الألبيجانس، Albigensians هو جماعة مسيحية يعود اسمها إلى مدينة ألبي جنوبي فرنسا، وكانوا جزءًا من فرقة تعرف بالكاثاري. انتشرت الجماعة في أجزاء من فرنسا وألمانيا وإيطاليا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين. واعتقد أتباعها بالتضاد المستمر لمبادئ الخير والشر في العالم.كما اعتقدوا أن الأمور الدنيوية تمثل قوى الشر، وأن الروح البشرية هي الخير الوحيد. وكانت آراؤهم تقضي أن الروح كانت أسيرة الجسد كعقاب لارتكاب الخطيئة، وأن أعلى مراتب الخير كان يتمثل في فك إسار الروح من الجسد. وقد عارضوا الزواج وإنجاب الأطفال وأكل اللحوم ومنتجات الحيوان الأخرى. وأيدوا الانتحار، خاصة عن طريق الجوع. وقد تزايدت شعبيتهم إلى أن حكمت عليهم الكنيسة بالهرطقة في منتصف القرن الثاني عشر الميلادي. ونجحت الحملات الصليبية ومحاكم التفتيش في تحطيم قوتهم تدريجيًا في أول القرن الثالث عشر الميلادي، على الرغم من قيامهم بثورات من وقت لآخر. وفي حوالي عام 1350م تلاشى وجودهم في غربي أوروبا.

والكاثارية، وهي حركة دينية لها جذور غنوصية بدأت في نص القرن الـ12. قد إعتبرت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية آن ذاك أنها طائفة خارجة من الدين المسيحي. كانت الكاثارية موجودة في معظم مناطق أوروبا الغربية، لكنها من أصل فرنسي جنوبي.


وكانت أسماء مختلفة تطلق على الشيع الملحدة كلها، فكانت تسمى شيعة الكاثارى، وهذا اللفظ مشتق من كلمة يونانية معناها "الطاهر". أو البلغاري نسبة إلى أصلهم (ومن هذا اللفظ اشتقت كلمة "بجر Bugger" للسباب)، والألبجنسيين نسبة إلى بلدة ألبي Albi التي كانوا يكثرون فيها بنوع خاص. وكانت مدائن منبليه، ونربونه ومرسيليا المراكز الفرنسية للشيع الملحدة، ولعل منشأ هذا هو اتصالها بالمسلمين واليهود، وتردد التجار من مراكز الإلحاد في البوسنة، وبلغاريا، وإيطاليا. ونشر التجار حركة الإلحاد في طولوز، واورليان، وسواسون، وأراس، وريمس، ولكن لانگدوك Languedoc وپروڤانس بقيتا حصتها الحصين. وكانت حضارة العصور الوسطى الفرنسية قد بلغت ذروتها في هاتين المقاطعتين، فكان أتباع الأديان الكبرى يختلفون فيهما متحابين كما يتحاب أهل الحضر المهذبون.

وكانت حساناً مزهوات، والأخلاق طليقة من القيود، وكان الشعراء الغزليون ينشرون الأفكار المرحة، وكان عصر النهضة وشيك البدء فيهما كما كان وشيك البدء في إيطاليا أيام فردريك. وكانت فرنسا الجنوبية تتألف وقتئذ (1200) من إمارات تكاد تستقل كل منها بشئونها لا يربطها بالولاء إلى ملك فرنسا إلا رباطٍ واه. وكان نبلاء طولوز هم أعظم السادة في ذلك الإقليم، فقد كانوا يملكون من الأراضي أكثر من أملاك الملك الخاصة. وكانت عقائد الكاثارى وشعائرهم من ناحية عودة إلى العقائد والأساليب المسيحية الأولى، وكانت ناحية أخرى ذكرى غامضة للإلحاد الأريوسي الذي انتشر في فرنسا الجنوبية في عهد القوط الغربيين، ومن ناحية ثالثة نتيجة للآراء المانوية وغيرها من الآراء الشرقية. وكان من بينهم رجال دين يرتدون ثياباً سوداء، ومطارنة يسمون الكـُمـَّل Perfecti، يقسمون وقت ترقيتهم لهذه المناصب أن يتخلوا عن آبائهم أزواجهم، أبنائهم، أن يهبوا أنفسهم "للّه والإنجيل... ألا يقربوا امرأة قط، ولا يقتلوا حيواناً، ولا يأكل اللحم أو البيض أو منتجات الألبان، وألا يطمعوا إلا السمك والخضر. وكان أتباعهم "المؤمنون (Gredentes)" يتعهدون بأن يقسموا فيما بعد الأيمان على هذا، وكان يسمح لهم قبل أن يقسموها أن يأكلوا اللحم، ويتزوجوا ولكنهم كان يطلب إليهم أن يخرجوا من الكنيسة الكاثوليكية، وأن يسيروا نحو الحياة "الكاملة"، وأن يحيوا كل واحد من الكمل بثلاث ركعات علامة على التعظيم.

ويتقسم فلسفة الكاثارى الدينية الكون كما يقسمه المانوية إلى الخير: اللّه والروح، والسماء، والشر، الشيطان،والمادة ، والعالم المادي. وتقول إن الشيطان لا اللّه هو الذي خلق العالم المرئي. وهي تعد المادة كلها شرا بما فيها الصليب الذي مات عليه المسيح والقربان المقدس، وتقول إن المسيح لم يكن يتحدث إلا مجازاً حين قال عن الخبز : "هذا جسمي"(13). وإذا كانت الأجسام كلها من المادة فإن كل اتصال بها يدنس المتصل، وكل الاتصال الجنسي إثم، وكان الجماع هو خطيئة آدم وحواء(14). ويصف أعداء الألبجنسيين أولئك القوم بأنهم يرفضون العشاء الربا، والقداس، وتعظيم الصور المقدسة، والتثليث، ولا يؤمنون بأن المسيح ولد من عذراء، وعندهم أن المسيح من الملائكة، ولكنه ليس هو اللّه. ويقال عنهم إنهم ينكرون الملكية الخاصة، ويأملون أن تقسم الطيبات بين الناس بالتساوي (15). وقد اتخذوا "عظة الجيل" أساساً لمبادئهم الأخلاقية ؛ وكانوا يعملون أن يحبوا اعداءهم، وأن يعنوا بالمرضى والفقراء، وألا يقسموا قط، وأن يستمسكوا على الدوام بالسلم ؛ وكان يقال لهم إن العنف يتنافى مع الخلق الكريم،ولو كان موجهاً للكفار، وإن عقوبة الإعدام من أكبر الجرائم، وإن على الإنسان أن يوقن وهو مطمئن أن اللّه سينتصر آخر الأمر على الشر من غير أن يستخدم وسائل شريرة(16). ولم يكن في هذه الفلسفة الدينية نار ولا مطهر، بل إن كل نفس ستنجو بعد أن تتقلب في عدة أدوار من التناسخ تطهرها من آثامها. ولا بد للإنسان أن يموت وهو طاهر لكي يصل إلى السماء؛ ولهذا كان عليه أن يتلقى من قس مسيحي القداس الأخير الذي يتم تطهير الروح من آثامها. وكان الكثاريون المؤمنون يؤجلون هذا القداس (كما كان بعض المسيحيين الأولين يؤجلون التعميد) إلى مرضهم الأخير في ظنهم ، وكان الذين يشفون من هذا المرض يتعرضون لخطو الدنس من جديد، وللموت دون أن يقوموا بمراسيم القداس الأخير، ولهذا كان من أكبر البلايا أن يشفى الشخص من مرضه بعد أن يقوم بمراسيمه. وكان القساوسة الألبجنسيون يتهمون بأنهم يعملون لمنع هذه الكارثة بإقناع الكثيرين من المرضى الذين يشفون بأن يميتوا أنفسهم جوعاً ليرقوا إلى السماء. ويؤكد لنا أعداؤهم أنهم كانوا في بعض الأحيان يميتون المريض خنقاً برضاه حتى لا يكون ثمة مجال لاحتمال شفائه من مرضه الأخير(17).

ولقد كان يسع الكنيسة أن تترك شيعة الكاثارى تقضى بنفسها على نفسها، لولا أن هذه الطائفة أخذت توجه سهام النقد إلى الكنيسة. فقد أنكرت أن الكنيسة كنيسة المسيح. وقالت إن القديس بطرس لم يأت قط إلى رومة، ولم يؤسس البابوية، وإن البابوات خلفاء الأباطرة لا خلفاء الرسل، وإن المسيح لم يجد له مكاناً يضع فيه رأسه، أما البابا فيسكن قصراً منفياً، وإن المسيح لم يكن له ملك ولا مال ولكن كبار رجال الدين المسيحيين من ذوي الثراء العريض، وما من شك - كما يقول الكاثارى - في أن رؤساء الأساقفة، والأساقفة، ذوي الأملاك الواسعة، والقساوسة الدنيويين، والرهبان قسمان؛ هم الفريسيون Pharisees (الزنادقة)الأقدمون عادوا إلى الحياة من جديد ! ولم يكونوا يشكون في أن الكنيسة الرومانية هي "زانية بابل"، وأن رجال الدين هم زمرة الشيطان، وأن البابا هو المسيح الدجال(18). وكانوا ينددون بالداعين إلى الحروب الصليبية ويصفونهم بأنهم قتله(19)، وكان الكثيرين منهم يستهزئون بصكوك الغفران والمخلفات المقدسة. ويقال إن جماعة منهم صوروا العذراء في صورة قبيحة، عوراء، مشوهة الجسم، وادعوا أنهم يفعلون بهذه الصورة المعجزات ، وإن كثيرين من الناس آمنوا بقوة هذه الصور ة الزائفة، ثم كشفوا هم أنفسهم آخر الأمر عن سخريتهم(20). ونشرت كثير من آراء الكاثارى عن طريق الأغاني التي يذيعها شعراء الفروسية الغزلون، ولم يكن هؤلاء ممن تعجبهم تعاليم المسيح الأخلاقية وإن لم يعتنقوا آراء الشيعة الجديدة . غير أن جميع زعماء هذه الطائفة من الشعراء كانوا يعدون من أنصار الألبجنسيين، فقد كانوا يسخرون من الحج، والاعتراف، والماء المقدس، والصليب، وكانوا يسمون الكنائس "معششات اللصوص"، كما القساوسة الكاثوليك في رأيهم "خونة، كاذبين، منافقين"(21).

وظل رجال الدين والسلطة الزمنية في فرنسا الجنوبية حيناً من الدهر يبدون الكثير من التسامح مع طائفة الكاثارى، ويلوح أنهم أجازوا الجمهرة الشعب أن تختار بملء حريتها بين الدينين القديم والجديد(22). وعقدت مجالس عامة تتنافس فيها فقهاء الكاثارى والكاثوليك ، منها واحد عقد في كاركسون Carcassonne حضرة مندوب من قبل البابا وآخر من قبل بجر والثاني ملك أرغونة (1204). وكذلك عقدت عدة فروع مختلفة من الكاثارى مجلساً من رجال دينها في عام 1176، وحضرة ممثلون لهذه الفروع من بلاد مختلفة.

وتباحث المجتمعون في عقائد هذه الشيعة؛ ونظمها؛ وشئونها الإدارية، ووضعت قواعد تسير بمقتضاها، وانفض المجتمعون دون أن يتعرض لهم أحد(23). وفوق هذا فإن الأشراف رأوا أن من الخير لهم أن يضعفوا سلطات الكنيسة في لانجويدك، ذلك أن هذه الكنيسة كانت واسعة الثراء تمتلك الكثير من الأرض، على حين الأشراف كانوا إذا قيسوا إليها فقراء، ولهذا شرعوا ينتزعون بعض أراضيها. وحدث في عام 1171 أن هاجم فيكونت بيزيير Beziers ديراً من الأديرة، وزج أسقف ألبى Albi في السجن ، وعين أحد الخارجين على الدين لحراسته. ولما أن اختار رهبان آلية Allet رئيساً عليهم ممن لا يرضى عنهم الفيكونت أحرق الدير وزج بالرئيس في السجن. فلما مات السجين نصب الفيكونت المرح جثته في المنبر، وأرغم الرهبان على أن يختاروا في مكانه رئيساً يرتضيه. كذلك طرد ريموند روجر Raymond Roger كونت فوا foix رئيس دير پاميير Pamiers ورهبانه من ديرهم ، وأطعم خيله الشوفان من فوق من فوق المذبح، وأستخدم جنوده أذرع الصلبان التي عليها صورة المسيح مصلوباً وأرجلها مدقات لطحن الحبوب، واتخذوا صورة المسيح هدفاً للتدريب على الرماية. وهدم ريمند كونت طولوز عدداً من الكنائس، واضطهد رهبان مواساك Moissac، وطرد من حظيرة الدين (1196)، ولكن الحرمان الديني كان وقتئذ أمراً لا قيمة له في نظر الأشراف المقيمين في فرنسا الجنوبية، واعتنق الكثيرون منهم آراء الكاثارى الإلحادية، أو بسطوا على معتنقيها حمايتهم(24). [1]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الحملة الصليبية الألبيجنسية

ولما جلس إنوسنت الثالث على كرسي البابوية في عام 1198 رأى في هذه التطورات خطراً محدقاً بالكنيسة والدولة جميعاً. لقد كان يرى بعض العذر فيما يوجه إلى الكنيسة من نقد، ولكنه كان يحس بأنه لا يستطيع أن يقف مكتوف اليدين ، يرى هذا الصرح الديني العظيم الذي وضع له أكبر الخطط، وعقد عليه أنبل الآمال، والذي بدا له أقوى عاصم من العنف البشرى، والفوضى الاجتماعية، ومن ظلم الملوك-، يرى هذا الصرح يهاجم منأساسه، وتغتصب ممتلكاته، وتهان كرامته، ويتعرض لضرب السخرية والتجديف. لقد ارتكبت الدولة هي أيضا كثيراً من الذنوب، واحتضنت الفساد والموظفين الفاسدين، ولكن البلهاء وحدهم هم الذين يرغبون في القضاء عليها. وهل يستطاع إقامة نظام اجتماعي دائم على المبادئ التي تنهى عن الأبوة، وتدعو إلى الانتحار وهل يفلح نظام اقتصادي يمجد الفقر ويخلو من كل ما في الملكية من حافز إلى السعي والعمل؟ وهل يستطاع إنقاذ العلاقات الجنسية بين النساء والرجال. وتنشئة الأطفال، من الفوضى الوحشية إلا بنظام كنظام الزواج. وقد بدت عقائد الكاثارى لإنوسنت كأنها خليط من السخف، نفشت فيها سذاجة الجماهير سما زعافاً؟ وما فائدة حرب صليبية توجه إلى المسلمين في فلسطين إذا ظل هؤلاء الألبيجنسيون يتضاعفون في قلب العالم المسيحي نفسه؟

وكتب إنوسنت بعد شهرين من توليته إلى رئيس أساقفة أوتش Auch في غسقونية يقول :

إن قارب القديس بطرس الصغير تتلقفه العواصف وتتقاذفه أمواج البحر، ولكن أشد ما يحزنني ويقض مضجعي... أن قامت في هذه الأيام فئة لم نر لها فيما مضى مثيلا في تحررها من جميع القيود وفي شدة أذاها، قد ارتكبت أخطاء لا يرتكبها إلا الشياطين ، وأخذت توقع نفوس السذج من الناس في حبائلها، وتفسد بخرافاتها وبدعها الكاذبة معاني الكتاب المقدس ، وتحاول أن تهدم وحدة الكنيسة الكاثوليكية. وإذ كان... هذا الوباء قد أخذ ينتشر في غسقونية والأقاليم المجاورة لها، فإنا ندعوكم أنتم والأساقفة زملاءكم إلى مقاومته بكل ما أوتيتم من قوة... وقد أصدرنا إليكم هذا الأمر القوي النافذ أن تقضوا على هذه الفئات الملحدة بكل ما تستطيعون من الوسائل، وأن تخرجوا من أسقفيتكم كل من أصابهم دنسها... وفي وسعكم إذا اضطررتم أن تجعلوا الأمراء والشعب يقضون عليهم بحد السيف.

ويبدو أن رئيس أساقفة أوتش - وهو رجل متسامح مع غيره كما هو متسامح مع نفسه - لم يقم بالعمل الذي تدعوه هذه الرسالة إلى القيام به، أما رئيس أساقفة تربونة وأسقف بيزيير فقد قاوما المندوبين اللذين عينهما إنوسنت لينفذا أوامرهم وحدث حوالي ذلك الوقت أن اعتنقت ست سيدات تتزعمهن أخت كونت فواه مبادئ الكاثارييين، وكان ذلك في احتفال عام شهده كثير من النبلاء، فما كان من إنوسنت إلا أن استبدل بمندوبيه المحققين مندوباً آخر أشد منهم بطشاً وأمضى عزيمة ، وكان هذا المندوب هو أرنو Arnaud رئيس الرهبان السسترسيين (1204) ومنحه قوات غير عادية تجيز له أن يفحص ويحقق في جميع أنحاء فرنسا. وأمره أن يعرض على ملك فرنسا وأشرافها عفواً شاملا لكي يساعدوه في القضاء على شيعة الكاثارى الملحدة، ثم عرض البابا على فليب أغسطس فضلا عن هذا أن يمنحه نظير هذه المساعدة جميع الأراضي التي يمتلكها من يأبون الانضمام إلى حملة صليبية ضد الألبجنسين(26). لكن فليب تردد في قبول هذا العرض لأنه كان قد أتم قبيل ذلك الوقت فتح نورمندي، وكان في حاجة إلى متسع من الوقت يهضم فيه هذا الكسب الجديد. ووافق ريمند السادس صاحب طولوز أن يستخدم طريقة الإقناع مع الملحدين، ولكنه أبى أن يشترك في تشن عليهم، فما كان من إنوسنت إلا أن أصدر عليه قرار الحرمان، فلما وعد ريمند بأن يجيب البابا، عاد إلى التباطؤ والإهمال، وقال أحد الفرسان الذين أمرهم مندوب الباب بطرد الكاثارى من أرضه، "كيف نفعل هذا وقد نشأنا مع هؤلاء القوم ومنهم بعض أهلينا، ونراهم يعيشون بيننا معيشة الصالحين؟"(27). وأقبل على القوم القديس دومينيك من أسبانيا، وأخذ يخطب داعياً إلى مسالمة الزنادقة، وعاد بعضهم إلى الدين القويم متأثرين بتقواه وصلاحه(28).

ولعل المشكلة كانت بهذه الطريقة يصاحبها إصلاح شأن رجال الدين لو لم يقتل پيير ده كاستلانو Pierre de Castelnau أحد مندوبي البابا بيد فارس بسط عليه ريمند بعدئذ حمايته(29). وكان إنوسنت قد رأى جهوده التي بذلها نحو عشر سنين طوال ضد هذه الطائفة الملحدة تبوء بالخيبة، فلجأ إلى أساليب العنف الشديد، وحرم ريمند ومحرضيه من الكنيسة، وأصدر قرار التحريم ضد الأراضي الخاضعة لهم ، وعرض هذه الأراضي على كل مسيحي يستطيع القبض عليهم، ودعا المسيحيين في جميع أقطار العالم إلى حرب صليبية ضد الألبجنسيين ومن يحمونهم. وأجاز فليب أغسطس لكثيرين من بارونات مملكته أن يتطوعوا في هذه الحرب، وجاءت فصائل من ألمانيا وإيطاليا. ووعدت جميع من يشتركون في هذه الحرب بالغفران الشامل الذي وعد به من يحملون الصليب للقتال في فلسطين. وطلب ريمند المغفرة، وكفر عن ذنبه علنا (ضرب بالسوط وهو نصف عار في كنيسة القديس جيل St. Gills) ونال المغفرة للمرة الثانية واشترك في الحرب المقدسة (1209).

وقاوم معظم سكان لانگدوك، خاصتهم وعامتهم على السواء، أولئك الصليبيين، لأنهم رأوا في هجوم أشراف الشمال وجنوده المغامرين محاولة تبغي الاستيلاء على أرضهم تحت ستار الغيرة الدينية، بل إن المسيحيين الصادقين من أهل الجنوب قاوموا غارات أهل الشمال(30). ولما اقترب الصليبيون من بيزيير عرضوا عليها أن يجنبوها ويلات الحرب إذا ما سلمت إليهم جميع الملحدين الذين دون أسقفها أسماءهم، ولكن زعماء المدينة رفضوا هذا العرض وقالوا إنهم يفضلون أن يضرب عليهم الحصار حتى يضطروا إلى أكل أطفالهم فما كان من الصليبيين إلا أن تسلقوا أسوار المدينة، واستولوا عليها، وقتلوا من أهلها عشرين ألفا من الرجال والنساء والأطفال بلا تمييز بينهم، وحتى الذين احتموا منهم بالكنيسة لم ينجو من القتل(31). ومن القصص التي شاعت وقتئذ قصة لا نجد لها سنداً إلا فيما كتبه قيصريوس هايسترباخ Caesarius Heisterbach بعد عشرين عاماً من ذلك الوقت، وهي تقول إن أرنو Arnaud مندوب البابا سئل هل يؤمن الكاثوليك على حياتهم فلا يقتلون، فأجاب: "اقتلوهم جميعاً فاللّه يعلم من هم أنصاره"(32) ولعله كان يخشى أن يجهر جميع المغلوبين وقتئذ باعتناق الدين القويم، ثم يعودون بعد إلى ضلالهم. ولما حرقت بيزيير عن آخرها تقدم الصليبيون بقيادة ريمند ليهاجموا حصن كاركسون حيث وقف روجر كونت بيزيير وابن أخي ريمند وقفته الأخيرة يدافع عن الحصن، لكن الحصن سقط في أيدي الماجمين ومات روجر بزحار البطن.

وكان أكثر القواد شجاعة في هذا الحصار هو سيمون ده مونت فورت Simon de Montfort . وقدولد سيمون هذا في فرنسا حوالي عام 1170 وكان أكبر أبناء سيدمونت فورت القريبة من باريس. وأصبح سيمون بعدئذ إيرل ليست Earl of Leicester، وهو لقب ورثه عن أمه الإنجليزية. وقد استطاع سيمون أن يجمع بين التقي العظيم والحروب العوان، كما استطاع ذلك كثيرون من رجال وقته المتغطرسين. فكان يستمع إلى الصلوات في كل يوم، واشتهر بطهره وعفافه ونال شهرة عظيمة في حروب فلسطين. وأخذ في هذه الحرب الألبجنسية يهاجم بجيشه الصغير المؤلف من 4500 رجل بلدة في إثر بلدة يستحثه مندوب البابا، ويسحق كل ما يعترضه من مقاومة، ويعرض على الأهلين أن يختاروا بين يمين الولاء للكنيسة الرومانية أو القتل لأنهم مارقون، واختار آلاف منهم أن يقسموا يمين الولاء، وفضل مئات أن يقتلوا(33). وواصل سيمون حملاته أربعة أعوام خرب فيها أملاك كونت ريمند كلها تقريباً ما عدا طولوز، حتى استسلمت له طولوز نفسها في عام 1215، واجتمع مجلس من مندوبي البابا في منبلييه وقرر خلع كونت ريمند، وورث سيمون لقبه والجزء الأكبر من أملاكه.

ولم يكن إنوسنت الثالث راضياً كل الرضا عن هذه الاعمال، فقد هاله أن يجد أن الصليبيين استولوا على أملاك رجال لم يخرجوا قط على الدين وأن هؤلاء الرجال نهبوا وقتلوا كما يقتل القراصنة المتوحشون وينهبون(34). وأشفق البابا على ريمند فوظف له معاشاً سنوياً، ووضع جزءاً من أملاكه تحت وصاية الكنيسة تحتفظ بها لابنه ولما بلغ ريمند السابع سن الرشد فتح طولوز واستردها من سيمون، ومات سيمون نفسه وهو يحاصر المدينة مرة ثانية (1218).ووقفت الحرب الصليبية وقتئذ لما مات إنوسنت، وخرج من بقى حيا من الألبجنسيين المستمسكين بعقيدتهم يمارسون شعائر دينهم ويدعون له تحت حكم كونت طولوز الجديد اللين الرحيم.

وعرض لويس الثامن من فرنسا في عام 1223 أن يخلع ريمند، وأن يقضي على كل الخوارج في أملاكه، إذا سمح له هونوريوس الثالث بأن يضم هذا الإقليم إلى أملاكه الخاصة. ولسنا نعرف بم أجاب البابا، وكل ما نعرفه أن حرباً صليبية بدأت، وأن لويس أوشك أن ينتصر فيها حين لفته المنية في مونبلييه (1226). وانتهز ريمند هذه الفرصة ليعقد الصلح ومع بلانش صاحبة قشتالة فيها عن لويس التاسع، فعرض أملاك ابنته جين Jeanne على الفونس أخي لويس، وعودة أملاك ريمند بعد وفاته إلى جين وزوجها. وكانت بلانش يؤرقها ويقض مضجعها الأشراف الثائرون عليها، فقبلت هذا العرض، ووافق عليه البابا جريجوري التاسع بعد أن تعهد ريمند بالقضاء على حركة الإلحاد بقضها وقضيضها. وعقدت معاهدة الصلح في باريس عام 1229 ووضعت الحروب الإلبجنسية أوزارها بعد ثلاثين عاماً من التقتيل والتخريب، وخرج الدين القويم ظافراً من هذه الحروب، وانتهى بانتصار عهد التسامح، وحرم مجلس نربونه (1229) أن يمتلك أحد من غير رجال الدين أي جزء من الكتاب المقدس (25) وأخذ الإقطاع ينتشر، وأخذت حرية المدن وحكوماتها البلدية في الاضمحلال، وانقضى عصر شعراء الفروسية الغزلين في جنوبي فرنسا. وماتت في عام 1271 جبن هي وألفونس اللذان ورثا أملاك ريمند دون أن يكون لهما أبناء. آلت ولاية طولوز الواسعة إلى لويس التاسع والتاج الفرنسي، وأصبحت لفرنسا الوسطى وقتئذ منافذ تجارية حرة على البحر المتوسط، وخطت فرنسا خطوة واسعة نحو وحدتها، وكانت هذه الوحدة هي ومحكمة التفتيش أعظم ما أسفرت عنه الحرب الصليبية الألبيجنسية.


انظر أيضاً

المصادر

  1. ^ ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.