أزمة مياه النيل وعولمة المشروعات المائية

حلمي شعراوي
ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا المقال

أزمة مياه النيل.. وعولمة المشروعات المائية، هي مقال كتبه حلمي شعراوي في يونيو 2013.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المقال

هذه قراءة مختلفة قليلاً في موضوع المياه الذي لم نعد نعرف مصيره وقد غابت المحاسبه للقدامي والجدد...وقد يساعد بعض مابين هذه السطور رغم مللها في مواصلة البحث عن الجناه !!!

ليس هذا المقال في جيولوجيا الأنهار، ولا هيدروليكا الطاقة والكهرباء، ذلك أن ما ينتاب القارئ في مصر من تشتت المعلومات في هذا المجال واضطرابها أحيانا، من قبل المؤسسات أو الأجهزة والهيئات المعنية بمياه النيل والمتحدثة إليه في هذا الشأن، بالإضافة إلى تعدد موقف الخبراء وتنوع مصادرهم، مما يجعل الكاتب يعزف عن المساهمة بدوره في هذا الصدد! لأنه يرى أن الجانب الأعقد أصبح على ما يبدو في المعالجة السياسية، والأطر الدولية التى نوقشت فيها موضوعات سد النهضة الأثيوبى واتفاقات مياه النيل..ألخ . وقد بدا لى ذلك من مراجعة الساحة الأفريقية في هذا الشأن، وفى علاقتها خاصة بإطار المصالح الرأسمالية العالمية التى تتحرك في فضاءاتها، لا بالتآمر على ما يبدو للبعض، ولكن عبر مؤسسات التنظيمات الدولية كالبنك الدولى والبنوك العالمية والإقليمية ، والشركات متعددة الجنسية التى تتحرك في منظومة إدارة المياه ومؤتمراتها (وزرائها وخبرائها أحيانا)، بل وقواعد منظمات التجارة العالمية وإتفاقية "الجاتس" الدولية نفسها لتجارة الخدمات!(قضايا التسعير والتعويض...الخ)


عولمة المياه

ويمكن تلخيص ذلك مباشرة إذا علمنا أن مشروع سد النهضة وترتيبات مياه النيل ليست إلا جزءا من إدارة كبيرة خلال السنوات الأخيرة وحدها ، فيما نعرفه عن مشروعات أحواض نهر الكونغو، ونهر الزمبيزى وتطوير كابورا باسا (فى الجنوب الأفريقى) ونهر السنغال ، فضلا عن المشروعات الصغيرة في أوغندا وتنزانيا وكينيا.. وغيرها... وإن كان مشروع "سد النهضة مثلا" يدور حول تمويل يصل إلى حوالى خمسة مليارات دولار لتوليد طاقة ستبلغ 6 آلاف ميجاوات .. الخ فإن سد " إنجا"3 Inga- على حوض الكونغو سينافس في مرحلته الحديثة حجم سد النهضة في أقرب وقت لتقفز به شركات جنوب أفريقيا والصين وإيطاليا وكندا وغيرها إلى مرحلة جديدة لبناء "إنجا" العظيم" خلال العشر سنوات القادمة لينتج أكثر من 40 ألف ميجاوات وتكلفته حوالي 80 مليار دولار قبل الزيادة اللاحقة.. وقد خصص البنك الدولى عشرة مليارات دولار من الآن، للانطلاق في سد "الإنجا"، كما أطلق ثمانية مليارات دولار لسد الزمبيزى، ويساعد الأوغنديين وغيرهم في خطط أخرى بعيدة المدى.

وتعتبر جنوب أفريقيا والصين والإيطاليين والكنديين على ما يبدو طرفا دائما في هذه المشروعات المائية الكبرى، وللصين وحدها حوالى 1.3 مليار في مشروع سد النهضة ( نقل الطاقة) بعد ثلاثة مليارات أخرى لمشروعات الطرق والسكك الحديدية في إثيوبيا، ومنها إلى جيبوتى. أما الأموال الخليجية التى لم تلحق بسد النهضة أو بالكونغو، فتشترى أراضى للزراعات الحيوية في إثيوبيا لتصدر للسوق الأوربية وليست لاحتياجات الشعوب الخليجية. ليس دخول رأس المال العالمى- والخليجى جزء منه- إلى مجال المشروعات المائية التى يصب فيها ، بالمفاجأة للمسئول ، وحتى الباحث المصرى. تماما مثل ما نعرفه عن تاريخ مشروعات منابع النيل منذ خططت أوائل القرن العشرين بمشاركة قوى الاستثمار العالمى لتيسيرزراعة محاصيل خاصة للقوى الغربية ( القطن / الشاى ...) ، وكانت تتعلق بالضرورة باستخدامات مصرأيضا لمياه النيل..!

لكن ماهى طبيعة معرفة مصر بالتطورات الأخيرة في هذا الصدد؟ ذكر "رشدى سعيد" في بحثه الهام الذى نشره في مجلة "وجهات نظر" في ديسمبر 2000 وتبعه في سبتمبر 2001" كثيرا من المعلومات الهامة والخطيرة يضع هذا المقال بعضا منها هنا. فهو يشير مثلا إلى أن مؤتمر المياه الدولى ( للدول والخبراء ) في لاهاى 2000 ، ناقش "تقريرا للجنة دولية" كان مقررها د. إسماعيل سراج الدين نائب رئيس البنك الدولى وقتئذ،.. وقد ناقشت موضوعات كثيرة عن "إقامة الخزانات والمشروعات العملاقة على الأنهار"! كما ناقشت "مسألة تسعير المياه وأقرتها !، مع إعطاء الاعتبار لدور شركات القطاع الخاص في إدارة تسويق المياه".. الخ. وتجدر هنا الإشارة إلى أن التقرير الذى نشر عام 2000 كان برعاية البنك الدولى، وكذا رعاية 15 شركة عالمية عملاقة (فرنسية- بريطانية- إيطالية- أمريكية) وأن وزير الرى المصرى" محمود ابو زيد" كان من ذوى الحضور البارز الذى أهله لرئاسة المؤتمر الدولى بعد ذلك! والأهم أن أصحاب التقرير قدروا- وفق رشدى سعيد- أن استثمارات شركات المياه على المستوى العالمى في مشروعات مائيه تقدر بحوالى 800 مليار دولار ...! ومن هنا نستنتج أن مسألة المياه باتت شاغلا عالميامنذ بعض الوقت. وفى إطار البنك الدولى والرأسمالية العالمية- وإن أفريقيا هى ساحة أساسية لذلك وفى مشروعات المياه في أحواض النيل والكونغو وزامبيزى والسنغال والنيجر التى نشطت بعد عام 2000، بل وما تم من تمهيد لها قبل ذلك بسنوات كما سنرى- كانت جزءا من هذا الاهتمام الجديد. سواء بمشروعات التخزين ، أو ما تخفيه السطورمما يجب أن ينبه له القارئ العربى – قبل موجات الترويع- حول مستقبل "تسويق" المياه أى "تسعيرها" على مستوى إقليمى ودولى ، كما أقر في مؤتمرات بحضور شخصيات مصرية !.

التطور السلبى في إطار المبادرة

فى هذا السياق نُعَّرج بسرعة على معرفتنا - الطويلة أيضا - بمبادرة مياه النيل ونتائجها.. ولست هنا بصدد التأريخ لوجود مبادرة حوض النيل، منذ 1999 وأدوارها مع الدول الاعضاء العشرة وفى مقدمتها مصر، ولكنى أشير إلى أن تنظيمات أحواض الانهار يمكن أن تكون أكثر محلية وإقليمية مثل دول نهر السنغال أو الزامبيزى ، أو تتدرج في وزنها الدولى مثل منظومة مياه حوض الكونغو أو حوض النيل. من هنا يأتى تطور المواقف الدولية من هذه المشروعات ، ودور المال العالمى أيضا وفق وزن دول الحوض. أذكر أن الشكوى المبكرة من قبل تنزانيا في منتصف الستينيات- بتأثير إسرائيل- على ما تردد من نقص في مياه بحيرة فيكتوريا ، جعل عبد الناصريرسل خبراءه إلى هناك لمعالجة الموقف مع الرئيس نيريرى شخصيا، كما جعل دبلوماسييه يتحركون في الأمم المتحدة عام 1969 لإنشاء مكتب الفحص الهيدروليكى لدول حوض النيل مستقرا في أوغندا (على بحيرة فيكتوريا... وهو المكتب الذى تطور إلى هيئة "تيكونيل" للعناية بالتطورات المناخية والهيدروليكية في المنطقة (1992).ثم ينتقل من رعاية الأمم المتحدة إلى البنك الدولى في مبادرة حوض النيل 1999.

لذلك يرى "رشدى سعيد" أن اهتمام البنك الدولى بمشروعات المياه بدأ عقب إنهيار النظام الدولى القديم بانهيار السوفيت ، وأن مظاهر اهتمام الرأسمال العالمى بمشروعات العولمة عقب ذلك شملت مجال المياه، وتفعيل مؤتمرات المياه الدولية، و خطط المشروعات المائية الكبرى ، كما تعهد البنك الدولى بمعاونة وزراء المياه في حوض النيل لإقامة "كونسترتيوم " التعاون من أجل النيل ICCON مباشرة عقب قيام المبادرة (مايو 2001). ولم يتوقع رشدى سعيد نفسه حتى عام 2000 إمكان إقامة سدود كبرى على النيل، مقارنا موقف دوائر البنك بنصح سوريا في مواجهة تركيا ، و لحل مشاكلها المائية بإقامة السدود الصغيرة لتجنب الصراع، وإن هذا الحل نجح في سوريا بالفعل إلى جانب إغرائهم بدراسة مشروعات فرنسيةكبرى حول تحلية مياه البحر كبديل للأزمات مع تركيا (أو قل لعدم الرغبة أيضا للتنسيق السورى مع بعث العراق تجاه تركيا ..) وقد اصبحت النصيحة المحدودة لسوريا مشروعا رأسماليا الآن بقيادة فرنسا لتحلية مياه المتوسط...


لكن رغم ذلك فإنه يبدو أن هدف "المبادرة" البعيد كان واضحا منذ البداية حول المشروعات الكبيرة، وقد تحرك البنك الدولى بهذا التدرج كما رأينا في مشروعات نهر الكونغو لينتهى من المرحلة الثالثة عام 2014، ثم يشرع في الرابعة (الإنجا العظيم ) Grand .Inga، بين 17-2025وهو تدرج يوحى بمثله المسعى في حول سد الألفية العظيم في أثيوبيا بعد ذلك فيما سمى بسد النهضة). ولابد أن السلطات المصرية في مجال الرى والمخابرات كانت تعلم بخطط جهات التمويل الدولية لمساعدة إثيوبيا في مشروعاتها، هكذا بدا الأمر علىالأقل من وفرة تصريحات وزير الرى الأسبق والعتيد حول وفرة المياه وعدم وجود مخاوف من الاتفاقية إلا بنسبة 5% أو 3% أحيانا! ونحن من جانبنا لا نجد تبريرا كبيرا لأن يتوفر للمبادرة" مثلا مبلغ 122 مليون دولار من معونات البنك الدولى وغيره لأعمال "البحث وبناء الثقة والاتصالات وبرامج الاقناع"! إلا إذا كان ذلك تمهيدا -يستغرق من 3-6 سنوات- لبناء مشروعات كبيرة.. ولعل ذلك نفسه كان تحسبا لتكرار ردود فعل سلبية على بناء بعض السدود الكبيرة مثلما حدث في زامبيا وبوليفيا بسبب الآثار الاجتماعية والبيئية والنفسية لهذه المشروعات!

من ناحية أخرى فإن المعلومات المتوفرة عن أنشطة مبادرة مياه النيل بين9 199/2012 وما خصص لها من أموال الاجتماعات والبحوث مخططا في كتاب تأسيسها في أكثر من خمسين صفحة ، ووفرة التحركات والتصريحات لمسئولى وموظفى مؤسسة الرى التى كانت تعرف بأنها المؤسسة الوطنية المصرية قبل أن تتحول لإداة النظام العالمى وترهن مصالح مصر بهذا الشكل الواضح من تجاهل النتائج ، كل ذلك يجعلنا نعتقد بمعرفة الجميع بطبيعة المشروع الأثيوبى المسمى بالمفاجأة! ولقد فوجئت شخصيا بالمصادر التقليدية تشير إلى إجراءالأثيوبيين لمسح المنطقة لمشروع كبير منذ عام 2009 بل وثمة مصادر ذكرت أن ذلك منذ عام 2007 فما المفاجأة في ذلك عام 12/2013؟ وعلى رأس حكومة مصر الآن - ولأول مرة في تاريخها- رئيس وزرائها متخصصا في الموادر المائية وعضو مكتب وزير الرى منذ نشأت المبادرة في التسعينات ثم وزيرا للرى ثم رئيسا للوزراء مؤخرا في رحلة متابعة منذ أواخر القرن الماضى حتى إعلان تحويل مجرى النيل عام 2013! وطوال هذه الرحلة هناك أكثر من وزير للرى، ووزراء وأكابر يتنازعون المعلومات والمواقف من حول الرئيس السابق والرئيس اللاحق.! وهناك معلومة خطيرة أخرى في هذا الصدد جاءت في رسالة لنا من رشدى سعيد عام 2010، أثناء الاحتفال بميلاده التسعين: إن إثيوبيا لم تقدم أبدا- مثل مصر والسودان- مذكرة عن حجم احتياجاتها من المياه وفق الاتفاقات الدولية والتى تتطلب ذلك!

إن هناك أسئلة كبيرة هامة حول علاقة مصر بهيئات هذا المشروع والإتفاقيات الخاصة به ومن حوله مع السودان وأوغندا وغيرها، وثمة دراسات وأوراق كثيرة لابد أن تتوفر بشكل مركزى لمتخذى القرار والباحثين والسياسيين في نفس الوقت، حتى يمكن الوصول لمواقف محددة وأكيدة . وأول الأمر لابد أن نتعرف على ما تتيحه النصوص الحاكمة للاتفاقات والمناقشات الطويلة التى دارت حولها مع السادة الوزراء السابقين ، وهى والتى يمكن أن تجعل المفاوضات القادمة فرصة للتفاهم بدل هذا الجدل الصاخب؟.

بين التفاوض والحوار

يقول المتابعون أن المفاوض المصرى لا يفرق بين حوار ضرورى وسريع حول مشروع سد النهضة ، وظروف إقامته مع ضمان المبدأ الدولى حول الانتفاع المنصف والمعقول" لكل الأطراف، وبين "التفاوض" حول "الاتفاقية الاطارية" المعروفة باتفاقية عنتيبى نفسها. وأن التفاهم حول السد سيشمل نقاطا تقليدية حول سنوات التخزين بل وحجم التخزين، ونظام الانسياب الدورى للمياه إلى المصبات ومدى المشاركة في مشروعات توليد الطاقة تسويقها أو اتجاه توزيعها.. الخ وذلك في منهج مختلف عن التصميم المصرى لضمان هذه الشروط في صلب اتفاقية دولية مثل اتفاقية عنتيبى، خاصة وأن اتفاقية 1959 بين مصر والسودان التى يرجع إليها كانت اتفاقية ثنائية، أقرها طرفاها فقط فيما بدأ تجاهلا لأى أطراف أخرى على النيل، في ظروف تغيرت كثيرا بالنسبة للدول الأطراف، بل ورغم اختلاف حجم حاجة مصر نفسها لمياه تكفى 20 مليون نسمة وقد أصبحت الآن 85 مليون نسمة ، بما يقتضى تفاهمات كثيرة جديدة تتضمنها مفاوضات وليست اتفاقية ذات طابع دولى؟ هنا ستعتمد اثيوبيا على الدعم الدولى ، الرأسمالى وليس السياسى بالضرورة ، خاصة واننا نلاحظ أن الاقترابات منها ليست سياسية بالضرورة أيضا ، فالصين تمول خط نقل الكهرباء ( 3و1 مليار دولار)، واسرائيل تقوم إحدى شركاتها بتسويق الطاقة ، ولكل دولة عادة شركة كبيرة تمثلها في المشروع بمدى وزنها!

ولذا فهناك ما يدعو للالتفات إليه في مساءلة مسئولينا القدامى واللاحقين وهو انهم لا يقولون للرأى العام ماذا كان وراء نفى المسئولين فترات تنفيذ مشروعات المبادرة وهم يؤكدون ساعتها ألا مخاطر هناك ؟، وهل نشأت مخاطر جديدة؟ وهل تطمينات المصادر المعاونة في المشروع (إيطاليا- الصين/ هولندا/ الهند..) أصبحت منعدمة الآن.. وفجأة؟ وهل يفصح تشكيل "اللجنة الوطنية" الحكومية الآن وفى مقدمتها الوزير المخضرم محمود أبو زيد عن تشابك المسئوليات قديمها وجديدها؟!

الجزء الذى نعلمه من بعض هؤلاء المسئولين القدامى- وبعضهم أصبح لاحقا- أنه حتى اتفاقية 1959 تتضمن نصوصا حول "اتفاق مصر والسودان على أن يبحثا سويا مطالب البلادالأخرى ويتفقا على رأى موحد بشأنها.. وإذا أمكن قبول الطلب يخصم المطلوب مناصفة بينهما"... وهو ما جعل البعض يتهم مبكرا الحكومتين بإقصاء الأطراف الأخرى أو الغطرسة في التعامل معها.. الخ لكن الاتفاقية بالأساس اعتبرت مخالفة للقوانين الدولية، لأنها لا تضمن للآخر ايه مشاركة بينما هى تنص أيضا على مراقبتها للآخرين!

وبصرف النظر عن أن المواقف في صياغة الاتفاقيات تعتمد على مدى قوة الأطراف التى تصيغها (مصرفى اتفاقية النيل 1959، مصر في كامب ديفيد 1979!) أو مدى القدرة على معالجة النتائج بمشروع وطنى لتحدى آثارها (تغيير السد العالى لنظام الرى والزراعة بالكامل، مما ظل ينقذ مصر حتى وهى 85 مليون نسمة)- مقابل مشروع توشكى الفاشل) فإن التفاوض عندما يصل لمداه، في مثل حالة" اتفاقية عنتيبى" يفترض أن يكون لمصر إمكانية التصرف بقبول التحدى، وهذا ما لا يبدو متوفرا للنظام الإسلامى الحالى في مصر.! ومع ذلك يظل من الملفت هنا أن اتفاقية "عنتيبى" أو ما يعرف باتفاقية الاطار نفسها تتضمن من المواد، ما يجعلنا نعود للتأكيد على أن "التفاوض" حول الاتفاقية يختلف عن "الحوار" حول طبيعة السد وظروفه السياسية والاقتصادية. فاتفاقية "الاطار" تشير بدورها رغم تعنتها في رفض طلبات مصر حول "الحق التاريخى" وشرط الاخطار المسبق- تشير في الباب الرابع كله إلى "الأخذ في الاعتبار الانتفاع و الاستخدام المنصف والمعقول لموارد مياه المنظومة المائية" "وحماية الموارد المائية... ومراعاة الظروف المتعلقة بالموارد بما فيها محدوديتها.. والالتزام بعدم التسبب في ضرر جسيم للدول الأخرى.. وفى حالة إحداث ضرر كبير لدولة أخرى، وفى غياب الاتفاق على هذا الاستخدام.. فعليها التشاور مع الدولة المتضررة من أجل إزالة الضرر أو تخفيفه ، وعند الاقتضاء مناقشة التعويض..." وطبيعى أن النصوص هنا تخص "حق كل الأعضاء "فى مياه النهر" وليس تأمين دولة معينة أو اثنتين كما تشترط مصر والسودان.

إذن ثمة ضرورة للعودة للاتفاقية للتفاعل وسط مجموعة "الدول الاعضاء" وليس الانعزال عنها، أو عن مؤتمر وزراء موارد حوض النيل، ومن قبل ذلك دراسة الحالات المقارنة في صراعات امتدت من البرازيل وحتى السنغال والبنغال وسوريا وتركيا.. الخ وفى نفس الوقت ثمة باب آخر وهو النظر جيدا في ظروف العلاقة مع مشروعات نهر الكونغو، وهل حقا ثمة تنافس بين أطراف راس المال الدولى في الحوضين ؟ أم هو بين دولتى الكونغو وإثيوبيا حول اسبقية المشروع المائى الكبير الذى سيولد طاقة كهربية، تسعى كل من الكونغو وإثيوبيا (ورأس المال المستثمر) إلى توزيعها في أنحاء أفريقيا والعالم ؟ وها نحن نرى مسعى جنوب أفريقيا للحصول على نصف الطاقة المتولدة في الكونغو ، بينما إدارة المشروع تتجه للانتشار بالطاقة في غرب أفريقيا والشرق الأسط، وهى نفس الدوائر التى تستهدفها إثيوبيا- ورأس المال العالمى من ورائها. لذلك انعقد مؤتمر مستثمرى مشروع الكونغو في أبريل 2008 بإشراف مجلس الطاقة العالمى لتوفير مبلغ الثمانين مليار دولارلتنفيذه ، مع ملاحظة أن ثلاثة دول في حوض الكونغو- في حدود علمى- هى نفسها في حوض النيل (الكونغو- بوروندى- أوغندا) ومن ثم سيتكرر موقفها في شروطها في الحالتين! إن ذلك قد يفرض على النخبة السياسية والتكنوقراطية المصرية أن تفكر لما بعد من حدود المشروع الايد يولوجى المطروح عليها حاليا؟ لأن البحث المستقبلى يقتضى البحث في حجم المشروعات المائية من حول مصر في الكونغو أو إثيوبيا ، بينما هى لا تملك أى مشروع للطاقة أو الزراعة، يستفيد من وصل الكونغو ببحر الغزال ، أو استثمارمياه جنوب السودان ، أو مشاركة إثيوبيا في توليد الطاقة.. الخ .إن الاقتراب من هذه الأشكال للعمل تحتاج لدراسات مقارنة واسعة وليس مجرد الارتزاق من بحوث البنك الدولى وفى إطار خططه، لأن الانتقال بالتفكير إلى ساحة الكونغو وصلا أو استثمارا يتطلب معرفة بشروط التمويل وموقف الدول الكبرى في هذه المسألة وترتيباتها الاقليمية في هذه المنطقة . وأنا لاأدرى كيف نتجه للتفكير في الكونغو بهذه البساطة ؟ والموقف مع جنوب السودان نفسه بهذا الشكل فضلا عن السودان الشمالى نفسه،وكلاهما يخضع بالضرورة لشروط محلية وسياسية عالمية . والأحرى أن نفكر فيما نهمله من المطروح بدءا بدراسة تحولات الأرصاد الجوية على الهضبة الاثيوبية ( ثمة تجربة سابقة ) ومرورا بالاقتراب سريعا من مشروعات تحلية مياه المتوسط أو الطاقة الشمسية ..إن ثمة أحاديث خطيرة الآن عن حوض المياه الجوفية الذى يتكلم عنه الفرنسيون في ليبيا بل وثمة مشروعات لفرنسا تنافس بها إسرائيل حول تحلية مياه البحر. ومن بعد ذلك نبحث موضوعات الكونغو في أطر المقارنه والتواصل الضرورية.

إفتقاد موقع القوة

لقد تنازلت مصر عن ثقل علاقاتها بإثيوبيا والصومال وإريتريا وجيبوتى معا من قبل، وها نحن نرى مسئولينا الحاليين وأيديهم مغلولة إزاء التفكير في اقترابات حقيقية بينما لا يراعون إلا مجرد التيارات الدينية هنا وهنالك. إن ثمة ضرورة للانتقال من التفكير الضيق في حدود وادى النيل إلى مفهوم واسع لهوية حوض النيل بل والبحث مع الاريتريين وغيرهم في مشروع دول البحر الاحمر لنقترب من القرن الافريقى ( الصومال- جيبوتى –اثيوبيا ) بمعادلة سياسية جديدة ولنستفيد من بحث اثيوبيا الدائم عن مجال حركة بعد أن تحولت لموقع استثمارى عالمى ( مياه- طاقة- زراعة )ولتصبح من الدول الاقليمية الكبرى في أفريقيا،وتقوم بتحريك مدركاتها الجديدة بسرعة ملفتة، بعقد اجتماع قمة اثيوبية –هندية موسعة في ابريل الماضى وها هو رئيسها الجديد في الصين أوائل يونيو2013 لتفعيل تعاقدها حول سد النهضة، ثم يعود ليستقبل المؤتمرالوزارى الأمريكى الأفريقى المعروف باسم "أجوا" AGOA في أديس أبابا في أغسطس 2013.

إن كل ذلك يتم من قبل دولة محدودة القدرة الاقتصادية وحتى السياسية ، لكنها تتحرك في إطار الدوائر العالمية بمقدرات جديدة وتناغم قواها الرأسمالية والسياسية الاقتصادية أيضا. لتصل لتوافقات مع دول المال الخليجى من جهة (ولو في مجال دون آخر بالتأكيد) ودوائر المال المختلفه من جهة اخري. ومع ذلك فإن هذا المركز نفسه لا يتيح لها بشكل مطلق حرية تغيير المشروع المائى الكبير نتيجة نفوذ رأس المال العالمى وراءه . لذلك فإن لجوئها لقوة الصين الاقتصادية الاستثمارية الصاعدة يشكل بعض إمكانيات الخروج على الأجندة العالمية سعيا إلى استقلالها الوطنى الذى تغرى الصين بضمانه للآخرين وفق شروح لسمير أمين في هذا المجال، وهو نفسه الذى ينبه لمشروعات المياه الرأسمالية العالمية ومخاطر استغلالها مع الدول فرادى في الشمال الأفريقى.

ومثل موقع القوة هذا كان يحتاج لقوة إغراء الاستثمار الذى دخلته اثيوبيا بالطاقةالمائية ، بينما قوتنا الناعمة التى لم نستطع إعادةبنائها خلال العامين الأخيرين ضاعت في تجاهل وجودنا في المنظمات الاقليمية، وفى صراعات منطقة البحيرات الكبرى، والصحراء الكبرى ، بل والمنافسة أو الملاحقة لقوة جنوب أفريقيا. ومالم يتحقق في مصر نظام دولة وطنية ديموقراطية حقيقية ينشغل بهذه الأبعاد الاقليمية والدولية اقتصاديا وسياسيا ، فستظل رهن البرجوازيات التجارية هذه من حسنى مبارك إلى محمد مرسى ، ومن ثم لانستطيع الحديث عن قوة تفاوض أو حوار.

فهل ستستطيع هذه الإدارة المصرية المشتتة المتضاربة اصلا والمتهرئة حاليا أن تقود مفاوضات في اتجاه بلدان الجنوب بدل اللهاث المخزى وراء المشروع الشرق أوسطى الأمريكى وخططه الامبريالية الصارخة! إن أمام النظام المصرى- وضرورات العمل الوطن تحتم علينا نصحه - ان يتجه دون تراخ إلى الاتحاد الأفريقى الذى صرحت رئيسة مفوضيتة مسبقا" أن دول القارة تسعى إلى "سياقات جديدة" للعلاقات غير استعمارية ،وذات نتائج جديدة "! والسيدة زوما تقدر بالطبع قوة جنوب أفريقيا- بلدها- وراء مشروعات منظمة "نيباد" في أحواض الأنهار الجنوبية على وجه الخصوص ، بينما ونحن أحد مراكز منظمة "النيباد" لم نتحرك بها قيد أُنملة! بل أن مصر هى مقر هيئة "حل المنازعات في الاتحاد الأفريقى" دون أن نسمع عن تحرك في هذا الاتجاه لوضع تقرير مناسب إلى مجلس السلام والأمن الأفريقى، عن أمن المياه في حوض النيل؟

إن أمام مصر فرصا أخرى لمناقشة "الاخوه العرب" الذين يعتبرون ساحة استخدام غير عادل من قبل البنك الدولى في مشروعات يمكن أن نكون طرفا فيها بقوانا التكنولوجية بدل المبالغة في القوة الناعمة طويلة المدى، ونعرف أن المليارات تتحرك في دوائر البنك الدولى والشركات عابرة القومية ، بل والخليج ، دون اعتبار للمصالح القومية المتبادلة....