النحت في شبه القارة الهندية

أول ما نعرف من النحت في شبه القارة الهندية كان من حضارة وادي السند (3300–1700 ق.م.)، عُثر عليه في موهنجو-دارو و هرپة في پاكستان الحالية. وكان ضمن هذه المنحوتات الراقصة البرونزية الصغيرة الشهيرة. إلا أن مثل تلك التماثيل البرونزية والحجرية كانت نادرة ويفوقها بشكل هائل التماثيل الخزفية والأختام الحجرية، التي كان معظمها على شكل حيوانات أو آلهة مصوّرة بدقة. بعد انهيار حضارة وادي السند كان هناك سجل ضئيل من المنحوتات حتى بدأ العصر البوذي، عدا كنوز من تماثيل نحاسية لأشخاص من الفترة (المثيرة للجدل لحدٍ ما) حوالي 1500 ق.م. من دايم آباد.[1] ولذلك فإن التقليد الرائع لنحت التماثيل الضخمة الهندية في الصخر يبدو أنه بدأ في وقت متأخر نسبياً، في عهد أسوكا من 270 حتى 232 ق.م.، و أعمدة أشوكا التي نصبها حول الهند، وكانت تحمل مراسيمه ويعلوها منحوتات لحيوانات، معظمهم أسود، وقد بقى منهم ستة.[2] كميات كبيرة من المنحوتات على شخص أشخاص، معظمهم نحت بارز، بقيت من ستوپات الحج البوذي المبكر، فوق كل سانچي؛ وأولئك على الأغلب تطوروا من تقليد استخدم الخشب وأيضاً اعتنق الهندوسية.[3]

ڤشنو برونزي.
Jain figure of Thirthankara Suparshvanath, 14th century, marble
One of the first representations of the Buddha, 1st–2nd century CE, Gandhara

ليس في مقدورنا أن نتعقب مراحل النحت التاريخية في الهند بادئين بالتماثيل الصغرى التي وجدت في "موهنجو- دارو" ومنتهين بعصر "أشوكا" لكن يجوز لنا أن نشك في أن هذه الفجوة التي تعترض تطور تلك المراحل ، ليست فجوة في تقدم الفن نفسه بمقدار ما هي فجوة في علمنا به ؛ وربما أفقرت الغزوات الآرية الهند حيناً من الدهر، فانتكست بفعل الفقر من الحجر إلى الخشب في صناعة تماثيلها ؛ أو ربما كان الآريون أكثر انصرافاً إلى الحروب من أن يجدوا الفرصة للعناية بالفنون ، فأقدم التماثيل الحجرية التي بقيت لنا في الهند لا يرجع إلى عهد أقدم من "أشوكا" لكن هذه التماثيل تدل على مهارة بلغت من الرقي حداً رفيعاً لا يدع لنا مجالاً للشك في أن الفن كان قبل ذلك آخذاً في نموه عدة قرون ؛ وجاءت البوذية فوضعت حوائل معروفة تقوم في وجه التصوير والنحت معاً ، وذلك بمقتها للأوثان وللتصاوير الدنيوية: إن بوذا يحرم "تصاوير الخيال في رسم أشخاص الرجال والنساء".

وبحكم هذا التحريم الذي يوشك أن يكون صادراً من موسى لقى التصوير والنحت من الحوائل في الهند مثل ما لقياه في عهد اليهود ، ومثل ما سيلقيانه بعدئذ في ظل الإسلام ، لكن هذا "التزمت"- فيما يظهر- أخذ يتراخى شيئاً فشيئاً كلما تهاونت البوذية في تشددها وازدادت مشاطرة للروح الدرافيدية التي تميل إلى الرمز والأساطير ، فلما عاد فن النحت إلى الظهور من جديد (حوالي سنة 250 ق.م) في التماثيل الحجرية البارزة القائمة على "السور" الذي يحيط بأكمات المدافن البوذية في "بوذا- جايا" و"بهارهوت" كانت هذه التماثيل أقرب إلى أن تكون جزءاً لا يتجزأ من التصميم المعماري للبناء منها إلى أن تكون فناً مستقلاً مقصوداً لذاته ؛ ولبث الجزء الأكبر من النحت الهندي حتى ختام مراحله التاريخية تابعاً لفن العمارة ، وكان طوال الوقت يؤثر النحت البارز على الحفر ؛ وقد بلغ هذا النحت البارز ذروة رفيعة من الكمال في المعابد الجانتيه في "مأثورة" ، وفي الأضرحة البوذية في "أمارافاتي" و "أجانتا" ؛ ويقول أحد الثقات الراسخين في العلم أن السور المنحوت في "أمارافاتي": "أرق زهرة في النحت الهندي وأوغلها في أسباب الترف".

Marble pillar from Western India, 11th century.
The Sun Temple in Konark

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

العصر اليوناني-البوذي

في ذلك الوقت عينه ، كان نمط آخر من أنماط النحت في سبيله إلى الرقي في إقليم "جاندهارا" الواقع في شمال غربي الهند ؛ وذلك في رعاية الملوك "الكوشيين" ، وهم أبناء أسرة يحيط بها الغموض ، انبثقت بغتةً من الشمال- ومن الجائز أن يكون في أصولها جذور هلينية- فظهر بظهورها ميل نحو إدخال القوالب الفنية اليونانية ، وكانت بوذية "ماهايانا" التي استولت على مجلس "كانِشْكا" هي التي شقت الطريق إلى ذلك الفن اليوناني ، بإلغائها تحريم التصوير والنحت ، فاستطاع بعض المعلمين اليونان أن يوجهوا النحت الهندي وجهة اصطنع فيها لفترة من الزمن وجهاً "هلينيا" طليقاً ، فتحول بوذا إلى ما يشبه أبولو، وأخذ يطمح إلى بلوغ الأولمب ؛ وأصبحنا نرى الثياب تنساب أذيالها على آلهة الهندوس وقديسيهم على نحو ما ترى في نحت "فيدياس" كما نرى تماثيل تصور "بوذيساتوا" التقيّ وهو يصاحب "سيلبني" الطروب المخمور ، ومثلوا مولاهم بوذا وتلاميذه في تماثيل جَمَّلوا أجسادها وكادوا يجعلونها مخنثة الأجزاء ، إذ أخرجوها على غرار نماذج يونانية بشعة تمثل اليونان وهم في مرحلة واقعية تميل بهم نحو الانهيار ؛ ومن ذلك تمثال بوذا في لاهور ، بوذا الذي يتضور جوعاً ، ففي هذا التمثال ترى كل ضلع وكل عصب من أضلاع جسده وأعصابه ، ثم تراهم ركّبوا على هذا الجسد وجه امرأة ، ورُتب شعر الرأس على نحو ما يُرَتب الشعر في رؤوس السيدات ، ولو أنهم جعلوا في ذلك الوجه لحية الرجال ؛ وقد تأثر "يوان شوانج" لهذا الفن الذي يمزج بين اليونانية والبوذية والذي انتقل إلى الصين وكوريا واليابان بفضل "يوان شوانج" هذا وغيره ممن حجوا إلى الهند فيما بعد ؛ لكن هذا الفن لم يكن له إلا قليل الأثر في قوالب النحت وطرائقه في الهند ذاتها ؛ فلما انقضى عهد مدرسة جاندهارا بعد بضعة قرون قضتها في نشاط مزدهر ، عاد الفن الهندي من جديد إلى الحياة في ظل حكام من الهندوس ، واستأنف التقاليد التي خلفها الفنانون الوطنيون في "بهارهوت" و "أمارافاتي" و "مأثورة" ولم ينظر إلا بطرف عينه إلى آثار الفترة اليونانية القصيرة التي ظهرت في جاندهارا.


وازدهر النحت- كما ازدهر كل شيء تقريباً في الهند- تحت حكم أسرة جوبتا ؛ وكانت البوذية عندئذ قد نسيت عداوتها لتصوير الأشخاص ، ونهضت البرهمية وقد تجدد نشاطها ، فشجعت الرمزية وزخرفة الدين بكل أنواع الفنون ؛ فنرى في متحف "مأثورة" تمثالاً حجرياً لبوذا أتقنت صناعته ، بعينين تنمان عن تأمل عميق، وشفتين حساستين ، وجسد بولغ في رشاقته، وقدمين قبيحتين مستقيمتي الخطوط ، وترى في متحف "سارنات" تمثالاً حجرياً آخر لبوذا في جلسة قرفصاء التي كتب لها أن تسود النحت البوذي ، وفي هذا لتمثال تصوير بارع لآثار التأمل الهادئ والرقة القلبية الصادرة عن ورع؛ وفي "كاراتشي" تمثال برونزي صغير لبراهاما، يشبه صورة "فولتير" شبهاً واضحاً.

واذهب حيث شئت في أرجاء الهند، ترى فن النحت في الألف عام التي سبقت قدوم المسلمين ، قد أنتج آيات روائع على الرغم من أن خضوعه لفن العمارة وللدين قد حدد خطاه ، وإن يكن مصدر وحي له في الوقت عينه ، فالتمثال الجميل الذي يصور "فشنو" والذي جاء من "سلطانبور" وتمثال "بادماباني" الذي أجيدت صناعته بأزميل الفنان وتمثال "شيفا" الضخم ذو الوجوه الثلاثة "الذي يسمى عادة تريمورتي" الذي نحت نحتاً عميقاً في كهوف "إلفانتا" والتمثال الحجري الذي تكاد تحسبه من صنع "براكسيتي" والذي يعبده الناس في "نوكاس" باعتباره الإله "روكميني" وشيفا الراقص الرشيق- أوناتاراجا- المصنوع من البرونز بأيدي الصناع الفنانين في تانجور وتمثال الغزال الجميل المنحوت من الحجر ، وفي "مامالابوارم" و "شيفا" الوسيم في "برور"- هذه كلها شواهد على انتشار فن النحت في كل إقليم من أقاليم الهند. واجتازت هذه البواعث نفسها وهذه الأساليب نفسها ، حدود الهند الأصلية حيث كان من أثرها أن أنتجت آيات فنية في تركستان و كمبوديا و جاوه و سيلان وغيرها ؛ ويستطيع طالب الفن أن يجد أمثلة لذلك ، هذا الرأس الحجري- ويظهر أنه رأس غلام- الذي احتفره من رمال خوتان "سير أورل شتاين" وصحبه ورأس بوذا الذي جاء من سيام وتمثال "هاريهارا" في كمبوديا الذي يتميز بدقة تشبه دقة المصريين في تماثيلهم والتماثيل البرونزية الرائعة في جاوه ورأس شيفا الذي جاء من "برامبانام" والذي يشبه الفن في جاندهارا ؛ وتمثال المرأة البالغ حداً بعيداً في جماله واسمه "براجناباراميتا" وهو الآن في متحف ليدن ؛ وتمثال "بوذيساتاوا" الذي بلغ ذروة الكمال وهو في متحف "جلبتوثك" في "كوبنهاجن" وتمثال بوذا الهادئ القوي وتمثال "أفالوكتشفارا" (ومعناها السيد الذي يصوب نظره إلى الناس مستصغراً مشفقاً) وهو تمثال أجيدت صناعته بالأزميل وكلا هذين الأخيرين من المعبد العظيم في جاوه الذي يسمى "بوروبودور"

وكذلك تمثال بوذا الضخم الغليظ والعتبة المرمرية البديعة في بناء "آنورا ذابورا" في سيلان ؛ هذه القائمة المملة ، التي ذكرنا فيها آثاراً فنية لا بد أن تكون قد كلفت دماء كثير من الرجال في عدة قرون من الزمان ، تدل بعض الدلالة على أثر العبقرية الهندية في مستعمرات الهند الثقافية. إنه ليتعذر علينا للوهلة الأولى أن نقدر هذا النحت ؛ فليس يستطيع أحد من الناس أن يطرح وراء ظهره بيئته الخاصة حين يرتحل في غير بلاده إلا ذو العقل العميق المتواضع ؛ إنه لا مناص لنا من أن ننقلب هنوداً أو أبناء هذا البلد أو ذاك مما أخذ بزعامة الهند الثقافية ، لنفهم الرمزية الكامنة في هذه التماثيل ، وندرك ما تدل عليه هذه الأذرع والسيقان الكثيرة من وظائف وقوى خارقة ، ونسيغ الواقعية البشعة التي تمثلها هذه التماثيل الشاطحة بخيالها ، المعبرة عن رأي الهندوس في القوى الخارقة للحدود الطبيعية ، التي تبدع في خلقها بما يجاوز حدود العقل ، وتخصب إخصاباً يجاوز حدود العقل ، وتخرب تخريباً يجاوز حدود العقل ، إنه ليروعنا أن نرى كل شخص في قرى الهند نحيل الجسم ، بينما نرى كل شخص في تماثيل الهند بديناً ، لأننا ننسى أن التماثيل تصور الآلهة قبل كل شيء ، والآلهة هم الذين يتلقون زبدة ما تثمره البلاد من خيرات ؛ وإن أنفسنا لتطرب حين نعلم أن الهنود صبغوا تماثيلهم بالألوان ، ومن ثم ينكشف لنا الغطاء عن حقيقة نسهو عن إدراكها ، وهي أن اليونان فعلوا ذلك أيضاً ، وأن الجلال الذي في آلهة فيديا يرجع بعضه إلى زوال الصبغة عن تماثيلهم زوالاً جاء عرضاً ؛ وإنه كذلك ليسوءنا أن نرى قلة تماثيل النساء قلة نسبية في معارض الفن الهندي ، ونرثى لإذلال النساء الذي قد تدل عليه هذه الظاهرة ، ولا نذكر أبداً أن مذهب العرى في المرأة ليس أساساً لفن النحت يستحيل الاستغناء عن وجوده ، وإن أعمق جمال للمرأة قد يتبدى في الأمومة أكثر مما يتبدى في الشباب، قد تدل عليه "ديميتر" أكثر مما تدل عليه "أفروديت" ؛ أو قد ننسى أن النحات لم ينحت ما تتعلق به أحلامه بقدر ما نحت ما أذن به الكهنة ، وأن كل فن في الهند كان يتبع الدين أكثر مما يتبع الفن نفسه ، إذ كان خادماً للاهوت أو قد نفسر بالجد ما لم يقصد به النحات إلى الجد ، وإنما قصد به تصويراً كاريكاتورياً أو فكاهة أو بشائع يخيف بها الأرواح الشريرة فيطردها ، فإذا ما رأينا أنفسنا نزور عنها في امتعاض فقد أقمنا بذلك الدليل على تأديتها لما أريد لها أن تؤديه. ومع ذلك فلم يبلغ فن النحت في الهند كل ما بلغه أدبها من رشاقة ، أو ما بلغه فن العمارة فيها من فخامة ، أو ما بلغته فلسفتها من عمق ؛ فكان أول ما صوره النحت في الهند هو مكنون عقائدها الدينية على خلطه واضطرابه ، ولئن بزَّت الهند بفن النحت فيها نظائره في الصين واليابان ، إلا أنها لم تبلغ قط مستوى التماثيل المصرية في برود كمالها ، ولا مستوى التماثيل المرمرية اليونانية في جمالها الحي المغري ، وإذا أردنا أن نقف من فن النحت الهندي عند مجرد الفهم لما ينطوي عليه من مزاعم ، كان لا مندوحة لنا عن استعادة الشعور بالتقوى في قلوبنا ، ذلك الشعور الذي ساد في العصور الوسطى بجده وإيمانه ، والحق أننا نسرف فيما نطالب به فن النحت أو فن التصوير في الهند ، فترانا نحكم عليهما كما لو كان في تلك البلاد- كما هما في بلادنا- فنين مستقلاً أحدهما عن الآخر ، مع أن حقيقة الأمر هي إننا فصلناهما لتسهل دراستهما حسب ما جرت به التقاليد في تقسيم الفنون أقساماً مختلفة الأسماء مختلفة المعايير ، فلو استطعنا أن ننظر إليهما كما هما في رأي الهندي ، أي على اعتبار أنهما جزآن من عدة أجزاء يتألف منها فن العمارة عندهم ، الذي لا يفوقهم فيه شعب آخر ، كان منا بمثابة البداية المتواضعة التي قد تؤدي بنا إلى فهم الفن الهندي.


انظر أيضاً


Gallery

Notes

  1. ^ Harle, 17–20
  2. ^ Harle, 22–24
  3. ^ Harle, 26–38

الهامش

  • Boardman, John ed., The Oxford History of Classical Art, 1993, OUP, ISBN 0198143869
  • Harle, J.C., The Art and Architecture of the Indian Subcontinent, 2nd edn. 1994, Yale University Press Pelican History of Art, ISBN 0300062176
  • Paine, Robert Treat, in: Paine, R. T. & Soper A, The Art and Architecture of Japan, 3rd ed 1981, Yale University Press Pelican History of Art, ISBN 0140561080
  • Sickman, Laurence, in: Sickman L & Soper A, The Art and Architecture of China, Pelican History of Art, 3rd ed 1971, Penguin (now Yale History of Art), LOC 70-125675

للاستزادة

  • Welch, Stuart Cary (1985). India: art and culture, 1300-1900. New York: The Metropolitan Museum of Art. ISBN 9780944142134. {{cite book}}: External link in |title= (help)