پاولو ڤـِرونـِزى

(تم التحويل من پاولو ڤـِرونـِزه)

پاولو ڤـِرونـِزى Paolo Veronese (و.1528 - 19 أبريل 1588) رسام إيطالي يُعَد أحد زعماء مدرسة البندقية. ظهرت معظم رسومه عند نهاية عصر النهضة الإيطالية. كان اسمه الحقيقي باولو كالياري، إلا أنه لقب بفيرونيزي لأنه ولد في مدينة ڤـِرونا. ويعتبر فنه أنموذجًا للفن الڤـِروني لاعتماده على التأثير الشعري للألوان. اشتهر فيرونيزي برسمه للأساطير والشخصيات التاريخية ولتجسيده الأرستقراطيين الفيرونيين. كما قام أيضا برسم شخصيات وأشكال دينية. هذا وكانت معظم شخصياته تبدو وسيمة وعنيفة ومرتدية أفخر الملابس في إطار مسرحي متكلف. من بين أعماله الرئيسية، لوحة بعنوان عرس في مدينة كانا المعروضة في متحف اللوفر بباريس، ولوحة المريخ والزهرة المعروضة في متحف المتروبوليتان في نيويورك، ولوحة التصوير الجصي على الجدران والسقوف المعروضة في متحف ڤيلا بربارو في ماسر بالقرب من البندقية.

Paolo Veronese
Paolo Veronese, avtoportret.jpg
پورتريه ذاتي، 1558–1563، متحف الهرميتاج
وُلِدَ1528
ڤيرونا، جمهورية البندقية
توفي19 أبريل 1588(1588-04-19) (aged 59–60)
البندقية، جمهورية البندقية
الجنسيةبندقي
اللقبPainting
العمل البارز
The Wedding at Cana (1563)
العيد في بيت لڤي (1573)
الحركةالنهضة، Mannerism, Venetian School
الراعيعائلة بارباريگو, عائلة باربارو
العيد في بيت لـِڤي (1573)، أحد أكبر اللوحات الزيتية المرسومة على قماش في القرن 16. وقد أثارت تحقيقاً من محكمة التفتيش التابعة للكنيسة الكاثوليكية الرومانية.
معركة لـِپانتو (ح. 1572، زيت على canvas, 169 x 137 سم، گالري دل أكاديميا، البندقية)

جاء من فيرونا إلى البندقية في عام 1553 شاب في الخامسة والعشرين من العمر يدعى باولو كاليارى Paolo Caliari، وهو طراز من الشبان يختلف كثيراً عن طراز نتورتو: فهو هادئ، ودود محب للألفة، ينتقد عيوب نفسه، لا ينفعل إلا نادراً. وكان يحب الموسيقى ويمارسها، مثله في ذلك كمثل تنتورتو وجميع الإيطاليين المتعلمين تقريباً. وكان سخياً كريم الخلق، لم يسئ قط إلى منافس له، ولم يغضب نصيراً له أبداً. وسمته البندقية إل فيرونيزي Il Veronese وهو الاسم الذي يعرفه به العالم، وإن كان قد أحب البندقية فيما أحب من المدن واتخذها موطنا له. وكان له في فيرونا عدد من المعلمين، منهم عمة أنطونيو باديلي Antonio Badile الذي زوجه فيما بعد بابنته؛ وقد تأثر فيها بجيوفني كاروتو Giovanni Caroto برساسورسي Brusasorc؛ ولكن هذه العوامل التي كانت ذات أثر في نشأة أسلوبه سرعان مازالت في لألاء فن البندقية وحياتها القويين. فقد كان تغير منظر السماء وألوانها فوق القناة الكبرى مصدر دهشته على الدوام؛ وكان يعجب بقصور المدينة وانعكاس خيالها واهتزازه في ماء البحر؛ وكان يحسد عالم الأشراف على دخلهم الثابت، وصداقتهم للفنانين، وآدابهم العالية، وأثوابهم المنسوجة من الحرير والمخمل التي تكاد تكون أكثر إغراء للمس من النساء الحسان اللائى يلبسنها. وكان يتمنى أن لو كان من أولئك الأشراف؛ وكان فعلا يرتدي أثواباً شبيهة بأثوابهم محلاة بالمخرمات والفراء، ويقلد مراسيم التكريم التي كان يعزوها إلى الطبقات العليا من أهل البندقية. ولا نكاد نجد له صورة للفقراء من الناس، أو للفقر ذاته، أو للمآسي ، لأن الغرض الذي كان يسعى إليه هو أن يخلد بصوره هذا العالم المتلألئ المحظوظ من أهل البندقية، وأن يجعله أرق وأجمل مما يستطيع أن يبلغه الثراء بغير الفن. ولهذا هرع إليه النبلاء والنبيلات، والأساقفة ورؤساء الأديرة، والأدواج وأعضاء مجلس الشيوخ، وأحبوه، وسرعان ما كانت لديه أكثر من عشر مهام يقوم بأدائها.

أمثولة الحكمة والقوة، ح. 1580.

وطلب إليه في ذلك التاريخ المبكر من حياته أي في عام 1553 ولما يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره أن ينقش سقف مجلس العشرة في قصر الدوق. وقد شبه في هذا النقش المجلس بجوبتر قصور جوبتر يقضي على الرذائل، وتوجد هذه الصورة الآن في متحف اللوفر. ولم يكن نجاحه في هذه الصورة نجاحاً يستلفت الأنظار؛ ذلك أن الأشكال الثقيلة تقفز مزعزعة في الهواء، لأن باولو لم يكن قد سرى فيه حتى ذلك الوقت روح البندقية. ثم لم يمض على ذلك الوقت إلا عامان حتى عرف قدر نفسه، وصار غير بعيد من أساتذة الفن في صورة انتصار موردكاي التي رسمها على سقف كنيسة سان سباستيانو. وقد أظهر في هذه الصورة وجه البطل اليهودي وشكله واضحين قويين، والخيل نفسها تبدو كأنها خيل بحق. وربما كان تيشيان نفسه قد تأثر بهذه الصورة، وشاهد ذلك أنه لما عهد إليه القائمون على كنيسة القديس مرقص أن يزخرف مكتبة فيتشيا بصورة مدليات مصورة، عهد إلى فيرونيز بثلاثة من هذه المداليات، ولم يسبق لنفسه ولكل واحد آخر من الفنانين الذين اشتركوا معه في العمل إلا واحدة. ووعد هؤلاء المشرفون أن يمنحوا صاحب أحسن مدلاة سلسلة ذهبية، فكان باولو هو الذي نال هذه المكافأة نظير تمثيله الموسيقى في صورة ثلاث فتيات- واحدة منهن تعزف على العود، وواحدة تغني، وواحدة منكبة على الكمان الدجمبي - ومعهن كيوبد يضرب على معزف من نوع البيان، وبان Pan بنفخ في مزاميره. وقد رسم فيرونيز بعدئذ يتحلى بهذه السلسلة الذهبية.

ولما أن أحرز باولو هذه الشهرة العظيمة في التصوير الزخرفي عهدت إليه أعمال درت عليه المال الوفير. من ذلك أن أسرة بربارو Barbaro الشريفة الغنية شادت في عام 1560 بيتاً ريفياً في ماتشير Macer قرب أسولو Asolo حيث كانت تقيم كترينا كرنارو ملكة قبرص السابقة، وحيث كان بمبو العاشق الأفلاطوني الواله. ولم يختر آل برباري إلا كبار الفنانين ليجعلوا من هذا البيت: "أجمل بيت للنزهة شيد في عصر النهضة"(35). فاختاروا أندريا بلاديو لتصميمه. وألسندرو فتوريا لزخرفته بالتماثيل الجصية، وفيرونيزي لعمل المظلمات في السقف والجدران، والبندريلات والكوات، مستمدة من مناظر من الأساطير الوثنية والمسيحية. فقد صور على السطح الداخلي من القبة الوسطى أولمبس- الآلهة الذين يستمتعون بجميع مباهج الحياة ولكنهم لا يهرمون ولا يموتون. ورسم صغار الفنانين وسط مناظر سماوية صورة صائد، وقرد، وكلب بلغ من دقة شكله ويقظته وحيويته ما يجعله خليقاً بأن يكون من كلاب السماء. ورُسم عى أحد الجدران خادم يتطلع عن بعد إلى صورة عذراء، وتتطلع هي الأخرى إليه، ثم تمضي لحظة يطعمون هم أيضاً فيها طعام الآلهة، وبهذا بلغ جمال القصر وبهجته درجة لا يمكن أن يعلو عليها إلا الفنانون الصينيون من مواطني كوبلاي خان Kublai Khan، ولم يكن بد من أن يطلب إلى باولو أن يرسم صورة النساء العرايا في وسط هذا الجمع الحاشد من مناظر الحب. على أن العرى لم يكن الميدان الذي يبرز فيه؛ فقد كان يفضل عليه الأثواب الثمينة الملساء الناعمة تغطي أجساماً شبيهة بالأجسام التي يصورها روبنز، تعلوها وجوه ذات جمال عادي يميزها عن غيرها من الوجوه، ويتوجها شعر ذهبي مسدل مسرح. ويرى الإنسان في صورة المريخ وفينوس المحفوظة في متحف متروبوليتان الفني إلهة بدينة قبيحة المنظر، ذات ساق لا شكل لها مصابة بداء الاستسقاء. لكن فينوس تبدو جميلة في صورة فينوس وأدونيس الموجودة في برادو لا يفوقها في هذه الصورة إلا شكل الكلب الرابض عند قدميها. وأجمل ما في صور فيرونيزي الأسطورية صورة اختطاف أوربا الموجودة في قصر الأدواج! وتمثل هذه الصورة منظراً ذا أشجار قائمة، والثور المجنح يلقى بالأكاليل وأوربا (الأميرة الفينيقية) جالسة وهي مبتهجة فوق ظهر الثور العاشق، الذي يلعق إحدى قدميها الجميلتين، وتستبين أنه هو بعينه جوبتر متخف بزي جديد. وقد أظهر هذا الفنان الذي صور مناظر في السماء ذوقاً لطيفاً في تصوير مناظر الآلهة. ذلك أنه صور أوربا وعلى نصف جسمها ثياب ملكية، وقد أحرز فيرونيزي في هذه الصور أتم نجاح في رسم أجسام النساء، وبلغ بها حد الكمال في هذا التركيب فجعلها خليقة بأن يترك زيوس من أجلها مقامه في السماء. وتروي خلفية الصورة البعيدة بقية القصة، فتظهر الثور يحمل أوربا فوق مياه البحر إلى كريت، ومن هنا أعطت اسمها للقارة الأوربية- كما تقول القصة اللطيفة.

وسار باولو نفسه على مهل قبل أن يستسلم لتصوير النساء. فقد ظل يجمع النماذج حتى بلغ الثامنة والثلاثين من العمر، ثم تزوج بعدئذ إيليتا باديلي Elena Badile، فولدت له ولدين هم كارلو وجبريلي، علمهما التصوير وتنبأ بنبوءة مبعثها الرغبة والأمل أكثر من بعد النظر، فقال "سيفوقني شارلي Carletto me Vincera"(36). وفعل فيزونيزي ما فعله كريجيو فابتاع مزرعة في سانت أنجيلو دي تريفيزو حيث قضى معظم سني زواجه، يصرف شئونه المالية بحكمة واقتصاد، وقلما كان يبتعد عن كرمته. ولما بلغ سن الأربعين كان أكثر من يسعى إليه الطالبون بين المصورين في إيطاليا كلها، بل كان يتلقى دعوات من البلاد الأجنبية نفسها؛ ولما أن طلب إليه فيليب الثاني زخرفة الإسكوريال، قدر هذا التكريم حق قدره ولكنه قاوم هذا الإغراء الشديد.

ودعى كما دعى من سبقوه من الفنانين ليرسم القصة المقدسة للكنائس والعابدين وإنا لنرى كل شيء جديداً جذاباً في صورة عذراء أسرة كوتشينو (الموجودة في درسدن) بعد أن رسمت للعذراء ألف صورة وصورة! نرى أصحاب الهبات الوسيمي الوجوه ذوي اللحى السوداء، ونرى الأطفال السذج الحيارى، ونرى شبح الغدر المتشح بلفاعة بيضاء- في صورة امرأة ذات جمال رائع قلما يضارعه جمال آخر حتى في فن البندقية نفسه.

وكانت صورة الزواج في كانا (المحفوظة في متحف اللوفر) هي ذات المنظر الذي يحب فيرونيزي أن يصوره: وقد جعل خلفية الصورة مباني رومانية، وجعل في مقدمتها كلباً أو كلبين، ومائة شخص في نحو مائة موقف مختلف، وقد رسمهم كلهم كأنه يريد أن يجعل كل واحد منهم صورة كبرى قائمة بذاتها، وكان من بينهم صور تيشيان، وتنتورتو، وبسانو، وصورته هو نفسه. ومع كل منهم آلة موسيقية وترية يعزف عليها. وكان باولو يختلف عن نتورتو في أنه لم يكن يعنى أقل عناية بالواقعة؛ فهو لم يجعل في صورته المحتفلين رجالا ونساء ممن قد تحتويهم بلدة يهودية صغيرة، بل جعل المضيف من اصحاب الملايين البنادقة، وجعل له قصراً خليقاً بأن يكون قدر الإمبراطور أغسطس، فيه الضيوف والكلاب المعروفة السلالة والنسب، واحتوت الموائد ما لذ وطاب من الطعام والشراب. وإذا جاز للإنسان أن يحكم على المسيح من صور فيرونيزي، قال إنه قد استمتع بولائم كثيرة بين محنه؛ فنحن نشاهده في اللوفر يتغذى في بيت سمعان الفريسي، ومجدلية تغسل قدمه، ومن حوله نساء حسان يتحركن بين العمد الكورنثية؛ وفي توريز يتعشى في بيت سمعان الأبرص؛ وفي معرض البندقية يتغذى في بيت لاوي. لكننا نرى المسيح في معرض صور فيرونيزي يغشى عليه تحت ثقل الصليب (درسدن)، ونراه يصلب في جو مكفهر وأبراج أورشليم قائمة من تحته عن بعد (اللوفر). ولا يفصح فيرونيز عن خاتمة المأساة: فنحن نرى في أموس حجاجاً سذجاً يتعشون مع المسيح ومعهم أطفال ظراف يدللون كلباً يظهر دائماً في صور الفنان.

واعظم من هذه الصور الموضحة للعهد الجديد صور فيرونيزي المستمدة من حياة القديسين وأقاصيصهم: كصورة القديسة هيلينا يكسوها الجمال الرائع، وهي تعتقد أنها ترى الملائكة ينقلون الصليب (لندن)؛ والقديس أنطونيوس يعذبها شاب مفتول العضلات، وامرأة مَلَكية (كائن)؛ والقديس جيروم في البرية؛ تواسيه وتطرد عنه السآمة كتبه (تشكاجو)؛ والقديس جورج يرحب في وجد ونشوة بالاستشهاد (في كنيسة سان جيورجيو بالبندقية)؛ والقديس أنطونيوس في بدوا؛والقديس فرانسس يتلقى الوسمات (البندقية)؛ القديس مناس تتلألأ عليه الدرع (مودينا) ويستشهد (برادو)؛ القديسة كترين الإسكندرية تتزوج زواجاً باطنياً بالطفل المسيح (كنيسة القديسة كترينا بالبندقية)؛ والقديس سباستيان يرفع علم الأيمان والأمل وهو يقاد إلى ساحة الاستشهاد (كنيسة سان سباستيانو في البندقية)؛ والقديسة جوستينا تواجه الاستشهاد وتتعرض للتهلكة المزدوجة في معرض أفيدسي وفي كنيستها في بدوا؛ كل هذه صور لا يمكن موازنتها بأحسن ما صور تيشيان أو نتورتو، ولكنها مع ذلك خليقة بأن تعد من الآيات الفنية، ولعل أجمل منها كلها صورة أسرة دارا أمام الاسكندر (لندن) وهي تمثل ملكة مكتئبة، وأميرة حسناء، راكعة أمام قدمي الفاتح الوسيم الكريم.

ظهور الملاك لهاجر واسماعيل في الصحراء

وقد سبق القول إن باولو بدأ حياته في البندقية بالتصوير في قصر الدوق، ونقول الآن إنه ختمه في هذا القصر نفسه بصور جدارية عظيمة خليقة بأن تستثير شعور كل روح وطنية في تلك المدينة. ذلك أن زخرفة داخل القصر بعد الحرائق التي شبت فيه في عامي 1574 و 1577 عهد أكثرها إلى نتورتو وفيرونيزي، وطلب إليهما أن يكون موضوع الزخرفة هو البندقية نفسها، التي لم ترهبها الحرائق والحروب؛ ولا الأتراك والبرتغاليون. وقد رسم باولو ومساعدوه في قاعة الاجتماع Sala del Collegio على السقف المحفور المذهب إحدى عشرة صورة رمزية غاية في الرشاقة- للوداعة وحمَلها... والجدل ينظر من خلال نسيج عنكبوت من صنعه... والبندقية في صورة ملكة مرتدية فرو القاقوم الثمين، وأسد القديس مرقص راقد في هدوء عند قدميها يتلقى التكريم من العدالة والسلام. وفي إطار بيضي الشكل عظيم الشأن في سقف قاعة المجلس الكبير Sala del Maggior Consiglio رسم صورة انتصار البندقية مثل فيها المدينة العظيمة التي لا تضارعها مدينة سواها بإلهة متربعة على عشرها بين الأرباب الوثنيين، تتلقى تاج المجد يهبط عليها من السماء؛ وعند قدميها كبار أعيان المدينة وكرائم سيداتها، وبعض المغاربة يؤدون الجزية؛ ومن تحت هؤلاء كلهم محاربون يقفزون استعداداً للدفاع عنها، وخدم يمسكون بكلاب الصيد من مقودها. تلك أعظم صورة صورها فيرونيزي.

واختير في عام 1586 لينشئ بدل مظلمات جوارينتو Guariento الحائلة اللون صورة تتويج العذراء في قاعة المجلس الكبير نفسها. وقدم الرسم التمهيدي وقبل، وبينما هو يستعد لرسم الصورة على القماش إذ انتابته الحمى؛ وروعت البندقية حين ترامى إليها النبأ بأن مصور مجدها الذي لا يزال في عنفوان الشباب توفي في أبريل من عام 1588. وطلب آباء كنيسة سان سباستيانو أن تدفق جثته في كنيستهم، وفعلاً دفن باولو في هذه الكنيسة أسفل الصور التي جعلت منها موطناً لفنه الديني.

ولقد قلب الدهر حكم معاصريه ووضعه في المرتبة الثانية بعد معاصره القوي تنتورتو. ونحن نظرنا إليه من حيث أصول الفن وجدناه يفوق تنتورتو؛ فقد بلغ في التنفيذ، والـتأليف، والتلوين أعلى درجة بلغها فن البندقية. ولسنا نجد صوره المزدحمة مضطربة مهوشة، بل نرى حوادثه ومناظره واضحة، وخلفيات صورة وضاءة ساطعة. على حين يبدو تنتورتو أمير الظلمة إذا وضع إلى جانب هذا العابد للضوء. كذلك كان فيرونيزي أعظم مصور زخرفي في النهضة الإيطالية، وكان على استعداد دائم لأن يبتكر بدعة سارة أو مدهشة في اللون والشكل كصورة الرجل الذي يخرج فجأة من وراء ستار نصف مزاح، مخترقاً مدخلاً قديماً، والتي نشاهدها في بيت ماتشر الريفي. ولكنه كان ينهمك مسروراً في تصوير السطوح المؤتلفة إلى حد يحول بينه وبين إدراك الدقائق الصغيرة، والمتناقضات المفجعة، والتناسق العميق وهي الخصائص التي بدونها لا يكون التصوير العظيم عظيماً. لقد كان ضعيف النظر لا يرى كل شيء، وكان حريصاً في فنه على أن يصور كل ما يراه، وأكثر مما كان يتخيله مجرد تخيل- كصورة الأتراك يشاهدون تعميد المسيح، والتيوتون في بيت لاوي، وللبنادقة عند إموس، والكلاب في كل مكان. وما من شك في أنه كان يحب الكلاب، وإلا لما صور كل هذا العدد الكبير منها. وكان يرغب في تصوير أكثر نواحي الحياة بهجة ولألاء، وحقق رغبته إلى حد لا يضارعه فيه غيره. وقد صور البندقية في رونق شمسها الغاربة ومتعة الحياة الآخذة في الزوال. ولسنا نجد في عالمه الذي مثله في صوره إلا نبلاء ذوي جمال، وزوجات ذوات فخامة وعظمة، وأميرات ساحرات، وفتيات شقراوات شهوانيات، وإنا لنجد بين كل صورتين من صوره واحدة تمثل احتفالا أو عيداً.

وإن عالم الفن كله ليعرف كيف استدعى رجال محكمة التفتيش فيرونيزي أمامهم (1573) تنفيذاً لقرار صادر من مجلس ترنت يحرم كل تعليم خاطئ في الفن، وطلبوا إليه أن يفصح لهم عن سبب إدخاله كثيراً من الأشياء التي لا تمت قط بصلة إلى الحقيقة في صورة الحفل المقام في بيت لاوي (البندقية)، كالببغاوات، والأقزام، والألمان، والمهرجين، وحاملي فئوس الحرب... ورد عليهم باولو في جرأة قائلا إن "مهمتي هي زخرفة الصورة بما أراه أنا صالحاً، وإنها كانت كبيرة تتسع لشخوص كثيرة... وإذا ما وجدت في صورة ما مكاناً خالياً يحتاج إلى ما يملؤه، وضعت فيه من الأشكال ما يوحي به خيالي"- ليتوازن به تأليف الصورة من جهة، وتستمتع به عين الشاهد استمتاعاً لا ريب فيه من جهة أخرى. وأمرته محكمة التفتيش أن يصلح الصورة على نفقته الخاصة، ففعل(37)، وكانت هذه المحاكمة بداية انتقال فن البندقية من عهد النهضة إلى عهد حركة الإصلاح المضادة.

ولم يكن لفيرونيزي تلاميذ ممتازون، ولكن تأثيره تخطى عدة أجيال ليسهم في صياغة الفن في إيطاليا، وفلاندرز، وفرنسا، تيبولو Tiepolo بميوله الزخرفية بعد فترة بينهما خلت من هذا التأثير، ودرسه روبنز بعناية؛ وتعلم أسرار ألوانه، وضخم نساء فيرونيزي البدن يوائم بينهن وبين ما يتسم به الفلمنكيون من سعة ورحابة. كذلك وجد فيه نقولاس بوسَّن Nicolas Poussin وكلود لورن Claude Lorrain من يرشدهما لاستخدام الزخارف المعمارية، في مناظرهم الطبيعية، وسار شارل ليرون Charles Lebrun على سنن فيرونيزي في تصميم الصور الجدارية الكبرى. وكان المصورون الفرنسيون في القرن الثامن عشر يستمدون الوحي من فيرونيزي وكريجيو في أناشيد الرعاة أيام الأعياد الريفية، وأناشيد العشاق الأشراف الذين يلعبون في أركاديا. ومن هنا نشأ واتو Watteau وفراجونار Fragonard؛ ومن هنا أيضاً نشأت العرايا ذوات اللون الوردي اللائى صورهن بوشيه Boucher، والأطفال الظراف الذين تصورهم جريز Grueze، والنساء الرشيقات اللاتي أبدع تصويرهن. ولعل تيرنر Turner قد وجد هنا شيئاً من شروق الشمس الذي أضاء به لندن.

وهكذا اختتم العصر الذهبي للبندقية ملكة البحر الأدرياوي بما امتازت به صور ڤـِرونـِزه من توهج الألوان. وكان سبب هذا الختام أن الفن كان عسيراً عليه أن يظل سائراً إلى أبعد مما سار في الاتجاه الذي تبعه من عهد جيورجيوتي إلى عهد فيرونيزي. بعد ان وصل إلى حد الكمال في أصوله، وتسلق أعلى الدرج. ولهذا بدأ يهبط رويداً رويداً حتى جاء القرن الثامن عشر فحدثت فيه نوبة أخيرة من الإبداع والفخامة قبل موت الجمهورية ضارع بها تيبولو Tiepolo فيرونيزي في الرسم الزخرفي، وكان جلدوني Goldoni هو أرستوفانيز البندقية.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الهامش


المصادر

  • الموسوعة العربية الشاملة
  • Freedberg, Sydney J. (1993). Pelican History of Art (ed.). Painting in Italy, 1500-1600. Penguin Books Ltd. pp. 550–60.


Irollo, Jean-Marc, Veronese et le miracle des Noces, Louvre, chercheurs d'art, RMN, 1993

وصلات خارجية