الظهير البربري

الظهير البربري، أي المرسوم البربري، هو قانون أصدره الإحتلال الفرنسي للمغرب في (17 ذي الحجة 1340هـ/16 مايو 1930م). ونصّ هذا الظهير على جعل إدارة المنطقة البربرية تحت سلطة الإدارة الاستعمارية، فيما تبقى المناطق العربية تحت سلطة "حكومة المخزن" والسلطان المغربي، وتم إنشاء محاكم على أساس العرف والعادة المحلية للبربر، وإحلال قانون العقوبات الفرنسي محل قانون العقوبات "الشريفي" المستند إلى الشريعة الإسلامية؛ ومن ثم قام هذا القانون بنوعين من العزل تجاه المناطق البربرية؛ أولهما عزل الإدارة السلطانية عنهم، وعزل الشريعة الإسلامية عن التقاضي بينهم، على اعتبار أن العادات والأعراف البربرية كانت سابقة على الإسلام!! وكان البربر يشكلون حوالي 45% من سكان المغرب في تلك الفترة، وينتشرون في بلاد الريف وجبال أطلس.

المرسوم البربري


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مقدمة

 
التقسيم الإستعماري للمملكة المغربية

استطاعت القوى الغربية الاستعمارية أن تجري تغييرات جذرية في التركيبة الشخصية والعقلية واللسانية في بعض الدول التي استعمرتها، ويكفي أن نشير هنا أن فرنسا الاستعمارية نجحت في مسخ الشخصية الثقافية واللغوية للمجتمعات الأفريقية التي استعمرتها، ويكاد لا يوجد اليوم مجتمع أفريقي لا تمثل "اللغة الفرنسية" لغة وطنية فيه تجمع أشتاته، وتؤلف بين عناصره.

غير أن هذه المقولة لا تؤخذ على إطلاقها، فنجاح فرنسا في المجتمعات الأفريقية ذات الشخصية الطيّعة المرنة القابلة للتشكيل السريع التي لم تكن تعتصم بدين أو لغة ذات عراقة وعمق -لم يكن ملازما لها في المجتمعات التي استعمرتها، فقد واجهت هذه الشعوب المسلمة فرنسا الساعية إلى فَرْنَستهم وتنصيرهم، بالإصرار على الإسلام واللغة العربية التي أصبحت "لغة مقدسة" في وجدانهم؛ لارتباطها بالوحي والقرآن الكريم؛ ومن ثم لم تخرج اللغة العربية من ميدان المقاومة، وظلت هي والإسلام العقبة الكئود أمام الاستعمار.


حقائق وملاحظات

 
الظهير البربري الأول وقعه في 27 أبريل 1919 كبير الوزراء المغربي محمد المقري، والمقيم العام الفرنسي اوبير ليوتي. الاتفاق المهين جاء مباشرة بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، والتفت الفرنسيون لتفتيت المغرب الشريفية لصالح توسع المستعمرين في وهران بهذا القانون الذي يمكنهم من الانفراد بالقبائل الأمازيغية.[1]

ومن خلال استكناه هذه التجارب الاستعمارية يمكن أن نشير هنا إلى جملة من الملاحظات التي ينبغي أن تكون ماثلة في الأذهان، يأتي في مقدمتها أننا نحتاج إلى الوعي التاريخي؛ لأن كثيرا من الأحداث التي نعايشها اليوم سبق أن مرت علينا وعايشنا ما يشبهها في السابق، فقد سبق أن نظر إلينا على أننا مذاهب وأعراق وأقليات… إلى آخر تصنيفاته لنا؛ ليشق صفنا ويضع بذور الفتنة بل يرعاها بين أبناء الوطن الواحد ليسهل له النفاذ إلى أهدافه وتحقيقها، فضلا عن انتقاء وتقريب بعض هذه الفئات إليه لتقوم بعبء العمل وتنفيذ خططه وأهدافه.

الملاحظة والحقيقة الثانية أن الاستعمار قديمه وحديثه ينظر إلى الشعوب التي لا تتوافق مع حضارته نظرة "دونية" تعطيه "الحق" في أن يفعل بها ما يشاء؛ وهو ما يكشف عن ضمير استعماري متشابه. وما كانت تقوم به بعض الدول الكبرى من رعاية بعض حركات التحرر الوطني إنما كان يأتي في إطار التنافس والصراع بين هذه الدول، ومن ثم فنحن أمام "ضمير" واحد لا يعرف إلا لغة المصالح والمادة، ولا يطبق إلا "قانون الوحوش" مع الشعوب المنكوبة.

الحقيقة الثالثة أن "الأمة" المسلمة مهما بلغت حالتها من الضعف والتراجع فإنها تمتلك القدرة على الانبعاث والتجديد والمقاومة؛ لأنها أمة لا تعرف الموت، ويرتبط ذلك برجوعها إلى دينها الخالص بفهم صحيح وعمل دءوب.

فرنسا والجزائر العربية

كان الاستعمار الفرنسي لا يكتفي باحتلال الأرض ونهب الثروة وتسخير الشعوب المستعمرة في خدمة أهدافه فقط؛ وإنما كان يقوم بهدم استقلالية هذه الشعوب وتحطيم حصونها الثقافية والمعنوية حتى يسهل انقيادها، ويصبح السير خلف "فرنسا" نابعا من الذات التي انقطعت عن جذورها، ويقتدي المغلوب بالغالب بعدما غاب عن وعيه الحضاري.

أدرك الفرنسيون أن الاستعمار لا بد أن يأتي يوم ويرحل، ولذا كان لا بد من إبقاء السيطرة المعنوية والثقافية على هذه الشعوب، ونجحت فرنسا في أفريقيا، مستغلة غياب عوامل التوحد بها، لكن هذه السياسة فشلت نسبيا في بلاد المغرب العربي؛ نظرا لوجود الإسلام واللغة العربية، فمنذ احتلال فرنسا للشمال الأفريقي وضعت نفسها في مواجهة مع هذين الحصنين، وأفرغت جهدا كبيرا للاستيلاء على العقل والقلب واللسان، وفق إستراتيجية استعمارية تقوم على إحداث شروخ في النسيج الوطني يعطيها الفرصة للقيام بهذه العملية التي وصفت بأنها عملية "اغتصاب ثقافي" للشعوب المستعمرة.

الظهير.. بعيدا عن الشريعة والسلطان

 
الظهير البربري بالعربية.

وكان من بين الأساليب التي استخدمها الفرنسيون في "المغرب" إصدار قانون عرف باسم "الظهير البربري" في (17 ذي الحجة 1340هـ/16 مايو 1930م). والظهير يعني المرسوم. ونصّ هذا الظهير على جعل إدارة المنطقة البربرية تحت سلطة الإدارة الاستعمارية، فيما تبقى المناطق العربية تحت سلطة "حكومة المخزن" والسلطان المغربي، وتم إنشاء محاكم على أساس العرف والعادة المحلية للبربر، وإحلال قانون العقوبات الفرنسي محل قانون العقوبات "الشريفي" المستند إلى الشريعة الإسلامية؛ ومن ثم قام هذا القانون بنوعين من العزل تجاه المناطق البربرية؛ أولهما عزل الإدارة السلطانية عنهم، وعزل الشريعة الإسلامية عن التقاضي بينهم، على اعتبار أن العادات والأعراف البربرية كانت سابقة على الإسلام!! وكان البربر يشكلون حوالي 45% من سكان المغرب في تلك الفترة، وينتشرون في بلاد الريف وجبال أطلس.

السياسة البربرية؟

جاء إصدار هذا القانون ضمن سياسة فرنسية عرفت باسم "السياسة البربرية" التي ترتكز على أن البربر "ذوو إسلام سطحي" غير متعمق في نفوسهم؛ فهم ما زالوا محتفظين بكثير من عاداتهم القبلية، وهؤلاء يمكن "تمسيحهم وتنصيرهم" بعد خلق فجوة بينهم وبين العرب، ولهذا فمن الضروري على فرنسا أن تعطي فرصة لنمو مشاعر التمايز بين عنصري الأمة بعد إبعاد البربر عن الإسلام واللغة العربية!

وذكر محضر اللجنة المكلفة بإعداد المشروع أن الفرنسيين رأوا أنه لا ضرر من كسر وحدة التنظيم القضائي بالمنطقة الفرنسية عندما يكون الأمر متعلقا بتقوية العنصر البربري؛ وذلك لتحقيق "توازن" مع العنصر العربي؛ وتحقيق فوائد من الناحية السياسية للاستعمار؛ لأنه يضع البربر في مواجهة السلطان المغربي والشريعة الإسلامية والعرب، ويحقق التصاقا بين البربر والاستعمار.

ولم يمض وقت طويل حتى فتحت مدارس في المناطق البربرية لتشجيع النزعة الانعزالية، ومُنع الحديث فيها باللغة العربية، ودُرّس التاريخ على أن العرب "غزاة"، وأن البربر هم أصحاب البلاد الأصليون، وأنهم قريبون من الحضارة الأوربية التي تنتمي إلى الحضارة اليونانية.

العزل الاصطناعي

يقول المستشرق الفرنسي "جودفروي دومومبين" في كتابه "المهمة الفرنسية فيما يخص التعليم في المغرب" الصادر عام (1928م): "إن الفرنسية -وليست البربرية- هي التي يجب أن تحل مكان العربية كلغة مشتركة وكلغة حضارة"، ثم يقول: "وجود العنصر البربري مفيد كعنصر موازن للعرب يمكننا استعماله ضد حكومة المخزن"، "إن قوام السياسة البربرية هو العزل الاصطناعي للبربر عن العرب، والمثابرة في تقريبهم منا من خلال التقاليد"، وهذا أيضا ما قرره الكولونيل "مارتي" في كتابه "مغرب الغد" الصادر في تلك الفترة "أن المدارس البربرية يجب أن تكون خلايا للسياسة الفرنسية، وأدوات للدعاية، بدلا من أن تكون مراكز تربوية بالمعنى الصحيح"، ولذلك دعا أن يكون المعلمون فيها وكلاء لضباط القيادة ومتعاونين معهم، ودعا أن تكون المدرسة البربرية فرنسية بتعليمها وحياتها، بربرية بتلاميذها وبيئتها.

التمسيح والتنصير

صدر قانون "الظهير البربري" مع تنامي النشاطات التبشيرية في الأوساط البربرية، يقول الجنرال "بريمون" في كتابه "الإسلام والمسائل الإسلامية من وجهة النظر الفرنسية" الصادر (1932م): "يجب محو إسلام البربر وفَرْنَستهم". أما الأب "جيرو" في كتابه "العدالة الشريفة: عملها، تنظيمها المستقبلي" الصادر (1930م) فيقول: "يجب توجيه غزو معنوي للبربر. الغزاة سيكونون من الإرساليات التبشيرية. لنكلم هؤلاء الناس حول المسيح؛ أساطيرهم مليئة باسم المخلص". وحسب تقارير كنسية فرنسية؛ فإن فكرة "الظهير البربري" وتنصير البربر كانت إستراتيجية لا محيد عنها.

الظهير.. قضية لا قانون

وعلى عكس ما كان يرجو المستعمر، كان صدور "الظهير البربري" عاملا هاما في إيقاظ الروح الوطنية بين المغاربة، وتسليط الأضواء على "القضية المراكشية" بشكل غير مسبوق. يقول "دانييل ريفيه" الأستاذ بجامعة السوربون في كتابه "المغرب أمام امتحان الاستعمار": "إن المغاربة تمسكوا بما لم يستطع الاستعمار أن ينتزعه منهم"، حيث اصطدم هذا المرسوم مع جيل بأكمله، ونهض هذا الجيل لمواجهته، واستغل هذه المواجهة لإيقاظ النزعة التحررية.

لقد كان ظهور أول حزب مغربي بعد صدور "الظهير"؛ إذ ثار المغاربة على محاولات الاستعمار المسّ بوحدتهم الوطنية، واشتعلت حركة الاحتجاج في عدد من المدن، مثل "فاس"، و"سلا"، و"طنجة"، و"تطوان".

وكان من ذكاء الحركة الوطنية في ذلك الوقت أنها ربطت الأمر بالدين؛ وهو ما وفر لها احتشادا جماهيريا كبيرا، كما أنها انطلقت من المسجد الكبير في "سلا" وبعد دعاء طويل لله ألا يفرق بين العرب والبربر؛ وبذلك حملت الهم الوطني إلى المسجد، فاشتعلت المظاهرات، وانضم التجار والصناع إلى المتعلمين.

واجه الاستعمار الحركة الوطنية الآخذة في التكون بالقمع واعتقال المحرضين، لكن المظاهرات تأججت بشكل أكبر، واستمرت في بعض المدن عدة أيام متواصلة، وتكونت أول جماعة للكفاح الوطني في منزل "أحمد المكوار"، وأخذ أعضاؤها أسماء حركية على أسماء العشرة المبشرين بالجنة، وأطلقت هذه الجماعة على نفسها اسم "الطائفة"، وفي (29 ربيع الأول 1349 هـ/23 أغسطس 1930م) كتبت عريضة لتقدمها إلى السلطان "محمد الخامس" تضمنت 3 بنود أساسية وهي: إلغاء التشريعات المتعلقة بالظهير البربري، وتوحيد التشريع والإدارة في البلاد، وتركيز السلطات في يد الملك والحكومة.

المقاومة.. والصور

وبرزت "كتلة العمل الوطني" التي تعد أول تنظيم سياسي مغربي، وأصدرت جريدة ومجلة إحداهما في المغرب باسم "الشعب"، والأخرى في باريس باسم "المغرب" فكان لهما أثر كبير في إيقاظ الروح الوطنية، وبدأت قضية القومية العربية والانتماء الإسلامي تطفو بقوة في المجتمع المغربي، فألقيت محاضرات عن بلاء البربر وخدمتهم للإسلام. واهتمت الحركة بنشر التعليم لحماية الثقافة والوعي، ودخل الشعب في موجات من التظاهر والإضرابات.

لكن المهم في ذلك أن الحركة الوطنية لجأت إلى أساليب جديدة في مقاومة الاستعمار، منها مخاطبة الرأي العام بالأسلوب الذي يفهمه؛ مما وفر له التضامن الشعبي، كما أشركت الشعب في النضال الوطني من خلال اللجوء إلى مقاطعة البضائع الفرنسية بناء على نصيحة من الأمير "شكيب أرسلان" الذي قال: "إن المقاطعة هي السلاح الذي يخشاه الأوربيون؛ فهم الذين يضعون النقود فوق الله"، فبدأت حركة مقاطعة واسعة للبضائع الفرنسية شاركت فيها ربات البيوت، وامتنع الناس عن تدخين السجائر، واستخدام السكر الفرنسي، ورفضوا لبس المنسوجات الفرنسية، كما نصحهم بتصعيد قضيتهم على المستوى الدولي.

ولجأت الحركة الوطنية إلى الأدب، ونسجت أشعارا عربية وبربرية ترفض التفريق بين مكوني الأمة، ومنها:

صوت ينادي المغربي من مازغٍ ويعربِ
يحدو الشباب المغربي للموت دون الوطنِ
لا نرتضي بالتفرقةْ ولو علونا المشنقةْ
ولو غدت ممزقةْ أشلاؤنا فدى للوطن

وعلى مستوى العالم الإسلامي أظهر المسلمون تضامنا مع مسلمي المغرب ضد "الظهير البربري"، واعتبروا هذا المرسوم "سياسة صليبية"، فشارك "الأزهر" في حملة الاعتراض، وكونت "جمعية الهداية الإسلامية" لجنة مهمتها الحفاظ على إسلام البربر، وقامت "جمعية الشبان المسلمين" بدور في إثارة الاهتمام بالقضية، وزار الأمير "شكيب أرسلان" المغرب، لكن الفرنسيين أخرجوه من طنجة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إلغاء.. وبقايا

استمر هذا الظهير موجودا حتى ألغاه السلطان "محمد الخامس" في منتصف الخمسينيات. استطاعت الحركة الوطنية إفشال الأهداف الكبرى لهذا الظهير، لكن بقيت بعض رواسبه حتى الآن في بعض مظاهر الازدواجية الثقافية واللغوية بين النخبة المثقفة في المغرب.

ويلفت النظر آراء عدد من الباحثين الذين يذهبون إلى أن "الفرانكوفونية" -وهي الرابطة التي تجمع الشعوب الناطقة بالفرنسية- ما هي إلا تطوير فرنسي للظهير البربري. كما أن الإستراتيجية الفرنسية ما زالت تشجع الفصل بين العرب والبربر، ففرنسا أنشأت "الأكاديمية البربرية" سنة (1383 هـ= 1963م) التي اضطلعت بكتابة الإنجيل بالأبجدية الأمازيغية. كما أن باريس كانت تشجع الهجرة البربرية إليها دون الهجرة العربية من شمال أفريقيا.

انظر أيضاً

المراجع

  • علال الفاسي: الحركات الاستقلالية في المغرب العربي – القاهرة - الطبعة الأولى- 1368هـ=1948.
  • ألبير عياش: المغرب والاستعمار "حصيلة السيطرة الفرنسية" - ترجمة عبد القادر الشاوي ونور الدين سعودي - دار الخطابي - المغرب – 1985.
  • روم لاندو: تاريخ المغرب في القرن العشرين - ترجمة نقولا زيادة - دار الثقافة -بيروت -1963.
  • محمود شاكر : التاريخ الإسلامي "بلاد المغرب" - المكتب الإسلامي - دمشق - الطبعة الأولى - 1991.

وصلات خارجية

  1. ^ Omar SAGHI (2012--06-18). "Le dahir du 27 avril 1919". مغرس. {{cite web}}: Check date values in: |date= (help)