ابن التعاويذي

ابنُ التَّعَاوِيذِيِّ، أبو الفتح محمّد بن عبيد الله بن عبد الله (519-583هـ/1125-1187م)، شاعر العراق المشهور بابن التعاويذي أو سِبْط ابن التعاويذي، والتعاويذي نسبة إلى جدّه لأمه واسمه أَبو محمّد المبارك بن علي الجوهري الزاهد (ت533هـ) المعروف بابن التعاويذي، وسُمي بذلك لأنّ أباه كان يصنع التعاويذ (الحروز).

وقد عُرف سِبْطه محمّد بن عبيد الله الشاعر بابن التعاويذي، لأنّه عاش في كنف جده المذكور آنفاً، ونشأ في حجره. وأما أبوه فكان مولى لبني المظفر واسمه (نُشْتِكِينُ) ثم عرف بعدئذٍ بعبيد الله.

ليس في أخبار ابن التعاويذي الشاعر التي حملتها المصادر ما يُضيء لنا جانباً واسعاً من سيرته، فكل ما تجمع منها أشياء نزرة، فقد ذكر ياقوت الحموي (ت626هـ) في معجم الأدباء أنّ ابن التعاويذي عمي في آخر حياته، وله في عماه أشعار كثيرة ندب بها بصره وزمان شبابه الذي ولّى، وكان عَمِل قبل ذلك كاتباً بديوان الأقطاع ببغداد (ما يقطع من أرض الخراج)، فلما كُفّ بصره طلب أن يجعل راتبه باسم أولاده.

اتصل ابن التعاويذي برجال عصره، فكان يمدح العمال والوزراء كسباً للعطاء ولاسيما الخليفة العباسي الناصر لدين الله (575هـ -622هـ) الذي أجرى له راتباً مدة حياته، ومدح السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب (570هـ -589هـ) بثلاث قصائد أنفذها إليه من بغداد، إحداها عارض فيها قصيدة أبي منصور علي بن الحسن (ت465هـ) المعروف «بِصُرَّدُرّ» التي أولها: «أَكَذَا يُجَارى وُدُّ كُلِّ قَريِن»، فقال ابن التعاويذي قصيدته على نفس الوزن والروي التي أولها:

إن كانَ دِينُك َفي الصَّبَابَةِ ديني
       فَقِفِ المَطيَّ بِرَمْلَتَيْ يَبرينِ

وأفرد ابن التعاويذي كثيراً من مدائحه لبني المظفَّر، لأنّه، كما يقول في خطبة ديوانه، نشأ فيهم وصحبهم هو وجدّه لأُمّه زمناً طويلاً، لهذا نظم فيهم جلّ شعره. واتصل ابن التعاويذي بالعماد الأصفهاني، وصحبه مدة عندما كان العماد بالعراق، ولما انتقل العماد إلى الشام جرت بينهما مراسلات ذكر بعضها العماد في «الخريدة».

لابن التعاويذي كتابٌ سماه «الحَجَبَةَ والحُجّاب» ذكره صاحب «كشف الظنون» يدخل في مقدار خمسَ عشرة كرّاسة. وله ديوان شعر كبير طبعه المستشرق مرگليوث مرتباً على حروف الهجاء، ولكنه أسقط بعض قصائده ووقع في أخطاء كثيرة. وكان ابن التعاويذي قد جمع ديوانه بنفسه قبل عماه، ورتبه في أربعة فصول: الأول في مدائح الخلفاء الراشدين، والثاني في مدح جماعة من الوزراء والأماثل، والثالث في مدح بني المظفَّر، والرابع اشتمل على ضروب مختلفة من مراث وزهدٍ وغزل وعتاب وهجاء، وكلّ ما جدّده بعد ذلك سماه الزيادات. ومن الواضح أنّ ابن التعاويذي طرق معظم فنون الشعر لكنّ المدح أجلُّها. وتتميز مدائحه عامةً بالقوة والجزالة من حيثُ لفظها وتركيبها، بالوضوح والدقة من حيث معناها. ونهج في أغلب مدائحه منهجاً راعى فيه رسوم الفن الموروثة فوضع بين يدي مدائحه مقدمات النسيب والطلل وغيرهما قبل أن يلج في المدح، ثم لزم فيها التسلسل والترابط، ومن أمثلة مدائحه التي راعى فيها هذه الشروط بائيته في مدح صلاح الدين التي أولها:

حَتّامَ أرضى في هواك وتغضبُ
       وإلى متى تَجْني عَلَيّ وَتَعْتَبُ

ثم تخلص من النسيب إلى المدح قائلاً:

كلاّ ولااستسقيتُ للطللِ الحَيا
       وندى صلاح الدِّين هامٍ صَيّبُ

وبذلك احتملت مدائحه صفة التركيب والتتابع فبدت متلاحمة الأجزاء تامة النسج، وبدا نَفَسَهُ الشعريُّ فيها طويلاً إلاّ في بعض المُقطّعات المدحية التي لم يعمد فيها إلى التنويع فكافح فيها أغراض القول مكافحة دون أن يجعل لها بسطاً من نسيب أو غيره على عادة الشعراء السابقين.

ومن خصائص أسلوبه في المدح قلة عنايته بالزخارف اللفظية من أجل ذلك وظّف اللفظ مراعياً دلالاته النحوية والصرفية، فقلّت عنده التجاوزات وابتعد عن الغريب، وآثر الوضوح والدقة فنجت مدائحه من الغموض. وقصر معانيه المدحية على تصوير شمائل ممدوحيه، وانصرف لإظهار الصفات النفسية كالكرم والعدل وأصالة الرأي والتقى والعفاف والزهد. ونحا في هجائه نحواً نفسياً أيضاً، فعاب على مهجويه لؤم الطباع وانعدام المثل، وأظهر معايب الخُلق دون الخَلق كالبخل والجبن والطيش، معرضاً عن الفحش والخبث. وفي رثائه جزعٌ ولوعة على فقدانه البصر، وله مراث بكى فيها بعض أهله، بدأها بالندب الموجع والبكاء، وانتهى إلى العظة والاعتبار بحوادث الدهر. ومن شعره في عَماه قوله:

فهاأنا كالمقبور في كِسْر منزلي
       سواء صباحي عنده ومسائي
يرق ويبكي حاسدي ليَ رحمةً
       وبعداً لها من رقّة وبكاء

ويمتاز شعر ابن التعاويذي عامة بالعذوبة والرقّة، فهو جيد الطبع سمح القريحة ينساق في شعره وراء الفصاحة والسلاسة ويمدّه رصيد ضخم من المعاني التي أفادها من سابقيه ولهذا كَلُفَ بمعارضة متقدميه، ومع ذلك ليس في شعره اجتلاب أو تكلف. وقد أشاد بشاعريته من ترجم له، فقال ياقوت: «وكل شعر أبي الفتح غُرَرْ». وجمع في شعره كما يقول ابن خلكان «جزالة الألفاظ وعذوبتها ورقَّة المعاني ودقَّتها، وهو في غاية الحسن والحلاوة وفيما أعتقد لم يكن قبله بمئتي سنة من يضاهيه».

أحمد علي محمد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

للاستزادة