العلاقات الإثيوپية الإيطالية

العلاقات الإثيوپية الإيطالية تشير إلى العلاقات الحالية والتاريخية بين إثيوپيا وإيطاليا.

العلاقات الإثيوپية الإيطالية
Map indicating locations of Ethiopia and Italy

إثيوپيا

إيطاليا


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

موقف مصر من تدهور العلاقات الايطالية الإثيوپية

بالرغم من هزيمة الايطاليين من الإثيوپيين في معركة عدوة سنة 1896 ، فان ايطاليا ظلت ترنو ببصرها الى احتلال إثيوپيا ، وزادت رغبتها هذه عندما وصل الفاشيست الى الحكم في ايطاليا. وبدت النذر الأولى لهذا الاحتلال في حادثة بئر وال وال، وتتلخص في أن البعثة الايطالية الإثيوپية لتعيين الحدود بين منطقة الأوجادين والصومال البريطاني، بعد أن انتهت مهمتها وأخذت طريقها في العودة نحو هرر للوصول الى ديرداوا لركوب القطار الى أديس أبابا وعند منطقة بئر وال وال، وتقع على بعد 60 ميلا من الحدود الإثيوپية والصومال الايطالي وداخل إثيوپيا، شاهدت كتيبة ايطالية معسكرة فأمرها رئيس الفرقة الإثيوپية المرافقة للبعثة، بالرحيل عن الأراضي الإثيوپية، وسرعان ما اصطدمت القوتان، وبالرغم من أن هذه المسألة كان يمكن حلها وديان فان ايطاليا رفضت، وفشلت جميع المحاولات لوقف تدهور العلاقات بين البلدين مما أدى في النهاية الى قيام الحرب بينهما، اذ أن ايطاليا انتظرت حتى ينتهي موسم الأمطار في اكتوبر 935 وبدأت حربها في الثاني من هذا الشهر (250).

وكانت بريطانيا بالرغم من أنها لم تتردد في تسوية الأمر سلميا بين ايطاليا وإثيوپيا، تقف في وجه الأطماع الايطالية وتساند إثيوپيا (251). وازاء هذه المحاولات السلمية وارتباط مصر الوثيق بايطاليا وإثيوپيا، كذلك تأثرها في سياستها الخارجية بالسياسة البريطانية، اتبتعت الحكومة المصرية سياسة الحياد بين الدولتين في صراعها هذا. أما الرأي العام المصري فقد كان منحازا بالكامل وبجميع فئاته وطوائفه مع إثيوپيا. على أن ذلك لا يمنع أن مصر حكومة وشعبا تابعت تطورات الموقف بين البلدين وما قد ينعكس على بحيرة تسانا أو العلاقات التاريخية والديني بين مصر وإثيوپيا والعلاقات الودية بينها وبين ايطاليا.

وقد بدأت تأييد الرأي العام المصري لإثيوپيا مباشرة بعد حادثة بئر وال وال ومجئ القنصل الإثيوپي لى مصر، فتجددت الدعوة بضرورة تدعيم العلاقات المصرية الاثيوبية في جميع مجالاتها السياسية والتجارية والثقافية والدينية، وتأييدها ضد ايطاليا المعتدية (252). وكان هناك أسباب عدة دعت الرأي العام المصري للتعاطف مع إثيوپيا، منها أن المصريين اعتبروا تهديد ايطاليا لإثيوپيا تهديدا لهم ولأمنهم، اذ كانت ايطاليا تحتل ليبيا الواقعة على حدود مصر الغربية، وكان معنى احتلالها لإثيوپيا، أنها احتلت أيضا الحدود الجنوبية الشرقية، ومعنى ذلك أنه يسهل على ايطاليا أن تحقق هدفها وهو احتلال مصر والسودان عن طريق إثيوپيا وليبيا (253).

كذلك كانت إثيوپيا دولة افريقية مجاورة لمصر، وترتبط معها من قديم الزمن بروابط تاريخية وطبيعية اذ أن نهر النيل يربطها ويرتبط مفهوم الجار في الثقافة المصرية العربية الاسلامية بوجوب نجداته وحسن معاملته واقامة علاقات طيبة معه طبقا لتعليم الأديان السماوية (254). وبالاضافة الى ذلك فقد كان لعامل الدين الأثر الكبير في التعاطف المصري تجاه المشكلة الإثيوپية، فالمصريون يدينون بالاسلام والمسيحية وكذلك الإثيوپيين، أي أن هناك ما سماه البعض بصلة القربى بين شعبي مصر وإثيوپيا، لذلك تعاطف المصريون مع الإثيوپيين عندما شعروا بأن دولة أفريقية مستقلة سوف يضيع استقلالها على يد دولة أوروبية شبيهة تماما بالدولة التي تحتل بلادهم (255).

وكان معنى احتلال ايطاليا لإثيوپيا أن منابع النيل الإثيوپية قد سقطعت في أيدي الايطاليين وأن كل الضمانات التي حصلت عليها مصر وبريطانيا من الحكومة الإثيوپية، لترك مياه هذه المناعب لمصر والسودان قد زالت فاعليتها وان المشاريع الايطالية التي كان المصريون يعلمون بها منذ زمن بعيد والمتعلقة ببحيرة تسانا، سوف تنفذ بمجرد سقوط إثيوپيا في أيديهم، وبالتالي تحرم مصر من هذه المياه وفيضانها مما قد يسبب لها متاعب اقتصادية خطيرة (256).

لذلك فقد أظهر الشعب المصري تعاطفه مع إثيوپيا منذ أن عرف التصادم الايطالي الإثيوپي وظل يتابع أخبار تدهور العلاقات بين البلدين، اذ أن وسائل الاعلام في ذلك الوقت كانت تهتم بهذه الأخبار وراح الشعب يعلق عليها ويحللها ويظهر مدى عطفه على إثيوپيا وعلى ضرورة الوقوف بجانها ازاء الطغيان الايطالي (257).

وقدبدأ المصريون يعبرون عن تأييدهم لإثيوپيا، اذ كتب أحدهم في احدى الصحف الانجليزية مقالة في موضوع هذا النزاع لفت فيها أنظار الجمهور البريطاني الى أن المصالح البريطانية تقضي على بريطانيا بتأييد إثيوپيا ضد ايطاليا نظرا الى احتمال بناء خزان يحول مياه النيل الأزرق عن السودان ومصر اذا ما احتلت ايطاليا إثيوپيا (258). وأشارت الصحف المصرية الى المصالح المشتركة بين مصر وبريطانيا في بحيرة تسانا ومدى خطورة التهديد الايطالي على هذه المصالح، وحثت بريطانيا على التحرك وتأييد إثيوپيا حتى تحافظ على نفوذها في أملاكها المجاورة لإثيوپيا، وأشارت الى انه من البديهيات أن لمصر مصلحة جوهرية في تتبع أدوار هذا النزاع عن قرب لكي تكون مستعدة للاحتفاظ بحقوقها وصيانتها لئلا يتطور النزاع تطورا ينذر بالخطر (259). ولقد ناشد الرأي العام المصري البطريرك بأن يتدخل في هذا الصراع الايطالي الإثيوپي بما له من نفوذ روحي حتى يجنب إثيوپيا الصديقة شر الحرب ويأمنها ويحفظ السلام بينها وبين ايطاليا (260).

ولقد احتج الرأي العام المصري على حكومته عندما وقعت مع ايطاليا اتفاقا جويا مؤقتا يتجدد كل ستة شهور، ويبدأ العمل به في شهر يناير 1935، ويسمح بمقتضاه بتحليق الطائرات الايطالية في جو مصر والنزول في مطاراتها وهي في طريقها الى المستعمرات الايطالية في شرق أفريقيا. وطالب بالغاء هذا الاتفاق. ومنع مرور الطائرات الايطالية ايا كانت عبر مصر الى اريتريا والصومال الايطالي (261).

كما احتج الرأي العام المصري أيضا على حكومته عندما وافقت على ترحيل العمال المصريين الذين استأجرتهم الحكومة الايطالية عن طريق أحد المقاولين المصريين في مصر وذلك للعمل في مستعمراتها في شرق أفريقيا في بناء المنشآت العسكرية فيها، لاستخدامها في الحرب ضد إثيوپيا. وقد نجح الرأي العام في أن يجبر الحكومة المصرية على أن تلغي جوازات سفر هؤلاء العمال وتمنع ترحيلهم الى أريتريا والصومال الايطالي. ومما ساعد على ذلك أيضا أن مفاوضات الصلح بين ايطاليا وإثيوپيا قد فشلت، وأصبح من المتوقع قيام الحرب بين الدولتين، وفي هذا ما يتعارض مع سياسة الحياد التي اتبعتها الحكومة المصرية ازاء هذا الصراع الايطالي الإثيوپي (262).

ولقد أخذت قرار منع سفر العمال المصريين إلى إرتريا والصومال الإيطالي تأثيراً حسناً عند المسئولين الإثيوبيين (263). وقد استغلت الحكومة الإثيوپية رغبة الحكومة الايطالية في استئجار هؤلاء العمال المصريين لصالحها، اذ قدمت مذكرة جديدة الى عصبة الأمم عرضت فيها طلبها الخاص ببحث النزاع بينها وبين ايطاليا في اجتماع العصبة التالي غير العادي الذي يعقد في 15 أبريل 1935. واستندت إثيوپيا في مذكرتها هذه الى أن قرار ايطاليا بتجنيد فرقة من العمال المصريين لانشاء طرق حربية في مستعمراتها، يدخل ضمن تعريف الاستعدادات العسكرية ومن المحتمل أن يزيد من خطورة النزاع الحالي بينها وبين ايطاليا (264).

ويلاحظ أنه في الوقت الذي نجح فيه الرأي العام المصري في احباط عملية ترحيل العمال المصريين الى اريتريا والصومال الايطالي، أم لم تنجح في الغاء الاتفاقية المصرية الايطالية المتعلقة بمرور طائرات ايطاليا في الأجواء المصرية والنزول في مطاراتها، وذلك لأ،ها كانت مرتبطة ببريطانيا التي وقعت مع الحكومة الايطالية اتفاقا شبيها بذلك وهو أن تعبر الطائرات الايطالية أجواء ممتلكات بريطانيا الأفريقية وتستخدم الخطوم والمطارات البريطانية في أفريقيا وهي في طريقها الى أريتريا والصومال الايطالي (265).

ولم يقتصر احتجاج الرأي العام المصري على حكومته على هاتين المسألتين، بل احتج أيضا على التسهيلات التي قدمتها الحكومة المصرية في تخفيض أجور السفر في السكك الحديدية وذلك لنقل العمال الايطاليين من مدينة الاسكندرية الى السويس. وكذلك سماحها بتأخير عربات النقل في هذه السكك الحديدية لنقل المؤن والذخائر الحربية الى السويس تمهيدا لنقلها الى إريتريا حيث تجرى الاستعدادات الحربية لغزو إثيوپيا (266).

ويبدو أنه نتيجة لمنع العمال المصريين من السفر الى إريتريا والتأييد القوي الذي أبداه الرأي العام المصري على وسائل الاعلام المصرية، لإثيوپيا في صراعها مع ايطاليا (267)، أن اعتقدت الأخيرة أن مصر قد لا تقف على الحياد كما اعلنت، وذلك في حالة نشوب الحرب بين ايطاليا وإثيوپيا. لذلك خاطب الوزير الايطالي المفوض في مصر رئيس الوزراء المصري، بناء على توجيهات الحكومة الايطالية بشأن هذا الموضوع. وكانت هناك شائعة تقول ان ايطاليا قد تلغي مفوضيتها في مصر اذا لم تحتفظ الأخيرة بالحياد الدقيق بين الدولتين المتحاربتين. ولقد أوضحت الحكومة المصرية موقفها وهو الحياد التام بينهما (268).

ومع استمرار حياد الحكومة المصرية، استمر أيضا انحياز الرأي العام المصري بكل فئاته وعناصره لإثيوپيا سواء داخل مصر أو خارجها. فقد حاول بعض الأقباط التوسط لدى حكومة ايطاليا لحل نزاعها سلميا مع إثيوپيا، الا أن ذلك المسعى لم ينتج عنه شيء (269). والى لندن وصل عثمان محرم باشا أحد الوزراء السابقين في مصر، واجتمع مع بعض المصريين المقيمين في العاصمة البريطانية وتباحثوا في النزاع الايطالي الإثيوپي، وبعد ذلك قرروا أن يدعو الفريقين الى صون السلام وتحكيم التسامح في حل ما بينهما من أسباب الخلاف، كما يدعون الحكومة الصمرية الى التأهب للمحافظة على حقوق مصر في منابع النيل الإثيوپية (270).

عندما وصل د. مارتن وزير إثيوپيا المفوض الجديد في لندن اليها، احتفل بتكريمه مجموعة من النواب البرلمانيين الانجليز وذلك باقامة مأدبة عشاء في دار مجلس العموم البريطاني دعي اليها كبار المصريين الموجودين في العاصمة البريطانية وممثلوا الصحافة المصرية كذلك (271). وكما ضمن كمبار المصريين عثمان محرم وزير الأشغال المصري وحمد الباسل وأحد رجال الدين الأقباط. وقد ألقيت الخطب من النواب البريطانين والوزير المفوض الإثيوپي والمصريين المدعوين في المأدبة، فألقى عثمان محرم خطبة أعرب فيها عن مشاعره كمسلم في الصراع بين ايطاليا وإثيوپيا وكيف أن العلاقات بين مصر وإثيوپيا علاقات عريقة وأن المسلمين الإثيوپيين كسائر مسلمي العالم يعدون مصر مركز رئاستها الدينية يتلقون منها الارشاد والعطف، وكذلك المسيحيون الأُثيوبيون الذين يعتبرون البطريرك المصري رئيسهم الديني الأعلى (272).

وأشار الى ترحيب امبراطور إثيوپيا بالمهاجرين المسلمين الذين فروا بدينهم من اضطهاد كفار قريش في أول عهد النبوة وأن المسلمين في العالم اليوم يذكرون ذلك بالشكر والامتنان لإثيوپيا.بالاضافة الى ذلك فان منابع النيل الإثيوپية، تدفع المصريين الى ضرورة الاهتمام بالمسائل الاثيوبية، لأن الإثيوپيين لم يفكروا منذ جر التاريخ في التدخل في سير هذه المنابع لهذا فان المصريين يعطفون على إثيوپيا وشعبها ويرحبون بشهامة بريطانيا وما تبذله لمساعدة أمة ضعيفة لا تؤذي أحد (273).

ولقد دخل الرأي العام المصري مرحلة جديدة في تأييده لاثيوبيا. بعد فشل المحاولات السلمية التي كانت تبذل لتصفية النزاع الايطالي الإثيوپي. وبدأت هذه المرحلة بنداء عام الى الأمة المصرية، أشير فيه الى أن الحرب قادمة لا ريب فيها بين ايطاليا وإثيوپيا فقد فشلت المساعي السلمية لانهاء الخلاف وان احتلال الأولى للثانية هو في الحقيقة قاتل لمصر لأن معناه ضياع منابع النيل الإثيوپية. دعا النداء المصريين الى مد يد العون لاخوانهم الإثيوپيين ماديا وأدبيا في مصر لجمع التبرعات (274)، كما وجهت دعوة الى جمعية الهلال الأحمر أن تتأهب للمساعدة اذا اقتضت الظروف. والى المجلس الملي العام ليظهر اهتمامه في هذا الأمر، والى كل الهيئات والأفراد من الشعب المصري مسلمين وأقباط على السواء الى التقدم لنجدة إثيوپيا. وفي عملهم هذا دليل حي على كراهيتهم للاستعباد ونفورهم من سياسة الاستعمار وأساليب المستعمرين (275).

ولقد استجاب الرأي العامل المصري سريعا لهذه الدعوات والنداءات التي وجهتها له وسائل الاعلام في مصر، اذ سرعان ما توالت على ادارات هذه الصحف الرسائل الكثيرة من كل مكان تطلب التطوع في الجيش الإثيوپي (276). كما أعلن فريق من الضباط المصريين المتقاعدين رغبتهم في السفر الى إثيوپيا للانضمام الى جيشها لمساعدته في الحرب المحتملة مع ايطاليا (277)، كما اجتمع الدكتور عبد الحميد سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين بمجموعة من كبار رجال الجمعية لدراسة مشكلة إثيوپيا واتخاذ الوسائل المؤيدة للإثيوپيين في صراعهم مع ايطاليا، وتألفت لجنة تحضيرية مؤقتة برياسة رئيس الجمعية، واتفق على أن يعقد اجتماع آخر في أول شهر أغسطس 1935 في منزل رئيس الجمعية، وان توجه الدعوة الى 250 شخصا من كبار رجال الدولة في مصر من المسلمين والأقباط وفي مقدمتهم الأمراء ورجال الدين والوزراء السابقين ورجال الصحافة واعضاء الهيئات الدينية لحضور هذا الاجتماع (278).

وقد تلقت الجمعية التحضيرية المؤقتة العديد من الرسائل من ضباط ومهندسين وصناع مصريين وغير مصريين يطلبون التطوع في الحرب. وقد أعدت اللجنة جداول نظمت فيها هذه الطلبات وذكرت أمام كل طلب المعلومات التي وصلت اليها عن صاحبه والعمل الذي يمكنه تأديته، وكان صاحب الفضيلة الأستاذ السيد محمد الغنيمي التفتازاني قد دعا الى اجتماع آخر لاعلان العطف على إثيوپيا وتأليف لجنة الدفاع عن قضيتها. فلما علم بالاجتماع الذي دعا اليه عبد الحميد سعيد وعد بأن يعرض على الذين دعاهم، الانضمام الى المدعوين في هذا الاجتماع تنظيما للجهود وتعاونا مع الأيدي العاملة (279).

وكان اجتماع أول اغسطس عبارة عن مظاهرة ضخمة لتأييد قضية إثيوپيا اذ حضره عدد كبير من المصريين، وأشير في كلمة افتتاح الاجتماع الى الروابط الدينية والسياسية بين مصر وإثيوپيا والآثار المترتبة على احتلال إثيوپيا من الايطاليين على مصر التي هي هدف ايطاليا، وانه على المصريين أن يثبتوا للعالم بأن مصر ما زالت حية تدافع عن جارتها من غير ضعف أو تعاون. ويجب عليها أن تكون خصما ثالثا، وعلى الحكومة المصرية أن تستعد بالدفاع عن البلاد وتمنع كل تسهيل يقدم لايطاليا سواء في بيع الماكينات والدواب والمحاصيل، وعدم التصريح لطائراتها بالمرور في أجواء مصر، واغلاق قناة السويس أمام السفن الايطالية، وان على هذا الاجتماع أن يعد ما يستطيع من اعداده وما يلزم لهذه الحرب من المعاونة بارسال بعثات الهلال الأحمر ومساعدة كل من يريد التطوع. حتى اذا ما احتاجت اثيوبيا لنا نكون مستعدين لتلبية ندائها. وقد تعهد الأمير اسماعيل داود بأن يكون أول متطوع مصري. وقررت اللجنة التحضيرية طبع عدة نداءات لمساعدة إثيوپيا وبث الدعاية لها والعمل على ايقاظ الشعور العام لمعاونة إثيوپيا (280).

وفي هذا الاجتماع تألفت لجنة رئيسية تحت رياسة الأمير اسماعيل داود، لمراقبة الموقف الايطالي الإثيوپي، وأعضاؤها من كبار المسلمين والأقباط في مصر وأسندت سكرتاريتها الى الأستاذ المليجي، وتقرر منح هذه اللجنة حق ضم من تختاره الى عضويتها برعاية الأمير عمر طوسون فوافق المجتمعون على ذلك. وقد سميت لجنة الدفاع عن قضية الحبشة.

وقد قررت هذه اللجنة مراقبة الموقف السياسي بين ايطاليا وإثيوپيا والاستمرار في بث الدعوة لمصلحة القضية الإثيوپية والاتصال بالسلطات الإثيوپية للوقوف على حقيقة الحال أولا بأول. كذلك الاتصال بالهيئات العامة في البلاد العربية والاسلامية. وبالاضافة الى ذلك قررت استنكار السياسة التي تجري ايطاليا نحو إثيوپيا. ووضعت صيغة هذا الاستنكار وأبلغت به عصبة الأمم والهيئات السياسية في مصر والخارج.

وقد ذكر فيه أن كبار المسلمين والأقباط في مصر المجتمعين الآن والممثلين لعواطف الشعب المصري تمثيلا صادقا يستنكرون خطة الاعتداء الاستعماري الايطالي مع إثيوپيا وتصر عليها رغم ما تجده من معارضة الشعوب المتمدنة في الشرق والغرب، وأن تماديها في ذلك من شأنه أن يبعث في نفس الشعوب عدم الاعتماد على العصبة (281).

وكما استجاب رئيس جمعية الشبان المسلمين لهذه النداءات والدعوات فقد لبى أيضا المجلس العام، واجتمع برياسة البطريرك وحضور الأساقفة ومدير الدار البطريركية ووكيلها وغيرهم من أعضاء المجتمع الاكليريكي المقدس للنظر فيما يستطاع عمله لمساعدة إثيوپيا مساعدة سلمية مشروعة نظرا لموقف مصر الدقيق. وقد استقر رأي المجتمعين على تكوين بعثة طبية تعمل في الميدان الإثيوپي كجمعيات الصليب الأحمر. ومدها بالمساعدات المالية اللازمة لها. وتأليف لجنة لذلك من بعض الأساقفة وأعضاء المجلس المالي العام. كذلك تقرر أن يوجه البطريرك نداء الى عصب الأمم لمصلحة السلام العام، وأيضا في حالة الفشل التام لمساعي السلام تكون هذه اللجنة عامة يشترك فيها جميع المصريين على اختلاف أديانهم ومذاهبهم (282).

وقد اختارت اللجنة التي شكلها البطريرك الأمير عمر طوسون راعيا لها وقد وافق الأمير على ذلك (283). وبالفعل أرسل البطريرك نداءه الى عصبة الأمم يحثها فيه على أن تصل الى حل سلمي للخلاف الايطالي الإثيوپي (284)، كما وجه نداء الى وزراء الدول المفوضين طالبا منهم السعي لدى دولهم لمضاعفة الجهود لحل هذا النزاع بين ايطاليا وإثيوپيا (285).

ولقد أثار هذا التطور الخطير في الرأي العام المصري ومجاهرته بعطفه على إثيوپيا، قلقا شديدا لدى موسوليني رئيس الوزراء الايطالي. وكان الايطاليون في مصر حتى هذه اللحظة وعلى رأسهم وزير ايطاليا المفوض حريصين على موقف الحكمة وكل ما أظهروه من نشاط هو انشاؤهم وكالة أنباء تفيض بالدعاية لهم على الصحف المصرية المحلية. على أن ازدياد العطف المصري على إثيوپيا دفع بموسوليني الى عزل وزير ايطاليا المفوض في القاهرة وتعيين آخر بدلا منه لكي يدعم الدعاية الايطالية في محاولة لصد تيار العطف المصري على إثيوپيا، الا أن هذا لم يأت بنتيجة فقد ازدادت حركة التطوع بين أفراد الشعب المصري بل ومن رعايا بلاد أخرى يقطنون مصر للانضمام في صفوف الإثيوپيين في حربهم المنتظرة مع الايطاليين (286).

وفي مدينة الاسكندرية عقد اجتماع كبير لتأييد السلام في نادي موظفي الاسكندرية في هذه المدينة، وألقيت الخطب المؤيدة لإثيوپيا، وحاول أحد محرري الصحف الايطالية الاعتراض عليها. الا أنه أوقف من المجتمعين، الذين وافقوا على ارسال برقية الى سكرتارية عصبة الأمم، أعربوا فيها عن رغبتهم في المحافظة على السلم العام ودعوا ايطاليا وإثيوپيا الى الامتناع عن كل حركمة من شأنها اثارة الحرب. وقد عرض على وزير المالية المصري الاشتراك في هذا الاجتماع الا أنه رفض خوفا من أن يؤول هذا بأن الحكومة المصرية خرجت عن حيادها باشتراك أحد أعضائها في هذا الاجتماع (287).

وشاركت سيدات مصر في مظاهرة التأييد لإثيوپيا التي انتابت مصر كلها في ذلك الوقت فأذاع الاتحاد النسائي المصري برياسة السيدة هدى شعراوي نداء موجها الى الشعب الايطالي تحدثت عن اصرار ايطاليا على الاعتداء الشعب الإثيوپي غير مكترثة بمساعي الصلح التي تسعى فيها الدول العظمى وعصبة الأمم، مع ماتبديه إثيوپيا من الرغبة في السلام، كذلك أشار النداء الى أن نداء مصر لا يسعهم رغم ما يربط مصر بايطاليا من روابط الصداقة أن يقفن غير مكترثات أمام هذا الانتهاك الجديد لحق شعب حر يريد الحياة في سلام، ثم ناشد النداء الشعب الايطالي أن يلزم حكومته بعد اتفاق ودي مع إثيوپيا (288).

ولقد استقبل الإثيوپيون عطف وتأييد المصريين لهم وتطوعهم في القتال بجانبهم ضد ايطاليا، بالحماسة والشكر، اذ قامت في أديس أبابا مظاهرات وطنية كبيرة تعالى فيها الهتاف لمصر ومليكها وللأميرين عمر طوسون واسماعيل داود ولجمعية الشبان المسلمين المصرية (289). وأرسل الامبراطور هيلاسيلاسي الى الأمير عمر طوسون برقية شكر وتقدير لعطفه ومجهوده نحوه ونحو إثيوپيا (290). وقد زار قنصل إثيوپيا في مصر جمعية الشبان المسلمين، فاستقبله رئيسها عبد الحميد سعيد، حيث قدم شكر الامبراطور هيلاسيلاسي على ما أبداه المصريين من شعور طيب نحو بلاده وقال ان مولاه وحكومة إثيوپيا يشكران المصريين عامة والمسلمين خاصة على عواطفهم نحو إثيوپيا وأنهما يقدران المصريين هذا الجميل وستذكره إثيوپيا ما دام لها وجود، كما زار القنصل الإثيوپي الأمير اسماعيل داود وأبلغه شكر الامبراطور على ما يقوم به وأعضاء لجنة الدفاع عن قضية الحبشة من الخدمات لقضيتها. كذلك زار القنصل الاثيوبي الدار البطريركية وأبلغ المسئولين فيها شكر بلاده على العطف الذي أبدته الدار البطريركية على قضيتها (291).

ولقد انتشرت فروع لجنة الدفاع عن قضية الحبشة في جميع أنحاء القطر المصري. وفي القاهرة، فقد أصبح في كل حي فرع لهذه اللجنة وسارع أفراد الشعب المصري بجميع فئاته في الانضمام اليها (292). وقد وافقت لجنة الدفاع عن قضية الحبشة على اعتماد هذه الفروع وقررت تأليف لجنة للدعاية والنشر. وكانت الصحف المصرية تنشر بانتظام أخبار وقرارات اجتماع هذه اللجنة وقوائم المتطوعين ثم بعد ذلك القوائم الكاملة لأسماء المتبرعين وقيمة تبرعاتهم (293).

ويبدو أن هذا العطف والتأييد الجارف من المصريين لإثيوپيا في نزاعها مع ايطاليا، بالاضافة الى خطب موسوليني التي خرج فيها عن كل حدود مقدرته ومقدرة بلاده، ولدت في نفوس بعض الايطاليين القاطنيين في مصر شعورا يحالف شعور الانسانية. فتصوروا انهم فوق البشر وأخذوا يندفعون في النيل من شعور المصريين والاعتداء عليهم. ولقد بلغهم حالة العنف هذه عند هؤلاء الايطاليين أقصاها في مدينة بورسعيد عندما زاد حماسهم في أفريقيا الشرقية وفي هتافهم مسوا شعور المصريين مسا عنيفا ولم يكتفوا بذلك بل اعتدوا على أحد الشبان المصريين عندما احتج البوليس وأنهاها. على أن مظاهرات الايطاليين استمرت في المدينة الى وقت متأخر من الليل، كما قامت مظاهرات مصرية صغيرة في الحي العربي تهتف بحياة إثيوپيا (294).

لقد أثار هذا الحادث شعور المصريين لدرجة أن بعضهم اعتقد أنه أصبح غربيا في بلده يهان من زائريه وضيوفه الذين يعيشون معه على خير بلده في الوقت الذي لا تهتم فيه وزارة الداخلية المصرية بالتحقيق في هذا الحادث وأخذ حقوق المصري الذي أهين في سبيل دفاعه عن بلاده ازاء عبارت نابية تفوه بها بعض المتهوسين الايطاليين (295)، كذلك فقد احتج طلبة الجامعة المصرية على اعتداء الايطاليين على الشاب المصري ومظاهراتهم التي عمت المدينة، كما احتجوا على المظاهرات العسكرية التي نظموها بغير داع. وقد أرسل هذا الاحتجاج الى وزير الداخلية طالبين تدخله لارضاء الشعور المصري والكرامة المصرية ومنع تكرار مثل هذا الحادث الخطير. وقد احتج الكثيرون من أبناء مصر على هذا الحادث الخطير. وقد احتج الكثيرون من أبناء مصر على هذا الحادث الخطير. سواء أفراد أو هيئات (296)، كما احتجت لجنة الدفاع عن قضية الحبشة على هذا الحادث وطلبت من الحكومة المصرية اتخاذ الاجراءات الحاسمة لمنع وقوع حادث مشابهه له ومنع المظاهرات الفاشية العسكرية التي تتنافى مع سيادة الدولة (297).

كما احتجت لجنة الدفاع عن قضية الحبشة في بيان أذاعته، على خطبة بابا الفاتيكان الرئيس الديني الأعلى للكنيسة الكاثوليكية بروما والتي برر فيها الحرب التي تعتزم ايطاليا شنها على إثيوپيا. وقد جاء في بيانها أنها لا تتوقع أن يقوم البابا ذلك ولا حتى ينسب اليه دون اعلان تكذيبه تأييدا لقضية السلام وحقنا للدماء وتأسف اللجنة لهذا لاقول في الوقت الذي تبذل فيه الجهود لمنع الحرب. وتأمل أن يكون ذلك مزيفا على البابا فان الدعوة الى السلام بين الناس من أقوى التعاليم التي جاءت بها الأديان السماوية. وقد أعدت اللجنة بيانا في شأن هذه الخطبة ليقرأه ممثلها في مؤتمر محبي السلام الذي تقرر عقده في باريس في 3 سبتمبر 1935 تقترح فيه على المؤتمرين جميعا أن يقروا ما أعلنته اللجنة من الأسف الشديد على صدور خطبة البابا التي برر فيها الحرب المتوقعة مع اعترافه بأناه ضرورية للتوسع الايطالي. كذلك احتج د. عبد الحميد سعيد على خطبة البابا هذه بصفته رئيس جمعية الشبان المسلمين (298).

والواقع أن الاعتداء المنتظر من جانب ايطاليا على إثيوپيا، قد أثار العالم المتمدين كله، فقد تألفت في باريس لجنة دولية للدفاع عن الشعب الإثيوپي، وعملت على تنظيم مؤتمر دولي يعقد في 3 سبتمبر 1935، وذلك في قاعة اتحادات النقابات بباريس، حضره 130 مندوبا عن 150 هيئة مختلفة النزاعات في سائر أنحاء العالم (299). وقد وجهت هذه اللجنة الدعوة الى عبد الحميد سعيد لحضور هذا المؤتمر، وقد رحب بذلك وأرسل من يمثل مصر فيه (300). وقد وجه المؤتمر نداء الى العالم كله يدعوه الى السلام. كما تقرر ارسال وفد يمثله الى عصبة الأمم في دورتها التي بدأت في 4 سبتمبر 1935 ليدعو أعضائها الى بذل الجهد لصون السلام (301).

ولقد ظلت لجنة الدفاع عن قضية الحبشة واللجنة البطريركية تعملان كل منهما بعيدا عن الأخرى، الى أن تقرر ضمهما معا وذلك في شهر سبتمبر 1935 ، وسميت باللجنة المالية. وقد عقدت أول اجتماع لها في أواخر شهر سبتمبر 1935 برياسة عمر طوسون ومطران القديس نائبا عن البطريرك وأعضاء اللجنة المالية. وقد تقرر في هذا الاجتماع، مخاطبة المسئولين في جمعية الهلال الأحمر، ووكيل وزارة الداخلية في مصلحة الصحة بشأن مساعدة اللجنة في ارسال بعثات طبية الى إثيوپيا (302).

وعندما نشبت الحرب الايطالية الإثيوپية في الثاني من شهر اكتوبر 1935 (304). دخلت اللجنة العامة للدفاع عن الحبشة مرحلة جديدة هي مرحلة المساعدة المادية المباشرة لاثيوبيا. وقد بدأت هذه المرحلة بعقد اجتماع في اليوم السادس من شهر اكتوبر قررت فيه أو يوجه كل من البطريرك والأمير عمر طوسون نداء الى الأمة المصرية يحثيانها على التبرع لشعب إثيوپيا، وقد تم ذلك. كما افتح الأمير عمر طوسون والبطريرك قائمة التبرعات بأن تبرع الأول بملبغ 500 جنيه مصري والثاني مبلغ 400 جنيه مصري. وقد تقرر أيضا انشاء صندوق للتبرعات انتخب سيد خشبة باشا أمينا له، وأن توضع المبالغ المتبرع بها في بنك مصر باسم اللجنة، كذلك شكلت لجنة لفحص طلبات الأطباء والصيادلة والممرضين وتوجيه نداء لهم للتقدم لهذه الخدمة الانسانية الجليلة. وأخيرا تقرر الاتصال بمخازن الأدوية والصيدليات للتبرع بالأجهزة والأدوات الطبية (305).

وقد استجابت الأمة المصرية لنداء الأمير عمر طوسون والبطريرك، فطلب المجلس الملي العام من مؤتمر الجمعيات القبطية، أن تلبي هذه الجمعيات نداء اللجنة العامة هذا، وتقوم بمساعدتها أن تلبي هذه الجمعيات نداء اللجنة العامة هذا، وتقوم بسماعدتها ماديا وأدبيا في اتمام عملها وواجبها نحو الأمة الاثيوبية في محنتها الشديدة، ولو أدى ذلك الى ارجاء مشروعاتها مؤقتها وذلك بالتبرع من رصيدها، ويجمع التبرعات من مشتركيها ومعضديها حتى تأتي المساعدة وافية بالغرض في تخفيف آلام الجرحى ومنكوبي الحرب (306).

كذلك شرعت الهيئات العلمية والدينية في ارسال النداءات الى أعضائها تستحثهم على المبادرة بالمعونة المادية، وأذاعت هيئة التدريس بكلية الطب نداء للشعب يدعو الى معونة إثيوپيا. وطلب من المساهمين في يانصيب جمعية المواساة التنازل عن جزء من نصيبهم في السحب القادم على أن تحول المبالغ المتحصلة الى اللجنة المساهمة في جمع التبرعات للجنة المذكورة (307).

كذلك وجهت لجنة الطلبة نداء الى جميع طلبة الجامعة والمدارس للتطوع لجمع التبرعات في مصر والأقاليم لمساعدة إثيوپيا (308). وقد شجعهم مصطفى النحاس باشا بأن قابل أعضاء لجنة الطلبة في بيت الأمة، وقد طلب الطلبة من وزيري المواصلات والمعارف اعفاءهم من أجور المواصلات تشجيعا للمتطوعين، واصدار أمر الى المدارس المختلفة بتسهيل مهمة لجنة الطلبة (309) وقد وافق وزيرا المواصلات والمعارف على كل ما طلبه الطلبة. كذلك اسندت "اللجنة العامة للدفاع عن قضية الحبشة" الى اتحاد الجامعة بتنظيم لجان مشروع القرش لاثيوبيا (310). كما كون تجار الجمالية لجنة لجمع التبرعات، وتبرعوا بمبلغ 500 جنيه محولة على بنك مصر، كذلك ألفت لجنة للذهاب لزيارة الوزراء وتلقي اكتتاباتهم للبعثات الطيبة المرسلة الى إثيوپيا، كما أرسلت الرسائل الى جمعية المهندسين ونقابة المحامين والجمعية الطبية تطلب فيها مؤازرة اللجنة في مهمتها الانسانية (311)، وأقامت جميعة ثمرة التوفيق القبطية سوقا خيريا خصص ايراده لاعانة منكوبي وجرحى الحرب الإثيوپييين، وأرسلت مجموعة كبيرة من الأدوية والأدوات الطبية الى هيئة الصليب الأحمر بإثيوپيا، وارسل المستشفى القبطي مؤونة طبية وأدوات كاملة طبية الى الامبراطور هيلاسيلاسي (312).

وبدأت "اللجنة العامة للدفاع عن الحبشة" في اجراء الاستعدادات اللازمة لارسال البعثات الطبية ومستلزماتها الى ميادين القتال بإثيوپيا وفي أقرب وقت، فأعلنت أن على كل من يرغب من الأطباء والصيادلة والممرضين المساهمة في هذا العمل أن يقدم علهي الى سكرتير اللجنة . كما بدأت "اللجنة العامة للمساعدة الطبية" المنبثقة من "اللجنة العامة للدفاع عن الحبشة"، في اعداد مشروع أول بعثة طبية وقدرت نفقاتها لسنة واحدة بمبلغ 25 ألف جنيه وكان مرتب الطبيب عضو البعثة يتراوح بين 30 و40 جنيها والصيدلي 25 جنيها، وثمانية جنيهات لرئيس الممرضين و6 جنيهات للممرض (313).

كما تقرر سفر الأمير اسماعيل داود الى إثيوپيا تلبية لدعوة الامبارطور هيلاسيلاسي ، ولكي يكون أيضا حلقة اتصال بين اللجنة العامة، والحكومة الإثيوپية في كل ما له علاقة بالبعثات الطبية التي تقرر ارسالها الى إثيوپيا (314)، وقد سعت اللجنة لدى الحكومة المصرية للتصريح للأطباء الموظفين باعطائهم اجازات لمدة ستة أشهر لانضمامهم للبعثات (315).

وقد سافرت البعثة الطبية الأولى مع الأمير اسماعيل داود في 24 اكتوبر 1935 – وكانت مكونة من ثلاثة أطباء وصيدلي ومعاون، وقد استقبل الامبراطور والشعب الإثيوپي والحكومة الإثيوپية اسماعيل داود وابعثة الطبية أروع استقبال، عندما وصلوا الى أديس أبابا (316)، وقد استقبل الامبراطور هيلاسيلاسي اسماعيل داود وأظهر له امتنانه وامتنان الأمة الإثيوپية للأمة المصرية (317). وتوالي ارسال البعثات الطبية المصرية، فأرسلت بعثتنان أخريان تتألفان من مجموعة كبيرة من الأطباء والصيادلة والممرضين ورؤسائهم والطهاة والمعاونين (318). وكانت هذه البعثات الطبية مشمولة برعاية الامبارطور وحكومته التي تكفلت بمصاريف تغذية واسكان أعضاء هذه البعثات (319).

واتفق اسماعيل داود مع السلطات الإثيوپية في أديس أبابا على تقسيم هذه البعثات الطبية المصرية الموجودة في إثيوپيا على شعبتين طبيتين، تعمل أولاهما في منطقة هرر، والأخرى في منطقة جقجقة. وبالفعل غادرت هذه البعثات أديس أبابا الى المنطقتين المخصصتين لهما. وقد سلمت الحكومة الإثيوپية اسماعيل داود دارين كبيرين لتحويلهما الى مستشفتين مصريتين على حساب اللجنة العامة للمساعدة الطبية كذلك اتفق مع السلطات الإثيوپية على شراء عشرة سيارات كبيرة ملأى بالأسرة لينقل فيها جرحة الحرب من ميادين القتال الى مكان كل مستشفى، وقد بدأت المجموعتان الطبيتان في ممارسة عملهما الانساني (320).

ولقد ظلت اللجنة المشرفة على البعثات الطبية تابعة للجنة العامة للدفاع عن الحبشة حتى 12 نوفمبر 1935 عندما تقرر فصلها وتسميتها باسم اللجنة العامة للمساعدة الطبية، وذلك حتى تكون لها الصفة المستقلة، لكي تتعاون مع الاتحاد الدولي لجمعيات الهلال والصليب الدولي. وقد تقرر أيضا ابلاغ جمعية الهلال الأحمر المصرية بهذه الصفة المستقلة الجديدة (321) لها، كذلك اعترفت الحكومة لامصرية بصفتها المستقلة هذه حتى يتسنى لبعثاتها الطبية في إثيوپيا القيام بعملها تحت رعاية اتحاد الهلال الأحمر والصليب الأحمر، وذلك باعتبارها جمعية اغاثة متطوعة تكونت بغرض اسداء المعونة الطبية للجيوش الاثيوبية وبالتالي تنطبق عليها معاهدة جنيف الموقع عليها في 27 يولية 1929 والمعروف أن مصر وقعت عليها وتلتزم بها، وعلى ذلك فقد طلبت وزارة الداخلية من اللجنة العامة للمساعدة الطبية بيانا بأسماء أعضاء بعثاتها في إثيوپيا حتى تبلغها للهلال الأحمر والذي يبلغها بالالي للاتحاد الدولي للصليب الأحمر. وبالفعل فقد أرسلتها الجنة العامة الى وزارة الداخلية (322).

ولقد ظل الشعب المصري طوال هذه الحرب الايطالية الإثيوپية يقدم كل ما يستطيع ان يقدمه كمساعدة لإثيوپية في أزمتها سواء كانت مادية في شكل أموال وغذاء وأدوات – طبية في شكل ارسال بعثات طبية متكاملة، وذلك طوال مدة كفاح الشعب الإثيوپي ضد الغزو الايطالي حتى سقطت أديس أبابا في مايو 1936 (323).

بل ان الشعب المصري ضحى بأحد أبنائه من الأطباء الذين كانوا يعملون في البعثات التي أرسلها، وكان شابا في مقتبل العمر، وذلك في سبيل الزود عن استقلال إثيوپيا، وقام بتشييع جنازته في القاهرة في احتفال مهيب عظيم كأنه مات عن مصر نفسها (324). وتحملت البعثات الطبية المصرية القصف الجوي الايطالي في شجاعة نادرة وظلت تمارس عملها الانساني الرائع مؤمنة بمبادئها وقيم مصر العظيمة. وقد احتجت اللجنة العامة للدفاع عن الحبشة على هذا الاعتداء الايطالي على بعثاتها الطبية الى الصليب الأحمر الدوي (325)، كما عقدت جمعية الشبان المسلمين اجتماعات برياسة الدكتور عبد الحميد سعيد للنظر في موضوع هذا الاعتداء الجوي، وأصدر الأمير عمر طوسون والبطريرك بيانا قالا فيه أن الاعتداء الايطالي سيزيدنا رغبة في مساعدة إثيوپيا، وان المصريين يتطوعون بعاطفة لا تخص جنسا دون جنس (326). وعقب وقوع هذا الاعتداء تقرر سفر الدكتور عبد الحميد سعيد الى إثيوپيا لدراسة الموقف واعادة تنظيم العمل الطبي المصري في ميدان القتال (327)ز

كان هذا هو موقف شعب مصر الرائع الأصيل، أما من جهة الحكومة المصرية نفسها فقد ظلت متبعة سياسة الحياد بين الدولتين وذلك حتى شهر اكتوبر عندما نشبت الحرب فعلا بين ايطاليا وإثيوپيا، عند ذلك تخلت مصر عن حيادها وذلك خوفا من الأطماع الايطالية التي كانت ترغرب في احتلال مصر والسودان، وعلى ما كانت تخاف من ايضا بريطانيا لذلك حاولت حل النزاع الايطالي الإثيوپي سلميا، ألا أن اعتداء ايطاليا على إثيوپيا بالحرب وما يمثله من تهديد لمصالح بريطانيا في هذه المنطقة . كما أن احتلال ايطاليا لإثيوپيا يعتبر خطرا على السويس وعدن والبحر الأحمر وقناة السويس التي هي رقبة الامبراطورية البريطانية وطريق الوصول الى أملاكها في الشرق لذلك تحركت بريطانيا وحركت عصبة الأمم التي قرب فرض عقوبات على ايطاليا المعتدية. وعندما وجدت الحكومة المصرية نفسها أمام تيار الرأي العام المصري الجارف المؤيد لإثيوپيا، وأطماع ايطاليا التي بدأت تتحقق في الخطوة الأولى منها باعلان الحرب على إثيوپيا، وبريطانيا بتحركها هذا انها غير راضية عما قامت به ايطاليا من شن الحرب، قررت تنفيذ القرارات التي أصدرتها عصبة الأمم والخاصة بتطبيق العقوبات على ايطاليا وذلك في 14 اكتوبر سنة 1935، وبهذا التنفيذ تخلت مصر عن سياسة الحياد بل وتورطت رسميا في الأزمة الدولية وأصبحت معرضة لعداوة ايطاليا التي احتجت بشدة لدى الحكومة المصرية على تنفيذها للعقوبات التي فرضتها عصبة الأمم عليها (328).

وعلى ذلك فقد كان لابد للحكومة المصرية ازاء هذه التطورات ان تتخذ بعض الاجراءات واللازمة والتي تتلاءم مع هذه التطورات منها اجراءات تتعلق بحماية الأمن الداخلي في مصر ازاء الجالية الايطالية الكبيرة وما كانت تقوم به من نشر دعايات وتقديم مساعدات لصالح ايطاليا. كما اتخذت اجراءات أخرى تتعلق بالدفاع الخارجي عن مصر فبدأت تعد الجيش المصري للقتال واعادة توزيعه على مناطق مختلفة في البلاد وبخاصة الحدود الغربية المصرية (329).

أما بالنسبة لموقف الحكومة المصرية ازاء إثيوپيا في ضوء هذه المتغيرات، فقد بدأت تساهم بدورها في دعم المجهود الشعبي المصري الذي كان يبذل لصالح إثيوپيا، فأعفت البعثات الطبية والمعونات الطبية المسافرة الى إثيوپيا من دفع اجور السفر والنقل (330). كما اعترفت باللجنة العامة للمساعدة الطبية للحبشة، وقدمت احتجاجا رسميا الى الحكومة الايطالية على ضرب المستشفى المصري بأديس ابابا بالقنابل أثر هجوم جوي ايطالي (331).

وعلى أي حال فان الصراع الايطالي الإثيوپي ، ونشوب الحرب بين ايطاليا وإثيوپيا، واحتلال الأولى للثانية، كان بداية لتطورات دولية متشابكة، دخلت بسببها العلاقات السياسية بين مصر واثيوبيا مرحلة جديدة من مراحل تطورها.


الهامش

انظر أيضاً