عطارد (رواية)

عُطارد هي رواية فانتازيا ساخرة من تأليف محمد ربيع، نشرتها دار النوير للنشر في 2015.

عطارد
غلاف رواية عطارد.jpg
المؤلفمحمد ربيع
البلدمصر
اللغةالعربية
الموضوعفاتنازيا
الناشردار التنوير للنشر
الإصدار2015
عدد الصفحات304

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إستعراض الرواية

عطارد... أو ديستوبيا الثورة المغدورة، الكابوس الذي يخيفك لن يأتي فقد أتى بالفعل! يكفي أن تُخفض زاوية نظرك قليلاً فتراه تحت جلد الحياة اليومية مختبئاً بكل ملامحه خلف تفاصيلها المبتذلة تلك التفاصيل التي تذهب في ساقيتها بطوع إرادتك كي تحتمل تلك الرؤيا الأخرى الأبوكاليبتية. كأن الحياة نحياها في مستويين مستوى للوعي الخامل عند معامل انحرافه الصفري ومستوى آخر تنظر منه من خلال جروح الوعي فترى الجحيم قائماً. هكذا يقول لنا عطارد.

وعطارد هو أقرب الكواكب للشمس، وهو أكثرها حرارةً. هو قطعةٌ من الجحيم بمعاييرنا الأرضية. وهو أيضاً ضابط ممن شهدوا اندحار الشرطة في 28 يناير 2011، في رواية محمد ربيع الثالثة التي تحمل ذات الاسم عنواناً لها.

في مفتتح الرواية، نراه ـ قبل الأحداث ـ ضابطاً شابّاً برتبة نقيب، يحقق في جريمة قتل غرائبية. في مشهد تختلط فيه الدماء باللحم البشري المطبوخ بالفضلات الإنسانية بشكل مثير للغثيان وهو ما سيطبع حياته فيما بعد وفي مستقبل متخيل، بقدر يرسمه السرد مستحضراً كلّ مفردات استطيقا القبح والعنف.

بعد عقد وعدة أعوام من تلك الأحداث، في قفزة سردية في الفصل التالي، نرى مصر تحت احتلال أجنبي فانتازي، وفلول الشرطة القديمة تتولى قيادة المقاومة الشعبية بين أطلال القاهرة، وقد تحولت معالمها إلى خرائب، وانقسمت بشطريها الشهيرين إلى جانب محرر غرب النيل في الجيزة، وجانب شرق النيل تحت سيطرة المستعمرين الجدد. جحيم يومي من القتل العشوائي، يكثّف ما شاهدناه من مجازر متفرقة تلت أحداث يناير الشهيرة. يتنقّل البطل بين جزئي المدينة في أنفاق صنعها الناس للعبور بين شطري المدينة. صروح الدولة المصرية العتيدة كمبنى "ماسبيرو" و"برج القاهرة" وقد صارت خرائب يعشش فيها جنود الاحتلال أو رجال المقاومة. شارع شريف بمصر فيه الوطنيين ومنطقة البورصة وقد تحول إلى مبغى كبير ما بعد حداثي... هي خيالات وهواجس "الثورة المضادة" وقد صارت واقعاً في مستقبل حالك. عطارد الآن وقد صار كهلاً، ينخرط كقناص في حركة المقاومة ضد المستعمرين الأجانب (جيش فرسان مالطا) في لعب صريح على خيالات نظرية المؤامرة السياسية كما في الأدبيات السيّارة.[1]

وتتنقّل الفصول بين لحظات زمنية متباعدة، بين اللحظة المستقبلية في امتداداتها، مع رجوع لأجواء عام 2011 الصاخبة حيث يخلق الكاتب شخوصا من هوامش تلك اللحظة كـ "رجل الكلاب" الذي يسير خلف قطيع من تلك الحيوانات لترشده عن أماكن الجثث التي سقطت في الأحداث فيجمعها في عربته ليقوم بدفنها...أو "رجل الزبالة" الذي يبدو كتنويعة على شخصية "زيطة صانع العاهات" لدى الأستاذ محفوظ، شخصية يريد أن يرسم الكاتب به أيقونة للقبح والقذارة... أو هو يغوص في أعماق المشارح المُترعة بالقتلى مع المدرس "إنسال" الذي يبحث لتلميذته الصغيرة عن أبيها الذي ضاع في الثورة. وتستطيل قصة هذه التلميذة، والمرض الغريب الذي يصيبها فيُحيلها إلى نوع من المسخ بلا عيون أو فم، كنتوء عمودي في السرد. وتبدو تلك الحكايات الصغيرة كنوافذ دلالية مفتوحة على التأويل.

تلك المراوحة بين زمن الثورة واللحظة المستقبلية في 2025 وما بعدها تبدو وكـأنها خيوط متفرقة من الزمن تتضافر وتمتد بتجانس. ولكن ثمة فصل يعود به الكاتب في التاريخ إلى عام 455 هـ وهو ما يبدو خارج السياق بشكل ما، التواء حاد في خط الزمن نحو العصور الوسطى، العصر الفاطمي تحديداً، لنرى مشاهد لأهوال غامضة، ربما تذكّر بأجواء "الشدة المستنصرية" وما حولها، ويبدو ذلك الفصل دليلاً سردياً لتدعيم الفكرة التي يستقر عليها وعي عطارد قرب نهاية الرواية، والتي كان "القديس" ضابط الشرطة زميله في المقاومة قد أوحى إليه بها في أحد النقاشات، وهي أن الجحيم قديم، ونحن نعيشه طوال الدهر دون أن ننتبه.

تلك الفكرة المغرقة في تشاؤميتها بشكل قد يستعصي على التصديق، هي لعبة روائية تنقذ السرد من تحوّله لمجرد أداة لدفع دراما المؤامرة السياسية، وهو الاتجاه الذي نعتقد أنه سيسود روائياً في ظلّ الأجواء التي تشهدها بلدان المنطقة في هذه الفترة، وانتكاس ما عُرف إعلامياً بالربيع العربي لا سيما في مصر.

ويبدو الكاتب، كعادته في روايتيه السابقتين: "كوكب عنبر" و"عام التنين" مسكوناً بجغرافيا المدينة، وهو ولع لا ينفيه أو يقلل منه الحال الخرائبي الذي صوره لمستقبل القاهرة، فأنت تتحرك مع الشخوص في خرائط شديدة الإخلاص للواقع وإن خيّمت عليها تلك الأجواء الكابوسية. كأنّه يقيس إمكانيات الواقع واحتمالات ترديه لا مشفقاً ولا متحسِّراً.

يواصل محمد ربيع في عطارد ما بدأه في روايته الثانية من فانتازيا سياسية تقارب اليوتوبيا المقلوبة "الديستوبيا" هذه المرة، في سرد يدمج التأمل في قلب الإيقاع اللاهث للأحداث الفادحة التي تتوالى، ويتنقل بين عوالم مستقبلية شديدة الإعتام، وماض كان مسكوناً دائماً بذلك الجحيم. وفي تطوّر لغوي سيدركه بسهولة متابع أعمال الكاتب السابقة. هي رواية عن الدماء، تستلهم حمرتها من غزارة ما أريق في السنوات الأربع الأخيرة. رواية عن الحياة البشرية وقد تدنت قيمتها لدرجة المجانية.


قراءة في الرواية

خطُّ الدم هذا يذكِّرني بأشياءَ كثيرة. هو مرسومٌ على الحائط، ليس عموديًّا بل يميلُ بزاوية صغيرة، وينتهي أعلاه بمنحنى حادٍّ ليعودَ طرفُه إلى الأرض، ونقاطٌ صغيرةٌ تتدلَّى منسابةً من طرف المنحنى وقوسه. يذكِّرني بالريشة الحُرَّة في ذيل النعامة، وبخطّ الماء الصاعد من مركز النافورة، وبمسار جمرات الألعاب النارية المنطلِقة في السماء.[2] الجزَّارُ كان محترفًا حقًّا، ضرب قائمتَي العجل الأماميّتين ضربةً واحدة بسكينه الضخمة، طرحه أرضًا، ثم مرَّر السكين نفسها على رقبته قاطعًا الحنجرة الوَردية ووعاءً دمويًا، لينبثق الدم خطًّا صافيًا يماثلُ تمامًا خطّ ماء النافورة. تحرَّك الخطّ ساقطًا بفعل الجاذبية، أفقيًا بفعل ضغط القلب، ليلاقيَ الحائطَ على بعد سنتيمترات قليلة فارتسم عليه، مسجِّلًا الشكلَ الكلاسيكيَّ لخطّ السائل الطائر. هذا الشكل الذي كان سيضيع إلى الأبد، تمّ الحفاظ عليه مرسومًا على الحائط.

أكل الكثيرون لحم عجل المذبوح، يُقال إنَّ بعض الناس يعتبرون اللّحم الطازج محرِّكًا للطاقة الجنسية، وتبدو الطقوس كلُّها مثيرةً حقًّا؛ الذبحُ، ورائحةُ الدم المختلِطة برائحة الروَث، وسلخُ العجل، ثم تعليقُ الذبيحة وتقطيعُها، ومشهدُ العشرات الواقفين في انتظار قطعة لحم، ومشهدُ الأطفال على الجانب وهم يأكلون قطعًا من الكبد النيء الذي لا يزال ساخنًا طريًا، وتعجُّل الواحد وهو يُمسك بالكيس البلاستيك الممتلئ باللحم وهو يرحل مبتسمًا، وجلستِي متابعًا كلَّ هذا مرتديًا ثوبًا أبيض، مسترخيًا من عناء شهور طويلة.

عطلة عيد الأضحى فرصةٌ طيِّبةٌ لتحطيم النظام الغذائيّ وللاسترخاء والتعرُّف على ما يحدث في الريف، وأيضًا لفَهم العَلاقة بين اللحم والجنس.

في المساء، تجمَّع الكثير من الفقراء. أَتوا ليأكلوا من المائدة الضخمة المُعدَّة لهم. جلسوا على الأرض متحلِّقين حول مفرشٍ أبيضَ ناصع، وأطباق فارغة ذات أشكال متعدِّدة موضوعةٍ أمامهم، ثم طاف عاملٌ لدى أهل البيت عليهم، يغرف من قِدرٍ ضخمٍ يحمله زميلُه قطعتين من اللحم لكلِّ واحد، يُخرجهما بيده العارية، ولا ينحني ليضعَهما في الطبق، بل ينتظر أن يرفعَ الواحد منهم طبقَه إليه فيترك القطعتين لتسقطا فيه. ويبدأ الأكل فورًا، لحمًا مسلوقًا مع قِطَعِ دُهنٍ كثيرة، لحمًا رماديًّا ودهنًا أبيض، كلُّ هذا بدا لي مقزِّزا، لكنَّ الآكلين كانوا مستمتعين للغاية.

على الحائط أمامي ارتسم خطّ دم يطابقُ ما شاهدته قبل أيّام، يوم العيد في بيت العائلة.

هذه المرَّة انبثقَ من وريد شابّ في السادسةَ عشرةَ. بين السرير والحائط، في الفرجة الضيّقة التي لا يتعدَّى عرضُها خمسين سنتيمترًا، انحشرت جثَّته بوضع شديد الغرابة؛ الرأس مائلة والفم مضغوط لكنّه فاغرٌ والذراعان مرفوعتان لأعلى، بينما الكفّان نصف منقبضين، والأغرب أنّ الساقين كانتا مرفوعتين لأعلى أيضًا، الركبتان قرب الوجه، إحداهما مكسورة والساق تتدلَّى منها ببؤس ملتصقة بجانب الجثمان. على الحائط الآخر ارتسم خطُّ دمه واضحًا للعين. بدا لي أنّ أصحابَ البيت قد أعادوا طلاء الحوائط مؤخّرًا، لونها السكريّ متجانسٌ وواضح بلا شوائبَ ولا آثارٍ لبصمات أصابع أو احتكاكِ أثاث، حائط ذو لون واحد يصلح كخلفِية للرسم أو الكتابة. وخطُ الدم يُظهر لونه أكثر وأكثر.

كنتُ وحيدًا؛ باندفاعٍ أهوجَ ذهبتُ إلى حيث العنوان المبلَّغ عنه، وجدتُ ضبّاط النجدة وقد سبقوني إلى هناك، وقف بعضهم في ارتباكٍ شديدٍ في صالة البيت، وبعضُهم خارج الشقّة على السلم، لم يدخل أحدهم إلى الغرف، فقط نظروا من خلال الأبواب المفتوحة إلى ما فيها، وكانوا حريصين حقًا على عدم لمس أيِّ شيء، لم يكن هذا لحرصهم على نظافة مسرح الجريمة كما تقتضي القواعد، بل لأنَّهم كانوا خائفين. عرفتُ ذلك حينما نظرتُ في عين أوّلهم، أعلم تمامًا منظر عيني ضابط الشرطة الخائف، منظر لا يمكن وصفه، فقط نعرفه ونتبادله في ما بيننا، نعترف بخوفنا بلا كلام، نوزِّع المسؤولية على الحاضرين من أهل الثقة بتلك النظرة. وقفت في الموقف ذاته مرَّات عديدة، وتعرَّضت للخوف نفسه، ووزَّعت المسؤولية على الزملاء مستخدمًا النظرة نفسها، وتحمَّلتُ المسؤولية وحيدًا في أحيانٍ قليلة، وأعرفُ حجم الضغط الناتج عنها. لذلك حاولت رسم النظرة المطمئنة حينما دخلتُ، كنتُ لا أعرف ما حدث في الشقّة بالضبط، قيل لي إنّ الأب قتل عائلته، وأعددتُ نفسي لدمٍ كثير، لكنّ نظرةَ الضابط أوحت لي بما هو أكبر من ذلك، لوهلة انتقل جزء من خوف الضابط إليَّ، وبدا لي أنَّ الخوف سيقيم طويلًا هنا.

كان صاحبُ البيت قاعدًا أمام التلفزيون في الصالة، يغطّي كتفَيه ببطانية خفيفة، ويحدِّق في شاشة التلفزيون، ويبدو أنَّه يأكل من طبق يحمله بين يديه، ورجلٌ طاعنٌ في السنِّ يجلس على كرسي وثير، كفّاه في حجره ورأسه تستندُ إلى ظهر الكرسي. من نظرة واحدة عرفتُ أنه ميِّتٌ منذ ساعات، كان الرجل يتابعُ فيلمًا قديمًا في التلفزيون، إسماعيل ياسين يرقصُ في بارٍ شعبي، يغنِّي للخمرة، ويشاركُه الجمهورُ الغناء. الرجل يأكل بالمِلعقة من الطبق بِنَهمٍ، كانت الرائحة قاتلة، عفنٌ وخراءٌ ولحمٌ مطبوخ وقيء، ولمحتُ الخراء متجمِّدًا على الكرسي تحت الميت، وعلى الأرض قرب قدَميه، والآخر قد فرغ من الطعام ووضع الطبق إلى جانبه وتابع مشاهدة الفيلم. حينها تأكَّدتُ أنّ خوف الزميل كان ردَّ فِعلٍ ساذَجًا على ما رأى.

أخبرني الزميلُ أنّ هناك أربعَ جثث؛ الفتى في الغرفة الأولى، وأختَه الكبيرةَ في الغرفة الثانية، والأمَّ وولدًا صغيرًا في الغرفة الثالثة. ماتوا بضربات ساطورٍ منزليّ، وجَّهها الأبُ، القاعدُ أمام التلفزيون. تخشُّبُ الجثث ورائحةُ النتانة أوحيا بأنّه قتلهم منذُ يومين أو ثلاثة تقريبًا.

كانت الفوضى عارمة في المطبخ، قدورٌ، وأوعية مُلقاة على الأرض وفوق الطاولة، ورائحةٌ منتّنة، وبقعُ قيءٍ متجمِّدٍ على الأرض، وخراءٌ في كلّ مكان.

في الغرفة الأولى تسمَّرتُ أمام جثّة الفتى العالقة بين السرير والحائط، وبعد دقيقة أدركتُ أنِّي أفقدُ الوعي ببطء، أفقدُه وأنا أعي ذلك، تحرَّكتُ مندفعًا خارج الغرفة وخارج الشقّة، كانت الشقّة في الطابق الأخير فصعدتُ السلم حتّى وصلتُ إلى السطح، هناك تحت النجوم المخنوقة بالهواء الملوَّث تقيَّأتُ.

كان الغثيانُ قد تملَّكني تمامًا، ولم أتمكَّن من الوقوف فجلستُ على الأرض المتَّسِخة محاولًا السيطرةَ على معدتي، هيئةُ الفتى الغريبة، وجسدُه المتخشِّب ووجهُه المواجِه الحائطَ، كلّ هذه صارت صورًا ماثلة في ذهني لا تروح، وكأنّها حُفرت في ذاكرتي إلى الأبد. واستدعت، بكلِّ أسفٍ، صورَ كلِّ جثمانٍ رأيتُه منذ أن عملت في هذه المهنة؛ الوجوهَ البائسةَ والأفواهَ الفاغرةَ، والأعينَ نصفَ المنغلقة مستسلمةً للموت. حاولتُ استنشاقَ هواءٍ نظيف غيرِ ذلك المُحمَّل بالنَّتانة في الشقّة، ملأتُ رئتيَّ به لأقصى درجة. كانت غشاوة رمادية تحجب النجومَ والقمر عنِّي، ونظرتُ في السماء، ورأيتُ بين النجوم ابنتيَّ وزوجتي، ورأيتُ أسماءهنّ مكتوبةً تحت صورهنّ في الصحف. الزوجة عبير عبد الحقّ 37 سنة، والطفلة فريدة 11 سنة، والطفلة سالي 4 سنوات. ورأيت صورتي معهنّ، النقيب أحمد عطارد. كان الخبر بلا عنوان وبلا تفاصيل، فقط خطوطٌ سوداء في موضع الكتابة تحت الصور، غيرُ واضحةٍ ولا أفهم منها شيئًا. لكنّي كنت أعرف أنّ هذا خبر قتلي لهنّ، ولم أعلم أبدًا لِمَ كنت واثقًا إلى هذا الحدِّ أنِّي سأقتلُهم قريبًا، وأنِّي سوف أُغيِّر مصيرَهم إلى مصيرٍ أفضلَ ولو كان موتًا. ثم رأيتُ أنِّي سأقتل الكثيرين، وأنَّ عددًا هائلًا من الناس سيُقتلون لكنِّي لن أشترك في قتلهم، ورأيتُ أنَّ الناس ستقتلُ أبناءها وستأكل لحومهم، ورأيتُ أنَّ الرجل القاعدَ يأكل الطعامَ، ويتفرَّج على التلفزيون قد حطَّم آخرَ الأختام وأطلق العِنان لكلِّ ما سيحدث. رأيتُ كلَّ هذا ولم أفهم أيَّ شيء. رأيتُه قبل أن أدخل باقي الغرف، وقبل أن أرى باقي الجثث، وقبل أن أرى ما سجَّله الرجلُ على كاميرا تليفونه.

أثبتتِ التحقيقاتُ والاعترافات أنَّ الأبَ قتلَ عائلتَه بالساطور، ثمّ انتظر عِدّةَ ساعاتٍ رَيثما يحضِّرُ لما بعد ذلك، أعدَّ سكينًا صغيرًا، وقدورَ طهيٍ متعدِّدة، وقطَّع بصلًا، وقشَّر ثومًا، وعصر مقدارًا كبيرًا من الطماطم. ثم، بسكينه الصغير الحادّة، قطّع شفاههم وأنوفهم وآذانهم، واقتلع أعينَهم، ثم قطع أجزاءً صغيرة من السواعد والأفخاذ، واستأصل ثديَي زوجته، ووضع الأعين في قِدرٍ صغيرة، والآذان والشِّفاه في قِدرٍ أكبر، وقطع اللحم في قدر ثالث، والثديين وضعهما في وعاءٍ من الفُخَّار، وأضاف ما قطَّعه من بصلٍ، وثوم، وطماطم إلى القدور، وطبخ كلَّ هذا في مطبخه. تصاعدت رائحة الطعام تشيرُ إلى طبخ لحم عيد الأضحى فلم يرتَبِ الجيرانُ في شيء، وردَّ الرجل على اتصالات الأهل متقبِّلًا تهانيهم، بل واتّصل ببعضهم مهنِّئًا إيَّاهم بالعيد، وعندما سألوه عن العائلة، قال إنّ أولاده خرجوا وزوجته تستحم.

لكنّ الأب كان حريصًا على رضا الجَدّ الذي رأيتُه ميتًا بجانبه. أخبرنا الأبُ أنّه سجَّل مشاهد كثيرة على كاميرا التليفون وعلى كاميرا فيديو. كنَّا قد أفرغنا كلَّ التسجيلات قبل أن يعترف بهذا، وضممنا كلَّ شيء إلى ملفّ القضية. بدا الأمرُ سهلًا جدًّا بوجود التسجيلات العديدة. كانت قضيةً نظيفة بلا أيّة تعقيدات، قضيةً كانفيها حكمُ إعدام الأب مضمونًا. ولولا التفاصيلُ الخاصّة بالأكل، لكانت قضيةً كلاسيكيةً عاديّة.

كان معظم ما حدث مسجَّلًا بالكاميرات، وجدنا تسجيلًا للأب وهو يقطع قسمًا من فخذ زوجته، وتسجيلًا آخرَ وهو يقطع، في طقوس استعراضية، ثدييها. وتسجيلًا وهو يقطع ببطء وهدوء أنوفًا وآذانًا وأعيُنًا. عدا الابن الأكبر، فقد تركه كاملًا. قال الأب إنّ الفتى قاومه كثيرًا، ومات وهو يعاني، لذلك لم يستحقّ التقطيع. ثم تسجيلًا آخرَ وهو يضع كلَّ نوع من اللحم في قِدر، ثم يضيف الخضر والإضافات الأخرى ويقلِّب كلَّ شيء. وتسجيلًا طويلًا للوعاء المَعدِنيّ وغطائه الزجاجي واللحم ينضج على مَهَلٍ فيه، وكان أطول تسجيل في المجموعة كلِّها.

لكنَّ أفظع الصور كانت لأبيه، للجَدّ الميّتِ غارقًا في أوساخه على الكرسيِّ الوثير.

استقرّت الكاميرا على الحامل الثلاثي، بدت هذه المجموعة من التسجيلات أنقى، وأوضح من الأولى المأخوذة بكاميرا التليفون، احتلَّ الأبُ والجَدّ الكادر كاملًا، وظهر الأب وهو يحاول إطعامَ الجَدّ من طبق في يده. كان يُمسكُ الطبق بيسراه ويقرِّبه من الجَدّ، ويرفع مِلعقةً تحوي القليلَ من اللحم. نظر إليه الجَدّ غاضبًا، وضرب الطبق بكفِّه، وصرخ في وجه الرجل، لم نفهم ما قاله من فرط غضبه. في تلك اللحظة من التحقيقات كان كلُّ شيءٍ واضحًا تمامًا، لكنّنا كنَّا بحاجة إلى تفسير أو توضيح أو حتّى إشارة إلى دوافع الحادث. وأتت حكاية الجَدّ الغاضب لتُذهل الجميع. تبيَّنَ أنّ الجَدّ لا يتحرَّك، سِنُّه أقعدَه، وأنّه كان يعلم بما يفعله ابنُه لكنّه لا يملك أيَّ حيلة لمنعه. كان يعلم بأنّه يقطِّع لحوم أحفاده واحدًا تلوَ الآخر، ولا بدَّ أنّه علم بأنّه طبخ اللحم. ويبدو أنَّ أقصى ما استطاع عمله هو ضرب الطبق بكفّه ليطيرَ ساقطًا بعيدًا عن الاثنين. هذا كلّ ما استطاع فعله.

في التسجيلات التالية كان الأب يحاول إقناع الجَدّ بالأكل، كان يدفعُه إليه دفعًا، كان يهمسُ له بكلام لم نسمعه. ولم نتصوّر ما يُمكن أن يُقال ليقنع واحدٌ أباه بأكل لحوم أحفاده. كان ردُّ الجَدّ منفعلًا جدًّا في البداية، كان يصرخ: «أنتَ كاذب... لا تقل هذا...». كان الأب يردُّ عليه في هدوء وهمس، والجَدّ يتحوَّل من الغضب إلى الأسى، ومن الصراخ إلى البكاء ثم النحيب. كان كلَّما كلَّمه الرجل، زاد نحيبه، وانتهى التسجيل والجَدّ يهمس: «كفاية... كفاية...».

كان التسجيل التالي بعد عدّة ساعات، وكان قد مرَّ على جريمة القتل يومٌ كامل، والأب والجَدّ في موضعهما السابق نفسِه، والجَدّ يحاول إجبار نفسِه على الأكل من طبق يمسكه الأب، كان يُمسك بالملعقة ويقرِّبُها من فِيه، وهو يقول: «هذا أفضلُ لهم... حسن... لكنّي لا أقدر... صعب... أَكلُهم صعب... قتلُهم صعب...». ثم أخذ ينهنه كالأطفال، وتناول أّوّل مِلعقة.

كان الجَدُّ يبكي بين كلّ ملعقة وأخرى، كان يأكل وهو يقول: «هذا أفضل... أبٌ صالحٌ وجَدّ صالح... سيذهبون إلى الجنّة بالتأكيد... لن يعودوا إلينا...». ثم أنهى أوّلَ طبقٍ وصمَتَ بعد ذلك، لكنّه استمرّ في الأكل بطريقة آليّة غريبة، أنهى خمسة أطباقٍ في أقلَّ من نصف الساعة. وانتهى التسجيل وهو يضع الطبق الفارغ في يد الأب.

بعد التشريح عَلِمْنا أنّه مات بسبب تسمّم حادّ، وأنّه أخرج طوفانًا من الإسهال والقيء قبل أن يموت، ولا بدّ أنَّ الأبَ رآه وهو يموت من دون أن يتحرَّك، كان الاثنان في مَهمَّةٍ انتحارية لأكل القتلى، الجَدُّ مات من فوره والأبُ استمرَّ يأكل حتّى بعد أن دخلْنا الشقّة. كان الأب يأكل ثم يقوم ليتبرَّز في أيّ مكان. خلال خمسة أيام، لم يهتمّ بنظافة جسده أو بنظافة المكان. عَلمْنا بعد ذلك، من تقرير الطبيب الشرعي، أنّ الاثنين استهلكا أكثر من خمسين كيلوجرامًا من اللحم.

في اليوم السادس، اتّصل أحدُ الجيران بشرطة النجدة بعد أن أزعجته الرائحة العَفِنة الخارجة من شقّة الجار. فتح الرجل الباب للضبّاط المتحفِّزين بهدوء، ثم عاد ليجلسَ أمام التلفزيون، مكمِلًا الطبقَ الأخيرَ من الوليمة التي استمرَّت طوال أيّام العيد.

كلُّنا نعلمُ. القاتلُ لا يُمسُّ، بل يُعامل بلطف كبير، الضبّاط والعساكرُ والمساجينُ يعاملونه معاملة الميِّت، خصوصًا إذا أتى معترِفًا، ولم يحتَدّ أو يصرخ في وجه واحد منا، هذا رجلٌ يمشي نحو المشنقة بإرادة كاملة، لنتركه يمشي.

خلال المحاكمة، لم يسأله القاضي أسئلة كثيرة، بخلاف سؤاله المتكرِّر إن كان قد قتل عائلته أم لا؟ اعترف الرجل في الجلسة الأولى بما قام به، وكرَّر الاعتراف أكثر من خمسين مرَّة خلال الجلسات التالية، غِلظة القاضي وسؤاله الفجُّ المتكرِّر لم يتماشيا مع تفاصيل القضية مطلقًا؛ فتح الرجل باب شقّته بنفسه، واستسلم لرجال الشرطة، لم يبدِ أدنى مقاومة، اعترف أمام النيابة، واعترف أمام القاضي. ولم أعرف ما سبب سؤال القاضي المتكرِّر في كلّ جلسة: «هل قتلتهم؟». وعندما طلب منه القاضي كتابة اعترافه، قدّم اعترافًا مكتوبًا بخطِّ يده، خطُّه كبيرٌ وواضح، الكلماتُ بلا أخطاءٍ أو شطب. ربَّما كان فخورًا باعترافه هذا. وفي تفصيلة وحيدة لم يقف عندها الجميعُ كثيرًا، قال الرجل إنَّه قتل عائلته؛ لأنّه خسر أموالًا كثيرة في البورصة، ولا سبب غير ذلك.

لكنَّ أداءه لم يحمل أيَّ حزن، بل لم يحمل أيَّ شعور. كان كالميِّت الحيِّ طوال جلسات محاكمته، لا يستمع إلى ما يدور حوله، بدا هجوم وكيل النيابة مضحكًا والاعتراف مسجلٌ أمام شهود عديدين، ومكرَّرٌ عدَّة مرّاتٍ. وبدا كلام الدفاع أكثر إضحاكًا. كلّ شيء مضحكٌ في تلك المحاكمة، حتّى القاضي الذي أصرّ على سماع الاعتراف أكثرَ من خمسين مرَّة، والذي طلب اعترافًا مكتوبًا، والذي أخرج الرجل من قفص الاتهام في الجلسة الأخيرة، وأعطاه ورقة الاعتراف، وسأله إن كان هذا اعترافه فأجاب: «نعم»، ثم سأله إن كان هذا خطَّ يده فأجاب: «نعم». وسأله، للمرَّة الأخيرة، إن كان قد قتل عائلته فأجاب: «نعم». إصرار هذا القاضي بدا مضحكًا.

وحدَه الرجل لم يبدُ مضحكًا، لكنّي لم أعرف أبدًا بما أصفُه.

تعجَّب الناسُ، كلُّهم تعاطفوا مع القاتل، قاتلُ أسرته هذا رجلٌ من الطبقة المتوسِّطة، ميسورُ الحال، يعمل في وظيفة مرموقة، لا يتعاطى المخدَّرات، يدخِّن السجائر فقط، يملك شقّة كبيرة في حيٍّ راقٍ، ويملك سيَّارتين، وأبناؤه يدرُسُون في مدارسَ أجنبية، وابنتُه الكبرى تخرَّجت من جامعة خاصَّة بتفوّق. هذا المثل الأعلى للطبقة المتوسِّطة السعيدة، الرجل ذو المستقبل المؤمَّن، يحسدُه الكثيرون على حياته المستقِرَّة وعائلته الجميلة. مع ذلك، لم يتساءل واحدٌ من المتعجِّبين عن سبب ما حدث، لم يحلِّل علماء النفس والاجتماع ما حدث، بالطبع كانت حجّة الخسارة في البورصة واهيةً جدًّا، أضعف من أن تقدّمها النيابة كدافع للجريمة، ولولا أنّ الرجل أرفقها باعترافٍ تفصيليٍّ بما فعل، لكان مصيرُها الزبالة. تلقّفتِ الأفواهُ في برامج التلفزيون حكايته، لكنَّ أحدًا لم يسأل عن السبب الحقيقي، وأتبعوا فقرةَ الحديث عن الرجل بأغانٍ وتحقيقات عن عروض أزياء، وحوارت سياسية عديدة. حتّى أنا لم ألتفت يومًا إلى السبب الحقيقي مع علمي بأنّ خسارة البورصة سببٌ زائف.

كنتُ أتابع القضية باهتمام بالغ، أحضر كلَّ الجلسات في انتظار مفاجأةٍ أو تغييرٍ دراميٍّ في مَجريات الأحداث. كنتُ أحدِّق في وجه الرجل القاعد في قفص الاتهام، باحثًا عن صورة كاملة لوجهه في ذاكرتي، لم أكن أتذكَّرُ إلّا قفاه وكتفَيه والبطانية تغطيهما، ولم أنجح في اختزان صورة له إلّا تلك. حتَّى خلال التحقيقات، وهو جالسٌ أمامي وإلى جانبي، أراه بوضوح وليس بيني وبينه سوى مكتبي، كلُّ هذه الصور راحت تمامًا ولم تثبت في ذاكرتي إلّا صورتُه وهو جالسٌ أمام التلفزيون.

كنت ذاهبًا إلى المحكمة في إحدى جلسات المحاكمة الأخيرة حينما تعطَّلت سيّارتي، واضطررتُ لإيقاف تاكسي كي يوصّلني إلى مقرِّ المحكمة، وصلتُ متأخِّرًا، كانت الجلسة قد بدأت بالفعل، ولا أذكرُ أكان هذا دور وكيل النيابة أم دور الدفاع؟ كانت المحاكمة قد انتهت، وما بقي مجرَّد شكليّات يهتمُّ بها القضاء المصري كأيّ قضاء، كي يُنهيَ الأمرَ في صورة أنيقة، مؤبَّدٌ أنيق، إعدامٌ مهيب، كان كلُّهم يعلم أنّ القاضي سيرسل، في إحدى الجلسات، أوراقَ المتّهم إلى المُفتي. ولن يغيِّرَ رأيَ المُفتي قناعة القاضي، ثم في الجلسة التالية سيحكم القاضي بإعدام المتّهم.

أجَّلتُ دخولي رَيثَما أنتهي من سيجارة سريعة، وكوب شاي صغير، ارتشفتُ رشفةً من الكوب، ووجدتُه مرًّا دونَ سكّر، فطلبت سكّرًا من الساعي، الذي اعتذر مبتسمًا، وأتاني بالسكّر مع مِلعقة صغيرة، قلَّبتُ الشايَ، وانشغلت لدقيقة بتليفوني. كنت قد تأخَّرت كثيرًا، وفكَّرتُ أن جلسة المحاكمة في منتصفِها الآن، عندما عاودت الإمساك بكوب الشاي، عازمًا على إنهائه بعدّة رشفات فقط. وجدت خنفساء سوداء تطفو في الكوب؛ جعران ميّت.

تعلَّقت عيناي بالحشرة الساكنة وتذكَّرتُ أنّ الكوب كان خاليًا منها، ربَّما سقطت هنا في أثناء انشغالي بالتليفون، وماتت غرقًا أو من شدَّة سخونة الشاي. وهكذا ألقيت ما في الكوب على الأرض، كانت أوراق الشاي المفرومة تتحرَّك مع السائل الأحمر على رخام الأرضية، والجعران الذي تدحرج إلى مسافة بعيدة راح يتحرّك. لم يكن الجعران ميّتًا إذن.

طلبت من الساعي ما هو جاهز، قهوةً، شايًا، أيّ شيء. وأخبرني أنّ أحدهم طلب قهوة ثمّ مشى مبتعدًا. قال لي إنّ القهوة جاهزة الآن، وكأنّها قد صُنعت خصِّيصًا لي.

صبَّ الساعي القهوة بهدوء، وأمسكَ بالطبق الصغير عليه الفنجان فتناولته منه. وتبرَّع بالكلام: «هذا فنجان قهوة مخلوطة بالأمل.. الأملُ مهمٌ.. الرجل قاتلُ عائلتِه فقدَه.. ولهذا قتلهم..».

في ختام تلك الجلسة، رأيتُ الرجل يمشي خارجًا من القفص، شعرُه مصفَّف وملابسه بيضاء نظيفة، كان يمشي مشيته المعتادة منذ أن رأيته أوَّل مرَّة، لكنِّي اليوم فقط لاحظت ما يميِّز مشيته بالفعل، كان يمشي فاقدًا كلَّ أمل.

المصادر

  1. ^ الصفحة الشخصية لمحمد ربيع على فيسبوك
  2. ^ "مدخل رواية جديدة للروائي محمد ربيع". مدى مصر. 2014-10-21. Retrieved 2015-02-12.