أبي حيان التوحيدي

ما أن يذْكرَ إسم أبو حيان التوحيدي، حتى يُذْكَرَ العلماءُ والأدباءُ الذين عايشوا الشقاءَ والحِرْمانَ والبؤس. عاش أبو حيان حياتَهُ يكافِحُ ويجاهدُ في التأليف والنسخِ واحترافِ الوراقةِ وجوْب الأقطارِ قاصداً الأُمراء والوزراءَ لعلّهم يكافئونه على علْمِهِ وأدبهِ، ولكنْ لم يكنْ من كل هذا طائل. فقد عاشَ التوحيدي كما يذكرُ في أحد كتبه على نحو أقلّ من أربعينِ درهماً في الشهر أي ما يساوي جنيهاً واحداً في وقتنا هذا. رغم إدعائهِ بأنّ كلَّ من حوله من الشُعَراءِ والعلماءِ يحظونَ من الأمراء بالمال والحظوة وليس أكثرهم يداينه علماً أو ينافسهُ أدباً. قصَدَ ابن العميد وابن عباد وابن شاهويه وبا سعدان وأبا الوفاء المهندس ومغسيرهم، ومدح وأطرى، وبكي واشتكى، وهدد وأوعد، فما نفعه مدحه ولا ذهُهْ، ولا إطراؤهُ ولا هِجاؤه، فإن استفاد شيء مما عاناه أبو حيان فإنما هو الأدب بما كتب وألف، وبما هجا واستعطف.

ولم يكن حظهُ بعدَ وفاتهِ بأحسنَ من حظهِ في حياته، فقد عجبَ ياقوتُ الحموي من أنَّ مؤرخي الرجال لم يترجموا له، مع أنَّه فيلسوفُ الأدباءِ وأديبُ الفلاسفة، ولم نَعْثرُ فيما بين ايدينا منَ الكتبِ على ترجمةٍ وافيةٍ لحياته إلا نتفاً قصيرة وأخباراً ضئيلة.

وأرادَ هو أنْ يَنتَقِمَ من الناس الذين كَفروا صَنيعه، وجحدوا عِلمَه وأدَبه، فأحرقََ في آخرِ أيامهِ كتبه، وقال: "أني جمعتُ أكثرهَا للنَّاسِ ولطلبِ المثالةِ منهم، ولعقدِ الرياسةِ بَيْنَهُم، ولمدِّ الجاهِ عندهم، فحرمتُ ذلك كُله، ولقد اضطررتُ بيْنَهم بعد العشرةِ والمعرفةِ في أوقاتٍ كثيرةٍ إلى أكلِ الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بين الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحْسُنُ بالحرِ أن يرسِمَهُ بالقلم، ويطرحُ في قلب صاحبه الألم". قال السيوطي: "ولعلَّ النسخَ الموجودةَ الآن من تصانيفه كُتِبَت عنهُ في حياته وخرجتْ من قبل حَرْقِها".

وكان من شؤمهِ أنَّهُ لم يبقَ من كتبهِ التي ألفها وتبلغُ نحو العشرينَ إلا القليل، ولم يُطْبَع منها إلا المقابساتِ والصداقة والصديق، ورسالةٌ في العلوم، ومابقى منها مخطوطاً، بل وما طُبِعَ منها مملوءٌ بالتحريفِ والتصحيفِ إلى حدٍ يُقللُ من قيمتِها والإنتفاعِ بها. ولعلَّ أقْوَمَ كُتُبِه وأنفعها كتاب "الامتاعُ والمؤانسة".