كاتولوس

(تم التحويل من كاتولّوس)

گايوس ڤالريوس كاتولوس Gaius Valerius Catullus (ح. 84 ق.م. - ح. 54 ق.م.) كان شاعراً باللاتينية في الفترة الجمهورية. أعماله المتبقية مازالت تُقرأ على نطاق واسع، ومازالت تؤثر على الشعر والصيغ الأخرى للفن.

تمثال نصفي حديث لكاتولوس في سيرميونه، حيث كان لأسرة الشاعر ڤيلا.
لا يجب الخلط بينه وبين رومان متعددين يُسمون "كاتولوس Catulus" بحرف "l" واحد لا إثنين، انظر كاتولوس (توضيح).

سما كاتلس وشيشرون بالأدب اللاتيني إلى ذروة مجده؛ وبه انتقلت زعامة الأدب نهائياً من بلاد اليونان إلى روما.

كان كاتولوس من أشهر الشعراء الرومان، وزعيم شعراء التجديد والحداثة في الأدب الروماني. ولد في مدينة فيرونا Verona الإيطالية الواقعة في ولاية غاليا جنوبي الألب Gallia Cisalpina لأسرة ثرية مرموقة. كان والده صديقاً مقرباً ليوليوس قيصر الذي كان يحب الإقامة في بيت كاتولّوس كلما زار المنطقة. يذكر المؤرخ هيرونيموس Hieronymus في حولياته تاريخ مولده عام 87ق.م ووفاته في روما عام 57ق.م وأنه عاش 30سنة، ولكن ثمة إشارات في شعره تدل على أنه كان لايزال على قيد الحياة عام 55ق.م، ولهذا يرجح الباحثون وفاته عام 54ق.م، وفي كل الأحوال فإنه مات في ريعان الشباب. ذهب في مطلع شبابه إلى روما وعاش حياة لاهية في أجوائها الصاخبة، فبدأ يتردد إلى حلقات الأدباء الشباب المترفين من أمثال كائليوس M.Caelius وكالڤوس L.Calvus وكينا H.Cinna، الذين ملّوا الأدب القديم وتقاليد السلف الصارمة وتاقت نفوسهم لأن يعبروا عن عواطف الجيل الجديد في أوزان غنائية وألفاظ رقيقة عذبة على شاكلة شعراء الاسكندرية، وعلى رأسهم كاليماخوس Kallimachos وصافو Sappho اللذين ترجم كاتولّوس بعض أشعارهما إلى اللاتينية، كما كانوا ناقمين على أوضاع عصرهم المليء بالحروب والصراعات السياسية والاجتماعية. وقد أطلق على هذه الحركة الشعرية الرومانية لقب «الشعراء الجدد» (Neoterici باللاتينية وNeoterioi بالإغريقية)، الذين جعلوا شعارهم «الفن للفن»، ورؤيتهم للشعر جمالية في المقام الأول. انغمس أولئك الشباب في حياة الترف والجري وراء إشباع رغباتهم وعواطفهم الجياشة، وكانت معظم أشعارهم تدور حول الحب ومغامرات العشق وتتغنى بكل امرأة تقدم لربات شعرهم حباً سهلاً عابراً.

التقى كاتولّوس إحدى تلك النساء، وكانت سيدة رومانية تدعى كلوديا Clodia، أخت نقيب العامة كلوديوس بولكر Clodius Pulcher وزوجة متِلّوس Q.C.Metellus حاكم بلاد الغال الإيطالية. وقد كانت من أشهر النساء في عصرها تحرراً من الأعراف والتقاليد الرومانية، وكان لها كثير من الأصدقاء والمعجبين والعشاق، افتتن كاتولّوس بها فسحرت لبه وعاش معها قصة حب عنيفة، فكان يدعوها «إلهتي المتألقة» ويتحدث عنها باسم مستعار هو لسبيا Lesbia إحياء لذكرى الشاعرة سافو المولودة في جزيرة لسبوس Lesbos. وكان جمال كلوديا وثقافتها من الشهرة والذيوع بقدر سوء سمعتها. وقد وضع هذا الشاعر الهائم تحت قدميها أجمل ما في اللغة اللاتينية من أشعار غنائية، ولكن حبيبته هذه لم تخلص له واتسعت دائرة عشاقها فأبغضها في الوقت الذي كانت نار الحب تلتهم فؤاده فكانت قصيدته الشهيرة «أكره وأحب» Odi er amo، واستحال هيامه بها حقداً عليها فبدأ يكيل لها التهم ولا يتورع عن ذم محبيها وعشاقها الجدد بأفحش الأقوال.

انتزع كاتولّوس نفسه من المأساة التي عاشها بالسفر والاغتراب فصحب صديقه مِمْيوس C.Memmius عام 57ق.م إلى ولايته بيثينيا Bithynia في غربي آسيا الصغرى على أمل أن يجد المال والعزاء والسلوان. وهناك زار قبر أخ له مات بجوار طروادة ورثاه بأبيات رقيقة أصبحت بعض عبارتها من الأقوال الخالدة. وقد بدّل مقامه في آسيا أحواله وأثّرت أديان الشرق القديمة في نفسه فأطلق في قصيدة «أتيس» Atys وهي من أهم قصائده وأعذبها تسمية «الأم الكبرى» على الإلهة سيبِلِه Cybele ووصف طقوسها وعبّادها وصفاً جميلاً.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خلفية

 
بيثينيا ضمن الامبراطورية الرومانية

لم يغفل الناس الأدب وسط هذا الانقلاب العنيف في أحوال البلاد الاقتصادية ونظم حكمها وأخلاقها، كما أنه لم يكن بمنجاة من حمى ذلك العهد وما فيه من دوافع قوية. من ذلك أن ڤارو Varro ونپوس Nepos قد وجدا السلامة في دراسة الآثار القديمة وفي البحوث التاريخية. وعاد سلست من حروبه ليدافع عن حزبه ويغشى أخلاقه بستار من المقالات الأدبية الرائعة. ونزل قيصر من عليائه على رأس الإمبراطورية ليكتب في النحو ويواصل حروبه في شروحه Commentaries، وحاول كاتلس وكلفس Calvus أن يجدا في الحب وفي الغزل ملجأ يعصمهما من أعاصير السياسة، وفر لكريشيوس وأمثاله من ذوي القلوب الضعيفة والنفوس المرهفة الحس إلى حدائق الفلسفة، وغادر شيشرون من آن إلى آن حرارة السوق العامة ليهدئ أعصابه ويروح عن نفسه بين صفحات الكتب. ولكن أحداً من هؤلاء لم يجد ما ينشده من السلام لأن الحروب والثورات كانت تطغى عليهم جميعاً.


حبيب لزبيا

في عام 57 ق.م. غادر رومه كايوس مميوس Caius Memmius الذي أهدى إليه لكريشيوس قصيدته ليكون بريتوراً أولاً في بثينيا Bithynia، وكان حكم حكام الولايات الرومان قد أخذوا في ذلك الوقت يعتادون عادة جديدة هي أن يصطحب كل منهم عند سفره إلى ولايته أحد المؤلفين. ولم يأخذ هذا الحاكم معه لكريشيوس بل أخذ شاعراً يختلف عنه في كل شيء عدا قوة عاطفته ويدعى كونتس (أوكيوس) فليريوس كاتلس Quintus Valerius Catullus. وكان كونتس هذا قد قدم إلى رومه من مدينة فيرونا موطنه الأصلي، وكان لأبيه فيها من المنزلة ما يجيز له أن يكون ضيفاً كثير التردد على قيصر، وما من شك في كونتس نفسه كان على جانب كبير من الثراء، فقد كانت له بيوت ذات حدائق بالقرب من تيبور Tibur وعلى شواطئ بحيرة گاردا Garda، وكان له بيت جميل في رومه. وهو يقول عن هذه الأملاك إنها كانت مستغرقة في الدين، ولا ينفك يعلن أنه فقير، ولكن الصورة التي نستطيع أن نرسمها له من قصائده هي صورة الرجل المهذب الذي لا يهتم بكسب العيش، ولكنه يمتع نفسه بطيبات الدنيا من غير حساب في صحبة أمثاله المترفين في عاصمة الدولة. وكانت هذه الفئة تضم طائفة من العقول وأبرع الخطباء السياسيين من الشبان أمثال ماركس كثيليوس Marcus Caeliua وهو شريف أصبح فيما بعد شيوعياً، وليسينيوس كلفس Licinius Calvus الشاعر النابه والقانوني الضليع؛ وهلفيوس سنا Helvius Cinna الشاعر الذي كاد الغوغاء من أنصار أنطونيوس يحسبونه أحد قتلة قيصر وينهالون عليه ضرباً حتى يقضي نحبه. وكان هؤلاء يعارضون قيصر ويوجهون له كل ما تسعفهم به عقولهم من نكات لاذعة، وهو لا يعرفون أن ثورتهم الشعرية إنما تعبر عن الثورة التي يعيشون في جرها. وكان هؤلاء جميعاً قد ملوا الأدب القديم، ولم يطيقوا فجاجة نيڤيوس Naevius وإنيوس Ennius وألفاظهما الطنانة المزوقة. وتاقت نفوسهم لأن يغنوا عواطف الشبان في أوزان جديدة غنائية في لفظ عذب رقيق عرف يوماً من الأيام في الإسكندرية أيام كاليماخوس Calimachus ولكن رومه لم تشهد مثله قبل أيامهم هذه. ولم يكونوا راضين عن المبادئ الأخلاقية القديمة وعن تقاليد السلف التي كانت تلقى على أسماعهم في كل حين من أفواه الكبراء المنهوكين. وكانوا ينادون بقدسية الغرائز، وبراءة الشهوات وعظمة التهتك والانغماس في الملاذ، ولم يكونوا هم وكاتلس أسوأ من غيرهم من أدباء الشبان الذين كانوا يعيشون في ذلك الجيل وفي الجيل الذي يليه: من هوراس Horace وأوڤيد Ovid وتيبلس Tibullus وپروپرتيوس Propertius، بل ومن فرجيل الخجول في أيام شبابه، أولئك الذين جعلوا الشعر يدور حول كل امرأة متزوجة أو غير متزوجة، تقدم لربات شعرهم حباً سهلاً عابراً.

 
"كاتولوس في لسبيا"، بريشة السير لورنس ألما-تادما

وكانت كلوديا Clodia أرشق فتاة في هذه الفئة، وهي من سلالة أسرة كلوديوس التي لم تذهب عنها حتى تلك الأيام عظمة الأباطرة . ويؤكد لنا أپوليوس Apeulius(31) أنها هي التي سماها كاتلس باسم لزبيا Lesbia إحياء لذكرى سابفة Sappho التي كان يترجم قصائدها أحياناً، ويحاكيها كثيراً، ويحبها دائماً. ولما جاء كاتلس إلى رومه في الثانية والعشرين من عمره اتخذها صديقة له، بينما كان زوجها حاكماً في بلاد غالة الإيطالية. وقد سحرت لبه من ساعة أن وضعت "قدمها البراقة على عتبة داره التي أبلتها أعتاب الناس من قبل، وكان يدعوها إلهته المتألقة ذات الخطوة الرشيقة". ولا غرابة في أن تفتنه خطاها، فإن مشية المرأة قد تكفي وحدها لتفتن الرجل كما يفتنه صوتها. وقد عطفت عليه فرضيت أن يكون من بين عبادها. ولم يكن في وسع الشاعر الهائم بها أن يضارع في غير ميدان الشعر مواهب منافسه فوضع تحت قدميها أجمل ما في اللغة اللاتينية من القصائد الغنائية، وترجم لها أحسن ترجمة وصفت بها سايفو لجنون المحبين وهو الجنون الذي كان يمتلكه وقتئذ(32). وكتب في الطائر الذي كانت تضمه إلى صدرها أبياتاً تعد من خير ما كتب في وصف الغيرة:

أيها الطائر يا بهجة حبيبتي
التي تلعب معك وتضمك إلى صدرها
والتي تمد لك سبابتها إذا طلبتها،
وتغريك بأن تعضها عضة قوية.
لست أدري أية دعابة لطيفة يلذ لحبيبتي الوضاءة
أن تداعب بها أمنيتي... .

وقد أحس وقتاً ما بأن السعادة قد غمرته، وظل يتردد عليها كل يوم ينشدها قصائده، ونسى كل شيء إلا حبه إياها وافتنانه بها.

أي لزبياي حبيبتي هيا بنا نعيش،

ولا تلق بالاً إلى شيء مما ينطق به العجائز القساة

ونراه حقيراً غير جدير بالاعتبار.

قد تغرب الشموس ثم تعود؛

أما نحن فإذا غربت شمسنا القصيرة الأجل

غلب علينا السبات الطويل في ليلنا الأبدي.

ألا فاعطني ألف قبلة ثم مائة

ثم ألفاً أخرى، ثم مائة ثانية

ثم ألفاً بعدها، ثم مائة

حتى إذا بلغت القبلات آلافاً مؤلفة

تعمدنا الخطأ في العد والحساب لكيلا نعرف نحن عديدها

أو تحسدنا عليه نفس حقيرة

إن عرفت عدد قبلاتنا الكثيرة.

ولسنا نعرف كم من الوقت دامت هذه النشوة؛ وأكبر الظن أنها قد ملت آلافه المؤلفة، فرأت أن تراوح عن نفسها بعد أن خانت زوجها من أجله بأن تستبدل به عاشقاً غيره. واتسعت وقتئذ دائرة عشاقها حتى خالها كاتلس في نوبة من نوبات الجنون "تعانق ثلاثة آلاف زان مرة واحدة"(35). وأبغضها في الوقت الذي كانت فيه نار الحرب تلتهم فؤاده (adi et Amo)(36)، وأبى أن يستمع إلى ما كانت فيه تحدثه به من وفاء وإخلاص، وصور لنا هذا الإباء بالصورة المأثورة عن كيتس Keats:

إن الألفاظ التي تفوه بها المرأة للمحب الواله الجائع،

يجب أن تنقش على صفحة الرياح السافية،

وتحفر على مجاري الماء الدافقة(27).

ولما أصبح الشك اللاذع يقيناً لا مرية فيه، استحال هيامه بها حقداً عليها ورغبة قوية في الانتقام منها، فاتهمها بأنها تسلم نفسها لرواد الحانات، وأخذ يندد بمحبيها الجدد ولا يتورع عن سبهم بأفحش الأقوال وفكر في الانتحار، على حد قوله في شعره.

وقد أظهر في الوقت نفسه عواطف أشرف من هذه وأدل منها على نبله: فقد وجه إلى صديقه مانليوس في يوم عرسه أغنية يقول فيها إنه يحسده على ما يتيحه له زواجه من صحبة طيبة صالحة، وبيت آمن مستقر، ومن متاعب سعيدة هي متاعب الأبوة. ثم انتزع نفسه من مكان مأساته بأن صحب مميوس Memmius إلى بيثينيا Bithynia، ولكنه لم يحقق ما كان يرجوه فيها من استعادة نشاطه وماله. ثم خرج عن طريقه يوماً من الأيام ليبحث عن قبر أخ له مات بجوار طروادة، وادى لهذا الأخ الميت في خشوع مراسم الدفن التي يؤديها الأبناء لآبائهم، ثن أنشد بعدئذ بقليل أبياتاً رقيقة من الشعر أضحت بعض ألفاظها من الأقوال الخالدة:

أيها الأخ العزيز لقد تنقلت في كثير من الدول وجبت البحار.

وجئت لأقدم لك هذا القربان المحزن.

وأهدي إليك آخر ما يهدي إلى الأموات.

فتقبل هذه الهدايا التي تبللها دموع الأخوة؛

ووداعاً يا أخي إلى أبد الدهر.

وبدل مقامه في آسيا حاله، وهدأ من طبعه، وأثرت أديان الشرق القديمة واحتفالاته في هذا المتشكك الذي وصف الموت من قبل بأنه "سبات الليل الأبدي"، فوصف في "أتيس" Atys وهي أعظم قصائده كلها وأعذبها لفظاً وأوضحها تصويراً عبادة شيبيل Cybele وصفاً رائعاً قوياً، وامتلأت نفسه حمية وحماسة وهو يقرأ عويل عبادها الذين يضحون من أجلها برجولتهم، وحزنهم على متع الصبا وأصدقاء الشباب. وقد قص في قصيدته "بليوس وثيتس Peelus and Thetis" قصة بليوس وأردياني Ariadne في شعر سداسي الأوتاد حلو النغم لا يكاد يجاريه شعر فرجيل نفسه. وابتاع بعدئذ في بلده أمستريس Amastris يختاً صغيراً طاف به البحر الأسود وبحر الأرخبيل والبحر الأدرياوي وسار به صعداً في نهر البو Po حتى وصل إلى بحيرة جاردا Garda والى بيته في سرميو Sirmio.

وهنا أخذ يسأل نفسه قائلاً: "وهل ثمة سبيل للفرار من متاعب فوق فرشنا من أن نعود إلى مواطننا الأولى ومعابدنا، وأن نستريح فوق فرشنا المحبوبة؟"(39) إن الناس يبدأون حياتهم بالبحث عن السعادة ثم يقنعون آخر الأمر بالسلام.

إن علمنا بكاتلس لأوفى من علمنا بمعظم شعراء الرومان لأنه يكاد في جميع الأحوال يتخذ من نفسه موضوعاً لشعره؛ وإن هذه الصرخات الغنائية، صرخات الحب والكره، لتكشف عن نفس رحيمة حساسة قادرة على أن تكون ذات عواطف كريمة حتى للأهل والأقارب؛ ولكن الذي لا يسرنا منه أنه يجعل نفسه على الدوام موضوع شعره، ويتعمد الفحش في القول، ويقسو على أعدائه فينشر على الناس أخص خصائصهم، ويشنع على ميلهم للواط، وعلى رائحة أجسامهم النتنة، ويقول عن واحد منهم إنه يغسل أسنانه بالبول متبعاً في ذلك عادة أسبانية قديمة(40)، ويقول عن آخر إنه أبخر إذا فتح فاه مات في ذلك كل من حوله(41). فهو والحالة هذه يتذبذب في غير عناء بين الحب والقذارة، يقبل ويلوط، وينافس مارتيال Martial في قيادة الناس إلى أقذار رومه ومباذلها في أركان شوارعها. ويمثل ما يتصف به معاصره وأبناء طبقته من مزيج بين خشونة البداوة ورقة الحضارة، كأن الرومان المتعلمين مهما برعوا في آداب اليونان لم يستطيعوا قط أن ينسوا الإسطبلات والمعسكرات. ويدافع كاتلس عن نفسه بمثل ما يدافع به مارتيال فيقول إنه لابد له أن يمزج أبياته الشعرية بالأقذار لكي يسترعي بها انتباه مستمعيه.

على أنه قد كفر عن هذه السيئات بما كان يبذل من العناية الفائقة في الوصول بشعره إلى درجة الكمال. ففي أبياته الإحدى عشرية الأوتاد من الجمال الطبيعي غير المتكلف ما تعجزه عنه صنعة هورامس وتكلفه، وما يسمو في بعض الأحيان فوق أناقة فرجيل نفسه، وقد كلفه إخفاء فنه كثيراً من التفنن. وكثيراً ما يشير كاتلس إلى ما كان يعانيه من الجهد المؤلم والعناية الشديدة اللذين جعلا شعره سريع الفهم بين السهولة. وقد يسر له بلوغ هذه الغاية ما كان يعرفه من مفردات اللغة فقد كان يصوغ الألفاظ التي يتداولها الناس شعراً رقيقاً. وقد أغنى الآداب اللاتينية بألفاظ التصغير الرقيقة، كما أغناها بلغة الحانات الدارجة.

وكان يتجنب قلب الألفاظ وتبديل مواضعها، كما كان يتجنب الإبهام والغموض؛ وكانت أبياته سلسة سهلة، خفيفة على السمع، ترحب بها الآذان. وقد عكف على دراسة شعراء الإسكندرية الهلنستيين ، وشعراء أيونيا الأقدمين، وأتقن ما يمتاز به شعر كاليماخوس Callimachus من عبارات سهلة وأوزان متعددة، وما في شعر أرخلوكس Archelochus من قوة واتجاه مباشر نحو الغرض، وما في شعر أناكريون Anacreon من خمريات قوية، وما في شعر صافو من حب ونشوة. والحق أننا إذا أردنا أن نحذر كيف كان أولئك الشعراء يكتبون معظم أشعارهم، فإن علينا أن ندرس كاتلس، فقد درس هذا الشاعر أشعارهم، وأجاد فهم دروسهم إجادة رفعته من مرتبة تلاميذهم حتى أصبح في مرتبتهم. وقد فعل في الشعر اللاتيني ما فعله شيشرون في النثر اللاتيني، تسلمه قوة فجة فسما به حتى أصبح فناً لا يفوقه فيه أحد غير ڤرجيل.

والراجح أن فتيات رومه في عهدها الأول لم يبلغن من الجمال ما بلغته أخواتهن في عهودها المتأخرة واللائى يصفهن كاتلس Catullus وصف الرجل الخبير بأنهن Ianeum Iatusculum Manusque molicellas أي أن لهن "جانبين نحيلين أملسين كالصوف، ويدين صغيرتين ناعمتين". أو لعل الفتيات في العهدين لم يكن بينهن هذا الفرق ولكن الكدح والهم في الأيام الأولى أيام العمل في الحقول كانا يطغيان بعد زمن يسير على جمال المراهقة.

قصيدة زواج پليوس وثتيس

 
أريادنه يكتشفها ديونيسوس على جزيرة ناكسوس، حيث هجرها ثسيوس بعد أن ساعدته على قتل المينوتور. أريادنه متوجة بالنجوم، في اشارة إلى كوكبة الإكليل الشمالي Corona ("التاج").

أما أشهر قصائد كاتولّوس وأطولها (408 بيتاً) وأكثرها صنعة فنية فهي ملحمته عن حفل زواج البطل الأسطوري پليوس Peleus بأميرة ربات البحر ثتيس Thetis التي ضمنها أسطورة أريادنه Ariadne التي هجرها حبيبها البطل ثسيوس Theseus. ويرى النقاد في هذه الملحمة القصيرة تعبيراً عن تجربة كاتولّوس الذاتية وقصة حبه مع لسبيا، أراد بها المقارنة بين الحب السعيد والحب التعيس المنكوب من جهة، وبين الوفاء والخيانة من جهة أخرى، وتعد من أفضل ما كتب الشاعر كما أنها تعبر عن الاتجاه الجديد وفن صناعة الشعر على طريقة مدرسة الاسكندرية. وقد تجسدت في قصائده كل سمات التجديد في الشعر اللاتيني بما في ذلك الموضوعات المفضلة لدى رواد هذه الحركة مثل الحب والصداقة ووصف الطبيعة والهجائيات وأغاني الزفاف والمراثي وأشعار المناسبات وقصص الحب الأسطورية. تبرز في أشعاره سمة الخصوصية والمباشرة وروح الدعابة، وتنم عن ثراء لغوي لاينضب عندما يتناول أرق الأحاسيس وأشد انفعالات السخط والكراهية. وتحفل قصائده بتنوع كبير في بحور الشعر والتركيبات اللغوية المستحدثة وصيغ التصغير والكلمات الإغريقية واللاتينية المستخدمة بناء على قيمتها الموسيقية. ويعد الشاعر أول روماني تتجلى أحداث حياته بقوة ووضوح في أشعاره.

يضم ديوان كاتولّوس مئة وست عشرة قصيدة في ألفين وثلاثمئة بيت، ولايزال الخلاف قائماً بين الباحثين فيما إذا كان هو الذي أصدره بنفسه، أم أنه صدر بعد موته تحت إشراف صديقه كورنليوس نِپوس C.Nepos، الذي أهداه له. وقصائد هذا الديوان متنوعة الأغراض والأوزان وتجمع بين المقطوعة الشعرية القصيرة والقصيدة الملحمية، وقد تطورت هذا الأنواع المختلفة إلى فنون شعرية غنائية مستقلة.

ذكراه

 
Lesbia, 1878 painting by جون راينهارد وگلن inspired by the poems of Catullus

حمل كاتولّوس لقب الشاعر العالم المثقف Poeta doctus وكان له تأثير كبير في هوراتيوس (هوراس) وڤرجيليوس، ويعترف له الشاعر مارتياليس Martialis بأنه أستاذ في الفن.

انظر أيضا

الهامش

  • ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وصلات خارجية

قالب:Catullus