تنتورتو

(تم التحويل من Jacopo Tintoretto)

تـِنتورِتـّو ( Tintoretto ؛ /ˌtɪntəˈrɛt/ TIN-tə-RET-oh, النطق بالإيطالية: [tintoˈretto], بندقية: [tiŋtoˈɾeto]، اسم الميلاد: جاكوپو روبوستي؛[1] عاش 29 سبتمبر 151831 مايو 1594) رسام إيطالي عاش في عصر النهضة الإيطالية الأخيرة. وقد أصبح فنانًا رئيسيًا في تلك الفترة للكنائس والأسر الثرية بمدينة البندقية بإيطاليا.[2]

Tintoretto
Tintoretto-selfport.jpg
Self-portrait, 1588ح. 1588; Louvre, Paris
وُلِدَ
Jacopo Robusti

Late September or early October 1518
توفي31 مايو 1594(1594-05-31) (aged 75)
Venice, Republic of Venice
الجنسيةالبندقية
اللقبرسم
الحركةRenaissance, Mannerism, Venetian School
التوقيع
Tintoretto, Jacopo Robusti, gen. Jacopo Tintoretto 1518-1594 Signature.jpg

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

سيرته

سنين التتلمذ

 
لوح تذكاري في البندقية

إن اسم تنتوريتو الحقيقي هو جاكوبو روبستي. ويلقب بإل تونتوريتو، والذي يعني الصبّاغ الصغير، لأن والده كان صبّاغاً. يعتقد العلماء أن تنتوريتو علم نفسه الرسم الزيتي. وقد افتتح أول استديو له عندما كان عمره 21 عامًا.

"لا، لم يكن موته خاتمة لكل شيء، لأن قوة وروحاً تكادان تقلان عظمة عن قوته وروحه قد عاشتا بعد موته ثمانية عشر عاماً، ورسمتا صورة الجنة."

كان ياقوبو روبستي Jacopo Robusti ابن صباغ، وهذا هو أصل هذا اللفظ المصغر الذي سماه به من قبيل السخرية الإيطاليون الهوائيون والذي انحدر إلينا من خلال أحقاب التاريخ. والحق أنه أصبح صانعاً إذا فهمنا من هذا اللفظ أنه كان ملونا عظيما. غير أن اسم أسرته كان أليق به من غيره من الأسماء لأن روحه القوية وحدها هي التي مكنت ياقوبو من أن يخرج ظافراً من الكفاح الطويل الذي خاض غماره حتى اعترف للناس بفضله.

ويكاد يكون أول ما عرفناه عنه إنه أرسل ليتدرب عند تيشيان في سن غير معروفة، ثم فصل من العمل بعد أيام قليلة. وقد كتب ريدلفي Ridolfi بعد مائة عام من ذلك الوقت يصف الحادث كما ينظر إليه ابنا تنتورتو قال:

لما عاد تيشيان إلى بيته ودخل المكان الذي يعمل فيه تلاميذه رأى أوراقاً بارزة من أحد الأدراج، وعليها بعض رسوم، فسأل عن رسمها، فأجاب ياقوبو في خوف إنها من صنع يده. وأدرك تيشيان من هذه البدءات أن هذا التلميذ سيصبح رجلاً عظيماً، وأنه سيسبب له بعض المتاعب من ناحية الفن، فلم يكد يصعد الدرج إلى حجرته ويخلع ميدعته حتى أمر كبير تلاميذه جيرولامو دانتي، وهو نافض الصبر، أن يمنع ياقوبو من دخول البيت من تلك اللحظة. وهكذا تحدث الغيرة، مهما تكن ضئيلة، أثرها في القلوب البشرية(25).

ونحن نميل إلى تكذيب هذه القصة، ولكن أريتينو صديق تيشيان الحميم، يشير إلى هذه الحادثة في رسالة له كتبها عام 1549. فأما فصل ياقوبو من عمله فحقيقة مؤكدة، أما أسباب هذا الفصل فموضع للأخذ والرد؛ ذلك أن من أصعب الأمور أن نعتقد أن تيشيان، الذي كان وقتئذ مصوراً للملوك حين لم يكن ياقوبو إلا صبياً في الثانية عشرة من عمره، يغار من هذا المنافس المفترض، أو أنه يستطيع أن يرى مستقبل نتورتو من اطلاعه على رسوم طالب قبل تواً في مدرسته. ولعل الرسوم قد أغضبت تيشيان لما بدا فيها من إهمال لا بما كانت عليه من الجودة والإتقان، ولقد بقي الإهمال. الرسم من عيوب نتورتو كثيراً من السنين. وظل ياقوبو نفسه طوال حياته يعجب بتيشيان أشد الإعجاب، ويعتز بصورة أهداها إليه تيشيان، ويضع على جدار مرسمه ما يذكره على الدوام بما كان يطمح إلى أن يبلغه برسومه مبلغ "ميكل أنجيلو في التصميم وتيشيان في التلوين"(26).

ويقول تيشيان، وتقول الرواية المتواترة، إن ياقوبو لم يتلق تعليماً منظماً بعد أن افترق عن تيشيان، ولكنه علم نفسه بمداومته على التجربة والتقليد. وكان يشرح الأجسام ليتعلم التشريح، ولا يكاد يفتر هن ملاحظة كل ما يعترض سبيله في تجاربه بحرص يبلغ حد الشراهة والنهم، ويصمم على ألا تفوته منه كبيرة أو صغيرة في هذا الرسم من رسومه أو ذاك. وكان يصنع نماذج من الشمع، أو الخشب، أو الورق المقوى، ويلبسها الأثواب، ويرسمها من كل زاوية كي يجد طريقة يستطيع بها أن يصور أبعاداً ثلاثة في بعدين اثنين. وكانت تصنع له صور منقولة عن اللوحات الرخامية القديمة في فلورنس وروما وعن تماثيل ميكل أنجيلو وترسل له حيث يقيم؛ وكان يضع هذه النسخ في مرسمه، وينقل عنها صوراً ملونة ذات ظلال وأضواء مختلفة. وقد افتتن بما شاهد من الاختلاف الناشئ في مظهر الأشياء نتيجة لتغير كمية الضوء، وطبيعته، وطريقة سقوطه؛ ورسم مائة صورة وصورة في ضوء المصابيح أو الشموع؛ وأسرف في حبه للخلفيات القائمة، والظلال الثقيلة، وأصبح أخصائياً خبيراً في تمثيل أثر الضوء والظل على اليدين، والوجه، والثياب، والمباني، والمناظر الطبيعية، والسحب، ولم يترك وسيلة يستعين بها في كفاحه للتفوق والامتياز إلا سلكها.

غير أنه مع ذلك كان متسرعاً في عمله نافذ الصبر، ينقصه الصقل- ولعل هذا كان جزاء له على أنه علم نفسه بنفسه- وتلك عيوب أخرت اعتراف الجمهور بفنه. وقد ظل كثيراً من السنين، بعد أن بلغ دور الرجولة، يتحين الفرص ويسعى إليها. وكان يرسم الأثاث. وينشئ المظلمات في واجهات البيوت، ويرجو البنائين أن يحصوا له على أعمال بأجور قليلة، ويحاول أن يبيع صوره بعرضها في ميدان القديس مرقص(27). لكن الناس كلهم كانوا يريدون تيشيان؛ وكان تيشيان وأريتينو يعملان على ألا يعامل أي إنسان ذي مال يمكن الحصول عليه منه غير تيشيان، فإذا كان هذا الفنان مشغولا فلن يلجأ واحد منهم إلى غير بنيفادسيو فيرونيري Bonifazio Veronese. وما من شك في أن ياقوبو قد ساءته طريقة أريتينو في التصوير؛ ولكن حدث انه حين جاء الجلاد الكبير إلى ياقوبو ليصوره، أخرج الفنان مسدساً رهيباً من جيبه، وتظاهر بأنه يصوبه على كل جزء من جسم أريتينو الضخم، وسر أيما سرور مما شاهده من مظاهر الخوف على وجه ذلك المبتز لأموال الناس(28). ولم يسع أريتينو بعد هذه الحادثة إلا أن يراعي الأدب فيما يكتبه عن نتورتو. ولما أن رأى ياقوبو الجدران الواسعة الطويلة التي يبلغ ارتفاعها خمسين قدماً في مرنمة كنيسة مادنا دل أورتو Madonna dell Orto، عرض أن يغطيها كلها بالرسوم الجصية نظير أجر إجمالي قدره مائة دوقة (1250؟ دولاراً)، فما كان من المصورين البنادقة إلا أن شكوا من أنه "قد أضر بالحرفة" إذ قدر الفن هذا التقدير الضئيل. ولكن نتورتو صمم على أن يقوم بالعمل.

وقد بلغ الثلاثين من العمر قبل أن يحرز أول نصر له. ذلك أن مدرسة القديس مرقص Scula di San Marco أجرت مباراة لرسم قديسها ينقذ عبداً من العذاب والقتل. وقد وردت هذه القصة في كتاب القصة الذهبية لياقوبو ده ڤوراجينه Liacopo de Voragine: وخلاصتها أن خادماً من بروفنسال قد نذر أن يحج إلى قبر القديس مرقص في الإسكندرية، ولكن سيده لم يأذن له بالسفر، غير أنه سافر على الرغم من هذا التحريم. فلما عاد أمر سيده يشمل عينيه، ولكن أطراف الحديد انثنت فلم تنفذ فيها. فما كان من سيده إلا أن أمر بتحطيم أطرافه، ولكن القضبان الحديدية لم تحدث أي أثر فيها. وأدرك السيد ما للقديس مرقص من أثر في هذا فعفا عن العبد. وروت صورة نتورتو هذه القصة في ألوان فخمة، وواقعية مقنعة، وقوة مسرحية عظيمة: صورت الرسول المبشر ممسكاً بالإنجيل، هابطاً من السماء لينقذ الرجل المتعبد، الذي يوشك أن يخر صريعاً بضربة يوجهها إليه مغربي، ومن حوله نحو عشرين من مختلف الأشخاص ينظرون إليه وقد بلغ اهتياجهم غايته. وانتهز ياقوبو كل ما أتاحته له القصة من فرص: فصور رجالا أقوياء ونساء ظريفات رشيقات، وحرص على دراسة أثر الضوء على المخملات والحرير والعمامات الشرقية، وعمل على غمر المنظر بالألوان التي تعلمها من جيورجيوني وتيشيان. وساور مديرو المدرسة بعض الخوف حين شاهدوا ما في التصوير من واقعية مجسمة، وأخذوا يتناقشون في هل يليق بهم أن يعلقوا الصورة على جدرانهم، فما كان من نتورتو إلا أن اختطف الصورة من أيديهم في عنف وكبرياء، وأخذوها إلى منزله. فجاءوه وتوسلوا إليه أن يعيدها لهم، فتركهم قليلا من الوقت تأديباً لهم، ثم أعادها إليهم، وبعث إليه أريتينو كلمة ثناء، ومن ذلك الوقت تفتحت الأبواب أمام مواهبه.

وانهالت عليه الطلبات مجتمعة، فطلبت إليه نحو ست كنائس ودعاه نحو اثني عشر من الأعيان، وستة من الأمراء، ومثل هذا العدد من الدول للقيام بأعمال فنية. وقص لهؤلاء مرة أخرى في مائة من الصور الملحمة المسيحية الكبرى ملحمة خلق العالم، والدين، وفلسفة الموت والبعث والدار الآخرة، من بدء الخليقة إلى يوم الحساب... ولم يكن نتورتو مسيحياً متديناً،- وقلما كان من الفنانين في هذا القرن السادس عشر في البندقية من هو متدين- فقد أثرت في نفوسهم وعقيدتهم المبادئ المنتشرة في بلاد الشرق والإسلام. وكان دينه هو الفن، يقرب له القرابين بالليل والنهار، ولكن أي موضوعات يستطيع المصور أن يتخيلها أرق وأظرف من قصص آدم وحواء، وقصة مريم وطفلها، مأساة الصلب، وتعذيب القديسين وأعمالهم العجيبة، ثم تلك الغاية التاريخية الرهيبة وهي جمع الأحياء والأموات في صعيد واحد أمام قضاء المسيح؟ وخير ما في هذه المجموعة كلها هي صورة التنصيب (حوالي عام 1556)، التي رسمها نتورتو لكنيسة مادنا دل أورتو: وفيها يرى هيكل بيت المقدس وقد صور في بهائه القديم؛ ومريم الضئيلة الجسم الواجفة يرحب بها القس الأكبر وهو مبسوط الذراعين ملح؛ وامرأة فخمة الصورة لاتقل في ذلك عن فخامة صور فيدياس تعرف ابنتها بمريم؛ وإلى جانبها صور نساء غيرها ومعهن أطفالهن واضحية واقعية، ومتنبئ يلقي نبوءات غامضة، ومتسولون ومقعدون نصف عرايا راقدون على درج المعبد. تلك صورة تضارع أحسن ما صوره تيشيان وهي من أعظم ما صور في عهد النهضة.

وتأكد نجاح تنتورتو حين رشحته الاسكولا دي سانت ركو Scuola di San Rocco أو أخوه القديس رك لزخرفة قاعات اجتماعها (الألبرجو Albergo). وتفصيل ذلك أن المشرفين على هذه الطائفة أرادوا أن يختاروا مصوراً لنقش سطح الجدران الواسع، فدعوا الفنانين لتقديم رسوم لصورة تلتئم مع سقف بيضي الشكل تظهر القديس روك في مجده، فتقدم باولو فيرونيز، وأندريا شيافوني Andrea Shiavone وغيرهما برسوم تخطيطية، أما نتورتو فرسم صورة نهائية زاهية الألوان حية بالحركات والأعمال، وعمل سراً على أن يلصق قماش الصورة في مكانها المعين وأن يغطي. ولما أقبل اليوم الذي تقدم فيه الفنانون الآخرون برسومهم، أمر بكشف هذه الصورة النهائية، وروع القضاة والمتنافسون. وقد برر هو هذا التدبير غير السليم بقوله إنه يستطيع العمل بهذه الطريقة السريعة الحاسمة بدلا من طريقة الرسوم الأولية. ولكن الفنانين الآخرين نددوا بها، وانسحب نتورتو من المباراة، ولكنه ترك الرسوم هدية إلى الجماعة؛ فقبلته آخر الأمر، وعينت نتورتو عضواً بها، وخصصت له مرتباً قدره مائة دوقة في العام مدى الحياة، وطلبت إليه في نظير ذلك أن يرسم لها ثلاث صور كل سنة.

وبذلك استطاع أن يضع على حجرات قاعات الاجتماع سنة وخمسين منظرا في السنين الثمان عشرة التالية (1564-1581). وكانت الحجرات التي يعمل فيها قليلة الضوء، واضطر نتورتو أن يشتغل فيما يشبه الظلام، وكان يعمل بسرعة، ويضع الألوان في غير إتقان كأنها تشاهد من تحتها بعشرين قدماً. وكانت الصور أشهر ما صوره رجل بمفرده في تاريخ البندقية كله، وجاء الفنانون فيما بعد ليدرسوها كما ذهب الطلاب إلى فلورنس ليدرسوا رسوم ماساتشيو. وأثر المطر والرطوبة في الصور على مر السنين. ولكنها لا تزال تبعث في النفس الروعة بحجمها وقوتها؛ وقد كتب عنها رسكن قبل وقتنا هذا بمائة عام يقول: "وقد أنزلت هذه الصور منذ عشرين أو ثلاثين عاماً لإصلاحها وإعادتها إلى ما كانت عليه، ولكن الرجل الذي عهد هذا العمل إليه مات لحسن الحظ ولم تتلف إلا واحدة منها"(29).

وقد روى نتورتو في هذا المتحف المدهش القصة المسيحية مرة أخرى؛ ولكنها لم تكن قد رسمت من قبل بهذه الواقعية الجريئة التي انتزعت الحوادث من عالم العواطف المثالية ووضعتها في هذه البيئة الطبيعية، ولهذا بدا أن هذه القصة قد استحالت تاريخاً من أعظم التواريخ صدقاً وأبعدها عن الشك. وكان الشرر الذي أوقد النار في قلب نتورتو هو قدرته على النظر، وأن يلاحظ كل دقائق المنظر، وأن يحس بأن هذه الدقائق تهب الحياة، وأن بادر بوضعها على الجدار بضربة أو ضربتين من الفرشاة- كالماء الذي يراه الناظر من خلال جذور الغار في صورة مجلية. وخصص نتورتو الطابق الأسفل من الحجرات لصور مريم العذراء: فصور فيها دهشتها الذليلة من البشارة، ورشاقتها المتواضعة عند الزيارة، ورهبتها الساذجة عندما قدمت لها الهداية الشرقية في عبادة المجوس، وسيرها البطيء على ظهر حمار مجتازة منظراً هادئاً في صور الهروب إلى مصر فراراً من "مذبحة البريئين"، وهي أقوى صورة في هذه المجموعة. وروى نتورتو على جدران الحجرة العليا الكبرى حوادث في تاريخ المسيح نفسه: تعميده بيد يوحنا، ومحاولة الشيطان إغواءه، والمعجزات والعشاء الأخير. وكانت هذه الصورة الأخيرة واقعية بعيدة كل البعد عن العرف المألوف إلى حد جعل رسكن يصفها بأنها "أسوأ ما عرف عن نتورتو"(30). وقد رسم المسيح في الطرف البعيد، والقديسين منهمكين في الأكل أو الحديث، والخدم رائحين بالطعام وغادين، وكلباً يسأل متى يتناول هو أيضا الطعام. ورسم نتورتو في حجرة داخلية في الطابق الأعلى صورتين من أعظم صوره. إحداهما صورة المسيح أمام بيلاطس ويظهر فيها شخص لا يمكن أن ينساه الإنسان قط يرتدي ثوباً أبيض كأنه كفن، ويقف متعباً، مستسلماً، ولكنه يقف مهيباً كريماً أمام بيلاطس الذي يحاول التكفير عن خطيئة الخضوع إلى تعطش الغوغاء للدماء. وآخر ما نذكره من هذه الصور صورة يرى نتورتو أنها خير صوره على الإطلاق- صورة الصلب، التي تتحدى صورة يوم الحساب لميكل أنجيلو وتسمو عليها في قوتها واتساع مدى تكوينها، وتنفيذها الفني، فها هي ذي أربعون قدماً من الجدار تغطيها ثمانون صورة لأشخاص، وخيول وجبال، وأبراج، وأشجار، روعيت فيها الأمانة في رسم التفاصيل، مراعاة لا يكاد يتصورها العقل، ويرى فيها المسيح يمضه الألم الجثماني والنفساني، ولص من اللصوص يلقى فوق صليب مطروح على الأرض، وهو يقاوم إلى آخر لحظة؛ ولص آخر جبار في قوته وتهوره، ثم يرفعه للقتل جنود غلاظ شداد يحول غضبهم من ثقله دون أن تأخذهم به رأفة، وترى النساء وقد انكمشن جماعات من شدة الرعب، والنظارة يتزاحمون في حرصهم على أن يروا الرجال يعذبون ويموتون. ويرى من بعيد جو مكفهر لا يستجيب إلى المأساة البشرية، ولكن فيه رعداً وبرقاً ومطراً لا تعبأ بها. وفي هذه الصورة بلغ نتورتو الذروة وضارع أحسن المصورين.

وأضاف نتورتو إلى كل هذه الآيات الفنية التي رسمها في قاعات الاجتماع ثماني صور أخرى رسمها لكنيسة هذه الجماعة نفسها معظمها خاص بالقديس روك نفسه. وأظهر ما في هذه المجموعة كلها صورة بركة بيت جسدا وذلك لما تبعثه في النفس من رهبة إن لم يكن لشيء سواها.

ويستمد الفنان موضوعه من الإصحاح الخامس من الإنجيل الرابع: "في هذه كان مضطجعاً جمهور كثير من مرضى، وعمى، وعسم " ينتظرون أن تتاح لهم الفرصة للاستحمام في بركة ذات الماء الشافي. وتنتورتو لا ينظر إلى معجزة شفاء المرضى، بل يرى الجماهير المصابة بمختلف الأمراض، ويصورها كما يراها وهو ساكن هادئ بأجسامها المشوهة وأسمالها البالية، وأقذارها، وآمالها، ويأسها. إن هذا المنظر كأنه أخذ من منظر الجحيم لدانتي أو الأثقال لزولا.

وهذا الرجل الذي يستطيع أن يحدث بفنه هذه السورة العارمة ضد الشرور التي يتعرض لها الجسم الإنساني بفطرته: هذا الرجل نفسه قد استجاب بحماسة بالغة لمباهج الجسم الإنساني في صحته وجماله، وكاد يضارع تيشيان وكريجيو في رسم العرايا. ونحن وإن كان يحق لنا أن نتوقع من روحه القلقة وفرشاته السريعة أن تعجزا عن نقل الإحساس القديم بالجمال أثناء راحته؛ لنجد مع ذلك في أماكن كثيرة في أوربا أشكالا أنيقة أمثال صورة دانائي المحفوظة في متحف ليون بفرنسا، والمزدانة بالجواهر، وصورة ليدا والبجع الموجودة في معرض أفيدسي، وفينوس وفلكان المحفوظة في متحف ميونخ وصورة إنقاذ أرسينوئي، المحفوظة في متحف درسدن، وعطارد وربات الجمال وباخوس وأدرياني المحفوظتين في قصر الدوج بالبندقية... ويظن سيمندس أن هذه الصورة الأخيرة هي أجمل صورة بالزيت موجودة في هذه الأيام، إن لم تكن أعظم الصور كلها"(31). على أن أكمل منها صورة أصل المجرة الموجودة في معرض لندن الفني التي تعزو هذا الأصل إلى ضغط كيوبد على ثديى Juno- وهو تفسير لا يقل في صدقه عن أي تفسير آخر تقدم به العلماء. وفي متاحف اللوفر، والبرادو وفينا، ومعرض واشنجتن الغني أربع صور مختلفة من رسم نتورتو تمثل سوزنا والكبراء. وفي معرض برادو حجرة ممتلئة بصور تمثل جمال النساء "منها صورة فتاة بندقية تزيح رداءها لتكشف عن صدرها، وحتى في صورة معركة الترك والمسيحيين نرى ثديين ناهدين يستلفتان الأنظار بين بريق الأسنة والرماح: وفي متحف فيرونا صورة تمثل جوقة مكونة من تسع نساء موسيقيات ثلاث منهن عاريات إلى أوساطهن- كأن الآذان تحسن السمع إذا كان في وسع العيون أن ترى هذا القدر الكبير من الجمال. وليست هذه الصور أحسن ما أبدعه تنتورتو، بل إن قدرته لتظهر أعظم ما تظهر في تمثيل الرجولة في الحياة، والبطولة في الموت على أوسع نطاق؛ ولكن هذه الصور تدل هي الأخرى على أنه يستطيع كما يستطيع جيورجيوني وتيشيان أن يرسم الانحناءات الخطرة بيد ثابتة؛ ولسنا نرى فيما رسمه من صور للنساء العاريات شيئاً من فساد الخلق، بل نجد فيها المتعة الحسية السليمة. فهؤلاء الآلهة وهذه الإلاهات يرون العري من طبيعة الأشياء، وهو لا يشعرون به؛ ويرون أن من صفاتهم الإلهية أن يحيوا الشمس "وكل أجسامهم وجوه"، يحيونها بأجسامهم كلها غير مضيق عليها الأزرار، والأشرطة والأربطة.

وظل نتورتو ممتنعاً عن الزواج فوستينا ده ڤسكوڤي Faustina de Vescovi، ولكنها وجدته مضطرباً مسكيناً إلى حد لم يسعها معه إلا أن تجد السعادة في أن تكون له أماً. وولدت له ثمانية أبناء أصبح ثلاثة منهم مصورين لابأس بأعمالهم. وكانوا يسكنون بيتاً متواضعاً غير بعيد من كنيسة مادنا دل أورتو (عذراء أورتو)، وقلما كان الفنان الكبير يبتعد عما حول البيت إلا إذا ذهب ليصور في كنيسة بالبندقية، أو في القصر، أو في مقر الإخوان. ولهذا فإنا لا نستطيع تقدير قوته وتنوع صوره إلا في نطاق المدينة التي ولد فيها. وقد عرض عليه دوق مانتوا منصباً في بلاطه، ولكنه رفضه؛ ذلك أنه لم يكن سعيداً إلا في مرسمه، حيث لم يكن ينقطع عن العمل لا ليلا ولا نهارا، وكان زوجا وأبا طيبا، ولكنه لم يكن يعني أقل عناية بالمتع الاجتماعية. وكاد يبلغ في عزلته، واستقلاله، ونكده، واكتئابه، وتوتر أعصابه، وعنفه، وكبريائه، كاد يبلغ في هذا كله مبلغ ميكل أنجيلو الذي ظل طول حياته يعبده، ويحاول أن يتفوق عليه. ولسنا نجده عنده السلام لا في روحه ولا في أعماله، وكان كميكل أنجيلو يعظم قوة الجسم، والعقل، والروح، أكثر مما يعظم الجمال الظاهر، ولهذا نرى صور العذراء التي رسمها منفرة كصورة عذراء دوني Doni. وقد ترك لنا صورة له (توجد الآن في متحف اللوفر)، رسمها وهو في الثانية والعشرين من عمره. ولا نكاد نرى فيها فرقاً بين رأسه ووجهه وبين وجه أنجيلو ووجهه نفسه. -فالوجه قوي مكتئب، عميق مندهش حائر، ترتسم عليه علامات مائة عاصفة.

والصور التي رسمها لنفسه خير صوره جميعاً، ولكنه رسم صوراً أخرى تشهد بعميق نظراته النافذة ووحدة فنه. ذلك أنه في هذه الناحية أيضا ظل واقعياً، لا يجرؤ امرؤ على أن يجلس أمامه ليصوره إذا كان يرجو أن يخدع الخلف. وكم من عظيم من أهل البندقية قد انتقل إلينا من خلال القرون بفضل فرشاة نتورتو: أدواج، وأعضاء في مجلس الشيوخ، ووكلاء دعاو؛ وثلاثة من مديري دار سك النقود، وستة من أصحاب بيت المال؛ وخير من هؤلاء كلهم في هذه المجموعة صورة ياقوبو سوراندسو- وهي من أعظم الصور التي أخرجها فن البندقية. ومن هذه الصور أيضاً صورة سان سوفينو المهندس المعماري وكرنارو Cornaro المعمر. ولتنتورتو صور لا يفوقها إلا صورة السوراندسو Soranzo ولا يعرف من تمثله وهي صورة الرجل لابس الزرد (في برادو) وصورة الشيخ (في بريستشنسا) وصورة رجل (في الخلوة بلينينجراد)؛ وصورة مغربي في مكتبة مورجان بنيويورك. وحدث في عام 1574 أن تخفى تنتورتو في ثياب خادم من خدم الدوج ألفيزي متشينيجو Dege Alvise Mocenigo واستطاع الوصول إلى البارجة بوتشنتور Bucentaurs بارجة أمير الأسطول، ورسم خلسة بالبسطل صورة تقريبية لهنري الثالث ملك فرنسا. ثم استطاع فيما بعد أن يتخذ له مكاناً في ركن حجرة كان هنري مجتمعاً فيها مع اعيان البلاد ومن هذا المكان أتم الصورة. وبلغ من حب هنري لها أن عرض على الفنان لقب فارس، ولكنه رجاه أن يقبل اعتذاره.

وكانت معرفته بأعيان البندقية قد بدأت في عام 1556 حين عهد إليه هو وفيرونيزي أن يرسم صوراً على القماش في قصر الدوق. رسم في قاعة المجلس الكبير Sala del Maggior Consiglo صورتين هما تتويج فردريك بربرسا وحرمان الاسكندر الثالث لبربرسا. وفي القاعة المعروفة باسم صالا دل اسكروتينو Saladel Scrutinio (قاعة البحث والتحقيق) غطى جداراً كاملا بصورة يوم الحساب. وسر مجلس الشيوخ من الصورتين سروراً حمله على أن يختاره في عام 1572 لتخليد ذكرى الانتصار العظيم في ليبانتو. غير أن هذه الصور الأربع قد دمرتها النار التي شبت في عام 1577، وفي عام 1574 عهد مجلس الشيوخ إلى نتورتو أن يصور حجرة الانتظار (الانتيكاليجيو Anticollegio). وهنا رسم للمشترعين الكبار صورة عطارد وربات الجمال وأندريا ياخوس. وكيرفلكان ومينيرقا تطارد المريخ.. وفي قاعة مجلس الشيوخ Sata de Predadi رسم نتورتو (1574- 1585) طائفة من اللوحات الكبيرة يطري بها أدواج أيامه، فصوره ومن خلفهم الميدان الفخم العظيم: كنيسة القديس مرقص بقبابها البراقة أو برج الساعة، أو برج الأجراس، أو الواجهة الفخمة لمكتبة فيتشيا أو بواكي قصر الدوبرج البراقة، أو مناظر القناة الكبرى تحجبها الغيوم أو تسلط عليها أشعة الشمس. ثم توج هذه الرسوم بصور توائم ذوق الحكومة الفخورة المزهوة فرسم على السقف صورة رائعة فاقت كل ماعداها وهي صورة البندقية ملكة البحار؛ ترتدي أثواباً ذات روعة وجلال تحيط بها دوائر من الأرباب المعجبين بها، وتتلقى من آلهة البحر وحورياته هدايا الماء- المرجان والأصداف، واللآلئ.

ولم يثن الحريق الكبير من عزم مجلس الشيوخ فطلب إلى نتورتو أن يعوضه عن الخسارة بصور تمحو من ذاكرة الناس كل شيء عنها. فنفش في "قاعة البحث" منظر معركة كبرى هي الاستيلاء على زارا، وصور على جدار إحدى حجرات المجلس الكبير لإمبراطور فردريك بربرسا يستقبل الوفود من عند البابا والدوج، كما رسم على السقف آية فنية رائعة هي الدوج نقولو بنتي يتلقى خضوع المدن المغلوبة.

ولما قرر مجلس الشيوخ (1586) أن يغطي المظلم القديم الذي صوره گواريينتو Guariento على الجدار الشرقي من حجرة المجلس، اعتقد أن تنتورتو، وكان وقتئذ في الثامنة والستين من عمره. قد بلغ من الكبر حداً لا يستطيع معه أن يقوم بهذه المهمة. ولهذا قسم العمل كما قسم الجدار بين فاولو فيرونيزي، وكان وقتئذ في الثامنة والخمسين، وفرانتشيسو بسانو، البالغ وقتئذ سبعا وثلاثين سنة. لكن فيرونيزي توفي عام 1588 قبل أن يبدأ العمل فعلا، وعرض نتورتو أن يحل محله، وأن يغطى الجدار كله بصورة واحدة هي مجد الجنة، ووافق مجلس الشيوخ على هذا العرض، ووضع الشيخ الطاعن في السن، بمساعدة ابنه دومينيكو وابنته ماريتا Marietta، في الاسكولا دلا ميزيربكورديا Scuola della Misericordia قطع القماش التي ستتألف منها الصورة الأخيرة. ورسمت كثير من الرسوم التخطيطية الأولية؛ منها رسم، يعد في حد ذاته آية فنية، يوجد الآن في متحف اللوفر. ولما وضعت هذه الأجزاء كلها في مكانها (1590)، وبعد أن لون دومينيكو مواضع الاتصال بين الأجزاء وأخفاها، كانت الصورة أكبر صورة بالزيت وقعت عليها العين حتى ذلك الوقت- فقد كان طولها اثنتين وسبعين قدماً وارتفاعها ثلاثا وعشرين. وأجمعت الجماهير التي احتشدت لرؤيتها على أنها أعظم أعمال التصوير التي تمت في مدينة البندقية- وأنها "أعجب قطعة في العالم كله من الصور الزيتية النقية، السامية التي تمثل الرجولة الحقة"(33). وعرض مجلس الشيوخ على نتورتو أجراً بلغ من الارتفاع حداً لم يسعه معه إلا أن يرد إليه جزءاً منه واستاء من ذلك زملاؤه الفنانون.

وعدا الزمان على هذه الجنة، واليوم إذا ما دخل الإنسان قاعة المجلس الكبير، والتفت إلى الجدار القائم خلف عرش الدوج، لم يجد الصورة التي تركها تنتورتو هناك، بل وجد صورة سودها الدخان والرطوبة اللذين تناوبا عليها مئات السنين، حتى لا يستطيع أن يتبين من الأشكال الخمسمائة التي كانت تملأها إلا أقلية صغرى واضحة للعين. أما فيما عدا هذا فدوائر داخل دوائر تهتز وترتجف- وتتكون من السذج المباركين، والعذارى، والمؤمنين بالدين، والشهداء، والمبشرين بالإنجيل، والحواريين، والملائكة، وكبار الملائكة- كلهم محتشدون حول مريم وابنها، كأن هؤلاء جميعاً قد أصبحوا هم الآلهة الحقيقيين للعالم المسيحي اللاتيني، وقد جاءوا يعترفون بجلال قدرة المرأة والرجل اعترافاً جديراً بهم. ويشعرنا تنتورتو بما وراء الأشكال المائة التي تستطيع أن تراها بالعين من مئات أخرى يخطئها الحصر.

والحق أنه حتى إذا لم يكن اللذين يدخلون الجنة إلا قلة تختار من اللذين يدعون إليها، فإن من دخلوها فعلا في ستة عشر قرناً من التاريخ المسيحي ليبلغون عدداً كبيراً من الجماهير السعيدة، وقد أخذ تنتورتو على نفسه أن يصور لنا هذا العدد الكبير، ويمثل لنا سعادتهم. وهو لم يمِت الجنة فيصفها مكاناً مكتئباً كما وصفها دانتي، بل تصورها مكاناً مليئاً بالمرح والطرب، لا يقبل فيه إلا السعداء المبتهجون. وكأن هذا العمل كان هو الرقية التي أخرجت الفنان من سابق كراهيته للمجتمع.

لكن تلك الأيام من حياة الفنان لم تكن خالية من أسباب الحزن؛ ففي السنة التي أزيح فيها الستار عن الصورة العظيمة ماتت ابنته المحبوبة ماريتا، وكان حذقها التصوير والموسيقى من أكبر مباهجه وأسباب سلواه في شيخوخته. فلما أن فارقته لاح كأنه لا يفكر إلا في أن يراها تحيا حياة أخرى. فكان يتردد أكثر من ذي قبل على مادنا دل أورتو-سيدة الحديقة- حيث يقضي الساعات الطوال في التفكير والدعاء بعد أن أصبح آخر الأمر رجلا ذليلا. وكان لا يزال يصور، وأخرج في هذه السنين الختامية طائفة من الصور تمثل القديسة كترين لتوضع في الكنيسة المسماة باسمها. لكنه أصيب في السابعة والسبعين من عمره بمرض في معدته سبب له آلاما ممضة حرمت النوم على عينيه. فكتب وصيته، وودع زوجته، وأطفاله، وأصدقاءه؛ ومات في الحادي والثلاثين من شهر مايو سنة 1594، وأودعت جثته في مادنا دل أورتو.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أعماله الأولى

 
Finding of the body of St Mark (1548).
 
St Mark's Body Brought to Venice (1548)

أبدع تنتوريتو أعمالاً اشتُهرت بتأثيرها الدرامي. تُظهر لوحاته تأثير الألوان الصارخة التي استخدمها تيتيان وللأشكال القوية التي رسمها مايكل أنجلو. حقق تنتوريتو أسلوبًا فريدًا من خلال المبالغة. وأحياناً يشوه صور أشكاله للحصول على تأثير درامي. تتحرك الأشكال بنشاط خلال المساحة العميقة والضوء المتغير.

 
خلاص أرسنو (ح. 1560).
 
معجزة العبد (1548).

أعد تنتوريتو تصاميمه بوضع الأشكال الشمعية أو الصلصالية في صندوق ـ مثل الممثلين على خشبة المسرح ـ واستخدام الشموع لخلق تأثير الإضاءة. وكان يدرس هذه الترتيبات ويرسم الصور قبل تلوينها. يمكن مشاهدة الشخصية المسرحية لرسومات تنتوريتو في واحدة من أشهر أعماله، القديس مارك ينقذ عبداً عام 1548م. حقق تنتوريتو التناقض الدرامي بتركيز الضوء على بعض الأشكال بلون عميق، ورسم الأخرى بألوان وظلال أخف.

الأسلوب

وإذا ما حاول الإنسان أن يتبين فن هذا المصور الكبير بعد أن يطوف بقاربه في مياه البندقية الضحلة ويقف أمام كل صورة من فنانها الذي لا يقل قدراً عن ميكل أنجيلو، إذا ما فعل هذا فإن أول ما ينطبع في ذهنه هو طابع الكثرة والضخامة، إذ يرى الجدران الكبيرة مغطاة بصور الآدميين والحيوانات على درجات متفاوتة من الجمال والقبح لا تقل عن الألف عدا، تختلط فيها الأجسام وتضطرب اضطراباً لا نجد له ما يبرره إلا قولنا إنه هو الحياة. ذلك أن هذا الرجل الذي كان يبتعد عن الجماهير ويبغضها، يواجهها في كل مكان، ويصورها تصويراً صادقاً دقيقاً غاية في الصرامة. ويبدو أنه كان قليل الاهتمام بالأفراد؛ وإنه إذا رسم صوراً لهم فإنما كان يقصد بذلك كسب العيش صراحة. وكان يرى الإنسانية جملة، ويفسر الحياة والتاريخ على أنهما كتل من الخلائق البشرية تكافح، وتنافس، وتحب، وتستمتع، وتعذب، طابعها الرجولة والجمال، مريضة ومعقدة، ناجية أو معذبة. وكان يغطي بصوره قطعاً من قماش الرسم ذات حجم مروع في كبره، لأن هذه السعة وحدها هي التي كانت تفسح له المجال ليصور ما يشهده. ومع أنه لم يكن يتقن أصول فن التصوير، كما يتقنها تيشيان، فإنه قد استخلص لنفسه الطريقة التي رسم بها هذه الصور الضخمة، وإليه يرجع أكبر الفضل في روعة الحجرات التي في قصر الأدواج، لهذا لا ينبغي لنا أن نطلب إليه رقة الصقل أيا كان نوعها، فهو في فنه خشن، فج، سريع، يخلق أحياناً منظراً بضربة واحدة من فرشاته.على أن خطأه الحقيقي ليس هو خشونة السطح- لأن السطح الخشن ذاته قد ينير ما ينطوي عليه الرسم من معنى-، أما هذا الخطأ فهو العنف المسرحي لما يختاره من الأحداث، وثوران أهوائه ونزواته ثوراناً سقيما، والكآبة التي يغرق فيها الحياة كما يصورها، وتكرار صور الجماهير تكراراً متعبا مملا. لقد كان تنتورتو مفتتناً بكثرة العدد، كما كان ميكل أنجيلو مفتتناً بالأشكال، وروبنز Rubens، مفتتناً بالأجسام. ولكن ما أكثر ما نجده في هذه الكثرة نفسها من دقائق وتفاصيل عظيمة الدلالة، وما أعظم ما نجده من دقة ونفاذ في الملاحظة، ومن تنوع وانفرادية في الأجزاء لا ينضب لهما معين، وواقعية جريئة حيث لم نكن نجد قبل إلا خيالا وعاطفة!

وآخر ما نشعر به ونحن نقف أمام هذه الصور هو الاستجابة لها استجابة صريحة أكيدة قائلين: هذا هو الفن في أعظم طراز له. لقد صور غيره من الفنانين الجمال كما فعل رافائيل، أو القوة كما فعل ميكل أنجيلو، أو عمق النفس كما فعل رمبرانث أما عنا في هذه الرسوم العالمية- سواء كانت تمثل صخب مدينة، أو لجماهير صامتة تؤدي الصلاة، أو دخائل ألف بيت وبيت وما تضمه من متاعب أو محبة وولاء- نقول أما هنا فإنا نجد الحياة الإنسانية نفسها. وقد نحس أحياناً ونحن وقوف صامتون أمام هذه الجدران الحائلة في قصر أدواج البندقية، أو في حجرات إخوان القديس روك، أن صور غيره من الفنانين الأرقى منه درجة تنمحي من ذاكرتنا" وأنه لو استطاع الصباغ الصغير أن يصقل صوره صقل الجوهري بعد أن فكر فيها تفكير الجبابرة، لكان أعظم المصورين أجمعين.

انظر أيضاً

معرض الصور

الهوامش

  1. ^ According to historian Stefania Mason, the discovery and publication in 2004 of a "fanciful account" in a letter of 1678 to a Spanish art collector from his agent in Venice is responsible for a misconception that Jacopo's surname was Comin. "Robusti is the name that appears in his tax declarations" and other official documents. Echols 2018, pp. 39–40, 227.
  2. ^ Zuffi, Stefano (2004). One Thousand Years of Painting: An Atlas of Western Painting from 1000 to 2000 A.D. Milan, Italy: Electa. p. 427. OCLC 907045157.

المصادر

  • Butterfield, Andrew (2007-04-26). "Brush with Genius". New York Review of Books. NYREV, Inc. 54 (7). Retrieved 2007-04-18.
  • Carlo Ridolfi, La Vita di Giacopo Robusti (A Life of Tintoretto) 1642

وصلات خارجية