الروائي تاريخ طوم جونز اللقيط الذي اعتبره النقاد من أعظم الروايات الإنكليزية. وقد تحولت هذه الرواية في العام 1962 إلى فيلم ناجح بعنوان طوم جونز.

كتب هنري فيلدنگ العديد من الأشعار والمقالات السياسية ، واكتسب سمعة حسنة لشجاعته في محاربة الجريمة في مدينة لندن. وقد أجبره المرض في العام 1753 على ترك منصبه كقاضٍ ، ثم توفي في العام الذي تلاه.


سيرته

حين قدم إلى لندن في 1727 أعجب الناس كلهم بقوامه الفارع، وبنيته القوية، ووجهه الوسيم، وحديثه المرح، وقلبه المفتوح؛ فهنا رجل أعدته الطبيعة ليستمتع بالحياة في كل لذتها وواقعها السيئ السمعة. كان يملك كل شيء إلا المال؛ وإذ كان مضطراً-على حد قوله-إلى أن يكون سائقاً أجيراً، أو كويتباً أجيراً، فإنه شد نفسه إلى قلم، واكتسب قوت يومه بكتابة الهزليات والتمثيليات الكاريكاتورية. واستعملت الليدي ماري مونتاجيو، وهي ابنة خال له من المرتبة الثانية، نفوذها ليخرج له مسرح دروري لين تمثيلية "الحب وراء أقنعة عديدة" (1728)، وذهبت مرتين لتشهدها معلنة عن نفسها في تفضل؛ وفي 1732 ساعدت على عرض تمثيلية "زوج عصري" فترة طويلة. وواصل تأليف المسرحية تلو المسرحية، وكلها غير ممتاز، ووقع على عرق من الهجاء المرح في "مأساة المآسي، أو حياة وموت توم ثم الكبير" (1731).

وفي 1734 تزوج شارلوت كرادوك بعد خطبة اتصلت أربع سنين. وورثت عقب زواجهما 1.500 جنيه، فأخلد فيلدنج معها إلى حياة الدعة سيداً من سادة الريف. ووقع في حب زوجته. وقد وصفها وصف الزوج المفتون بزوجته في شخص صوفيا وسترن الجميلة في خفر، وأميليا بوث التي لا حد لصبرها وأناتها. وتؤكد لنا الليدي بيوت "أن اللغة المشرقة التي عرف كيف يستعملها لم تزد على أنصف محاسن الأصل وجمالها(82)". وفي 1736 عاد إلى لندن وأخرج تمثيليات لا تستحق الذكر. ولكن في 1737 وضع قانون الرخص قيوداً على الدراما، وانسحب فيلدنج من المسرح. ودرس القانون، وقبل محامياً (1740). وتحول مسار حياته في ذلك العام بظهور رواية رتشاردسن "باملا". وأثارت فضائل البطلة وخالقها المعتمدة كل ما في فيلدنج من نزوع إلى الهجو. و "قصة مغامرات جوزف أندروز وصديقه مستر ابراهام آدمز، مكتوبة بطريقة سرفانتيس" (1742) بدأها تقليداً ساخراً لباملا. فجوزف، الذي يقدمه لنا المؤلف على أنه أخو باملا، فتى طاهر جميل بين الفتيان كباملا بين الفتيات، تراوده مخدومته المرة بعد المرة كما وقع لباملا، ويقاوم مثلها، ويفصل مثلها في رسائله المحاولات الخبيثة للعدوان على عذريته. ورسالته لأخته باملا رسالة تكاد تكون "رتشاردسونية"، وإن لم تكن كذلك تماماً:

"أختي العزيزة باملا:

"أرجو أن تكوني بخير، عندي خبر ويا له من خبر أفضي به إليك!... لقد وقعت سيدتي في غرامي-أي ما يسميه عليه القوم بالوقوع في الغرام-وفي نيتها أن تدمرني، ولكني أرجو أن يكون لدي من العزم والحصافة ما يعصمني من التفريط في عرضي لأي سيدة على ظهر البسيطة.

"لقد طالما أخبرني المستر آدمز أن العفة فضيلة كبرى في الرجل كما هي في المرأة سواء بسواء. وهو يقول إنه لم يعرف قط امرأة غير زوجته، وسأحاول أن أقتدي به. والحق أن افضل كله لمواعظه ونصائحه الممتازة ولرسائلك في قدرتي على مقاومة إغراء يقول أن أحداً لا يذعن له إلا أن ندم في هذه الدنيا وهلك عقاباً في الآخرة... ما أجمل النصائح والمثل الطيبة! ولكني مسرور لأنها طردتني من مخدعها كما فعلت، فلقد كدت أنسي مرة كل كلمة قالها لي القس آدمز.

"ولست أشك يا أختي العزيزة في أن لك من الحصافة ما تصونين به فضيلتك من كل إغراء، وأتوسل إليك في إلحاح أن تصلي لكي منحني الله القوة على صون فضيلتي، لأنها في الحق تهاجم هجوماً عنيفاً من أكثر من امرأة، ولكني أرجو أن أقتدي بمثالك، وبمثال يوسف الصديق سميي، فأصون فضيلتي من كل إغراء(83)". وينجح جوزف، ويظل بكراً حتى يتزوج العذراء فاني. أما باملا، التي رفعت درجة في سلم المجتمع حين تزوجت مخدومها الغني، فتدين فاني لتجاسرها على الزواج من جوزف، الذي ارتفعت منزلته في المجتمع بزواج باملا برجل من عليه القوم. ولام رتشاردسن فيلدنج لأنه اقترف "إضافة فاجرة خسيسة" إلى باملا(84).

ولم تشبع شهوة فيلدنج للهجو بتقليده الساخر لرتشاردسن، وراح يحاكي الألياذة محاكاة ساخرة، بالتضرع إلى ربات الفنون والآداب ويجعل كتابة ملحمة. وقد فاض ينبوع فكاهته في مختلف الشخصيات التي تلقاها جوزف وآدمز في طريقهما، لا سيما الفندقي تو-واوز، الذي تفاجئه المسز تو-واوز متلبساً "بالجرم الفاضح" مع الخادمة بتي ثم تصفح عنه، و "احتمل في هدوء ورضي أن يذكر بذنوبه... مرة أو مرتين كل يوم طوال حياته الباقية". وإذ لم يكن في طبع فيلدنج أن يصنع بطلاً، ورواية بأكملها، من شاب لا عيب فيه، فإنه سرعان ما فقد اهتمامه بجوزف، وجعل القس آدمز الشخصية المحورية لكتابه. وقد بدا هذا خياراً بعيد الاحتمال، لأن آدمز كن قساً سنياً في إخلاص وصدق، يحمل معه مخطوطه بمواعظه باحثاً عن ناشر متهور. ولكن المؤلف أعطاه "بيبة" متينة، ومعدة قوية، وقبضتين صلبتين؛ ومع أن القس يعارض الحرب، فإنه مقاتل كفء يصرع سلسلة من الأوغاد يتعقبونه لسرقة قصته. وإلى حد بعيد أحب شخص رسمه فيلدنج، ونحن نشارك لذة المؤلف في مواجهته مواجهات غريبة مع الخنازير، والوحل، والدم. والذين كانوا في شبابهم يتأثرون تأثراً عميقاً بالمثل المسيحي الأعلى، لا بد يستشعرون المحبة الحارة لرجل دين خلا تماماً من الغش وفاضت نفسه براً. ويقابل فيلدنج بينه وبين القس تراليبر الجشع، الذي كان "من أضخم الرجال الذين يجدر بك أن تراهم، وكان في استطاعته أن يقوم بدور السر جون فلستاف دون أن يحشو بدنه(85)".

وازدهى النجاح فيلدنج، فأصدر في 1743 ثلاث مجلدات وضع عليها عنواناً متواضعاً هو "منوعات". وقد احتوى المجلد الثالث على آية من آيات التهكم المتصل في "حياة المستر جوناثان وايلد العظيم" ولم يكن ترجمة حقيقية للنص القرن الثامن عشر الأشهر، "فإن قصتي تروي على الأصح أفعالاً كان من الجائز أن يقوم بها(86)". وكان في شكله الأول سخرية من السر روبرت ولبول لاتجاره في الأصوات الانتخابية المسروقة، فلما مات ولبول أصدره المؤلف الجديد في صور هجاء "للعظمة" كما درج الناس على تقديرها وتحقيقها. وذهب فيلدنج إلى أن معظم "عظماء الرجال" أساءوا إلى البشر أكثر مما أحسنوا إليهم؛ وهكذا لقب الاسكندر بالأكبر أو "العظيم" لأنه بعد أن "اجتاح إمبراطورية شاسعة بالحديد والنار وأهلك العدد الهائل من البؤساء الذين لا ذنب لهم، ونشر الخراب والدمار كأنه العاصفة الهوجاء يقال لنا من أعمال الشفقة التي تذكر له أنه لم يذبح عجوزاً ولم يغتصب بناتها(87)" واللص أحرى بضمير أكثر راحة واطمئناناً من ضمير رجل الدولة، لأن ضحاياه أقل وغنيمته أضأل(88).

وبأسلوب التراجم السياسية يخلع فيلدنج على جوناثان شجرة نسب رفيعة، فيرجع بأصله إلى "ولفستن وايلد، الذي قدم مع هنجست". وكان لأمه صفة غروية في أصابعها غاية في العجب(89). ومنها تعلم جوناثان فن اللصوصية وآدابها، وسرعان ما مكنه ذكاؤه الفائق من تنظيم عصابة من الشبان البواسل الذين كرسوا حياتهم لإراحة الناس الزائدين عن الحاجة من سلعهم الزائدة عن الحاجة، أو من حياتهم التي لا معنى لها. وكان يصيب حظ الأسد من مكاسبهم، ويتخلص من المتمردين من مساعديه بتسليمهم لسلطات القضاء والأمن. وقد أخفق في إغواء ليتيا المطاردة، التي آثرت أن يعتدي على عرضها مساعده فايربلود، الذي "اغتصب هذه المخلوقة الجميلة في دقائق، أو على الأقل كاد يغتصبها، لولا أنها منعته من ذلك بامتثالها في الوقت المناسب(90)". وبعدها تزوجت وايلد. وبعد أسبوعين يدخلان في "حوار زوجي" تشرح فيه حقها الطبيعي في حياة الفسق، فيدعوها بالكلبة، ثم يتبادل القبل ويتصالحان. ويتصاعد حجم جرائمه أكثر فأكثر حتى يطيب لزوجته أن تراه محكوماً عليه بالإعدام. ويرافقه قسيس إلى المشنقة. فينشله وايلد في الطريق، ولكنه لا يجد معه سوى فتاحة للقوارير، لأن الكاهن كان ذواقه للخمور، أما "جوناثان العظيم، فبعد كل مغامراته الجبارة، كانت خاتمته-التي قل من عظماء الرجل من يستطيعون تحقيقها-أن علق من عنقه حتى مات(91)".

وفي أواخر عام 1744 فقد فيلدنج زوجته، وكدر موتها مزاجه حتى طهر حزنه بتصويرها تصوير المحب، خلال أسي البعد، في شخص صوفيا وأميليا. وبلغ به العرفان بالوفاء الصادق الذي أبدته خادمة زوجته التي بقيت معه لترعى أبناءه أنه تزوجها في 1747. وكان خلال ذلك يعاني من المرض والعوز، ثم أنقذه من الفقر تعيينه (1748) قاضي صلح لوستمنستر، ثم لمدلسكس بعد قليل. وكانت وظيفة شقة، ينقد عليها راتباً غير مضمون من رسوم المتقاضين الذين يوافونه بمحكمته بشارع بو. وقد وصف الجنيهات الثلاثمائة التي تجمعت له من هذه الوظيفة كل عام بأنها "أقذر نقود على وجه الأرض(92)".

ولا بد أنه كان خلال هذه السنوات الحافلة بالشدائد (1744-48) عاكفاً على أعظم رواياته، لأنها صدرت في فبراير 1749 في مجلدات ستة باسم "قصة توم جونز اللقيط". وهو يروي لنا أن الكتاب ألف في "بضعة آلاف من الساعات" استنقذها من القضاء والكتابة المأجورة، ولم يستطع أحد أن يتبين من فكاهة الكتاب القوية وأدبه الفحل أن هذه كانت سنوات الحزن والنقرس والعوز. ومع ذلك فهاهنا ألف ومائتا صفحة في رواية يعدها الكثيرون أعظم الروايات الإنجليزية. فلم يسبق في الأدب الإنجليزي أن وصف رجل هذا الوصف الكامل الصريح، بدناً وعقلاً وخلقاً وشخصية. ويحضرنا في هذا المجال تلك الكلمات الشهيرة التي قدم بها ثاكري لقصته "بندنيس".

"منذ أن ووري مؤلف توم جونز للتراب لم يؤذن لروائي منا أن يرسم "رجلاً" بأقصى ما يملك من قدرة. فحتم علينا أن نستره وأن نخلع عليه ابتسامة متكلفة تقليدية معينة. والمجتمع مصر على رفض "الطبيعي" في فننا.. .. وأنت تأبى أن تسمع.. .. ما يتحرك في دنيا الواقع، وما يدور في المجتمع، وفي الأندية، والكليات، وقاعات الطعام-تأبى أن تسمع واقع حياة أبنائك وحديثهم".

ويطالعنا توم أول ما يطالعنا طفلاً غير شرعي وجد في فراش المستر أولورذي الطاهر النقي. وبين هذه البداية وزواج توم في النهاية حشر فيلدنج مائة حدث، بأسلوب يوهم بأنه أسلوب قصص التشرد ذات الفصول المتتابعة في غير ترابط، ولكن القارئ سيدهشه أنه هو ثابر على القراءة إلى النهاية أن يجد أن هذه الأحداث كلها تقريباً ضرورية للحبكة البارعة، أو لعرض الشخوص وتطويرها؛ وأن يجد الخيوط تحل والعقد تفك. والعديد من الأشخاص مرسومون في صورة مثالية، مثل أولورذي الذي يكاد يشبه جرانديسن، وبعضهم مبسطون تبسيطاً شديداً، مثل بلايفل الذي يكرهنا على احتقاره، أو القس نواكوم، المربي "الذي سيطرت العصا على أفكاره(93)". ولكن كثيراً منهم يظهر فيهم ماء الحياة، ومنهم سكواير وسترن "الذي يعتز ببنادقه وكلابه وخيله(94)" أكثر من أس شيء في الدنيا، ثم تأتي زجاجة شرابه، ثم ابنته صوفيا الفريدة في بابها. هاهنا "كلاريسا" أخرى تعرف مسالكها بين فخاخ الرجال، وباملا أخرى تصيد رجلها دون أن تزعجها تجاربه الماضية قبل الزواج.

أما توم ففيه شيء من التحلل الجنسي، وفيما عدا ذلك فهو من أطيب أن يصلح للبقاء. تبناه أولورذي، وعلمه ثواكوم وأدبه بعصاه، فأدرك الرجولة القوية التي لا يكدر صفوها غير الخبثاء الذين يذكرونه بأصله الغامض. وهو يسطو على بستان فاكهة ويسرق بطة، ولكن أباه بالتبني يغتفر هذه الألاعيب جرياً على أفضل التقاليد الشكسبيرية. وتعجب به صوفيا وهو على بعد عفيف منه، ولكن توم، الشاعر بمولده غير الشرعي، لا يجرؤ إطلاقاً على الوقوع في حب سيدة تبعد عنه هذا البعد السحيق مكانة ومالاً. وهو يقنع بمولي سيجرم، ابنة حارس الصيد، ويعترف بأنه ربما كان أباً لطفلها، ويروح عنه كثيراً أن يجد أنه ليس إلا واحداً من عديدين يحتمل أن يكون أحدهم أباً للطفل. وتعانى صوفيا إذ تعلم بهذا الغرام الآثم، ولكن إعجابها بتوم لا يفتر إلا لحظة عابرة. وهو يمسك بها بين ذراعيه إذ تسقط من جوادها أثناء الصيد، ويشي احمرار وجهها بشعورها نحوه، فيسارع إلى مطارحتها الغرام. ولكن أباها، سكواير وسترن، كان قد هيأ جيبه لصفقة تزويجها من المستر بلايفل، وهو ابن أخت أولورذي الغني الذي لم يعقب، ووريثه الشرعي. وترفض صوفيا الزواج من هذا المنافق الشاب، ويصر أبوها، وتكد المعركة الناشبة بين إرادة الأب ودموع ابنته عدة مجلدات. أما توم فيبتعد محجماً، ويدعهم يفاجئونه في أيكة ومولي بين ذراعيه، وتظهر صوفيا في هذا المشهد فتقع مغشياً عليها. ويطرد أولورذي توم كارهاً، فيبدأ هذا أسفاره الحافلة بالأحداث، التي بدونها كان عسيراً على فيلدنج أن يكتب رواية، إذ كان لا يزال مقلداً لسرفاتتس ولساج. ويظل قلبه مع صوفيا الكسيرة الخاطر، ولكن وقد ظن أنه فقدها إلى الأبد ينزلق إلى فراش المسز ووترز. وبعد شدائد كثيرة، وتعقيدات لا تصدق، يصفح عنه أولورذي، ويحل محل بلايفل وريثاً له، ويصلح ذات البين مع صوفيا الخجول الصفوح، ويرحب به سكواير وسترن صهراً له ترحيباً صادقاً مع أنه كان قبل أسبوع على أهبة قتله. ويتعجل وسترن الخاتمة الآن فيقول:

"إليها يا بني، إليها، أمض إليها.. هل انتهى كل شيء؟ هل حددت اليوم يا فتى؟ ماذا، أيكون غداً أم بعد؟ لن أرضي بالتأجيل دقيقة أكثر من بعد غد... يمينا أنها لتود من كل قلبها أن تزف الليلة، أليس كذلك يا صوفي؟... أين بالله أولورذ؟ اسمع يا أولورذي، أراهن خمسة جنيهات لكراون أن سيولد لنا صبي بعد تسعة أشهر من غد(95)".

إن أحداً لم يصف الحياة الإنجليزية منذ شكسبير بمثل هذه الخصوبة أو الصراحة. ذلك أن أوصافهم لا تشمل كل جوانب تلك الحياة؛ ونحن نفتقد فيها الرقة والوفاء والبطولة والمجاملات والعاطفة-هذه التي توجد في أي مجتمع. أما فيلدنج فآثر رجل الغريزة عن رجل الفكر. واحتقر مهذبي الكتب ومطهريها الذين حاولوا في زمانه أن ينقوا تشوسر وشكسبير، كما احتقر الشعراء والنقاد الذين ظنوا أن الأدب الجاد يجب ألا يتناول غير علية القوم. وفهم الحب بين الجنسين على أنه حب جسدي، وأحال نواحيه الأخرى إلى دنيا الأوهام. واحتقر جنون المال الذي لحظه في كل طبقة، وكره الدجل والنفاق كرهاً شديداً. ولم يرحم الوعاظ، ولكنه أحب القس آدمز، والبطل الوحيد في "اميليا" هو الدكتور هاريسن، وهو قس أنجليكاني؛ وكان فيلدنج نفسه يعظ في كل مناسبة من رواياته.

وبعد أن نشر توم جونز جرد قلمه لحظة لتناول المشكلات التي كابدها في عمله قاضياً. وكانت تجربته تواجهه كل يوم بما في لندن من عنف وإجرام. فاقترح وسائل لتشديد حراسة الأمن العام وتصريف القضاء. ويفضل جهوده، وجهود السر جون فيلدنج، وأخيه لأبيه، الذي خلفه قاضياً في شارع بو، قضي على عصابة بثت الرعب في لندن، وشنق كل أفرادها تقريباً. وذكر متفائل في 1757 أن "الشر المسيطر، شر سرقات الشوارع، قد قمع كلية تقريباً(96)".

في هذه الأثناء كان هنري قد نشر آخر رواياته "أميليا" (ديسمبر 1751). أنه لم يستطع نسيان زوجته الأولى، ولقد نسي أن عيوب ربما شابتها، فأقام الآن لذكراها أثراً صورها فيه الزوجة الكاملة لجندي مبذر قصير النظر. فالكابتن بوث رجل لطيف شجاع كريم، وهو يعبد زوجته أميليا، ولكنه يقامر حتى يتردى في الدين، ويبدأ الكتاب بالكابتن في السجن. وهو يستغرق مائة صفحة يقص فيها قصته على نزيلة أخرى هي الآنسة ماثيوز؛ يفصل لها جمال زوجته وتواضعها ووفاءها وحنانها وغير ذلك من صفاتها المثالية، ثم يقبل دعوة الآنسة ماثيوز له أن يشاركها فراشها، وينفق "أسبوعاً كاملاً في هذا الحديث المجرم(97)". وفي مشاهد السجن هذه وغيرها من المشاهد اللاحقة، يفضح فيلدنج، ربما في شيء من المغالاة، نفاق الرجال والنساء وفساد الشرطة والقضاء ووحشية المساجين. ويجد القارئ هنا وصف سجون المدينين التي ستعمر قرناً آخر لتثير سخط دكنز. ويستطيع القاضي ثراشر أن يعرف جريمة سجين من لهجته الإيرلندية، "يا غلام، لسانك يشي بذنبك. فأنت إيرلندي، وهذا دائماً دليل كاف في نظري(98)". ويتصاعد عدد الأوعاد مع كل فصل، حتى تصرخ أميليا لأبنائها الذين عضهم الفقر قائلة "سامحوني لأنني أتيت بكم إلى هذه الدنيا(99)".

وأميليا، مثل جريزلدا، هي المثل الأعلى للمرأة الصبور كما تخيله فيلدنج. يكسر أنفها في أحد الفصول الأولى، ولكن جراحة الأنف تصلحه، وتعود جميلة جمالاً يغري بمحاولة العدوان على عرضها مرة في كل فصلين تقريباً. وهي تسلم بقصورها الفكري عن زوجها وتطيعه في كل شيء، إلا أنها ترفض الذهاب إلى حفلة تنكرية؛ وتحضر لحناً دينياً (أوراتوريو)، ولكنها تتعرض في تعريض نفسها لنظرات العابثين في فوكسهول. فإذا عاد بوث إليها بعد إحدى مغامراته الطائشة وجدها "تؤدي عمل الطاهي باللذة التي تستشعرها سيدة راقية في ارتداء ثيابها استعداداً لحفلة رقص(100)". وتتلقى رسالة من الآنسة ماثيوز اللئيمة تش فيها بخيانة بوث لزوجته في السجن، فتمزق الرسالة وتكتم خبرها عن زوجها، وتظل تحبه رغم كل سكره وقماره وديونه وسجنه، وتبيع حليها الضئيلة الثمن، ثم ملابسها، لتطعمها وتطعم أطفالها. ولا تفت في عضدها أخطاؤه بقدر ما تفت فيه قسوة الرجال والأنظمة التي توقعه في شباكها. فلقد كان فيلدنج، شأنه في ذلك شأن روسو وهلفتيوس، يرى أن أكثر الناس طيبون بفطرتهم، وإن ما يفسدهم هو البيئات الشريرة والقوانين السيئة. وعند ثاكري أن أميليا "أكثر الشخصيات فتنة في القصص الإنجليزي(101)". ولكن ربما لم تكن سوى حلم زوج. وفي النهاية تصبح أميليا بطبيعة الحال وارثة، وتعتزل هي وبوث في ضيعتها، ويستقيم حال بوث.

أما خاتمة الرواية فلا تكاد تبررها مقدماتها؛ فبوث يبقى بوث على الدوام. ولقد حاول فيلدنج أن يربط كل عقد حبكته في وحدة سعيدة، ولكن خفة يده هنا مكشوفة جداً، فلقد أدرك التعب هذا الروائي الفحل، وأثار تقززه جو اللصوص والقتلة الذي أحاط به. كتب بعد أن فزع من اميليا يقول "لن أزعج العالم بعد اليوم بمزيد من أطفالي الذين تلدهم لي ربة الأدب ذاتها". وفي يناير 1752 بدأ "مجلة كوفنت جاردن"، وكتب بعض المقالات القوية، ورد على نقد سمولت، وصوب طلقه إلى روايته "رودريك راندوم"، وفي نوفمبر ترك المجلة تموت. وكان شتاء 1753-54 أقسى من أن يحتمله بدنه الذي هده العمل والاستسقاء والصفراء والربو. وجرب ماء القار الذي نصبح به الأسقف باركلي، ولكن الاستسفاء استفحل، وأشار عليه طبيبة بالسفر إلى بلد أدفأ. ففي يونيو 1754 استقل سفينة تدعى "ملكة البرتغال" مع زوجته وابنته. وفي الطريق كتب "يوميات رحلة إلى لشبونة"، وهي من ألطف ما كتب. ومات في لشبونة في 8 أكتوبر 1754، ودفن هناك في الجبانة الإنجليزية.

فما الذي أنجزه؟ لقد أرسي دعائم رواية السلوك الواقعية؛ ووصف حياة الطبقات الوسطى الإنجليزية وصفاً أنصع من أي وصف أتى به مؤرخ، وفتحت كتبه عالماً بأسره. ولكنه لم ينجح مثل هذا النجاح في الطبقات العليا، وكان عليه أن يقنع في هذا الميدان، كما قنع رتشاردسن، بنظرة الدخيل. ولقد عرف من حياة وطنه الجسد خيراً مما عرف الروح، ومن الحب جسده خيراً مما عرف روحه، وغابت عنه مقومات الخلق الإنجليزي الأكثر رهافة وخفاء. ومع ذلك فقد ترك بصمته على سمولت، وستيرون، ودكنز، وثاكري؛ لقد كان أباً لهم أجمعين.

الهامش

  1. ^ "Henry Fielding (1707–1754)". The Literary Encyclopedia. Retrieved 2009-09-09.
خطأ استشهاد: الوسم <ref> ذو الاسم "ocel" المُعرّف في <references> غير مستخدم في النص السابق.

وصلات خارجية

  اقرأ اقتباسات ذات علاقة بهنري فيلدنگ، في معرفة الاقتباس.
Wikisource has original works written by or about:

قالب:Henry Fielding