ماتابيلي‌لاند

كريم كنان
ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا المقال

ماتابـِلـِه‌لاند Matabeleland، هي منطقة في غرب وجنوب غرب زمبابوي، وتقع بين كل من نهر ليمپوپو في الشمال، ونهر زمبيزي في الجنوب. تقدر مساحة المنطقة بـ 181 605 كم². بلغ عدد السكان عام 1992 بـ 1,855,300 نسمة. تنقسم إلى قسمين: ماتابله‌لاند الشمالية وماتابله‌لاند الجنوبية. وتعتبر كل من بولاوايو العاصمة التاريخة للمنطقة وهوانگه المدينتان الأكثر أهمية في ماتابيليلاند. يغلب على هذه المنطقة الطابع الريفي. يكتسب المزارعون من مزارعهم القمح والتبغ والسكر والقطن والحبوب.

خريطة زمبابوي موضح عليها ماتابله‌لاند.
خريطة زمبابوي: ماتابيلي‌لاند في الغرب.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التاريخ

 
ماتابله‌لاند.

وتعتبر مملكة الميتبلي من أقوى الممالك في المنطقة، ويرجع أصولهم الى الزولو الذين هجروا من جنوب أفريقيا واستقروا في غرب روديسيا الجنوبية مكونين مملكة عسكرية اعتمدوا فيها على محاربة جيرانهم وتعزيز قواهم بالأرقاء، وكانت الحرب هي وسيلة لمضاعفة حصيلتهم من الأغنام (2)، وقد نجحوا في اخضاع قبائل الماشونا التي استقرت في شرق روديسيا منذ زمن بعدي ، ومثل الماشونا للميتابلي مصدرا هاما للماشية النساءن فتعرضوا للاغارات السنوية عليهم (3).

ويرجع الفضل الى ميزيليكازي في تكوين مملكة الميتابلي وكان زعيما لقبائل الكومالو الواقعة تحت سيطرة زويدي ثم نقل ولاءه الى شاكا ملك الزولو فعينه رئيسا لاحدى فرقه والتي كانت تتكون من الكومالي، ومالبت مزيليكازي في عام 1821 أن خلع طاعة شاكا وأعلن استقلال شعبه، ولكن الأخير تعقبه وأغار على الكومالو وشتتهم ولذلك بدأت ميزيليكازي في الهروب من سطوة شاكا ونصب نفسه رئيسا على قبيلة جديدة هي النديبلي والتي أطلق عليها البوير اسم الميتابلي (4).

واتتجه ميزيليكازي بعيدا عن أراضي الزولو عام 18723، فعبر جبال دركنزبرج واخترق دولة الاورانج الحرة، ثم اتجه في عام 1832 غربا نحو وادي ماريكو الخصب (5)، وفي عام 1829 شهد ميزيليكازي تراجعا في خططه بعد أن أحرز عدة انتصارات في المنطقة الشمالية والوسطى من الترنسفال، ففي هذا العام قامت قبائل الكورونا بالتعاون مع قبائل التونج والرولونج بالهجوم على الميتابلي (1)، على أن أخطر الصدامات التي تعرض لها الميتابلي كانت مع البوير الذين بدأوا ما عرف بالزحف العظيم نحو الشمال بعد أن ضيق الانجليز عليهم الخناق في معيشتهم في جنوب افريقيا، فهاجروا في جماعات متعاقبة، مما أدى الى قيام دولة الاورانج الحرة بقيادة بوتجتير بهجوم عنيم حطم فيه مستعمرات الميتابلي وحطمها تحطيما كاملا، وأجبرهم على ترك ناتال ووادي ماريكو، فاضطر ميزيليكازي الى الاتجاه شمالا مرة ثانية وعبر نهر اللمبوبو ليستقر مع الميتابلي بين اللمبوبو جنوبا والزمبيزي شمالا وذكر لأعوانه "نحن ذاهبون للنهر العظيم" (2).

وهكذا استقر الميتابلي في روديسيا الجنوبية وأسقطوا امبراطورية الروزي آخر شعوب دولة زيمبابوي وقتلوا آخر حكامها ولم يصادفوا مقاومة فعالة في المنطقة، ثم نمت قوة الميتابلي في موطنهم الجديد. واشتهرت مراكزهم في أنياتي وماهلو كوهلو وهلاندهيلا (3).

وكانت ممكلة الميتابلي تشبه مملكة الزولو (4) في جنوب أفريقيا في كثير من جوانبها، فقد آثر الزولو فيها بدرجة كبيرة خاصة في النظام الاداري والعسكرية، فما كان في كل مملكة من ممالك الزولو معسكر أو تجمع سكاني على رأسه أندونا من قبل الحكام من بين العشائر العادية، هؤلاء الأوندونات هم الذين يدعمون النظام الملكي وينفذون تعليماته، وكان الحاكم يمد الفرق بالسلاح والطعام، وكانت فرق النديبلي مثل نظريتها عند الزولو متفرغة للخدمة العسكرية ويديبون معظم الشعوب التي يهزمونها مثل الشوانا والتسوانا وشعوب أخرى، ولكن اختلف النديبلي عن الزولو من ناحيتين، الأولى أن كل سكان النديبلي يمثلون جيشا من المحاربين وكان هناك طبقتان من المحاربين، طبقة مكونة من قوات نظامية من شباب غير متزوجين باسم (الماشاكا)، والطبقة الثانية من محاربين قدماء متزوجين يستدعون للقتال حال اعلان التعبئة العامة، وفي الأحوال العادية يقومون بالزراعة. ولم يكن هناك زعماء عسكريين واداريون مثل الزولو، وانما الأمة كلها جيش واحدة كبير، فالجيش مركز السلطة يرأسه الملك (1).

وهكذا يتضح لنا استقرار الميتابلي في اراضي روديسيا الجنوبية بعد أن اضطروا للهجرة من جنوب أفريقيا مدفوعين من زعيمهم السالف شاكا زعيم الزولو كذلك مدفوعين من البوير. ولكن ينبغي علينا ألا نغفل شاكا زعيم الزولو الذي غير وبدل خريطة جنوب أفريقيا في القرن التاسع عشر حتى بحيرة نيجانيقا لأنها دفع بالميتابلي الى هذه الجهات، كما أنه كون قوة حربية ووسع ملكه على حساب جيرانه (2).

أما في روديسيا الشمالية فقد ظهرت تجمعات رعوية لقبائل الباروتسي في الغرب ولقبائل البمبا في الشرق، فقد شهدت المنطقة هجرات قليلة من الكونغو خاصة في القرن الثامن عشر، هذه القبائل غير منظمة ولا يجمعها ولاء واحد، حتى نجح الباروتسي في الاستقرار في غرب البمبا بينما استقر في الشرق، كما تعرضت المنطقة لهجرات أخرى من جنوب أفريقيا، فقد ذكرنا من قبل أن توسعات وتحركات شاكا ملك الزلو أدت الى هجرة الميتابلي شمالا واستقروا في روديسيا الجنوبية، كما أدت أيضا الى فرار الزعيم زوانجندابا واشتهر باسم نجوني حيث اتجه الى روديسيا الجنوبية محطما امبراطورية المونوماتابا الشهيرة وعبر نهر الزمبيزي واثار الرعب في ممالك شرق أفريقيا في كلا من تنجانيقا (تنزانيا) ونياسالاند التي استقرت بها هذه القبائل في النهاية (3).

كما شهدت المنطقة ضغطا من قبائل الميتابلي على قبائل الكولولو التي اضطرت للتحرك شمالا والاستقرار في أعالي الزمبيزي في اراضي الباروتسي والتي كانت ممزقة الأوصال بسبب الحروب الأهلية ، وحدث صراع كبير بين الباروتسي وبين القادمين الجدد من الكولولو والذين نجحوا في عهد سيكيليتو ثم ابنه سيبتوان في الحاق الهزائم بالباروتسي، واستمرت الحروب الأهلية بين الطرفين حتى قام أحد النبلاء من الباروتسي ويدعى سيوبويا بهزيمة الكولولو وقتال رجالهم، ثم جاء لوانيكا ليدعم سيطرته على أراضي الباروتسي (1).


المكتشف دافيد لنفجستون

لعب المنصرون البريطانيون دورا هاما في استعمار اقليم الزمبيزي اللمبوبو، وقد مهد لاكتشاف هذا الاقليم المجهول بالنسبة للاوروبيين المكتشف الاسكتلندي الشهير دافيد لفنجستون David Livingstone الذي فتح هذه المناطق أمام البعثات التنصيرية، فعلى الرغم من ذيوع شهرته كمكتشف في القارة الأفريقية، خاصة وقد أمد الاوروبيين بمعلومات جغرافية قيمة وثنوجرافية وطبية، الا أنه كان منصرا متعصبا للتنصير حتى آخر يوم في حياته (3).

ولفنجستون اسكتنلندي الاصل انضم الى جمعية لندن التنصيرية في عام 1838، ودرس اللاهوت والطب وحصل على درجته العلمية كطبيب من جامعة جلاسجو، وتدرب على أعمال الزراعة والصناعة والتجارة ليقوم نشاطه التنصيري في الصين. ولكنه تراجع وفضل العمل في أفريقيا وذلك بسبب اضطراب أحوال الصين بسبب حرب الأفيون (4).

وترجع أهمية وخطورة اكتشافات لفنجستون أنه فتح هذا الاقليم أما البعثات التنصيرية البريطانية ، فبعد أن كان مركز التنصير الرئيسي في كورومان في جنوب أفريقيا، أصبح هناك العديد من المراكز داخل القارة فقد توغل لفنجستون في مناطق لم يصل اليها اوروبي من قبل. وقد ساعده في عمله الكشفي والتنصيري التصاله بالمنصر البريطاني الدكتور روبرت موفات الذي عمل في جنوب أفريقيا، فتزوج من ابنته وتوثقت الصلات بينهما بدرجة كبيرة، وقد لعبت أسرة مورفات بصفة خاصة دورا بارزا في التمهيد للاستعمار البريطاني في داخل القارة معتمدة على قوة صلاتها بالحكام والوطنيين (1).

قام لفنسجتون بثلاث رحلات إلى أفريقيا، بدأت الأولى (1841-1856)، وقد اتخذ من كورمان مركزا لانطلاق والتوغل داخل القارة حتى وصل نهر اللمبوبو حيث افتتح فيها مدرسة لتعليم أطفال الأفارقة، وفي عام 1844 تزوج من ماري ابنة روبرت موفات، وعمل فترة في المنطقة وعكف على دراستها ونجح في اكتساب ثقة الأهالي، وفي عام 1850 عبر صحراء كلهاري، ويصور لنا معظم الاوروبيين معاناة لفنجستون وهو يعبر صحراء كلهاري تصحبه زوجته وكانت حاملا ثم وفاة ابنه بسبب حرارة الطقس وقلة المياه، وتضحيته والتضحية العظيمة التي بذلها للقيام بواجبه الديني (2).

هذا وقد نجح لفنجستون في نهاية الأمر في الوصول الى أراضي الباروتسي (في روديسيا الشمالية)، وأقام علاقات قوية مع الكولولو خاصة الملك سيكيليتو وابنه سيبيتوان اللذين رحبا به على أمل الاستعانة بالاوروبيين ضد أعدائهم حاكم ممكلة الميتابلي في الجنوب (روديسيا الجنوبية) ، ولم يدرك هؤلاء الحكام أنهم كالمستجير من الرمضاء بالنار (3). وقد أقنع لفنجستون الكولولو بأن هدفه الرئيسي هو نشر المحبة ورسالة الله في أفريقيا، وأنه يسعى لتحسين أوضاعهم الصحية، وبدأ بالفعل عدة حملات للتطعيم ضد الأمراض والعلاج، واتخذ من ذلك وسيلة لنشر المسيحية بين السكان (4).

ثم اكمل لفنجستون رحيلته، وتتبع أثناء عودته نهر الزمبيزي حتى مصبه مكتشفا المساقط المائية التي تعترض مجرى النهر، والتي سميت شلالات فيكتوريا حيث توجد الآن مدينة لفنجستون (5).

وفي عام 1856 وصل لفنسجتون عند التقاء الزمبيزي مع نهر لوانجوا، ثم وصل الى ساحل شرق أفريقيا، وعاد الى بلاده ومنحته جامعة اكسفورد الدكتوراه الفخرية في القانون، كما منحته جامعة جلاسجو الدكتوراه الفخرية في الآداب ، ونشر تفاصيل رحلته في لندن عام 1857 (1).

وبذلك كان من أهم نتائج رحلة لفنجستون الأولى أنه اكتشف أجزاء كبيرة من روديسيا الشمالية وأراضي الباروتسي ، وهي مكاطق ظلت مجهولة تماما بالنسبة للاوروبييي، فعلى الرغم من التواجد البرتغالي في سواحل شرق أفريقيا، الا أن البرتغال لم تتوغل نحو هذه المناطق، وكانت المعلومات قليلة وشحيحة عن هذه المناطق وعن الأراضي الداخلية للزمبيزي (2).

لم يكتف لفنجستون باكتشاف المنطقة، بل عمل على تقوية صلته بالحكام الوطنيين مستغلال مهارته كطبيب، لأنه كان من رواد طب المناطق الحارة، ففي الوقت الذي تساقط فيه العديد من مكتشفي القارة بسبب الحمى، استطاع لفنجستون الصمود، واستخدم الكينين وعالج به الأفارقة أنفسهم، ووجد من الطب مدخلا للتنصير ونشر المسيحية، هذا ولم يتقصر اهتمامه بنشر المسيحية وانما اهتم بالتجارة، ورأى أنه من الممكن أن تقيم بريطانيا مزارع شاسعة للقطن في المنطقة تغني لانكشير عن استيراده من أمريكا الشمالية، وقد أوصى أن تستخدم السفن البخارية في أعالي الزمبيزي لتنشيط التجارة (3).

كما كانت رحلته الى وسط أفريقيا لم تكن صحراويا كما كان يعقتد، وأن مناجم الذهب ذاعت شهرتها في مملكة المونوماتابا الشهيرة في روديسيا الشمالية قد تدهورت (4).

وأخيرا أوصى لفنسجتون باقامة مستعمرة في كافو في أراضي الباروتسي، ولكن الحكومة البريطانية في ذلك الوقت المبكر خشيت اقامة مستعمرات جديدة بعدية عن جنوب افريقيا، فقد كان الاهتمام الفرنسي لبريطانيا في منطقة جنوب أفريقيا، فهي محط أنظار الساسة لتدعيم السيطرة البريطانية عليها، كذلك لم يكن الصراع والتنافس بين بريطانيا والبوير في جنوب أفريقيا قد وضحت معالمه بعد (1).

أما الرحلة الثانية فكانت في الفترة ما بين (1858-1864)، وفيه عين لفنجستون قنصلا بريطانيا في شرق أفريقيا والمستمعرات الواقعة جنوبي زنجبار ورئيسا لبعثة كشف شق ووسط أفريقيا، وقد تابع لفنجستون رحلته من خط سيره القديم، فبدأ من كيب تاون واستأنف سيره شمالا الى مصب الزمبيزي محاولا الابحار والتقدم في النهر فوصل مدينة تيتي، ولم يتسطيع الابحار لمسافة أطول بسبب الشلالات التي اعترضت طريقه، فاتجه الى نهر شيريه أحد روافد الزمبيزي وصعد في مجراه حتى بحيرة نياسا، ثم قام بعدة جولات حول الشاطي الغربي للبحيرة ثم في المنطقة الواقعة بين بحيرتي نياسا وتنجانيقا، ثم عاد للساحل الأفريقي حيث أبحر للهند ومنها الى بريطانيا (2).

وفي رحلته الثانية طالب لفنجستون باستخدام البواخر البخارية في بحيرة نياسا، وذلك لأن المنطقة تشتهر بتجارة العاج كذلك كان اكتشافه للبحيرة من أكبر الاكتشافات، فقدم وصفا عنها وعن نهر شيريه، وأكد أن ضفاف نياسا تمتاز بالخصوبة الشديدة، فهي جنة خضراء في وسط أفريقيا، وأكد أن البرتغال لم تصل الى هذه المناطق، وأنهم لم يحاولوا صعود نهر شيريه، وأدى البرتغاليون أنهم قاموا بالتوسع من قاعدتهم في تيتي في موزمبيق، ولكن لفنجستون أنكر عليهم هذا الكشف.

كما نبه الى ضرورة القضاء على عصابات الرقيق في تيتي واعترض على تصريحات لفنجستون حاكم تيتي انطونيو دالمدا شقيق الحاكم العام لموزمبيق، ولكن جون كيرك (1) في ساحل زنجبار (كينيا) أصر على مساندة لفنجستون، وارسل الى الحكومة البريطانية مؤكدا انتشار تجارة الرقيق في البحيرة، وأن هناك طرق معروفة تسلكها القوافل الى ساحل شرق أفريقيا، وأن سلطات زنجبار نفسها متورطة في هذه التجارة، وأن لها أسواقا في الخليج والهند، وأثارت كتابات لفنجستون عن تجارة الرقيق الراي العام البريطاني، خاصة وأنه في تلك الفترة نشطت الجمعيات الانسانية لمحاربتها والقضاء عليها (2).

على أن أخطر نتائج رحلة لفنجستون الثانية هو تأسيس محطة تنصيرية في جنوب بحيرة نياسا أعالي نهر شيريه، وعين القس تشارلز ماكيزني (1862-1825) فيها ، ثم تلى ذلك ارسال المزيد من البعثات خاصة من كنيسة اسكتلندا الحرة، كما أنه فتح نهر الزمبيزي أمام التجارة العالمية (3).

ثم قام لفنجستون برحلته الثالثة (1866-1872) بتكليف من الجمعية الجغرافية الملكية في لندن، وكان الهدف الرئيسي منها هو فض لغز شبكة الأنهار والبحيرات في وسط أفريقيأن وبذل جهد ضد تجارة الرقيق، وقد وصل لفنجستون الى زنجبار عام 1866، وبدأ جولته في هذه الرحلة من ساحل شرق أفريقيا وليس من كورومان، فقد اتضحت المنطقة أمامه بعد الرحلتين السابقتين، وتوغل لفنجستون من ساحل شرق أفريقيا حتى وصل الى مصب نهر روفوما، ومنه اتجه صوب بحيرة نياسا ثم شمالا نحو بحيرة تنجانيقا، وقام بكشف الطرف الشمالي لبحيرة تنجانيقا، وكان بصحبته المكتشف الشهير ستانلي، فأكدا أ،ها ليست منبعا للنيل كما كان يعتقد بيرتون، وعاد ستانلي من شرق أفريقيا حاملا معه مذكرات ويوميات لفنجستون التي نشرتها الصحف البريطانية (4)، بينما بقى لفنجستون في المنطقة حتى توفى في تشيتامبو الواقعة على أحد روافد الكونغو عام 1873، وحمل الخدم جثته الى زنجبار ومنها الى بريطانيا حيث دفنه في كنيسة وستمنستر عام 1874 (1).

ويمكننا القول أن اكتشافات لفنجستون في داخل أفريقيا قد كشفت النقاب عن اقليم الزمبيزي واللمبوبو، وفتحت أمام اوروبا للمرة الأولى جهات ومناطق أفريقيا الوسطى الجنوبية، وقد لازم اكتشافاته قيامه بالتنصير، وفتح هذه المناطق للبعثات التنصيرية البريطانية، وقد نجح في تقوية صلاته بحكام الباروتسي، الذين قبلوا فتح أراضيهم لاستقبال البعثات التنصيرية ، كما وضع أساس المركز التنصيري في نياسالاند، والذي لعب دورا في نشر المسيحية (2).



أولا: مملكة الميتابلي والماشونا

لعب المنصرون البريطانيون دورا هاما لوضع أراضي الميتابلي والماشونا تحت النفوذ البريطاين، ساعدهم على ذلك التواجد البريطاني في جنوب أفريقيا، فقد اتخذوا من كورومان في جنوب أفريقيا مركزا لهم للتوسع والتنصير، وينسب الى الأب روبرت موفات اقامة أقدم مركز للتنصير في كورومان في عام 18196، فكانت المحطة الرئيسية للبعثات التنصيرية للتوغل داخل القارة لمدة ثلاثين عاما. وقد تم اختيارها لأنها تقع في قلب جنوب أفريقيا، وقد وصفها روبرت موفات أنها عدن الحقيقية في الصحراء ومركز مثالي للتنصير. ومنها بدأت البعثات بالفعل في الانطلاق شمالا الى أراضي بتسوانا لاند، ومنها أيضا اتجه المنصرون نحو الشمال الشرقي أي نحو أراضي الميتابلي (1).

هذا وقد حرص روبرت موفات على كسب ود وصداقة زعيم الميتابلي مزيليكازي، والذي ذكرنا من قبل أنه انفصل عن الزولو وبدأ في تكوين مملكة جديدة، وقد تقابل موفات معه عام 1829، في الوقت الذي اتجه فيه ميزييليكازي شمالا بعديا عن الزولو نحو شمال بريتوريا، ثم اتجه نحو وادي ماريكو في الترنسفال، فتوطدت اذن أواصر الصداقة بينهما قبل استقرار ميزيليكازي في موطنه الجديد، حتى أن الأخير أطلق عليه لقب الأب وفي الوقت نفسه أدرك موفات أن ميزيزليكازي سوف يكتب له اقامة مملكة كبيرة، ولذلك يجب عليه توطيد أواصر الصداقة معه، فنصحه بتوطيد أواصر الصداقة مع البريطانيين في الكيب، فالملاحظ اذن أن موفات عمل على خدمة مصالح بلاده، حرص على استقطاب الزعيم الجديد، كما حرص أيضا على أن يبعده عن البوير المنافس الرئيسي لبريطانيا في جنوب أفريقيا، ولتحقيق هذا الغرض أقنع موفات الملك بتوقيع معاهدة مع البريطانيين في الكيب في عام 1836 (2).

وبتوجيه من موفات خرجت بعثة علمية من الكيب بقيادة سير أندرو سميث وكان يعمل مديرا وطبيبا عاملا للادارة الطبية في الجيش البريطاني، وكان هدف البعثة تنمية العلاقات مع القبائل المحلية وتبادل الرسائل والهدايا بين الطرفين، وأقنع موفات الملك بارسال مبعوثيه الى الكيب ، فارسل مومنباتا قبل التوقيع معاهدة مع ممثل الحكومة البريطانية بنجامين دربن في 3 مارس 1836، وصت على أنها معاهدة صداقة وسلام بين الرجل الأبيض ومزيليكازي، وقب لاملك تعيين ممثين برطانيين في أراضيه.

واذا تساءلنا عن سبب قبول الملك توقيع المعاهدة، سنجد أنه كان في حاجة الى الأسلحة الحديثة والمتطورة من البيض، وذلك للدفاع عن نفسه ضد هجمات البوير، وضد أعدائه ومنافسيه من الزولو، وتعتبر هذه المعاهدة فريدة من نوعها وذلك لأن معظم المعاهدات التي وقعت بين الاوروبيين والأفارقة وقعت في بلاط الملوك، أما هذه المعاهدة فقد تم توقيعها في معقل البريطانيين في الكيب (1).

غير أن هذه المعاهدة لم يتب لها التنفيذ، وأصيب موفات بخيبة أمل، وذلك عندما اندفع البوير بقيادة الهولندي بوتجتير صوب وادي المريكو في الترنسفال ليقوموا بالاغارة على مزيليكازي، ويتم حرق مدن الميتابلين ويضطر الملك لقيادة شعبه شمالا، وعبور نهر اللمبوبو، والاستقرار فميا بين نهري اللمبوبو والزيبمازي بعيدا عن الزولو وبعيدا عن البوير، على أن اتجها الميتابلي شمالا أوجب ضرورة تحديد الحدود بينه وبين البوير، وخاصة وأن العلاقات قد تأزمت بين الطرفين بسبب ما ارتكبه البوير من فظائع في وادي ماريكو، ولكن لصالح لشعبة اضطر مزيليكازي الى توقيع معاهدة مع القائد الهولندي وبتجتير لتحديد الحدود بين الطرفي، واعتبار نهر اللمبوبو هو خط الحدود بين الطرفي، ورغم توقيع المعاهدة ظل مزيليكازي يمنع عبور البوير الى أراضيه (2).

ظل روبرت موفات على اتصال بمزيليكازي بعد استقراره في موطنه الجديد (روديسيا الجنوبية)، وأدرك أن مملكة الميتابلي تمثل مجالا خصبا لعمل البعثات التنصيرية، فزار الملك الذي أحسن استقباله في عام 1854 في احتفال رائع، ونجح روبرت موفات في الحصول على اذن من الملك بفتح أراضي الميتابلي واستقبال البعثات التنصيرية، وظل روبرت موفات موضع ثقة الملك حتى توفى عام 1868 ليتولى ابنه لونبجويلا الحكم من بعده (1).

هذا وقد شجع وجود روبرت موفات (2) في أراضي الميتابلي على قدوم البعثات التنصيرية، فارسلت جمعية لندن التنصرية عدة بعثات، وخصص للعمل في المنطقة ثلاث شخصيات رئيسية، الأول المنصر جون موفات ابن روبرت موفات، والثاني سيكس، والثالث توماس مورجان. وكان جون موفات انشطهم في الدباية، فرأى أن يسير على خطى والده وفضل العمل في مملكة الميتابلي مع زوجته، أما المنصر ويليام سكيس فقد عمل من قبل في كورومان بجنوب أفريقيا ثم انتقل عام 1859 الى مملكة الميتابلي وظل بها لمدة ثلاثين عاما، وكان بصحبته زميله توماس مورجان، وقد رحب مزيليكازي ببعثة مورجان وسيكس في البداية، وأقام لهما معسكرا، ولكنه رفض السماح لهم بالسفر شمالا في بداية الأمر، ولكنهما نجحا في كسب ثقة الملك، فسمح لهم للتنصير في أنياتي (3).

هذا ومن الملاحظ أن معظم ما كتب عن هذه البعثات حرص كتابها على تصوير معاناة البعثات التنصيرية وهي تخترق صحراء كلهاري تعاني من العطش والجوع ولا تجد المؤونة الكافية، كل ذلك من أجل تحقيق هدف سامي بالنسبة لهم، وهو نشر المسيحية في اراضي الميتابلي، وذلك لأنها مملكة متوحشة متعطشة للدماء. وهي في حاجة الى التهذيب والرقي والتحضر وهذا لن يحدث الا بعد اعتناقها المسيحية (4). وسوف نرى مدى زيف هذه الادعاءات ودور رجال الدين المسيحي في استعمار بل استبعاد شكل هذه المناطق في ضوء شعارات انسانية زائفة اطلقوها لاقناع أنفسهم بها وعالمهم المتحضر، فقد كان هؤلاء أشد بدائية في سلوكهم تجاه سكان هذه المناطق والتس تضاعفت أهميتها بعد اكتشاف الذهب فيها.

وقد أدى اكتشاف مناجم الذهب في مملكة الميتابلي الى جذب انتباه الاوروبيين الى المنطقة، ولكن الملك مزياكيازي رفض في البداية أن يعطي حقوق استغلال هذه المناجم لأحد، فعندما حاول أحد الصيادين (1) شراء بعض الأراضي لاستغلال الذهب فيها رفض الملك وكانت اجابته لا يوجد ملكان في بلد واحد، مؤكدا أنه لن يبيع أي جزء من أراضيه، ولكن بعد وفاته سوف يتغير الأمر (2). فقد اجتذبت المنطقة أنظار القوى الاوروبية المحيطة بها، وكان هناك شبه سباق أو تكالب لاستغلالها، فتحرك الوبير من الجنوب والترنسفال والبرتغال تراقب الموقف من الشرق (موزمبيق)، والألمان من الغرب (أفريقيا الجنوبية الغربية – نامبيا حاليا) والبريطانيين من الكيب (3).

وجدير بالذكر أنه تكونت خلال تلك الفترة عدة شركات لاستغلال المناجم والمعادن مثل شركة دي بيرز للتعدين (4)، وكان سيسل رودس الاستعماري البريطاني صاحب أكبر أسهم فيها، وأراد أن يمد نفوذ بريطانيا من الكيب صوب البحيرات الاستوائية وحتى تتصل بالممتلكات البريطانية في القاهرة، وأدرك رودس أهمية مملكة الميتابلي لتحقيق هذا الغرض، ولكن كان عليه الاقدام على خطوة السيطرة على هذه المملكة أن يؤمن ظهره، فأقنع بلاده بضرورة الاستيلاء على بتسوانا لاند أولا لاتخاذها قاعدة للانطلاق في أراضي الميتابلي، كذلك سوف تتمكن بريطانيا من مد نفوذها شمالا فهي بمثابة قناة السويس الداخلية كما أطلق عليها، وهي مفتاح المستقبل لبريطانيا، كذلك سوف تغلق الطريق أمام منافسيهم البوير من التوسع، فقد كانت بتسوانا لاند تمثل مخرجا ومتنفسا طبيعيا للبوير ، الذين بدأت تضيق بهم أراضي الترنسفال، كذلك سوف تقضي على أية اتصالات كان من الممكن أن تحدث بين الألمان الذين تصاعد نفوذها في جنوب غرب أفريقيا عام 1884 وبين البوير، ولكن هذه الأسباب مجتمعة اقنعت الحكومة البريطانية باقتراح سيسل رودس، وتم فرض الحماية البريطانية على بتسوانا لاند في عام 1885، وقبل الملك هذه الحماية بسبب تخوفه من تزايد وتعاظم نفوذ مملكة الميتابلي، فكان يخشى يوما من اغارتهم على بلاده، ففضل الاحتماء بالاوروبيين (1).

كانت الخطوة التالية بالنسبة لسيسل رودس وهي وضع يده على أراضي المياتبلي لتسود بريطانيا، ويتضح لنا مدى تعصب رودس مما كتبه "أن الله يريد أن يوجد الانسان في أحسن هيئة ليعبر العالم على ارادة الله، وليعلم الناس لعيشوا شرفاء، ولتسود المبادئ السامية، ويمثل الانسان في أحسن هيئة له في الجنس الأنجلو ساكسوني، ولذلك يجب أن يمد هذا الجنس نفوذه على مختلف أنحاء العالم، اننا الجنس الأسمى، وأنه يقدر ما تتسع سيطرتنا على أكبر بقعة في العالم، بقدر ما يعم الخير الجنس البشري، وأن كل شبر يشاف الى حدود بلادنا يزيد من نفوذ انجلترا وقوتها، وهذا يقلل من فرص الحروب، لأنه الشعوب الأخرى سترهبها وتعمل لها حسابا (2)".


معاهدتي جروبلر 1887 وجون موفات 1888

انتبه البوير لأطماع بريطانيا في اراضي الميتابلي، خاصة بعد فرض الحماية على بتسوانا لاند، ولذلك حرص بول كرومر زعيم البوير على الاتصال بالملك لوينجويلا ملك الميتابلي لتجديد الصداقة بين الطرفين، كما حدث من قبل مع والده الملك مزيليكازي، وكان ليونجويلا نفسه معجبا بصمود البوير ضد بريطانيا 1880-1881 (3)، فأرسل يهنئهم بالنصر وحمل مبعوثه الهدايا القيمة من العاج اليهم، واستغل جروبلر أحد التجار البوير علاقته الوطيدة مع الملك لوينجويلا فعرض عليه توقيع معاهدة للتجارة والصداقة بينه وبين البوير، والتي تم توقيعها بالفعل في 30 يوليو عام 1887 (1).

وجاء في بنود المعاهدة بأنها لحفظ السلام بين البوير والميتابلي ولتحديد الحدود الشمالية للبوير، واعتبار لوينجويلا حليفا لهم يقدم لهم المساعدة، كما وافق الملك على أن تعين جمهورية الترنسفال قنصلا له في بولاوايو (2)، وان البند الخطير الذي أثار السلطات البريطانية هو سماح الملك بالتعدين في أراضيه فحاول موفات منع الملك من توقيع المعاهدة، وأخذ يذكره بصداقته مع والده، ولكن لوينجويلا وقع المعاهدة في نهاية الأمر (3).

أحدثت المعاهدة ردود فعل كبيرة في الكيب، وشعر روبنسون المندوب السامي البريطاني في جنوب أفريقيا بالقلق، ورأى ضرورة الغاء المعاهدة، ولم يجد خيرا من جون موفات رجل الدين الذي يعمل في مملكة الميتابلي لالغاء المعاهدة، والذي نجح بالفعل في التأثير على الملك لالغائها، موضحا له أن هذه الخطوة لصالح بلاده (4).

وهكذا يتضح لنا مدى تدخل المنصرين في توجيه سياسة بلادهم والتمهيد لتدعيم سيطرتها، والأخطر من ذلك هو استغلال رجال الدين لحض الحكام للحصول على الامتيازات، فقد وضع لوينجويلا ثقته في جون موفات، وكان بمثابة الدبلوماسي الخاص للملك، كما كان يشرف على علاجه بالمورفين، وقد استغل ذلك أسوأ استغلال.

ثم أقنع جون موفات الملك بضرورة توقيع معاهدة مع السلطات البريطانية في جنوب أفريقيا، فوافق الملك بالفعل ، وعرفت هذه المعاهدة بمعاهدة جون موفات، والتي تم توقيعها في 11 فبراير 1888، وقد نصت على أن يسود السلام والصداقة بين الميتابلي ورعايا ملكة بريطانيا ، كما تعهد لوينجويلا بعدم توقيع أية معاهدة مشابهة مع أية دولة أجنبية، وألا يسمح له بالتنازل أو البيع عن أي جزء من أراضيه دون موافقة المندوب السامي البريطاني في جنوب أفريقيا (1).

وبذلك ضمن موفات لبريطانيا منع تغلغل نفوذ البوير الى أراضي الميتابلي، كذلك القوى الاوروبية الأخرى ولاسيما البرتغال، كما أدخلت المعاهدة أراضي المملكة لدائرة النفوذ البريطاني (2).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

امتياز رود عام 1888

لم يكتف جون موفات بالغاء معاهدة جروبلر وتوقيع معاهدة 1888 مع الملك لوينجويلا ، بل عمل أيضا على خدمة مصالح غلاة المستعمرين أمثال سيسل رودس ، فعندما اكتشف الذهب في مملكة الميتابلي، كلف رودس تشارلز رود بالذهاب الى بولاوايوا على راس بعثة للحصول على موافقة الملك على امتياز استخراج واستغلال المعادن في أراضيه لصالح شركة يكونها رود، فلم يجد رود خيرا من رجلي الدين جون موفات وزميله هلمز لاقناع لونيجويلا بمنح رود الامتياز (3).

وكانت المشكلة بالنسبة لرود ورفاقه ليس الحصول على موافقة الملك فحسب وانما استبعاد الاوروبيين العالمين في مجال التنقيب عن المعادن في المنطقة، فقد تدفق الاوروبيون على مملكة الميتابلي وتقربوا الى الملك لمنحهم الامتيازات، فحصل السير جون سوينبورن على حق التنقيب في منطقة تاتي لمدة عشرة سنوات، ثم جدد الامتياز بواسطة صمويل ادوارز ، وحصل توماس بانز على حق التعدين عند نهر شاش، كما حصل آخرون على حق الصيد في بولاوايو خاصة جوزيف وود.

ولكن عندما أرسل رودس بعثة رود (1)، ضغط جون موفات على الملك حتى منح رود زملائه حق التنقيب عن المعادن في اراضي الميتابلي والماشونا (2)، وحق التنقيبت عن المعادن بين نهري شاش وماكلوتس من منابعهما الى مصبهما، واقمة الطواحين اللازمة لصهر الذهب وتشكيل المعادن، واقامة المباني اللازمة للآلات والعمال مقابل أن يحصل بوينجويلا على ايراد سنوي مائة جنيه استرليني، بالاضافة الى 1200 بندقية وزورق مسلح في نهر الزمبيزي، ومليون طلقة، كما تعهد رود بطرح الباحثين عن الذهب في اراضي المياتبلي، ووافق لوينجويلا على اتخاذ الاجراءات الصارمة لطرد الاشخاص الذين يدخلون أراضيه للتنقيب عن الذهب، وتعهد بالامتناع عن منح أية امتيازات الا بموافقة رود (3).

وبحصول رود على هذا الامتياز تحكم في الخط الجنوبي لمناجم الذهب فيما وراء اللمبوبو، وكان شهود الامتياز وأبطاله جون موفات وهلمز اللذان لعبا دورا هاما في اقناع الملك حتى وافق على منح رود الامتياز (4).

ركز رودس جهوده بعد حصول رود على الامتياز، على ضرورة تأسيس شركة لاستغلال الثروات في أفريقيا الداخلية، فأرسل لوزارة المستعمرات البريطانية مطالبا بسرعة منحه تصريح تاسيس شركة لاستغلال المناجم، ثم سافر بنفسه الى لندن عام 1889، وبذل جهدا كبيرا لاقناع مجلس العموم البريطاني والصحافة، ولاخماد أصوات المعارضين لمشروعاته من الجماعات الانسانية، مستخدما كل الأسلحة الممكنة من سلاح الرشوة الى سلاح الترغيب والترهيب، وأثارت هذه الرشاوى ضجة كبيرة في البرلمان البريطاني، ولكنه نجح في نهاية الأمر في الحصول على المرسوم بتأسيس شركة جنوب أفريقيا في 3 أبريل عام 1889 (5).

هذا وقد بدأ الملك لوينجويلا يشعر بالقلق بعد توقيعه امتياز رود، فقد كان يعمل في أراضيه ثلاث من الاوروبيين (1)، حذروه من نتائج هذه الامتيازات لأنهم كانوا يريدون الحصول على حق التعدين لأنفسهم، وأقنع الملك بارسال خطابا على ملكة بريطانيا يستفسر فيها عن بعثة رود، فجاء رد الملكة على لوينجويلا مؤكدة لشكوكه، وأن بريطانيا لم تفكر في مملكة الميتابلي، وحذرته من منح أية شركة مثل هذه الامتيازات، وكتبت الملكة فيكتوريا عبارتها الشهيرة "إن الملك يمنح أي غريب ثورا ولكن لا يعطيه كل قطيع الأغنام الذي يملكه". فتأكدت شكوك لوينجويلا وصمم على الغاء الامتياز (2)، فأسرع رودس بارسال دكتور جيمسون، وكان يتولى علاج الملك بالمورفين، وكان موضع ثقته فحاول اقناعه بعدم الغاء الامتياز، كذلك تدخل موفات وأخذي يهدئ من روع الملك، مؤكدا له أن الامتياز لا يمثل أية خطورة على بلاده (3).

ولكن اوشر عمل على أن يوغر صدر الملك على رود ورودس، وأطلعه على خبر تاسيس شركة جنوب أفريقيا وصدر مرسوم ملكي بذلك وأحضر له نسخة من جريدة الكيب الصادرة في 26 يوليو عام 1889، مؤكدا له أن الشركة تمثل خطرا كبيرا على بلاده، خاصة وأن رود باع الامتياز الى الشركة (4)، وهنا تدخل موفات بعد أن استشعر الخطر الكبيرة من اوشر، فبدأ وهو رجل الدين يدس له لدى لوينجويلا حتى يكرده من أراضيه، وأكد له أن شركة جنوب افريقيا ما هي الا شركة تجارية اهتمامها منصب على العمليات التجارية (5).

ولم يكن المنصر جون موفات صادقا فيما ذكره للملك، لأن الشركة الجديدة اصبح لها النفوذ المطلق، وحق التعرف على الأراضي الواقعة شمال نهر الزمبيزي ومنطقة نياسالاند بما فيها منطقة شيريه، واصبح لها حق تشجيع الهجرة والاستعمار في مناطق جنوب أفريقيا شمال بتسوانالاند وشمال غرب الترنسفال وغرب أفريقيا الشرقية البرتغالية، كذلك تنمية التجارة البريطانية في هذه المناطق واستغلال المناجم (1).

وبتأسيس الشركة لم ينقطع عمل المنصرين البريطنيين، بل كانوا على العكس أداة هامة من أدوات الشركة ، اعتمدت عليهم في مد نفوذهم رغم ادراكهم نظرة الشركة العنصرية الى سكان المنطقة فرودس كان يرى أن الأفارقة لا يمكن أن يشتركوا في حكم البلاد مع الرجل الاوروبي الابيض، فهو مولود من والدين عرة متوحشين (2).

كانت الخطوة التالية لسيسل رودس بعد أن حصل على حق استغلال الأراضي التي كانت في حوزة لوينجويلا ، هي القضاء على نفوذ الأخير، فبدأ في التمهيد للاستيلاء على أراضي الماشونا التابعة له، وأقنع الدكتور جيمسون الملك بتسليمها، وضغط عليه أثناء مرضه ومعالجته بالمورفين، وارسل رودس فرقة من المتطوعين عبرت نهر ماكلوتس من بتسوانا لاند ، وتم اختيارهم من بين ألفين من جنوب أفريقيا، على اساس القدرة السريعة في القتال والتصويب والمهارة الفنية، وهؤلاء المتطوعين باعطائهم أراضي الماشونا، وأثناء سيرهم بنوا العديد من الحصون في تولي وفيكتوريا، كما شيدوا المراكز بين بتسوانالاند وسالزبري، وفي 12 شهر تم الاستيلاء على أراضي الماشونا.

ويعلق دافيد مارتين على ذلك لقد تم هذا العمل بفضل الرواد أمثال لفنجستون الذين لفتوا الأنظار الى القارة السوداء التي يسكنها أناس غير متحضرين في حاجة الى المرشد الاوروبي لتمدينهم وتحديث أفريقيا يساعدهم الكنيسة التي تقوم بالتنصير (3).

هذا وقد اعتقد الماشونا بأن تقدم قوات الشركة انما جاء لتحميهم من اغارات البوير، واذا تساءلنا عن سبب صمت البوير عن تقدم القوات العسكرية البريطانية لشمال أراضيهم ، فسنجد ان الاجابة بأن رودس خدع زعيم البوير بول كروجر ووعده باعطائه ميناء على الساحل الشرقي، وبذلك أمر كروجر رجاله بعدم التقدم واعتراض قوات الشركة (1).

ولكن خاب أمل سيسل رودس فلم تعثر شركة جنوب أفريقيا على كميات كبيرة من الذهب في اراضي الماشونا، ولذلك كانت الخطوة التالية هي ضرورة احتلال أراضي مملكة الميتابلي وايجاد حجة أو سبب للاغارة على الملك لوينجويلا وجاءت الفرصة بمهاجمة الأخير للماشونا، فقد نظر المياتبلي للماشونا على أنهم مصدر للنساء والماشية، وكان من الصعب على الملك أن يغير من نمط وأسلوب الميابلي، فقام بغارة عام 1892 لم يمس فيها اوروبي واحد، ولكن رودس انتهر فرصة سرقة مجهولون لخمسمائة ياردة من أسلاك التلغراف بين تولي وحصن فيكتوريا، وكان الجناة من الماشونا بقيادة زعيمهم جومالا فطلب جيمسون من الملك تسليمه بعد أن استولى على جزء كبير من الماشية، فاحتج لوينجويلا على هذا العمل ولكنه وعد بمعقابة الماشونا، وتأزم الموقف بين الطرفين عندما اتخذ لوينجويلا في مطاردة الماشونا، واحتج في الوقت نفسه على مصادرة الماشية، فأرسل الى المندوب السامي الدكتور هاريس في جنوب افريقيا رسالة ذكر فيها اعتدت أنكم جئتم الى بلادي من أجل الذهب ولكنهم سرقتهم بلادي وشعبي (2).

حاول المندوب السامي في جنوب افريقي تهدئة لوينجويلا مؤكدا أن الشركة لن تهاجم أراضيه، بينما كانت الاستعدادات تجرى على قدم وساق لغزو مملكة الميتابلي، وهنا يبرز لنا دور المنصر مستشار الملك جون موفات الذي بذل جهدا كبيرا لاقناع الملك بالتريث وعدم اتخاذ أي موقف عدائي تجاه الشركة، كما عمل على خداعهه واقناعه بحسن نوايا الشركة، وأكد له أن سيسل رودس لا يعتزم غزو أراضيه وهو يدرك تماما كذب ادعائه وأن ما فعله مع الملك كان لصالح بلاده، ففي الوقت الذي استمر فيه موفات في خداع الملك كانت قوات جيمسون تعبر النهر وخط الحدود الفاصل بين المنطقتين في طريقها الى أراضي الميتابلي ثم ارسل جيمسون في 2 أكتوبر برقية للمندوب السامي البريطاين يؤكد فيها اعتداء الميتابلي على قرى الماشونا، وأنهم قاموا باطلاق النيران على جنوب الشركة ، كما اقتنع وزير المستعمرات اللورد ريبون بأن جميع المحاولات للوصول الى حل سلمي بين الشركة ولوينجويلا قد باءت بالفشل.

وتم مهاجمة أراضي الميتابلي من جبتهين فتقدمت قوات الشركة من سلسبري وقوات الحكومة بقيادة جولد أدامز من قلعة فيكتوريا، والتقت القوتات في 16 اكتوبر عند نهر اومنياتي وعبرتها الى أراضي الميتابلي، والتقت بقوات لوينجويلا في 22 أكتوبر (1)، وكان لقاء غير متكافئ بين القوات المسلحة بمدافع الهاون والبنادق وقوات الميتابلي المسلحة بالحراب والسهام، فهزم لوينجويلا وتقدمت قوات الشركة الى العاصمة بولاوايو، وأخلى لوينجويلا العاصمة وظلت القوات تطارده ولكنه نجح في الفرار الى مكان سري (2)، حيث أخفى كنوزه في احدى المغارات ثم قتل حارسه الخاص لكي لا يتعرف على مكان ثروته، ثم توفى لوينجويلا في 24 يناير عام 1894 (3).


وبالقضاء على مملكة الميتابلي تم القضاء على اكبر قوة عسكرية في المنطقة كانت تحول دون امتداد النفوذ البريطاين شمالا وقفت كالسد المنيع أمام طموحات الاستعماري سيسل رودس الذي ماكان يستطيع أن يحقق هاذ النجاح لولا مساندة ومؤازرة رجال الدين امثال مورفات ولم يكتف رودس بغزو أراضي الميتابلي وانما عمل على تغيير هوية المنطقة، فكان الاسم الرسمي للمنطقة في أوراق شركة جنوب أفريقيا هي زامبيزيا المنطقة الممتدة من الترنسفال الى الطرف الجنوبي لبحيرة تنجانيقا، ولكن تم تغيير الاسم الى روديسيا في عام 1895، تتويجا وتخليدا لجهود رودس.

أما ما اقترفه البيض في هذه المناطق فهو يتنافى مع تعاليم أي دين سماوي ويتنافى مع دعايات المنصري، فقد عملت الشركة على عزل الميتابلي في مكان خاص بهم، واستولت على أجود أراضيهم وأجبرتهم على العمل في الأراضي العامة والخاصة والخدمة في منازل البيض وفي مناجم التعدين ثم جاء المستطونون ليتم طرد الوطنيين، واستخدم الشركة قوات شرطة كان أغلب أعضائها من الخدم السابقين في أراضي الميتابلي، وكان وضع هؤلاء في مثل هذا المركز على علاقة بأسيادهم السابقين وضعا غير مناسب، اذ أساءت هذه القوات للسلطات الممنوحة لهم وأساء أفرادها الى اسيادهم السابقين خاصة وأنه لم يكن من بينهم موظفين أكفاء من البيض ليوقفوا مثل هذا الاتجاه.

ثم جاء انتشار الطاعون عام 1869 كارثة وليزداد الموقف سوءا بالنسبة للميتابلي الذين لاقوا كل ما حل بهم من كوارث بسبب البيض، ولم يكن لديهم ما يخشون ضياعه (1) فقاموا بثورة كبيرة في 23 مارس عام 1869 وثار الماشونا أيضا في نفس العام، وكانت الضرائب المفروضة عليهم – خاصة ضريبة الكوخ – من أهم أسباب الثورة، كذلك أتباع الشركة نظام العمل الاجباري ومعاقبة الهاربين من الوطنيين بقسوة وعنف، واستمرت الثورة حتى أواخر سبتمبر عام 1869، ولجأ الثوار الى الكهوف فقامت الشركة بنسفها بالديناميت لاجبار الثوار على الاستسلام (2).

هذا ويعتبر ثورة عام 1869 من أكبر الثورات ضد البيض، شن فيها الثوار ما يشبه حرب العصابات، ووحد فيها الميتابلي والماشونا صفوفهم، واثرت الثورة على مركز شركة جنوب أفريقيا الالي التي لجأت الى استخدام ابشع الوسائل للقضاء عليها، كما أنشئت فشل دعايات البيض وصعوبة تقبل الأفارقة للحكم العنصري (3).


وهكذا ترك المنصرون بصماتهم في أراضي الميتابلي منذ أن وصل لفنجستون على المنطقة وفتحها أمام البعثات التنصيرية ، ولعب الدكتور روبرت موفات دورا هاما في تدعيم نفوذ بلاده في المنطقة منذ أن بدأ اتصالاته بالملك مزيليكازي حتى قبل استقراره في موطنه الجديد، وظل على اتصال به وأرسل العديد من البعثات، ثم أكمل دوره انبه جون موفات المهندس والمخطط الرئيسي للاستيلاء على أراضي الميتابلي، فلعب دورا هاما في ابعاد الملك لوينجويلا عن البوير، وذلك لصالح جنوب افريقيأ، واقنع الملك بالغاء معاهدة جروبلر عام 1887، ثم عقد معه في العام التالي عام 1888 معاهدة حملت امسه وهي معاهدة جون موفات، واستغل الأخير مرض الملك وعلاجه بالمورفين ليحصل منه على العديد من المكاسب بل وصل به الأمر وهو رجل الدين أن يجعل الملك يوقع على العديد من الامتيازات اثناء مرضه، كما امتدت خدمات جون موفات لسيسل رودس، فاقنع الملك بامتياز رود عام 1888، وذلك ليتحكم الاوروبيون في مناجم الذهب في أراضي الميتابلي، واستمر جون موفات في خداع لاملك وابعاد الشكوك عن نوايا سيسل رودس وشركة جنوب أفريقيا حتى غزت قواتها أراضيه.


ثانيا:الباروتسي

لعبت البعثات التنصيرية دورا هاما في السيطرة على أراضي روديسيا الشمالية (زامبيا الحالية)، فمدت سيطرة في الشمال الغربي أو فيما عرف باسم أراضي الباروتسي حيث تجمعات قبائل الباروتسي الرعوية، كذلك في شمال شرق البلاد أي في أراضي قبائل البمبا والنجوني. وقد ذكرنا من قبل أن قبائل الكولولو استقرت في أراضي الباروتسي، وكان من أشهر ملوكها سيكيليتو ثم ابنه سيبتوان، ولكن بعد وفاة الأخير انتشرت الاضطرابات في البلاد حتى نجح الملك لوانيكا في تدعيم سيطرته على أراضي الباروتسي (1878-1916).


هذا وقد وثق أعضاء البعثات التنصيرية علاقاتهم بحكام الباروتسي منذ أن قدم لفنجستون الى المنطقة في بعثته الأولى (1853-1856)، وعمل على نشر المسيحية وركز جهوده في هضبة الباتوكا لفتح طريق بين هذه المناطق الداخلية وساحل شرق افريقيا، ونجح لفنجستون في كسب صداقة وثقة ملك الكولولو وسيكيليتو وأقنعه بضرورة التجارة مع الاوروبيين ، بل شجعه على تسويق كميات من العاج اتلى المصانع البريطانية، ولما كانت هضبة الباتوكا منطقة مرتفعة ذات تربة خصبة ومناخ مناسب عما حولها، فقد رأى لفنجستون بأنها من أصلح الأماكن لبداية نشاط البعثات التنصيرية واقامة المزارع، ولقيت دعوته قبولا كبيرا بين الهيئات التنصيرية والتي اتخذت شعارات انسانية منها محاربة تجارة الرقيق، وتشجيع التجارة الشرعية (1).

كما وجدت دعوة لفنجستون ترحيبا من ملك الكولولو سكيليتو وذلك لأنه كان يعاني من اغارات جيرانه الميتابلي جنوب بلاده، فرأى في الصداقة البريطانية خير فرصة للاحتماء من هذه الغارات، ولذلك أعطى الملك رسالة الى لفنجستون لتسليمها الى الحكومة البريطانية معربا فيها عن ترحيبه بالتواجد البريطاني في اراضيه، وعرض لفنجستون على ويلمرستون اقامة مستعمرة بريطانية في كافو في أراضي الكولولو، ولكنه رفض لأنه خلال تلك الفترة المبكرة كانت المعلومات قليلة عن هذه المناطق، كما كانت مجهولة تماما بالنسبة للاوروبنيين حتى كشفت رحلات لفنجستون عنها النقاب، ولذلك اكتفى بتشجيع البعثات التنصيرية على العمل في المنطقة (1).

تدفقت البعثات التنصرية على هضبة الباتوكا أو أراضي الباروتسي خاصة بعد ظهور ونشر كتاب لفنجستون عن المناطق الداخلية في أفريقيا، مما دفع جمعية لندن التنصيرية لارسال بعثة مكونة من هلمور وروجر برايس وجون ماكنزي عام 1859 الى أراضي الكولولو، وقد وصلت البعثة الى كورومان مركز التنصير الرئيسي في جنوب أفريقيا ، ومنها تقدمت شمالا الى شوشونج ثم عبرت نهر روجا، وعانت البعثة من ندرة المياه وشده الحرارة حتى وصلت الى نهر شوبي ومنها الى ليناتي (2).

واستغرقت البعثة عدة أشهر حتى وصلت الى أراضي الملك سيكيليتو الذي أحسن استقبال البعثة في البداية، ولكنه سرعان ما انتابته الشكوك حولها، خاصة بعد أن كتبت البعثة تقريرا عن تجارة الرقيق في أراضيه، ولذلك أمر الملك بالابقاء على أفراد البعثة في ليناتي ومنعهم من مغادرة البلاد أو التحرك شمال الزمبيزي، وعانت البعثة أثناء احتجازها من الأمراض خاصة الملاريا، وتوفى هلمور وزوجته واثنين من أولاده، بينما أسرع برايس بمغادرة البلاد واتجه جنوبا الى كورومان، وهكذا كانت نهاية البعثة مأساوية، وقيل أن الملك سكيليتو دس السم لهم (3).

قام لفنجستون بزيارة المنطقة مرة ثانية وعمل على بث الطمأنينة في نفس الملك سيكيليتو وأقنعه بحسن نوايا البريطانيين تجاه بلاده وأنه لا هدف لهم سوى صداقته، فاقتنع الملك ووافق على استقبال بعثات جديدة في اراضيه، ووعد بعدم التعرض لها (4).

ثم انتشرت الاضطرابات في اراضي الباروتسي ، وتم التغلب على الكولولو وقتل رجالهم وسبي نساءهم، واستمرت الاضطرابات والحروب الأهلية في المنطقة حتى تولى الملك لوانيكا (1)، الذي اتجه لتقوية شعبه وحماية أراضي الباروتسي من اغارات الميتابلي، ولذلك وقع الملك في نفس خطأ الملك سيكيليتو، فقد عمل على الاحتماء بالبعثات التنصيرية البريطانية ضد الميتابلي، الذين يهددون حدوده الجنوبية وضد البرتغال في الشرق والألمان في الغرب.

هذا وقد وجد أعضاء ههذ البعثات فرصة ذهبية لتوطيد نفوذ بلادهم والتمهيد للسيطرة على المنطقة، ومن أشهر البعثات التي عملت في المنطقة بعثة بليموت عام 1882 وفريدريك أرنوت، وكان الأخير قد قام ببناء العديد من لمحطات التنصيرية في أنجولا، ثم اجته للاستقرار في أراضي الباروتسي، هذا وقد لعبت هذه البعثات بتقاريرها المختلفة دورا هاما في احتلال أراضي الباروتسي، في الوقت الذي كانت بريطانيا لا تفكر في ضم هذه المنطق (2).

شركة جنوب أفريقيا

 
معركة بين الجنود البريطانيين والماتابله.
 
اسكتش روبرت بادن-پاول لقائد الكشافة، برنم، هضاب ماتوبو، 1896.

جدير بالذكر أنه يقابلنا في أراضي الباروتسي شخصية هامة لعبت دورا خطيرا في مد النفوذ البريطاني، وهي شخصية المنصر الفرنسي كويار التابع لجمعية باريس التنصيرية وقد عمل من قبل في باسوتولاند ثم سمح له الملك لوانيكا بالعمل في اراضيه، وكان لكويار صلة قوية بسيسل رودس وشركة جنوب أفريقيا.

ويمكننا أن نعقد مقارنة بينه وبين المنصر جون موفات في اراضي الميتابلي، فقد كان كويار مقربا من الملك لوانيكا أسدى اليه النصائح التي أدت في نهاية الأمر الى وقوع بلاده في يد البيض، فعندما شعر لوانيكا بالقلق من جراء الاتصالات البريطانية بأعوانه الميتابلي وامدادهم بالأسلحة، نصحه كويار بطلب الحماية البريطانية في عام 1889. وذلك لكي يأمن على شعبه من اغارات الميتابلي (3)، ثم ساعد كويال سيسل رودس في الحصول على الامتيازات في أراضي الباروتسي، وأقنع لوانيكا باستقبل مبعوث رودس هاري وير الذي زاره وهو محمل بالهدايا والبنادق الحديثة والمؤونة، فمنحه لوانيكا امتياز التعدين في أراضيه في المنطقة الواقعة شرق نهر شاشيلي، ثم أراد رودس شراء الامتياز من وير، فارسل لوشير الى الملك لوانيكا لاقناعه بذلك، ولكن الملك رفض منحه الامتياز بدلا من وير، فقد كان يدرك ان اتفاقه مع وير انما هو اتفاق مع رجل أعمال، وان اتفاقه مع لوشنر يختلف بصفته ممثلا لشركة جنوب أفريقيا.

وأعرب لوانيكا عن رغبته في قبول حماية بريطانيا الرسمية على أراضيه، وليس حماية الشركة، ولكن كويار نجح في اقناع الملك بقبول الحماية البريطانية وعقد اتفاق مع لوشنر قرب ليالوي عام 1890، تنازل فيه عن حقوق التعدين والتجارة، كما تعهد بعدم التفاوض مع أية دولة اوروبية أخرى كما تعهدت الشركة بارسال مندوب عنها ليقيم في المنطقة، وتعهدت بدفع ألف جنيه استرليني للملك، وادخال الصناعات الحديثة في بلاده وتنمية التجارة (1).

هذا ويمكننا القول أن السبب في قبول لوانيكا الحماية جاءت تأثرا بصديقه الملك جاما في بتشوانا لاند، الذي قبلها عام 1885لحماية بلاده من اغارات الميتابلي، كذلك بضغط من كويار وكان بمثابة مستشار الملك، وشجعه لطلب الحماية بحجة حماية بلاده، بينما كان هدف كويار هو الاستقرار في المنطقة ومد نشاطه التنصيري الى أبعد الحدود، ولاشك أن عمله في ظل الحماية البريطانية سيوفر له الأمان والنجاح، لأنه كان يعلم بأن بلاده لا مطامع لها في هذه المنطقة، وكان من مصلحته العمل تحت المظلة البريطانية (2).

وبعد رحيل لونر شعر لوانيكا بأنه خدع، فعهد الى أحد التجار وهو جورج ميدلتون بكتابة رسالة الى الحكومة البريطانية رافضا امتياز لوشنر، ثم ارسل الى الملكة فيكتوريا طالبا مد النفوذ البريطاني على بلاده، فقد اراد حماية بريطانية وليس حماية الشركة (3).

ورغم توقيع اتفاق عام 1890 الا أن المنطقة ظلت بدون مندوب بريطاني، وذلك بسبب الحروب الأهلية واغارات الميتابلي حتى عين روبرت كوريندون أول مندوب في المنطقة، فوقع معاهدة مع لوانيكا عام 1898 أكد فيها اتفاق عام 1890، وفي 28 نوفمبر عام 1899 أصدر مجلس الوزراء البريطاني أمرا بأن تكون أراضي الباروتسي تحت سيطرة المندوب السامي البريطاني في جنوب افريقيا (1).

أرادت شركة جنوب افريقيا تدعيم سيطرتها على شمال شرق روديسيا، فكان لابد لها من اخضاع قبائل البمبا والنجوني، وكانت سياسة الشركة أن تتحاشى الصدام مع قبائل البمبا، ولكنها أرادت اضعافهم بمهجامة تجارتهم مع شرق أفريقيا خاصة مع العرب، وكان أشهر زعماء البمبا مالوزي يتركز فيكارونجا وله تجارة نشيطة مع الحرب، فتقدمت قوات الشركة في عام 1887 وقامت باحراق مركزه، ثم حاولت في عام 1888 التفاوض مع العرب، ولكنها فشلت، وتم تكليف القائد البريطاني لوجارد بشن الهجمات ضد مالوزي، ولكن الأخير صمد أمام زحف القوات البريطانية، مما اضطر لوجارد لطلب النجدة من هاري جونستون المندوب في نياسالاند، فارسل اليه قوة عسكرية نجحت في الحاق الهزيمة بالزعيم مالوزي عام 1895، الذي تم شنقه في عام 1896.

ويتضح لنا حقد البريطانيين في اعرابهم عن سعادتهم في التخلص من مالوزي حليف التجار العرب في شرق افريقيا، فكان موته يعني استبعاد أي تواجد عربي في داخل أفريقيا، وقد صرح كوريدندون قائد شركة جنوب افريقيا في عام 1900 معربا عن سعادته، فذكر، لقد انتهبت سيطرة وقوة العرب، لقد تحدوا لوجارد في كارونجا في عام 1887، وأغلقوا طريق نياسا-تنجانيقا، وجاءت هزيمتهم بواسطة جونستون لينهي تواجدهم ونتخلص منهم نهائيا (2).

بعد هزيمة ومقتل مالوزي نجحت قوات الشركة في السيطرة على باقي زعماء البمبا الأقوياء، فقد برز خلال تلك الفترة الزعيم موامبا وكان له نفوذ كبير في البلاد، فتقرب من المنصر ديبون زعيم الآباء البيض وقوى علاقته به، ثم حدثت منافسة قوية بين موامبا والزعيم وشيتا موكولو، واستمر هذا الصراع في عهد سامبا الذي خلف شيتا، وعندما مرض الزعيم موامبا في عام 1898 قدم له الأسقف ديبون المساعدة الطبية ، وبعد وفاته في عام 1898 أدعى الأسقف بأن الزعيم موامبا سلمه بلاده قبل وفاته، وأظهر توقيع الملك، ولكن شركة جنوب افريقيا انتهزت فرصة وفاة موامبا باعتباره من أقوى الزعماء، وقامت بطرد الأب ديبون من المنطقة، وأعلنت وضع يدها على أراضي البمبا (1).

اتجهت قوات الشركة نحو الشمال الشرقي لتدعيم سيطرتها على أراضي النجوني، فبدأت بمهاجمة زعيم النجوني مبزني وكان النجوني يكونون دولة صغيرة تتزايد أعدادها بأسرى الحرب. وقد توسع حاكمها مبزني ووسع حدود أراضيه مثلما فعل البمبا، وسرعان ما دخل النجوني في صراع مع الاوروبيين الذين أرادوا استغلال مناجم الذهب، كذلك أرادوا الاستفادة من الأيدي العاملة وأن يستخدموا النجوني في العمل كعمال زراعيين.

هذا وقد توترت العلاقة بين مبزني والبريطانيين، عندما منح امتياز التجارة والصيد والتعدين في أراضيه للالماني كارل ويز وتوثقت العلاقة بين الطرفين بدرجة كبيرة ، وزاد من خطورة الموقف أن زوجة كارول كانت برتغالية فحاول ويز تقوية علاقة مبزني مع البرتغال في شرق افريقيا، ولذلك كان على رودس سرعة العمل لاحتواء المنطقة خوفا من وقوعها تحت النفوذ البرتغالي، خاصة وأن مبزني رفض توقيع أية اتفاقات مع ممثلي الشركة.

ولكن في عام 1891 وبعد توقيع الاتفاق البريطاني البرتغالي لتحديد الحدود بين مستعمرات البلدين، وقعت أراضي النجوني في دائرة النفوذ البريطاني ، ولذلك اضطر كارل ويز لبيع امتيازه لشركة لندن، وحاول جونستون التقرب من الملك. فارسل له في عام 1896 ليسمح للبريطانيين بالعمل في اراضيه، وزعم أن الملك مبزني تفهم الأوضاع الجديدة، ولذلك لم يحاول محاربة البريطانيين ، ولكن ابنه نسنجو شن عدة هجمات على شركة جنوب افريقيا في عام 1898 التي قامت بارسال ضباطها الى المنطقة، وحصدت مدفعيتهم قوات نسنجو الذي اسر وأعدم رميا بالرصاص، لتدعم الشركة بدورها سيطرتها على أراضي النجوني (2).

ولم يأت عام 1899 الا وتوقفت نهائية كل مقاومة ضد الاوروبيين في المنطقة، وقام كورندون بنقل عاصمته من بلانتير في نياسالاند الى فورت جيسمون في شمال شرق روديسيا، ومع استقرار الأمور تحول النشاط السياسي الى نشاط اقتصادي، وفتح المجال أمام الاوروبيين لبيع متاجرهم وللزراعة لاستغلال الأراضي البكر الشاسعة (1).

 
علم روديسيا


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

انظر أيضاً

المصادر

وصلات خارجية