اقتصاد مصر العثمانية

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

النهب العثمانى التركى لمصر - الجبايات

عبدالعزيز جمال الدين

كانت الجبايات التى كانت تنهب من مصر وتنقل إلى السلطنة العثمانية تجبى عينا (محاصيل زراعية) من الفلاحين، ثم يأخذونها الملتزمون للبيع فى أسواق المقاطعة أو الولاية أوفى أسواق العواصم والمدن الكبرى، وذلك من أجل سداد الأموال الخاصة بالخزانة السلطانية. وفى حالات محدودة كان يسمح بدفع جزء من العوايد بشكل عينى للخزانة من بعض إقطاعات الوجه البحرى فى صورة قطن أوأرز أوخيار شنبر (هوليس الخيار المعروف ولكنه ثمرة شجرية على هيئة قرون طويلة تكون عند جفافها بنية اللون تستخدم لعلاج أمراض المعدة، وكان السلطان يحتكره ويصدر لإستانبول مباشرة) أو السكر.

وعندما كان الفلاح يدفع للملتزم ما عليه يقوم الملتزم بتوريد مبلغ أقل للخزانة السلطانية، ومن ثم يحتفظ بالفارق بين المبلغين لنفسه. وكنتيجة لمثل هذه الممارسات، كان الفلاح المصرى يدفع المزيد من المال تحت العديد من المسميات التى تبتدعها الإدارة العثمانية ورجالها فى مصر. وفى زمن الحملة الفرنسية قُدر أن ما يقرب من 25% من عوايد ضريبة الأرض التى كان عليها أن تذهب إلى الخزانة كان يتم الاستيلاء عليها بمثل هذه الطريقة.

وإلى جانب الالتزامات المالية السابقة التى كانت تجمع لصالح الخزانة السلطانية، كانت هناك أموال أخرى تجبى كمصاريف إدارية لصالح القائمين على جمع أموال هذه الخزانة تسمى "مال كشوفيه" وهى نوعان "كشوفيه قديم" و"كشوفية جديد".

(1) يشمل مال الكشوفية القديم ما يلى:

  1 ـ مال كشوفيه. 2 ـ حق طريق. 3 ـ تذاكر جاويشيه.
  4 ـ كلوفه وطلبه. 5 ـ خادم عسكر. 6 ـ مال جهات.
  1 ـ مال كشوفية: فى قانون نامه مصر، كان من سلطة الكشاف حكام الأقاليم أن يجمعوا     أموال، محددة نظريا، بعشرة بارات من كل قرية بوصفها”مال كشوفيه”وذلك على سبيل تعويضهم عن التكاليف التى يتحملونها من مقام وإعالة إبان ترحلهم فى القرى للقيام بواجباتهم. إن هذه الضريبة النقدية قد تم وضعها كبديل لضريبة عينية كان مقدارها خروف عن كل قرية، ولكن مع مضى الزمن أضاف الكشاف إلى هذه عوايد أخرى على الفلاح بنفس الاسم لتأخذ نفس شرعيتها.

ويكفى أن نذكر هنا مثالا واحدا لما كان يبتزه الكشاف بشكل رسمى إلى جانب مال السلطان والجزية، ففى سجل الترابيع رقم 1605 الخاص بولاية الشرقية سجل المال الإضافى من الكشاف على قرية ”منية عامر” كالآتى بالبارة:


    2000  ثمن حصان تقدمه.
    2000  عادة قئمقام.
    300   عادة الخازندار.
    1000   ثمن اغنام الضيافة.
    1020   ثمن اغنام الهبه.
    1000   ركبات (ركايب) مقدمة لرجال الإدارة.
    30600  ثمن سمن معتاد.
    3240   عادة الملتزم.
    ــــــــــ
    41160  المجموع.

2 ـ حق طريق: اعتمدت فكرة هذه الضريبة على ما فرضه العرب على أهل مصر من أنه كان لكل عربى يمر بقرى الفلاحين المصريين الحق فى تكاليف الإقامة والضيافة الإجبارية بها. وفى قانون نامه مصر كان من حق الجند القائمين على جمع الضرايب الحصول على نفقات الرحلة والإقامة من الفلاحين.

وفى الأعوام التى تلت صدور قانون نامه مصر نجد أن مصطلح ”حق طريق” قد ضُم إليه عوايد أخرى مفروضة على الفلاحين لصالح الديوان والوالى والملتزمين المحليين وغيرهم. وهكذا مرة أخرى نجد أن عوايد جديدة قد تم إعطاؤها الشرعية عن طريق ربطها بالضرايب التى سمح بها القانون قبل ذلك.

3 ـ تذاكر جاويشيه: منذ أن أصبح ”حق طرق” ضريبة عامة ثابتة للعديد من الموظفين، تم فصل الجزء الخاص بالجند عنه وسمى ”تذاكر جاويشيه” وذلك ابتداء من عام 1106 هـ. = 1694 م. كان يجمعه الجند من الفلاحين بحسب تقديرهم لمسافة السفر ومدة الإقامة، وذلك بناء على”تذاكر” تمنح للجنود بصرف النظر عن فرقتهم العسكرية”أوجاقهم". وقد زادت الضرايب التى جمعت باسم هذه التذاكر بشكل هائل تحت سطوة العنف حتى بلغت 1,118,301 بارة فى العام. وذلك كما قررتها الميزانية التى اعتمدها الغازى حسن باشا سنة 1201 هـ. = 1786 م. ولكنه مع الوقت صار من الصعب على الجند جمع قيمة هذه ”التذاكر” بسبب صراعاتهم عليها، فقام الباشا فى سنة 1189 هـ. =1775 م. بناء على طلب الجند والأمراء المماليك بضم ”تذاكر الجاويشية” إلى ضريبة الأرض الزراعية، ثم تخصم منها وتوزع على هيئة رواتب تدفعها الخزانة السلطانية.

4 ـ كلوفه وطلبه: وهى تشبه ضريبة ”حق طريق"، ولكن بينما كانت ضريبة”حق طريق”هذه ذات طابع رسمى، فإن الكلوفة والطلبه لم تكن كذلك، وظلت تجبى بشكل غير رسمى بالرغم من ضخامة جبايتها، فقد وصلت فى متوسطها ما بين 2000 و2500 باره عن كل قرية، وفى زمن الحملة الفرنسية نجد أن 6,217,312 باره كان يتم جمعها سنويا على سبيل الكلوفه والطلبه.

5 ـ خدم العسكر: هذه الضريبة فرضت على القرى الوافعة فى ولايات الوجه البحرى من أجل الدعم المالى لأوجاقات التفكجيان، الجومليان والجراكسه الذين كانوا يرسلون فى معية العسكر لخدمة حكام الولايات والمحافظة على أمنها. وقد كانت هذه الضريبة تجبى من الملتزم على أساس تذاكر يصدرها حكام الولايات. وفى زمن الحملة الفرنسية بلغت جملة الأموال التى جمعت تحت هذا الاسم 4,396,313 باره كان أغلبها يستحوذ عليه حكام الولايات.

6 ـ مال جهات: منذ منتصف القرن السادس عشر كانت هذه الضريبة تجمع من الولايات التى تتجمع بها قوافل الحاج المصرى وهى الغربية والبحيره والشرقية من أجل شراء المواد التموينية بهدف إرسالها إلى قلاع مدينتى العقبة والأزلم، ولكى تزود قافلة الحاج باحتياجاتها فى رحلة العودة من الحج.

كانت هذه الضريبة فى أول أمرها لا تزيد عن 594,000 باره (سنة 1107 هـ.= 1695 م. تجمع من الولايات السابقة الذكر. ولكن فى سنة 1182 هـ.= 1768 م. تم رفعها إلى 1,175,000 باره، بالإضافة إلى 300,000 بارة تم فرضها على ولاية المنصورة”مال جهات". ونظرا لأن هذه الزيادات تم فرضها فى القرن الثامن عشر فإنها كانت فى الواقع تشكل جزءا من أموال ما يسمى”كشوفيه جديده”ولكنه تم إدراجها تحت بند الكشوفيه القديمة لإعطائها الصفة الرسمية. ولقد استمرت هذه الضريبة فى الزيادة حتى بلغت 2 مليون باره سنويا فى القرن الثامن عشر (1182 هـ.= 1768 م.)، ثم استغلت هذه الضريبة وأدرج تحت اسمها العديد من الجبايات الباهظة التى ارهقت الفلاح المصرى، حتى بلغت وقت الحملة الفرنسية 6,951,288 باره كان لا ينفق منهاعلى الغرض المحدد لها إلا النذر اليسير.

(2) كشوفيه جديد

وتشمل مايلى:

1 ـ مال رفع المظالم. 2 ـ فردة التحرير. 3 ـ كلوفه جديدة. من واقع أن ضرائب الكشوفية القديمة قد تحولت إلى إلتزامات عرفية ذات طابع ثابت ومستقر، وأن معظمها قد صادرها حكام الولايات لأنفسهم، نجد أن مجموعة من الضرائب الجديدة قد أخذت فى الظهور من أجل تكوين مصادر دخل جديدة لمراكز قوى جديدة، بالرغم من أنها قًررت وتم جبايتها لنفس اسباب الكشوفيه القديمة. وأهم هذه الضرائب.

1 ـ مال رفع المظالم: بعد أن قام محمد بك أبوالدهب بالقضاء على حركة على بك الكبير، وأضحى هونفسه شيخا وحاكما للبلد، نجده يسعى لزيادة دخله وعوائده الشخصية بتحميل الفلاحين المصريين عوايد جديدة، منها ضريبة سماها”رفع المظالم"... فرضها على كل قرى مصر بعد أن قسمها بحسب عوايدها إلى فئات: عليا، يطلب منها 12,600 باره سنويا، ووسطى، تدفع 9,600 باره سنويا، ودنيا، تدفع 4,800 باره.

هذه الضرايب وصل عائدها إلى 12 مليون باره سنويا، يذهب ثلثها لحكام الولايات، وثلث لقافلة الحاج، والثلث الأخير كان من نصيب شيخ البلد (محمد بك أبوالدهب). وتحت حكم خلفاء أبوالدهب (أى مراد بك وإبراهيم بك) استمرت ضريبة رفع المظالم مع بقاء ضرايب الكشوفية القديمة المشابهة لها والمحددة لذات الأغراض.

وعندما أتى الغازى حسن باشا إلى مصر سنة 1201 هـ.= 1786 م. من أجل أن يدعم السيطرة العثمانية على الإدارة المالية فى مصر نجده يصدر مرسوما ينص على إلغاء ضريبة ”رفع المظالم” والعديد من من ضرائب الكشوفيه الجديدة، ولكنه وقبل أن يغادر مصر عائدا إلى إستانبول نجده يُعيد هذه الضرايب تحت اسم جديد هو ”حق الحراس” أو”حق البياتات". وقد ظلت هذه الضريبة فى زيادة مستمرة دون أى رادع أوضابط حتى بلغت وقت دخول الحملة الفرنسية 16,274,839 باره.

2 ـ فردة تحرير: فى أعقاب خروج الغازى حسن باشا عائدا إلى إستانبول حدث طاعون كبير فى مصر أدى إلى وفاة اعداد كبيرة من الأمراء المماليك واصحاب الالتزامات كان من نتيجته استيلاء مراد بك وإبراهيم بك على معظم هذه الإلتزامات، وقاموا (سنة 1206 هـ.= 1791 م.) بفرض ضريبة ”فردة تحرير” قسمت القرى على أساس ثروتها الإقتصادية، فئة عليا تدفع 9000 باره سنويا، وفئة وسطى تدفع 6000 باره، وفئة دنيا تدفع 3000 باره، ثم زيدت هذه الفئات حتى بلغت عشرين ألف باره على الفئة العليا وخمسة عشر الف باره على الوسطى وخمسة آلاف باره على الفئة الدنيا. 3 ـ كلوفه جديده: عندما فرض محمد بك أبوالدهب ضريبة”رفع مظالم”نجده يفوض القائمين على جمعها من الجند بفرض ضريبة ”حق طريق” إضافية نقدا من أجل سداد نفقاتهم، وأيضا ضريبة”كلوفه”عينا من أجل سداد احتياجاتهم الغذائية. هذه الضرائب اقرها الغازى حسن ياشا عندما أقرّ ضريبة ”حق البياتات".

أضف لذلك عدة ضرائب وعوايد جديدة قُررت على القرى لصالح الأمراء المماليك وغيرهم ممن يمرون عبر هذه القرى، ومن أجل الحصول على وضع رسمى لهذه العوايد والضرايب وُضعت تحت اسم ”كلوفه جديده” وصل مجملها عند دخول الحملة الفرنسية إلى مصر 8,944,547 باره.


(3) عوايد براني: وإلى جانب مال الكشوفيه القديم ومال الكشوفية الجديد كانت هناك عوايد أخرى يُرهق بها كاهل الفلاح المصرى لصالح الملتزمين تسمى ”عوايد برانى". إن الملتزمين من أجل أن يزيدوا دخولهم فرضوا على القرى مجموعة من ضرائب المخرجات على ”المال الحر” أى مال الخراج سميت ”برانى قديم” هى ذاتها التى فرضوهابعد ذلك فى القرن الثامن عشر تحت اسم ”برانى جديد".

إن عوايد البرانى القديم والجديد كان يجمعها وكلاء الملتزمين كمقابل لأعمال مشروعات الرى والبدار. ولقد كانت هذه العوايد متغيرة بحسب النفقات السنوية. كما استمر جمع البرانى القديم حتى بعد انتفاء الهدف منها لسنين طويلة، فكانت بذلك تمثل دخلا للملتزمين دون مقابل. ولقد قدّر علماء الحملة الفرنسية عوايد البرانى 143,950,016 باره تمثل حوالى 35% من مجمل مال الخراج (الحر) منها 49,880,494 باره (أى الثلث تقريبا) يستولى عليها حكام الولايات، بينما 94,069,522 باره الباقية من عوايد البرانى كانت تذهب للملتزمين.

(4) الفايظ: كان من حق الملتزمين أن يحتفظوا بفائض الأموال بعد توريد مال الخراج والمخرجات. وتبعا لأرقام الحملة الفرنسية نجد أنه فى سنة 1213 هـ.= 1798 م. وصل الفايظ الذى استولى عليه الملتزمون إلى 180,158,507 باره أى 45 % من مقدار المال الحر فى هذه السنة. وفى النهاية نجد أن الفلاحين كانوا مرغمين أن يسلموا كل ناتج عملهم ما عدا ذلك الكم الضرورى لمعاشهم، وفى كثير من الأحيان كان الفلاحون وأولادهم يقومون بالخدمة الإلزامية عند الملتزمين على سبيل ضمان ولائهم وأدائهم للجبايات المالية المفروضة عليهم (انظر ترجمة الشيخ المهدى فى كتاب الجبرتى”عجايب الآثار”جـ 5 صـ 1195).

وعندما كان يزيد عسف وأبتزاز الملتزمين للفلاحين، خاصة فى سنين هبوط فيضان النيل، كان الفلاحون يهربون من قراهم، ولكن مطاردتهم وأهاليهم بالعنف الشديد أدى إلى اندلاع تمردات عديدة من الفلاحين التى كانوا يدمرون فيها أجهزة الرى ويقتلون الملتزمين وأعوانهم. وفى بعض الأحيان كانت هذه التمردات تمتد إلى الحضر والعاصمة.


الجزء الثاني: الجباية بالالتزام

عبد العزيز جمال الدين
ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا المقال

كان للفلاح المصرى طوال فترة الحكم المماليكى، بشكل عام، حق زراعة الأرض مقابل جزء من عوايدها، وكانت هذه الأرض تسمى"الأثر"، وكان يحق للفلاح زراعتها دون ملكيتها، ولكنه فى نفس الوقت يمكنه نقل حق الزراعة إلى أولاده أو أشخاص آخرين يقوم هو باختيارهم.[1]

وخلال القرن الأول من الاحتلال العثمانى لمصر أعتُبِر الفلاح ملزم بأرض"الأثر" التى يزرعها. ففى عهد الوالى العثمانى"إبراهيم باشا الخادم" وخلفاؤه أجبروا الفلاحين المتسحبين من أراضيهم، التى تخربت بسبب الحروب الواسعة فى الدلتا بين العثمانيين والمماليك والبدو، وفداحة العوايد على العودة إلى زراعة الأرض بحسب "قانون نامه مصر" أو إحضار بديل عنهم.

وحتى بداية القرن السابع عشر الميلادى (الحادى عشر الهجرى)، كانت عملية جمع الجبايات والعوايد من الفلاحين تتم عن طريق وكلاء يسمون "الأمناء" يحصلون على رواتب سنوية ثابتة تدفع لهم من الخزانة الأميرية وذلك بغض النظر عن حجم العوايد التى يجمعونها، ولهذا لم يكن لهم مصلحة فى جمع أى ضرايب أوعوايد زائدة.

لكن خلال القرنين التاليين أدى ضعف السلطنة وبالتالى سلطة الباشا فى مصر وسيطرة الأمراء المماليك على السلطة إلى تفضيل السلطنة لنظام جديد رأت فيه أنه يعفيها من الجهد ويزيد من جباياتها وهونظام"الالتزام" الذى مُنحت بمقتضاه الأراضى الزراعية لـ"الملتزم" الذى يدفع عوايد الأرض مقدما ثم يجمعها من الفلاحين أضعافًا مضاعفة، فكان ذلك مصدر دعم مالى للأمراء المماليك وأتباعهم بسبب احتكارهم لنظام الالتزام، وسببًا فى ازدياد ضعف سلطة الباشا خاصة منذ منتصف القرن السابع عشر، وداعيا أكثر لهروب وتسحب الفلاحين من أراضيهم، خاصة أن أرض"الوسية"، وهى التى كان يقتطعها الملتزم لنفسه، كان يجبر الفلاحين على زراعتها دون مقابل، كما أصبح على الفلاح أن يدفع ضريبة للملتزم عندما يترك أرض"الأثر" لأولاده أو لغيره بسبب عجزه أو كثرة مال السلطان عليه. أضف لذلك أن الأعمال العامة فى الترع والمصارف صارت إجبارية وسخرةً.

ولقد زاد الأمراء المماليك"البكوات" من نفوذهم المادى عندما تمكنوا من السيطرة على عوايد "الحلوان" الناتجة عن بيع الالتزامات الشاغرة بسبب موت ملتزمها أو سحبها منه بسبب إخلاله بتوريد العوايد، وهى العوايد التى كانت تجسد المظهر الرئيسى للسلطة العثمانية فى مجال الإدارة والمالية. فمن المعروف أنه بعد عام 1586 م = 995 هـ. كانت عوايد"الحلوان" تُمنح للباشا كهبة من السلطان تحت اسم"خاص وزير"، ولكنه فى عام 1082 هـ.= 1671 م. عندما أصبح على الباشا أن يدفع للخزانة السلطانية ضريبة سنوية على هذا الحلوان تحولت هذه الضريبة إلى الإدارة المالية فى مصر كهبة من السلطان كذلك، ولأن الباشا لم تكن له مصالح مالية مباشرة فى رفع عويد الحلوان حتى لا ترتفع الضريبة التى سيدفعها على هذه العوايد، كما أن نفوذه الذى أخذ فى الضعف فى مواجهة الأمراء المماليك، قد حدّ من قدرته على تحديد مبلغ مرتفع لهذه العوايد، فإن الصيغة التى انتهت إليها هذه العوايد هى فى الغالب ما كان يتفق عليه بين الأمراء المماليك على تحديد قيمة هذه العوايد بما يوافق مصلحتهم، بل أحيانا كان هذا الاتفاق يتم مع الباشا نفسه، ولهذا نادرًا ما كانت الخزانة السلطانية تعرف الحجم المالى لعوايد الحلوان.



يضاف إلى ما سبق أنه خلال القرن الثامن عشر ظهرت عادة جديدة مضمونها أن يدفع مشترى الالتزام عربونًا فى لحظة الشراء، ثم يسلم باقى المبلغ على أقساط يدفعها من أرباحه التالية. وكان الملتزم فى كثير من الأحيان يماطل فى دفع هذه "التقاسيط" وكان الباشا يفشل فى جمعها بسبب ضعف نفوذه المستمر، حتى وصل الأمر إلى أنه كانت تُمنح الالتزامات دون حلوان إما بموافقة الباشا تحت ضغوط الأمراء المماليك، أوبالتحايل على ذلك عن طريق أن يقوم الملتزم قبل موته بالتخلى سرًا عن حقه فى الالتزام لمن يرغب فى أن يجعله خليفة له، وحينئذ عندما يموت وتقوم الإدارة المالية العثمانية بمحاولة الاستيلاء على الالتزام يقوم المالك الجديد بإظهار صكوك تنازل الملتزم المتوفى فيمنع الالتزام من البيع ولا يحصّل عليه بالتالى عوايد الحلوان. وفى حالات أخرى عندما كان الملتزمون يموتون فى ظروف غير متوقعة، كما فى الطواعين والحروب والمؤامرات، أو يهربون نجد أن ورثتهم كانوا قادرين على أن يجبروا الباشا على أن يبيع التزامه لهم مقابل أن يدفعوا عوايد الحلوان للباشا مباشرة. وكان هذا يسمى"المصالحة"، وكان العائد الذى يأخذه الباشا فى هذه الحالة يسمى"بمال المصالحة". وقد حاولت السلطنة العثمانية أن تنظم هذه العملية بأن يمنع المصالحة على الملتزم الهارب أو الذى يعدم بسبب الجرائم الكبرى، ولكن ذلك لم يأتِ بنتيجة تذكر بسبب اختلال توازن القوى بين الباشا والأمراء المماليك.


وفى نهاية القرن الثامن عشر نجد أن الأراضى التى كانت، من الناحية النظرية، بمثابة ممتلكات للسلطنة فى مصر كانت فى الواقع تُمتلك بوصفها ملكا خاصا للأمراء المماليك. ومن أجل أن تكون هناك صفة قانونية لهذه الملكية الخاصة للأرض حدث تطور أدى إلى إيجاد أسلوب جديد لمنح"المقاطعات" سمى"الملكانى"، إن الالتزام يظل نظريا قابل للبيع والإخلاء، بينما الملكانى، بالإضافة إلى حقوق"الملتزم"، كان له الحق فى أن ينقل"مقاطعته" إلى غيره بالوراثة، وهذا يشكل تطورا هاما للغاية فى مجال الملكية الخاصة للأرض. وبعد عام 1170 هـ 1765= م. تحولت معظم مقاطعات الالتزام إلى نظام"الملكاني" بفضل ازدياد قوة ونفوذ الأمراء المماليك. وهكذا نجد أن نظام الملكانى يمثل نظام من الملكية كان من الممكن أن يرتقى ويسود حيازات الأرض بمصر لولا وصول محمد على للحكم.

الهامش

  1. ^ عبد العزيز جمال الدين (2015-08-30). "النهب العثمانى لمصر - 2- الجباية بالالتزام". صحيفة الأهرام.
الكلمات الدالة: