المؤتمر البرلماني العربي 1938

المؤتمر البرلماني العربي انعقد في 1938 في القاهرة بدعوة من محمد علي علوبة باشا ردا على تصاعد خطوات إنشاء دولة يهودية في فلسطين وآخرها تشكيل الحكومة البريطانية، في 4 يناير 1938، مفوضية وودهيد لبحث الأوجه العملية لتقسيم فلسطين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خلفية

بين يومي 7 و11 أكتوبر عام 1938، وبعد تطورات جسيمة عرفتها القضية الفلسطينية خلال العامين السابقين، انعقد في القاهرة المؤتمر البرلماني العربي الذي دعت إليه' اللجنة العربية المصرية للدفاع عن فلسطين'، وهي اللجنة التي تكونت برئاسة محمد علي علوبة باشا، بعد الأحداث المتلاحقة التي شهدها هذا القطر المتاخم لمصر، بدءا مما جري خلال عام 1936 من ثورة عربية، ومرورا بقدوم اللجنة الملكية التي عرفت باسم 'لجنة بيل'، وانتهاء بالقرار الذي أصدرته وزارة المستعمرات البريطانية والقاضي بطرح فكرة تقسيم فلسطين، والتي جاءت علي شكل خطاب من المستر أورمسبي جور إلي المندوب السامي في فلسطين. في عددها الصادر يوم 5 يناير عام 1938 نشرت الأهرام ترجمة لهذا الخطاب الذي صدر في' كتاب أبيض' والذي أقر بفكرة التقسيم الثلاثي لفلسطين، منطقة عربية وأخري يهودية ومنطقة جديدة توضع تحت الانتداب البريطاني، علي أن تشكل لجنة تقترح تخوما للمنطقتين العربية واليهودية والنقط التي ستوضع تحت الانتداب البريطاني علي أن يكون موجودا أقل ما يمكن من العرب في المنطقة اليهودية والعكس.

بعد صدور هذا الكتاب بدأ الحديث عن الدولة اليهودية المقبلة وترشيح الدكتور حاييم وايزمان لرئاستها، الأمر الذي لا بد أن يكون قد أقلق المصريين أو قطاعا عريضا منهم، فلم تعد القضية صراعا بين العرب واليهود في فلسطين وإنما تحولت إلي مشروع سياسي يمكن أن يؤدي في نهاية الأمر إلي وجود' دولة غريبة' علي الحدود المصرية بكل ما يمثله ذلك من مخاطر.

عبر عن ذلك أعضاء البرلمان المصري الذين رأوا أن الثورات التي قامت في فلسطين كانت بالدرجة الأولي بسبب تصريح بلفور' حتي وصل بها الحال إلي حد تقسيمها إلي عدة مناطق في إحداها دولة صهيونية مما يهدد كيان مصر بالخطر الشديد من جراء قيام تلك الدولة سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الحربية'، ورأي النواب أن السياسة البريطانية التي ترمي إلي تهويد فلسطين تحرج مصر كحليفة لبريطانيا، وكقطر عربي في نفس الوقت.

وقد رصدت الدكتورة عايدة سليمة في كتابها تحت عنوان' مصر والقضية الفلسطينية' تفاصيل كثيرة عن رد فعل أعضاء مجلسي النواب والشيوخ الذين أعربوا عن قلقهم البالغ من الأوضاع في القطر العربي الشقيق. النائب عبد الحميد سعيد، من نواب الحزب الوطني ورئيس جمعية الشبان المسلمين، يحذر من التقسيم وما في ذلك من' خطر علي مصر نفسها والقضاء علي مستقبل فلسطين الإسلامية العربية وعلي ما تحويه من الأماكن المقدسة.

ومصر تعتبر لدي الدول العربية الإسلامية جميعا قائدة النهضة العامة الإسلامية وحامية الأماكن المقدسة وينبغي أن تكون أسبق الحكومات جميعا في منع تلك السياسة التي تضر بها وبمصالحها ضررا بالغا'. النائب محمود عبد اللطيف وجه سؤالا للحكومة عما سوف تفعله تجاه مشروع التقسيم، وهل احتجت عليه أم لا؟

في مجلس الشيوخ وجه عبد الستار الباسل وحسين الجندي سؤالين عن نفس الموضوع، كان نص سؤال الأول أنه' علي مقربة من الحدود المصرية مذابح بشرية تقوم ضد عرب فلسطين ألا يري رئيس الوزراء أن علي مصر واجبا بصفتها المملكة العربية الإسلامية المجاورة لهؤلاء القوم، والتي تربطها دائما بفلسطين روابط تاريخية واجتماعية وثقافية، واجبا لهؤلاء الجيران؟'.

في تلك الظروف نبتت فكرة تشكيل' اللجنة البرلمانية المصرية للدفاع عن فلسطين' حين دعا محمد علي علوبة باشا عددا كبيرا من النواب والشيوخ، علي اختلاف انتماءاتهم الحزبية، إلي اجتماع في داره شكلوا فيه اللجنة واختاروا الباشا رئيسا لها.

ونتوقف قليلا هنا بحكم ما كان للرجل من دور في القضية الفلسطينية لنطالع ما جاء عنه في الوثائق البريطانية. مواليد عام 1877 ذكي ومحامي قدير، بدأ في الحزب الوطني ثم انضم إلي الوفد وتركه عام 1921 ثم انضم للأحرار الدستوريين وكان من قياداتهم البارزة حتي استقال من هذا الحزب عام 1934 وعاد ليصبح من عناصر الحزب الوطني المتطرفة!

تضيف الوثيقة أنه كان وزيرا للأوقاف في حكومة زيور بين مارس وسبتمبر 1925 واستقال مع زملائه من الأحرار الدستوريين احتجاجا علي استبعاد عبد العزيز فهمي وزير الحقانية إثر أزمة كتاب 'الإسلام وأصول الحكم'، وشن في عام 1928 حملة لإلغاء الأوقاف الخاصة، وقد بدأ منذ عام 1929 في الاهتمام بالقضايا الإسلامية وأصبح عضوا في اللجنة التنفيذية الدائمة للمؤتمر الإسلامي، وقام ممثلا له بجولة في الهند في صيف عام 1933، وقد تولي وزارة المعارف في وزارة علي ماهر بين يناير ومايو 1936 وأصبح عضوا في مجلس الشيوخ في أعقاب ذلك، ويبدو حاليا (1937) أنه علي علاقة وثيقة بالحزب الوطني ومصر الفتاة وغيرهما من الجماعات المتطرفة.

ونعود إلي المهتمين بالقضية الفلسطينية في مصر الذين زاد من قلقهم ما تردد عن مشروعات لبعض الدول العربية لاستثمار الموقف القائم لصالحها كان منها ما نشرته الأهرام في عددها الصادر يوم 25 يناير عام 1938 من أن نوري السعيد باشا يعد مشروعا يرمي إلي توحيد فلسطين وشرق الأردن مع العراق' علي أساس السماح بهجرة مليوني يهودي إلي هذه الأقطار بعد التوحيد، وقد كان لهذا النبأ دوي كبير في الأوساط السياسية' علي حد قول جريدتنا.

وعلي الرغم من إنكار توفيق السويدي وزير خارجية العراق لهذا المشروع إلا أن كتابات الصحف الصادرة في بغداد، والمعروفة بعلاقتها بنوري السعيد أكدته. جريدة' البلاد' عزته إلي' المغفور له الملك فيصل ودعت إلي الاهتمام به'، أما رأي جريدة الزمان فهو أن المشروع ذو شقين: الأول يرمي إلي توحيد فلسطين وشرق الأردن مع العراق. والثاني يرمي إلي إفساح المجال لهجرة مليوني يهودي، ورحبت بالشق الأول إلا أنها أنكرت الشق الثاني واعتبرته خطرا عظيما!

عبر عن هذا القلق الاحتجاج الذي بعث به رهط من النواب المصريين إلي السفير البريطاني في العاصمة المصرية كان مما جاء فيه:' إن الشعب العربي الفلسطيني الذي لم يدخر وسعا في إقامة الأدلة علي رغبته في الاحتفاظ بصداقة بريطانيا العظمي أصبح عرضة في السنين الأخيرة لأخطار محققة علي كيانه وقوميته بسبب تلك السياسة التي ثبت فسادها باعتراف الحكومة البريطانية نفسها'.

وناشد المحتجون بريطانيا أن تتوقف عن نفي زعماء البلاد وتشريدهم، والقبض علي كثير من الوجهاء بما فيهم قضاة الشرع الشريف ورجال الدين,' واتخاذ التدابير للقضاء علي هذا الشعب العربي الذي لا ذنب له إلا الدفاع عن وطنه المهدد وحقه في الحياة الحرة الشريفة'.

وفي هذه الظروف الحرجة شرعت' اللجنة المصرية البرلمانية للدفاع عن فلسطين' برئاسة محمد علي علوبة باشا في الدعوة لعقد مؤتمر برلماني عربي.

أول الأخبار عن وصول دعوة علوبة باشا جاءت من مراسل الأهرام الخاص في بيروت، حين صرح رئيس مجلس النواب اللبناني، بترو طراد، في 20 يوليو 1938 أنه وصلته الدعوة للاشتراك في المؤتمر البرلماني العربي' لمقاومة مطامع الصهيونية في فلسطين والدفاع عن حقوق العرب'، وهو وإن رحب بالدعوة غير أنه تحفظ عليها فيما جاء في قوله أنه يري الواجب يفرض عليه تأييد قضية عرب فلسطين محافظة علي صلة الأخوة واللغة والجوار' غير أني لا أري أن يزج لبنان نفسه دون روية في مشكلة فلسطين المعقدة'. إلا أنه تم حل المشكلة حين اجتمع النواب اللبنانيون بناء علي دعوة رئيس المجلس، وبعد أن أعلنوا عن تأييدهم للجهود التي تبذل في سبيل إنقاذ فلسطين العربية، قرروا الاعتذار عن حضور المؤتمر رسميا' بسبب عطلة البرلمان، وترك الخيار للنواب الذين يريدون حضوره بصفة شخصية'.

في بغداد اتصل مولود باشا مخلص رئيس مجلس النواب بأعضاء المجلس' وبحث معهم مسألة المؤتمر البرلماني العربي الذي تقرر عقده في إحدي العواصم العربية للدفاع عن قضية فلسطين'، ولم يعين ماهية العاصمة(!). وتوجه بعد ذلك إلي دمشق ليبحث الموضوع مع رئيس مجلس النواب السوري، وتعلق جريدتنا علي ذلك بأنه قد تم توجيه الدعوة إلي جميع رؤساء المجالس النيابية وأعضائها في الأقطار العربية' أما في البلاد التي لا يوجد فيها مجالس نيابية فقد دعيت فيها الشخصيات الكبيرة.

في القاهرة لم يكتف محمد علي علوبة باشا بالدعوات الخاصة وإنما وجه' نداء إلي العالم العربي والإسلامي' نشرته الأهرام في أول أغسطس عام 1938، استعرض فيه أولا تطورات الأحداث في فلسطين خلال العامين السابقين وتحدث عن الدعوة التي وجهها للهيئات النيابية في سائر الأقطار وأن جماعة من القادة والمفكرين في كثير من البلاد قد اتفقوا أن يكون عقد المؤتمر في القاهرة، وأن تكون حفلة الافتتاح يوم الجمعة 12 من شعبان سنة 1257 (7 أكتوبر 1938) وأن تعقد الاجتماعات في الأيام التالية.

وأنهي علوبة باشا نداءه بأن توجه برجاء إلي' كل ذي ضمير حي، وغيرة صادقة، من العرب والمسلمين، من جميع الأقطار العربية والإسلامية أن يكتب إلي سكرتير المؤتمر بمكتب علوبة باشا بالقاهرة بما يعن له من فكرة وما يدور بخاطره من رأي حول هذا المؤتمر'.

في تلك الأثناء تلقي رئيس' اللجنة العربية المصرية للدفاع عن فلسطين' كتابين; أحدهما من عبد العزيز بن سعود ملك الحجاز يشكر له ولأعضاء اللجنة غيرتهم' ويسأل الله أن يوفق الجميع لما فيه خير الإسلام والمسلمين، وأن ينجي فلسطين من محنتها الحاضرة'، والآخر من وزير الخارجية في مملكة اليمن يشكر له فيها اهتمامه بالشؤون العربية والمسائل القومية، ويشاطر اللجنة فيما اتخذته من قرارات، راجيا أن يكون لها صداها المطلوب'.


في يوم 2 سبتمبر 1938، وقبل الموعد المحدد لعقد المؤتمر بأكثر من شهر، نشرت سكرتارية المؤتمر قائمة بالردود التي وصلتها: من العراق: الملك غازي ورئيس مجلس النواب ورئيس لجنة الدفاع عن فلسطين، من الحجاز: الملك عبد العزيز بن سعود ورئيس مجلس الشوري، من اليمن: الإمام يحيي حميد الدين ووزير الخارجية وأمير القصر العالي، من سوريا: رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس اللجنة البرلمانية للدفاع عن فلسطين، ورئيس المكتب القومي، من لبنان: رئيس مجلس النواب، من شرق الأردن: الأمير عبد الله بن الحسين، من الجزائر: صاحب السماحة الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء.

من غير العالم العربي جاءت عدة ردود; من الهند: السير محمد يعقوب والسيد محمد علي جناح رئيس الحزب الإسلامي والسيدين عبد الرحمن الصديقي ومظهر الدين صاحب، من يوغوسلافيا: رئيس الجماعة الإسلامية فهيم بك سياهو، من أمريكا: الدكتور فؤاد شطارة والسيد حبيب إبراهيم.

بدأت معالم الحضور تتضح أكثر مع الوقت، فمن لبنان تقرر أن يقصد عشرة من أعضاء مجلس النواب المؤتمر، كان منهم عدد من الشخصيات المعروفة: عبد الله اليافي، جبران تويني وخليل أبو جودة، وقد عقدوا عدة اجتماعات قبل السفر' لتمثيل لبنان خير تمثيل'. ومن فلسطين تقرر حضور المفتي الأكبر وعوني عبد الهادي بك، وعزة دروزة. من سوريا: وفد كبير علي رأسه شكري القوتلي وصبري العسلي ومكرم الأتاسي، ما لم يكن متوقعا الوفد اليمني، فقد بعث الإمام يحيي لابنه سيف الإسلام الذي كان موجودا بطوكيو أن يتوجه منها إلي القاهرة، هذا فضلا عن الأمير عبد الله بن الوزير أمير الحديدة.

وبينما تصل أسماء أعضاء الوفود تألفت في القاهرة لجنة عليا للإشراف علي وسائل تنظيم المؤتمر، واختيرت سراي آل لطف الله بالجزيرة لتكون مقرا لافتتاح المؤتمر، الذي تقرر تحويله إلي مظاهرة سياسية فقد أرسلت بطاقات الدعوة لخمسة عشر ألف شخصية، فقد وجهت فضلا عن أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب إلي' الأمراء والعظماء والأعيان والوجهاء ورجال العلم والأدب'.

في بورسعيد قبع مراسل الأهرام الخاص ينتظر وصول الوفود، وكان أولها الوفد الهندي الذي وصل علي الباخرة فيكتوريا وضم مفتي أعظم الهند، ورئيس جمعية العلماء وسكرتيرها، وسكرتير جمعية الخلافة، هذا فضلا عن بعض الصحفيين، تبعه الوفد السوري الذي وصل علي متن الباخرة بروفيدانس، ومعه الوفد اللبناني وبصحبتهم القنصل المصري في بيروت.

وفي مطار ألماظة قبع مراسل آخر لجريدتنا ينتظر وصول الوفود القادمة بالطائرة، وكان منها الوفد العراقي الذي ترأسه رئيس مجلس النواب نفسه، وفي الإسكندرية مراسل ثالث لاستقبال الوفود القادمة من المغرب، وكان أول الواصلين منه عبد الخالق الطريس رئيس حزب الإصلاح المغربي.

كان آخر الأعمال التي قام بها علوبة باشا قبيل انعقاد المؤتمر بسويعات أن وجه نداء إلي الشيوخ والنواب المصريين طالبا منه ألا يخذلوه، وأن يقبلوا علي الحضور وأنهاه بقوله' إذا كان الهندي واليوغوسلافي والعراقي والمغربي وغيرهم يتحملون وعثاء السفر وغربة الوطن. فإن المصري وهو بجنبات داره يجب ألا يتواني في أن يخطو بضع خطوات لحضور المؤتمر'!!

وقد انضمت إلي علوبة باشا بعض الجماعات في توجيه النداءات لحضور المؤتمر، كان منها جماعة 'الإخوان المسلمين'، التي كانت قد أسفرت عن وجهها السياسي خلال ذلك العام 1938 والتي أنهت نداءها بأن الحضور 'وفاء لحق القربي والجوار الذي يربط فلسطين بمصر'، واللجنة التنفيذية لجماعة دار العلوم والمدارس الحرة التي قررت دعوة جميع الخريجين للاشتراك في المؤتمر، وانتظر الجميع يوم الجمعة7 أكتوبر.


المؤتمر

صباح ذلك اليوم طلعت الأهرام علي قرائها وقد خصصت في صفحتها التاسعة مساحة معتبرة لأخبار المؤتمر، كان أولها تكريم رؤساء الوفود في دار رئيس مجلس النواب الدكتور محمد بهي الدين بركات باشا، وإعداد ميدالية تذكارية خاصة تمثل في رسمها البلاد العربية والإسلامية مجتمعة وقد كتب عليها اسم المؤتمر وتاريخ انعقاده، وأنه قد تم تأليف لجان المؤتمر; اللجنة التنفيذية، لجنة لدراسة المقترحات. في نفس الوقت تم إعداد مكان الاجتماع في سراي آل لطف الله

وأقيم أمامها سرادق فسيح خصص لحاملي البطاقات الصفراء من المدعوين.

تحت عنوان:' يوم فلسطين- حفلة افتتاح المؤتمر البرلماني للبلاد العربية والإسلامية للدفاع عن فلسطين' نشرت جريدتنا في اليوم التالي تفاصيل الاحتفال.. وكان أولها ما بدد مخاوف علوبة باشا من عدم إقبال المصريين' فقد بكرت جماهير المدعوين إلي الذهاب للسرادق حتي غص بالوافدين في مقدمتهم الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفي المراغي شيخ الأزهر، تبعه فريق كبير من النواب والشيوخ، ورفعت في جوانب المكان أعلام الدول العربية والإسلامية، وصفت فوق منصة الرئاسة مقاعد لرؤساء الوفود'.

وحدث ما يلفت النظر في هذه الحفلة، ففضلا عن تصدر صورة الملك فاروق لمنصة الرئاسة فقد تعالت الهتافات بحياته بصفته 'أمير المؤمنين' فانطلقت الأكف إذ ذاك بتصفيق حاد طويل اشتركت فيه جميع الوفود الممثلة في المؤتمر'. ونري أن ما جري كان يلبي أملا أراد فاروق أن يحققه بعد أن عجز سلفه عن ذلك. أن يكون خليفة للمسلمين ويستخدم الدين لتوطيد حكمه الأوتوقراطي، وهو الأمر الذي كان مثار نزاع بينه وبين الحكومة الوفدية خلال العام السابق عندما أراد أن يقيم حفل ديني بمناسبة تتويجه، وحال النحاس وزملاؤه بينه وبين تحقيق هذه الرغبة.

ألقيت في الحفلة كلمات من رؤساء الوفود بدأها علوبة باشا الذي استعرض في خطبته تطورات القضية الفلسطينية منبها إلي خطورة الوضع القائم، فقد' كان عدد اليهود في فلسطين سنة 1915 حوالي 46 ألفا، فوصل الآن إلي أكثر من أربعمائة ألف، بينما عدد العرب من مسيحيين ومسلمين 950 ألفا. وكان اليهود قبل الحرب يملكون أكثر من مائة ألف دونم فإذا هم يملكون في سنة 1936 مليونا وأربعماية اثنين وثلاثين دونم'.

تبعه كلمات كل من ممثل العراق التي ألقاها رئيس مجلس النواب مولود مخلص باشا، وسوريا التي ألقاها فارس خوري بك، ولبنان وقد ألقاها النائب خليل أبو جودة، غير أن ممثلي الهند ألقوا ثلاث خطب تعبيرا عن الجماعات التي يمثلونها، وألقي رئيس الوفد اليوغوسلافي، وهو عضو مجلس الشيوخ في بلاده كلمة قصيرة، وهو ما حدث من كل من مندوبي اليمن والصين وفلسطين.

مما تقرر في هذه الحفلة أيضا أن تكون رئاسة المؤتمر بالتناوب بين رؤساء الوفود، كما تقرر أن تقام جلساته في نفس السراي علي أن يقتصر الحضور علي أعضاء الوفود العربية والإسلامية والشيوخ والنواب المصريين ومندوبي الصحف الذين يحملون بطاقات دعوة.

في صباح اليوم التالي 8 أكتوبر بدأ المؤتمر في عقد جلساته، وبعد تشكيل لجنتي التنفيذ والمقترحات بدأ كل وفد في تقديم مقترحاته، وكانت البداية للوفد السوري الذي اشترك معه الوفد الفلسطيني في وضع مقترحاتهما والتي كانت: المناداة بعودة وحدة القطر السوري، الذي يضم مع سوريا كلا من لبنان وفلسطين، بحكم أنه ظل تحت الحكم العثماني يشكل وحدة اقتصادية وقومية وتاريخية. المقترح الثاني: اعتبار وعد بلفور باطلا من أساسه' وملغي بحكم المادة 20 من ميثاق عصبة الأمم'. إدانة سياسة الانتداب البريطاني التي' لا تأتلف مع صيانة حقوق الشعب وكرامته.رفض استمرار الهجرة التي لا تتوافق مع مصلحة أهالي البلاد الذين' يخشون مزاحمة هؤلاء الدخلاء لهم وانتزاع حقوقهم منهم'. وأخيرا رفض مشروع التقسيم لاستحالة' الحياة المشتركة بين الشعب الأصيل والشعب الدخيل'!!

استغرقت مناقشة تلك المقترحات جلسات اليوم الأول بأكملها ويبدو أنها قد ذهبت بعيدا إلي حد أقلق بعض أعضاء الوفد الفلسطيني الذين رأوا أنه ليس من الحكمة إصدار قرارات مستحيلة التطبيق، وطالبوا بإحالة المقترحات أولا للجنة المختصة التي تقوم ببحثها في جو هادئ' حتي لا يكون ثمة مجال للتشويش علي أعمال المؤتمر'.

في الجلسة الثانية تم طرح ما بحثته لجنة المقترحات والتي قدمت دراسة وافية عن وعد بلفور خلصت فيها إلي' إثبات بطلان وعد بلفور بشأن وطن قومي يهودي في فلسطين، وبطلان كل ما ترتب عليه من تصرفات كانت سببا في تفاقم المشكلة الفلسطينية'.

في الجلسة الثالثة ألقي علوبة باشا التقرير الذي أعده بالاشتراك مع السيد عوني عبد الهادي وقد تضمن الأدلة والحجج والأسانيد التي تثبت حق فلسطين في قضيتها وبطلان وعد بلفور وعدم تقيد الإنجليز به، كما تناول مسألة الهجرة الصهيونية بالتحليل الدقيق، وبين الأضرار التي تترتب علي استمرارها، والمشاكل التي أوجدتها، سواء في السياسة، وفي الاقتصاد، وفي الاجتماع.

المقررات

في يوم الثلاثاء 11 أكتوبر 1938 انعقدت الجلسة الختامية حيث ألقي رئيس الوفد المصري تقرير اللجنة التي كان قد ألفها المؤتمر لبحث جميع الاقتراحات التي قدمها الأعضاء، وقد تضمن عرضا تاريخيا طويلا للقضية الفلسطينية ثم أعلن قرارات المؤتمر التي جاءت علي النحو التالي:

1- اعتبار تصريح بلفور باطلا من أساسه ولا قيمة له في نظر العرب والمسلمين.
2- ضرورة منع هجرة اليهود لفلسطين من الآن منعا باتا.
3- رفض تقسيم فلسطين علي أي نحو كان والتمسك ببقائها قطرا عربيا.
4- ضرورة إنشاء حكومة وطنية دستورية بمجلس نيابي منتخب بالتمثيل النسبي من العرب واليهود وعقد معاهدة تحالف ومودة بين إنجلترا وفلسطين ينتهي بها الانتداب.
5- العفو العام الشامل عن المتهمين والمحكوم عليهم في حوادث الثورة الفلسطينية وإطلاق سراح المعتقلين والمسجونين وإعادة جميع المبعدين والمنفيين السياسيين.
6- حث ملوك وحكومات الأمم العربية والإسلامية وشعوبها علي العمل علي تنفيذ هذه القرارات بكافة الوسائل الممكنة.

القرار الأخير كان بتشكيل لجنة برئاسة علوبة باشا تتكون من تسعة أعضاء أربعة منهم مصريون يكون مقرها القاهرة لتتابع تنفيذ القرارات التي توصل إليها المؤتمر.

تقييم

وقد تضاربت الآراء حول نجاح المؤتمر بعد ذلك، فبينما أكدت الصحف الإنجليزية علي فشله مستدلة علي ذلك بعدم حضور عدد كاف من أعضاء البرلمان المصري لاجتماعاته، فإن الصحف العربية، علي رأسها الأهرام، قد رأت أنه نجح نجاحا عظيما، ولكن التاريخ يقول بغير ذلك!

المصادر