التنوير في إسپانيا

Francisco de Goya, The Fates (Atropos).JPG
Atropos (أو القدر) بريشة فرانشسكو گويا
سلسلة تاريخ إسپانيا
Alhambra-petit.jpg
أيبيريا قبل التاريخ
هسپانيا الرومانية
إسپانيا العصور الوسطى
 – مملكة القوط الغربيين
 – المملكة السويبية
 – سپانيا البيزنطية
 – الأندلس
 – حروب الاسترداد
مملكة إسپانيا
 – عصر التوسع
 – عصر التنوير
رد الفعل والثورة
الجمهورية الإسپانية الأولى
الاستعادة
الجمهورية الإسپانية الثانية
الحرب الأهلية الإسپانية
إسپانيا الفرانكوية
الانتقال إلى الديمقراطية
إسپانيا المعاصرة
مواضيع
التاريخ الاقتصادي
التاريخ العسكري

قصة التنوير في أسبانيا (بالإسبانية: Ilustración) مثال لقوة عرضة للمقاومة تصطدم بجسم ثابت لا يقبل الحركة. فالخلق الأسباني، ووفاؤه لإيمانه الوسيط وفاء كتبه بالدم، كان يصد كل رياح الهرطقة أو الشك عاجلاً أو آجلاً، ويرفض كل دخيل من الزي أو العادات أو الاقتصاد. ولم يحبذ الفكر الدخيل غير قوة اقتصادية واحدة-هي التجار الأسبان الذين كانوا يتعاملون مع الأجانب كل يوم، ويعرفون أي قوة وثراء حققهما ونظراؤهم في إنجلترا وفرنسا. وكانوا راغبين في استيراد الأفكار إذا استطاعت أن تضعف من السلطة التي ورثها النبلاء والأكليروس على أرض أسبانيا وحياتها وعقلها. وقد علموا أن الدين فقد سلطانه في إنجلترا، وسمع بعضهم بنيوتن ولوك، لا بل أن جبون قدر له أن يجد بعض من يقرؤونه في أسبانيا(19).

وبالطبع هبت أقوى رياح التنوير من فرنسا. وكان النبلاء الفرنسيون الذين تبعوا فليب الخامس إلى مدريد قد مستهم الزندقة التي أخفت رأسها أيام لويس الرابع عشر، ولكنها استشرت أيام الوصاية. وفي 1714 أسس بعض الدارسين الأكاديمية الملكية الأسبانية محاكاة للأكاديمية الفرنسية؛ وسرعان ما بدأت وضع معجم لغوي؛ وفي 1737 اضطلعت صحيفة "دياريو دي لوس لتراتوس دي أسبانيا" بمنافسة "الجورنال دي سافان" الفرنسية. وكان الدوق ألبا الذي أشرف على الأكاديمية الملكية عشرين عاماً (1756-76) شديد الإعجاب بجان-جاك روسو(20). وفي 1773-أكتتب بثمانية جنيهات ذهبية (لوي دور) لتمثال فولتير الذي كان يصنعه بيجال. كتب إلى دالامبير يقول "أنني وقد مضى عليّ بتثقيف عقلي سراً أغتنم هذه الفرصة للشهادة علانية بعرفاني وإعجابي بالرجل العظيم الذي كان أول من دلني على الطريق(21)".

وحظي كتاب روسو "إميل" بإعلان مجاني حين أحرق في احتفال رسمي بكنيسة من كنائس مدريد (1765)(22). وعاد شباب من الأسبان الذين عرفوا باريس كالمركيز دي مورا الذي عشق جولي دلسبيناس إلى أسبانيا يحملون شيئاً من آثار الشكوكية التي التقوا بها في الصالونات. وهربت إلى أسبانيا نسخ من أعمال فولتير أو ديدرو أو رينال؛ فأيقظت بعض العقول المحددة.وكتب أسباني في 1763 يقول "كان من أثر الكتب المؤذية الكثيرة التي راجت بين الناس؛ ككتب فولتير وروسو وهلفتيوس؛ أن كثر فتور الإيمان في هذا البلد(23)". وكان بابلو أو لافيدي يجهر بالأفكار الفولتيرية في صالونه بمدريد (حوالي 1766)(24). وحوت رفوف "الجمعية الاقتصادية لأصدقاء السلام" أعمالاً لفولتير وروسو وبيل ودالامبير ومونتسكيو وهوبز ولوك وهيوم(25). وذكر الأبيه كليمان الذي جاب أرجاء أسبانيا عام 1768 انتشار اللامبالاة بالدين انتشاراً واسعاً، لا بل الكفر بالعقيدة، المستتر وراء مراعاة الطقوس الكاثوليكية في الظاهر(26). وقد أبلغ ديوان التفتيش في 1778 أن كبار موظفي البلاط يقرؤون لجماعة الفلاسفة الفرنسيين(27).

وكان من الأهمية بمكان للتاريخ الأسباني أن يصبح بدرو أباركا، كونت أراندا، خلال رحلة قام بها في فرنسا، صديقاً لفولتير. وقد نحكم على علاقته من نشاطه اللاحق سفيراً لأسبانيا لدى فرنسا، وقد اختلط في غير تجرح بالموسوعيين في باريس وقامت بينه وبين دالامبير صداقة ملؤها الإعجاب به، وعبر فرنسا ليزور فولتير في فرنيه. وكان يصرح بولائه للكنيسة في أسبانيا، ولكنه هو الذي أقنع شارل الثالث بطرد اليسوعيين، وبإرشاده انظم إب صفوف "المستبدين المستنيرين" الذين كان يتطلع إليهم جماعة الفلاسفة باعتبارهم خير معوان لهم في نشر التعليم والحرية والعقلانية.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حرب الخلافة (1700–1715)

 
الأمير فيليپ من أنجو، حفيد الملك لويس الرابع عشر من فرنسا، الذي سيصبح في المستقبل الملك فيليپ الخامس من إسپانيا
 
Cavalry in front of a burning mill, by Philip Wouwerman. .


 
Allegory on the Treaty of Utrecht (1713) ending the War of the Spanish Succession


الإصلاح (1715–1746)

 
Elisabeth Farnese, queen of Spain and wife of Philip V of Spain
 
The cannon shot by Willem van de Velde, the younger. Spain and إنگلترة fought a series of colonial and naval conflicts in the eighteenth century in the New World and the Mediterranean.


Balancing act (1746–1759)

 
King Ferdinand VI of Spain (r. 1746-1759)


 
Maria Magdalena Barbara de Braganza, Queen of Spain, wife of Ferdinand VI of Spain


 
Jose de Carvajal y Láncaster, leader of the pro-British faction in King Ferdinand VI's court.


Enlightened despotism (1759–1788)

 
King Charles III of Spain (r. 1759-1788)


 
Leopoldo de Gregorio, marquis de Esquilache, Spanish statesman and reformer of King Charles III


 
Inquisition Scene by Francisco Goya. The Spanish Inquisition was still in force in the late eighteenth century.


 
"Motin de Esquilache", by Francisco Goya. The liberalization of the grain trade by Leopoldo de Gregorio, marquis de Esquilache caused a sharp rise in grain prices, and in turn, riots.


 
The Count of Floridablanca, Spanish statesman and reformer, by Francisco Goya


Trouble abroad (1788–1808)

 
The Family of Charles IV by Francisco Goya

King Charles III died on 14 December 1788. Seven months later, French revolutionaries stormed the Bastille, launching the French Revolution.


 
The Count of Aranda, the leader of the Aragonese faction in the courts of Charles III and Charles IV


المستبد المستنير: كارلوس الثالث 1759 - 1788

أ- الحكومة الجديدة

حين وصل من نابلي كان يناهز الثالثة والأربعين. ورحب به الجميع إلا اليسوعيين(28) الذين ساءهم بيع أسبانيا لمستوطناته في باراجواي إلى البرتغال (1750)، وفيما عدا هذا كسب جميع القلوب بإعفاء الناس من الضرائب المتأخرة، ورد بعض الامتيازات التي فقدتها الأقاليم في ظل سياسة المركزية التي انتهجها فليب الخامس. وقد جلل موت زوجته ماريا أماليا بالحزن سنة حكمه الأولى لأسبانيا. ولم يتزوج بعدها قط وإنه لمما يشرف آل بوربون الأسبان في القرن الثامن عشر أنهم ضربوا لملوك أوربا المثل في الوفاء لأزواجهم والثبات على حبهم.

وقد رسم دبلوماسي بريطاني صورة بريطانية لشارل الذي كانت له مواجهات مع الإنجليز في نابلي. "للملك مظهر غريب سواء شخصه أو زيه. فهو ضئيل القامة ولون بشرته شبيه بلون المحنة ولم يفصل له سترة طوال هذه السنين الثلاثين، لذلك يبدو في سترته وكأنها الزكيبة، وصدريته وسراويله وكوبه من الجلد عادة، وعل ساقه طماق يقيهما من البلل. وهو يخرج للرياضة كل يوم من أيام السنة غير عابئ بمطر أو ريح(29).

 
Leopoldo de Gregorio, marquis de Esquilache, Spanish statesman and reformer of King Charles III

ولكن إيرل برستول- أردف في 1761، "إن للملك الكاثوليكي مواهب جيدة، وذاكرة مواتية، وسيطرة غير عادية على نفسه في جميع المناسبات. وقد بات يتشكك في الناس لكثرة ما خدعوه. وهو يفضل دائماً أن ينال موافقة الآخرين على رأيه باللين، وله من طول الأناة ما يجعله ينصح محدثه المرة بعد المرة دون أن يستعمل سلطته. ومع ذلك فرغم سيماء اللطف العظيم البادي عليه استطاع أن يبث الرهبة في قلوب وزرائه وحاشيته."(30)

ولم يكن في تقواه الشخصية ما ينذر بأنه سيهاجم اليسوعيين أو يضطلع بالإصلاحات الدينية. كان يختلف إلى القداس كل يوم. وقد أدهش عدواً إنجليزياً "وفاؤه الأمين العنيد بكل معاهداته مبادئه وارتباطاته"(31) وكان يخصص جزءاً كبيراً من كل يوم من أيام الأسبوع (عدا الأحد) لشؤون الحكم. يستيقظ في السادسة، ويزور أبناؤه، ويفطر، ويعكف على العمل من الثامنة إلى الحادية عشرة، ويجتمع بوزرائه، ويستقبل كبار القوم ويتناول غداءه مع غيره، ويخصص عدة ساعات للصيد، ويتعشى في التاسعة والنصف، ويطعم كلابه، ويتلو صلواته، ثم يمضي إلى فراشه. ولعل الصيد كان وقاءً صحياً قصد بن أن يصرف عنه الاكتئاب الموروث في الأسرة. وبدأ ببعض الأخطاء الخطيرة. ذلك أنه لجهله بأسبانيا التي لم يرها من كان في السادسة عشرة اتخذ اثنين من الإيطاليين كانا قد أخلصا في خدمته بنابلس مساعدين أثيرين لديه: المركيز دي جريمالدي في السياسة الخارجية، والمركيز دي سكللاتشي في الشؤون الداخلية.

 
The Count of Floridablanca, Spanish statesman and reformer, by Francisco Goya

وقد وصف إيرل برستول سكللاتشي هذا بأنه "غير ذكي. أنه مولع بالعمل ولا يشكو أبداً من كثرته تنوع إدارات الحكومة التي تتركز فيه...وأعتقد أنه غير قابل للارتشاء، ولكنني لا أريد أن أكون مسئولاً بهذا القدر عن زوجته(32) ولم يحب جرائم مدريد ولا روائحها الخبيثة ولا ظلمتها، ومن ثم فقد نظم لها شرطة نشيطة وفرقة لتنظيف شوارعها، وأنار العاصمة بخمسة آلاف مصباح. وأباح الاحتكارات لتزويد المدينة بالزيت والخبز وغيرهما من الضروريات. وحدث أن الجفاف رفع الأسعار، فطالبت الجماهير برأس سكللاتشي. وقد أغضب رجال الدين بلوائح حدت من امتيازاتهم وسلطتهم. وفقد المئات من المؤيدين حين صادر الأسلحة المخبأة. وأخيراً أثار الشعب بمحاولة تغيير زي الشعب. فقد أقنع الملك بأن العباءة أو الكاب الطويل الذي يخفي البدن والقبعة العريضة ذات الحافة المقلوبة التي تخفي كثيراً من الوجه، يسهلان إخفاء السلاح ويعوقان الشرطة عن التعرف على المجرمين. ومن ثم حظرت سلسلة متعاقبة من المراسيم الملكية الكاب والقبعة، وزود رجال الضبط بالمقصات الكبيرة يقصون بها العباءات المخالفة حتى يصلوا بها إلى الطول القانوني(33). وكان في هذا التحكم فوق ما يطيقه المدريديون الأباة. فثاروا في أحد الشعانين، 23 مارس 1766، واستولوا على مخازن الذخيرة، وأطلقوا السجناء، وتغلبوا على الجنود والشرطة، وهاجموا بيت سكللاتشي، وحصبوا جريمالدي، وقتلوا الحرس الولوني الذين يحرسون القصر الملكي، وجابوا الشوارع يرفعون رءوس هؤلاء الدخلاء الممقوتين على الرماح متوجة بقبعات عريضة الحواف. وظل الرعاع يومين يواصلون التقتيل والنهب. وهنا أذعن شارل، وألغى المراسيم، وأعاد سكللاتشي إلى إيطاليا محروساً. وكان في غضون ذلك قد أكتشف مواهب الكونت أراندا، وعينه رئيساً لمجلس قشتالة. فجعل أراندا العباءة والصمبريرة Sombrero أي القبعة العريضة الحافة الزي الرسمي للبلاد.وكان في هذا المعنى الجديد المتضمن ما زهد الناس في الزي القديم، ومن ثم اتخذ معظم أهل مدريد الزي الفرنسي.

كان أراندا سليل أسرة عريقة غنية في أرجوان. رأيناه يتشرب التنوير في فرنسا، كذلك ذهب إلى بروسيا حيث درس التنظيم العسكري ثم عاد إلى أسبانيا متشوقاً إلى العمل على أن يصل وطنه إلى مستوى تلك الدول الشمالية. وأفرط أصحابه الموسوعيون في الجهر باغتباطهم لتقليده السلطة، وأحزنه أنهم بذلك زادوا مهمته صعوبة،(34) وود لون أنهم درسوا الدبلوماسية من قبل. وقد عرف الدبلوماسية السياسة بأنها فن "إعادة تنظيم قوة مختلفة السلطات، ومواردها، ومصالحها، وحقوقها، ومخاوفها وآمالها، حتى إذا سمحت المناسبة استطعنا أن نهدئ من هذه القوى، أو نفرق بينها، أو نهزمها أو نتحالف معها، ذلك رهن بكيفية خدمتها لمصالحنا وزيادتها لأمتنا"(35).

وكنا الملك في حالة نفسية مواتية لإصلاحات الكنيسة لتوجسه من أن الأكليروس شجعوا الثورة على سكللاتشي سراً(36). وكان قد أذن للمطبعة الحكومية في أن تطبع عام 1765 مقالاً غفلاً من أسم الكاتب عنوانه Tratado de la Regalia de L'amortizaction. تشكك في حق الكنيسة في جمع الثورة العقارية، وزعم أن الكنيسة ينبغي أن تكون خاضعة للدولة في جميع الأمور الزمنية. وكان المؤلف هو كونديه بدرو رودريجر دي كومبومانيس، وكان عضواً في مجلس قشتالة. وكان شارل قد أصدر عام 1761 أمراً يشترط موافقة الملك على نشر الأوامر أو الرسائل البابوية في أسبانيا، وفي تاريخ لاحق ألغى هذا الأمر. ولكنه عاد فجدده في 1768. وأيد الآن أراندا وكومبومانتيس في سلسلة من الإصلاحات الدينية شكلت من جديد وجه أسبانيا الفكري طوال جيل مثير.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ب - الإصلاح الديني الأسباني

لم يكن في نية المصلحين الأسبان أن يقضوا على الكاثوليكية في أسبانيا- ربما باستثناء أراندا. وكانت الحروب الطويلة التي خاضتها البلاد لطرد العرب (كالكفاح الطويل لتحرير أيرلندا) قد جعلت الكاثوليكية جزءاً من الوطنية وكتفتها إلى درجة إحالتها إلى إيمان قدسته تضحيات الأمة تقديساً لا يتيح التحدي الناجح أو التغيير الجذري. وكان أمل المصلحين أن يخضعوا الكنيسة لإشراف الدولة، وأن يحرروا عقل أسبانيا من رهبة محكمة التفتيش. وقد بدءوا بمهاجمة اليسوعيين.

كانت جماعة اليسوعيين قد ولدت بأسبانيا في عقل أغناطيوس لويولا وتجاربه، وكان نفر من أعظم قادتها من أسبانيا. وكما حدث في البرتغال، وفرنسا، وإيطاليا، والنمسا اضطلعت الجماعة بالتعليم الثانوي، وزودت الملوك والملكات بآباء الاعتراف، وشاركت في تشكيل السياسات الملكية. وقد أثار سلطانها المتسع غيرة الأكليروس الكاثوليكي غير الرهباني، وأحياناً عداءه. وكان بعض هؤلاء يؤمنون بأن سلطة المجامع المسكونة تعلو على سلطة الباباوات، أما اليسوعيين فقد دافعوا عن سمو سلطة الباباوات على سلطة المجامع والملوك. وشكا رجال الأعمال الأسبان من أن اليسوعيين المشتغلين بتجارة المستعمرات يبيعون بأسعار أقل من التجار المحترفين بفضل ما يتمتعون به من إعفاءات كنسية من الضرائب، وقرروا أن هذا يقلل من الإيرادات الملكية. وآمن شارل بأن اليسوعيين ما زالوا يشجعون مقاومة هنود باراجواي لأوامر الحكومة الأسبانية(37)؛ وروعه أن يطالعه أراندا وكامبومانيس وغيرهما على خطابات ادعوا أنهم وجدوها بين رسائل اليسوعيين، وقد صرح أحد هذه الخطابات الذين زعموا أن كاتبه هو الأب ريكي قائد الطائفة اليسوعية؛ بأن شارل ابن غير شرعي ويجب أن يحل محله أخوه لويز. وقد رفض الكاثوليك وغير المؤمنين على السواء صحة هذه الخطابات(39)، ولكن شارل ظنها صحيحة وانتهى إلى أن اليسوعيين يأتمرون لخلعه، وربما لقتله(40). ولحظ أن محاولة- زعموا أن اليسوعيين كانوا ضالعين فيها- بذلت لاغتيال يوسف الأول ملك البرتغال (1758)، فصحت نيته على أن يحذو حذو يوسف ويطرد الطائفة من مملكته.

وحذره كامبومانيس من أن خطوة كهذه لن يتاح لها النجاح إلا بالاستعدادات المستورة تتبعها ضربة فجائية مدبرة، وإلا استطاع اليسوعيين الذين كانوا يحظون بتبجيل الشعب أن يثيروا ضجة مؤذية في الأمة وممتلكاتها جميعاً. وعملاً باقتراح أراندا أرسلت رسائل مختومة ممهورة بتوقيع الملك في مطلع عام 1767 إلى الموظفين في جميع أرجاء الإمبراطورية مشفوعة بالأمر بعدم فضها إلا في 31 مارس في أسبانيا، وفي 2 إبريل في المستعمرات، وألا كان الموت عقاب المخالفين . وفي 31 مارس أستيقظ اليسوعيون الأسبان ليجدوا بيوتهم ومدارسهم يطوقها الجنود، ويجدوا أنفسهم معتقلين. وأمروا بالرحيل في هدوء، غير مصطحبين سوى ما يطيقون حمله، أما سائر ممتلكات اليسوعيين فقد صادرتها الدولة. ومنح كل مبعد معاشاً صغيراً يوقف أن عارض أي يسوعي في طرده. ثم أخذوا في عربات تحت الحراسة العسكرية إلى أقرب ميناء وأركبوا السفن إلى إيطاليا. وبعث شارل بكلمة إلى البابا كلمنت الثالث عشر يخيره أنه "ينقلهم إلى الأراضي الكنسية ليظلوا تحت إشراف قداسته الحكيم العاجل....وأني أرجو من قداستكم ألا تعتبروا هذا القرار إلا احتياطاً مدنياً لا غنى عنه، لم أتخذه إلا بعد البحث الناضج والتفكير العميق(41)".

فلما حاولت أولى السفن التي كانت تحمل ستمائة من اليسوعيين، أن تنزلهم في تشيفبتافكيا، رفض الكردينال تورجياني، السكرتير البابوي، السماح لهم بالرسو محتجاً بأن إيطاليا لا تستطيع بهذه السرعة المفاجئة أن تعنى بهذا العدد الكبير من اللاجئين(42). وظلت السفينة الأسابيع تجوب البحر المتوسط باحثة عن ميناء مضياف بينما يعاني ركابها البائسون من رداءة الجو ومن الجوع والمرض. وأخيراً سمح لهم بالنزول في قورسقه، وبعد حين استوعبتهم الولايات البابوية في جماعات سهلة القيادة. ولقي اليسوعيون في غضون هذا النفي المماثل من نابلي وبارما وأمريكا الأسبانية والفلبين. وناشد كلمنت الثالث عشر شارل الثالث أن يلغي هذه المراسيم التي سيصعق العالم المسيحي كله لا محالة لما فيها من مباغتة وقسوة. فأجاب شارل "أنني لرغبتي في أن أعفي العالم من فضيحة كبرى سأظل ما حييت مختبئاً في قلبي سر المؤامرة النكراء التي اقتضت هذه الصرامة. وينبغي لقداستكم أن تصدقوا كلمتي، فسلامة حياتي تفرض عليّ الصمت العميق(43)".

ولم يصفح الملك قط عن الأدلة التي قام عليها مراسيمه. وفي التفاصيل من التناقض والغموض ما يجعل المرء عاجزاً عن الحكم عليها. وقد اعترض دالامبير على الطريقة التي نفي بها اليسوعيون، ولم يكن بصديق لهم. ففي 4 مايو 1767 كتب إلى فولتير يقول:

"ما رأيك في مرسوم شارل الثالث الذي طرد اليسوعيين على هذا النحو المفاجئ؟ ألا ترى، رغم اقتناعي بأن لديه مبررات كافية ووجيهة، بأنه كان ينبغي أن يصفح عنها لا أن يحبسها في "قلبه الملكي"؟ ألا ترى أنه كان ينبغي له أن يسمح لليسوعيين بتبرير أنفسهم، لا سيما لأن الجميع واثقون أنهم ما كانوا يستطيعون هذا؟ وألا ترى أيضاً أن من الظلم البين لهم أن يتركوا جميعاً ليموتوا جوعاً بينما الواجب على أخ علماني واحد، ربما يقطع الكرنب الآن في المطبخ، أن يقول كلمة بطريقة أو بأخرى في الدفاع عنهم؟...ألا يبدو لك أنه كان مستطيعاً أن يتصرف بتعقل أكثر في تنفيذ أمر هو رغم كل شيء أمر معقول(44)"؟ أكان طردهم إجراء محبباً لدى الشعب؟ بعد عام من استكمال هذا الطرد وفي عيد القديس شارل، طلع الملك على شعبه من شرفة قصره، فلما سألهم جرياً على عادة مألوفة عندهم أي منحة يرغبون في أن يهبهم صاحوا "بصوت واحد" أن يسمح لليسوعيين بالعودة، وأن يلبسوا رداء الأكليروس غير الرهباني- فأبى شارل، ونفى رئيس أساقفة طليطلة متهماً إياه بأنه المحرض على الالتماس الذي أشتبه في أنه يهدف إلى التوفيق(45). ولما طلب البابا في 1769 إلى أساقفة أسبانيا رأيهم في طرد اليسوعيين، وافق عليه اثنان وأربعون، وعارضه ستة، ولم يبد ثمانية رأياً في الأمر(46). وأغلب الظن أن الكهنة من غير الرهبان كانوا مغتبطين بإعفائه من منافسة اليسوعيين لهم. ووافق الأخوة الأوغسطينيون في أسبانيا على الطرد، ثم أيدوا بعد ذلك مطالبة شارل الثالث بفض جماعة اليسوعيين بجملتها(47).

أما ديوان التفتيش فلم يكن في الإمكان اتخاذ إجراء معجل كهذا معه، فقد كان أعمق من جمعية اليسوعيين تغلغلاً في رهبة وتقاليد الشعب الذي عزا إلى الديوان في صيانة الأخلاق والاحتفاظ بنقاء إيمانهم- بل حتى نقاء دمائهم. وحين ولي شارل العرش كان الديوان يسيطر على عقل أسبانيا برقابة صارمة ساهرة. فأي كتاب تظن به الهرطقة الدينية أو الانحراف الخلقي يقدم إلى الفاحصين، فإذا رأوه خطراً بعثوا بتوصياتهم إلى مجلس ديوان التفتيش، وللمجلس سلطة الأمر بمصادرة الكتاب وعقاب مؤلفه. وكان الديوان يصدر دورياً فهرساً بالكتب المحرمة، وكان إحراز كتاب منها أو قراءته دون إذن كنسي جريمة لا يغتفرها إلا ديوان التفتيش، وقد يعاقب مرتكبها بالجرم. وكان على القساوسة خصوصاً في الصوم الكبير أن يسألوا جميع المعترفين بذنوبهم أن كانوا يملكون أو يعلمون أن إنساناً يملك كتاباً محظوراً. وكل مقصر في الإبلاغ عن انتهاك للفهرس يعتبر مذنباً كمنتهكه، وما كان لأية روابط أسرية أو علاقات ودية أن تعفيه من العقاب(48).

ولم ينجز وزراء شارل في هذا المضمار سوى إصلاحات صغيرة. ففي 1768 حد من سلطة الديوان في رقابة المطبوعات باشتراط الحصول على التصديق الملكي على جميع المراسيم المحرمة للكتب قبل تنفيذها. وفي 1770 أمر الملك محكمة الديوان بأن تقتصر على الهرطقة والارتداد دون غيرهما، وإلا تسجن إنساناً ما لم يثبت ذنبه على نحو قاطع. وفي 1784 أمر بأن تعرض عليه إجراءات الديوان الخاصة بكبار النبلاء، وأعضاء مجلس الوزراء والموظفين الملكيين، لمراجعتها. ثم عين رئيساً عاماً للديوان أبدى موقفاً أكثر تحرراً بازاء خلافات الفكر(49).

وكان لهذه الإجراءات المتواضعة بعض الأثر، لأن الرئيس العام لديوان التفتيش قرر في حزن أن الخوف من اللوم الكنسي على قراءة الكتب المحرمة يكاد يصبح في خبر كان(50)، وكان وكلاء الديوان بعد 1770 بوجه عام أقل غلواً، وعقوباته أرحم من ذي قبل. ومنح التسامح الديني للبروتستنت في عهد شارل الثالث، وللمسلمين في 1779، وأن لم يمنح لليهود(51). وفي عهد شارل الثالث أحتفل بإحراق المنحرفين أربع مرات، آخرها عام 1780 في إشبيلية حين أحرقت عجوز اتهمت بالسحر، وأثار إعدامها هذا من النقد في كل أرجاء أوربا(52) ما مهد الطريق لإلغاء ديوان التفتيش الأسباني في 1713.

ومع ذلك ظلت حرية الفكر إذا أعرب صاحبها عنها حتى في عهد شارل الثالث تعاقب قانوناً بالموت. ففي 1768 أتهم بابلو أولافيدي أمام ديوان التفتيش بحيازته صوراً بذيئة في بيته بمدريد، وربما كانت نسخاً من عرايا بوشيه، لأن أولافيدي كان قد جاب فرنسا حتى فرنيه. ثم رمي بتهمة أخطر في 1774، هي أنه لم يسمح بإقامة أديرة في القرى النموذجية التي أنشأها في سييرا مورينا، وأنه حظر على الكهنة تلاوة القداس في غير يوم الأحد أو طلب الصدقات. وأحاط ديوان التفتيش الملك بأن هذه الجرائم وغيرها قد أثبتت بشهادة ثمانين شاهداً. وفي 1778 أستدعي أوفلافيدي لمحاكمته وأتهم بتأييده نظرية كوبرنيق الفلكية وتراسله مع فولتير وروسو. فرجع الرجل عن أخطائه وتصالح مع الكنيسة، وصودرت كل أملاكه، وحكم عليه بالحبس في دير ثمانية أعوام. وفي 1780 تداعت صحته، وسمح له بالاستشفاء بمياه منتجع معدني في قنلونيه، ومنها فر إلى فرنسا، حيث أستقبله أصحابه الفلاسفة في باريس استقبال الأبطال. ولكنه لم يقضِ في منفاه بضع سنوات حتى استبد به الحنين إلى مغانيه الأسبانية. فألف كتاباً مشرباً بروح التقوى عنوانه "الإنجيل المنتصر أو الفيلسوف المهدي" وعليه أذن ديوان التفتيش بعودته(53).

ونلاحظ أن محاكمة أوفلافيدي جرت بعد سقوط أراندا من رآسة مجلس قتشتالة وفي أخريات حكم أراندا أنشأ مدارس جديدة يقوم بالتدريس فيها أكليروس غير رهباني لملء الفراغ الذي خلفه اليسوعيون، وأصلح العملة بإحلال نقود من نوع جيد وتصميم أرقى محل العملات الممزوقة (1770). على أن إحساسه باستنارته الفائقة جعله بمضي الزمن نزقاً متغطرساً وقحاً. فبعد أن جعل سلطة الملك مطلقة سعى إلى تقييدها بزيادة نفوذ الوزراء. وفقد القدرة على الرؤية المتناسية وتقدير الأمور في أوضاعها الصحيحة، وحلم بإخراج أسبانيا بعد جيل واحد من كتلتها المطمئنة إلى تيار الفلسفة الفرنسية. وأعرب في جرأة مغالية عن أفكاره المهرطقة، حتى لكاهن اعترافه. ومع أن الكثير من رجال الأكليروس غير الرهبان أيدوا بعض إصلاحاته الكنسية لما فيها من نفع للكنيسة(54)، فأنه أخاف عدد أكبر بالكشف عن أمله في حل ديوان التفتيش جملة(55). وأشتد كره الناس له حتى أنه لم يجرؤ على الخروج من قصره دون حرس. وراح يكثر من الشكوى من ثقل أعباء وظيفته حتى أخذه شارل آخر الأمر عن كلمته فأوفده سفيراً إلى فرنسا (1713- 87) وهناك تنبأ بأن المستعمرات الإنجليزية في أمريكا، التي بدأت ثورتها آنذاك، ستصبح في الوقت المناسب من أعظم دول العالم(56).

جـ - الاقتصاد الجديد

سيطر على الوزارة بعد رحيل أراندا ثلاثة من الرجال الأكفاء. فخلف خوزيه مونينو، كونت فلوريدا بلانكا، جريمالدي وزيراً للشؤون الخارجية (1776)، وسيطر على مجلس الوزراء حتى عام 1792. وقد تأثر بالفلاسفة الفرنسيين كما تأثر أراندا ولكن بدرجة أقل. وأرشد الملك في إجراءات لتحسين الزراعة والتجارة والتعليم والعلوم والفنون، ولكن الثورة الفرنسية أخافته فانتكس محافظاً، وقاد أسبانيا إلى أول تحالف ضد فرنسا الثورة (1792). أما بدور دي كامبومانيس فقد ترأس مجلس قشتالة خمس سنين، وكان المحرك الأول في الإصلاح الاقتصادي. وأما جسبار ملكور دي خوفللانوس، أرفع الأسبان في جيله(57)" فقد عرفته الجماهير أول ما عرفته قاضياً رحيماً نزيهاً في إشبيلية (1767) ومدريد (1778). وجاء أكثر نشاطه في الحكومة المركزية تالياً لعام 1789، ولكنه أسهم إسهاماً قوياً في السياسة الاقتصادية أيام شارل الثالث بكتاب ألفه في الإصلاح الزراعي (1787). وقد أذاع اقتراحه مراجعة القانون الزراعي، وهو الاقتراح الذي كتبه برشاقة أسلوب كاد يداني بها رشاقة أسلوب شيشيرون، وشهرته في أوربا طولاً وعرضاً. هؤلاء الثلاثة، بالإضافة إلى أراندا، كانوا أباء التنوير الأسباني والاقتصاد الجديد. ويرى دارس إنجليزي، بوجه عام، أن النتيجة الطيبة التي حققوها تضارع ما تحقق في مثل هذا الزمن القليل في أي بلد آخر، ولا ريب في أن تاريخ أسبانيا لا يحوي فترة يمكن مقارنتها بحكم شارل الثالث(58).

كانت العقبات التي اعترضت الإصلاح في أسبانيا لا تقل خطراً في الاقتصاد عنها في الدين. فقد بدأ تركيز الملكية الثانية في الأسر الشريفة أو الجماعات الكنسية، واحتكار "المستا" لإنتاج الصوف، حاجزين في وجه التغيير الاقتصادي لا سبيل إلى التغلب عليهما. وكان ملايين الأسبان يفخرون بحياة الكسل التي يحيونها، ولا يخجلون من التسول، وكانوا لا يثقون في التغيير لأنه خطر يهدد بالتبطل . وكان المال يختزن في خزائن القصور والكنائس بدلاً من استثماره في التجارة أو الصناعة. وكان طرد المغاربة واليهود والموريسكو قد أزال كثيراً من مصادر تحسين الزراعة وتطوير التجارة. وقد نجم عن صعوبات الاتصال والنقل الداخليين أن تخلف داخل البلاد قرناً عن برشلونة وإشبيلية ومدريد.

على أن فريقاً صادقي النية- نبلاء وقساوسة وأفراد من طبقة العامة رجالاً ونساء- كونوا رغم هذه المعوقات "جمعية اقتصادية لأصدقاء السلام" لدراسة وتشجيع التعليم والعلوم والصناعة والتجارة والفنون. فأنشئوا المدارس والمكتبات، وترجموا الأبحاث الأجنبية وقدموا الجوائز على المقالات والأفكار، وجمعوا المال لمشروعات وتجارب اقتصادية تقدمية. وقد أدانوا تكديس الأمة للذهب باعتباره أثراً مذكراً بالركود، وذلك اعترافاً منهم بتأثير الطبيعيين الفرنسيين وآدم سمث. وأكد واحد منهم: "أن الأمة التي تملك معظم الذهب هي أفقر الأمم...كما أثبتت أسبانيا(60). ورحب خوفللانوس بـــ"علم الاقتصاد المدني" باعتباره "علم الدولة الحقيقي". وكثرت المقالات الاقتصادية. وكان مقال كاميومانيس عن الصناعة الشعبية إلهاماً للآلاف ومنهم الملك.

وبدأ شارل باستيراد الغلال والبذور للأقاليم التي اندثرت فيها الزراعة. وحث المدن على أن تؤجر أراضيها المشاع غير المزروعة للفلاحين بأقل إيجار عملي. وأنشأ فلوريدا بلايكا ببعض إيرادات التاج من دخول الرتب الكنسية الشاغرة أرصدة دينية في بلنسية وملقا لإقراض المال للمزارعين بفائدة منخفضة. ولكي يحد شارل من إزالة الغابات وتعرية التربة أمر جميع الكومونات بأن تزرع كل سنة عدداً محدداً من الأشجار. ومن هنا ذلك الاحتفال السنوي بــ"يوم الشجرة" الذي ظل في نصف الكرة تقليداً صحياً أيام شبابنا. وقد شجع إغفال الأوقاف القديمة، وثبط وقف الجديد منها، وبهذا يسر تجزئة الضياع الكبيرة إلى ملكيات للفلاحين. ثم اختزلت امتيازات احتكار أغنام المستا اختزالاً حاداً وأبيح زرع مساحات كبيرة من الأرض كانت من قبل حكراً للرعي. واستقدم المستعمرون الأجانب لتعمير المناطق الخفيفة السكان. مثال ذلك أن أولافيدي أنشأ (1767 وما بعدها) في إقليم سبيرا مورينا بجنوب غربي أسبانيا، الذي كان إلى ذلك الحين متروكاً للصوص والوحوش، أربعاً وأربعين قرية وإحدى عشرة مدينة مأهولة بالوافدين الفرنسيين أو الألمان، وأصبحت هذه المستوطنات مشهورة برخائها. وشقت القنوات الطويلة لربط الأنهار وري مساحات واسعة من الأرض كانت من قبل جرداء قاحلة. ثم شقت شبكة من الطرق الجديدة كانت في فترة خير الطرق في أوربا(62)، فربطت القرى والمدن في تيسير يعين على سرعة المواصلات والنقل والتجارة.

ومدت الحكومة يد العون للصناعة. ورغبة في إزالة الوصمة التي ألصقتها التقاليد بالعمل اليدوي، أعلن مرسوم ملكي أن لا تعارض بين الأعمال الحرفية وشرف المكانة الاجتماعية، وأن الحرفيين يصح منذ الآن اختيارهم للوظائف الحكومية. وأنشئت المصانع النموذجية: للمنسوجات في وادي الحجارة وسقوبية، وللقبعات في سان فرناندو، وللحرائر في طلبيه، وللصيني في بوين رتيرو، وللزجاج في سان إلدفونسو، وللزجاج والأثاث الخشبي الفاخر وقطع النسيج المرسوم في مدريد. وشجعت المراسيم الملكية تطور الإنتاج الرأسمالي على نطاق واسع، لا سيما في صناعة النسيج. فكان في وادي الحجارة عام 1780 ثمانمائة نول تستخدم أربعة آلاف نساج، وأدارت شركة واحدة في برشلونة ستين مصنعاً تضم 2.162 نولاً نساج القطن، وكان في بلنسيه أربعة آلاف نول تنسج الحرير، وأخذت تنافس تجارة ليون في الحرير لما حظيت به من إمكانات التصدير. وفي 1792 كان في برشلونة ثمانون ألف نساج، ولم يفقها في إنتاج الأقمشة القطنية غير أقاليم إنجلترا الوسطى.

وكانت إشبيلية وقادس تتمتعان منذ عهد بعيد باحتكار تحميه الدولة للتجارة مع الممتلكات الأسبانية في الدنيا الجديدة، فأنهى شارل الثالث هذا الامتياز وسمح لمختلف الثغور بالاتجار مع المستعمرات، ثم أبرم بعد التفاوض مع تركيا معاهدة (1782) فتحت الموانئ الإسلامية للسلع الأسبانية. وكانت النتائج مجزية لجميع الأطراف. وازداد أمريكا الأسبانية سريعاً، وارتفع دخل أسبانيا من أمريكا ثمانمائة في المائة في عهد شارل الثالث، وتضاعفت تجارة صادرها ثلاث مرات(63).

وتطلبت أنشطة الحكومة المتسعة دخولاً أكبر. وقد أمكن الحصول عليها إلى حد ما باحتكار الدولة لبيع البراندي، والتبغ، وورق اللعب، والبارود، والرصاص، والزئبق، والكبريت، والملح. وفي بداية العهد كانت هناك ضرائب مبيعات نسبتها خمسة عشر في المائة في قتلونيا، وأربعة عشر قشتالة. وقد وصف خوفللانوس ضرائب المبيعات بحق إذ قال "إنها تفاجئ ضحيتها...عند ميلادها، وتطاردها وتعترضها حين تدور، ولا تغفل عينها عنها أبداً أو تدعها تفلت منها حتى تقضي عليها".(64) وفي عهد شارل الثالث ألغيت ضريبة المبيعات في قتلونيا، وفي قشتالة خفضت إلى اثنين أو ثلاثة أو أربعة في المائة(65). وفرضت ضريبة متدرجة معتدلة على الدخول. وضماناً للمزيد من المال بتشغيل مدخرات الشعب، أقنع فرانسسكو دي كاباروس الخزانة بأن تصدر سندات حكومية تقل فائدة. فلما هبطت هذه السندات إلى ثمانية في المائة من قيمتها الاسمية، أسس (1782) أول مصرف قومي أسباني- بنكودي سان كارلوس- استهلك السندات بقيمتها الاسمية وأعاد الثقة المالية بالدولة.

وأثمر حسن الإدارة وروح الأقدام زيادة محسوسة في ثروة الأمة في جملتها. وكان أكثر الطبقات انتفاعاً هي الوسطى، لأن منظماتها هي التي أعادت تشكيل الاقتصاد الأسباني. ففي مدريد كون 375 من رجال الأعمال خمس نقابات تجارية كبرى سيطرت على معظم تجارة العاصمة. ونستطيع الحكم على مبلغ ثرائها من استطاعتها أن تقرض الحكومة عام 1776 ثلاثين مليون ريال(66).

وقد حبذت الحكومة بوجه عام ظهور طبقة رجال الأعمال هذا باعتباره أمراً لا غنى عنه لتحرير أسبانيا من الاعتماد الاقتصادي والسياسي على دول ذات اقتصاد أرقى. ولم تحظ البرولتاريا الناشئة، هنا شأنها في تلك الدول، بنصيب مذكور في الثراء الجديد. وارتفعت الأجور لا سيما في قتلونية حيث شكا الأغنياء من صعوبة العثور على الخدم والاحتفاظ بهم(67)، ولكن يمكن القول بوجه عام أن الأسعار ارتفعت بأسرع من ارتفاع الأجور، وإن الطبقات العاملة كانت فقيرة في ختام العهد فقرها في مطلعه. وقد لاحظ إنجليزي حساب لنسيه في 1797 ذلك التناقض بين (ثراء..التجار، وأصحاب المصانع، ورجال الدين، والعسكريين، والسادة من ملاك الأرض و "الفقر، والبؤس، والأسمال" التي ترى في كل شارع(68). وعليه فقد رحبت الطبقات الوسطى بالتنوير Luees الآتي من فرنسا وإنجلترا في حين كان موظفيهم الذين ملئوا الكنائس ولثموا المزارات يعوزون أنفسهم بالنعمة الإلهية وبآمال الفردوس.

واتسعت المدن في ظل الاقتصاد الجديد. وكان يعيش في المراكز البحرية الكبرى- برشلونة وبلنسية وإشبيلية وقادس- سكان يتفاوتون من 80.000 إلى 100.000 (1800). وكان يسكن مدريد (في 1797) 167.607، بالإضافة إلى 30.000 من الأجانب. وحين ولي شارل الثالث العرش كانت المدينة تشتهر بأنها أقذر عواصم أوربا. وكان الناس من سكان الأحياء الفقيرة لا يزالون يفرغون قمامتهم في الشوارع معتمدين على الريح أو المطر لتبديدها، فلما حظر شارل هذه العادة رموه بالطغيان. قال "إن الأسبان أطفال يبكون حين يحممون(69)". وقد أقام موظفوه رغم هذا نظاماً لجمع القمامة وللصرف، ونظم الزبالون لجمع النفاية لاستخدامها سماداً(70)، وبذل جهد لمنع التسول ولكنه باء بالفشل، ورفض الشعب السماح للشرطة بالقبض على المتسولين- لا سيما المكفوفين منهم الذين شكلوا نقابة قوية فيما بينهم.

وأصلح شارل من أمر عاصمته عاماً بعد عام. فجيء لها بالماء من الجبال إلى سبعمائة نافورة، حمله منها 720 سقاء في مشقة وعناء لتوزيعه على بيوت المدينة. وأضيأت الشوارع بمصابيح الزيت من الغسق إلى نصف الليل طوال شهور ستة في الخريف والشتاء، وكان أكثر الشوارع ضيقاً ملتوياً يتبع دروباً عتيقة متعرجة ويتوارى من شمس الصيف، ولكن بعض الشوارع المشجرة العريضة الجميلة شقت، وتمتع الشعب بالبساتين الفسيحة والمماشي الظليلة. وكان أحبها إلى الناس (باسيوديل برادو) أو متنزه المرج، الذي لطفت هواءه النوافير والأشجار، وفضله العشاق للاستطلاع ولقاءات الغرام. وهناك في 1785 بدأ خوان دي فيللا نوفا تشييد متحف البرادو. وهناك في أي يوم تقريباً كانت تجري أربعمائة مركبة، وفي أي عشية كان يتجمع ثلاثون ألف مدريدي. وحظر عليهم التغني بالأغاني البذيئة، أو الاستحمام عراة في النوافير، أو عزف الموسيقى بعد منتصف الليل، ولكنهم كانوا يستمتعون بأصوات النساء الرخيمة وهن ينادين على البرتقال والليمون والبندق. ذكر الرحالة أن المشهد الذي كان يرى كل يوم على البادو في أخريات القرن الثامن عشر كان يعدل ما يرى في مدن أخرى في الفترة نفسها في الآحاد والعطلات فقط(71)، وأصبحت مدريد آنئذ، كما عادت في عصرنا هذا، من أجمل مدن أوربا.

لم ينجح شارل الثالث في السياسة الخارجية نجاحه في الشؤون الداخلية. وبدا أن ثورة المستعمرات الإنجليزية في أمريكا تتيح فرصة الانتقام للخسائر التي منيت بها أسبانيا في حرب السنين السبع، فحث أراندا شارل على تقديم العون للثوار، فبعث له الملك سراً بمليون جنيه (يونيو 1776). وأفضت هجمات القراصنة الإنجليز على السفن الأسبانية آخر الأمر إلى إعلان أسبانيا الحرب على إنجلترا (23 يونيو 1779). واستعادت قوة أسبانية مينورقة، ولكن محاولة الأسبان الاستيلاء على جبل طارق باءت بالفشل. واتخذت العدة لغزو إنجلترا، ولكن الغزو عطلته العواصف (البروتستنتية) وفي صلح فرساي (1783) سحبت أسبانيا مطالبها بجبل طارق ولكنها استعادت فلوريدا.

وأحزن الملك في سنيه الأخيرة إخفاقه في استرداد وحدة الأراضي الأسبانية وكانت الحروب قد أتت على شطر كبير من الثروة التي أنتجها الاقتصاد الجديد. ولم يستطع وزراؤه الأكفاء أن يتغلبوا قط على شديدتين من قوى المحافظة- كبار النبلاء بضياعهم الشاسعة، والأكليروس بما لهم من مصلحة راسخة في سذاجة الشعب. أما شارل نفسه فنذر أن تذبذب في ولائه الأصيل للكنيسة. ولم يعجب به شعبه قط إعجابه حين يراه- وقد لقي موكباً دينياً- يعطي مركبته للأسقف حامل القربان ثم ينضم إلى الموكب سائراً على قدميه. وأكسبه ورعه المحبة التي افتقدها من الشعب وهو الغريب الوافد من إيطاليا- في العقد الأول من حكمه. فلما وافته منيته (14 ديسمبر 1788)، بعد أربعة وخمسين عاماً حكم فيها نابلي وأسبانيا، كان كثيرون يرون فيه أبر ملوك أسبانيا إن لم يكن أعظمهم. وقد تجلت فطرته الطيبة الرقيقة حين سأله الأسقف القائم على خدمته وهو على فراش الموت هل غفر لأعدائه جميعاً، فقال متسائلاً "كيف أنتظر جواز المرور هذا قبل أن أغفر لهم؟ لقد غفرت لهم أجمعين في اللحظة التالية للإساءة(72)".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المشاكل في الخارج (1788–1808)

King Charles III died on 14 December 1788. Seven months later, French revolutionaries stormed the Bastille, launching the French Revolution.


 
The Count of Aranda, the leader of the Aragonese faction in the courts of Charles III and Charles IV


 
His Majesty's Ship "Victory", Capt. E. Harvey, in the Memorable Battle of Trafalgar between two French Ships of the Line by John Constable



حرب الاستقلال (1808-1814)

 
The Executions of the Third of May by Francisco Goya

6- الخلق الأسباني

أي طراز من الناس كان أسبان القرن الثامن عشر هؤلاء؟ الإجماع على أنهم كانوا قوماً أفاضل إذا قيسوا بنظرائهم في إنجلترا وفرنسا. وكان لهم في تدينهم الشديد، ومن شجاعتهم وإحساسهم بالشرف، ومن تماسكهم ونظامهم الأسريين، عوامل تصحيح قوية لحساسيتهم الجنسية وكبريائهم العدوانية، حتى مع تكريسهم شوفينيه مشبوبة في مسائل العرق والدين. وقد أعاق الانتخاب الجنسي الشجاعة لأن النساء الأسبانيات وهن يطلبن الحماية كن يمنحن أرق ابتساماتهن للرجال الذين يواجهون الثيران في الحلبة أو الشوارع، أو الذين يبادرون برفض الإهانة والثأر لأنفسهم، أو الذين يعودون من الحرب مكللين بغار الانتصار.

ولانت الفضائل الجنسية يتفق الأفكار والعادات الفرنسية، وكانت الصبايا يحرسن حراسة مشددة، وكان رضا الوالدين (بعد 1766) شرطاً قانونياً للزواج، ولكن النساء في المدن الكبيرة كن بعد الزواج ينغمسن في الغزل والمعابثة وأصبح "الفرس التابع" ملحقاً ضرورياً للسيدة العصرية، وازداد الفجور(73). وابتدعت جماعة صغيرة تدعى "الماخو" و"الماخا" مظهراً فذاً من مظاهر الحياة الأسبانية. وكان الماخو رجالاً من الطبقة الدنيا يلبسون كالغنادير، ويرتدون العباءات الطويلة، ويطيلون شعورهم، ويغطون رؤوسهم بقبعات عريضة الحافة، ويدخنون السيجار الكبير، وكانوا على استعداد دائم للعراك، يعيشون عيشة بوهيمية على نفقة خليلاتهم-الماخا-كلما أمكن ذلك. ولم يعبئوا بالقانون في اتصالاتهم الجنسية؛ وكان للماخا في كثير من الحالات زوج يعولها بينما تعول هي خليلها الماخو، ويعرف نصف العالم الماخا، كاسية أو عارية من فرشاة جويا.

أما الفضيلة الاجتماعية فكانت عالية المستوى نسبياً. لقد وجد الفساد السياسي والتجاري، ولكن ليس على النطاق الواسع المعروف آنئذ في فرنسا أو إنجلترا، ذكر رحالة فرنسي أن "الأمانة الأسبانية مضرب الأمثال وتتجلى واضحة في العلاقات التجارية"(74).فكانت كلمة السيد الأسباني مستنداً أدبياً ساري المفعول من لشبونة إلى سانت بطرسبرج. وكثيراً ما كانت الصداقة في أسبانيا أبقى من الحب. أما البر بالفقراء فموفور. ففي مدريد وحدها كانت المؤسسات الدينية توزع كل يوم ثلاثين ألفاً من قصاع الحساء المغذي على الفقراء(75). وأسس الكثير من المستشفيات والملاجئ الجديدة، ووسع الكثير من القديم منها أو حسن. وكان جل الأسبان كرماء رحماء إلا مع المهرطقين والثيران.

وكان قتال الثيران ينافس الدين والجنس والشرف والأسرة محلاً لحب الأسبان. وكان الدفاع عن هذه المعارك، شأنه شأن ألعاب المجالدة في روما القديمة، يقوم على أساسين أن الشجاعة يجب أن تربى في الرجال، وأن الثيران لا بد أن تموت قبل أن تؤكل. وقد حرم شارل هذه المعارك، ولكنها استأنفت بعد موته بقليل. وكان مهرة المصارعين الفرسان ومغامروهم معبودي الطبقات كلها. وكان لكل منهم أنصاره، فدوقة ألبا تؤثر كوستللاريس ودوقة أوزونا تؤثر روميرو، وقسم الحزبان مدريد كمل قسم جلوك ويتشيني باريس. وراهن الرجال والنساء بأرزاقهم على مصير الثيران، وعلى كل شيء آخر تقريباً. وكان القمار محرماً بالقانون ولكنه شائع، لا بل كانت البيوت الخاصة تدير أمسيات للقمار وكانت المضيفات يقبضن رسوم اللعب.

وتخلت ملابس السادة شيئاً فشيئاً عن العباءة السوداء المقبضة والياقة الصلبة التي تزيا بها الجيل السابق، واستبدلت بها الزي الفرنسي-وهو السترة الملونة والصدرة الطويلة من الساقان أو الحرير، وسراويل الركوب، والجوارب الحريرية الطويلة، والحذاء ذو المشبك، يتوج هذا كله باروكة وقبعة مثلثة الأركان. أما المرأة الأسبانية فألفت أن تجعل من مفاتنها سراً غامضاً مقدساً تلفها في صدرات من الدنتللا وتنورات طويلة، ذات أطواق موسعة أحياناً. وتستعمل براقع من قماش الطرح إخفاء لعيونهن التي يود المعجب الأسباني لو أغرق روحه في أعماقها المظلمة. وكانت السيدة في القرن السابع عشر نادراً ما تكشف عن قدميها لأنظار الرجال، أما الآن فقد قصرت الجونلة إلى بضع بوصات فوق الأرض، واستعيض عن الخفين المستويين بحذاء مدبب عالي الكعب، وقد أنذر الوعاظ بأن تعرية النساء لأقدامهن على هذا النحو غير مهذب إنما يزيد نار الرجال المتقدة اشتعالاً. ولكن النساء ابتسمن، وزين أحذيتهن، ونشرن تنوراتهن، وروحن بمراوحهن حتى في أيام الشتاء. وكانت إيزابيللا فارنيزي تملك ذخيرة من 1626 مروحة زين بعضها برسوم لرسامين ذوي شهرة قومية.

وكانت الحياة الاجتماعية مقيدة في كل شيء إلا المراقص. فاجتنبت المجتمعات في الأمسيات النقاش الجاد مؤثرة عليه الألعاب والرقص والغزل. وكان الرقص غراماً كبيراً في أسبانيا، وقد أفرخ ألواناً اشتهرت في أوربا. فكانت "الفاندانجو" ترقص على ميزان ثلاثي بالصاجات، أما السجيديللا فيؤديها زوجان أو أربعة أزواج من الراقصين، بمصاحبة الصاجات وبالغناء عادة، وقد اتخذت رقصة مشتقة منها تسمى البوليرو وشكلها حوالي 1780، وسرعان ما اكتسبت شعبية مجنونة. وفي رقصة الكونترادانزا كان صف من الرجال يواجه صفاً من النساء في تقدم وتأخر متناوبين، وكأنما يرمز هذا إلى تكتيك الحرب الأبدية بين المرأة والرجل، أو كان أربعة أزواج يؤلفون ويحيطون مربعاً في رقصة فخمة تدعى الكونترا دانزا كوادرادا-أي الكدريل. وكانت حفلات الرقص المقنع تجتذب أحياناً 3.500 من الراقصين المتحمسين، وكان القوم في المرافع يرقصون حتى مطلع الفجر.

وجعلت هذه الرقصات الحركة شعراً حياً وحافزاً جنسياً. قيل إن المرأة الأسبانية التي ترقص السجيديللا كان في رقصها من الإغراء ما يخرج البابا ومجمع الكرادلة بأسره عن وقارهم(76). وقد وجد كازانوفا نفسه شيئاً يتعلمه في أسبانيا فقال:

"حين أوشك الليل أن ينتصف بدأت أعنف الرقصات وأكثرها جنوناً...وهي الفندانجو، التي ظننت في سذاجتي أنني طالما شهدتها، والتي فاقت (هنا) أشد تصوراتي جموحاً...ففي إيطاليا وفرنسا يحرص الراقصون على تجنب الإيماءات التي تجعل هذه الرقصة أكثر الرقصات شهوانية. ويخطو الزوجان-راقص وراقصة-ثلاث خطوات فقط، ثم يرتميان في مختلف الأوضاع الفاجرة وهما يصحبان الموسيقى بالمصاحبات ويعرضان قصة العشق كلها من مولده إلى ختامه من أول تنهيدة إلى آخر نشوه. فلم أملك لشدة انفعالي إلا أن أصيح عاليا(77)".

وقد عجب من سماح ديوان التفتيش برقصة مثيرة كهذه إلى هذا الحد، فقيل له أنها "محرمة تحريماً باتاً، لولا أن الكونت أراندا أذن بها لما جرؤ أحد على رقصها".

وارتبطت بالرقص ألوان من الموسيقى الأسبانية كانت من أحبها إلى الشعب، مثال ذلك أن الكانتي فلامنكو أو الغناء الغجري (الفلمنكي) استخدم نغمة شاكية عاطفية كان كل المغنين الغجر يصاحبون بها "السجيديللا جيتانا". ولعل هذه الأغاني الشجية كانت أصداء لألحان مغربية، أو لعلها عكست النوعية المكتئبة للدين والفن الأسبانيين، أو العجز المسخط عن الوصول إلى جسد المرأة، أو انقشاع الوهم عقب الوصال. وقد وفدت نغمة أبهج بوفود الأوبرا الإيطالية (1703) وأغاني فازينللي. ولكن "الخصي" العجوز فقد الحظوة في عهد شارل الثالث بعد أن ظل يشدو بأغانيه طوال عهدين، وقد أنزله شارل عن عرشه بهذا السطر "أن الديوك المخصية لا تصلح إلا للأكل(78)". واتصل النفوذ الإيطالي بمجيء سكارلاتي، وانتصر مرة أخرى بمجيء بوكيريني الذي قدم في 1768، وسيطر على موسيقى البلاط على عهد شارل الثالث وشارل الرابع، ومكث بأسبانيا حتى وافاه الأجل (1805).

وبحركة عكس هذه الحركة وفق فنشنتي مارتن أي سولار، بعد أن حقق لنفسه الشهرة في أسبانيا، في أن يخرج الأوبرا الإيطالية في فلورنسة، وفيينا، وسانت بطرسبرج ونافست صوناتات أنطونيو سولر على الهاربسكورد صونتات سكارلاتي، وحول دون لويز ميسون "التونادا" أو السولو الصوتية، إلى "التوناد يللو" فاصلاً من الغناء بين فصول المسرحية. وفي 1799 أنهى أمر ملكي حكم الموسيقى الإيطالية في أسبانيا بحظر أداء أي تمثيلية ما لم تكتب باللغة القشتالية ويمثلها ممثلون أسبان(79).

والخلق الأسباني لا يمكن صبه في قالب متماثل واحد. فالروح الأسبانية تتفاوت بتفاوت المشهد الطبيعي من ولاية إلى ولاية، وكان الأسبان المتفرنسون الذين تجمعوا في مدريد طرازاً يختلف كل الاختلاف عن المواطنين الذين تجمدوا في العادات الأسبانية. ولكننا قد نستطيع بعد أن نغض النظر عن الأقليات الدخيلة ظان نتبين في الشعب الأسباني طبعاً أصيلاً متفرداً. فقد كان في الأسباني كبرياء ولكن في قوة صامته لا تستمد الكثير من الشوفينية أو القومية، كانت كبرياء الفردية، وإحساساً مصمماً بالكفاح المنفرد ضد الأذى الدنيوي أو الإهانة الشخصية أو الهلاك الأبدي. ولمثل هذه الروح كان يمكن أن يبتدي العالم الخارجي أمراً ذا أهمية ثانوية لا يستحق القلق أو الكد في سبيله، فلا أهمية إلا مصير النفس في الصراع مع الإنسان والبحث عن الله. إذن فما أتفه مشكلات السياسة، والسباق على المال، والإعلاء من قدرة الشهرة أو المنصب، وحتى انتصارات الحرب لا مجد يكللها ما لم تكن انتصارات على أعداء الدين. أما وقد ضربت جذور الأسباني في صميم هذا الدين، فقد كان في استطاعته أن يقابل الحياة بهدوء رواقي، وبإيمان بالقضاء والقدر ينتظر في اطمئنان ثواب الجنة بعد الممات.


العقل الأسباني

حين قبل لويس الرابع عشر ما عرضه آخر ملوك الهابسبورج في أسبانيا من الإيصاء بتاجه لحفيد الملك العظيم، صاح سفير أسباني بفرساي في ابتهاج "لم يعد الآن وجود لجبل البرانس!" ولكن تلك الكتل الرهيبة لم تتزحزح عن موقفها عقبة كؤوداً في سبيل التنوير الفرنسي، ورموزاً للمقاومة التي ستلقاها محاولة قلة مخلصة أن تصبغ العقل الأسباني بالصبغة الأوربية.

وقد فاجأ كاميومانيس الشيوخ بمقال في التعليم الشعبي (1774-76)، جعل من التوسع في التعليم الشعبي أساساً لا غنى عنه لحيوية الأمة ونموها. ولم يرَ بعض كبار رجال الدين وملاك الأراضي معنى لإزعاج الشعب بمعرفة لا لزوم لها قد تفضي في النهاية إلى الهرطقة الدينية أو الثورة الاجتماعية. ولكن خوفيللانوس الذي لم يثنه هذا الاعتراض كافح لنشر الإيمان بالتعليم، وكتب يقول "كثيرة هي الجداول المؤدية إلى الرخاء الاجتماعي، ولكنها كلها تنبع من منبع واحد هو التعليم العام.(80) وكان يعلل نفسه بأن التعليم سيعلم الناس أن يفكروا، وإن التفكير سيحررهم من سلطان الخرافة والتعصب، وإن العلم الذي يطوره أمثال هؤلاء سيستخدم موارد الطبيعة لقهر المرض والفقر. وتقبل بعض كرائم النبيلات هذا التحدي، والفن Junta dw Damas لتميل المدارس الابتدائية. وأنفق شارل الثالث مبالغ كبيرة في إنشاء المدارس الأولية المجانية. وشارك أفراد غير رسميين في تأسيس الأكاديميات لدراسة اللغات أو الأدب أو التاريخ أو الفن أو القانون أو الطب.

وكان طرد اليسوعيين ملزماً بإعادة تشكيل المدارس الثانوية وميسراً لها. وأمر شارل بتوسيع مقررات العلوم في هذه الكليات، وبتحديث كتبها المدرسية، وبالسماح للعلمانيين بالتدريس في أقسامها. وأعان الكليات بالمنح والهبات، وقرر المعاشات للبارزين من المعلمين(81)". ونصحت الجامعات بتدريس فيزياء نيوتن وفلسفة ديكارت وليبنتز في مناهجها. ورفضت جامعة سلمنقه النصيحة بحجة أن "مبادئ نيوتن...وديكارت لا تشابه الحقيقة الموحى بها بالقدر الذي تشابهها به مبادئ أرسطو(82)"، ولكن معظم الجامعات الأسبانية قبلت التوجيه الملكي، وكانت جامعة بلنسيه الآن (1784)، بطلابها البالغ عددهم 2.400، أكبر المراكز التعليمية وأكثرها تقدماً في أسبانيا. وأدخلت عدة طوائف دينية "الفلسفة الحديثة" في كلياتها. وحث قائد الرهبان الكرملين الحفاة، المعلمين الكرمليين على قراءة أفلاطون وشيشرون وفرنسيس بيكن وديكارت ونيوتن وليبنتز ولوك وفولف وكوندياك، هنا لم يكن للقديسين حكم. ودرست جماعة من الرهبان الأوغسطينيين هوبز، وأخرى هلفيتوس. وكانت مثل هذه الدراسات تلحق دائماً بردود تفندها، ولكن كثيراً من المؤمنين الغيورين فقدوا إيمانهم وهم يفندون دعاوى أعدائه.

من ذلك "حداثة" راهب فذ اشتهر يوم كان شارل لا زال شاباً، ذلك هو بنيتو خيرونيمو فيخواي مونتنجرو الذي انفق الأعوام السبعة والأربعين الأخيرة من عمره (1717-64) في دير بندكتي ياوفيدو، ومع ذلك استطاع أن يدرس بيكن وديكارت وجاليلو وبسكال وجاسندي ونيوتن وليبنتز، ورأى في عجب وخجل كيف عزلت أسبانيا بعد سرفانتس عن التيارات الكبرى للفكر الأوربي. فأرسل من قلايته، بين عامي 1726 و1739، سلسلة من ثمانية مجلدات سماها Teatro Critico وهو لا يعني نقد المسرح، بل الامتحان الدقيق للأفكار. وقد هاجم فيها المنطق والفلسفة اللذين يدرسان في أسبانيا في أيامه، وامتدح دفاع بيكن عن العلم الاستقرائي، ولخص كشوف العلماء في كثير من المجالات، وهزأ بالسحر والكهنة والمعجزات الزائفة، والجهل بالطب، والخرافات الشعبية، ووضع قواعد للوثوق بالتاريخ نسفت الأساطير القوية الساذجة في غير رحمة، وطالب بنشر التعليم بين جميع الطبقات، ودافع عن حياة أكثر حرية وعلنية للنساء في التعليم والمجتمع.

واجتمع حول كتبه شرذمة من الأعداء يتهمون وطنيته وينددون بإقتحاماته. واستدعاه ديوان التفتيش أمام محكمته، ولكنها لم تهتد إلى هرطقة صريحة لا في شخصه ولا في كتابه. وفي 1742 استأنف حملته بأول مجلدات خمس عنوانه "رسائل متفقهة مستطلعة". وكان يكتب بأسلوب جيد، مقراً بالتزام كل مؤلف التزاماً أدبياً بأن يكون واضحاً، واستطاب الجمهور تعليمه وشجاعته فتكاثر الطلب على "التياترو" و "الرسائل" حتى بلغ ما طبع منها خمس عشرة طبعة حتى علم 1786. ولكنه لم يستطع قطع دابر الخرافة في أسبانيا، فظلت الساحرات والعفاريت والشياطين تملأ الجو وتخيف العقول، ولكن كان جهده بداية السير على الدرب، ومن مفاخر طائفته أن يقوم بهذا الجهد راهب لزم قلايته المتواضعة دون أن يزعجه أحد حتى أوفته منيته وهو في الثامنة والثمانين (1764).

وأكليريكي أخر هو الذي كتب أشهر كتاب نثري في أسبانيا في القرن الثامن عشر. وكما حرص البندكتيون على ألا يلحق بفيخواي أذى، فكذلك حمي اليسوعيون قسيساً منهم كان أهم إنتاج له نقداً لاذعاً للمواعظ. وكان خوزيه فرانسسكو ذي ايزلا هو نفسه واعظاً بليغاً، ولكن أضحكته أول الأوامر، ثم أزعجته، الحيل الخطابية والأوهام الدبية، والتمثيل والتهريج الذي يجذب به بعض الوعاظ انتباه الشعب ودراهمه في الكنائس والميادين العامة. وفي 1758 سخر سخرية لاذعة بهؤلاء المبشرين في "قصة عن الراهب جيروندو الواعظ المشهور". يقول الأب ايزلا إن الراهب جيروندو:

"ألف أن يبدأ عظاته بمثل أو نكتة سوقية أو شذرة غريبة انتزعت من سياقها فبدت لأول وهلة غير منطقية أو تجديفاً أو كفراً حتى إذا ترك جمهوره لحظة مترقباً في عجب أنهى عباراته وطلع بتفسير أحال كل ما قاله إلى ضرب من التفاهة الحقيرة. من ذلك أنه كان يعظ ذات يوم عن سر الثالوث فاستهل عظته بقوله "أنى أنكر إن الله موجود كوحدة في الجوهر وثالوث في الذات" ثم توقف لحظة. وتلفت السامعون بالطبع حولهم..متسائلين ما عسى أن تكون خاتمة هذا التجديف المهرطق. وأخيراً، وبعد أن ظن الواعظ أنه قبض على ناصيتهم، وأصل الحديث قائلاً: "كذلك يزعم الأبيونيون، والمارسيونيون، والاريوسيون، والمانويون، والسوسينيون، ولكني أثبت ضلالهم كلهم من الأسفار المقدسة، والمجامع، وآباء الكنيسة(83)".

وبيعت ثمانمائة نسخة من كتاب "الراهب جيروندو" خلال يوم من صدوره. وهاجمه الرهبان الوعاظ زاعمين أنه يشجع على احتقار رجال الدين. وأستدعى أيزلا أما محكمة التفتيش، وأدين كتابه (1760)، أما هو فلم يعاقب. ثم أنضم إلى إخوانه اليسوعيين في المنفى، وأصيب في الطريق بالشلل. وقضى ختام عمره في بولونيا عائشاً على المعاش الضئيل الذي منحه إياه الحكومة الأسبانية. أما الشعر فكان يقرضه كل أسباني ملم بالكتابة. وقد اجتمع في 1727 في مباراة شعرية (عام 1727) 150 متنافساً. وأضاف خوفيلانوس الشعر والدراما لضروب نشاطه الأخرى فقيهاً ومربياً ورجل دولة. وأصبح بيته في مدريد ملتقى لرجال الأدب وقد ألف الهجائيات على طريقة جوفينال، موبخاً الفساد الذي وجده في الحكومة والقانون، وتغنى بمناهج الحياة الريفية الآمنة المطمئنة شأن كل ساكن للمدن. ونظم نقولا فرنانديز دي موراتن شعراً ملحمياً تناول مغامرات كورتيز، ويقول العارفون أن-هذه القصيدة "أرفع قصيدة من نوعها أنجبتها أسبانيا في القرن الثامن عشر(84)".

وكانت الأشعار المرحة المهذبة التي نظمها دييجو جونزالز، الراهب الأوغسطيني، أحب إلى الشعب من قصيدته التعليمية "مراحل الإنسان الأربع" التي أهداها إلى خوفيللانوس. كذلك اتخذ دون توماس دي أيريارتي أي أوروبيزا اتجاهاً تعليمياً في قصيدته "في الموسيقى"، وكان خيراً منها "قصصه الخرافية" (1782) التي طغت مغامز العلماء وأكسبته شهرة لم تزل حية إلى اليوم. وترجم بعض مآسي فولتير وملاهي موليير، وسخر من الرهبان "الذين يتسلطون على السموات وعلى ثلثي أسبانيا"، وقد حاكمه ديوان التفتيش فأنكر آراءه، ومات بالزهري وهو في الحادية والأربعين (1791)(85).

وفي 1780 أعلنت الأكاديمية الأسبانية عن جائزة تمنح لقصيدة تمجد الحياة الرعوية. فقال إيريارتي الجائزة الثانية ولم يغفر قط لصاحب الجائزة الأولى، لأن ميلانديز فالديس مضى ليصبح كبير الشعراء الأسبان في ذلك العهد. وتودد خوان إلى خوفيلانوس، وحصل بنفوذه على كرسي الإنسانيات في جامعة سلمنقة (1781) وهناك أقنع الطلاب أولاً، ثم الكلية، بدراسة منهج أكثر اقتحاماً، بلغ إلى حد قراءة لوك ومونتسيكو. وألف في أوقات فراغه فيما بين المحاضرات مجلداً من الأغاني والشعر الرعوي-هو استحضارات حية لمشاهدة الطبيعة في أبيات بلغت من الرقة وكمال الصقل ما لم تقرأه أسبانيا منذ أكثر من قرن. وكان للرضى الذي أسبغه عليه خوفللانوس الفضل في ترقيته إلى منصب القضاء بسرقسطة وإلى محكمة القضاء العالي في بلد الوليد، وأضرت السياسة بشعره. فلما نفي خوفيللانوس (1798) أقصى ميلانديز أيضاً. فجرد قلمه للتنديد بغزاة أسبانيا الفرنسيين، وخص منهم جوزيف بونابرت، ولكنه عاد إلى مدريد في 1808، وقبل وظيفة تحت رآسية جوزيف بونابرت، وصدم أسبانيا بقصائد يتملق بها سادته الأجانب. وفي حرب التحرير التي خلعت جوزيف نهب الجنود الفرنسيون منزل الشاعر، وهاجمه هو نفسه الغوغاء الغاضبون، فهرب لحياته من أسبانيا. وقبل أن يعبر البيداسوا إلى فرنسا قبل آخر بقعة من التراب الأسباني (1813). وبعد أربع سنوات مات فقيراً مغموراً في مونبلييه.

وكان ينبغي أن يكون لأسبانيا كتاب مسرح أكفاء في هذا العهد، لأن الملوك البوربون كانوا ميالين للمسرح. وقد عملت على اضمحلاله ثلاثة عوامل: إيثار إيزابللا فارنيزي القوي الأوبرا، وفليب الخامس لفارنيللي، ومن ثم اعتماد المسرح على الجمهور الذي كان أكثر ما يستحسنه هو "الفرص"، والمعجزات، والأساطير والشقشقات اللفظية، وجهد كتاب الدراما الجادون لحبس تمثيلياتهم داخل "الوحدات الأرسطاطالية" في الحركة والمكان والزمان. وكان أحب كتاب المسرحية إلى الشعب في ذلك القرن هو رامون فرانسسكو دي لاكروز، الذي كتب نحو أربعمائة فارص صغير يهجو فيها عادات الطبقتين الوسطى والدنيا وأفكارهما وحديثهما، ويصور مع ذلك ذنوب الجماهير وحماقاتهم بعطف غافر. أما خوفيللانوس، "رجل أسبانيا الجامع" فقد جرب الكوميديا، وظفر باستحسان الجمهور والنقاد جميعاً بملهاته "المجرم المكرم" (1773): وفحواها أن سيداً أسبانياً يرفض مراراً وتكراراً أن يبارز غريماً ثم يقبل التحدي أخيراً بعد إلحاح، ويقتله في معركة عادلة، ثم يحكم عليه بالإعدام قاضٍ يتبين أنه أبوه. وقد أستهدف خوفيللانوس، وهو المصلح على الدوام، من تمثيليته هذه الوصول إلى التخفيف من القانون الذي اعتبر المبارزة جريمة كبرى.

أما الحملة الداعية إلى الوحدات الأرسطاطالية فقد تزعمها الشاعر نيقولا فرنانديز دي موراتن. وواصلها حتى تكللت بالنجاح ابنه لياندرو. وقد أبهجت خوفللانوس أشعار هذا الفتى الباكرة، فحصل له على وظيفة في السفارة الأسبانية بباريس. وهناك صادق جولدوني، فوجهه إلى كتابة التمثيليات. وأغدق الحظ هباته على صوراتين الابن: فأوفد على نفقة الدولة ليدرس المسارح في ألمانيا وإيطاليا وإنجلترا. وحين عاد إلى أسبانيا منح وظيفة شرفية أتاحت له الفراغ اللازم للعمل الأدبي. وقدمت ملهاته الأولى لمسرح في مدريد عام 1786، ولكن عرضها عطل أربع سنوات ريثما يفرغ المديرون والممثلون من الجدل في استطاعته تمثيلية تتبع قواعد أرسطو والتمثيلية الفرنسية أن تجتذب جمهوراً أسبانياً. وقد نجحت نجاحاً معتدلاً. وانقلب موراتين مهاجماً، ففي تمثيليته الكوميديا الجديدة (1792) سخر من المرهي الشهبية سخرية تقبل الجمهور بعدها الدرامات التي تدرس الخلق وتنير الحياة. وأشاد القوم بموراتين مولييرا أسبانيا، وسيطر على مسرح مدريد حتى غزا الفرنسيون أسبانيا عام 1808. وقادته ميوله الفرنسية وسياسته التحررية كما قادت ميلانديز وجويا إلى التعاون مع حكومة جوزف بونابرت، فلما سقط جوزيف لم ينج موراتين من السجن إلا بشق النفس. ولجأ إلى فرنسا، ومات أخيراً بباريس في 1828 وهي السنة التي مات فيها ببوردو الرسام جويا الذي نفى نفسه عن وطنه مختاراً.


الفن الأسباني

ما الذي يمكن توقعه منه بعد اجتياح أسبانيا في حرب الوراثة لأسبانيا الطويلة؟ لقد سلبت الجيوش الغازية الكنائس، ونهبت المقابر، وأحرقت الصورة، وربطت خيولها في المزارات المقدسة. ثم جاء غزو جديد بعد الحرب، وخضع الفن الأسباني طوال نصف قرن للنفوذ الفرنسي أو الإيطالي فلما أنشئت أكاديمية سان فرناندو عام 1752 لإرشاد شباب الفنانين ومساعدتهم، جاهدت لتقر في أذهانهم مبادئ كلاسيكية جديدة غريبة كل الغرابة عن الروح الأسبانية.

وكافح الباروك كفاحاً عنيفاً في سبيل البقاء، وكان له ما أراد في المعمار والنحت. فانتصر في الأبراج التي أضافها فرناندو دي كازيس أي نوفا (1738) إلى كاتدرائية سنتياجودي كومبوستيلا، وفي الواجهة الشمالية التي شيدها فنتورا روديجيز _1764) لهذا الصرح ذلته تذكاراً للقديس يعقوب حامي أسبانيا وقد زعمت إحدى الأساطير المحببة للشعب أن تمثالاً للعذراء مقاماً على عمود في سرقسطة دبت فيه الحياة وتكلم مع القديس يعقوب. في ذلك الموقع شيدت التقوى الأسبانية "كنيسة عذراء العمود"، ولتلك الكنيسة صمم رودريجيز هيكلاً هو مقصورة من الرخام والفضية يضم تمثال العذراء.

وأقيم قصران مشهوران فيعهد فليب الخامس. فقد اشترى على مقربة من سقوبية أرض دير ومزرعته الملحقة، ووكل إلى فليبو يوفارا التوريني أن يشيد على هذه البقعة قصر سان الدوفونسو (1719 وما يليها)، وأحاط المباني بحدائق وست وعشرين نافورة تنافس نافورات فرساي. وعرفت هذه المجموعة بلاجرانغا، وقد كلفت الشعب 45.000.000 كراون. ولم تكد تكتمل حتى دمرت النار ليلة ميلاد عام 1734 "القصر" الذي كان المقر الملكي بمدريد منذ عهد الإمبراطور شارل الخامس وانتقل فيليب إلى بوين رتيرو التي شيد فيها فليب الثاني قصراً 1631. فظل هذا المقر الرئيسي للملك طوال ثلاثين عاماً.

وصمم يوفارا قصراً ملكياً آخر عوضاً عن "القصر" المحترق-يضم المساكن والمكاتب وحجرات الاجتماع ومصلى ومكتبة ومسرحاً وحدائق-لوشيد لفاق في فخامته أي قصر ملكي عرف يومها، وكان النموذج وحده يحوي من الخشب كمية تكفي لبناء بيت. ولكن يوفارا عاجلته المنية قبل أن يبدأ البناء (1736). ورفضت إيزابللا فارنيزي تصميمه لفداحة تكاليفه، فشيد خلفه جوفاني باتستا ساكيتي التوريني القصر الملكي (1737-64) القائم بمدريد اليوم-وطوله 470 قدماً، وعرضه 470 قدماً، وارتفاعه 100 قدم. هنا حل طراز النهضة المـتأخرة محل الباروك: فكانت الواجهة ذات أعمدة دورية وإيوانية، يتوجها درابزين انتشرت عليه تماثيل ضخمة لملوك أسبانيا القدامى. وحين صحب نابليون أخاه جوزيف ليملك في هذا القصر قال وهما يصعدان السلم الفخم "ستكون أفضل من مني منزلاً(86)". وقد انتقل شارل الثالث إلى هذا الصرح الهائل عام 1764.

أما النحت الأسباني ففقد بعض صرامته وجموده متأثراً بالفنين الفرنسي والإيطالي، وخلع الضحك على ملاكه (السيرافيم) والرشاقة على قديس أو قديسين. وكانت موضوعاته دينية على الدوام تقريباً، لأن الكنيسة كانت تدفع للنحاتين أعلى الأجور. من ذلك أن رئيس أساقفة طليطلة أنفق 200.000 دوقاتية على حجاب المذبح الشفاف الذي أقامه نارسيسوتومي (1721) خلف خورس الكاتدرائية: وهو مجموعة ملائكة من رخام يطوفون على سحب من رخام، وكان في ممشى الكنيسة المسقوف فتحه جعلت الرخام وضاء ومنه اتخذ حجاب المذبح اسمه. وعاشت الواقعية القديمة في تمثال "جلد المسيح(87)" الذي نحته لوزيز كارمونا-وهو تمثال من الخشب، رهيب بما فيه من آثار ضرب وجروح دامية. وأجمل منه تمثال الإيمان، والرجاء، والمحبة، التي نحتها فرانسسكو فرجارا الابن لكاتدرائيات كوينسا (1759). وقد عدها سبان-برموديز، فازارى أسبانيا، أروع ما أنتجه الفن الأسباني.

وأعظم الأسماء في فن النحت الأسباني في القرن الثامن عشر كان اسم فرانسسكو زاركيللو إي الكراز. مات أبوه ومعلمه، وكان نحاتاً في كابوا، وفرانسسكو في العشرين وخلفه العائل الأول لأمه وأخته وستة أخوة. وكان الفتة أفقر من أن يستأجر الموديلات، لذلك كان يدعو المارة، بل المتسولين ليشاركوه غداءه وليرسمهم، وربما كانت تلك هي الطريقة التي عثر فيها على الأشخاص لرائعته "العشاء الأخير" المحفوظة الآن في "دير يسوع" بمرسيه. وبمساعدة أخته اينيس التي كانت ترسم وتعمل نموذجاً له؛ وأخيه خوزيه، الذي كان ينحت التفاصيل، وأخيه القسيس باتريسيو، الذي كان يلون الأجسام والثياب، انتج فرانسسكو في سني عمره الأربع والسبعين 1.792 تمثالاً فيها الكبير وفيها الصغير، بعضها ذو حيل لا طعم لها كعباءة من المخمل المطرز فوق تمثال للمسيح، بعضها مؤثر بتقواه البسيطة تأثيراً حمل مدريد على أن تعرض عليه مهام مجزية لتزيين القصر الملكي. ولكنه فضل البقاء في وطنه مرسيه الذي شيعه عند وفاته عام 1781 في مشهد جليل.

أما التصوير الأسباني في القرن الثامن عشر فكان يرزخ تحت كابوس أجنبي مزدوج لم يفق منه حتى حطم جويا كل القيود بفنه الجارف الذي لم يسبق له نظير. جاءت أول موجة فرنسية بمجيء ران ورينيه وميشيل-آنج هواس، ولوي-ميشيل فانلو. وقد أصبح هذا مصور البلاط لفليب الخامس، ورسم لوحة هائلة للأسرة المالكة كلها، بالبواريك والجونلات المطوقة، وغيرها(88). ثم أقبل قطيع من الإيطاليين الذين يفيضون حيوية فانفينللي، واميجوني، وكورادو.

ووصل جامباتستا تيبولو وأبناؤه إلى مدريد في يونيو 1762. وعلى سقف غرفة العرش في القصر الملكي الجديد رسموا صورة جصية شاسعة "تمجيد أسبانيا"، احتفالاً بتمجيد الملكية الأسبانية وقتها وفضائلها وتقواها وأقاليمها: فيها الأجسام الأسطورية الرمزية متوازنة في الهواء، والنيريدات والتريتونات والزفيرات، والجن المجنح، والأطفال السمان، والفضائل والرذائل ملحقة في الفضاء المنور، وأسبانيا ذاتها متربعة على العرش وسط ممتلكاتها، ممجدة بكل صفات الحكومة الصالحة. وعلى سقف غرفة الحرس رسم تيبولو "اينياس تقوده فينوس إلى معبد الخلود"، وعلى يقف الحجرة الملحقة بمخدع الملكة رسم ثانية "انتصار الملكية الأسبانية". وفي 1766 كلف شارل تيبولو بأن يرسم سبع لوحات لمذبح كنيسة القديس بسكال بأرانحيز، واستخدم المصور في إحداها وجه حسناء أسبانية ليمثل حمل العذراء غير المدنس، ولا تزال الصورة تتألق. في البرادو. وأدان كاهن الملك، الأب خوالين دي إلكنا ما في فن تيبولو من وثنية وفجاجات لأنها دخيلة على روح أسبانيا. وتاب تيبولو، ورسم صورة قوية سماها إنزال المسيح عن الصليب"(89)، وهي تأمل في الموت تنيره الملائكة الواعدة بالقيامة وأرهقت هذه الجهود الجبار الهرم، فمات في مدريد عام 1770 وقد بلغ الرابعة والسبعين. وبعد قليل أزيلت لوحات مذبح ارانجنيز وكلف أنطوان روفائيل منجز برسم لوحات بدلها.

وكان منجز قد وفد على مدريد في 1761 وهو في الثالثة والثلاثين، فتى قوي واثق من نفسه آمر ناه. ولم يكن شارل يشعر قط بارتياح لمرأى غيوم تيبولو المنورة-فآنس الآن في هذا الألماني المقحام الرجل المطلوب لتنظيم العمل الفني اللازم للقصر. وفي 1764 عين منجز مديراً لأكاديمية سان فرناندو، وسيطر على التصوير الأسباني في فترات إقامته بأسبانيا. وقد أساء ترجمة الطراز الكلاسيكي إلى سكون لا دم فيه ولا حياة، وأغضب بذلك تيبولو الشيخ وجويا الشاب. ولكنه كافح كفاحاً نافعاً لينهي إسراف الزخرفة الباروكية وشطحات خيال الروكوك. ومن أقواله أن الفن يجب أن يسعى أولاً إلى "أسلوب طبيعي" بمحاكاته الأمينة للطبيعة، وعندها فقط يستهدف الأسلوب السامي "الذي انتهجه الإغريق. فكيف السبيل إلى هذا التسامي؟ بإقصاء الناقص وغير المتصل بالموضوع، بالربط بين الكمالات الجزئية التي توجد هنا وهناك في أشكال مثالية يتصورها خيال مدرب مع تجنب كل ضروب الإسراف. وافتتح منجز إنتاجه برسم أرباب أولمب على سقف مخدع الملك، وزين مخدع الملكة بصورة مماثلة. وربما أدرك منجز أن صاحبي الجلالة، لم يتبعاه تماماً حتى جبل أولمب، لذلك رسم رافده مذبح للمصلى الملكي، "ميلاد المسيح" و "إنزال المسيح من الصليب". وكان يضني نفسه في العمل، ولا يأكل إلا قليلاً، بات عصبي المزاج، وانهارت صحته، وخيل إليه أنه واجد البرء في روما. ومنحه شارل إجازة مدها منجز إلى أربعة أعوام. وفي فترة إقامته الثانية بأسبانيا مزيداً من الرسوم الجصية إلى القصور الملكية في مدريد وأرانجيز. ولكن صحته تداعت مرة أخرى، فالتمس من الملك الأذن له بالتقاعد في روما. ومنحه الملك الطيب طلبته، وأجرى عليه معاشاً متصلاً من ثلاث آلاف كراون في العام.

ولكن ألم يكن في أسبانيا آنئذ فنانون وطنيون يرسمون؟ أجل كانوا كثيرين ولكن اهتمامنا الذي تضائل مع بعد الشقة والزمان خلفهم على هامش الشهرة الخابية. كان هناك لويز ميلنديز للذي كاد يعدل شاروان في صور الطبيعة الصامتة (الطيور والفواكه) ويحتفظ متحف البرادو بأربعين منها، ومتحف بوسطن بمثال منها فاتح للشهية، ولكن اللوفر يبزهما جميعاً بصورة ذاتية رائعة. وهناك لويز باريت أي الكازار، الذي بارى كاناليتو في تصوير مناظر المدينة كما ترى في لوحته Puerta de Sol-أكبر ميادين مدريد، وأنطونيو فيلادامات، الذي شهد له منجز بأنه أكفأ مصوري العصر الأسبان، وفرانسسكو بايو لإي سوبياس، الرقيق المتهجم المخلص لفنه، الذي نال الجائزة الأولى في الأكاديمية عام 1758، وصمم قطع النسيج لمنجز، وأصبح صديقاً، وعدواً، وصهراً لجويا.


الهامش

انظر أيضاً

ببليوجرافيا

  • Elliott, John H. Empires of the Atlantic World: Britain and Spain in America 1492-1830 (2007)
  • Jaffe, Catherine M., and Elizabeth Franklin Lewis, eds. Eve's Enlightenment: Women's Experience in Spain and Spanish America, 1726-1839 (2009)
  • Kamen, Henry (2001). Philip V of Spain : the king who reigned twice. New Haven : Yale University Press. ISBN 0-300-08718-7
  • Lynch, John. Bourbon Spain 1700-1808 (1989)
  • Paquette, Gabriel B. Enlightenment, Governance, and Reform in Spain and Its Empire, 1759-1808 (2007)
  • Smith, Angel. Historical dictionary of Spain (2009)

بالاسبانية

  • Ubieto Arteta, Antonio (1997). Historia ilustrada de Espana, v.5: El Barroco espanol y el reformismo borbonico. Madrid : Debate ; Valencia : Circulo de Lectores. ISBN 84-226-6342-2
  • Ubieto Arteta, Antonio (1997). Historia ilustrada de Espana, v.6: Guerra, revolucion y Restauracion. 1808-1833. Madrid : Debate ; Valencia : Circulo de Lectores. ISBN 84-226-6343-0
  • Guimera, Agustin (1996). El reformismo borbonico : una vision interdisciplinar. Madrid : Alianza : Consejo Superior de Investigaciones Cientificas. ISBN 84-206-2863-8
  • Fernandez, Roberto (Fernandez Diaz) (2001). Carlos III. Madrid : Arlanza Ediciones. ISBN 84-95503-21-2
  • Egido Martinez, Teofanes (2001). Carlos IV. Madrid : Arlanza Ediciones. ISBN 84-95503-22-0
  • Santos, José (2002). Martín Sarmiento : Ilustración, educación y utopía en la España del siglo XVIII. La Coruña: Fundación Barrié de la Maza. ISBN 84-9752-009-2

وصلات خارجية