جوزپى أرتشيمبولدو

جوزپـِى أرچـيـمـْبولدو Giuseppe Arcimboldo (وتـُتـَهجى أحيانا أرچيمبولدي Arcimboldi; و.1527 - 11 يوليو 1593) كان مصوراً إيطالياً اشتهر بعمل پورتريهات لرؤوس خيالية مكونة بالكامل من أشياء مثل الفواكه, الخضروات, الزهور, الأسماك, والكتب -- أي أنه كان يرسم عروض لتلك الأشياء على كانڤاس بترتيب يجعل الناظر لمجموع الأشياء يراها كا لو كانت تشبه پورتريه.

جوزپى أرتشيمبولدو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

السيرة

 
Vertumnus, پورتريه لرودولف الثاني. موجود حالياً في قلعة سكوكلوستر, السويد.

مَن منا لم يتوقّف أكثر من مرة، في إحدى الموسوعات الفنية، عند تلك الرؤوس البشرية التي رسمها الفنان الإيطالي الكبير جوزيبّي أرشيمبولدو (1526ـ1593) انطلاقاً من نباتاتٍ وفاكهة وحيواناتٍ وعناصر طبيعية أخرى؟ ومع ذلك، ما يزال مسار هذا العبقري غامضاً، مثل إنجازاته الكثيرة.

والسبب هو عدم اهتمام المحافل الفنية في أوروبا وأميركا إلى حد اليوم بموهبته الفريدة، على الرغم من إعادة اكتشافه، في بداية القرن الماضي، من قبل السرّياليين الذين اعتبروه أحد روّاد الفن الحديث، وعلى الرغم من انحناء رولان بارت أمام نبوغه في نصٍّ رائعٍ وشهير! من هنا أهمية المعرض الشامل الذي يخصصه له متحف اللوغسنبرغ (باريس) حالياً والذي يكشف، إلى جانب أعماله المعروفة، نواحٍ مجهولة من شخصيته ومن فنه، كالبورتريهات التي نفّذها بأسلوبٍ كلاسيكي أو القطع التي حققها في مجالي الأزياء والديكور ورصدها لاحتفالات البلاط الملكي في فيينا. كما يسمح المعرض، عبر إعادة تكوين المحيط الثقافي الذي عاش الفنان فيه، بتقييم دوره وتحديد موقعه أثناء تلك الحقبة التكلّفية (etsir?inam).[1]

المعلومات حول حياته ما تزال قليلة. نعرف فقط أنه وُلِد في مدينة ميلان داخل عائلة تمارس فن الرسم منذ أجيال عديدة، وتعلّم الرسم في محترفَي أبيه وعمّه. أما أوّل إنجاز فني معروف له فهو الزجاجيات (xuartiv) التي خصّ بها كاتدرائية ميلان عام 1549. ونعرف أيضاً أن نجمه لمع بسرعة داخل المحيط الفني الإيطالي كفنان متعدد المواهب، كما تشهد عليه المشاريع الكثيرة التي حققها، قبل أن يتم استدعاؤه عام 1562 إلى فيينا من قبل مكسيميليان الثاني، فيبقى في خدمة بلاط آل هابسبورغ لفترة خمسة وعشرين عاماً يلقى خلالها كل التكريم. ومن فردينان الأول إلى رودولف الثاني، مروراً بمكسيميليان الثاني، جميع هؤلاء الأباطرة افتتنوا بمعرفته الواسعة وقوة ابتكاره وحساسيته، وفوّضوه بمهماتٍ كثيرة. فإلى جانب نشاطه كرسّام وجوه العائلة المالكة ـ نشاطٌ غير معروف إلى حد اليوم نظراً إلى صعوبة التعرّف على هذه اللوحات الكلاسيكية الأسلوب، حقق أرشيمبولدو رسوماً لأزياء وديكور النشاطات الفنية والاحتفالات التي كانت الحياة داخل البلاط تسير على وقعها، وابتكر فوّارات ماء (uae_d xuej)، كما لعب دور المستشار الفني في مشاريع علمية كثيرة، مثل اضطلاعه بمهمة رسم النباتات والحيوانات في بعض الكتب العلمية والقواميس. لكن أهم ما أنجزه أثناء تلك الحقبة هو سلسلة اللوحات التي تحمل عنوان "فصول"، تتبعها سلسلة "عناصر"، فسلسلة "مِهَن"، وجميعها أغوت معاصريها، لكنها كانت السبب لوقوعه، هو وإنجازاته، في طي النسيان، مباشرة بعد وفاته، نظراً إلى غرابتها ومخالفتها للأعراف. ويجب انتظار أندريه بروتون ورفاقه، في بداية القرن العشرين، لنفض الغبار عنها وإظهار حداثتها المذهلة.

وفي الحقيقة، اعتمد أرشيمبولدو في تحقيقه لهذه اللوحات على حساب النسبة الذي يرهن معنى كل واحدة منها بموقع الناظر إليها. فإن تأمّلناها عن قريب، لا نرى سوى فاكهة وخُضار، وإن نظرنا من بعيد لا نعود نرى سوى رجلٍ بتفاصيلٍ رهيبة. إذاً الاقتراب من اللوحة أو الابتعاد عنها يؤسسان لمعانٍ مختلفة فيها. أليس ذلك سرّ كل علم دلالةٍ حيّ؟ فكل شيء في هذا العلم ينبع من تدريج أو توزيع الألفاظ (أو المفاصل)، والمعنى ينبثق من ترتيب عناصر لا معنى لها (الأصوات والخطوط). أكثر من ذلك، بفرضها الحركة على الناظر إليها لبلوغ معانيها، تضع هذه اللوحات هذا الأخير في علاقة حيّة معها. ويذكّرنا ذلك بمسعى الفنان الأميركي الشهير ألكسندر كالدِر الذي قام بمَفصلة قطعٍ تتحرّك بشكلٍ حر داخل منحوتاته للحصول على تشكيلاتٍ حيّة. لكن أرشيمبولدو حصل على النتيجة ذاتها بدون الخروج من إطار اللوحة المسطّح. فبدلاً من تحريك هيكلها، أو جزءٍ منه، سعى إلى تحريك الناظر إليها. وهذا الخيار، على طرافته، جريءٌ للغاية، أو على الأقل جد حديث لأنه يشترط نسبية فضاء المعنى. فبإدراجه نظرة المتأمِّل في البنية نفسها للوحة، عبر الفنان من فن الرسم وفقاً إلى نيوتن، أي ذلك المبني على ثبات الأشياء الممثَّلة، إلى فن الرسم وفقاً إلى أينشتاين الذي يشكّل فيه تحرّك المتأمِّل جزءاً لا يتجزأ من تركيبته.

ويمتلك أرشيمبولدو طاقة نقل كبيرة. فحين حقق عدة نسخ من الرأس (أو البورنريه) ذاته، أدخل على كل نسخة تعديلات ذات مغذى. فمن نسخة إلى أخرى، يأخذ الرأس معانٍ مختلفة. ففي لوحة "الشتاء" الأولى مثلاً، يستخدم الفنان ألواناً برتقالية للإشارة إلى أن فصل الخريف ما يزال قريباً. فالرأس يبدو منهكاً ومعدوم الدم، لكن حالة الجفنان المنفوخان تدل على حداثة إغلاقهما. بينما نلاحظ في لوحة "الشتاء" الثانية حالة تعفُّن الرأس المتقدّمة. فالوجه مُشقَّق ورمادي، واللسان أصفر، ومكان العين لا نرى سوى فجوة معتمة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى لوحتي "لربيع". ففي الأولى، يبدو فصل الربيع متهيّباً وبألوانٍ باهتة خجولة، وكأنه ما يزال في بدايته، بينما يطغى عليه في اللوحة الثانية اللون أحمر لاقترابه من الصيف. وفي معظم اللوحات التي نفّذها الفنان في هذا الأسلوب، تبدو الرؤوس البشرية وكأنها تتراوح بين حياةٍ وموت.

لكن أكثر ما يثيرنا ويسحرنا في هذه الأعمال هو تلاعُب أرشيمبولدو بمعناها وتوزيعه على مستويات قراءة عديدة. فكل لوحة تتألف أولاً من نفس "الوحدات" التي تتشكل منها اللغة. لكن بعكس الفونيم )em?nohp( اللغوي، تحمل هذه "الوحدات" معانٍ بذاتها لكونها تتألف من أشياء يمكن تسميتها: فاكهة، زهور، أغصان، أسماك، أعشاب، كتب... وبترتيب هذه الوحدات بشكلٍ معيَّن، نحصل على معنى ثانٍ، موحَّد: رأسٌ بشري، ولكن أيضاً على معنى ثالث: الصيف أو الشتاء أو الماء أو النار أو كالفين (nivlaC)...، معنى لا يمكن استشفافه إلا بالعودة إلى الوحدات الأولى للوحة. فالثمار هي التي تستحضر الصيف، والحطب الجاف هو الذي يستحضر الشتاء. وإن كان المعنيان الأول والثاني بديهيان لأن قراءتهما لا تحتاج إلا إلى ربط ما نراه بكلمة من القاموس نعرفها، فالمعنى الثالث مجازي ويحتاج لقراءته ثقافةً أخرى غير ثقافة القاموس، ثقافة كنائية (euqimynot?m) تسمح لنا بربط بعض الفاكهة بفصل الصيف أو بشاعة وجهٍ عبوس بالتزمّت البروتستانتي الذي أرساه كالفين. وما أن نخرج من قاموس الكلمات في اتجاه المعاني الثقافية وتداعي الأفكار، ندخل في الحقل اللا متناهي للتضمين )noitatonnoc(، أو ما يُعرَف بتوسيع المدلول. ونعرف أن التضمينات تُبلبل المعنى. فانطلاقاً من المعنى المجازي، معانٍ أخرى تصبح ممكنة أيضاً، معانٍ غير ثقافية هذه المرة، تنبثق من ردة فعل جسدنا (ارتداد أو انجذاب) على ما نراه.

وبالفعل، تتطور في لوحة أرشيمبولدو قيمةٌ جديدة، ما وراء الإدراك الحسي والمعنى القاموسي أو الثقافي. فبدلاً من الاكتفاء بإثارة فضولنا لقراءتها ومحاولة فهمها، تثير فينا مشاعر الحب أو الكراهية، ويلعب القلق أو الفزع أو الضحك أو الرغبة دوراً فاعلاً ومؤثّراً داخلها.



معرض الصور

المصادر

  1. ^ أنطوان جوكي، باريس (2007-09-16). "الفنان الإيطالي أرشيمبولدو في معرض باريسي مثير: لوحات "سريالية" .. من القرن السادس عشر!". جريدة المستقبل اللبنانية.

طالع أيضاً

وصلات خارجية