مفهـوم الألم في اليونان القديمة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مفهـوم الألـم في اليونـان القديمـة

د.إيهاب عبد الرحيم محمد

برغم أن الألـم شعور يحس به كل منا، إلا أنه لم يحـظ بنفس المكانة في كل المجتمعات أو في جميع العصور‎ وبرغم النظرة الحالية من أن الألم يندرج تحت تصنيف عام واحد يبدو في واقع الأمر أن الألـم، أو الآلام، لا يتـم التعبيـر عنـه بالطـريقة ذاتهـا في جميع الثقافـات وربما حتـى أنه لا يستشعر بصورة متماثلة. ونحن نعلم، على سبيل المثال، أن العتبة (Tbreshold) التي يصبح الألم عندها غير محتمل تتباين، ليس فقط من شخص لآخر، بل وتختلف حسب الثقافة التي نشأ المرء فيها‎ وتحت قاعدة مبنية على البيانات التشريحية والفيزيولوجية، يبدو أن الألم يستند أيضا إلى أسس ثقافية واجتماعية‎. ويرجع إلى ذلك سبب إمكانية أن ترشدنا وجهة نظر المؤرخين، عندما يتم تناولها كما سنفعل هنا من خلال بعض الأمثلة من اليونان القديمة إلى وجود اختلافات جذرية، إضافة إلى الحاجة إلى اللجوء إلى التعليل غير المألوف للمناظرات الأبقراطية(Hippocratic: نسبة إلى "أبقراط" [460? - 377ق م] وهو أعظم أطباء العصور القديمة، والملقب بأبي الطب)، من أجل تحليل الطرق التي ننتهجها في التعبير عن الألم، ولإظهار أنها ليست استجابات طبيعية أو تلقائية: وهنا يفيد الماضي، ليس من أجل قيمته بالنسبة للفضول والاستكشاف بل من أجل مساهمته في فهمنا للسلوكيات المعاصرة تجاه الألم، حيث أنه يعد وسيلة ممكنة لدمج أفكارنا المسبقة والركائز الأساسية لفهمنا للألم ضمن سياق موحد‎. لماذا اخترت اليونان القديمة؟ لقد اخترتها خصيصاً لأن نصوصا مثل الإلياذة (Iliad) والأوديسة (Odyssey) قد كوّنت جزءا من هويتنا الثقافية المألوفة،والتي استمرت حتى يومنا هذا، ولأن الإغريق قد ركزوا كثيراً على أهمية الألم‎ وفي حالة هذه الحضارة بالذات، يتيح لنا المنظور التاريخي لعالم هوميروس (Homer:القرن الثامن أو التاسع ق‎.م) كما يصفه في كتاباته (والذي استمر في ملحمة "الإلياذة" من نحو القرن الثامن إلى منتصف القرن الرابع قبل الميلاد)، أن نقارن بينه وبين أنماط أخرى من كتابات العصر نفسه‎ وعلى سبيل المثال، يمكننا مقارنة كتاباته الملحمية والتراجيدية التي اخترنا لها بعضا من أعمال سوفوكليس (Sophocles: [؟496-406 ق م]،مؤلف مسرحي إغريقي وأحد أعظم المسرحيين التراجيديين في اليونان القديمة)، أو يمكننا مقارنة الدراسات العامية بتلك الطبية المتخصصة، مثل تلك التي جاءت في "مجموعة أبقراط" The Hippocratic Collection:مجموعةمن الكتابات الطبية البالغ عددها 70، ومن المعتقد أن أبقراط نفسه لم يكتب منها سوى ستة فقط، ويعتقد أيضاً أن تلك الكتابات تمثل ما تبقى من كتب كلية طب الشهيرة في جزيرة "كوس" (Kos) اليونانية حيث عاش أبقراط) والتي كانت معاصرة جزئياً لمسرحيات سوفوكليس التراجيدية‎ وبالإضافة إلى ذلك، فإن العمل الكامل المعروف بإسم "مجموعة أبقراط" قد ظل مؤثرا بصورة حية على المعرفة الطبية حتى نحو منتصف القرن التاسع عشر‎ وقبل أن تصبح موضوعاً لدراسات علماء الفيلولوجيا (Philology:وهي دراسة فقه اللغة المقارن بوصف اللغة أداة التعبير في الأدب وحقلا من حقول البحث يلقي ضوءاً على التاريخ الثقافي للشعوب الناطقة بها) والمؤرخين الطبيين، كانت نصوص أعمال أبقراط تدرس في كليات الطب من أجل نظرياتها العلمية القيّمة، ومن أجل روحها وطريقتها العملية، وأيضا من أجل ملاحظاتها السريريةclinical Observations )‎)ومن خلال إعطاء الأولوية لوجهة النظر الطبية، نهدف إلى تجنب الانزلاق إلى اللعبة الخطيرة لمحاولة الوصول إلى تشخيصات استعادية (Retrospective) بغرض إعادة استكشاف تلك الكينونة أو مجموعة الأعراض المتعلقة بالتصنيف المرضي (Nosological) في نصوص أبقراط، والتي قد تغري المرء بصورة خاطئة لترجمتها إلى لغة العصر الحديث‎ وإذا سألنا أنفسنا عن الكيفية التي يوصف بها الألم في بعض النصوص الإغريقية، يجب علينا محاولة فهم الطريقة التي تصف بها حضارة ما تجربة الألم، أي ما تخفيه وما تكشف عنه صراحة فيما يتعلق بهذه التجربة‎.

وربما كان الهدف المنطقي لكل دراسة لتركيب ووظيفة الألفاظ الواردة في كتاب معين هي القبض على الحقائق الباثولوجية (المرضية) المتخفية وراء النصوص المتباينة والأنماط المختلفة من الجمل الواردة في الكتاب‎ ومع ذلك، ومن أجل الإحاطة بجميع أطراف الدراسة، من المهم تذكر تلك السبل الأخرى التي لا غنى عنها من أجل التوصل إلى الحقائق وهى الأيقنة(Iconography:التمثيلات الرمزية) وبصورة غير مباشرة الباليوباثولوجيا (paleopathology: علم الأمراض في مخلفات عصور ما قبل التاريخ مثل العظام والمومياوات وغيرها).


معجم الألم في أعمال هوميروس:

تصف الروايات الملحمية ذاتها تجربة معينة للألم، وهي تلك الناجمة عن جرح أو ضربة يتلقاها المحارب في نزال منفرد: ومع ذلك فليس هناك مكان تقريبا للآلام المزمنة، مثل تلك المصاحبة للأمراض الطويلة الأجل، ولأن هذا البحث موجه نحو دراسة الألم الجسدي (Physical) وليس لصنوف المحن والعذاب التي تحملها الأبطال العائدون إلى الوطن بعد انتصارهم في طروادة (Troy)، فقد شمل بحثنا دراسة ملحمة الإلياذة قبل الأوديسة ‎ ويمكن التعرف على ست مجموعات من الكلمات التي تشترك جميعها في وجود رابطة بينها وبين الألم‎، ومن الممكن التعرف على مفردات تصف حالة الحِدَاد (Mournig) وطقوسها مع ما أسموه "بنثوس" [penthos]، ومفردات تصف الأسى (Grief) والعناية غير العادية التي أعطيت لذلك الحدث من أحداث الحياة، والذي كان يدل أساسا على القلق والهواجس ـ "كيدوس" [kedos] والذي يمكن أيضا أن يتنافس مع كلمة "ألجوس"algos]‎] وفي النهاية هناك معجم كامل يبنى على لفظة "آخوس" [achos] والتي تعّبر تقليديا عن إحساس عنيف ومفاجئ واختلاط في المشاعر من الممكن أن يؤدي إلى القنوط Despondency)‎) وفي تلك الحالات الثلاثة، هناك دلالات ضمنية خاصة تتيح لنا فهم معنى تلك المصطلحات بالرجوع إلى الظروف الاجتماعية أو أنماط المشاعر الشائعة وقتها‎ ومع ذلك، فيجب الاعتراف بأن الفصل الدقيق بين الألم الجسدي والمعنوي لا يعتبر دالة (Criterion) مناسبة للتعرف على كل من المصطلحات على حدة‎ وكما هو الحال بالنسبة للكلمات الثلاثة الأخرى التي ينبني عليها معجم مفردات الألـم(وهي "أودونـي" (odune)، و"بيما" (pema)، و"ألجوس" (algos)، يصبح التراكب والتداخل بين الألم الجسدي والمعنوي كاملا، كما ظهر جليا في الأمثلة التي ساقها ليدل ـ سكوت (Liddel- Scott) عام 1966‎ ويبدو أن كلمة "أودوني"، والتي أحيانا ما يتم قبولها، بدون تمعن كاف من وجهة النظر الإيتمولوجية (Etymology: علم دراسة أصول اللغات واشتقاقاتها)، في قاموس المفردات التي تصف آلام الولادة ("أودينس" [odines]) تعبر عن ألم حاد مفاجئ يتميز عموما بكونه يحدث في موضع محدد جيدا‎ والنعوت (الصفـــات) المرتبطة بالألم في الغــالب هـي "أوكسوس" [oxus]،"بيكروس" [pikros]،بمعنى حاد ومحدد (Pointed)، أو قاطع وقارص (Biting) على الترتيب: وعن طريق ضرب من العمليات العكسية، والتي لا تتميز بكونها بلاغية صرفة، كانوا يشيرون بذلك إلى الآلة التي تسببت في الجرح أو اللدغة، مثل الرمح أو السهام‎ ومن المؤكد أنه لنفس السبب بالذات، تتميز تلك الأوصاف بالسرعة (Rapidity) مثلما نجده في الكتاب الخامس من ملحمة "الإلياذة" عندما تصاب أفروديت (Aphrodite: في الميثولوجيا اليونانية، إلهة الحب والجمال(بجراح، وتكون الآلام التي تعالجها الآلهة ليست ذات طبيعة مختلفة عن تلك التي يعالجها الأبطال‎ ويمكن أن نرى ذلك مرة أخرى في الكتاب الحادي عشر من الملحمة ذاتها‎ ويظل استخدام الأفعال التي تصف تلك التجربة أكثر إيحاء: فاللحم يطعن مرارا وتكرارا، كما يظهر واضحاً في السابقة (dia)، بمعنى من خلال، مرارا وتكرارا‎ ويشعر الجريح بالإنهاك، أي بالمعنى الحرفي للبلى والتمزق (Wear and Tear) ـ "تييرو" [tiero] والذي يزداد حدة بفعل العرق المتكون، في حين يعني ذلك في مقاطع أخرى الإحساس بالثقل أو الضغط الذي يرتبط بالشعور بالألم: "يتم تلطيف حدة المعاناة الثقيلة".

وتضم "الإلياذة" طرقا عديدة لوصف تلطيف الألم: وعلى سبيل المثال، فقد تعلم رب المعالجة، بيون (Peon)، والمعروف باسم "أبوللو" (Apollo)، بعد ازالة أحد السهام أو الأجسام الحادة، كيف يصف "العلاجات التي تخفف الأوجاع"، على الرغم من أن القصة لا تخبرنا عن ماهية تلك العلاجات‎.

وبعكس لفظة "أودوني" السابقة الذكر، تمثل لفظة algos (ألجوس) ومشتقاتها، نمطا أكثر عمومية من المعاناة التي تكتنف الجسد كله: ولأن هذه الكلمة تتسم بكونها مبهمة وغير محددة المعالم، نجد أن مشتقاتها مثل "ألم القلب"(Cardalgia)، و"ألم الرأس" (Cephalgia)، تقدم لنا معلومات إضافية عن موضع الألم‎ ولا تستخدم لفظة (ألجوس) فقط كما يقترح السياق اللفظي للحديث (أي بمعنى تحمل، أو احتمال، أو مغالبة الألم) ‎ للدلالة على الاستسلام للمعاناة وبالتالي على صفة موروثة للقضاء المحتم على البشرية؛ فهي تدل أيضا على المعاناة الطويلة الأجل من خلال تسجيل مدتها الزمنية وقابليتها للتكرار ويشار إلى ذلك في الأبيات 321-326 من الكتاب التاسع لملحمة "الإلياذة" حيث يصرح "أخيل" (Achilles) قائلاً: "لقد عانى قلبي من كل هذا الألم، كما عرضت حياتي للخطر في القتال اليومي من أجل شيء تافه" ‎ ومن الممكن تقديم قدر إضافي من الدقة بالرجوع إلى فكرة أن"الألجوس" "يحتفظ دائما بمسافة سيكلوجية معينة بالنسبة للأحداث الواقعية"‎ وتتسم هذه المسافة بكونها زمنية وسيكلوجية في الوقت نفسه فعندما يتحدث بطل الملحمة عن "الألجوس"‎ فهو إما يشير إلى آلام غيره من الناس أو أنه لا يعاني من الألم في الوقت الذي يتحدث فيه عنه‎. وبرغم أن الجذر اللغوي "ألجوس" كان أكثر إنتاجية بالنسبة لمعجم المفردات الطبية الحديثة المتعلقة بالألم، ففي لغة هوميروس كانت لفظة "أودوني" هي الاصطلاح الفني الذي ينتمي إلى معجم المفردات الطبية المتخصصة‎. لا يزال لدينا بعض ما نقوله عن تصنيف ثالث، وهو ذلك المتعلق بلفظة "بيما" [pema]، والتي نجدها في سياقات مرتبطة "بالألجوس"، وبنفس الأفعال (Verbs) في أحيان كثيرة، ولن نناقش هنا قيمة اللاحقة الإغريقية: فيكفي القول بأن قيمة نتيجة فعل ما، وليست تلك المتعلقة بالحالة السلبية التي كثيرا ما تعزى إلى تلك اللاحقة، تتوافق مع التكوين التالي للغة‎ وفي هذا الموقف، تعني اللاحقة"ma" عكس ما تعنيه اللاحقة "sis"، والتي تستخدم بدورها في صياغة الكلمات الدالة على الفعل‎ وفي نصوص هوميروس، من الأفضل مقارنتها بتكوين الصوت الأوسط في اللغة اليونانية، والذي يتضمن وجود مهارة فاعلية (Subjective) ويشير إلى نشاط يضطلع به الفاعل‎ وبضل ذلك تعبر الفروق الموجودة بين اللاحقتين maو sis، وبين لفظتي "ألجوس" و"بيما" بمنتهى الوضوح عن ظاهرة ليست لها علاقة بأي سبب، والتي ـ ولهذا السبب ـ تفرض نفسها على الشخص المكروب بصرف النظر عن أية رغبة شخصية‎ كيف يمكننا عندئذ، أن نستشعر المعنى المزدوج للفظة "بيما"، والتي تعني ـ من ناحية ـ البلاء، أو الكارثة، أو سبب سوء الحظ أو ضحيته، ومن الناحية الأخرى تعني الألم والمعاناة؟ وفي ذلك الاستخدام الأخير، يمكن أن تعني لفظة "بيما" في بعض الأحيان نفس ما تعنيه لفظة "ألجوس" لأنها تلطخ باستخدامها في تعبير "بيما باسخو" [pema pascho]، والذي يوازي تعبير "ألجي باسخو" [alge pascho]، ولا يتعارض المعنى شبه الاجتماعي للفظة "بيما" ـ أي الكارثة ـ مع ما ذكرناه سابقا عن قيمة اللاحقة "ma"، لأنه من الممكن هنا تحديد معنى موضوعي للفظة يدل على ألم يوجد بصورة مستقلة عن العقل، أو خارج العقل تماما‎. ويمكننا أن نستخلص بعض الاستنتاجات من هذه الدراسة الأولية: فبالإضافة إلى أنه قد كانت هناك مفردات طبية متخصصة في العصور القديمة، فقد تم وصف الألم بطرق لا تركز على التضاد الموجود بين ما هو جسدي وما هو معنوي، أو حتى على شدة الألم، بل بطرق تتبع محورين اثنين: وهما الحد الذي يستغرق فيه المرء في الألم، والكيفية التي يدركه، أو تدركه، بها ـ من حيث مدته وأصله: فقد يكون طويل الأمد، أو سريعا، أو حادا، أو قارصا، بمعنى الإشارة المباشرة إلى الآلة المسببة له والتي تحدد في الوقت نفسه الطبيعة الخاصة لذلك الإحساس‎.

الألم كما يصفه التراجيديون: مثال سوفوكليس:

من الواضح أن الكتابات التراجيدية تمنح الألم مكانا خاصا يجد فيه طرق التعبير الطبيعية عنه‎ وسنتحول الآن إلى أعمال سوفوكليس، على الرغم من حقيقة أن الكثير من الخيارات الأخرى كانت ستفي بالغرض المنشود، مثل تقرير ثوسيديس(Thucydides 400-460 ق‎م مؤرخ أثيني، يعتبره البعض أعظم المؤرخين الإغريق على الإطلاق) عن العذاب الذي لاقاه الناس خلال "طاعون" أثينا‎ وقد كانت تلك الكتابات معاصرة لبعض أجزاء "مجموعة أبقراط" ويرجع تاريخها إلى القرن الخامس ق ‎م‎ ومع ذلك، ومن أجل أن نتمكن من إجراء مقارنة مناسبة، فقد تحتم إلغاء المفردات التي تصف حالة الرثاء (Pathos) والتعاسة البشرية، والتي كانت عمومية بالكلية، من أجل محاولة التركيز على المآسي التي ينصب اهتمامها بصورة عامة على الألم الجسدي، حتى ولو كان الألم الجسدي والمعنوي يتداخلان، على سبيل المثال مرة أخرى‎ ولهذا السبب بالذات وقع اختيارنا على رواية "فيلوكتيتس" (Philoctetes:في الميثولوجيا الإغريقية، هو رامي السهام الشهير وصديق "هرقل" الذي أوصى له بقوسه وسهامه المسمومة‎ وتحكي الأسطورة أن فيلوكتيتس قد لدغه ثعبان في قدمه أثناء توجهه إلى حرب طروادة، ولما لم يشف جرحه، اضطر رفاقه إلى تركه في جزيرة ليمنوس، وفي السنة الأخيرة للحرب، عندما أعلن أحد العرافين أن اليونانيين لن يستطيعوا التغلب على طروادة سوى عن طريق سهام هرقل المسمومة، توجه البطل "أوديسيوس" (Odysseus) برفقة المحارب ديوميديس أو نيوبتولميوس، نجل أخيل، إلى جزيرة ليمنوس وأقنعوا فيلوكتيتيس بالتوجه إلى طروادة‎ وبعد أن عالج أحد الأطباء اليونانيين جرح فيلوكتيتيس، انضم الأخير إلى المعركة وقتل "باريس" أمير طروادة‎ وعند عودته إلى الوطن بعد انتهاء الحرب، وجد فيلوكتيتيس أن ثورة قد نشبت ضده، مما اضطره إلى الرحيل مجددا واستقر أخيرا في إيطاليا) لسلوفوكليس، وذلك لأنها تصف الألم الذي يسببه الجرح الذي أصيب به فيلو كتيتيس قبل عشرة سنوات، في قدمه التي أصابها الموات (الغرغرينا Gangrene) بصورة ما، وقد كان هناك قرح (Sore) قد يكون تسمم بفعل السهم الذي اخترق اللحم، ولذلك فقد كان عرضه لنوبات من الألم تتخللها فترات من الراحة (Intermissions):ونحن نتعامل هنا مع نوع من الآلام المزمنة، ويختلف ذلك المنظر بصورة جذرية عن تلك التجارب التي تصفها الأعمال الملحمية الإغريقية‎ وسنتطرق بعد ذلك إلى قصة عذاب هرقل (Heracles والمعروف في الميثولوجيا الرومانية باسم Hercules) في رواية تراخينا (Trachin) فعندما ارتدى البطل التُنْك (Tunic: رداء إغريقي طويل يشد بحزام حول الخصر)المسموم بدم القنطور (Centaur: حيوان خرافي نصفه العلوي على هيئة إنسان ونصفه السفلي على هيئة حصان) والذي أرسلته إليه زوجته ديانيرا (Deianira)، والتي لم تكن على علم بالآثار المدمرة لهديتها (تقول الأسطورة أن هرقل تزوج من ديانيرا بعد أن فاز بها من أنتايوس، ابن بوسيدون إله البحر، وعندما هاجم القنطور "نيسوس" ديانيرا، أصابه هرقل بسهم مسموم، وقد خدع القنطور ديانيرا فقال لها أن تتناول بعضا من دمه على أنه أكسير للحب، في حين لم يكن إلا سما زعافا‎ ولما كانت ديانيرا تعتقد أن زوجها قد وقع في غرام الأميرة "لول"، فقد أرسلت إليه "تنكا" غمرته في دم القنطور، وعندما ارتداه هرقل كان الألم الناتج عن السم عظيما لدرجة دفعت بهرقل إلى الانتحار) وبرغم أن لهذه القصة معنى رمزي، وأنها تقع ضمن سياق ميثولوجي، إلا أن التعبير عن العذاب في هذين العملين الروائيين يكشف عن أنماط حسية معينة، وحتى عن بعض طرق الإحساس بالألم ومعالجته‎ ولا تعطينا الطريقة الأدبية لوصف الأشياء بالتركيز على خصائص بعينها صورة دقيقة في جميع الحالات، لكنها قادرة على تقديم مخطط قابل للتمييز من خلال استخدام مجموعات من التشبيهات المجازية التي ستصبح أقل قيمة في غير هذا السياق.

يدرك الألم كما لو كان كائنا مستقلا يستحوذ على المرء، ويخترقه ثم يسيطر عليه‎ وكثيرا ما يؤهل الألم بأن تخلع عليه صفة "المستهلك" (Consuming‎) بمعناها الفعلي [أي أنه يستهلك طاقة المرء ويستغرقه تماما]، أو المفترس Devouring)‎) وتلك هي صورة الكائن الحي الذي يتغذى بضحيته المعذبة، والذي تزداد قوته تدريجيا في الحين الذي يزداد فيه الشخص المريض ضعفا‎ ويصبح المعذب (Sufferer) مرهقا ومنهكا: وقد تعرفنا حتى الآن على استخدام الفعل tiero، كما أن "فيلوكتيتيس" يستحضر "الطريقة المؤلمة لرجل منهك" باستخدام النعت trusanor في البيت (الشعري) رقم 209‎ وتكتسب الأمثلة الآنفة الذكر أهمية أكثر تحديدا إذا ربطنا بينها وبين نعت (Adjective) آخر كثيرا ما يتعلق بالألم أو المرض، وهو "أجريوس" [agrios]، أو المتوحش والذي يستخدم أيضا في الحديث عن الحيوانات البرية‎ وليس من الممكن ترويض الألم المتوحش بسبب شدته وأيضا لأن المرء لا يمكن أن يتوقع متى وكيف سيعود إلى الظهور‎ فالألم "يروح ويجئ"بهجماته ونوباته‎ وفي المقطع 758 من رواية "فيلوكتيتيس"، نجد أن جملة:"لايعود الألم سوى بعد أيام طويلة، عندما يكون من المؤكد أنه قد تعب من الانتقال مسرعا في أماكن أخرى"، هي ما يقوله الباحث القديم في معرض تشبيهه التمثيلي (Analogy) للألم بحيوان مفترس‎ وتستخدم تلك الصورة ذاتها في المقطع 978 من رواية "تراخينا": لا تذهب لتحيي ألما له مثل تلك الانتكاسات المخيفة‎ وتستحضر الكثير من الجمل في الأذهان مسرحا للصيد تنعكس فيه العلاقة التقليدية بين الإنسان والوحش: إذ يطارد الألم فريسته ويتغلب عليها في اللحظة التي تروقه تماما، فهو "يندفع للأمام ويقفز" من أجل أن يقتل ضحيته‎ ويوصف هذ الألم المتوحش في الروايات التراجيدية بوضوح شديد لأنه يعكس إرادة [الآلهة] بجلاء، كما أنه ينتهي إلى إفساد (Contaminating) الشخص الذي يهاجمه‎ ويفقد المعذب توازنه ويصبح أشبه ما يكون بحيوان مريض أمام الجوّاس (Prowl) الذي يتقدم ويهاجم بصورة مباغتة: فهرقل "يتلوى على الأرض ألما أو أنه يقفز لأعلى وهو يصرخ وينتحب؛ وهو يزأر "فيما بين التواءاته" وعندما يكون الألم في أسوأ حالاته، يصاب فيلوكتيتيس بما يشبه نوبة من الهذيان، لا يستطيع معه أن يتعرف على أقرب المقربين إليه أو أن يتواصل معهم‎ ولا تبقى سوى الصرخة، والتي تعتبر بمثابة تنفيس عن الألم من خلال أصوات التعجب، والتأوهات، والصيحات، ومن أجل محاولة تفسير الطبيعة المرعبة للألـم، تقول النصوص الإغريقية ببسـاطة أنـه لا يمـكـن الاقـتـراب منـه (Unapproachable)، "أبوتيباتوس" [apotibatos]، ومعند على المعالجة Intractable)‎). وتبدو الأحاسيس المتباينة التي تميز الألم أكثر تنوعا هنا مما نجده في كتابات هوميروس‎ فبالإضافة إلى النعت "بيكروس"[pikros]، بمعنى محدد أو حاد، أو مجموعة المفردات التي تستخدم لوصف دمعة أو ندبة ناتجة عن جرح لدينا أيضا، وعلى سبيل المثال، صورة لدغة النعرة (ذبابة الخيل والماشية) [Gadfly] التي تصيب الحيوانات بالجنون، في المقطع 1253 من رواية تراخينا عندما يتحدث هرقل قائلاً: "قبل أن تغلفـ (ني) نوبة أو ألم حاد وينطبق الأمر نفسه على قوة الألم، والتي يعبر عنها بكلمة محددة تماما تصف الثقل الموضوع على سرج ما "إبيساجما" ولا يقتصر ثراء التشبيهات المجازية على المملكة الحيوانية، حيث أن الألم الذي يجعله هرقل ناتج عن حكة غير محتملة: وتصف المقاطع من 770-769 تلك "الحكة المتقطعة (Spasmodic itching) التي تعذبه حتى النخاع‎". وكثرا ما تحمل النعوت والأفعال معان قوية ويبدو أنها تضم أغلب الأوصاف الدلالية (Semantic) المميزة للألم الذي يرتبط في أغلب الأحيان بتجارب واقعية مألوفة‎ ومن ناحية الأخرى، فإن الأسماء، باستثناء لفظتي الحكة واللدغة السالفة الذكر، تتسم بكونها أكثر إبهاما وأقل تحديدا‎ وتتحدث النصوص بصيغة الجمع عموما عن الاعتلالات ("كاكوس" [kakos]، والأمراض "نوسوس" [nosos]،و الآلام "أودونـاي" [odunai] وللوهلة الأولى على الأقل، يبدو الفصل بين ألفاظ "الجيما" (algema)، و "أودوني" (odune)، و "بونوس" (ponos) أقل وضوحاً مما هو موجود في النصوص السابقة‎ ويمكن أن يمتد معنى "بونوس"، والتي كانت تستخدم أصلا للدلالة على الإجهاد بالإضافة إلى الإرهاق الناتج عن العمل، ليشمل الآلام ذات الفروق الطفيفة في النوعية والدرجات المتفاوتة في الشدة‎ ويمكننا أن نرى ذلك في المقطع الذي يخاطب فيه نيوبطوليموس (Neoptoleme) فيلوكتيتيس قائلا: "لقد اكتسبت خبرة في الطيف الكامل لصنوف الألم" ومع ذلك، فلفظة "ألجوس" والتي تكررت سبع عشرة مرة في رواية سوفوكليس،لا تتنافس مع لفظتي "ألجيما" و "ألجيسيس" (alg sis) في تلك الرواية التراجيدية، نظراً لأن هذين الاصطلاحين قد ظهرا في مرحلة تالية لها‎ ومع ذلك فلفظة "أودوني" هي التي تتميز بأكثر المعاني تقنية،والتي تعتمد على نوعية المركبات أو الاشتقاقات التي تكونها،مثل لفظة "نودونوس" [nodunos] لوصف شيء لا يحس بالألم أو يلطف الألم الذي يستخدم ضمن سياقات كثيرا ما تكون علاجية: وهناك ذكر في رواية "فيلوكتيتيس" عن النباتات التي تلطف الألم‎ وعما يلطف أو يخفف الألم، تستخدم لفظتي "برونين" [praunein] و"بويين"[pauein]، بدون أن نعرف ماهية النباتات المحددة التي تشير إليها هذه الألفاظ‎ وفي رواية فيلوكتيتيس أيضا هناك ذكر للعجز الناتج عن عدم القدرة على تسكين الألم‎. ولا تخبرنا التراجيديات الإغريقية التي كتبت في القرن الخامس ق‎م‎ عن الألم فحسب، بل وعن العذاب بطرق جسدية ملموسة وفجة للغاية‎ ويختلف هذا تماما، على سبيل المثال، عن التراجيديات الكلاسيكية الفرنسية في القرن السابع عشر، حيث يفيد الاستخدام البلاغي للتقارير المكبوحة(Understatements:هي التقارير المقصود بها تصوير الفكرة على نحو أضعف مما هي عليه أو تقتضيه الحقيقة) في فرض الإحساس بصنوف العذاب المنزلية غير المرئية‎ أما الإغريق، من الناحية الأخرى، فحتى في المقاطع القصصية من كتاباتهم، فإن وجود شخص متألم، مصاباً بجرح بليغ أو محطم الفؤاد، يضيف ثقلا لصدق القصة: وهذا ما يحدث مع هيبوليتوس (Hippolytus)، وهو بطل تراجيدية يوريبيديس (Euripides: شاعر درامي إغريقي شهير [406-480?ق‎م] بنفس الإسم، والذي يعود إلى خشبة المسرح وهو يتعذب بعد أن تحطم جسده أثناء محاولاته المستميتة للهرب من ثور متوحش خرج إليه من البحر‎ وهذا هو الحال أيضا بالنسبة لهرقل المعذب في رواية "تراخينا" ويبدو أن الجسد لا يؤكد سوى معنى السخرية التراجيدية، بصورة ما، بالإضافة إلى إحياء المتناقضات (Antitheses) التي تنصب فيها اللعنات على الشخص البريء وليس المذنب، في الحين الذي تتحول فيه الهدية التي قصد بها تثبيت رباط الحب بين الزوج والزوجة إلى إيماءة مميتة، وحيث لا تتسبب محاولات من يريد الهرب من قدره إلا في حدوثه، وهو يعتقد أنه يتخلص بذلك منه‎ وبما أن المجتمع الإغريقي في القرن الخامس ق‎م‎ كان يشارك برمته في الدراما المسرحية بحكم الطبع الذي كان مدنيا ودينيا في الوقت نفسه بالفعل، فقد تقبلوا هذه المشاركة العاطفية بمنظور الألم؛ وبذلك يمكن الإدعاء بأن الألم كان ينقل كجزء لا يتجزأ من الحياة اليومية، ولذلك فلم يكن بحال من الأحوال شيئا يخجل منه البطل‎ وقد تم تضخيم الطريقة التراجيدية التي يعبر بها عن الألم ظاهرياً حسب أهمية النص، وربما بفعل دور الألم في التنفيس (التطهير الروحيCatharsis)، مما يكشف عن رؤية فجة ووحشية للألم، تتميز بكونها ملموسة ومليئة بالصور الخيالية في الوقت نفسه‎ ويمكن لتلك الرؤية أيضا أن تقدم شهادة لا يمكن الاستغناء عنها، وذلك لأن اللغة الطبية، وعلى العكس من ذلك، قد حاولت تقليل ذلك التنوع اللانهائي من التجارب الفردية وتفاصيلها الفاعلية، وأن تعزز فهم تلك التجارب من خلال تصنيفها إلى أقسام محددة‎ وتلك هي الطريقة المحددة التي حاولت بها لغة الطب أن تسيطر على الألم ـ أي بفصله عن الشحنة العاطفية القوية المصاحبة له‎‎.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أهمية الألم في كتابات أبقراط:

لسنا نهدف هنا لدراسة جميع أوجه الألم من خلال الإشارة إلى النص الهائل المكون من نحو ستين بحثا تضمها "مجموعة أبقراط" (The Hippocratic Collection‎) وإذا حاولنا ذلك، فسيكون من الضروري أن ننظر بشيء من التفصيل إلى مشكلات الأصالة والمرجعية المحيطة ببعض تلك البحوث، وأن نضع في اعتبارنا ذلك الإحياء الملحوظ للدراسات المتعلقة بكتابات أبقراط والجدل الدائر حاليا بشأنها‎ومن الواضح أن عددا كبيرا من تلك البحوث قد تمت كتابته ما بين عامي430و380ق‎م، على الرغم من أن بعضها قد يكون مكتوبا في فترة زمنية تالية، بينما تم تجميع "المجموعة" ككل بعد ذلك بكثير‎ ومع ذلك، فمن الواضح أيضا أن تلك الأبحاث لاتعود جميعها إلى نفس الكاتب، إذ أن هناك فروقا واضحة في كل من المفاهيم السببية (Aetiological) ومحتويات النصوص ذاتها‎ وبالإضافة إلى ذلك، فإن التصنيف الذي تم تنفيذه للأبحاث التي تعود إلى مدرسة "كوس"(Kos:جزيرة يونانية كان يعيش فيها أبقراط، كما كانت تضم كلية الطب الشهيرة التي كان يقوم بالتدريس فيها) (ومنها "طبيعة الإنسان"، و"الهواء"، و "الماء والأماكن"، و"التكنهات"، و"الوبائيات" ـ الجزء الأول والجزء الثالث،و"الأمثال"، و "هواجس كوس")، إضافة إلى تلك الأبحاث المنسوبة إلى مدرسة مدينة "كيندوس"(Cnidus:مدينة قديمة في جنوبي غرب آسيا الصغرى، وقدم هزم الأثينيون الأسبارطيين قربها في معركـة بحريـة دارت رحـاها عـام 394 ق‎م) (مثل "الأمراض" ـ الجزء الثاني، و "الاعتلالات الباطنية"، و"العلل" وجميع الأبحاث المتعلقة بأمراض النساء)، يترك عددا من الأبحاث المشكوك في نسبتها ‎وبادئ ذي بدء، يجعل ذلك من الصعب تحديد المعايير التي تمكننا من التفريق بين المدرستين‎ ويبدو من المعقول أنه يستوجب علينا العودة إلى تلك التفريقات الموسعة التي أجريت بين المدرستين، مثل أولئك الذين لا يرون في مدرسة "كوس" إلا اهتماما بمستقبلية المرض (Prognosis) وليس بتشخيصه (Diagnosis)، أو أولئك الذين يقارنون نظرية الأخلاط الأربعة لمدرسة "كوس" (وهي البلغم، والدم، والصفراء، والبيلة السوداء ـ كما وصفت في كتاب "عن الطبيعة البشرية") وبين الأخلاط الأربعة لمدرسة "كنيدوس"، والتي تضم الماء‎ وهناك اتفاق بين المدرستين في سلسلة كاملة من المفاهيم، وفي النظريات المتعلقة بالأورام والتورمات، وفي أهمية الحمية الغذائية، إلخ ؛ وقد يتساءل المرء عما إذا كان لفكرة وجود مدارس طبية منفردة أية علاقة بأطباء "كوس" ‎ وبالإضافة إلى ذلك، فقد أظهرت الدراسات الحديثة أنه قد كان هناك بدون شك تطور داخلي في مدرسة "كنيدوس"، والذي لم يكن من الممكن التوصل إليه اعتمادا على النمط المتقادم والمجرد (Impersonal) لنظريات مدرسة "كوس" الجامدة‎ ويفسر ذلك جزءا من تعقيد المشكلات التي طرحتها "مجموعة أبقراط". وبفضل الأبحاث الحديثة التي تمت في مجال الفهرسة الآلية للكتب التي تضمها "مجموعة أبقراط"، أصبحنا نمتلك أساسا راسخا لفهمنا لمفردات الألم المتوافرة لدينا‎ وإذا أهملنا "ألجوس" (algos)، والتي استبدلت بلفظة "ألجيما"(algema)، واحتفظنا فقط بلفظتي "بونوس" و "أودوني" (odun) كما في النصوص السابقة، يمكننا الحصول على بعض المعرفة عن توزيع تلك الكلمات في "الأبحاث" وبترتيب تنازلي، نجد أن النصوص التي تتكرر فيها لفظة "أودوني" كثيراً هي "الأمراض ـ الجزء الثاني" (73 مرة)، ثم "أمراض النساء ـ الجزء الثاني"(67 مرة) ثم الوبائيات ـ الجزء السابع (54 مرة) و"العلل الباطنية" (68 مرة)، بينما ضم كتابا "العلل" و"طبيعة النساء"عددا واحدا (49 مرة‎). وتتميز قضية كتاب "نظريات كوس" (Cosian Hypotheses) بالإثارة، حيث أنه الكتاب الوحيد من "مجموعة أبقراط" الذي يتميز بانعكاس (Reversal) ملموس في العلاقة بين لفظة "أودوني" وغيرها من الألفاظ ذات العلاقة: فقد استخدمت لفظة "ألجيما" سبعين مرة، بينما استخدمت لفظة "بونوس" ثلاث وستين مرة، بينما لم تستخدم "أودوني" ذاتها سوى ثماني عشرة مرة‎ ومع ذلك، فقد تكوّن هذا النص، مثله في ذلك مثل كتاب "الأمثال"، من مقاطع صغيرة مأخوذة من بقية كتب المجموعة ومدمجة معا، ربما ليستخدم ككتاب تدريسي أو كمرجع سريري (إكلينيكي) ‎ ويجب تناول هذه الأرقام باحتراس: ويرجع ذلك في المقام الأول إلى أن التكرارية ذاتها يجب أن تكون متعلقة بالأهمية القصوى التي تتمتع بها لفظة "أودوني" في جميع أجزاء الكتاب، كما ينعكس في مقارنة كلية للعدد الخاص بتكرار ظهور الكلمات في "مجموعة أبقراط": فقد تكررت لفظة "أودوني" 772 مرة مقابل 14 مرة للفظة "ألجوس"، ولو أن ظهورها كان بصورة تنافسية مع لفظة أحدث منها بكثير، وهي لفظة "ألجيما" (alghma) التي تتكرر 194 مرة‎ وعلى أية حال، فحتى لو أضفنا عدد المرات التي استخدمت فيها "ألجوس" كفعل ("ألجيو"[algeo])، وهي 185 مرة، يظل تفوق لفظة "أودوني" واضحا للعيان‎. ويعتمد ذلك على كل من موضوع البحث وطوله، حتى ولو كانت الكلمات الأكثر استخداما ليست هي بالضرورة تلك الأكثر دلالة عن رؤيتها من منظور تاريخ المعارف الطبية‎ وأقصى ما يمكن للمرء استنتاجه هو أن ما يسمى بأبحاث كنيدوس (Cnidian Treatises) تركز على الألم بصورة أكبر، وأنها عندما تفعل ذلك، تستخدم لفظة "أودوني" في التعبير عن ذلك الألم: ولا يبدو ذلك منافياً للمنطق عندما يضع المرء في اعتباره حقيقة أن أتباع مدرسة كنيدوس، وليس أتباع مدرسة كوس، هم الذين اعتبروا تقليديا أكثر الناس اهتماما بتحديد مواضع الاضطراب، وأن السياقات التي تستخدم فيها لفظة "أودوني" تظهر أن تلك اللفظة تستخدم في الغالب الأعم من الحالات بإحساس دقيق محدد ـ إما عن طريق إضفاء خاصية على الألم، أو عن طريق تقديم بعض الأدلة المساعدة على تحديد موضعه‎ وبالإضافة إلى ذلك، تظهر دراسة تلك السياقات التي استخدمت فيها لفظة "بونوس"، وفعل "بونيو"(poneo) ـ بمعنى يتعذب، أن الفعل يستخدم بدون أي تأهيل (Qualification) لوصف حـالـة عامة من المعاناة أو الـمرض، وأنه عندما تتم الإشارة إلى تحديـد موضـع الألـم، فغـالبـا ما يكـون ذلك بصورة تقريبية، تشتمل على استخدام حروف الجـــر (Prepositions) مثـل "بيري" [peri] أو "إس" [es] بمعنى "في منطقة كذا"، و"حول" على الترتيب‎ ومن أصعب الأمور أن نجد المعايير لتحديد معنى لفظة "ألجيما"، والتي تستخدم بصورة أقل، على أية حال‎ وفي جميع الأحوال، تتيح لنا الأرقام التي ذكرناها هنا أن نتعرف بصورة أكثر دقة على تلك المقاطع التي تتناول الألم، والتي هي كثيرة بصورة معقولة‎ أفلا يدل نص "عن الفن"، والذي يحدد واجبات الطبيب، على أن وظيفته تتمثل في تخفيف المعاناة عن المرضى، وأن يعرف الوقت الذي يجب أن يتدخل فيه، والوقت الذي ليس فيه أي علاج للمرض؟ وقد خلق النص "الأبقراطي" ذاته رابطة بين ما بين التأملات الطبية المتخصصة وبين التأملات العامية‎ وقد كتب مؤلف كتاب "طب القدماء" (De Prisca Medicina) قائلا:"في رأيي، أنه يجب على من يريد مناقشة المهارات الطبية، وقبل كل شيء، أن يجعل مهمته هي وصف الأشياء بأسلوب مبسط، إذ أن الهدف الوحيد لتأملات الطبيب وأبحاثه يجب أن يكون التعامل مع الأمراض التي تصيبنا جميعا‎". ولا يلغي هذا الرأي بحال من الأحوال مفهوم الطب "كحرفة"(Techne)، إذ أن المريض لا يعرف كيف ولا لماذا أصابه المرض ثم ذهب عنه‎ لكن المريض يمكنه، مع ذلك، وصف أعراضه المرضية، والتعرف من خلال تجاربه الخاصة، و "أحاسيسه الجسدية"، على ما يكتشف الأطباء ويحاولون تفسيره‎ وهذه هي القيمة الخاصة للتاريخ المرضي للحالات، فهو الخطوة المبدئية والحيوية في عملية الوصول إلى التشخيص: "إن الشيء الوحيد الذي يذكرونه وهم يستمعون إلى الطبيب، هو ما عايشوه بالفعل‎ أما الطبيب الذي يبتعد عن معتقداتهم فلن يصيب الإطار العقلي الصحيح، كما أنهم سيزدادون بعدا عن الواقع" ‎ ويوجه كتاب "عن العلل" بدوره للإنسان البسيط بحيث يمكنه رعايه نفسه، ومن ثم يتمكن في النهاية من التحدث عما أخبره به الأطباء وما وصفوه له من الأدوية‎ ومن المحتمل تماما أن تكون تلك المعرفة العامة شرطا للتعاون بين الطبيب ومريضه، وربما تأمين مسلك غير استجوابي من جهة الأول نحو وصفات الثاني، ولو اعتبرنا تلك المقاطع العديدة التي يشكو فيها الطبيب من عيوب الأنظمة العلاجية المتوافرة، يمكننا الحكم بأنه لم يمكن التوصل إلى تلك العلاقة‎ وبذلك، فإن العلاقة التي يمكن بها للمريض أن يعبر عن الألم الذي يستشعره ستقدم للطبيب بعض المعلومات المفيدة‎ وتتطلب تلك العملية العقلية التي يتم من خلالها التوصل إلى التشخيص في الطب الأبقراطي علاقة خاصة بين الطبيب ومريضه‎ وفيما نسميه "بالمثلث الأبقراطي" (Hippocratic triangle)، تكتسب الطريقة التي يصف بها المريض ألمه أهمية أعظم من تلك الي للمفاهيم الطبية الأخرى‎. ويعبر الألم، عن "سيمايني" [semainei]، والتي يجب بالتأكيد ألا تؤخذ على أنها عرض مرضي منعزل، بل كجزء من الصورة الكلية للهيئة التي يبدو عليها المريض، ونوعية سلوكه مقارنة بالصورة التي يتصرف بها عموما، وحالة برازه، وبوله، وعرقه، إلخ.‎ في نظام طبي يعلق أهمية كبرى على مستقبلية المرض (Prognosis) لأن المرض ينظر إليه كعملية متسلسلة، يتيح تطورها التوصل إلى تشخيص دقيق ـ وهو نظام يحكم على مهارة الطبيب حسب مدى دقة توقعاته بنفـس قدر نجاح علاجـاته ـ فإن اللحظة التي يبدأ فيها الألم في العملية المرضية (الباثولوجية)، ومدته، وعلاقته بأي من الإفرازات المتنوعة للجسم (مثل النزف، والتقيح، إلخ)،‎ تفيد كأدلة كبرى لفهم المرض‎ وحسبما جاء في كتاب (De Prisca Medicina)، ففي حالات التهاب العين (Ophthalmia)، يبقى الألم والالتهاب (Inflammation) حتى تلك اللحظة التي يبدأ فيها احتقان العين في الخمود بفضل تأثير الغلي (Coction)؛وفي التهاب الجنبة (Pleuritis)[وهي الغشاء المحيط بالرئتين]، والتي لم تكن تسمى بذات الجنب (Pleurisy) وذلك لأنهم لم يتعرفوا على وجود الجنبة (Pleura) وقتها، يبدأ الألم الجانبي في الانحسار منذ اللحظة التي يبدأ فيها القشع (النفث Expectoration)، والذي يطرد البلغم عن الجانب المصاب بالعدوى‎ وتقرر الأمثولة (Aphorism) السابعة والأربعين والواقعة في الفصل الثاني أن "الآلام والحميات تظهر نفسها قبل، وليس بعد، الوقت الذي يتكون فيه القيح" وبالإضافة إلى ذلك، تقرر الأمثولة الثانية والثلاثين في الفصل الرابع أنه "في الاضطرابات الناتجة عن المرض، إذا أصبح أي من أجزاء الجسم مؤلما، فإن ذلك هو الموضع الذي سيستقر فيه أي استفحال للمرض" ويمكننا أن نضيف لهذا التفسير لزمن حدوث الألم كعلامة مرضية (Sign)، تصنيفا لدرجات الشدة: سواء كان خفيفا أو لطيفا، قويا أو حادا‎ وبالمثل، فإن للموضع الدقيق للألم دورا في التعرف على المرض وفي تحديد أي من أنماط العلاج يجب اتباعه‎ ويقرر كتاب "الأمراض ـ الجزء الأول"، عند الإشارة إلى أماكن تكوّن القيح في البطن، أنه "من خلال الألم والموضع الذي يُحَس فيه بالتحديد يمكن العثور على تلك المواضع" وبالإضافة إلى ذلك، تقيم الأمثولة 33 في الفصل الرابع علاقة مباشرة بين الموضع الذي يسبق فيه ظهور الألم أية علامات مرضية أخرى، وبين موضع العلة ذاتها‎ ومع ذلك، فإن معرفة ما إن كان الألم محسوسا فوق الحاجب الحاجز (Diaphragm) أم تحته تعطي دلالة عما إذا كان من الضروري تحريض العلاج من أعلى أم من أسفل‎ ومن المؤكد أن جودة أوصاف الألم في "مجموعة أبقراط" تقل كثيرا عما وجدناه في النصوص الأخرى التي قمنا بدراستها، وكذلك قوة إيحائها‎ وربما كان ذلك نتيجة للعدد المحدود من التشبيهات المجازية (Metaphors)، والتي تتوافق مع الرغبة في تقديم تقارير طبية دقيقة‎ ومن ناحية أخرى، يبدو أن ذلك يزيد من أهمية الألم من وجهة نظر طبية.‎ وفي الحين الذي يبدو فيه فهمهم للسبل الحسية (Sensory Pathways) متخلفا تماما بمعاييرنا الحالية لكنهم، ومن الناحية الأخرى، لم يهملوا أسباب الألم‎ ويجمع كتاب "عن أجزاء الإنسان" بين الطريقة التي ينتج بها الألم "من خلال البرودة والحرارة الفرط والعوز" وبين سبب المرض وبالتالي يستخدم مبدأ الأشباه (Principle of likes) ومبدأ الأضداد (Opposites)‎ وعلى ذلك فالألم " ينتج عن الحرارة في الأشخاص الباردين، وعن البرودة في الأشخاص الحارين، وعن الرطوبة في الأشخاص ذوي التكوين الجاف‎ ولا تتفق هذه السببية مع تلك التي طرحها كتاب (De Prisa Medicina)، والذي يربط بين سبب المعاناة وبين قوة ونوعية الأخلاط الأربعة، أو شكل أعضاء الجسم‎ وفي الحالة الأولى، ينتج الألم عن غلبة بعض الخصائص مثل المرارة، أو الاعتدال، أو الحموضة إلخ، وليس الحرارة والبرودة، والافتقار إلى مزيج ملطف (Moderating blend)، وعلى تلك العوامل‎. وقد أعطيت دلائل عديدة بخصوص علاجات الألم، وبخصوص خموده التلقائي عند بداية ظهور الحمى‎وللنزف مكان متحفظ نسبيا وسط هذه الأنماط العلاجية: فلم يرد ذكره سوى في مرات قليلة، نذكر منها على سبيل المثال كتاب "الوبائيات ـ الجزء الثاني" في سياق قصة خادم "ستيمانجس"(Stymanges)، أو في الجزء الخامس من نفس الكتاب‎ وتصف الأمثولة 38 من الجزء الخامس، ذلك التسكين الذي يتم إحداثه في شخص يعاني من ألم في مؤخرة رأسه، عن طريق فتح الوريد العمودي Perpendicular vein)‎)وقد كانت الشقوق الجراحية تستخدم في علاج التهاب الجنبة لكن أغلب المراجع تتناول علاج تلك الحالة بالحرارة في صورة سكبات (affusions) أو كمادات (fomentations) أو حمامات (baths)؛ وقد كان يتم علاج "وجع الرأس" (Cephalalgia)، والذي لا يمكن ترجمته إلى لغتنا الحديثة، لأنه اصطلاح كان يعني به وصف جميع أنواع الألم التي تصيب الرأس، من خلال سكبات حارة وافرة على الرأس بطريقة تستثير إفراز المخاط (Mucus)؛ وقد اتخذت بعض الملاحظات المماثلة فيما يتعلق بالتهاب الأذن (Otitis) وآلام الفخذ فيما عدا "عرق النسى" (Sciatica)‎ وأحيانا ما كات يتم استخدام البرودة لعلاج أوجاع الرأس، كما هو الحال في الحادثة المذكورة في كتاب "الأمراض ـ الجزء الثالث" وفي تلك الحالة، يتطرق المؤلف إلى مناقشة ضمنية لمميزات وعيوب كل من الحرارة والبرودة‎ وعندما يكون الألم شاذا أو طويل الأجل ومعند، قد يمكن إقناع الطبيب باستعمال الكي (Cauterisation):إذا تركز الألم في منطقة وبقي هناك بدون أن تزيله الأدوية يمكن كي البؤرة المؤلمة أينما كانت، باستخدام مكسي [ Moxa: من اليابانية بمعنى العشب المشتعل، وهي عبارة عن مخروط ذي قمع من القطن أو غيره من المواد القابلة للاشتعال، كان يوضع على الجلد ثم تشعل فيه النار ليعمل كمثير مضاد؛ بمعنى إحداث التهيج في موضع ما من الجسم لإزالة الألم أو الالتهاب في موضع آخر] من الكتان غير المبيّض Unbleached)‎) ويتبع نمط الفعل نفسه لعلاج المصابين بالنقرس Gout)‎) ويجب أن ينظر إلى الحس الموجود في تلك الممارسات كمناورات ثانوية يجب تفسيرها ضمن سياق طب الأخلاط الأربعة وليس كممارسة للاستثارة stimulation- (بمعنى المثير المضاد هنا)، والتي لم تكن قد ترسخت بعد في تلك الفترة الزمنية‎ وتعلن مجموعة أبقراط، والتي تعلق أهمية كبرى في بعض أجزائها، كما رأينا من قبل، على نمط العلاج الذي يشفي فيه النقيض نقيضه (مبدأ الأضداد) في موضعين، أنه، فيما يتعلق بالألم، هناك سبب وجيه لمعالجة الشبيه بشبيهه: ففي كتاب "الوبائيات ـ الجزء الخامس" نتلقى النصيحة التالية: "اخلط الشبيه بشبيهه،فالألم على سبيل المثال يلطف الألم" ويمكن أن نقارن ذلك بالأمثولة 46 في الجزء الأول:"من بين نوعين من الألم يحدثان في الوقت نفسه، ولكن في موضعين مختلفين، يخفي الأقوى منهما معالم الآخر"‎ ولسنا نعرف على وجه التحديد تلك الممارسات التي استلهمت تلك الصيغ من أجل تسكين الألم‎ ومع ذلك، فمن خلال تلك الملاحظات، توفر لدينا الدليل على جودة الملاحظات التي أبداها الأطباء في مجموعة أبقراط، وعلى كمية التعميم وصياغة المفاهيم ـ والتي، برغم أنها تختلف عن مثيلاتها لدينا، فهي تتخطى حدود الأمبريقية (التخّبر Empericism) ‎:وبالإضافة إلى ذلك، تشير الكتابات المتعلقة بأمراض النساء على وجه الخصوص، إلى أن الأطباء الأبقراطيين قد كانوا يعرفون استخدامات النباتات المخدرة مثل اليبروح (Mandrake)، والبنج (Henbane)، وعنب الثعلب (البلادونة) (Nightshade)، والخشخاش Poppies)‎). وعند مسح تلك الفترة الزمنية الطويلة الواقعة بين زمن هوميروس وزمن النصوص الأبقراطية، ولأنه لا يمكن المقارنة بين المشاركين خلال تلك الفترة، سيكون من الخطر أن نحاول استخلاص وجود بعض العوامل المستديمة، أو وجود تشابه في الممارسات من أجل الإجابة على الأسئلة التي تطرحها دراسة الألم في المجتمع الإغريقي‎ ومع ذلك، فمن الممكن أن نعود إلى الماضي لاكتشاف بعض الاتجاهات التي صمدت حتى يومنا هذا، مثل تقبل الألم كإحدى حقائق الحياة التي لا مهرب منها بالنسبة للمريض و لصحيح البدن على حد سواء، ويجب علينا بالفعل أن نضع هذه النتائج في اعتبارنا بدون تثبيت أو إخفاء‎ وتحفظ عقلنة (Rationalization) المرض والألم في كتابات أبقراط، والتي تتم من خلال إعادة تفسير الأعراض المرضية، كلا من كلمات المريض وتلك العلاقة الفريدة الموجودة بينه وبين الطبيب.‎ ومع ذلك، وبما أن ذلك الأخير يضطلع بإجراء المناقشة وتفسير التاريخ المرضي للحالة، فبمقدوره أيضا أن يتلاعب بأقوال المريض وأن يشوهها‎ وليس هناك، سواء من وجهة نظر المريض، ولا من وجهة نظر الطبيب من باب أولى، أي تبادل خفي أو مباشر للمعلومات نتيحة للنظرة المستبطنة لأسباب، ومعاني، ومعالجات الألم‎ وينبع ذلك عن عملية تطورية معقدة يشترك فيها الطرفين بشكل أو بآخر، والتي تشتمل على قيمة كبرى لأفكار أكثر تقادما ـ أقرب ما تكون إلى الأفكار الدينية ـ مما أتاحت لنا الكتابات التراجيدية استكشافه.‎ وقد استمر الانتشار الواسع للأفكار الأبقراطية، والتي لم يكن مصدرها الأساسي هو أثينا، في جميع أرجاء المدن اليونانية الواقعة في آسيا الصغرى، ثم جميع بقاع العالم المعروف وقتها بفضل فتوحات الإسكندر الأكبر Alexander the Great)‎) وسرعان ما نشأت مراكز للحضارة الهلينية (Hellenistic: خاصة بتاريخ الإغريق وثقافتهم وفنهم بعد الإسكندر الأكبر) وخصوصا في مصر، حيث أنشأ الإسكندر المدينة التي تحمل اسمه في عام 331 ق‎م، وبدون التنصل من المبادئ الأبقراطية،سعى الطب إلى أسس تشريحية (Anatomical) أفضل من خلال ممارسة فن التشريح Dissection)‎).