كارل الثاني عشر من السويد

كارل الثاني عشر (سويدية: Karl XII, إنگليزية: Charles XII؛ الملتن: Carolus Rex, التركية: Demirbaş Şarl, ويعرف أيضاً باسم "Charles the Habitué") (و. 17 يونيو 1682 – 30 نوفمبر 1718) كان ملك السويد من 1697 إلى 1718.

كارل الثاني عشر
Charles XII
Karl XII 1706.jpg
Charles XII in military uniform, David von Krafft (1706)
ملك السويد
العهد5 April 1697 – 30 November 1718
التتويج14 December 1697
سبقهCharles XI
تبعهUlrika Eleonora
الدفن26 February 1719
البيتHouse of Pfalz-Zweibrücken
الأبCharles XI of Sweden
الأمUlrike Eleonora of Denmark
التوقيعتوقيع كارل الثاني عشر Charles XII


وكان جيلنشتييرنا قد علم الملك الشاب أن السويد لا تستطيع الإبقاء على مكانتها بين الدول العظيمة إذا مضي نبلاؤها في التهام أراضي التاج، وهو أمر يهوي بالملكية إلى ذل الفقر وبالدولة إلى درك العجز. وفي 1682 اتخذ شارل الحادي عشر خطوة حاسمة. فاستأنف بتأييد رجال الدين والفلاحين وأهل المدن، في تدقيق وشمول يحفزهما السخط "اختزال" أراضي النبلاء، أي استرداد ما فقدته الملكية من ضياعها. ثم حقق في فساد الموظفين وعاقبه، وبلغت إيرادات الدولة النقطة التي أتاحت للسويد القدرة من جديد على الاحتفاظ بممتلكاتها والاضطلاع بتبعاتها. ولم يكن شارل الحادي عشر بالملك المحبب جداً إلى شعبه، ولكنه كان ملكاً عظيماً. فلقد آثر انتصارات السلام الأقل ضجيجاً على انتصارات الحرب، وذلك رغم ما خلف في الحرب من سجل يحسده عليه الكثيرون. وقد وطد حكم الملكية المطلق، ولكن هذا النظام كان يومها البديل لإقطاعية رجعية فوضوية.

وفي هدوء هذه الهدنة الصافية ازدهرت علوم السويد وآدابها وفنونها. وبلغت العمارة السويدية أوجهاً في القصر الملكي الفخم الضخم باستوكهولم، الذي صممه (1693-97) نيقوديموس تيسين. وكان لارس يوهانسون للسويد بمثابة ليوباردي (الإيطالي) ومارلو (الإنجليزي) مجتمعين، فهو يتغنى غناءً شجياً بكراهية الإنسان، ويلقى حتفه بطعنات السلاح في شجار بحان قضي عليه وهو بعد في السادسة والثلاثين. وقد ألف جونو دالشتيرنا ملحمة شعرية ببحر دانتي سماها Kunga Skald (1697) إشادة بمآثر شارل الحادي عشر. ومات الملك في تلك السنة، بعد أن أنقذ وعمر بلداً كان يدمره من بعده ابنه الأشهر منه.

وكان هذا الابن، شارل الثاني عشر، قد بلغ الخامسة عشرة. ولما كانت خريطة أوربا يعاد رسمها آنئذ بالدم والحديد، فقد دُرّب أولاً وقبل كل شيء على فنون القتال. فهيأته ألعابه كلها للأعمال العسكرية، وتعلم الرياضيات فرعاً من العلوم الحربية، وقرأ من اللاتينية ما يكفيه لأن يستوحي من سيرة الإسكندر التي كتبها كونتوس كورتيوس طموح التفوق في السلاح إن لم يكن الطموح لغزو العالم. وإذ كان فارع القامة وسيماً، قوياً، لا يثقل بدنه درهم زائد من لحم وشحم، فقد استمتع بحياة الجندي، وتجلد لما فيها من حرمان، وهزأ بالخطر والموت، وتطلب هذه الصلابة عينها في جنده. ولم يأبه كثيراً بالنساء، فلم يتزوج قط وإن خطبت وده الكثيرات. وكان يصيد الدببة وسلاحه شوكة خشبية ثقيلة لا أكثر، ويركب خيله بسرعة طائشة، ويسبح في مياه تغطي الثلوج نصفها، ويلتذ المعارك الزائفة التي كاد هو وأصدقاؤه يلقون حتفهم فيها غير مرة. وقد رافقت بسالته العنيدة وحيويته البدنية بعض فضائل الخلق والعقل: صراحة تزدري ألاعيب الدبلوماسية، وإحساس بالشرف تشوبه لحظات شاذة من القسوة الوحشية، وعقل يلتقط لب الأمور لتوّه، ولا يطيق المداخل الملتوية في التفكير أو التدبير، وكبرياء صموت لم يغب عنها قط محتده الملكي ولم تعترف قط بالهزيمة. وآية ذلك أنه في حفلة تتويجه توج نفسه بيده على طريقة نابليون، ولم يقطع لنفسه يميناً تحدّ من سلطته، فلما تشكك أحد رجال الدين في صواب خلع السلطة المطلقة على فتى لم يتجاوز الخامسة عشرة، حكم عليه شارل أولاً بالإعدام، ثم خفف الحكم إلى السجن المؤبد.

كانت السويد يوم ارتقى عرشها دولة قارية كبرى، تحكم فنلندة، واينجريا، واستونيا، وليفونيا، وبومرانيا، وبريمن، وكانت تهيمن على البلطيق وتقوم سداً حائلاً بين روسيا وبين ذلك البحر. ورأت روسيا، وبولنده، وبراندنبورج، والدنمرك، في حداثة سن ملك السويد فرصة لمد حدودها دعماً لتجارتها ومواردها. وكان "العامل الهدّام" في هذا الحل الجغرافي فارساً ليفونياً يدعى يوهان فون باتكول، انخرط في سلك الجيش السويدي بوصفه من رعايا السويد، وارتقى إلى رتبة النقيب. وفي 1689 و1629 احتج بشده على "اختزال" شارل الحادي عشر لضياع النبلاء في ليفونيا، فاتهم بالخيانة، وفر غلى بولندة، ثم التمس من شارل الثاني عشر أن يعفو عنه فرفض، وفي 1689 اقترح على أوغسطس الثاني ملك بولندة وسكسونيا تأليف حلف ضد السويد من بولنده، وسكسونيا، وبراندنبورج، والدنمرك، وروسيا. ورأى أوغسطس أن الخطة جاءت في أوانها، فاتخذ الخطوة الأولى بالدخول في حلف مع ملك الدنمرك فردريك الرابع (25 سبتمبر 1699). وذهب باتكول إلى موسكو. وفي نوفمبر وقع بطرس الأكبر مع مبعوثي سكسونيا والدنمرك اتفاقاً لتقطيع أوصال السويد.

Part of the Monument to Charles XII in Stockholm, with Charles pointing towards Russia

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

شارل الثاني عشر والحرب الكبرى 1700-1721

ونمى إلى استوكهولم نبأ غامض عن اتفاق الحلف. فالتام المجلس الملكي ليناقش إجراءات الدفاع. وكان الرأي الغالب وجوب فتح باب المفاوضات مع أحد الحلفاء لعقد صلح منفرد معه. واستمع شارل ملياً وهو صامت، ثم انتفض قائماً وقال: "أيها السادة، لقد عقدت النية على ألا أخوض حرباً ظالمة ما حييت ولكني... لن أنهي حرباً عادلة إلا بالقضاء المبرم على أعدائي(25)". ثم طلق كل لهو وترف واتصال بالنساء ومعاقرة للخمر. وكان جيشه وبحريته مستعدين، فغادر معهما استوكهولم في 24 أبريل 1700 ليبدأ واحدة من أروع السير الحربية في التاريخ. ولم يشهد عاصمة ملكه بعدها قط.

وبدأ بمهاجمة الدنمرك، فقد كان عليه أن يحمي ولايات السويد الجنوبية من هجمات الدنمرك وهو يواجه بولندة وروسيا. ثم قاد سفنه عبر مضيق الساوند-المفترض أنه لا يصلح للملاحة-بما عهد فيه من جرأة وسرعة، رغم اعتراض أميرال بحريته، ورسا على سييلاند، التي لا تبعد عن كوبنهاجن سوى أميال (4 أغسطس 1700). وسارع فردريك الرابع ملك الدنمرك غلى إبرام صلح ترافندال معه (18 أغسطس) خشية أن تسقط عاصمته، ودفع تعويضاً قدره 200.000 ريال دنمركي، وأقسم أنه لن يهاجم السويد أبداً.


وفي مايو 1700 حاول أغسطس الثاني الاستيلاء على ريجا. ولكن هزمه الكونت ايريك دالبيرج، القائد السويدي البالغ من العمر خمسة وسبعين عاماً، والذي اكتسب لقب "فوبان السويد" لمهارته في فن التحصين. وتقهقر أوغسطس وناشد بطرس أن يخفف عنه بغزوه اينجريا. واستجاب بطرس بأن أمر أربعين ألف مقاتل بحصار نارفا. وأراد شارل الثاني عشر أن يساعد دالبيرج، فنقل جيشه بالبحر إلى برناو (بارنو)، على خليج ريجا، ولكنه حين وجد ذلك المقاتل منتصراً، اتجه شمالاً. واخترق المناقع والممرات الخطرة ثم ظهر فجأة في مؤخرة جيش بطرس. وأخذ القيصر على غرة، فبدا منه ما بدا جبناً معيباً، إذ ترك الجيش (الذي كان يخدم فيه ملازماً فقط)، وفرّ غلى نوفجورود وموسكو. وأغلب الظن أنه عرف عن مجنديه الغشم سينهارون في أول امتحان لهم، ولم يكن في وسعه أن يترك العدو يأسره، لأنه رأى نفسه أعظم قيمة لروسيا حياً منه ميتاً. أما الجيش الروسي، الذي بلغ أربعين ألفاً، والذي كان يقوده الأمير المجري كارل يوجين ديكروا قيادة عاجزة، فقد هزمه جنود شارل الثمانية الآلاف في موقعة نارفا (20 نوفمبر 1700)، وكانت أول نكسة في حياة بطرس بعد صباه.

وألح القواد السويديون على شارل في أن يزحف على موسكو ويجهز على بطرس. ولكن جيش شارل كان صغيراً، والشتاء حل، وكل شجاعة، حتى شجاعة هذا النابليون الشاب، لا بد أن تتردد أمام مسافات روسيا المترامية فضلاً عن مشكلة إطعام الجيش في أرض معادية. ثم (ما دامت العهود والمواثيق حبراً على ورق) هل يستطيع أن يركن إلى ملك الدنمرك، أو ملك بولندة، في ألا يغزو أحدهما السويد وجيشها الرئيسي وقائدها نائيان عن أرض الوطن؟ وبعد أن أعاد شارل تنظيم حكومة ليفونيا ودفاعها، سار جنوباً إلى بولندة، واحتل وارسو دون عناء (1720) على نحو ما فعل جده قبل سبعة وأربعين عاماً، وخلع أوغسطس، ونصب ستانيسلاس لزكزنسكي ملكاً على بولندة (1704). لقد هزم الآن كل حليف من الحلفاء، ولكن الدب الروسي لم يكد يبدأ النزال.


الإفاقة الروسية

 
Charles XII and Mazepa at the Dnieper River after Poltava by Gustaf Cederström

ذلك أن بطرس لم يفق من رعبه فحسب، بل نظم جيشاً آخر وجهزه. ولكي يزوده بالمدافع أمر بأن تصهر أجراس الكنائس والأديار، وصنع ثلاثمائة مدفع، وأنشئت مدرسة لتدريب رجال المدفعية. وسرعان ما أخذت القوات المجندة الجديدة في إحراز الانتصارات، وتقدمت كتيبة مدفعية بطرس غيرها في الاستيلاء على نينسكانس، عند مصب نيفا (1703)، وهناك شرع القيصر لتوه في بناء "بطرسبرج" دون أن يدرك إلى ذلك الحين أنها ستكون عاصمة ملكه، ولكنه صمم على أن تكون أحد منافذه إلى البحر. وبينما كان شارل مشغولاً في بولندة، ظهر بطرس ثانية أمام نارفا، وكان شارل قد ترك فيها حامية ضئيلة، واقتحم الروس القلعة الكبيرة (20 أغسطس 1704)، وثأر المنتصرون لأنفسهم من فشلهم السابق بمذبحة رهيبة، وضع لها بطرس حداً في النهاية بأن قتل بيديه اثني عشر من الروس المتعطشين للدماء.

وفي بولندة بدا أن انتصار شارل كامل. فقد وقع أوغسطس المخلوع معاهدة اعترف فيها بلزكزنسكي رلكاً، وتخلى عن أحلافه ضد السويد، وأسلم لشارل الرجل الذي نظم الحلف أولاً، فحطم جسد يوهان فون باتكول على دولاب التعذيب ثم قطع رأسه (1707). ووجد بطرس نفسه وحيداً أمام هذا الإرهاب السويدي الشاب. فحاول أن يرشو الوزارة الإنجليزية لترتب له صلحاً، ولكنها رفضت أن تتدخل. ومضي عامل بر رأساً إلى ملبره، فوافق على الوساطة لقاء إمبرة في روسيا(26)، وعرض عليه بطرس كييف أو فلاديمير أو سيبيريا، وضماناً من خمسين ألف طالير في العام، و "ياقوتة ماسية لا يملك نظيرها أي ملك أوربي"(27)، ولكن هذه المفاوضات أخفقت. وتعاطف الساسة الغربيون مع شارل، واحتقروا أوغسطس، وخافوا من بطرس، وكانت حجة بعضهم أنه لو سمح لروسيا بالتوسع غرباً، فإن أوربا كلها سترتعد بعد قليل أمام فيضان سلافي(28).

وفي أول يناير 1708 عبر شارل الفستولا فوق جليد غير مأمون على رأس 44.000 مقاتل نصفهم من الفرسان. فوصل إلى جرودنو في اليوم السادس والعشرين بعد أن رحل عنها بطرس بساعتين فقط. ذلك أن رأي القيصر استقر على الدفاع بالعمق والتخريب. فأمر جيوشه بأن تتقهقر، وتستدرج شارل ليوغل داخل الفرشة الروسية أبعد فأبعد، وتحرق كل المحاصيل أثناء مسيرتها، وأمر الفلاحين بأن يخفوا قمحهم داخل الأرض أو تحت الثلوج، ويشتتوا ماشيتهم في الغابات والمستنقعات. وعهد إلى الزعيم القوزاقي ايفان مازيبا بمهمة الدفاع عن "روسيا الصغيرة" وأوكرانيا. وكان مازيبا قد نشيء وصيفاً في البلاط البولندي. وبأمر من نبيل بولندي أغوى ايفان زوجته رباط عرياناً على حصان أوكراني وحشي، وأرهب الحصان عمداً بضربات سوط وإطلاق مسدس عند أذنه (كما سيري بيرون)، واندفع الحصان خلال الإخراج والغابات إلى مسارحه الأولى، ولكن مازيبا ظل على قيد الحياة وإن تمزق لحمه وسال دمه، وارتقى حين أصبح زعيماً لقوزاق زابوروج. وتظاهر بالولاء لبطرس، ولكنه كره أوتقراطية القيصر، وترقب الفرصة للثورة. فلما سمع بأن بطرس يتقهقر وشارل يتقدم، قرر أن فرصته قد حانت. فأرسل إلى شارل يعرض عليه التعاون معه.

ولعل هذا العرض هو الذي حدا بشارل إلى المضي في زحفه المتهور داخل روسيا. وبدأت سياسة "الأرض المحرقة" تؤتي ثمارها، فلم يجد السويديون غير برية متفحمة في طريقهم وأخذوا يتضورون جوعاً. وكان شارل قد اعتمد على تعزيزات انتظر وصولها من ريجا، وقد حاولت أن تصله ولكن الروس دمروها نصف تدمير في طريقها. وعلل شارل نفسه بأن مازيبا سينضم إليه بالإمداد وقوة قوزاق الدنيبر كاملة، ولكن بطرس، الذي توجس من خيانة مازيبا، جرد جيشاً بقيادة الكسندر دانيلوفتش منشيكوف ليقبض عليه، وفوجئ الزعيم قبل أن يستطيع إيقاظ فرسانه، ففر إلى شارل عند هوركي جالباً معه ألفاً وثلاثمائة رجل فقط. وزحف شارل جنوباً ليستولي على عاصمة مازيبا، واسمها باتورين، ويأخذ مؤنها، ولكن منشيكوف سبقه إليها، وأحرق المدينة وسواها بالتراب، وعين زعيماً موالياً لروسيا. واستعمل بطرس كل سلاح، فثنى القوزاق عن الانضمام إلى السويديين بمنشورات وصفت الغزاة بأنهم مهرطقون "ينكرون عقائد الدين الصحيح ويبصقون على صورة العذراء المقدسة"(29). ولم يبق شارل من الأمل إلا في أن يخف التتار والترك لنجدته انتقاماً لاستيلاء بطرس على آزوف.

ولكن أحداً لم يأت، وكان شتاء 1708-9 عدواً رهيباً للسويديين. كان شتاء قارساً جداً في كل أرجاء أوربا، فتجمد البلطيق غلى عمق سمح لعربات النقل الثقيلة أن تعبر الساوند على الجليد، وفي ألمانيا ماتت أشجار الفاكهة، وغطى الجليد الرون في فرنسا، والقنوات في البندقية. وفي أوكرانيا كست الثلوج الأرض، من أول أكتوبر إلى 5 أبريل، وسقطت الطيور نافقة أثناء طيرانها، وتجمد اللعاب في طريقه من الفم إلى الأرض، وتجمد النبيذ المسكرات فأصبحت كتلاً صلبة، واستحال إشعال الحطب في العراء، وكانت الريح ماضية كالمدى في هبوبها على السهول المنبسطة وعلى وجوه الناس. واحتمل جنود شارل في تجلد صامت بينما لقى ألفان منهم حتفهم جوعاً أو برداً. قال شاهد عيان "كنت تر بعضهم بغير أيد، وبعضهم بغير أرجل، وبعضهم بغير آذان أو أنوف، وكثيرين يزحفون في سيرهم على نحو ما تفعل ذوات الأربع(30)" وأمرهم شارل بالسير قدماً، أملاً في أنهم لن يلبثوا أن يباغتوا جيش بطرس الرئيسي في مكان ما ويظفر بروسيا كلها في نصر ساحق واحد. وكان أينما التقى بالعدو، في هولوفكزين، وسركوفا، وأوبرسيا، ينتصر بفضل التفوق في القيادة والشجاعة، على قوات كثيراً ما بلغت عشرة أضعاف قواته. ولكنه حين انتهى ذلك الشتاء، كان جيشه قد تقلص من 44.000 إلى 24.000 مقاتل.

وفي 11 مايو وصل إلى بلطاوه الواقعة على فرع من فروع الدنيبر على خمسة وثمانين ميلاً جنوب غربي خركوف. هنالك لمح شارل أخيراً جيش بطرس، وكانت عدته ثمانين ألف مقاتل. وبينما كان في إحدى جولاته الاستطلاعية أصابته رصاصة في قدمه. فلم يعبأ بالجرح. وانتزع الرصاصة في هدوء بسكينه، ولكنه حين عاد إلى معسكره أغمي عليه، فلما عجز عن قيادة جيشه بشخصه، وكل بها الجنورال كارل رينسكيول، وأمره بأن يهاجم العدو في الغد (26 يونيو). وفي بداية المعركة اكتسح السويديون كل شيء أمامهم، وهم الذين لم يخسروا قط معركة تحت إمرة شارل. ورغبة في استنفار جنوده أمر شارل أن يحمل إلى ساحة القتال على محفة، ولكن نيران العدو حطمتها من تحته. وركب بطرس إلى المقدمة رغم أنه ما زال رسمياً مجرد ملازم في الجيش، مستنهضاً همم جنده، ولكن رصاصة مرقت خلال قبعته، وثانية صدها صليب ذهبي على صدره. وأسعفته الآن سنواته التي أعد فيها المدفعية ودربها، فكانت مدافعه تطلق خمس مرات مقابل مرة يطلقها السويديون. فلما نضبت ذخيرة السويديين فتكت المدفعية الروسية بالمشاة السويديين على بكرة أبيهم، واستسلم الفرسان السويديون حين رأوا الموقف ميئوساً منه. أما شارل فقد امتطى جواداً وفر مع مازيبا وألف مقاتل عبر الدنيبر إلى أرض تركية. وفقد السويديون أربعة آلاف رجل بين قتيل وجريح، والروس 4.435 ولكنهم أسروا 18.670 فيهم قائدان وضباط كثيرون. وعامل بطرس الضباط معاملة كريمة، ولكنه استخدم الأسرى في التحصينات والأشغال العامة. وأشاد ليبتنر بإنسانيته واستنتج من ضخامة الكتائب الروسية أن الله يقف في صف الروس(31). ووافقه بطرس، وكتب يقول: "الآن بعون الله أرسيت أساسات بطرسبرج وأمنتها إلى الأبد(32)".

وكان للمعركة نتائج بعيدة المدى لا حصر لها. فقد فر لزكزنسكي إلى الألزاس، واعتلى أوغسطس الثاني عرش بولندة من جديد. واستولت روسيا على إمارات البلطيق وكل أوكرانيا. وعادت الدنمرك إلى لحلف ضد السويد، وغزت سكاني، ولكنها ردت على أعقابها. واستولى فردريك وليم ملك بروسيا على ستتين وهولشتين وجزء من بومرانيا. وارتفع شأن روسيا وازدادت عزة وكبرياء. وعرض لويس الرابع عشر التحالف مع بطرس، فرفضه هذا، ولكنه رضي أن يستقبل مبعوثا للويس.

المنفى في الدولة العثمانية

أما شارل فإنه لم يعترف بأنه هزم هزيمة ساحقة. وأغدق الأتراك الشاكرون صنيع أي إنسان يثير القلاقل لروسيا على لاجئهم الملكي كل أسباب التكريم، باستثناء الامتيازات الملكية. في بندر (وهي اليوم تيغينا) القريبة من الدنيستر، احتفظ ببلاطه، وتلقى من السلطان أحمد الثالوث المئونة له ولآلاف وثمانمائة سويدي بقوا في خدمته. وحالما التأم جرح قدمه استأنف التمرينات العسكرية ودرب جيشه الصغير. وشاع عنه أنه اعتنق الإسلام لزهده في الخمر واختلافه غلى الصلاة العامة بانتظام. ولم يدخر وسيلة ليقنع السلطان أو الصدر الأعظم بشن الحرب على روسيا، وبهذا الأمل رفض أن تعيده إلى السويد سفن فرنسية وضعت تحت تصرفه. وبذلت محاولة لتسميمه، ولكنها كشفت في أوانها. وطالب بطرس بأن يسلم إليه مازيبا باعتباره مواطناً روسياً خائناً، ولكن شارل أبى أن يسمح بهذا، وقطع مازيبا العقدة بأن مات (1710).

إن كل انتصار يولد أعداء جدداً أو يلهب الأعداء القدامى. وقد استطاع شارل أن يقنع السلطان بأن قوة روسيا المتزايدة، التي لا يكبحها الآن كابح في الشمال، ستتحدى هيمنة الترك على البحر الأسود والبوسفور أن عاجلاً أو آجلاً. فأعلن السلطان الحرب على روسيا، وجرد عليها 200.000 مقاتل بقيادة الصدر الأعظم، وأخذ بطرس على غرة، فلم يستطع أن يحشد أكثر من 38.000 مقاتل في الجنوب ليصد هذا السيل الجارف. وخذله حلفاؤه البلغار والصرب. فلما التقى الجيشان على نهر بروت (وهو اليوم حد رومانياً الشرقي) اضطر بطرس لمنازلة الترك، لأن الإقليم المحيط به كان قد دمر. ولم يكن لديه غير مئونة يومين. وتوقع الهزيمة والموت، فأرسل تعليماته إلى موسكو لانتخاب قيصر جديد إذا تحققت مخاوفه، ثم اعتكف في خيمته ومنع أي إنسان من الدخول عليه. ولكن زوجته الثانية كاترين اتفقت مع قواده على أن الاستسلام خير من الانتحار الجماعي وواجهت غضب بطرس إذ حملت إليه خطاباً طلبت إليه التوقيع عليه، يطلب فيه إلى الصدر الأعظم شروط الصلح. ووقع بطرس يائساً. وجمعت كاترين كل مجوهراتها، واقترضت مالاً من الضباط، وبعثت بطرس شافيروف نائب المستشار، مسلحاً بـ 230.000 روبل، ليفاوض الوزير في شروط الصلح. وأخذ الوزير الروبلات والمجوهرات، وسمح لبطرس بأن يسحب جيشه وعتاده دون عائق، شريطة أن يسلم آزوف، ويجرد القلاع والسفن الروسية هناك من سلاحها ويسمح لشارل بالعودة إلى السويد في أمان، وألا يتدخل بعدها في شئون بولندة. ولم يتردد بطرس في بذل هذه الوعود (أول أغسطس 1711) وانصرف بجنوده. وأقبل شارل مستعداً لخوض المعركة، ولكنه استشاط غضباً حين وجد الصلح أمامه. فحمل السلطان على طرد الوزير المسالم وواصل جهوده لاستئناف الحرب، ولكن شافيروف، الذي حمل معه 84.900 دوكاتية، أقنع الوزير الجديد بتثبيت معاهدة بروت.

وأعيت السلطان هذا العقد، فطلب إلى شارل أن يرحل عن تركيا، ولكنه أبى. فأرسل السلطان قوة تركية عدتها اثنا عشر ألف رجل لإجلائه، واستطاع شارل بأربعين رجلاً أن يصمد لهم ثماني ساعات، قتل خلالها عشرة أتراك بشخصه، وأخيراً قهره اثنا عشر أنكشارياً (أول فبراير 1713). فنقل إلى ديموتيكا قرب أدرنه، ولكن سمح له بأن يمكث فيها عشرين شهراً بينما كان وزير جديد يفكر في مقاتلة روسيا. فلما تضاءل هذا الأمل وافق شارل على العودة للسويد. فزود بالحرس العسكريين والهاديا والأموال. وغادر ديموتيكا (20 سبتمبر 1714)، واخترق الأفلاق وترانسلفانيا والنمسا، وفي منتصف ليلة 11 نوفمبر وصل إلى بومرانيا وثغرها وحصنها ستر السوند، على ساحل البلطيق جنوب السويد مباشرة. وكانت هي وفيسمار إلى الغرب آخر القلاع السويدية على أرض القارة.

وكان إصرار شارل قبيل ذلك على حكم السويد من تركيا، ورفضه بذل أي تنازلات لبطرس، قد جرا الخراب على الإمبراطورية السويدية. ففي أول أغسطس 1714 كان جورج ناخب هانوفر قد أصبح جورج الأول ملك إنجلترا. فلما عقد العزم على استخدام قوته الجديدة في ضم بريمين وفيريدن إلى هانوفر، جمع بين بريطانيا وبين الدنمرك وبروسيا في حلف جديد ضد السويد، وعزز الأسطول الإنجليزي الأسطول الدنمركي في المضايق. ووجد شارل نفسه حبيساً في سترالسوند، في حرب مع إنجلترا، وهانوفر، والدنمرك، وسكسونيا وبروسيا، وروسيا. وظل يقاوم الحصار هناك اثني عشر شهراً بستة وثلاثين ألف مقاتل، يقود حاميته المرة بعد المرة في هجمات بطولية عقيمة. فلما حطمت مدافع المحاصرين المدينة وأسوارها، ولم يكن مفر من التسليم، قفز شارل في سفينة صغيرة، وأبحر بها وسط نيران العدو، وبلغ كارلسكرونا على ساحل السويد (12 ديسمبر 1715).

وفاته

 
The funeral transport of Charles XII. A romanticized painting by Gustaf Cederström, 1884

وانتظرت استوكهولم وصول بطلها اليائس، ولكنه أبى أن يعود إليها إلا قائداً ظافراً. فأمر بتجنيد قوات جديدة حتى من الغلمان الذين لا تتجاوز أعمارهم الخامسة عشرة، وصادر جميع السلع الحديدية ليبني بها أسطولاً جديداً، وفرض الضرائب على كل شيء تقريباً يستعمله شعبه حتى شعورهم المستعارة. فأذعنوا صامتين، ظناً منهم بأنه ربما قد جن، ولكنه مع ذلك عظيم. وجاهد البارون جيورج فون جورتز، كبير وزرائه الآن، ليحطم الحلف. ولاحظ أن جورج الأول مختلف مع بطرس على تقسيم الأسلاب، فحاول أن يعقد صلحاً بين السويد وروسيا، ويعين ثورة أسرة ستيوارت في إنجلترا، ولكن خططه باءت بالفشل. وما وافى خريف 1717 حتى كان شارل قد حشد جيشاً من عشرين ألف مقاتل. في تلك السنة، ثم في 1718، غزا النرويج، أملاً في أن يكسب أرضاً تعوضه ما فقد على أرض القارة. وفي ديسمبر حاصر قلعة فريدريكستين. وفي اليوم الثاني عشر رفع رأسه لحظة فوق متراس الخندق الأمامي وإذا رصاصة نرويجية تصيبه في صدغه الأيمن فترديه قتيلاً لفوره. وكان يومها في السادسة والثلاثين.

 
From the autopsy of Charles XII in 1916[1]
 
Carl XII's sarcophagus in Stockholm

لقد مات كما عاش، مشدوداً ببسالته. كان قائداً مغواراً، كسب انتصارات لا تصدق في ظروف معاكسة جداً ولكنه عشق الحرب عشق المخمور بها، ولم يشبع من الانتصارات، وفي سبيل البحث عن انتصارات جديدة راح يدبر الحملات إلى حد أشرف على الجنون. وقد أفسدت الكبرياء كرمه وسماحته، كان يعطي كثيراً، ويطلب أكثر، ولقد عاق السلام غير مرة برفضه تنازلات ربما أنقذت إمبراطوريته وماء وجهه. ولكن التاريخ يغتفر له أخطاءه، لأنه لم يكن البادئ بـ "الحرب الشمالية العظمى"، هذه الحرب التي أبى أن يختمها إلا بالانتصار.

أما الحكومة السويدية، التي ندر أن جنحت إلى التطرف، فقد سارعت بمفاوضات الصلح. وبمقتضى معاهدتي استوكهولم (20 نوفمبر 1719 و 1 فبراير 1720) نزلت عن بريمين وفيردين لهانوفر، وعن ستيتين لبروسيا، ورفضت أول الأمر مطالب بطرس بجميع الأراضي السويدية في البلطيق الشرقي، فغزت الجيوش الروسية ثلاث مرات هذه الدولة التي استنزفت الحروب دماءها، وخربت أراضيها الساحلية ومدنها. وأخيراً. وبمقتضى معاهدة نيستاد (30 أغسطس 1721) حصلت روسيا على ليفونيا، واستونيا، واينجريا، وجزء من فنلنده. وهكذا ترك الصراع على البلطيق روسيا ظافرة، وجعل منها دولة عظمى".

أما القيصر المكدود، المكتهل، الظافر رغم ذلك، والذي وصل إلى بطرسبرج ومعه نبأ السلام، وهتاف السلام، السلام "مير! مير!" فقد حياه شعبه أباً لوطنه، وإمبراطور لأقاليم روسيا كلها، ولقبه ببطرس الأكبر.


Ancestors


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الهامش

  1. ^ Associated Press (16 September 1917). "A ROYAL AUTOPSY DELAYED 200 YEARS". The New York Times. Retrieved 20 November 2008. {{cite news}}: Cite has empty unknown parameter: |coauthors= (help)

Ragnhild Hatton, Charles XII. London, 1968.

وصلات خارجية

Karl XII
فرع أصغر من House of Wittelsbach
وُلِد: 17 June 1682 توفي: 30 November 1718
ألقاب ملكية
سبقه
كارل الحادي عشر
ملك السويد
1697–1718
تبعه
اولريكا إليونورا
بصفته الملكة الحاكمة للسويد
سبقه
كارل الحادي عشر
بصفته دوق برمن وأمير ڤردن
دوق برمن وأمير ڤردن
1697–1718
(خلعه احتلال دنماركي منذ 1712)
تبعه
اولريكا إليونورا
بصفته الدوقة الحاكمة لبرمن والأميرة الحاكمة لڤردن