مفتش (العصور الوسطى)

المفتش inquisitor كان مسئولاً في محكمة تفتيش، وهي هيئة أو برنامج الغرض منه القضاء على بدعة أو ضلالة لا ترضى عنها الكنيسة الكاثوليكية. وحرفياً، المفتش هو شخص "يبحث في" أو "يستجوب" (اللاتينية inquirere < quaerere، "يبحث").

البابا والمفتش. لوحة تاريخية بريشة جان پول لورنز، 1882

كبير المفتشين في محكمة تفتيش، كثيرا ما كان يشار إليه بلقب المفتش الأعظم.


أرسل جريجوري وخلفاؤه بعد عام 1227 عدداً متزايداً من المحققين أو المفتشين الخصوصيين لمطاردة الضلال، وكان يفضل أن يختار لهذا العمل أعضاء طوائف الرهبان المتسولين الجدد لأن حياتهم البسيطة وإخلاصهم يختلفان عن ترف رجال الدين من ناحية، ولأنه من ناحية أخرى لا يستطيع الاعتماد على الأساقفة. على أنه لم يبح لأي محقق أن يقضي بحكم شديد على أي ضال من غير موافقة الأسقف، ولهذا اختير كثير من الرهبان الدمنيك لهذا الغرض، حتى لقد سموا من قبيل السخرية Domini Canes أي "كلاب الله" (الصيادين)(57). وكان كثيرون منهم رجالا متزمتين في أخلاقهم ولكن قل منهم من كان يتصف بالرحمة، ولم يكونوا يعتقدون في أنفسهم أنهم قضاة يزنون الأدلة بعدل ونزاهة، بل كانوا يظنون أنهم محاربون يطاردون أعداء المسيح. وكان منهم رجال ذو عناية وضمائر حية أمثال برنار گي Bernard Gui، ومنهم من كانوا مرضى ساديين مثل روبرت الدومينيكي Robert the Dominican وهو رجل ضال تائب أرسل في يوم واحد من أيام 1239 مائة وثمانين شخصاً ليحرقوا أحياء، من بينهم أسقف منح الضالين حسب رأيه حرية أكثر مما يستحقون. وقد أعفى روبرت هذا من منصبه وحكم عليه بالسجن مدى الحياة (58).

وكان اختصاص محكمة التحقيق مقصوراً على المسيحيين دون سواهم، أما اليهود والمسلمون فلم يكونوا يدعون أمامها للتحقيق معهم إلا إن كانوا مسيحيين مرتدين (59). ولقد بذل الدمنيك جهوداً خاصة لتحويل اليهود إلى المسيحية، ولكنهم لم يكونوا يلجئون في هذا العمل لغير الوسائل السلمية، وبلغ من حرصهم على هذا أنه لما اتهم بعض في عام 1256 بقتل بعض أطفال المسيحيين في بعض طقوسهم، عرض الرهبان الدمنيك والفرنسسكان حياتهم للخطر لإنقاذهم من الغوغاء (60). وخير ما يوضح لنا الغرض من إنشاء محكمة التحقيق ودائرة اختصاصها مرسوم بابوي أصدره نقولاس الثالث (1280).

نعلن بهذا حرمان جميع الضالين ونصب عليهم اللعنة - الكاثارى، والبتارين، ورجال ليون الفقراء. ..وكل من عداهم أياً كان الاسم الذي يسمون به. فإذا أدانتهم الكنيسة وجب إسلامهم إلى القاضي الزمني لمعاقبتهم.... وإذا ما ندم واحد منهم بعد اعتقاله وأراد أن يكفر عن ذنبه، وجب سجنه مدى الحياة... وكل من يأوي الضالين، أو يحميهم، أو يساعدهم، يحرم من الدين، وإذا لم يستطع المتهمون بالضلال أن يثبتوا براءتهم، طردوا من حظيرة الدين، فإذا بقوا محرومين عاماً كاملا حكم عليهم بما يحكم على الضالين. وليس لهؤلاء حق استئناف الحكم... وكل من يمنحهم دفنة مسيحية يحكم عليه بالحرمان ويظل كذلك حتى يعمل ما يستوجب الرضا عنه.. فلا يغفر له ذنبه حتى يخرج بيده جثث المحرومين ويطرحها في العراء. ونحن نحرم على غير رجال الدين جميعهم أن يناقشوا في مسائل الدين الكاثوليكي، ومن يفعل هذا يحرم من الدين، وعلى كل من يعرف أحداً من الضالين، أو ممن يعقدون اجتماعات سرية، أو ممن لا يؤمنون بعقائد الدين القويم أياً كانت، أن يبلغ ذلك إلى من يفضي إليه باعترافه، أو إلى شخص آخر يبلغه إلى الأسقف أو المحقق، فإذا لم يفعل هذا حرم من الدين. والضالون، وكل من يأوونهم، أو يؤيدونهم، أو يساعدونهم، وكذلك أبناؤهم حتى الجيل الثاني - هؤلاء لا يسمح لهم بتولي المناصب الكنسية.. وهانحن أولاء نحرمهم جميعاً وأمثالهم من دخلهم إلى أبد الدهر(61).

ويجوز أن تبدأ إجراءات محاكم التحقيق بالقبض العاجل على جميع الضالين، وعلى جميع المشتبه في ضلالهم أحياناً وقد تبدأ بأن يستدعى المحققون الزائدون على جميع السكان البالغين في مكان ما للبحث المبدئي. والذين يقرون بضلالهم في خلال "المهلة القانونية" الأولى، ومدتها ثلاثون يوما، ثم يتوبون، يطلق سراحهم بعد حبسهم زمناً وجيزاً، أو بعد أن يقوموا بعمل من أعمال التقى، أو يتصدقون بالمال (62) أما الضالون الذين لا يعترفون في أثناء هذه المهلة، ثم يكشف عن أسرهم في هذا التحقيق المبدئي، أو تدل عليهم عيون محكمة التحقيق(63)، أو يكشف عنهم بأية طريقة أخرى، أما هؤلاء جميعاً فيدعون إلى المثول أمام محكمة التحقيق، وكانت هذه المحكمة تؤلف الأحوال العادية من أثنى عشر رجلا يختارهم الحاكم الزمني في الإقليم من ثبت يحتوي أسماء المرشحين، يعرضه عليه الأسقف وهيئة المحققين، ويضم إليه اثنان من المسجلين وعدد من الحجاب فإذا ما انتهز المتهمون هذه الفرصة الثانية، وأقروا بذنبهم، عوقبوا عقاباً يختلف باختلاف ذنبهم، وإذا أنكروا جرمهم زجوا في السجن وكان من المستطاع محاكمة المهتمين وهم غائبون أو بعد مماتهم. وكانت المحاكمة تحتاج إلى شاهدين من شهود الإثبات، وتقبل من يعترفون بذنبهم من الضالين شهود إثبات على غيرهم، وكان يسمح للزوجات أن يشهدن على أزواجهن وللأبناء على آبائهم، ولا يسمح لهؤلاء أو أولئك أن يشهدن أو يشهدوا لهم (64) ويسمح لجميع المتهمين في مكان ما بناء على طلبهم أن يطلعوا على ثبت شامل يحوى جميع أسماء من يتهمونهم، ولكن هذا الثبت لا يدل أي متهم على من اتهمه، فقد كان يخشى أنه إذا واجه أي متهم من اتهمه فقد يعمد أصدقاء المتهم إلى قتل من يتهمه. وفي ذلك يقول لي Lea: "والحق أن عدداً من الشهود قد قتلوا لريبة بسيطة حامت حولهم"(65). وكان يطلب إلى المتهم عادة أن يذكر أسماء أعدائه، وكانت المحكمة ترفض أي دليل يقدمه أولئك الأعداء(66)، وكان المبلغون الكاذبون يعاقبون أشد العقاب(67)، ولم يكن يسمح للمتهمين قبل عام 1300 بأن يستعينوا بأية معونة قانونية(68)، أما بعد عام 1354 فقد صدر مرسوم بابوي يحتم على المحققين ألا يعرضوا أدلة الإثبات على الأسقف وحده بل أن يعرضوها عليه وعلى رجال من ذوي السمعة الطيبة في الإقليم ، وأن يصدروا حكمهم بما يتفق مع آرائهم(69). وكانت هيئة من الخبراء (perite) تدعى في بعض الأحيان لتبدي رأيها في الأدلة. وقصارى القول أن الأوامر الصادرة إلى المحققين كانت تنبههم إلى النجاة المذنب من العقاب خير من إدانة البريء، وأن من واجبهم أن يحصلوا إما على دليل واضح أو اعتراف صريح.

وكان القانون الروماني القديم يجيز الالتجاء إلى التعذيب للحصول على الاعتراف، ولم تكن هذه الطريفة تتبع في المحاكم الأسقفية، أو في السنين العشرين الأولى من سني محاكم التحقيق، غير أن إنوسنت الرابع (1252) أجازها حيث يكون القضاة واثقين من جرم المتهم، ثم أجازها من جاء بعده من الأحبار(70). ولكن البابوات كانوا ينصحون بأن يكون التعذيب آخر ما يلجأ إليه مع المتهمين، وألا يلجأ إليه إلا مرة واحدة، "وألا يصل إلى ما يؤدي إلى فقد عضو من الأعضاء أو إلى خطر الموت". وفسر المحققون عبارة "مرة واحدة" بأنها تعني مرة واحدة في كل محاكمة، فكانوا لذلك يقطعون التعذيب في بعض الأحيان ليواصلوا المحاكمة، ويرون بعدئذ أن من حقهم تعذيب المتهم. وكان التعذيب يستخدم في كثير من الأحيان لإغرام الشهود على أداء الشهادة، أو لإجبار الضال المعترف على الإدلال بأسماء غيره من الضالين (71). وكان من أنواعه الجلد، والكي بالنار، والتعذيب بالعذراء، والسجن الانفرادي في جب مظلم ضيق، وكانت قدما المتهم توضعان أحيانا على الفحم المتقد، أو كان يشد إلى إطار على شكل مثلث ثم تجذب يداه وساقاه بالحبال الملفوفة حول آلة لاوية. وكان طعام السجين يقلل أحياناً حتى يضعف بذلك جسمه وإرادته فيؤثر فيه التعذيب النفساني، كالوعد بالرأفة أو التهديد بالقتل(72). وقلما كانت محكمة التحقيق ترى قيمة للاعتراف الذي يأتي من طريق التعذيب، ولكن هذه المشكلة كان يتغلب عليها بإرغام المتهم على أن يؤكد، بعد ثلاث ساعات من اعترافه، ما قرره أثناء التعذيب، فإذا أبى أمكن تعذيبه من جديد، وحدث في عام 1286 أن بعث موظفو كركسون Garcassonne برسالة إلى فيليب الرابع ملك فرنسا وإلى البابا نقولاس الرابع يشكون فيها من صعوبة التعذيب الذي يلجأ إليه المحقق جان جالان Jean Galand. فقد كان بعض المسجونين جان هذا يتركون زمناً طويلاً في السجن الانفرادي الحالك الظلام، وكانت قيود بعضهم تبلغ من الضيق جداً يضطرون معه إلى الجلوس في برازهم، أو لا يستطيعون ألا النوم على ظهورهم فوق الأرض الباردة(73). وقد شد بعضهم إلى العذراء شداً عنيفاً فقدوا معه استخدام أيديهم وأرجلهم، ومنهم من مات في أثناء التعذيب(74) وشنع فيليب على هذه الوحشية وحاول البابا كلمنت الخامس (1312) أن يحد من إلتجاء المحققين إلى التعذيب، ولكن سرعان ما أهملت أوامره (75).

وكان المسجونون الذين يأبون أن يفيدوا من الفرصتين اللتين تتاح لهم للاعتراف ثم يدانوا بعدئذ، والذين يرتدون إلى ضلالهم بعد توبتهم كان هؤلاء وأولئك يحكم عليهم بالسجن مدى الحياة أو الإعدام، وكان السجن مدى الحياة يخفف بمنح السجين شيئاً من الحرية في التنقل، والزيارة، والألعاب، أو يشدد بحرمانه من الطعام أو بتقييده بالأغلال(76). وكان الذين يدانون بعد أن يقاوموا يحكم عليهم بالإضافة إلى الأحكام الأخرى بمصادرة أملاكهم. وكان بعض هذه الأملاك المصادرة يعطى عادة لحاكم الإقليم الزمني، ويعطي بعضها للكنيسة، وكان ثلث هذه الأملاك يعطي في إيطاليا للذي يبلغ عن الضال، أما في فرنسا فكانت الأملاك المصادرة تذهب كلها للتاج. وكانت هذه الاعتبارات كلها تغري الدولة والأفراد بالإشتراك في تعقب الضالين، وفي محاكمة الموتى، وكان من المستطاع في أي وقت من الأوقات الاستيلاء على أملاك البريثين من الناس بحجة أن من أورثوهم إياها قد ماتوا وهم ضالون. وكان هذا من الشرور الكثيرة التي حاول البابوات أن يقضوا عليها، ولكن محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح(77). وكان مما يفتخر به أسقف رودس أنه جمع مائة ألف "صول " في حملة واحدة على الضالين في أسقفيته(78). [1]

وكان المحققون يعلنون في حفل رهيب يقام من آن إلى آن إدانة المذنبين وما يحكم به عليهم من عقاب. فأما التائبون فكانوا يوضعون على منصة في وسط الكنيسة، ثم يقرأ اعترافاتهم، ويطلب إليهم أن يؤكدوا هذا الاعتراف، وأن ينطقوا بصيغة خاصة يعلنون فيها إقلاعهم عن الضلال، ثم يقوم المحقق الذي يرأس الاحتفال فيعفي التائب من الحرمان، ويعلن سائر الإحكام المختلفة. فأما الذين "سيطلقون" أي يتركون إلى السلطات الزمنية فكان يسمح لهم بيوم آخر يرجعون فيه عن ضلالهم، وأما الذين يعترفون ويتوبون، ولو كانوا عند عمود الحرق، فكان يحكم عليهم بالسجن مدى الحياة، وأما اللذين يبقون على عنادهم فكانوا يحرقون وهم أحياء في ميدان العام.. وكان هذا الإجراء كله، من حكم، وتنفيذ يطلق عليه في أسبانيا اسم "عمل الإيمان aeto da fe" لأنه كان يقصد به أن يقوى عقائد الشعب الصحيحة، ويؤيد الإيمان بالكنيسة.ولم تنطق الكنيسة قط بحكم الإعدام، فقد كان شعارها القديم هو: إن الكنيسة تحجم عن إراقة الدماء (ecclesia aphorret a sanguine)، ولهذا كان القسيسون يؤمرون بألا يسفكوا دماء، ومن أجل ذلك فإن الكنيسة حين تبعث إلى السلطات الزمنية باللذين تدينهم لم تكن تطلب إلى ولاة رجال الدولة أكثر من أن يوقعوا عليهم (العقاب الذي يستحقونه) وتنبههم إلى أن يتجنبوا (كل ما من شأنه سفك الدماء أو التعريض لخطر الموت). ثم اتفقت الكنيسة والدولة بعد جريجوري التاسع على ألا يؤخذ هذا التحذير بمعناه الحرفي، بل أن يقتل المذنبون دون أن تسفك دماؤهم أي أن يحرقوا عند عمود الإحراق(79).

وكان عدد من حكمت عليهم محكمة التحقيق الرسمية بالموت أقل مما كان يعتقده المؤرخون في وقت من الأوقات(80). ومن الشواهد الدالة على ذلك أن برنار ده كو Bernard de Gaux وهو من المحققين المتحمسين، قد خلف سجلا طويلا بالقضايا التي نظر فيها؛ وليس في هذا السجل قضية واحدة حكم فيها بإرسال المذنب إلى السلطات المدنية(81). وحكم محقق يدعى برنارد جوى Bernard Gui في مدى سبعة عشر عاماً على تسعمائة وثلاثين ضالاً، فلم يتجاوز من حكم عليهم بالموت من بين هذا العدد خمسة وأربعين(82). وكانت الأحكام الصادرة في حفل عام بطولوز (طلوشة) عام 1310 وهي أن أمر عشرون شخصاً بأن يخرجوا للحج، وحكم على ستة وخمسين بالسجن، وعلى ثمانية عشر بالإعدام. وفي عمل الإيمان الذي حدث في عام 1312 أرسل واحد وخمسون إلى الحج، وحكم على ثمانية وستين بالسجن مدداً مختلفة، وأرسل خمسة إلى السلطات الزمنية (83). وقصارة القول أن شر مآسي محاكم التحقيق قد أخفتها السجون ولم تر الضوء عند أعمدة الإحراق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مفتشون بارزون

أشهر المفتشين في تاريخ محاكم التفتيش:


طالع أيضاً

  1. ^ ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.