دار الصناعة

دار الصناعة مصطلح أطلقه المؤرخون العرب على المكان الذي كانت تصنع فيه السفن الحربية خاصة، ولما لم يكن للعرب أسطول لحماية سواحل الشام ومصر بعد تحريرهما من البيزنطيين، فقد استخدموا دور الصناعة التي كانت للبيزنطيين في القلزم Clysma (السويس اليوم) وفي الإسكندرية التي كانت قاعدة بحرية كاملة تشمل ميناءً رائعاً وأحواضاً متسعة لبناء السفن وبنائين من الأقباط، ولم يكن ينقص سوى الخشب الجيد الذي تفتقر إليه مصر، فكان لابد من جلبه من الشام أو غيرها من المناطق، وكانت موانئ الشام، ولاسيما عكا وصور، قواعد بحرية أبحر منها جزء من الأسطول الذي اشترك في معركة ذات الصواري، ولكن الساحل الشامي كان في ذلك الوقت عاطلاً عن بناء السفن. فلما كانت سنة 49هـ وشن الروم غارة عنيفة على سواحل الشام عمد معاوية إلى إنشاء دور لصناعة السفن في عكا إلى جانب دور الصناعة في مصر، وبقيت دور الصناعة في عكا حتى خلافة هشام بن عبد الملك (105-125هـ) الذي نقلها إلى صور.

وحينما أنشأ حسان بن النعمان الغساني والي إفريقيا القاعدة البحرية تونس بعد القضاء على الكاهنة وتدمير قرطاجنة، طلب حسان من الخليفة عبد الملك بن مروان (65-86هـ) أن يرسل إليه من يعمر دار الصناعة بتونس، فكتب الخليفة إلى أخيه عبد العزيز والي مصر أن يوجه لتونس ألفي قبطي مع أهليهم وأولادهم وأن يحملهم إلى تونس ويحسن عونهم.

وكان بناء مدينة تونس ثم بناء دار صناعتها نقطة تحول في تاريخ الحوض الغربي المتوسط، فلم يعد النشاط البحري وقفاً على البيزنطيين وإنما صار للعرب المسلمين دور فعال فيه، وأخذوا بمهاجمة ممتلكات بيزنطة في صقلية وجنوب إيطاليا بعد أن كانوا يكتفون بالدفاع عن سواحل بلادهم.

وجه العباسيون ولاسيما المتوكل (232-247هـ) اهتمامهم إلى دور الصناعة في مصر. فظهرت مراكز لصناعة السفن في دمياط وتنيس والفرما، ولكي يحمي المتوكل هذه القواعد البحرية من غارات البيزنطيين عمد إلى تحصينها وتزويدها بموانئ مغلقة كتلك الموجودة في الشام، ومن أشهر دور الصناعة التي أنشئت في مصر تلك التي كانت في جزيرة الروضة التي كان يطلق عليها في القرن الثالث الهجري بجزيرة الصناعة، وقد بلغت أوج ازدهارها زمن الطولونيين والإخشيديين وأنشأ محمد بن طغج دار صناعة أخرى عند ضفة النهر عند الفسطاط في المكان الذي كان يعرف آنذاك بدار بنت الفتح؛ واعتمد الفاطميون على دور الصناعة هذه إضافة إلى دار الصناعة الني أنشأها المعز لدين الله الفاطمي بالمقس، وكان المشرف على دار الصناعة يسمى متولي الصناعة.

إن الحروب الصليبية والاضطرابات التي عانتها الدولة الفاطمية في أواخر عهدها كان لها تأثير مدمر في الأسطول ودور الصناعة، وقد حاول صلاح الدين أن يعيد العمل في دور الصناعة بالإسكندرية لمواجهة القوى الصليبية وكذلك فعل الظاهر بيبرس (658-676ه)، ولكن هذه المحاولات كانت محاولات متفرقة ومشتتة، ولذلك يمكن القول إن دور الصناعة اختفت في مصر أمام السيطرة الإيطالية على البحر المتوسط.

أما في الأندلس فإن الأمويين لم يعمدوا إلى بناء دور لصناعة السفن إلا في نهاية القرن الثالث الهجري والربع الأول من القرن الرابع الهجري، لمواجهة التهديد الفاطمي من ناحية ولصد هجمات النورمانديين على سواحل الأندلس من ناحية أخرى. وكانت أهم دور الصناعة هي تلك التي أسست في الجزيرة الخضراء وفي المرية وطرطوشة ودانية والمنكب ومالقة وربما وجدت قاعدة بحرية في قادس التي كانت إقطاعاً لبني ميمون الذين اشتهر منهم عدد من قادة أسـاطيل المـرابطيـن.

إضافة إلى دار الصناعة في تونس ثم التي أنشئت بعد ذلك في سوسة وبجاية والمهدية فإن أقدم دور صناعة في المغرب الأقصى كانت في طنجة وسبتة، وكانت دور الصناعة هذه تصنع المراكب التجارية في بادئ الأمر فلما كانت سيطرة المرابطين والموحدين تحولت هذه الدور إلى منشئات عسكرية لصناعة السفن الحربية وسفن لنقل المقاتلة ولتأمين الاتصال بين الأندلس والعدوة.

امتدت دور الصناعة في العهد الموحدى على طول شواطئ الدولة الموحدية من سلا إلى طنجة وسبتة في المغرب الأقصى إلى مراسي باديس ووهران وهنين في الجزائر، ومراسي تونس والمهدية.

ويلاحظ اختصاص بعض دور الصناعة بإنتاج نوع من المراكب الخاصة بالأسطول الموحدي، ففي دار الصناعة بسلا أنتجت المراكب الحربية أو المراكب الجهادية، وفي دار الصناعة بقصر مصمودة (حصن كبير بينه وبين سبتة اثنا عشر ميلاً وهو على رأس المجاز إلى ديار الأندلس) كانت تصنع مراكب النقل والحراريق (ضرب من السفن فيها مرامي نيران يرمى بها العدو في البحر).

بقيت دور الصناعة التي وجدت في باديس وهُنَيْن وسلا من أشهر مراكز صناعة السفن في العصر الوسيط.

لا يرد ذكر في كتب التراث لدور الصناعة في موانئ المحيط الهندي وفروعه المسلمة - البحر الأحمر والخليج العربي - ومرد ذلك عدم وجود قوة بحرية معادية كما كان الأمر في البحر المتوسط؛ وإذا كان هناك الكثير من القراصنة الذين يهددون الموانئ والسفن التجارية فإن قوات الشرطة كانت قادرة على صدهم وملاحقتهم مستعينة بالسفن التجارية.

وإذا تركت جانباً دار الصناعة في القلزم على البحر الأحمر، فإنه كان للفاطميين قاعدة بحرية في عيذاب في اليمن لحماية الحجاج والتجار في البحر الأحمر في طريقهم إلى اليمن، وليس من المستبعد وجود مراكز لبناء السفن في الموانئ التجارية المهمة مثل عدن والبصرة والأبلة وسيراف وصحار ومسقط في عمان وفي مرافئ الساحل الغربي للهند.