سوريا (مقاطعة رومانية)

تقوم على شاطئ البحر الأبيض المتوسط في جزئه الشمالي مُدن فينيقيا القديمة التي كانت هي وفلسطين جزءاً من ولاية سوريا الرومانية. وقد ظلّت هذه المُدن حية طوال الحقبة التي دامت ألف عام مليئة بالأحداث الجسام وذلك بفضل عمالها المجدّين البارعين في الصناعات اليدوية، وبفضل موقعها الذي جعل فيها على مر الأيام مرافئ تجارية هامة، وتجّارها المهرة الأغنياء الذين كانوا يرسلون سفنهم وعمّالهم إلى كل مكان معروف على ظهر الأرض. وكان في صور مبانٍ أعلى من مباني روما(49). وأحياء أقذر من أحيائها تفوح منها روائح مصانع الصباغة الكريهة، ولكنها كانت تُعزّي نفسها باعتقادها أن العالم كله يبتاع منسوجاتها ذات الألوان المتعددة الجميلة، وبخاصة حريرها الارجواني. والراجح أن صيدا قد كشفت طريقة صنع الزجاج بالنفخ، وأنها تخصصت وقتئذ في صناعة الزجاج والبرنز، واشتهرت برنيس (بيروت) بمدارس للطب والبلاغة والقانون، وأكبر الظن أن أبيان وبابنيان المشترعين العظيمين قد تخرّجا في جامعتها ثم انتقلا منها إلى روما.

Provincia Syria
ἐπαρχία Συρίας
Province the Roman Empire
64 BC–198 AD
Roman Empire - Syria (125 AD).svg
Roman Syria highlighted in 125 AD
العاصمةAntioch
(modern-day Antakya, Hatay, Turkey)
التاريخ
التاريخ 
• Conquest of Coele-Syria by Pompey
64 BC
• Province divided into Coele Syria and Phoenice
198 AD
سبقها
تلاها
Seleucis of Syria
Coele-Syria
Herodian Tetrarchy
 Iturea
 Trachonitis
Coele Syria (Roman province)
Phoenice (Roman province)
اليوم جزء من
الامبراطورية الرومانية في عهد هادريان (حكم 117-138 م)، توضح، في غرب آسيا، المقاطعة الإمبراطورية سوريا، وفيها 4 فيالق منشورة في 125.
مقاطعة سوريا موضحة
فسيفساء رومانية من أنطاكية (تفصيل)، متحف اللوڤر.

ولم يكن في الإمبراطوريّة كلها ولاية تفوق سوريا في صناعاتها ورخائها، وكان يعمرها في زمن تراجان عشرة ملايين من الأنفس وإن كان سكانها الآن لا يزيدون على ثلاثة ملايين ولا يكادون يجدون ما يكفيهم من أسباب العيش(50). وكان في الولاية نحو خمسين مدينة تستمتع بالماء النقي، والحمّامات العامة، والمجاري الممتدة تحت الأرض، والأسواق النظيفة، ومدارس التدريب الرياضي، وساحات الألعاب، والمحاضرات، والموسيقى والمدارس، والحياكل، والباسلقات، والأروقة المعمّدة، والأقواس، والتماثيل العامة، ومعارض الفن العمومية، وهي المظاهر التي كانت تمتاز بها المُدن الهلنستية في القرن الأول بعد الميلاد(51). وكانت أقدم هذه المُدن كلّها مدينة دمشق القائمة وراء جبال لبنان المواجهة لصيدا، وكانت تحميها الصحراء المحيطة بها. وقد أحالتها إلى حديقة غناء روافد وفروع لذلك المجرى الذي سمّاه الأقدمون "نهر الذهب" اعترافاً منهم بفضله. وكانت تلتقي عندها كثير من طرق القوافل، وتفرّغ في أسواقها غلات قارات ثلاث.

وإذا عاد المسافر في هذه الأيام فعبر تلال لبنان الصغرى واتجه نحو الشمال في طرق متربة أدهشه أن يجد في قرية بعلبك الصغيرة بقايا هيكلين فخمين ومدخل عظيم، كانت في يوم من الأيام مما تفخر به هليوبوليس مدينة الشمس اليونانية-الرومانية-السوريّة. وأسكن أغسطس في ذلك المكان جالية رومانية صغيرة، ثم نمت المدينة وازدهرت وصارت مركز عبادة بعل إله الشمس وملتقى الطرق الذاهبة إلى دمشق، وصيدا، وبيروت، وأقام المهنسون والبنّاءون الرومان، واليونان، والسوريّون في مكان هيكل بعل الفينيقي القديم مزاراً فخماً لجوبتر الهليوبوليسي، أقاموا كل جدار من جدرانه من حجر واحد ضخم قطعوه من محجر يبعد عن موضعه مسافة ميل. وكانت إحدى كتله الحجرية تبلغ اثنتين وستين قدماً في الطول وأربع عشر في العرض، وإحدى عشرة في الارتفاع، وفيها من المادة الحجرية ما يكفي لبناء بيت رحب. وكانت إحدى وخمسون درجة من الرخام يبلغ عرض الواحدة منها مائة وخمسين قدماً تؤدي إلى المدخل الكورنثي العظيم، فإذا اجتاز الإنسان البهو الأمامي والبهو الذي يليه المعمّدين وجد البناء الرئيسي للهيكل، وقد بقي منه حتى الآن ثمانية وخمسون عموداً تعلو في الجو اثنتين وستين قدما. وبالقرب من هذا الهيكل الكبير بقايا هيكل أصغر منه، يُقال أحياناً إنه كان هيكل فينوس وأحياناً باخوس، وأحياناً دمتر. وقد أبقى الزمان على تسعة عشر عموداً من عُمَده، وعلى باب جميل دقيق النقش. وتتألق هذه العُمَد الفخمة المنعزلة في شمس السماء الصافية، وهي من أجمل ما بقي من مخلّفات العصور السالفة. وإن المرء حين يشاهدها ليحس، أكثر مما يحس حين يشاهد أي أثر من آثار روما، بعظمة الإمبراطوريّة الرومانية، وبما فيها من ثراء، وشجاعة، ومهارة، وذوق جميل أمكنها بها أن تشيّد في مُدنها الكثيرة المتفرّقة هياكل أعظم وأكثر فخامة مما عرفته العاصمة المزدحمة في أي عصر من عصورها.

وتقع على منظر كهذا عين السائح الذي يتجه نحو الشرق ويعبر الصحراء من حمص، إمسا Emessa القديمة، إلى تَدمُر التي ترجم اليونان اسمها إلى پالميرا Palmyra أي المدينة ذات الألف نخلة. وقد كانت أرضها الخصبة المحيطة بعينين نضاختين، وموقعها الحسن على الطريقين الممتدّين من حمص ودمشق إلى نهر الفرات، سبباً في ثرائها، فلم تلبث أن أصبحت من أكبر مدائن الشرق؛ وقد أمكنها بُعدها عن غيرها من المحلات أن تحتفظ باستقلالها الفعلي رغم تبعيّتها الاسمية للملوك السلوقيين أو للأباطرة الرومان. وكان على جانبي شارعها الأوسط الرئيسي أروقة ظليلة تحتوي على 454 عموداً، وفي مواضع تقاطعه الأربعة أقواس فخمة بقي منها واحد حتى الآن شاهداً على ما كانت عليه بقية هذه الأقواس من عظمة وجلال. وكان أجمل مباني المدينة كلها وأعظمها هيكل الشمس الذي شُيّد في عام 30م. للثالوث الأعظم: بعل، وبرهبول (الشمس) وأجلبول (القمر). وكان حجمه أطراداً لتقاليد الأشوريين في الضخامة، وكان بهوه، وهو أكبر الأبهاء في الإمبراطوريّة الرومانية، يحتوي على صف من العُمَد لا مثيل له في بلد من بلادها، طوله أربعة آلاف قدم، وكان الكثير منها عُمَداً كورنثية مرتّبة صفوفاً في كل منها أربعة. وكان في داخل البهو والهيكل رسوم ملوّنة ومنحوتة يدلّ ما بقي منها على اقتراب تدمر من بارثية في الفن كقربهما في المكان.

ويبدأ من تدمر طريق رئيسي يتجه نحو الشرق ويصل إلى نهر الفرات عند دورا اوروپوس Dura-Europus. وهنا اقتسم التجار (عام 100م) مكاسبهم مع الثالوث التدمري بأن شيدوا له هيكلاً كان مزيجاً من الفن اليوناني والهندي؛ وزيّن مصور شرقي جدرانه بمظلمات تدل أوضح دلالة على أن الفن البيزنطي والفن المسيحي الأول من أصل شرقي(52). وكان على النهر الأعظم شمال هذه المدينة مدينتان أخريان ذواتا شأن عند مُلتقى طريقين بريين كبيرين وهما مدينتا ثبساكس Thapsacus وزئوگما Zeugma. وإذا اتجه المسافر من ثبساكس نحو الغرب مرّ بمدينتي بروئيا Beroea (حلب) وأپاما Apamea ووصل إلى البحر الأبيض المتوسط عند لاوديقيا Laodicea - التي لا تزال تحتفظ باسمها القديم اللاذقية مع تحريف قليل فيه، ولا تزال أيضاً ثغراً ناشط الحركة. وبين هذه البلدة وأباميا يتجه نهر العاصي نحو الشمال وتمتدّ على شاطئيه ضياع غنية حتى يصل إلى إنطاكية عاصمة سوريا في ذلك الوقت. وكان النهر تعاونه شبكة عظيمة من الطرق البرية يحمل بضائع الشرق إلى إنطاكية، بينما كانت سلوقيا پييريا Seleucia Pieria ثغر البلاد الواقع على البحر الأبيض على بُعد أربعة عشر ميلاً من أنطاكية نحو مصب النهر تأتي إليها بحاصلات الغرب. وكان الجزء الأكبر من المدينة يقوم على سفح الجبل ويشرف على نهر العاصي الذي يجري من تحته. وكانت المدينة ذات موقع جميل استطاعت إنطاكية بفضله أن تنافس رودس في أن تكون أجمل مدائن الشرق الهلنستي. وكانت شوارعها تضاء بالليل فتكسبها بهجة وجمالاً، وتؤمن سكانها على أنفسهم وأموالهم، وكان شارعها الرئيسي البالغ طوله أربعة أميال ونصف ميل مرصوفاً بالحجر الأعبل، ويقوم على جانبه صفّان من العُمَد المسقّفة، فكان في وسع الإنسان أن يسير راجلاً من أحد طرفي المدينة إلى طرفها الآخر وهو آمن من المطر وحر الشمس. وكان الماء النقي يصل بمقادير موفورة إلى كل بيت من بيوتها. وقد اشتهر سكانها البالغ عددهم 600.000 والذين كانوا خليطاً من اليونان، والسوريين، واليهود بإفراطهم في اللهو والمرح، يعبون اللذات عباً، ويسخرون من الرومان المتباهين الذين جاءوا ليحكموهم، والذين يقضون أوقاتهم بين حلبة الألعاب، والمدرج، والمواخير، والحمّامات، ويستمتعون بكل ما يتيحه لهم دافنه Daphne بستانهم الشهير القائم في ضاحية المدينة. وكان للأهلين أعياد كثيرة، تستمتع أفرديتي بنصيب فيها كلها. وفي عيد بروماليا Brumalia الذي كان يدون معظم شهر ديسمبر، كانت المدينة كلها، كما يقول كاتب معاصر، تبدو كأنها حالة واحدة، وكانت الشوارع تعجّ طول الليل بالغناء والقص والمرح(52). وكان فيها مدارس لتعليم البلاغة، والفلسفة، والطب، ولكنها لم تكن مركزاً علمياً، ذلك أن أهلها كانوا يقضون يومهم كله في العمل، فإذا احتاجوا للذين لجأوا إلى المنجّمين، والسحرة، وصنّاع المعجزات، والمشعوذين.

والصورة التي تطالعنا لسوريا تحت حكم الرومان هي صورة البلد الرخي رخاء أدوَم من رخاء أي ولاية أخرى من ولايات الدولة الرومانية. وكان معظم أهلها من الأحرار إلا مَن كان يقوم منهم بالخدمة في البيوت. وكانت الطبقات العليا مصطبغة بالصبغة اليونانية، أما الطبقات الدنيا فقد احتفظت بطابعها الشرقي. وكان الفلاسفة اليونان يختلطون في المدينة الواحدة بعاهرات الهياكل والكهنة الفنيين، وقد ظلّ الأطفال حتى أيام هدريان يُضحّى بهم قرباناً للآلهة(54). وكانت التماثيل المنحوتة والصور الملونة ذوات وجوه وأشكال نصف شرقية، وعليها طابع العصور الوسطى. وكانت اللغة اليونانية اللغة السائدة في دور الحكومة وفي الأدب، ولكن لغات البلاد -وأهمّها الآرامية - لغة التخاطب بين الأهلين. وكان العلماء فيها كثيرين، وقد طبقت شهرتهم العالم كله فترة قصيرة من الزمان. فقد كان منهم نقولوس الدمشقي الناصح الأمين لأنطونيو وكليوبطرة، وهيرود، والذي أخذ على عاتقه ذلك الواجب الثقيل المُمِل واجب كتابة تاريخ عام، وهو واجب يُشفق منه هرقل نفسه، على حد قوله. وقد أشفق الدهر عليه فدفن كل مؤلّفاته، كما سيدفن مؤلّفاتنا هذه على مهل.

في 29 مايو 526، وقوع زلزال هائل في أنطاكية بشدة XI12 درجة على مقياس مركالي (لقياس الضرر)، مخلفاً نحو 250,000-300,000 قتيل، حسب پروكوپيوس.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

انظر أيضاً


الهامش

قالب:Timeline of Syriac history