بعثة ديبوي لدراسة منطقة بحيرة تسانا

يعتبر من أهم بنود معاهدة مايو سنة 1902 البندان الخاصان بتحديد الحدود بين أثيوبيا والسودان، وتعهد منليك الثاني بالا يسمح باقامة أية أعمال انشائية على النيل الأزرق أو بحيرة تسانا أو نهر السوباط، قد تؤثر في النظام الطبيعي لجريان المياه بالاتفاق مع بريطانيا وحكومة السودان (22). فالنسبة لتحديد الحدود فقد حددت من ملتقى خور ريان مع نهر ستيت في الشمال وحتى نقطة مليلة في أعالي نهر أكوبو في الجنوب (23)، على أنه لم تحدد الحدود جنوب هذه النقطة وحتى بحيرة رودلف بسبب الظروف القاسية التي واجهتها لجنة تحديد الحدود في هذه المناطق مما أدى الى فشلها في عملها وعودتها الى الخرطوم (24)ز

هذا بالنسبة للبند الأول، أما بالنسبة للبند الثاني فقد بدأت عمليات دراسة منطقة بحيرة تسانا – حقيقة كان التفكير في دراسة هذه المنطقة كان موجودا من قبل توقيع المعاهدة عند مصر وبريطانيا، الا أن الظروف لم تسمح بارسال اية بعثات دراسية اليها (25). على أنه بعد أن تعهد منليك بتعهده هذا في معاهدة سنة 1902 وتأكدت بها حقوق مصر والسودان في هذه المنابع الأثيوبية، بدأت الحكومة المصرية في أواخر سنة 1902 في تجهيز بعثة دراسية برياسة المستر ديبوي أحد موظفي نظارة الأشغال المصرية وارسلتها الى بحيرة تسانا وأعالي النيل الأزرق (26)، وذلك لبحث ودراسة خمسة أمور، منها دراسة البحيرة نفسها وامكانية استخدامها كخزان (27).

وبالفعل قامت هذه البعثة بما اسند اليها، وعادت في ربيع سنة 1903 وكتب ديبوي تقريرا هاما عن البحيرة، وأوضح فيه أنه يمكن جعلها خزانا بتعديل ملائم في مخرج مائها الى النيل الأزرق، على أنه ذكر أن بناء هذا الخزان لن يفيد مصر بسبب طول المسافة بينهما مما يساعد على تبدد المياه بالبخر. كما أن المشاكل السياسية قد تسبب المتاعب لمصر اذا ما اعتمدت على هذا الخزان. كما أنه يصلح أن يكون خزانا للنيل الأزرق تستمد منه ترع الري التي تنشأ لكي تسقي أراضي الجزيرة وشرق النيل الأزرق في السودان. وذلك في المستقبل حيث يمكن الانتفاع منه عندما يتقدم السودان حضاريا ويزداد عدد السكان. وأبدى ديبوي أسفه لقيام مصر بناء هذا الخزان الذي لا يهمها بقدر ما يهم السودان، وأوصى بالتخلي عن هذا الخزان وشق ترعة كبيرة بدلا منه لري أرض الجزيرة، وذلك لأن السودان غير مستعد لاستخدام مياه هذا الخزا، وأشار أيضا ألى أن البحيرة لا تصلح لأن تكون خزانا لسعتها الكبيرة وزيادة نسبة البخر الى أكثر من نصف ايرادها، كما أن صيانة وادارة الخزان قد تسبب مشاكل سياسية مستقبلة (28).

وبالرغم من أن اللورد كرومر أيد – من حيث المبدأ – البند الخاص بتعهد منليك ازاء بحيرة تسانا في معاهدة سنة 1902 ووصفه بأنه قيد مهم، وأنه رفض تنفيذ أي عمل في هذه البحيرة حتى ولو وافق عليه منليك. وقد علل رفضه هذا بالنفقات الباهظة لأي عمل يعمل في بحيرة تسانا، ثم أنه لابد من انشاء خط حديدي من أي مكان في وادي النيل الى هذه البحيرة ، وقبل اقامته يجب عمل دراسات عديدة لكي يختار أحسن الطرق التي يمد فيها هذا الخط ومدى صلاحيته الهندسية ونفقاته. هذا بالاضافة إلى أن كون بحيرة تسانا هذه داخل الاراضي الأثيوبية يمنع تنفيذ أي مشروع بها. لأن أي عمل بها قد يولد الشبهات والمخاوف عند الاثيوبيين من أن يكون هذا العمل بداية للتعدي على جزء من بلادهم فتكون بداية لتوتر العلاقات بين بريطانيا ومصر من جهة وأثيوبيا من جهة أخرى (29). وطلب صرف النظر عن هذا المشروع ووافقه في ذلك جارستن (30). وبالفعل صرف النظر عن المشروع وبدأت الدراسات لشق ترعة كبيرة وانشاء قناطر عند الروصيرص لتعمير وزراعة أراضي سهل الجزيرة وذلك حتى لا تتاثر مصر من جهة مقنناتها المائية (31)ز

ومنذ بعثة ديبوي هذه لم ترسل بريطانيا ومصر أية بعثات دراسية أخرى الى هذه المنطقة. على أنه في سنة 1915 ارسلت مصر وبريطانيا بعثة أخرى الى منطقة بحيرة تسانا وذلك من أجل اجراء مزيد من الدراسة والبحث. وقد كان ارسال هذه البعثة نتيجة لمفاوضات جرت بين مصر وبريطانيا والسودان من جهة وأثيوبيا من جهة أخرى وكانت هذه البعثة مكونة من بيرتون بكلي ويمثل مصر وكولونيل بيرسون يمثل السودان ومعهما وفد أثيوبي. ولكن نتيجة للاضطرابات التي كانت تجتاح أثيوبيا في ذلك الوقت لم تستطع هذه البعثات أن تقوم بعملها على أكل وجه. وان كانت قد قامت ببعض القياسات في مخرج البحيرة وعمل مسح مفيد لسطحها وتحديد المناطق التي يغمرها الفيضان السنوي حول جزء كبير من شاطئها (32). وبصفة عامة أيدت هذه البعثة ما سبق أن ذكره ديبوي في تقريره عن رحلته الى البحيرة في أواخر سنة 1902 (33).

وربما كان السبب في ارسال هذه البعثة هو تأكيد حقوق مصر والسودان، وبريطنيا في منابع النيل الأثيوبية لدى حكام أثيوبيا الجدد، اذا كان منليك الذي تعهج بتعهده الذي سبق أن ذكرناه في سنة 1902 قد مات وخلفه لدج باسو، وبالتالي فهذه البعثة والموافقة عليها من حكام أثوبيا الجدد وهو اعتراف ضمني باستمرار معاهدة سنة 1902 والتزامهم بها، أو ربما تكون لهذه الدراسات علاقة بخزان مكوار الذي كانت بريطانيا قد بدأت في سن 1913 تفكر في انشائه للتوسع في زراعة سهل الجزيرة (34). ونلاحظ أن بريطانيا فضلت انشاء خزان مكوار داخل الأراضي السودانية عن انشاء خزن بحيرة تسانا، وذلك لأنه خارج نفوذها ولأنه قد ينتج عنه مشاكل سياسية مستقبلية.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى واستقرار الأوضاع السياسية في أثيوبيا بتولي الامبراطورة زوديتو العرش وتعيين الرأس تفري ماكونين وليا للعهد ووريثا للعرش أرسلت مصر وبريطانيا والسودان بعثة جديدة مكونة من مستر جرابهام ويعمل في ادارة الري المصري بالسودان، ومستر بلاك ويعمل في ادارة الطبيعيات في وزارة الأشغال المصرية. وكانت البعثة تحت اشراف الحكومة المصرية. وقد وافقت الحكومة الأثيوبية – بعد مفاوضات – على أن تقوم هذه البعثة بأبحاثها في منطقة البحيرة على أنها طلبت أن تأتي أولا أديس أبابا لمقابلة الرأس تفري، وبالفعل تم ذلك واتضح من هذه المقابلة أنه لم يكن يعرف سبب اهتمام بريطانيا بهذه البحيرة أو ما هي فائدتها لها. وقد قدمت البعثة شرحا مختصرا لأهمية معرفة الكميات المتاحة من المياه التي تمد بها البحيرة النيل الأزرق، لتحديد حجم الأراضي الزراعية التي يمكن التوسع في زراعتها في سهل الجزيرة في السودان، وأشار ايضا الى أن مصر تحتاج إلى مياه النيل الأزرق في فصل الجفاف ، ووافق تفري على أن تقوم البعثة بأبحاثها. وقد كتبت ، هذه البعثة تقريرا هاما أوصت فيه ببناء خزن على البحيرة قدرت تكاليفه 2.300.000 جنيه مصر وبناء خط حديدي أو طريق سيارات يربط البحيرة بالسودان. ولقد شكرت الحكومة المصرية حكام أثيوبيا على سماحهم للبعثة بالقيام بابحاثها في منطقة البحيرة (35).

على أن هذا الخزان لم يبن لأن الحكومة الأثيوبية الجديدة خافت على بلادها من تغلغل النفوذ الأجنبي فيها وانتهائه بالسيطرة عليها، كذلك خشيت على كنائسها وآثارها الدينية المحيطة بالبحيرة والجزر الموجودة بداخلها (36). ويلاحظ هنا أن الحكومة الأثيوبية الجديدة لم تعرف بتعهد منليك وبالتالي لم تعترف به، وفي هذا هدم لكل ما قامت به بريطانيا من جهود لتحصل على تعهد منليك هذا. كذلك يلاحظ أن بعثة جرابهام شرحت للراس تفري أهمية البحيرة للسودان ومصر وأوصت بعد ذلك في تقريرها ببناء الخزان، وبالتالي فقد أعطت للحكومة البريطانية عاملا جديدا تفاوض به الحكومة الأثيوبية مرة أخرى للحصول على الأقل على تعهد مشابه لتعهد منليك.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الهامش