محمود شريف

محمود شريف ( - ) شاعر المهجر الوحيد من مصر. هاجر إلى البرازيل.

أول معرفتنا بهذا الكاتب هو خبر عن كتابه «ثورة قازان....» ورد في عدد شباط (فبراير) 1947 من المجلة الشهرية «الكتاب» التي كانت تصدر عن دار المعارف في مصر ويرأس تحريرها عادل الغضبان (الأديب الشاعر الحلبي الأصل والمولود في مرسين - تركيا)، ومراجعة نقدية لهذا الكتاب نشرت في عدد حزيران (يونيو) 1947 من المجلة نفسها بقلم الكاتب (الأردني لاحقاً) عيسى إبراهيم التاعوري أرسلها من القدس، وأعاد الناعوري نشر هذه المراجعة في سياق كتابه «أدب المهجر» الذي طبع مرات عدة في سلسلة «مكتبة الدراسات الأدبية» عن دار المعارف بمصر.

يفيد محمود شريف أن أباه كان من الوجهاء المتأدبين يملك في بيته مكتبة عامرة، و «كان للمرحوم أحمد شوقي بك في مكانة الأخ. وكان المرحوم حافظ بك إبراهيم شقيقاً لأبي لا صديقاً وكان له وإياه في مجلس المرحوم الإمام محمد عبده يمين ولاء وإخلاص شهدها الإمام».

بدأ محمود شريف حياته الأدبية في المهجر البرازيلي شاعراً «ثوروياً»، على المنابر لكنه ما لبث أن تخلى عن هذا النهج ليكتب شعراً لصيقاً بنفسه، واعتبر أنه «للنار تلك الناريات. للنار أصنام الجمهور. للنار ذلك الشعر الذي يوقظ أمة نائمة على صليل السيوف ولون الدماء وأنين الجرحى وحشرجة الشهداء».

عمل لفترة مذيعاً في إحدى الإذاعات المحلية في ساو باولو باللغة العربية، كما عمل مدرساً للعربية والإنكليزية في إحدى مدارس المهاجرين اللبنانيين في ساو باولو (مدرسة القديس ميخائيل)، وصحافياً في جرائد ومجلات اغترابية، ويبدو أنه عمل لاحقاً لدى الشاعر نعمة قازان الذي كان رجل أعمال، ومن بين أملاكه مصنع كبير للأحذية في ساو باولو. ويروي شريف بدايات وصوله إلى ريو دي جانيرو عاصمة البرازيل سابقاً وتقلبه في مهن عدة، ومشكلات تكيفه في البيئة الجديدة:

«خمسة صناديق جلدية (حقائب) مليئة بالثياب الثمينة وعدد من الأوراق المالية جدير بالاحترام وشباب لا عيب فيه وثقافة لا بأس بها. كان هذا رأس مال الداعي يوم أن بصقه الإطلنطيق على شاطئ البرازيل، وقد كنت على يقين من أن الحكومة البرازيلية ستبعث بمن ينتظرني عند الباخرة ويحمل عني أثقالي ويقودني إلى فندق شيِّد خصيصاً للمهاجرين، وبعد أسبوعين على الأقل يُنظر في أمري ويعهد إِليَّ في العمل الذي اختاره وأرضاه. هذا ما قاله لي الرفاق في مصر يوم أن أتيت على الثروة التي ورثتها عن المرحوم (والد محمود شريف) وصممت على الهجرة إلى البرازيل ثم إلى الولايات المتحدة الشمالية حيث «هولي ود» (هوليوود) مدينة السينما، حيث مستقبلي.

لا شيء من هذا. كلام فارغ. أنا في الريو دي جانيرو عاصمة البرازيل (سابقاً) وحيد غريب لا أفهم لسان القوم ولا أحد يفهمني ولم أكن لأعلم عن البرازيل شيئاً مذكوراً(...).

قيل لي ان مواطنيك في الريو دي جانيرو أكثر من أن يعدّوا، فكان أن توغلت في المدينة على غير هدى حتى انتهيت إلى شارع أطول من عمر سيدنا نوح وأضيق من أخلاق حديث النعمة. وليت القائلين بجامعة اللغة العربية يزورون ذلك الشارع. ليتهم يسمعون القوم هناك وكل واحد له لهجة ولا قاموس لتلك اللهجات، بل ليتهم يدعون القديم يأكل بعضه بعضاً ويهتمون بدرس اللهجات والتوفيق بينها جميعاً بحيث تصبح لغة الكتابة في متناول الكل. لا أكثر عليك القول. لم أرَ خيراً من الرحيل إلى سان باولو حيث جماعة من المصريين علّقت أملي بهم. وهناك وبين أيدي تلك الجماعة عرفت أنّ لا أحد لأحدٍ في البرازيل، وما حكّ جلدك مثل ظفرك. أنا يا ناس فلان بن فلان لم أقرب العمل في حياتي ولا وزر لي إِلا الكتابة والتمثيل، فماذا أفعل؟ (...) وفي سنتين تقلّبت في المهن الآتية: خادم في مطعم – بواب فندق – عامل في مذبح – بائع جوارب – عامل في السكة الحديد – ممثل مسرحي – كاتب في جمعية سياسية – مدرّب للبوكس في كلوب رياضي منزلي - مدرّس للغة الإنكليزية – صحافي يكتب ويحمل الحروف إلى المطبعة...

وفي ولاية بارانا قضيت سنة ونصف سنة اشتغل بزراعة القهوة لأحصل على القوت الضروري، وكانت تسليتي الليلية لا أكثر من استخراج الحافور من أصابع قدميّ اللتين صارتا وقتئذٍ كدسكرة النحل... ثم ولاية ماطو غروسو حيث اشتغلت في مناجم الماس».

ما هي الظروف التي دفعت محمود شريف إلى الهجرة؟

يقول انه بعد وفاة أبيه أقنع أخاه الكبير بضرورة التحاقه بالمدرسة الثانوية في القاهرة، وساعده عمه في إقناع الأخ فكان له ذلك. هذا يعني أن العائلة كانت تقيم في مدينة أو بلدة مصرية ما خارج القاهرة. يقول شريف: «هذا هو عمي يزين لي القاهرة ويراودني على توكيله في أملاكي ويضع في يدي بدرة من المال لم أكن أحلم بها (...) وهاجرت بعد أن أتيت بمساعدة عمي على الثروة الضخمة التي تركها لي أبي، وكانت البرازيل حظي دون بلاد الله الواسعة».

ويركز شريف على قراءاته المبكرة لأشعار عربية جنــسية كبعض قصـــائد أبي نؤاس وبعض أبيات «القصيدة اليتيمة»، ولما اكتشف أبوه ذلك ضربه وحذره من هذه القراءات وأمر الخادم ألا يدعه يقترب من مكتبة البيت، لكن شريف عاد إلى سيرته الأولى بعد موت الأب: «لبى الوالد دعوة ربه، وأستحي من نفسي إذ أقول لك انني عدت من المقــبرة إلى البــيت واقتــحمت باب المــكتبة اقتحاماً تاركاً خلفي الــباكين والبــاكيات وطفقت أفتش فيها عن الدرر اليتيمة وغير اليتيمة...».

من هذا المدخل الشخصي للأدب وللشعر خصوصاً، يصل محمود شريف إلى معيار أخلاقي، وتوصله توبته إلى محاكمة الشعر العربي قديمه وحديثه وفق هذا المعيار، ويعتبر شعر نعمة قازان، خصوصاً قصيدته الطويلة «معلقة الأرز»، نموذجاً يحتذى للشعر الأخلاقي الإنساني. وفي كتابه «ثورة قازان» جولات من المحاكمة النقدية الشرسة للشعر أو للأدب المهجري العربي، خصوصاً معاصريه في أميركا الجنوبية.

ونعمة قازان الذي يعلن محمود شريف باسمه أو من خلال شعره ثورة في نقد الشعر ذات طابع أخلاقي، هو لبناني من مواليد جديتا – منطقة البقاع عام 1908، كتب الشعر بالفصحى وبالعامية، ونشر بتوقيع «بدوي البقاع» و «فرخ النسر» قبل أن يوقع قصيدته الطويلة «معلقة الأرز» (صدرت في البرازيل عام 1938) ومجموعته الشعرية «المحراث» (صدرت في البرازيل عام 1964).

ويركز قازان على رسالة للشعر قائمة على الفضيلة وتمجيد الله والإنسان، ويرى، كما يرى معه محمود شريف، أن أدب ميخائيل نعيمة هو الدرة الوحيدة في الأدب العربي، قديمه وحديثه، كما أن جبران وصل إلى منتصف الدرب ولم يكمل رسالة الشعر التي وحده نعمة قازان أكملها في «معلقة الأرز».

هذه الطهرانية المتعالية على «ماديات» الشعر المهجري في أميركا الجنوبية هي هدف شعر قازان ونقد شريف، وهي، في خلفيتها الوجدانية والاجتماعية، محاولة للخلاص من التباسات الهوية والانتماء والصراع الديني والأيديولوجي في بلاد الشام التي حملها المهاجرون إلى البرازيل وسائر أميركا الوسطى والجنوبية، يقول شريف: «لبنان اليوم منقسم على نفسه وإصلاح نعمة قازان جاء في الصميم. يعني أنه تناول الأدب الذي هو منبر الأمة. تناول الأدب المنقسم على نفسه ليوحّد به الأمة المنقسمة على نفسها».

الفضيلة والجامع الإيماني بين الأديان هما معيار محمود شريف النقدي، وباسم هذا المعيار يحصد رؤوساً شعرية وأدبية قديمة وحديثة، مركزاً على معاصريه من أدباء المهجر، بحماسة صاحب الرسالة الذي لا يرعوي عن تدمير الخصوم والمحايدين باسم رسالة يعطيها صفة القداسة. وبين هؤلاء الخصوم والمحايدين أسماء قديمة وحديثة، من المتنبي إلى أحمد شوقي، ومن إلياس أبو شبكة إلى الشاعر القروي رشيد سليم الخوري وغيرهم كثير.

أسماء يحطمها محمود شريف كما يحطم الأصنام، مستجيباً «تعاليم» نموذجه نعمة قازان في زرع الفضيلة الموجودة في الكتب الدينية المقدسة «في نفوسنا ونفوس الناس بأبسط حالة وبألطف عبارة». إنه نقد خاص ليس كمثله نقد، نستعيد معه سجالات أدباء مهجريين في أميركا الجنوبية لم يبق منهم سوى قبس شحيح وذكرى.