الصهيونية في العراق

النشاط الصهيوني في العراق بين عامي 1914 - 1950.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نشاطات ما قبل الصهيونيّة (1700-1860)

أحمد برهان الدين باش أعيان
ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا المقال

إنّ أوّل إشارة توصّل هذا الباحث إلى العثور عليها لأيّ نشاط يهودي في العراق يمكن أن يوصف بأنّه من النوع ال"صهيوني الضمني" أو "ما قبل الصهيوني" هو آنتقال عدد من الأسر اليهوديّة العراقيّة للعيش في فلسطين خلال الفترة بين عامي 1700 و1800. وكان هذا الإنتقال الأوّل من نوعه في تاريخ اليهود العراقيّين، على ما يبدو.

وكان عدد من اليهود العراقيّين قد آشتروا مقابر لهم في "أرض إسرائيل"، وذلك عبر الموفدين اليهود الّذين كانوا يتردّدون على زيارة العراق بآنتظام من فلسطين، والّذين كانوا يسمّون أنفسهم ويعرفون ب"موفدي أرض إسرائيل". وكان اليهود العراقيون الّذين يقومون بشراء هذه المقابر يرون بأنّهم، حتّى ولو لم يدفنوا فيها، فإنّ مجرّد حصولهم على صكوك الشراء ودفنها معهم في قبورهم في العراق، فإنّ ذلك يؤهّلهم لأن تنقل رفاتهم إلى فلسطين لاحقاً، كما كان البعض منهم يؤمن بأنّ أرواحهم ستنتقل إلى فلسطين بفضل هذه الصكوك. وكان موفدوا "أرض إسرائيل"، إضافة لقيامهم ببيع صكوك الدفن اليهوديّة هذه، يقومون أيضاً بجمع أموال الزكاة الدينيّة اليهوديّة والصدقات من يهود العراق، وذلك لصالح عدد من الجمعيّات الخيريّة اليهوديّة العاملة في المدن الأربع في فلسطين والّتي يعتبرها اليهود مدناً مقدّسة، وهي القدس والخليل وطبرية وصفد. وكان هؤلاء الموفدون يستقبلون من قبل يهود العراق في كلّ مرّة يقومون فيها بزيارة العراق بكثير من الترحاب وبالغ الحفاوة. وقد آستمرّت زيارات هؤلاء الموفدين حتّى مطلع عقد العشرينيّات من القرن الميلادي العشرين.

وكانت الموجة الثانية الّتي رصدها البحث لآنتقال الأسر اليهوديّة العراقيّة إلى فلسطين تلك الّتي حدثت خلال عام 1854م. حيث أنّ عدداً من هذه الأسر اليهوديّة العراقيّة، والّتي كان أبناؤها من طلبة المدارس التوراتيّة الدينيّة، (الياشيفا)، قامت بلمّ كلّ أغراضها وتصفية كلّ ممتلكاتها في العراق، لتنتقل للعيش في فلسطين، آعتقاداً منها بأنّ آنتقال اليهود للسكن في فلسطين من شأنه أن يعجّل في مجيء المسيح المنتظر المخلّص لليهود. وقد آستوطنت معظم هذه الأسر مدينتي القدس والخليل، وكانت من بينها أسرة ماني ويهودا وآغابابا، ممّن أصبحوا لاحقاً من الأحبار والقضاة ورجال الأعمال والأكاديميّين البارزين في فلسطين.


جمعيّة الآليانس L’Alliance الفرنسيّة المنشأ (1860-1903)

خلال عام 1860، سمع صانع الساعات اليهودي النمساوي الأصل إسحاق لوريون Isaac Lorion، والخيّاط هرمان روزنفلد Hermann Rosenfeld، الّلذان كانا قد آستقرّا في بغداد منذ حوالي عام 1850م، سمعا بتأسيس جمعيّة التحالف الإسرائيلي العالمي، والمعروفة بإسم ال"آليانس L’Alliance"، في باريس، فحثّا الجالية اليهوديّة في بغداد على مطالبة هذه الجمعيّة بفتح فرع لها ولمدارسها في بغداد. وخلال نفس عام 1860م هذا، ظهر أوّل صهيوني صريح من بين يهود العراق، وهو مدرّس إسمه هارون ساسون بن إلياهو ناحوم، والّذي لقّب بال "معلّم". وكانت أولى النشاطات الصهيونيّة بين بعض يهود العراق تقتصر على قراءات جماعيّة باللّغة العبريّة لصحف ودوريّات كانت ترد إلى بغداد من أوروبا وفلسطين وبريطانيا والولايات المتّحدة الأميريكيّة، مثل جريدة لبنان، المجيد، فاتزيليت، العالم، وغيرها. وكان بعض اليهود العراقيّين يساهمون بمقالات يكتبونها في هذه الصحف. وقد صرّح هارون ناحوم لاحقاً بأنّه كان في هذه الفترة مهتمّاً بقراءة الصحف العبريّة، ومن بينها بعض الصحف الأميريكيّة والألمانيّة، وأنّه كان من شدّة تفاعله مع خطاب مؤثّر ألقاه أحد الصهاينة الأوروبّيّين في مدينة كولونيا الألمانيّة، (وهو زفي هيرمان شابير، توسّل فيه بآنفعال عاطفي قوي إلى يهود أوروبا ألاّ ينصهروا في المجتمعات غير اليهوديّة الّتي يعيشون فيها)، أصبح منذ تلك اللّحظة "منجذباً بقوّة إلى أرض إسرائيل"، وإلى كلّ قادة الحركة الصهيونيّة، وأضاف: "كانت تلك اللّحظات هي بداية نشاطي الصهيوني".

وفي التاسع عشر من شهر كانون الثاني (يناير) من عام 1864م، طلبت الجالية اليهوديّة في بغداد من جمعيّة ال"آليانس" فتح فرع لها ولمدارسها في بغداد، فوافقت الآليانس فوراً على هذا الطلب. وقد تمّ آفتتاح أوّل فرع للآليانس وأوّل مدرسة "عصريّة" إبتدائيّة في بغداد لتعليم أطفال اليهود، خلال شهر كانون الأوّل (ديسمبر) من عام 1864م هذا. ولكنّ الجالية اليهوديّة في بغداد، رغم كونها آعتبرت من بين أكثر الجاليات اليهوديّة في العالم مرونة وآستعداداً للتكيّف مع الظروف والتأقلم مع بيئتها، إلاّ أنّ تأسيس مدرسة الآليانس الإبتدائيّة ما لبث أن جوبه بمعارضة شديدة من قبل الهيئات الدينيّة اليهوديّة، حتّى ذهب الأمر ببعض مدرّسي التوراة التقليديّين إلى حدّ وصف إدارة المدرسة الفرنسيّة ومدرّسيها بال "مهرطقين". وقد تضافرت هذه المقاومة مع عوامل أخرى، مثل صعوبة المناخ بالنسبة لمديرها الفرنسي، والمناهج العلميّة الّتي كان فيها ما يتعارض مع المعتقدات الدينيّة التقليديّة اليهوديّة، وكثرة تغيّب الطلاّب، بحيث أدّت إلى إغلاقها في نهاية المطاف. ولكنّ الإغلاق لم يدم طويلاً، فقد عاد بعض وجوه الجالية اليهوديّة في بغداد وقدّموا طلباً جديداً لجمعيّة الآليانس بإعادة فتح المدرسة، وذلك خلال عام 1872م. وقد تمّ آفتتاح المدرسة في بناء جديد فخم، تبرّع به آلبرت بن داوود ساسون، حفيد الشيخ ساسون بن صالح، الشهير. وكانت من أهمّ الشخصيّات الّتي لعبت دوراً رئيسيّاً في إعادة فتح المدرسة هو ساسون بن إلياهو سموحا، الّذي عيّن في عام 1875م حاخام باشي على يهود يغداد، والّذي سجّل إبنه للدراسة فيها، رغم معارضة سائر الحاخامات في الدولة العثمانيّة، ومن بينهم حاخام القدس الرابي عقيبة يوسف شلزنجر Akeeba Jpseph Schlesinger، الّذي أرسل نداءً شخصيّاً لكلّ أحبار بغداد يدعوهم فيه إلى مقاطعة المدرسة. ورغم ذلك كلّه، فقد آزدهرت المدرسة وتوسّعت، ففتحت عدّة فروع لها في بغداد وسائر المدن العراقيّة، مثل الحلّة والبصرة والموصل وكركوك، بما في ذلك مدارس للبنات ومعاهد للتدريب المهني. وبعد ذلك، قامت الجاليات اليهوديّة في العراق بتأسيس مدارس محلّيّة بمبادرات أهليّة، ممّا قلّص دور وأهمّيّة مدارس الآليانس في العراق. وكان تعليم الأطفال اليهود قبل ذلك يبدأ في سنّ مبكّرة وفي مدارس صغيرة تشترك في إدارتها بيوت الحارة اليهوديّة، وتسمّى بال "أستاذ"، حيث كان الطفل اليهودي يتعلّم اللّغة العبريّة على يد مدرّس، وتكون غرفة الصف الدراسي هي مجرّد إحدى غرف منزل هذا المدرّس. وقد آستمرّ الحال على هذا المنوال منذ أواخر القرن الميلادي الرابع عشر وحتّى أواسط القرن الميلادي التاسع عشر.

خلال عام 1901م، وصل إلى بغداد المدير الجديد لفرع العراق من مدرسة الآليانس هذه، وإسمه يوم طوب سماح، حيث أقام لمدّة ثلاثة (3) أعوام، تزامنت مع تصاعد النشاط الصهيوني بين يهود العراق. وقد كان سماح يجمع حوله عدداً من يهود العراق الشباب ليشاركوا في قراءة الدوريّات العبريّة، مثل السفيرة، والمؤلّفات الصهيونيّة، حيث كان سماح يحدّث هؤلاء الشباب اليهود عن د. ثيودور هِرتسِل، والّذي كان يعرفه شخصيّاً، والّذي كان متأثّراً به إلى حدّ كبير. وقد برز من هذه المجموعة من الشباب اليهود العراقيّين شخصان أصبحا من قادة الحركة الصهيونيّة في العراق، هما هارون ساسون وبنيامين ساسون.

النشاط الصهيوني الصريح بين يهود العراق (1914-1947)

تميم منصور
ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا المقال

قرر عدد من اليهود الذين قدموا من العراق ولا زالوا على قيد الحياة ، اعتبار يوم الثلاثين من تشرين الثاني ، يوماً يحيون فيه ذكرى المذابح المنظمة التي ارتكبت بحق اليهود حسب ادعائهم في أرض الرافدين، خاصة في العاصمة بغداد ، لم يأت هذا القرار من فراغ ، فهو امتداد لسياسة التحريض التي ستقوم بها دائماً عناصر صهيونية عنصرية متطرفة ، هذه العناصر تحاول دائماً خلق مبررات لزيادة لهيب الكراهية والحقد ضد كل من هو عربي، من خلال ادعائهم أن اليهود الذين عاشوا في الأقطار العربية تعرضوا لمذابح منظمة (پوگروم) قبل قدومهم الى فلسطين، الغريب أن زرع بذور الحقد والكراهية تتجدد كل يوم بأسلوب مغاير يعتمد على الكذب والتضخيم والتضليل والتزييف ، من ضمن هؤلاء من تعرضوا للقتل حسب هذا المسلسل ، اليهود العراقيين ، ولكن الحقيقة غير ذلك ، فقد اعترف عدد من قادة هؤلاء اليهود بأن الحديث يدور حول قصص مختلقة ، من بين هؤلاء حاخام بغداد " ساسون خاضوري " الذي كتب مذكراته سنة 1955 وفند كل هذه الادعاءات، من بين المسؤولين عن محاولة الافتراء على التاريخ لتفصيل قصص وهمية عن مذابح بحق يهود العراق امرأة تدعى " جانيت دّلال " قدمت هذه العنصرية من العراق عام 1975 ، بعد أن هربت من السلطات العراقية إلى إيران لأنها كانت عميلة للمخابرات الاسرائيلية ، وحتى لا تغيب عن الذاكرة الصهيونية قررت في السنة الماضية بالتعاون مع رموز صهيونية من اليمين المتطرف لا علاقه لهم بيهود العراق ، كما ذكرت صحيفة هآرتس -29/11 / 20015 - اقامة منصات تتحدث عن معاناة يهود العراق ، والهدف معروف وهو ابعاد شبهة التميز التي لا زالت قائمة بين اليهود الاشكناز واليهود الشرقيين ، وقد سارعت الوزيرة العنصرية " جمليئيل " وزميلها " بينت " الركوب على هذه الموجة لإضافة صفحات جديدة مزيفة من تاريخ الحركة الصهيونية عنوانها كارثة يهود الأقطار العربية . كما بارك بنيامين نتنياهو هذه الخطوة.

كتبت الصحيفة المذكور عن اجتماع حضره عدد من العجزة والكهول من اليهود العراقيين أقيم في مدينة تل أبيب ، تم خلاله الاستماع الى قصص فردية عن المعاناة التي تعرض لها اليهود في العراق ، وقد ذكر مراسل الصحيفة الذي حضر هذا الاجتماع، أنها قصص فردية سخيفة ، فقد ادعت إحدى المتحدثات أن عراقياً سلبها عقداً أو قطعة حلي كانت تحملها .

لا أحد يستطيع الانكار من وقوع حوادث فردية ، وربما جماعية محدودة ، كانت الظروف في حينه مسؤولة عن وقوعها ، ألا أن هذه الحوادث لم تكن تمثل موقف غالبية الشعب العراقي من المواطنين اليهود ، ومع ذلك لا يمكن مقارنة هذه الاعتداءات بالجرائم التي ارتكبتها الحركة الصهيونية ولا زالت بحق الشعب الفلسطيني منذ النكبة حتى اليوم ، من تهجير وهدم للقرى وسلب للأملاك ، والأراضي وارتكاب المجازر ، آخرها العدوان الأخير على قطاع غزة وعمليات الاعدام التي تحدث يومياً بحق الفتية الفلسطينيين .

وحتى نقطع البشك باليقين ، حول ادعاءات " جمليئل " و " جانيت دّلال " وغيرهما ، سوف نفتح صفحات تاريخ اليهود في العراق لنلقي الضوء على الحقائق التي يحاولون طمسها وتشويهها .

بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 ، قررت المنظمة الصهيونية العالمية جعل مقرها في العاصمة الدنماركية كوبنهاجن ، في تلك الأثناء كان ثلاثة من يهود بغداد قد قاموا بتأسيس جمعية صهيونية في العراق خلال 1914 ، تهدف الى التعاون مع الحركة الصهيونية العالمية ، هؤلاء الثلاثة هم: " رفائيل حورتس " ، " موريس فتال " و " منشه حكيم " طلب هؤلاء الثلاثة من المسؤولين في المنظمة الصهيونية في برلين تزويدهم بالكتب والصحف عن الحركة الصهيونية ، لكي يتم تعريف اليهود في العراق عليها ، وقد استجاب صهاينة برلين لطلبهم ، وكان قد سبق هذا النشاط نشاطاً مماثلاً ، في مدينة البصرة ، لكنه كان محدوداً .

في عام 1919 قام الصهيوني البغدادي " هارون ساسون " بزيارة سريعة الى فلسطين للتشبع أكثر بأفكار الصهيونية ، وعندما عاد الى العراق بدأ بجمع التبرعات للصندوق القومي اليهودي ، وبعد أن أوصل الأموال للصندوق المذكور أصبح الموزع الرئيسي في العراق لجريدة " العالم اليهودية " التي كانت تصدر في لندن في اللغة العبرية ، لقد اتسعت جذور الصهيونية في العراق عندما تم تأسيس الجمعية الأدبية الاسرائيلية في العراق عام 1920 ، وكانت جمعية صهيونية ، مع أن أعضاء هذه الجمعية أعلنوا بأن هدفهم تحسين العلاقات مع العرب ، لكنها سرعان ما انحرفت عن مبادئها المعلنة ، حيث أعلنت يبأن إحدى مهامها الرئيسية تدريس اللغة العبرية والأدب اليهودي ، وقد بدأت بتطبيق ذلك .

لم يكتف مؤسسو الجمعية بهذه النشاطات ، بل أخذوا يتدخلون في شؤون الجالية اليهودية في العراق ، بأساليب التسلل والاختراق والتخريب، ترأس هذه الجمعية " سلمان هيا " وكان يعمل ضابطاً في الشرطة السرية العراقية ، وفي أوائل عام 1921 ظهرت جمعية صهيونية جديدة عرفت باسم " جمعية بغداد الصهيونية " على أن تكون بديلة للجمعية التي سبقتها ، وقد حصلت هذه الجمعية على ترخيص من المندوب السامي البريطاني للقيام بنشاطها ، بفضل نشاط هذه الجمعيات وتشجيعها اليهود على الهجرة الى فلسطين ، بلغ عدد من هاجروا خلال الفترة ما بين عام 1919 الى عام 1924 مائه وواحد وسبعين مهاجراً .

سبب نشاط هذه الجمعية المشبوه، رفض وزير الداخلية العراقي في حينه، ويدعى عبد المحسن السعدون تجديد ترخيصها، وقد أصر على رفضه رغم تدخل المندوب السامي البريطاني في بغداد ـ وعلى الرغم من منع نشاط هذه الجمعية ، إلا أنها بقيت تعمل في الخفاء لمساعدة اليهود على الهجرة الى فلسطين ، لم يرق هذا التصرف في عيون غالبية يهود العراق وزعمائهم ، فقام أحد هؤلاء الزعماء ويدعى " مناحم صالح دانيال " بإرسال رسالة الى الأمين العام للمنظمة الصهيونية في لندن ، رفض من خلالها طلب المنظمة من يهود العراق إرسال تبرعات ، وقال في رسالته بأن غالبية اليهود لا ينظرون بعين الرضى لكل نشاط تمارسه الصهيونية في العراق ، لأن هذا يؤثر على مستقبل اليهود الذين يتمتعون بوضع بارز للعيان وملفت للنظر ، وأبلغه أن يهود بغداد يشكلون ثلث سكان العاصمة ، وأن معظم التجارة بأيديهم ، ومستواهم التعليمي أعلى من نظرائهم العرب .

يختتم دانيال رسالته بقوله " أن تأسيس فرع رسمي للحركة الصهيونية في بغداد سيكون له أثر سيء على العلاقات بين العرب واليهود ، واعترف أن يهود العراق يبدون اللامبالاة إتجاه القضايا العامة والسياسية في البلاد والخارج" لكن هذا الاعتراف وغيره لم يردع عملاء الصهيونية عن الاستمرار بنشاطها ، ففي عام 1924 انتحلت الجمعية الأدبية اليهودية العراقية التي يرأسها " هارون ساسون " اسماً سرياً هو ( الاتحاد الصهيوني لبلاد ما بين النهرين ) وقد أبلغ ساسون المنظمة الصهيونية في لندن بأنه يوجد فروع لجمعيته في البصرة ومدن عراقية أخرى .

لم يتوقف ضغط المنظمة الصهيونية في لندن بقيادة " حايم وايزمن " على المندوب السامي البريطاني في بغداد كي يجبر السلطات العراقية على السماح باستمرار نشاط عملاء الحركة الصهيونية ، وعندما نال مراده ، اعترض وجهاء الجالية اليهودية في العراق على ذلك ، فانحصر النشاط الصهيوني في العراق بعنصر صهيوني واحد كان يلقب بالمدرس الفاشل ، وقد طالبت الجالية اليهودية بطرده من العراق فانتقل الى فلسطين ، لكنه استمر يمثل الحركة الصهيونية في المؤتمرات الدولية التي كانت تُعقد حتى عام 1927.[1]

الجزء الثاني

استمرت معارضة غالبية يهود العراق وقادتهم لكل النشاطات الصهيونية داخل العراق ، خاصة بعد أن شعروا بأخطار الهيجان الوطني الشعبي في العراق ضد الممارسات الصهيونية في فلسطين بدعم من بريطانيا ، فقد اقيمت اجتماعات شعبية في بغداد وبقية المدن العراقية للتضامن مع الشعب الفلسطيني ضد ما اسموه الغزو الصهيوني للعراق وفلسطين .

وفي منتصف عام 1929 ، قام عدد من زعماء اليهود في العراق وأعيانهم بإرسال برقيات الى جريدتي " العراق " و " النهضة " العراقيتين ، أعربوا فيها عن دعمهم للموقف العربي المعارض لوعد بلفور وكل تبعاته من هجرة واستيطان ، وفي الثالث من شهر ايلول من نفس العام قام الحزب الوطني العراقي ، وعدد من الشخصيات السياسية والحزبية بتنظيم مؤتمر لنصرة فلسطين ومناهضة المشروع الصهيوني ، حضره عدد غفير من المواطنين من كل الطوائف ، بما فيهم اليهود ، ومن كل طبقات المجتمع ، ومن بين الذين تحدثوا في هذا الاجتماع الشاعر اليهودي " أنور شاؤول " اتهم الصهيونية بأنها المسؤولة عن أحداث القلاقل في اوروبا والشرق الأوسط ، وأعلن جميع الخطباء بأنهم يقفون ضد الصهيونية ، وليس ضد الديانة اليهودية .

بعد هذه الاجتماعات قام ممثلون عن الجاليات اليهودية العراقية في كافة المدن العراقية بإصدار بيانات أدانوا فيها الحركة الصهيونية ، وأكدوا ولاءهم لوطنهم العراق ، وقد طلبت السلطات العراقية المختصة من رئيس الجمعية الصهيونية العراقية ويدعى " هارون ساسون " الذي كان يشغل مديراً لمدرسة " بارديس هيلاديم " פרדם הילדים مغادرة بغداد خلال عشرة أيام ، لكن " ساسون " توسل الى السلطات العراقية بأن تمكنه من البقاء رحمة بطلاب مدرسته ، وقد استجابت السلطات العراقية لمطالبه ، لكنها طلبت منه أن يوقع تعهداً بأن يمتنع عن كل نشاطاته الصهيونية فوراً ، وقد اقتصرت هذه النشاطات على دفع اليهود للهجرة الى فلسطين ، وجمع التبرعات للصندوق القومي اليهودي ، واستخدام عمله الشاقل التي عمل على تداولها بين اليهود ، كما كان يفعل اليهود في فلسطين ، كما طالبوه بالتوقف عن بث الدعاية الصهيونية داخل مدرسته وخارجها ، لكن " ساسون " رفض التوقيع على هذا التعهد ، وحاول كسب تعاطف المندوب السامي البريطاني في بغداد ، لكن محاولته باءت بالفشل فأضطر للاذعان لمطالب السلطات العراقية ، لكنه اتجه بعدها للعمل السري ، واستمر في هذا المجال حتى عام 1935 ، عندما قام بمغادرة العراق الى فلسطين ، كان الاسم المعتمد للجمعية في العراق " الجمعية الأدبية اليهودية " الا أنه استخدم في مراسلاته الخارجية اسماً مغايراً وهو " الجمعية الصهيونية العراقية " .

اعترفت السلطات العراقية أنه بفضل الدعاية الصهيونية في العراق ، قرر عدد من اليهود الذين هاجروا من بلاد ما بين النهرين بحلول عام 1929 ثلاثة آلاف وما ئتي شخصاً ، وعدد الذين هاجروا بين عامي 1931 - 1944 حوالي الف وسبعمائة وخمسين شخصاً ، هذا من أصل حوالي مائة وخمسين الف يهودي عراقي .

يذكر أحد الوزراء العراقيين السابقين ويدعى " أرشيد العمري " أنه بالإضافة الى البؤر الصهيونية التي ذكرت ، كانت هناك تنظيمات سرية أقامتها الحركة الصهيونية العراق ، من بين هذه التنظيمات التي اقيمت عام 1934 ، جمعية اسسها مدرس جاء من فلسطين وتدعى " هيا الى أرض الميعاد " وقد اشتملت أنشطة هذه الجمعية السرية على تسهيل هجرة اليهود العراقيين الى فلسطين ، كما شمل نشاطها تعليم اليهود والعراقيين اللغة العبرية ، كما شمل عقد اجتماعات والقاء محاضرات وجمع التبرعات المالية للصندوق القومي اليهودي ، وقد كان معظم أعضاء هذه الجمعية من الطلبة الشباب الذين كانوا يدرسون في المدارس اليهودية في بغداد ، مثل مدرسة " شماس " ومدرسة " الأليانس " لصاحبتها " رحيل شمعون " وقد خطط بعض أعضاء الجمعية المذكورة وعدد من المدارس التي تدرس العبرية ، القيام بمسيرة يهودية في شوارع بغداد ، لكن غالبية أعضاء الجمعية رفضوا هذا الاقتراح ، وقد انشق المعارضون واسسوا جمعية خاصة بهم اسموها جمعية " شمش - שמש" وكانت متطرفة في انتمائها الصهيوني أكثر من سابقيتها ، لكن السلطات العراقية نجحت في وضع يدها على هاتين الجمعيتين وقامت بتفكيكهما .

ومن بين التنظيمات الصهيونية الأخرى التي أنشأها بعض اليهود العراقيين خلال هذه الفترة ، كانت جمعية الشباب العبرانيين " وجمعية " توزيع منتجات أرض اسرائيل " و " موزعوا الكتب العبرية " و " جمعية الشبيبة العبرانية " و " منظمة المكابيين الرياضية " وغيرها .

من بين الخطوات التي أقدمت عليها الحكومة العراقية لمحاصرة البؤر الصهيونية السرية ، قيام عدد من الوزراء بإنهاء خدمات عدد من كبار الموظفين من وزاراتهم ، وأكثرهم من غير المسلمين ، وكانت نسبة اليهود بينهم عالية ، وبعد احتجاجات من قبل أعيان الجالية اليهودية في بغداد ، أعيد عدد كبير من الموظفين اليهود الى وظائفهم .

وفي عام 1936 حدثت اضطرابات شعبية واسعة في فلسطين ، بسبب اقدام بريطانيا على السماح بالهجرة اليهودية الى فلسطين ، وقد أعلنت الحكومة العراقية برئاسة ياسين الهاشمي وقوفها الى جانب الشعب الفلسطيني في نضاله ضد سياسة بريطانيا وضد الهجرة المستمرة الى فلسطين ، وقد خرجت مظاهرات في بغداد منددة بالسياسة البريطانية رافقها بعض الاعتداءات على مرافق يهودية لاتهامها بدعم الحركة الصهيونية .

سارع حاخام بغداد " ساسون خضوري " وعدد من المثقفين اليهود لإصدار بياناً تبرأوا فيه من " المخطط الصهيوني في فلسطين " وقد تبعت ذلك البيان مقالتان كتبها أحد يهود بغداد واسمه " عزرا حداد " وكان مديرا لإحدى المدارس وأكاديمياً ، اضافة لكونه كاتباً مترجماً ، قال فيهما بأن يهود العراق عندما يعربون عن موقعهم من الحركة الصهيونية ، فأنهم يفعلون ذلك بملء ارادتهم ، وعندما يتحدثون عن العالم العربي ، فأنهم انما يتحدثون عن بلاد كانت منذ قديم الزمان وطنهم الأم ، اغدقت عليهم بكرمها وخيراتها ، وأضاف حداد قائلاً : بأن يهود العراق هم عرب قبل أن يكونوا يهوداً.

وبحلول عام 1938 بلغ عدد اليهود العراقيين الذين هاجروا الى فلسطين الفين وتسعمائة وعشرون ، وبسبب تصاعد الاضطرابات في فلسطين وتداعياتها في العراق ، توقفت نشاطات معظم التنظيمات الصهيونية بين يهود العراق ، لكن هذه الأجواء لم تمنع ظهور جمعيات يهودية سرية مثل " جماعة اليهود الأحرار " وجماعة " الاتحاد والترقي ؤ" و " جمعية شباب الانقاذ " وكانت جمعية الانقاذ أكثر الجمعيات الصهيونية نشاطاً وتصميماً ، وقد ورد في احدى المناشير التي وزعتها هذه الجمعية بين أفراد الجالية اليهودية ، زعمت فيه بأن يهود بغداد ، البالغ عددهم حوالي المائة الف قادرين على الدفاع عن أنفسهم اذا ما حملوا السلاح ، ومما هو جدير بالذكر أن ظروف الحرب العالمية الثانية ، مكنت عدداً من الصهاينة من التسلل من فلسطين الى العراق ، جاءوا تحت غطاء انتسابهم كجنود متطوعين في الجيش البريطاني في العراق.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الجزء الثالث

ذكرنا سابقا بأن الحركة الصهيونية استغلت ظروف الحرب العالمية الثانية ، بان مهدت الطريق أمام عدد من الصهاينة للتسلل من فلسطين الى العراق ، بذريعة انتسابهم كجنود متطوعين في الجيش البريطاني .

في مقدمة هؤلاء المتسللين ” عزرا سيرين ” עזרא סירין الذي جاء الى بغداد بصفة مندوب شركة البناء الكبيرة ” سوليل بونيه ” في شهر نيسان من عام 1942 ، وبمجرد وصوله ، باشر بتنظيم الحركة الصهيونية السرية في العراق ، لحق به فيما بعد في نفس العام اثنان آخران ارسلتهم الحركة الصهيونية ، فقد تسللوا خلسة بصفة ” سائقي شاحنة ” للقوات البريطانية في العراق ، أحد هؤلاء ويدعى ” عزرا خضوري ” עזרא חדורי وكان من سكان كيبوتس ” ماعوز حاييم ” الواقع في غور الأردن.

أما الثاني فيدعى ” شمارياهو غوتمن ” שמריהו גותמן وكان من سكان ” كيبوتس ناعن ” . أتصل هؤلاء الثلاثة بعميل آخر يعمل في العراق ويدعى ” سالم خليفة ” وهو المسؤول عن جماعة شباب الانقاذ – كتبت عنها سابقاً – ، عملوا جميعاً على تثقيف أكبر عدد من يهود العراق بالفكر الصهيوني ، كما عملوا على تعليمهم مبادىء اللغة العبرية وتنظيم جهاز الدفاع عن النفس ، أما نشاطهم لدفع اليهود بالهجرة غير الشرعية الى فلسطين فلم يتوقف وقد انكشف أمرهم عندما تم القاء القبض على خمسة من اليهود العراقيين وهم في طريقهم من العراق الى فلسطين ، من قبل السلطات العراقية ، مما سبب في ايقاف النشاطات العسكرية للحركة ، كما تسبب في نشوب خلافات وتراشق التهم بين يهود العراق أنفسهم ، وكذلك فيما بين القادة الصهاينة في فلسطين وبين زعامة يهود العراق . لم تتوقف محاولات عملاء الصهيونية في العراق عن محاولاتها بإثارة الفتن الطائفية والدس والتحريض والتهويل لدفع اليهود لترك وطنهم العراق .

كل هذا كان يحدث رغم اعتراف حاخام بغداد وغيره من زعماء الطائفة اليهودية بأن اليهود قد نالوا قسطاً وافراً من الانتعاش الاقتصادي خاصة في الفترة التي تلت ثورة رشيد عالي الكيلاني ، أي بين عامي 1942- 1945 ، هذا الانتعاش أوقف المد والدعاية الصهيونية وزاد من صعوبة اقناع اليهود بترك وطنهم الى فلسطين ، وبحلول عام 1946 ، أخذ اليهود يقيمون في أحياء عصرية وراقية داخل المدن العراقية ، مع ذلك بقيت مجموعة صغيرة ونشطة من الشباب اليهودي العراقي الذين كانوا يتتبعون الأخبار العالمية ، مصممين على الهجرة ، وعلى الانخراط في النشاطات الصهيونية ، وقد زاولت هذه المجموعة السرية نشاطها في العراق خلال شهر نيسان من عام 1943 ، حيث عقدت اجتماعاً سرياً تحت غطاء احتفال يهود بغداد بعيد الفصح ، وقد قدر عدد اعضاء الحركة الصهيونية في مدن العراق الرئيسية الثلاثة ، وهي بغداد الموصل والبصرة ثلاثمائة عضواً ، وزاد هذا العدد خلال العام الثاني ليصبح عام 1944 خمسمائة وخمسين عضواً ، معظمهم في بغداد ، وقد ارتفع هذا العدد خلال عام 1946 ليصبح الفي عضوا ، موزعين على مائة وستون فرعاً في أنحاء العراق . لكن هذا العدد قد تراجع كثيراً ، فقد ذكر ” شمشون مازور ” في كتابه ست سنوات في السجن العراقي ، بأن التراجع في عدد اليهود العراقيين الذين خدعتهم الحركة الصهيونية يعود الى أن الكثيرين منهم فضلوا الانخراط في صفوف الحزب الشيوعي العراقي بدلاً من الانخراط في صفوف الحركة الصهيونية .

يذكر ” شمشون مازور ” في كتابه معطيات أخرى وهامة منها : أن عدد اليهود العراقيين الذين تركوا العراق نهائياً الى فلسطين منذ عام 1924 ، وحتى العام 1944 بحوالي خمسة آلاف ، من أصل حوالي مائة وخمسين الف يهودي عراقي ، غادر ثلثهم خلال فترة الحرب العالمية الثانية ، لكن هذا العدد لم يتجاوز الخمسة وستين خلال الفترة بين عامي 1946 و 1948 ، ويضيف ان السلطات العراقية وضعت يدها في عام 1947 على مجموعة من اليهود العراقيين ، بعد أن اشتبهت بضلوعهم في عمليات سرية لتهريب يهود عراقيين الى فلسطين ، وذلك عن طريق ايران ، يجمل المؤلف المذكور عدد اليهود العراقيين الذين هاجروا الى فلسطين بين عامي 1920 و 1948 بحوالي ثمانية آلاف شخصاً ، كانت هجرة معظمهم لإسباب تعبدية دينية واقتصادية ، وكذلك بسبب تطبيق قانون التجنيد الاجباري الذي صدر عام 1934 ، وكانت نسبة كبيرة من هؤلاء المهاجرين من أكراد العراق .

في هذه الأثناء ، كان فريق من الشباب اليهود قد بدأ يتجه نحو الانخراط في الحركة الشيوعية ، والتي كانت آخذة في الانتشار في العراق بشكل ملحوظ وشبه علني ، خصوصاً في أواخر سني الحرب العالمية الثانية . وكان معظم هؤلاء اليهود الشيوعيين يعلنون معاداتهم للحركة الصهيونية ، وقد شكلوا قوة لا يستهان بها داخل الحزب الشيوعي العراقي ، وتبوأوا مناصب قيادية وهامة في تنظيماته ، وبعد اعتقال امين عام الحزب ورئيسه سلمان يوسف سلمان ، الذي عرف واشتهر باسمه الحركي ” فهد ” واعدامه ، أختار الحزب لخلافته في رئاسة الحزب أحد اليهود ، وقد أسس هؤلاء اليهود الشيوعيون العراقيون حركة اطلقوا عليها ” عصبة مكافحة الصهيونية” ، وكمثال على ذلك كتب أحد اليهود العراقيين خلال عام 1946 ، ويدعى موريس صباغ منشوراً وزع باليد بأسم ” الشبيبة اليهودية الحرة ” كتب فيه بأن الأقليات لن يهدأ بال ، ولن تضمن وجودها الاجتماعي حتى تتمكن الطبقة العاملة في العراق من الاستيلاء على السلطة ، وهذا ما يدفع طلائع الشبيبة اليهودية الواعية نحو حزب الجماهير المكافحة.

عندما قام الشيوعيون العراقيون ، وبينهم عدد من اليهود ، بإنشاء ” عصبة مناهضة الصهيونية ” – وعلى ما يبدو أنها كانت مقتبسة من تنظيم مماثل انشىء في مصر عام 1942 من قبل عدد من المثقفين اليهود المصريين ، هدفه محاربة الصهيونية ، ومعارضة الهجرة اليهودية الى فلسطين ، وربط مصالح اليهود المصريين بمصالح الشعب المصري وبالحركة الوطنية في مصر .

وافقت الحكومة العراقية على منح ترخيصاً لعصبة مناهضة الصهيونية ، وبعد حصولها على الترخيص طورت العصبة نفسها ، لتصبح الناطق الرسمي باسم الجالية اليهودية في العراق ، وقد تمكنت ” العصبة من اقامة قنوات اتصال مع الحركة الوطنية في فلسطين ، إضافة لإقامة شبكة علاقات مع تنظيمات أخرى ، محلية ودولية ومن خلال جريدتها اليومية التي جملت اسمها ” العصبة ” تمكنت من فتح ابواب الحوار ، واثارة نقاشات في صفوف الرأي العام العراقي ، مشددة على التمييز بين الصهيونية واليهودية منددة بالسياسة الاستعمارية البريطانية ، متهمة الاستعمار البريطاني والحكومة العراقية بتوفير أرض خصبة لنمو الصهيونية .

الخلايا الصهيونية 1947

 
كتابة عبرية على جدار قبر ناحوم في ألقوش، شمال العراق.

في الرابع والعشرين من شهر كانون الثاني من عام 1947، اكتشفت الحكومة العراقية خلايا صهيونية جديدة، في بغداد ومدن عراقية أخرى، كانت تعمل على زرع الفتن واثارة القلاقل بهدف تشجيع اليهود على الهجرة الى فلسطين.

لم تترك الصهيونية العالمية باباً أو فرصة الا واستغلتها لدعم مشاريعها التوسعية ونشر فكرها العنصري الكولونيالي ، ومن أجل تهجير أكبر عدد من اليهود الى فلسطين ، من بين القضايا والفرص التي استغلتها ، قضية اليهود الأوروبيين الذين هربوا خلال الحرب العالمية الثانية من أوروبا الى الدول العربية.[2]

في مقدمة هذه الدول كانت مصر والعراق ، ومنهم من فضل اللجوء الى الأقطار العربية في شمال افريقيا ، رغم أنها كانت لا تزال ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي ، حاولت الصهيونية استغلال هؤلاء اللاجئين لإقناع اليهود العرب بالهجرة الى فلسطين ، لتحقيق هذا الهدف ، أرسلوا موفدين الى البلدان المذكورة ، لكن هؤلاء الموفدين فوجئوا بضعف التجاوب معهم من قبل اليهود العرب ، ومن نسبة كبيرة من اليهود الأوروبيين ، الذين كانوا قد استقروا في الأقطار العربية ، خاصة مصر والعراق.

وفي الرابع والعشرين من شهر كانون الثاني من عام 1947 ، اكتشفت الحكومة العراقية خلايا صهيونية جديدة ، في بغداد ومدن عراقية أخرى ، كانت تعمل على زرع الفتن واثارة القلاقل بهدف تشجيع اليهود على الهجرة الى فلسطين ، كان رد فعل الحكومة العراقية قاسياً ، فقد أقدمت هذه الحكومة التي كان يترأسها نوري السعيد على طرد حوالي ثمانمائة موظف يهودي من الدوائر الحكومية والشرطة والجيش ، للاشتباه بضلوعهم في نشاطات وانتماءهم لتنظيمات صهيونية . في العشرين من شهر تموز – يوليو – من عام 1948 ، تم تعديل قانون العقوبات البغدادي ، ليجعل النشاطات الصهيونية الفعالة جرائم عقوبتها الموت ، كذلك شمل هذا القانون كل الشباب الذين ينتمون للحزب الشيوعي العراقي ، وقامت الحكومة العراقية بطرد الف وخمسمائة يهودي عراقي ممن اشتبه في ضلوعهم في أي نشاط صهيوني اسرائيلي من وظائف الدولة . جاء هذا التشريع بعد سلسلة من النقاشات المحمومة في الأوساط الشعبية والرسمية والاعلامية في العراق ، حول وضع اليهود العراقيين ، وموقفهم من سائر المجتمع وفق قضاياه الوطنية والقومية بصورة عامة ، ومن الصهيونية العالمية ودولة اسرائيل بصورة خاصة.

كان هناك رأي يدعو الى التساهل في التعامل مع الجالية اليهودية ككل ، والتركيز على عناصر محددة من عملاء الصهيونية واليهود الذين ينتمون للحزب الشيوعي ، وعزل عدة عناصر ومعاقبتها ، خصوصاً وأن عدد اليهود الذين تركوا العراق نهائياً حتى عام 1944 ، لم يتجاوز الخمسة آلاف ، من جهة أخرى كان هناك رأي يدعو الى اتخاذ الحيطة من الجالية اليهودية بأكملها دون استثناء ، بعد أن كشفت الأيام المرة تلو الأخرى ، تورط المزيد والمزيد من اليهود العراقيين على اختلاف مشاربهم ، إما في أعمال تخريب ، أو في تنظيم الهجرة الصهيونية الى اسرائيل ، أو في بيع أسلحة ، أو في التجسس لحساب الحركة الصهيونية.

خلال شهر آب أغسطس من عام 1948 ، جرت محاكمة المواطن العراقي البصري اليهودي ” شفيق عدس ” ومجموعة آخرين من المواطنين العراقيين غير اليهود ، بتهمة بيع الأسلحة لدولة اسرائيل ، وكان عدس من أثرياء اليهود المعروفين ، عمل وكيلاً لبيع سيارات ” فورد الامريكية ” كانت التهمة الموجهة له ، قيامه مع آخرين بشراء كمية من الاسلحة والعتاد من جنود بريطانيين ، عملوا في القواعد العسكرية التابعة للجيش البريطاني الذي كان يحتل العراق ، مثل ” قاعدة الشعيبة ” وقاعدة ” الحبانية ” وغيرها ، كما اتهموا بشراء الاسلحة من خارج العراق وبيعها للعصابات الصهيونية في فلسطين قبل قيام الدولة ، لقد أدانت محكمة بغداد ” شفيق عدس ” وحكم عليه بالإعدام وتم تنفيذ الحكم بعد شهر من صدوره ، أي في شهر ايلول 1948 ، وخلال هذا الشهر تم تخفيف الاحكام العرفية في العراق ، والغاء المحاكم العرفية ، مما جعل اليهود العراقيين يشعرون بالارتياح ، وقد صرح حينها حاخام بغداد “ساسون خضوري ” بأن هذه الاجراءات كانت ضرورية ومؤقتة بسبب ظروف الحرب في فلسطين ، وهي على أية حال لم تكن على مستوى الشدة التي اتسمت بها اجراءات الحكومة الامريكية في أواخر الحرب العالمية الثانية ضد مواطنيها الذين كانوا من أصول يابانية.

في شهر حزيران من عام 1948 ، أعادت الحكومة العراقية فرض الاحكام العرفية من جديد ، بسبب مشاركة العراق الفعلية في حرب فلسطين ، وقد تبع ذلك اصدار مرسوم حكومي خلال شهر تموز يمنع النشاطات الصهيونية في العراق ، وقد تزامن هذا مع حملة الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة ، والتي لعب فيها اللوبي الصهيوني دوراً رئيسياً وحاسماً ، لقد نشطت في المراحل النهائية من الحملة الانتخابية الرئاسية الامريكية الهجمة الصهيونية ضد الحكومة العراقية ، بدعوى أن الاحكام العرفية التي فرضت في البلاد ، إنما كانت موجهة ضد يهود العراق ، وقد طالب اللوبي الصهيوني الامريكي من وزارة الخارجية الامريكية الضغط على وزارة الخارجية العراقية لإلغاء هذه الاحكام ، وفد استجابت وزارة الخارجية الامريكية لهذا الطلب ، كان رد وزارة الخارجية العراقية بأن الاحكام العرفية المذكورة موجهة ضد الشيوعيين سواء كانوا من اليهود – أم من غير اليهود – وأن الفاً اربعمائة وستين مواطناً عراقياً معظهم من غير اليهود ، قد أدينوا تحت هذا الأحكام العرفية ، بتهم نشر عقائد تخريبية شيوعية وصهيونية ، والمس بالأمن العام ، وأن عدد اليهود العراقيين الذين ادينوا في هذه المجموعة هو مائتان وستة وسبعون مواطناً يهوداً .

نتيجة ملاحقة السلطات العراقية للنشاطات الصهيونية في العراق ، نشأت خلافات حادة داخل الجالية اليهودية في العراق ، أدت الى انهيار القيادة التقليدية للجالية ، والتي كانت ممثلة برجال الجيل القديم المحافظ ، وانتقالها الى ابناء الجيل الشاب الأكثر تمرداً ونشاطاً ، والمتشبع بأفكار الحركة الصهيونية.

في الذكرى السنوية الأولى لما عرف ” بالوثبة ” وكانت هذه الوثبة عبارة عن ردود فعل سياسية وشعبية غاضبة في العراق ضد معاهدة ” بور رتسمت ” أصدر الأمين العام الجديد للحزب الشيوعي العراقي المحظور اليهودي ” ساسون شلومو دلاّل ” أوامر الى كل اعضاء الحزب ، بحمل أسلحة وقنابل يدوية والنزول الى الشوارع للتظاهر باستمرار تحت شعار( اذا ارادوها حرب استنزاف ، فلتكن حرب استنزاف ).

وبعد بضعة أيام أصدر “دلاّل ” اوامره وطلب مكاتبة نظرائه في كل من الحزب الشيوعي السوري واللبناني ، أبلغهم أن الحزب الشيوعي العراقي يخوض معركته الحاسمة ، والغريب أن دعوات “دلاّل” هذه جاءت في وقت لم يتبق فيه من الشيوعيين في العراق أكثر من بضع مئات ، لذا فقد أثارت مواقف ” دلاّل ” الكثيرين من المراقبين سواء من القياديين الشيوعيين العراقيين والعرب ، لقد رأى هؤلاء أن هذه النشاطات سوف تؤدي الى زيادة التوتر الحاد ، بل والى توريط الحزب الشيوعي العراقي ، ومعه الأحزاب الشيوعية العربية والأخرى وتدميرها ، وقد ساورت الشكوك الكثير من القيادات الوطنية العراقية ومن ضمنهم الشيوعيون أن وراء النشاطات الشيوعية ، خاصة في العالم العربي أيادي يهودية صهيونية ، لقد كان رد فعل الحكومة العراقية صارماً ، فقد تم اعتقال ” دلاّل” وصدر بحقه حكماً بالإعدام ، تم تنفيذه في شهر حزيران من عام 1949 . نتيجة لذلك أخذ العديد من الشيوعيين العراقيين موقفاً من رئيس الحزب السابق ، رغم عداوتهم الشديدة للنظام الملكي في العراق ، لأنهم اقتنعوا بأن الايدي الخفية التي كانت تحرك النشاطات الشيوعية في العراقية ، هي أيدي صهيونية ، ومما زاد من قناعة هؤلاء الشيوعيين تصرفات أمين الحزب العام اليهودي ” ساسون شلومو دلاّل ” .

الجزء الخامس

مصادر كثيرة ذكرت ومن ضمنها ما ورد في كتاب ( على ضفاف الفرات ) الذي أصدره اليهودي من أصل عراقي ” ساسون معلم ” وكتاب ( سنوات في السجن العراقي ) من اصدار شمشون مازور، أكدت بأنه كانت هناك نسبة كبيرة من اليهود العراقيين الذين انخرطوا داخل صفوف الحزب الشيوعي العراقي، وساهموا مساهمة فعالة في تنظيمه ، ومنهم من انخرط في الأحزاب الاشتراكية التقدمية العلنية والسرية.[3]

كان من بين اليهود عدد من النقابيين النشيطين المثقفين ثقافة سياسية يسارية وعمالية متقدمة ، من بين هؤلاء اليهود العراقيين الذين ساهموا في تحريك الحزب الشيوعي العراقي ، يهودا ابراهيم صديق ، كان أحد كبار المسؤولين داخل الحزب، يعقوب مناحيم قوجمان، وهو أحد أعضاء اللجنة المركزية . وإفرايم اسحاق وابراهيم شميل اللذين كانوا من بين الشيوعيين اليهود الذين كانوا يروجون للشيوعية بين طلبة المدارس.

هذا من جهة ، أما من الجهة الثانية ، فقد كان هناك فريق آخر من الأحزاب الشيوعية في العالم ، ممن اعتبر قيام دولة اسرائيل وليدة الفكر الامبريالي الرأسمالي الاستعماري ، مشيراً الى الدور البارز والحازم الذي لعبته بريطانيا بالدرجة الأولى في البداية ، ثم الولايات المتحدة الامريكية فيما بعد ، في انشاء هذه الدولة ، كما اعتبرت هذه الأحزاب الحركة الصهيونية ، حركة عنصرية ودينية ، تبلورت في أواسط القرن التاسع عشر ، أي في أواسط عصور القياصرة ، في عدد من دول أوروبا الشرقية ، وعلى رأسها روسيا ، اضافة الى بولندا واوكرانيا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا وهنغاريا ، ومنها انتشرت الى اوروبا الوسطى ، ثم ما لبثت أن وصلت الى الدول الامبريالية ، الواقعة في شمال اوروبا وبريطانيا ، وقد ازدادت انتعاشاً داخل الدول الرأسمالية بما فيها الولايات المتحدة .

لم تتأخر العديد من الأسر اليهودية الرأسمالية من دعم هذه الحركة ، مثل آل روتشيلد وآل ساسون وغيرهم . أن قوة الحزب الشيوعي العراقي بما فيه من عدد كبير من الأعضاء اليهود ومعاداته للصهيونية ، الا أن هذا لم يمنع استمرار العصابات الصهيونية داخل العراق من الاستمرار بتهريب اليهود سراً الى فلسطين ، غالباً عن طريق ايران ، بمعدل الف يهودي في الشهر ، اضافة للقيام بأعمال ارهابية في صفوف الجالية اليهودية نفسها ، وكانت السلطات الأمنية في العراق قد القت القبض خلال عام 1949 على عدد من المشبوهين من اليهود العراقيين ، من بينهم سعيد خلّه صبحي ، بعد أن راقبت نشاطاته التخريبية بين الجالية اليهودية في بغداد ، بعد القاء القبض عليه اعترف بأنه عميل صهيوني ، وبأنه مع مجموعة من هؤلاء العملاء ، ومن بينهم موردخاي بن بورات ، الملقب بين اليهود العراقيين ب ” مراد أبو القنابل ” قام هؤلاء بالوقوف وراء حملة معروفة بدعاية شديدة بين اليهود العراقيين ، لحثهم على مغادرة العراق الى اسرائيل ، وأعلنت السلطات العراقية التي كانت مكلفة بملاحقة هؤلاء ، بأنها عثرت في حوزتهم على كميات من الاسلحة التي كانت مخبأة في منازل عدد من اليهود ومعابدهم الدينية في بغداد .

خلال شهر ايلول من عام 1949 ، قامت اجهزة المخابرات السرية في اسرائيل بتكليف موردخاي بورات بالتسلل الى العراق للقيام بأعمال ارهابية ضد اليهود العراقيين ، بغرض تشجيعهم على مغادرة العراق والهجرة الى اسرائيل ، وشن حرب دعائية بين اليهود ضد الحكومة العراقية ، وفي نفس الشهر تمكن أحد اليهود العراقيين الناشطين الصهاينة الذ ين صدر بحقهم حكم الاعدام في بغداد عام 1947 ويدعى نعيم خلا صبحي جلعادي من الهروب من العراق الى ايران ، ومن ثم الى اسرائيل التي وصلها في شهر أيار من عام 1950 ، ولكن بعد ان عرف اسرائيل على حقيقتها كما ذكر مازور في كتابه ، انقلب على الحركة الصهيونية ، ونشر مقالات وكتاباُ في هذا الصدد .

في شهر الثاني من عام 1949 ، قامت السلطات العراقية بحملة اعتقالات ضد عملاء الصهاينة في العراق ، رغم ذلك تمكن أعوان الصهيونية في هذا القطر من تهريب حوالي ستين من هؤلاء الى خارج العراق ، قبل أن تتمكن السلطات العراقية من القاء القبض عليهم ، وقد شنت الصهيونية العالمية حملة اعلامية ضد العراق ، مدعية بأن البلاد تعاني من حكم ارهابي مستبد وانه يجري تعذيب وقتل اليهود العراقيين ، وارسالهم الى معسكرات التعذيب ، وقد تم بث كل هذه الدعاية ونشر وتوزيع الكثير من الروايات التي نسجتها الحركة الصهيونية العالمية في جميع ارجاء العالم ، وخصوصاً في اوروبا ، وامريكا ، وقد اعترف عدد من اليهود الذين شاركوا في نشر هذه الاشاعات والترويج لها ، بأنهم اجبروا على اختلاق هذه الاخبار ، لكن الحكومتين البريطانية والامريكية اعتبرتا هذه الدعاية مبالغا فيها ، ورفضتا التجاوب مع طلبات الصهاينة بالاحتجاج لدى حكومة بغداد.

وفي برقية سرية من السفير البريطاني في واشنطن ، الى وزارة خارجية حكومته في لندن ، ورد بأن امريكا تشكك بمصداقية الدعاية الصهيونية ضد العراق ، وان هدف هذه الحملة الدعائية ، زيادة حملة التبرعات لمصلحة الحركة الصهيونية داخل امريكا ، وللتأثير على اعضاء مجلس الأمن للتخفيف من أهمية الشكاوى التي قدمت ضد اسرائيل بسبب معاملتها غير الانسانية ضد اللاجئين الفلسطينيين ، لكن اتضح فيما بعد ، أن موقف كل من بريطانيا وامريكا من مسألة هجرة يهود العراق لم تكن ثابتة ، فقد طالب سفير بريطانيا في بغداد ، مدعوماً من السفير الامريكي السلطات العراقية بعدم الوقوف في وجه اليهود العراقيين الذين يرغبون بالهجرة الى اسرائيل ، ومن المعروف أن النظام الهاشمي في العراق الذي كان يقوده في ذلك الوقت الوصي على العرش عبد الاله ، كان اداة طيعة بأيدي الدول الامبريالية ، خاصة بريطانيا . كانت نتيجة الضغط البريطاني الأمريكي، قيام مجلسي النواب والوزراء في بغداد ، بالموافقة على مشروع قانون يبقى ساري المفعول لمدة سنة، ينص على اسقاط الجنسية العراقية عن كل يهودي عراقي يرغب بترك العراق نهائياً بملء اختياره، وتسقط هذه الجنسية عن كل من يغادر العراق بصورة غير مشروعة ، او الذي كان قد غادر العراق فعلاً بصورة غير مشروعة، ولم يعد اليها خلال شهرين من نفاذ هذا القانون . صدر هذا القانون في شهر أيار 1950.

لقد برر وزير الداخلية العراقي صالح جبر هذا التحول المفاجىء من مسألة هجرة اليهود من العراق قائلاً ليس من المصلحة الوطنية أن يُمنع اولئك الذين يريدون مغادرة البلاد نهائيا، لأن منع هؤلاء من شأنه أن يسهل المعاملة الحسنة لليهود الذين يختارون البقاء في العراق، وادعى رئيس الوزراء العراقي توفيق السويدي بأن مغادرة اليهود الذين لا يشعرون بالراحة في العراق ، من شأنه أن يسهل المعاملة الحسنة لليهود الذين يختارون البقاء في العراق ، وادعى السويدي بأن ابرام هذا القانون يهدف بوضع حد لنزف الثروة الوطنية العراقية جراء الهجرة السرية المتصاعدة من العراق الى فلسطين ، عن طريق العصابات الصهيونية، مهربين معهم اموالهم الطائلة الى خارج العراق ، حيث قدر معدل الذين كانوا يغادرون البلاد بصورة غير مشروعة بألف يهودي .

بعد اصدار هذا القانون لم تتوقع الحكومة العراقية أن يزيد عدد المستفيدون منه من اليهود عن عشرة آلاف يهودي ، وأن الغالبية العظمى منهم سوف تختار البقاء في العراق ، كما أن كل الدلائل كانت تشير الى أن اسرائيل لم تكن قادرة على استيعاب اعداد من المهاجرين دفعة واحدة ، من المبررات الأخرى التي اعلنت عنها الحكومة العراقية لاصدارها قانون السماح بالهجرة ، ادعائها أن وجود فريق من اليهود الصهاينة الموالين لاسرائيل داخل العراق ، اصبح يشكل خطراً على الأمن القومي والاستقرار الداخلي للبلاد ، آمنت الحكومة العراقية أن الطبقة الارستقراطية من يهود العراق ، خاصة التجار ، سوف يختارون البقاء في وطنهم العراق ، لكن حالة الخوف والارهاب التي خلفها عملاء الصهيونية في المدن العراقية ، خاصة بين اليهود لحثهم على الاستفادة من هذا القانون كانت اقوى من كل التوقعات ,


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

النشاط الصهيوني-الشيوعي في العراق

أحمد برهان الدين باش أعيان
ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا المقال

في العشرين من شهر تمّوز (يولية) من عام 1948، تمّ تعديل قانون العقوبات البغدادي ليجعل "الأعمال الصهيونية الفعّالة" والشيوعيّة والفوضويّة جرائم عقوبتها الموت، كما قامت الحكومة العراقية بطرد ألف وخمسمائة يهودي عراقي ممن آشتبه في ضلوعهم في هذه النشاطات الصهيونية-ال"إسرائيلية" من وظائف الدولة. وقد جاء هذا التشريع بعد سلسلة من النقاشات المحمومة في الأوساط الشعبية والرسمية والإعلامية في العراق حول وضع اليهود العراقيين وموقفهم من سائر المجتمع ومن قضاياه الوطنية والقومية بصورة عامة، ومن الصهيونية العالمية ودولة “إسرائيل” بصورة خاصة. فكان هناك رأي يدعو إلى التساهل في التعامل مع الجالية اليهودية ككل، والتركيز على عناصر محددة من عملاء الصهيونية والشيوعيين من بين أفراد الطاثفة اليهودية، وعزل هذه العناصر فقط ومعاقبتها، خصوصاً بالنظر إلى أن عدد اليهود العراقيين الذين تركوا العراق نهائياً إلى فلسطين بين عامي 1924 و1944 لم يتجاوز الخمسة آلاف، من أصل حوالي مائة وخمسين ألف يهودي عراقي. ومن جهة أخرى، كان هناك رأي يدعو إلى آتخاذ الحيطة من الجالية كلها دون آستثناء، بعد أن كشفت الأيام، المرة تلو الأخرى، تورط المزيد والمزيد من اليهود العراقيين على اختلاف مشاربهم إما في أعمال التخريب أو النشاطات الشيوعية أوفي تنظيم الهجرة الصهيونية إلى “إسرائيل” أوفي القيام بالهجرة إلى “إسرائيل” أوفي بيع أسلحة لها أوفي التجسس لحسابها. إضافة إلى هذين الرأيين، فقد كان الحزب الشيوعي العراقي، (رغم كونه تنظيماً سرياً ومحظوراً طبعاً)، منقسماً حول هذا الموضوع، فكان فريق فيه يميل إلى إدانة الحركة الصهيونية ودولة “إسرائيل” على أنهما من مشاريع وأدوات الإمبريالية العالمية والإستعمار الغربي، ويبرئء ساحة اليهود العراقيين بصورة عامة من أية صلة بهما، بينما كان هناك فريق يدين ملاحقة الحكومة العراقية لليهود المتورطين في جرائم صهيونية والمتهمين يالإنتماء للحزب الشيوعي العراقي، بل وقد ذهب الأمر ببعض هؤلاء إلى تأييد دولة “إسرائيل” على أنها دولة تقدمية وتحررية، كون المؤسسين من روادها يتبنون المباديء الإشتراكية والأممية، وأنهم من ضحايا الإمبريالية الروسية (القيصرية) والفاشية الألمانية. وعلى أيّة حال، وانسجاماً مع روح هذا التشريع، فقد تمَّ طرد حوالي ثمانمائة (800) موظّف يهودي من الدوائر الحكوميّة والجيش والشرطة في العراق.

وخلال الشهر التالي، آب (أغسطس) من عام 1948 هذا، جرت محاكمة المواطن العراقي البصري، اليهودي شفيق عدس، ومجموعة من المواطنين العراقيين الآخرين من غير اليهود، بتهمة بيع أسلحة لدولة “إسرائيل”. وكان عدس من كبار أثرياء التجّار في العراق، حيث كانت أعماله التجارية تشمل وكالة سيارات فورد Ford الأميريكية، وقد آتّهم، مع عدد من المواطنين العراقيين الآخرين من غير اليهود، وجلّهم من المسلمين، بشراء خردة من الأسلحة والعتاد من القواعد العسكرية البريطانية في العراق، مثل قاعدة الشعيبة، ومن خارج العراق، وبيعها لعصابات الإرهاب الصهيوني في فلسطين، قبل قيام الدولة اليهودية هناك، بينما آدعى هو في دفاعه بأنه كان إنما يشتري قطعاً من ال "سكراب" (الخردة، أو السلاح المستعمل) ليبيعها في الأسواق العالمية في إيطاليا. وكان لإدانة عدس أثر الصدمة في نفوس من عرفه من العراقيين، بما فيهم بعض اليهود، إذ كان قد عرف بينهم بعدائه الشديد للحركة الصهيونية قولاُ وعملاً (أو على ما كان يبدو للآخرين على الأقل)، ومناهضته لدولة “إسرائيل”، كما كان يجاهر هو في كل مناسبة، حتى ألقي القبض عليه وعلى عدد من شركائه العراقيين (و أكثرهم من غير اليهود)، وأدين بالتهم الموجهة ضده. وقد تمّ تنفيذ الحكم في الثالث والعشرين من الشهر التالي أيلول (سبتمبر)، في البصرة.

وخلال نفس شهر أيلول هذا، تمّ تخفيف الأحكام العرفيّة في العراق، وإلغاء المحاكم العرفيّة، ممّا جعل اليهود العراقيّين يشعرون بالإرتياح. وقد صرّح حاخام بغداد، ساسون خضّوري، بأنّ هذه الإجراءات "كانت ضروريّة ومؤقّتة، بسبب ظروف الحرب في فلسطين، وهي على أيّة حال لم تكن على مستوى الصرامة الّتي آتّسمت بها إجراءات الحكومة الأميريكيّة في أواخر الحرب العالميّة الثانية ضدّ مواطنيها الّذين كانوا من أصول يابانيّة".

كانت حكومة مزاحم الباجه جي، والّتي شُكِّلت في السادس والعشرين من شهر حزيران (يونية) من عام 1948 هذا، قد أعلنت إعادة فرض الأحكام العرفيّة. وقد جاء هذا الإعلان بعد حوالي شهرين من قيام الدولة اليهوديّة في فلسطين، وتزامن ذلك مع إصدار مرسوم حكومي، خلال شهر تمّوز (يولية)، يحرّم النشاطات الصهيونيّة في العراق، ومع إدانة شفيق عدس وتنفيذ حكم الإعدام بحقّه، كما تزامن مع حملة الإنتخابات الرئاسيّة في الولايات المتّحدة الأميريكيّة، والتي كان للّوبي الصهيوني فيها دور رئيسي وحاسم. لذا، فقد نشطت، في المراحل النهائيّة من الحملة الإنتخابيّة الرئاسيّة الأميريكيّة، أي في بداية شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، هجمة صهيونيّة في الولايات المتّحدة الأميريكيّة، ضدّ حكومة الباجه جي، بدعوى أنّ الأحكام العرفيّة التي فرضتها الحكومة العراقيّة إنّما كانت موجّهة تحديداً ضدّ اليهود في العراق، ومطالبة وزارة الخارجيّة ألأميريكيّة بالضغط على الحكومة العراقيّة لإلغاء هذه الأحكام. وتحت هذا الضغط الصهيوني، قامت وزارة الخارجيّة الأميريكيّة بإرسال مذكّرة إلى وزارة الخارجيّة العراقيّة، تنقل إليها فيها هذه الإحتجاجات الصهيونيّة، فردّت وزارة الخارجيّة العراقيّة على هذه المذكّرة الأميريكيّة بتاريخ الثامن عشر من شهر تنشرين الثاني هذا، بأنّ الأحكام العرفيّة المذكورة إنّما كانت موجّهة ضدّ الشيوعيّين، سواء كانوا من اليهود أم من غير اليهود، وأنّ ألفاً وأربعمائة وأربعة وستّين (1،464) مواطناً عراقيّا، معظمهم من غير اليهود، قد أدينوا تحت هذه الأحكام العرفيّة بتهم بثّ عقائد تخريبيّة، شيوعيّة وصهيونيّة، وبالمسّ بالأمن العام، وأنّ عدد اليهود العراقيّين الذين أدينوا في هذه المجموعة هو مائتان وستة وسبعون (276) مواطناً يهوديّاً، (اي، بنسبة 19%).

وفي خطاب العرش الذي ألقاه أمام مجلس الأمة العراقي في الأوّل من الشهر التالي كانون الأوّل، صرّح الباجه جي بأن سياسة حكومته هي الإلتزام بقرار مجلس الأمّة العراقي المؤرخ 28 تشرين الثاني من هذا العام، والذي ينصّ على رفض قرار تقسيم فلسطين ويدعو إلى القضاء على الدولة اليهودية فيها، وإلى إقامة دولة عربية مستقلة في فلسطين، بالتعاون مع سائر الدول العربية.

نتيجة ملاحقة السلطات العراقية للنشاطات الصهيونية في العراق، نشأت خلافات حادة بين الجالية اليهودية في العراق، أدت إلى آنهيار القيادة التقليدية للجالية، والتي كانت مُمَثَّلة برجال الجيل القديم، التقليدي والمحافظ، وآنتقالها إلى أفراد الجيل الشاب، الأكثر تمرداً ونشاطاً، والمتشبع بأفكار الحركة الصهيونية. وفي الذكرى السنوية الأولى ل"الوثبة"، وهي سلسلة ردود الفعل السياسية والشعبية الغاضبة في أنحاء العراق التي جرت في الفترة من من أواسط إلى أواخر شهر كانون الثاني (يناير) من عام 1948 الماضي ضد معاهدة بورتسمُث، أصدر الأمين العام الجديد للحزب الشيوعي العراقي المحظور، اليهودي ساسون شلومو دلاّل، أوامره إلى كل أعضاء الحزب، (بآستثناء مسئولي الألوية والنقابات العمالية)، بحمل أسلحة وقنابل يدوية، والنزول إلى الشوارع للتضاهر بآستمرار "و حتى إشعار آخر"، تحت شعار "إذا كانوا يريدونها حرب آستنزاف، فلتكن حرب استنزاف".

وبعد بضعة أيام من إصداره أوامره هذه، قام دلاّل، في الثلاثين من شهر كانون الثاني (يناير) بمكاتبة نظرائه في كل من "الحزب الشيوعي" السوري واللبناني، معلناً لهم أن "الحزب الشيوعي" العراقي يخوض "معركته الحاسمة"، ويُذَكِّرهم، كشيوعيين، ب"آلتزاماتهم الأممية" تجاه البروليتاريا في دولة مجاورة مثل العراق، كما يَحُضُّهم على تنظيم "كل الأحزاب الشيوعية في المشرق العربي في جبهة بروليتارية ثوريَّة". والغريب أن دعوات دلاّل هذه جاءت في وقت لم يتبق فيه من الشيوعيين في العراق أكثر من بضع مئات فقط.

لذا، فقد أثارت مواقف ونشاطات دلاّل آستغراب الكثيرين من المسئوولين والمراقبين، سواء من القياديين الشيوعيين العراقيين والعرب، أم من الحكومة والسلطات العراقية نفسها. كون كلِّ هذه النشاطات تؤدي، من حيث النتيجة، ليس فقط إلى تأجيج الوضع المشتعل في الشارع العراقي وزيادة التوتر الحاد والعنف السياسي، بل وإلى توريط الحزب الشيوعي العراقي (و الأحزاب الشيوعية العربية الأخرى) أنفسها، وتدميرها. كانت الحكومة العراقية منذ البداية تصرُّ على أن وراء النشاطات الشيوعية في العالم كله، وخصوصاً في العالم العربي، أيدٍ يهودية-صهيونية، وأن الفكرة الشيوعية أساساً هي فكرة من تأليف وتلحين وغناء اليهود الصهاينة، وأن الأهداف الحقيقية وراء هذه الفكرة هو تدمير النسيج الأخلاقي للمجتمعات، بزعزعة العقائد الدينية وإلغاء النظام الأسري، وإثارة الفتن والأحقاد الطبقية والسياسية، بالإيحاء للطبقات الكادحة والمعدمة في المجتمع بأنها "مظلومة" وإيغار صدورها للتمرد بحقد مسموم أعمى على من هم أوفر منها حظاً في المجتمع، وإشعال الحروب بين الدول، بتقسيم العالم إلى معسكرات متناحرة متطاحنة يخشى ولايثق الواحد منها بالأخر، بل وحتى لا يفهمه، هذا "رأسمالي" وذاك "إمبريالي" والآخر" شيوعي-ماركسي" وغيره "شيوعي-تروتسكي"، وهكذا. وبعد القبض عليه ومحاكمته من قبل القضاء العراقي، تمّ، خلال شهر حزيران (يونية) من عام 1949 هذا، تنفيذ حكم الإعدام بحق دلاّل.

نتيجة لذلك، أخذ العديد من الشيوعيين العراقيين، رغم عداوتهم الشديدة لنوري السعيد وكراهيتهم العميقة النظام الملكي، أخذوا يتَّجهون شيئاً فشيئاً للإتفاق مع الحكومة العراقية في دعواها بأن الأيدي الخفية الحقيقية التي كانت تحرك النشاطات الشيوعية في العراق هي أيد يهودية-صهيونية. ومما زاد هؤلاء الشيوعيين قناعة بهذا الإدعاء تصرفات أمين الحزب العام الجديد اليهودي ساسون شلومو دلاّل هذا، والتي كان من شأنها التدمير والتخريب على نطاق واسع وبحق كل الأطراف.

كما كان من الملفت النسبة المرتفعة لليهود العراقيين المنخرطين والمساهمين في التنظيمات الحزبية الشيوعية والإشتراكية، السرية منها والعلنية، خصوصاً في مواقع صنع و آتخاذ القرارات القيادية والمؤثرة. ذلك أن عدد اليهود العراقيين في الحزب الشيوعي العراقي بلغ المئات، وكان الكثيرون منهم من النقابيين النشطين المثقفين ثقافة سياسية يسارية وعمالية متقدمة، وكانوا يحتلون مناصب حاسمة في الهيكل التنظيمي للحزب. وكان الأمر مشابهاً بالنسبة للأحزاب اليسارية الأخرى في العراق في هذه الفترة والفترات السابقة واللاحقة لها. ومن بين هؤلاء اليهود العراقيين المساهمين في تأسيس أو تحريك الحزب الشيوعي العراقي، إضافة إلى رئيسه المذكور آنفاً، ساسون دلاّل، من أمثال: يهودا إبراهيم صديق، الذي كان فيما مضى المسئوول الأول للحزب؛ يعقوب مناحيم قوجمان، وهو أحد أعضاء للجنة المركزية للحزب؛ وإفرايم إسحاق، وإبراهيم شميّل، اللذين كانا من بين الشيوعيين اليهود الذين كانوا يروجون للشيوعية بين طلبة المدارس.

كان هذا كله من جهة، أما من الجهة الأخرى، فقد كان هناك فريق معاكس، وفي نفس القيادة السوفييتية وبين نفس الأحزاب الشيوعية في العالم، ممن آعتبر دولة “إسرائيل” وليدة الفكر الإمبيريالي الرأسمالي الإستعماري، مشيراً إلى الدور البارز والحازم الذي لعبته بريطانيا بالدرجة الأولى (في البداية، ثم الولايات المتحدة الأميريكية فيما بعد) في إنشاء هذه الدولة (بواسطة وعد بالفُر)، وإلى كون الحركة الصهيونية حركة عنصرية ودينية، تبلورت في أواسط القرن التاسع عشر، أي في أواخر عصور القياصرة، في عدد من دول أوروبا الشرقية (و على رأسها روسيا، إضافة إلى بولندا وأوكرانيا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا وهنغاريا) وآنتشرت منها إلى أوروبا الوسطى، ثم ما لبثت أن وصلت إلى الدول الإستعمارية الشمال-الأوروبية وعلى رأسها بريطانيا والإمبيريالية الرأسمالية، وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأميريكيّة، حيث آنتعشت آنتعاشاً مذهلاً، وبدعم وتأييد هذه الدول ومؤسساتها الإمبريالية والرأسمالية، وأن أكبر الداعمين لهذه الحركة كانوا من كبار الرأسماليين اليهود في أوروبّا والولايات المتّحدة الأميريكيّة، مثل آل رُثتشيلد وآل ساسون وغيرهم كثيرون. وهكذا، فإن هذا التذبذب أو الإزدواجية في نظرة الإتحاد السوفييتي والأحزاب الشيوعية في العالم إلى الحركة الصهيونية ودولة “إسرائيل” قد آنعكسا على مواقف الشيوعيين العرب، بما فيهم العراقيين منهم. ولكن، مهما يكن من أمر، فإن الكثيرين من هؤلاء الشيوعيين العراقيين بدأوا ينظرون إلى ساسون شلومو دلاّل على أنه ليس شيوعياً حقيقاً، بل شيوعي مزيف، وأنه في الواقع مجرد عميل ل“إسرائيل”، عقيدته يهودية، وأهدافه صهيونية بحتة.

في مقابلة مع السفير البريطاني في بغداد خلال شهر كانون الثاني (يناير) من عام 1949، هدّد رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد بقيام الحكومة العراقيّة بطرد اليهود العراقيّين إذا ما آستمرّت “إسرائيل” في تعنّتها في حل قضيّة اللاجئين الفلسطينيّين. وفي الشهر التالي، شباط، طلبت وزارة الخارجيّة البريطانيّة من سفيرها في بغداد هذا تحذير نوري من أنّ إقدامه على مثل هذا الإجراء قد تكون له عواقب "قاتلة"، لأنّ “إسرائيل” قد تعمد إلى رفض دفع التعويضات عن ممتلكات الأراضي الفلسطينيّة.

وخلال الشهر التالي شباط (فبراير) من عام 1949م هذا، تمّ إعدام أربعة (4) من قادة الحزب الشيوعي العراقي.

وفي الثامن عشر من شهر شباط هذا، وصلت إلى بغداد "لجنة التوفيق الدولية" بخصوص قضية فلسطين. وقد حاول المندوب الأميريكي في هذه اللجنة إقناع نوري السعيد بالموافقة على دخول العراق في مفاوضات مباشرة مع “إسرائيل”‘ ولكن نوري رفض. وعندها، كلّفت الحكومة البريطانية سفيرها في بغداد أن يحاول هو بدوره، محذراً نوري السعيد من أنه، إذا رفض ذلك، فإن القوات اليهودية في فلسطين ستقوم بمهاجمة الجيش العراقي هناك، ولكن نوري كرر رفضه للتفاوض مع اليهود.

بحلول عام 1949، ورغم متابعة وملاحقة السلطات العراقية لها منذ بضعة أعوام، آستمرت العصابات الصهيونية بتهريب اليهود العراقيين سراً إلى فلسطين، غالباً عن طريق إيران، بمعدل ألف يهودي في الشهر، إضافة للقيام بأعمال إرهابية في صفوف الجالية اليهودية نفسها. وكانت السلطات الأمنية في العراق خلال هذا العام قد ألقت القبض على اليهودي العراقي سعيد خلّة صبحي، بعد أن راقبت نشاطاته التخريبية بين الجالية اليهودية في بغداد. وبعد إلقاء القبض عليه، إعترف سعيد بأنه من عملاء الصهيونية في العراق، وبأنه ومجموعة من هؤلاء العملاء، (و من بينهم موردخاي بن بورات، الملقب بين اليهود العراقيين ب"مُراد أبو القنابل")، قاموا بالإشراف على حملة مقرونة بدعاية شديدة بين اليهود العراقيين، البالغ عددهم في هذه الفترة ما يقرب المائة وخمسين ألف نسمة، لِحَثِّهم على مغادرة العراق والإلتحاق بدولة “إسرائيل”، كما عثرت السلطات العراقية على كميات من الأسلحة التي كانت مُخَبَّأة في منازل عدد من اليهود ومعابدهم الدينية في بغداد.

خلال شهر أيلول (سبتمبر) من عام 1949 هذا، قامت أجهزة المخابرات السرية في “إسرائيل” بتكليف أحد نشطاء الصهيونية السريين، وأسمه موردخاي بن بورات، بالسفر سراً إلى العراق، في مهام للقيام بأعمال إرهابية ضد اليهود العراقيين بغرض تشجيعهم على مغادرة البلاد والهجرة إلى “إسرائيل”، وشن حرب دعائية بينهم ضد مواطنيهم العراقيين وفي العالم ضد العراق. وبعد أن آكتشف اليهود العراقيون في “إسرائيل” حقيقة الأمر بعد ذلك بسنين، أطلقوا على موردخاي هذا لقب "مُراد أبو القنابل"، كون مُراد هو الصيغة العربية لإسم موردخاي. وقد تمكَّن، خلال نفس شهر أيلول هذا، أحد اليهود العراقيين من الناشطين الصهاينة الذين حكمت عليهم محكمة عسكرية بالإعدام شنقاً حتى الموت عام 1947، وهو نعيم خلاصجي-جلعادي، من تدبير هروبه إلى إيران، ومن ثم إلى فلسطين، التي وصلها في شهر أيّار (مايو) من عام 1950. (و ما لبث خلاصجي-جلعادي أن آنقلب على “إسرائيل” والحركة الصهيونية فيما بعد، ونشر مقالات وكتاباً في هذا الصدد).

وقد تزامنت هذه المهمّة الصهيونيّة في العراق مع آعتقال كلّ أعضاء اللّجنة المركزيّة للحزب الشيوعي العراقي في نفس شهر أيلول هذا. ورغم أنّ السلطات العراقيّة شنّت، في بداية الشهر التالي، تشرين الأوّل (أكتوبر)، حملة آعتقالات ضدّ كلّ نشطاء الصهاينة في العراق، فقد تمكّنت الصهيونيّة من تهريب حوالي ستّين (60) من هؤلاء إلى خارج العراق قبل أن تتمكّن السلطات العراقيّة من إلقاء القبض عليهم. وقد شنّت الصهيونيّة العالميّة حملة إعلاميّة-نفسيّة ضدّ العراق، مدّعية بأنّ "حكماً من الرعب يستبدّ بالعراق، يتمّ بموجبه تعذيب وقتل آلاف اليهود العراقيّين وإرسالهم إلى معسكرات التعذيب". وقدّ تمّ بثّ كلّ هذه الدعايات ونشر وتوزيع الروايات الّتي نسجتها الصهيونيّة العالميّة في جميع أرجاء العالم، وخصوصاً في أوروبّا والولايات المتّحدة الأميريكيّة. وقد آعترف عدد من اليهود الّذين شاركوا في نشر هذه الإشاعات الصهيونيّة والترويج لها بأنّهم لجأوا "أحياناً" إلى "آختلاق هذه الأخبار". وقد آتّفقت الحكومتان البريطانيّة والأميريكيّة على حدّ سواء على كون "هذه الدعايات الصهيونيّة مبالغاً فيها"، لذا، فإنّ هاتين الحكومتين (البريطانيّة والأميريكيّة) آمتنعتا عن التجاوب مع طلبات الصهاينة لهما بالإحتجاج لدى الحكومة العراقيّة.

ففي رسالة من السفير البريطاني في بغداد إلى وزارة الخارجيّة البريطانيّة في لندن، مؤرّخة السابع والعشرين من شهر تشرين الأوّل هذا، يذكر السفير بأنّ وفداً من وجهاء يهود العراق، برئاسة حاخام بغداد، ساسون خضّوري، قابل نائب رئيس الوزراء العراقي، عمر نظمي، وآحتجّ على "الإجراءات المشدّدة ضدّ اليهود"، وقد وعدهم عمر نظمي بأنّه سوف يتمّ رفع كلّ هذه الإجراءات، والّتي لم تكن كلّها حصراً ضدّ اليهود. وقد علّق السفير البريطاني في بغداد، السير هنري ماك ،Sir Henry Mack في مذكّرته هذه بالقول: "إنّ تصرّفات الحكومة العراقيّة تجاه اليهود هي تصرّفات متسامحة ومعقولة، خصوصاً بالنظر لما يصدر من تصريحات وسياسات آستفزازيّة من الحكومة الإسرائيليّة".

وفي برقيّة سرّيّة من السفير البريطاني في واشنطن إلى وزارة خارجّية حكومته في لندن بتاريخ الثاني من الشهر التالي تشرين الثاني (نوفمبر)، ورد بأنّ وزارة الخارجيّة الأميريكيّة تعتقد بأنّ "الإثارة الصهيونيّة (ضدّ العراق) قد تمّ إشعالها عمداً من قبل الصهاينة لدعم حملة جمع التبرّعات للصهاينة داخل الولايات المتّحدة الأميريكيّة، وللتأثير على مشاعر وعواطف أعضاء مجلس الأمم المتّحدة للتخفيف من تأثير معاملة اليهود للّلاجئين الفلسطينيّين على مواقف أعضاء مجلس الأمن الدولي". وقد بدأت الإذاعة الإسرائيليّة ببثّ برامج خاصّة لليهود العراقيّين تعدهم فيها بال "خلاص"، كما دعت إحدى الصحف الإسرائيليّة إلى منح كلّ يهود العراق الجنسيّة الإسرائيليّة و"شملهم بالحماية والرعاية".

وفي الرابع من شهر آذار (مارس) من العام التالي 1950، تمّت المصادقة في مجلس النوّاب والوزراء العراقي على مشروع قانون كانت قد طرحته حكومة توفيق السويدي، مدة مفعوله صالحة لعام واحد، ينصُّ على إسقاط الجنسية العراقية عن اليهودي العراقي الذي يرغب في ترك العراق نهائياً بملء آختياره، أو الذي يغادر العراق بصورة غير مشروعة، أو الذي كان قد غادر العراق فعلاً بصورة غير مشروعة ولم يعد إليها خلال شهرين من نفاذ هذا القانون. وقد أوضح وزير الداخليّة العراقي صالح جبر بأنّه "ليس من المصلحة الوطنيّة أن يُمنَع أولئك الّذين يريدون مغادرة البلاد نهائيّاً، أن يمنعوا من الهجرة، لأنّ الّذين يريدون مغادرة البلاد نهائيّاً سيضرّون بالوطن إذا ما أجبروا على البقاء فيه"، مضيفاً: "أمّا من قرّر البقاء بملء إرادته، مثل اليهود، فإنّ الحكومة تعتبرهم عراقيّين متساوين مع مواطنيهم المسلمين والمسيحيّين، وهو حقّ يضمنه لهم الدستور". وقد عقّب رئيس الوزراء السويدي نفسه بالقول بأنّ "مغادرة اليهود الّذين لا يشعرون بالراحة أو السعادة في العراق، من شأنه أن يسهّل المعاملة الحسنة لليهود الّذين يختارون البقاء في العراق". وقد بيّنّا أعلاه أنّ من جملة الأسباب الرئيسية وراء إبرام هذا القانون كان وضع حدٍّ لنزف الثروة الوطنية العراقية الذي كان اليهود يتَسَبَّبَون به من جراء هجراتهم السرية المتصاعدة من العراق إلى فلسطين بتنظيم العصابات الصهيونية، مهرّبين معهم أموالهم الطائلة إلى خارج العراق، حيث قُدِّر معدّل هجرة اليهود العراقيين الذين كانوا يغادرون البلاد بصورة سرّيّة وغير مشروعة بألف يهودي كما أشرنا إلى أنَّ الحكومة العراقية لم تكن تتوقع أن يَتَقَدَّم للإستفادة من هذا القانون أكثر من عشرة آلاف يهودي، وأن الغالبية العظمى من اليهود العراقيين، سوف تختار البقاء في العراق. كذلك، كان يبدو أن المؤسسات الحكومية في “إسرائيل” نفسها لم تكن مستعدة لآمتصاص عدد كبير من المهاجرين اليهود من العراق في هذه المرحلة، وذلك لأسباب آقتصادية ومالية.

وكانت من جملة الأسباب الرئيسية وراء إبرام هذا القانون وضع حد لنزف الثروة الوطنية العراقية الذي كان اليهود يتَسَبَّبَون به من جراء هجراتهم السرية المتصاعدة من العراق إلى فلسطين بتنظيم العصابات الصهيونية، مهرّبين معهم أموالهم الطائلة إلى خارج العراق، وإلى عدوّته وعدوة العرب اللدود، الدولة اليهودية في فلسطين؛ إذ قدّر معدّل هجرة اليهود العراقيين الذين كانوا يغادرون البلاد بصورة سرّيّة وغير مشروعة (غالباً عن طريق إيران) بألف يهودي في الشهر. كما أن وجود فريق من هؤلاء اليهود الصهاينة الموالين لدولة “إسرائيل” في العراق أصبح يشكل خطراً على الأمن القومي والإستقرار الداخلي للبلاد، ليس فقط بسبب ولاءاتهم للعدو، ولكن أيضاً بسبب آرتباطاتهم بالشيوعية المحلية والإقليمية. وكانت الحكومة العراقية لا تتوقع أن يقدم للإستفادة من هذا القانون أكثر من عشرة آلاف يهودي، وأن الغالبية العظمى من اليهود العراقيين، خصوصاً أولئك الذين يعملون في التجارة، سوف تختار البقاء في العراق. كذلك، كان يبدو أن المؤسسات الحكومية في “إسرائيل” نفسها لم تكن مستعدة لآمتصاص عدد كبير من المهاجرين اليهود من العراق في هذه المرحلة، وذلك لأسباب آقتصادية ومالية، حيث كانت “إسرائيل” تعاني من مشاكل حادة في تأمين السكن والعمل لمهاجريها من أوروبّا. يضاف إلى ذلك كله أن ال “إسرائيليّين” الذين ينحدرون من أصول أوروبية كانوا ينظرون إلى اليهود العرب بصورة عامة نظرة فوقية، حتى أن أحد موظفي الوكالة اليهودية، المسئوولة عن تنظيم الهجرة اليهودية إلى فلسطين، علّق قائلاً: "إن اليهود الأوروبيين كبشر هم أفضل من غيرهم من اليهود". وقد أعربت الحكومة البريطانية عن مخالفتها لرأي الحكومة العراقيّة في سنّ هذا التشريع، لكونه "سيغذّي الدعاية الصهيونيّة ضدّ الحكومة العراقيّة"، بحجّة أنّ هذا التشريع هو من باب "عداء الساميّة". أمّا الحكومة ال "إسرائيليّة"، فقد رحّبت بالقرار، ولكنّها، في نفس الوقت، أبدت قلقها من مصير ممتلكات اليهود العراقيّين الذين سيستفيدون منه.

وفي التاسع عشر من شهر آذار هذا، أي، بعد إسبوعين من مصادقة مجلس النوّاب العراقي على قانون إسقاط الجنسية العراقية عن اليهودي العراقي الذي يرغب في ترك العراق نهائياً بملء آختياره، إِنفجرت قنبلة في مركز المعلومات الأميريكي في بغداد، والذي كان جناحه الثقافي مرغوباً من قبل اليهود العراقيين، فتَسَبَّبَت في جرح عدد منهم إضافة إلى بعض الأضرار المادية. وأثناء التداولات والتحريات التي أجرتها لجنة المحامين اليهود من أصل عراقي في “إسرائيل” عام 1955 للنظر في دعاوى اليهود العراقيين للمطالبة بتعويضات عن أملاكهم في العراق، أسرّ أحد هؤلاء المحامين (طالباً عدم ذكر إسمه) إلى نعيم خلاصجي-جلعادي بأن الفحوصات المخبرية التي أجرتها دائرة الجنائيات العراقية في مطلع الخمسينيات حول المناشير المعادية للأميريكان التي عثر عليها بعد إلقاء المتفجرات على مركز المعلومات الأميريكي في بغداد تم نسخها على نفس آلة ال "ستانسيل" (النسخ) التي آستعملت في نسخ المناشير التي وزعتها الصهيونية على اليهود في بغداد خلال نفس تلك الفترة. بعد تسعة اشهر من هذه العمليّات، إعترف ثلاثة من اليهود العراقيين حوكموا بتهمة القيام بهذه العمليّات وعمليّات أخرى لاحقة، وهم كل من: المحامي يوسف إبراهيم بصري، شالوم صالح شالوم، ويوسف خبّازة، بأنهم كانوا وراء كل هذه العمليّات. وكان كل من يوسف إبراهيم بصري وشالوم صالح شالوم عضوين في تنظيم حاشورا، وهو الجناح العسكري للحركة الصهيونية السرية، كما وجدت بقايا مواد متفجرة في شنطة يوسف بصري.

في الساعة التاسعة والربع من مساء الثامن من الشهر التالي نيسان (إبريل)، مرَّت سيَّارة تقلُّ بعض الشباب، من أمام مقهى الدار البيضاء اليهودي الواقع في شارع أبي نؤاس في بغداد، أُلقِيَت منها قنبلة يدوية على مجموعة من الشباب اليهود الذين كانوا يحتفلون بعيد الفصح اليهودي، مما تَسَبَّبَ في إصابة أربعة منهم بجروح خطيرة. وما لبثت جهات مجهولة أن قامت بتوزيع مناشير مطبوعة تدعو اليهود إلى آغتنام الفرصة الأخيرة ب"الفرار بأرواحهم من العراق إلى “إسرائيل” قبل فوات الأوان".

وفي اليوم التالي، التاسع من شهر نيسان هذا، إحتشدت مجموعة كبيرة من اليهود العراقيين المُعدَمين أمام مراكز الهجرة في بغداد، طالبين الهجرة إلى “إسرائيل”، وإسقاط جنسياتهم العراقية. وكان من كثافة حجم هذه المجموعة أنَّ مركز الهجرة عجز عن آستيعاب هذا الزخم غير المسبوق، مما آضطر المسئولين من الشرطة العراقية إلى إقامة مراكز إضافية، وذلك في المدارس والمعابد اليهودية.

وعند فجر العاشر من الشهر التالي أيّار (مايو)، ألقيت قنبلة على واجهة صالة عرض السيارات التابعة لشركة بيت لاوي اليهودية في بغداد، تَسَبَّبَت في تَكَسُّر زجاج الواجهة. وفي الثالث من الشهر التالي حزيران (يونية)، أُلقيت قنبلة في حي البتاوين، الذي يقع في جانب الرصافة (الشرقي) من بغداد، وهو حي يسكنه بعض أثرياء اليهود، كما تسكنه بعض أسر الطبقة الوسطى من العراقيين غير اليهود. إثر ذلك، قامت المنظمات الصهيونية العالمية بتوجيه نداء عاجل إلى الحكومة ال "إسرائيلية" لرفع نصاب الهجرة إلى “إسرائيل” للحُصّة المُخَصَّصة لليهود العراقيين. وفي الساعة الثانية والنصف من بعد منتصف الليلة التالية، ليلة الرابع / الخامس من شهر حزيران، إنفجرت قنبلة في عمارة اليهودي ستانلي شعشوع في شارع الرشيد التجاري الرئيسي في بغداد، متَسَبَّبَة بأضرار مادية فقط.

وفي الساعة السابعة من مساء الرابع عشر من شهر كانون الثاني (يناير) من العام التالي 1951م، حدثت عمليّة إرهابية جديدة ضد اليهود في العراق، عندما ألقيت قنبلة على مجموعة من اليهود العرافيين الذين كانوا يقفون أمام معبد مسعودة شمطوف اليهودي في بغداد، مما أودى بحياة بين ثلاثة وخمسة أفراد من اليهود، وجرح عدد كبير منهم. وقد آرتطمت القنبلة بسلك كهربائي عالي الجهد، مما تَسَبَّبَ في كهربة الطفل اليهودي إسحاق الماخر، ورجلين يهوديين، وجرح ثلاثين آخرين. إثر ذلك، إرتفع عدد اليهود العراقيين المتقدمين بطلبات للهجرة إلى “إسرائيل” إلى ما بين ستمائة وسبعمائة في اليوم، بينما كثّفت السلطات الأمنية العراقية من حملات البحث والتحرّي، حتى تمكّنت من إلقاء القبض على ثلاثة من اليهود العراقيين المشتبه بهم، ووجهت إليهم تهماً بآرتكاب عمليّات إرهابية، وبالعمالة لمنظّمات صهيونية، وهؤلاء اليهود الثلاثة هم: شالوم صالح شالوم الذي أنكر التهمة ولكنه أدين ونفذ فيه حكم الإعدام، ويوسف إبراهيم بصري، الذي آعترف بالتهم، ثم آدّعى فيما بعد بأنه أدلى بآعترافه تحت وطأة التعذيب، ولكنه أيضاً أدين ونفذ فيه حكم الإعدام، أما الثالث، وإسمه يوسف خبّازة، فقد أدين أيضاً وحكم عليه بالسجن لفترة طويلة. وقد كان كل من يوسف إبراهيم بصري وشالوم صالح شالوم عضوين في تنظيم حاشورا، وهو الجناح العسكري للحركة الصهيونية السرية، الذين آرتكبوا عملية إرهابية مماثلة ضد بني ملّتهم من اليهود العراقيين في بغداد خلال شهر آذار (مارس) من عام 1950 الماضي، حيث كانت قد وجدت بقايا مواد متفجرة في شنطة يوسف بصري. وكانت من جملة القرائن التي آستدلَّ بها القاضي العراقي سلمان البيّاتي الذي حاكم هؤلاء الأشخاص على أنهم والصهيونية وراء هذه العمليّات الإرهابية ضد اليهود العراقيين، أن المناشير التي وزعت بتأريخ 8/4/1950، في الأحياء اليهودية في بغداد من قبل المنظمات الصهيونية السرية تَحُضُّهُم فيها على الإسراع في هجر العراق إلى “إسرائيل” لأن "حياتهم أصبحت في خطر داهم" وأنهم "سيتعرضون لآعتداءات خطيرة جديدة قريبا"، كانت تشير إلى الوقت من اليوم الذي طبعت فيه المناشير، إذ ذكرت أن ساعة الطباعة كانت الرابعة بعد الظهر. وهذا الحرص على تدوين الوقت ملفت، لكونه غير مسبوق، وعلى ما يبدو للوهلة الأولى لا لزوم له، ولكن قيام مجهولين بإلقاء قنبلة على مقهى الدار البيضاء اليهودي في الساعة التاسعة والربع من مساء ذات اليوم، يشير إلى أن أصحاب هذه المناشير هم أنفسهم الذين كانوا وراء العمليّة الإرهابية المذكورة، وأنهم إنما تعمدوا تحديد ساعة الطباعة للتمويه (أي، كي يبعدوا التهمة عن أنفسهم). وهذا ما يتفق عليه مع القاضي العراقي عدد من اليهود العراقيين، ومنهم الناشط الصهيوني السابق نعيم خلاصجي-جلعادي، الذي سبقت الإشارة إليه، وشموئيل (سامي) موريه، المقيم لاحقاًً في كندا، بل وإن عدداً كبيراً ومتزايداً من هؤلاء اليهود يُصِرُّ على أن الصهيونية كانت آبتداء وآنتهاء هي المسئوولة عن كل هذه المآسي ضد اليهود وغير اليهود في العراق. وقد آتضح لكل هؤلاء اليهود العراقيين فيما بعد بأنه، خلال شهر أيلول (سبتمبر) من عام 1949، قامت أجهزة المخابرات السرية في “إسرائيل” بتكليف أحد نشطاء الصهيونية السريين، وأسمه موردخاي بن بورات، بالسفر سراً إلى العراق، في مهام للقيام بأعمال إرهابية ضد اليهود العراقيين بغرض تشجيعهم على مغادرة البلاد والهجرة إلى “إسرائيل”، وشن حرب دعائية بينهم ضد مواطنيهم العراقيين وفي العالم ضد العراق. وبعد أن آكتشف اليهود العراقيون في “إسرائيل” حقيقة الأمر بعد ذلك بسنين، أطلقوا على موردخاي هذا لقب "مُراد أبو القنابل"، كون مُراد هو الصيغة العربية لإسم موردخاي. وأثناء التداولات والتحريات التي أجرتها لجنة المحامين اليهود من أصل عراقي في “إسرائيل” عام 1955 للنظر في دعاوى اليهود العراقيين للمطالبة بتعويضات عن أملاكهم في العراق، أسر أحد هؤلاء المحامين (طالباً عدم ذكر إسمه) إلى نعيم خلاصجي-جلعادي بأن الفحوصات المخبرية التي أجرتها دائرة الجنائيات العراقية في مطلع الخمسينيات حول المناشير المعادية للأميريكان التي عثر عليها بعد إلقاء المتفجرات على مركز المعلومات الأميريكي في بغداد تم نسخها على نفس آلة ال "ستانسيل" (النسخ) التي آستعملت في نسخ المناشير التي وزعتها الصهيونية على اليهود في بغداد خلال نفس تلك الفترة. ومما أيد مواقف هؤلاء اليهود دراسة أعدها، عام 1980، ضابط المخابرات المركزية الأميريكية (ال "سي. آي. اي. (CIA السابق، ويلبر كرين إيفلند Wilbur Crane Eveland، التي أوضحت أن كل هذه الإعتداءات والقنابل والتفجيرات التي آستهدفت حياة ومصالح اليهود في العراق طيلة هذه الفترة (منذ الأربعيّنيات)، بما فيها الإعتداء على مركز المعلومات الأميريكي في بغداد في شهر آذار (مارس) من عام 1950، إنما كانت من تخطيط وصنع وتنفيذ المنظمات الصهيونية.

وفي الرابع عشر من شهر آذ ار (مارس) من عام 1951م هذا، إنفجرت قنبلة أمام مركز المعلومات الأميريكي قرب سوق الصفافير في شارع الرشيد في بغداد، وهو مركز وسوق آعتاد اليهود على آرتياده بأعداد كبيرة، ممّا تَسَبَّبَ في جرح عدد منهم، ولكن دون وفيات.

وفي السادس والعشرين من شهر حزيران (يونية)، أعلنت الحكومة العراقيّة عن آكتشاف حلقة تجسّس في بغداد يديرها "رجلان أجنبيّان"، تمّ توقيفهما، وإسماهما يهودا تَجّار، وهو ضابط “إسرائيلي” والآخر بريطاني الجنسيّة إسمه رودني Rodneyسرعان ما آتّضح أنّه ضابط مخابرات “إسرائيلي” موساد، كما أعلن عن القبض على "أكثر أعوان" هذين الرجلين، والّذين تبيّن أنّهم كانوا مسئولين عن سلسلة التفجيرات الّتي آستهدفت عدداً من المباني واالمصالح والمعابد اليهوديّة، واليهود أنفسهم، والّتي بدأت منذ بداية العام الماضي 1950. وقد أعلنت السلطات العراقيّة بأنّه قد تمّ آكتشاف متفجّرات وملفّات وآلات كاتبة ومكائن لطباعة المناشير ولوائح بأسماء أعضاء تنظيمات سرّيّة، كانت كلّها مخبّأة في بعض المعابد اليهوديّة أو مدفونة تحت الأرض في منازل خاصّة. وقد تمّت مصادرة كلّ هذه المواد بحضور القاضي المكلّف بالتحقيق في هذه القضيّة، ومدير شرطة بغداد، وعدد من وجهاء يهود بغداد.

وفي الخامس من شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، تمّ إثبات التهم على خمسة عشر (15) من أصل واحد وعشرين (21) متّهماً في عمليّات الإرهاب الصهيونيّة الّتي آرتكبها الصهاينة اليهود في العراق ضدّ سائر اليهود العراقيّين خلال العام ونصف العام الأخير. وقد تمّ الحكم بالسجن المؤبّد مع الأشغال الشاقّة على يهودا تَجّار، وبالإعدام على شلومو صالح شالوم ويوسف بصري، اللّذين نفّذ بهما الحكم لاحقاً. وأمّا سائر المتّهمين، فقد تمّ الحكم عليهم بالسجن لمدد تتراوح بين الخمسة أشهر والخمسة عشر (15) عاماً. وقد آعترف يهودا تَجّار لاحقاً (عام 1966م) في مقابلة صحفيّة مع جريدة الفهد الأسود الّتي كان يحرّرها ويصدرها اليهود الّذين كانوا من أصول مشرقيّة في “إسرائيل”، بأنّه "فعلاً كان، هو ورفاقه المتّهمين، وراء كلّ هذه العمليّات الإرهابيّة ضد يهود العراق".

خلال شهر كانون الثاني (يناير) من العام التالي 1952، تم تنفيذ حكم الإعدام بحق يوسف إبراهيم بصري وشالوم صالح شالوم، وحكم يهودي عراقي ثالث إسمه يوسف خبّازة بالسجن لفترة طويلة، بعد إدانته معهم بالضلوع في آرتكاب عمليّات إرهابية وبالعمالة لمنظمات صهيونية. وقد قُدُّر عدد اليهود المتبقين في العراق خلال شهر كانون الثاني (يناير) من عام 1952 هذا بستة آلاف مواطن فقط، بعد أن هاجر ما يقرب من المائة وأربعيّن ألف منهم خلال الفترة بين 1947 و1951.

خلال عام 1956م، لمّح وزير الدفاع ال”إسرائيلي” إلى كون العمليّات الإرهابيّة الصهيونيّة الّتي آرتكبت ضدّ يهود العراق بين شهري نيسان (إبريل) عام 1950 وحزيران (يونية) عام 1951م كانت من عمل الأجهزة السرّيّة الصهيونيّة، وذلك في تعليق له على فضيحة لافون المماثلة في مصر ضدّ المصالح الغربيّة عام 1954، والّتي قام خلالها ضبّاط المخابرات السرّية ال”إسرائيليّة”، الموساد، بشنّ سلسلة من الهجمات بالقنابل على ممتلكات أميريكيّة وبريطانيّة في مصر، حيث قال: "إنّ هذه الطريقة في تنفيذ العمليّات لم تخترع لتنفّذ في مصر فقط، فقد تمّت تجربتها أوّل مرّة في العراق".


هجرة اليهود العراقيّين

لم يتجاوز عدد اليهود العراقيين الذين تركوا العراق نهائياً إلى فلسطين بين عامي 1924 و1944 الخمسة آلاف، من أصل حوالي مائة وخمسين ألف يهودي عراقي.

وقد قُدِّر عدد اليهود في فلسطين خلال عام 1948م هذا بحوالي أربعمائة وخمسين ألفاً (450،000)، منهم خمس وأربعون ألف (45،000) من يهود المشرق. بينما لم يتجاوز عدد اليهود العراقيّين الّذين غادروا العراق نهائيّاً إلى فلسطين خلال نفس عام 1948م هذا الخمس عشرة (15) شخصاً.

وفي العشرين من شهر تمّوز (يولية) من عام 1948، أصدر مجلس الوزراء العراقي قراراً كان قد طرحه عليه نوري السعيد بآعتبار اليهود العراقيين الذين ذهبوا إلى فلسطين بصورة سرية ونهائية، ولم يعودوا إلى العراق، "مجرمين"، كونهم ملتحقين بالعدو، وأن قضيتهم تحال إلى المجالس العرفية.

وقد بلغ عدد اليهود العراقيّين الّذين غادروا العراق نهائيّاً إلى فلسطين خلال عام 1949م ألفاً وسبعمائة وثمانية (1،708) أشخاص.

وبحلول عام 1949 هذا، ورغم متابعة وملاحقة السلطات العراقية لها منذ بضعة أعوام، آستمرت العصابات الصهيونية بتهريب اليهود العراقيين سراً إلى فلسطين، غالباً عن طريق إيران، بمعدل ألف يهودي في الشهر، إضافة للقيام بأعمال إرهابية في صفوف الجالية اليهودية نفسها. وكانت السلطات الأمنية في العراق خلال هذا العام قد ألقت القبض على اليهودي العراقي سعيد خلّة صبحي، بعد أن راقبت نشاطاته التخريبية بين الجالية اليهودية في بغداد. وبعد إلقاء القبض عليه، آعترف سعيد بأنه من عملاء الصهيونية في العراق، وبأنه ومجموعة من هؤلاء العملاء، قاموا بالإشراف على حملة مقرونة بدعاية شديدة بين اليهود العراقيين، البالغ عددهم في هذه الفترة ما يقرب المائة وخمسين ألف نسمة، لحثِّهم على مغادرة العراق والإلتحاق بدولة “إسرائيل”، كما عثرت السلطات العراقية على كمّيّاتٍ من الأسلحة التي كانت مخبّأة في منازل عدد من اليهود ومعابدهم الدينية في بغداد.

كان شلومو هِلَيل ينتمي إلى أسرة يهوديّة بغداديّة، وقد ترك أسرته في بغداد وغادر العراق منذ أواسط الأربعينيّات، عندما كان شابّاً، ليلتحق بالحركة الصهيونيّة في فلسطين، حيث تمّ تجنيده من قبل جهاز المخابرات الصهيوني السرّي، الموساد، للقيام بعمليّات خاصّة لصالح الصهيونيّة و”إسرائيل” في داخل العراق. ومنذ ذلك الحين، كان الموساد يرسل هِلَيل إلى العراق سرّاً عدّة مرّات في زيارات آستطلاعيّة وتحضيريّة سرّيّة إلى العراق من فلسطين، بحجّة المشاركة في تسهيل لعمليّة تسفير اليهود العراقيّين الراغبين في مغادرة العراق نهائيّاً إلى فلسطين، وذلك بموجب قانون إسقاط الجنسيّة العراقيّة عن الراغبين في مغادرة العراق نهائيّاً بملء إرادتهم، والّذي صدر للتوّ، بينما كان هو في الواقع يقوم بترتيب الهجرة غير الشرعيّة لليهود العراقيّين إلى فلسطين، بينما بقيت أسرته في بغداد طيلة تلك الفترة. وقد آنفضح أمره أكثر من مرّة، حيث كشفه جهاز المخابرات العراقيّة، وتمّ آعتقاله من قبل السلطات العراقيّة بتهمة القيام بنشاطات صهيونيّة، ثمّ أفرج عنه. وعندما صدر قانون إسقاط الجنسيّة العراقيّة عن اليهود الراغبين في مغادرة العراق نهائيّاً، وذلك في مطلع شهر آذار هذا، أرسل الموساد هِلَيل إلى بغداد لغرض ترتيب سفر اليهود العراقيّين الراغبين في الإستفادة من هذا القانون، إلى فلسطين. وقد كان مسمّى وظيفة هِلَيل الرسمي هو "مندوب شركة الشرق الأدنى للنقل الجوّي المحدودة"، وهي شركة نقل أميريكيّة، كانت تملكها في الواقع الوكالة اليهوديّة في فلسطين، وقد سبق وآستخدمت لنقل اليهود اليمنيّين إلى “إسرائيل”. وقد عرض هِلَيل خدمات شركته هذه على الحكومة العراقيّة، وبعد مفاوضات دامت شهراً كاملاً، تمّ الإتّفاق رسميّاً بين الطرفين على أن تحطّ الطائرة الّتي تنقل اليهود العراقيّين المغادرين العراق نهائيّاً إلى فلسطين، أوّلاً على أرض تكون لها علاقات دبلوماسيّة طبيعيّة مع العراق، والّتي تمّ الإتّفاق على أن تكون هذه الأرض جزيرة قبرص. وقد تمّ تنفيذ العمليّة بالتعاون مع الحكومات البريطانيّة والأميريكيّة ال “إسرائيليّة”.

وفي التاسع من الشهر التالي نيسان (إبريل) من عام 1950م هذا، وهو اليوم التالي لآنفجار قنبلة أمام مقهى يهودي في بفداد وتوزيع مناشير تحضّ اليهود على مغادرة العراق إلى فلسطين، إحتشدت مجموعة كبيرة من اليهود العراقيين المعدمين أمام مراكز الهجرة في بغداد، طالبين الهجرة إلى “إسرائيل”، وإسقاط جنسياتهم العراقية. وكان من كثافة حجم هذه المجموعة أن مركز الهجرة عجز عن آستيعاب هذا الزخم غير المسبوق، مما آضطر المسئولين من الشرطة العراقية إلى إقامة مراكز إضافية، وذلك في المدارس والمعابد اليهودية.

ورغم كل الأعمال الإرهابيّة الّتي وُجِّهَت ضدّ اليهود العراقيّين، فإن عدد الذين تقدموا منهم لتسجيل أسمائهم للإستفادة من قانون إسقاط الجنسيّة منذ طرحه عام 1948م وحتى نهاية العام الحالي 1950، بلغ ستين ألفاً، كان منهم إثنان وثلاثون ألفاً وأربعمائة وثلاث وخمسون (32،453) غادروا البلاد خلال عام 1950م.

عندها، أجرت الحكومة العراقية ترتيبات آتِّفاق مع إحدى شركات الطيران البريطانية لترحيل ثلاثمائة يهودي عراقي أسبوعياً من العراق إلى كل من قبرص أو إيطاليا، ولكن هذه الشركة ما لبثت أن تراجعت عن هذه الإتفاقية، بحجة عدم وجود عدد كاف من الطائرات. عندها، حاول نوري السعيد إقناع الملك الأردني عبداللّه بن الحسين بالسماح لهؤلاء اليهود العراقيين بالمرور إلى فلسطين عبر الأراضي الأردنية، ولكن الملك عبداللّه رفض هذا الطلب، وذلك بضغوط من الوزير البريطاني المفوض في عَمّان، الذي كان يخشى أن يؤدّي تدفّق هذا العدد من المهاجرين اليهود الجدد إلى فلسطين إلى تفاقم المشاكل الإقتصادية في “إسرائيل”. ومن جهته، كان الملك عبداللّه يخشى من ردود فعل “إسرائيل” ضد الأردن من هذا العمل، مثل قيام “إسرائيل” بإغلاق الحدود بوجه هؤلاء المهاجرين من اليهود العراقيين، بغية إحراج الأردن، مما سيجبره على تحمل مسئوليتهم، بإيوائهم في أراضيه، وهو الذي يعاني ما فيه الكفاية من عبء النصف مليون لاجيء فلسطيني، أو أن تقوم “إسرائيل” بطرد عدد مماثل من عرب فلسطين بعد أن تستولي على كل أموالهم وممتلكاتهم. كما حاول نوري السعيد آستعمال شركات طيران من جنسيات متنوعة لنقل هؤلاء اليهود العراقيين من العراق، ولكنه لم ينجح في ذلك أيضاً، لأن كل الشركات رفضت نقل أي يهودي إلى “إسرائيل” قبل الحصول على موافقة رسمية من الحكومة "الإسرائيلية". وبعد ذلك، فكَّر نوري السعيد بإقامة معسكرات مؤقتة خاصة لتجميع وإيواء هؤلاء اليهود العراقيين في مناطق صحراوية داخل العراق ريثما يتم التوصل إلى إيجاد وسيلة لترحيلهم، ولكن الوصي الأمير عبدالإله رفض هذه الفكرة، تخوفاً من ردود الفعل الصهيونية في العالم ضد العراق. وقد دعى توفيق السويدي إلى تبني قرارات لجنة شئوون فلسطين، ومنع دخول حاملي الجوازات ال "إسرائيلية" إلى البلاد العربية، وإسقاط الجنسية العراقية عن اليهود العراقيين الذين غادروا أو ينوون مغادرة العراق نهائياً إلى “إسرائيل”، وضم القسم العربي في فلسطين إلى الأردن.

وعند فجر العاشر من الشهر التالي أيّار (مايو)، ألقيت قنبلة على واجهة صالة عرض السيارات التابعة لشركة بيت لاوي اليهودية في بغداد، تَسَبَّبَت في تكسر زجاج الواجهة. وفي الثالث من الشهر التالي حزيران (يونية)، أُلقيت قنبلة في حي البتاوين، الذي يقع في جانب الرصافة (الشرقي) من بغداد، وهو حي يسكنه بعض أثرياء اليهود، كما تسكنه بعض أسر الطبقة الوسطى من العراقيين غير اليهود. إثر ذلك، قامت المنظمات الصهيونية العالمية بتوجيه نداء عاجل إلى الحكومة ال "إسرائيلية" لرفع نصاب الهجرة إلى “إسرائيل” للحُصّة المُخَصَّصة لليهود العراقيين. وفي الساعة الثانية والنصف من بعد منتصف الليلة التالية، ليلة الرابع / الخامس من شهر حزيران، آنفجرت قنبلة في عمارة اليهودي ستانلي شعشوع في شارع الرشيد التجاري الرئيسي في بغداد، متَسَبَّبَة بأضرار مادية فقط.

وبحلول شهر كانون الثاني (يناير) من العام التالي 1951، أي قبل شهرين من آنتهاء صلاحية قانون إسقاط الجنسية عن اليهود العراقيين الراغبين في ذلك، كان عدد اليهود العراقيين الذين تقدموا بطلب الهجرة من العراق وإسقاط جنسياتهم العراقية قد بلغ الخمساً وثمانين ألفاً. كانت الحكومة العراقية عند إبرامها القانون المذكور قبل عام، تتوقع ألا يتجاوز عدد اليهود المتقدمين بطلبات للإستفادة منه أكثر من بضعة آلاف. ولكن الحكومة العراقية فوجئت بما يزيد عن ستين ألف يهودي عراقي يتقدمون بالطلب للمغادرة النهائية، وهو عدد آرتفع منذ ذلك التأريخ ليصل إلى أكثر من مائة ألف. ونتيجة لذلك، عقد مجلس النواب العراقي جلسة سرية في الثامن من آذار، صادق فيها على قانون تجميد أموال وممتلكات اليهود الّذين يغادرون العراق سرّاً إلى “إسرائيل” بعد آنتهاء مهلة العام الّتي كانت قد منحتها العام الماضي لمغادرة العراق طوعاً لكلّ من كان يرغب وينوي ذلك منهم بصورة نهائيّة، وبملء إرادته. وقد ردّت الحكومة ال”إسرائيليّة” بأنّها، إذا ما وافقت، في المستقبل، على دفع تعويضات للّاجئين الفلسطينيّين، فإنّها ستحسم أموال اليهود العراقيّين المجمّدة من التعويضات الّتي قد تدفعها للّاجئين الفلسطينيّين في المستقبل. وبعد بضعة أشهر، قررت الحكومة ال “إسرائيليّة” الموافقة على آستقبال اليهود العراقيّين بصورة "آضطرارية"، بعد أن كانت "لا تُشَجِّع" هجرتهم في الوقت الحاضر، بسبب ما آدَّعته من صعوبات داخلية في تأمين السكن والعمل للمهاجرين اليهود من أوروبّا . وقد جاء هذا التغيير في موقف الحكومة ال “إسرائيليّة” نتيجة تزاحم اليهود العراقيين على مغادرة العراق إلى فلسطين بعشرات الألوف وما ترتَّب عليه من قيام الحكومة العراقية بإسقاط جنسياتهم وتجميد أموالهم، مما جعلهم "مشردين" و"معوزين"، وأن حياتهم أصبحت في "خطر".

وعندما آنتهت المدّة المحدّدة للإستفادة من القانون، وذلك في العاشر من شهر آذار هذا، صعّدت المنظمات الصهيونية عمليّات تهجير ونقل معظم من تبقى من اليهود العراقيين، سراً إلى فلسطين، فيما عرف بإسم حركة "عزرا ونحميا"، وذلك بأن قامت هذه المنظمات بإرسال عملاء سريين إلى العراق لتسجيل من تبقى من اليهود العراقيين للهجرة إلى “إسرائيل”.

وما لبثت الحكومة العراقية أن مدَّدت العمل بقانون إسقاط الجنسية عن اليهود العراقيين لبضعة أشهر إضافية، بعد أن تم تجميد أموال اليهود الذين غادروا البلاد ولم يعودوا خلال المهلة القانونية المعلن عنها، كما قررت الحكومة السماح لإحدى شركات الطيران الأميريكية بنقل خمسين ألف يهودي عراقي مباشرة من العراق إلى “إسرائيل”، وللمرة الأولى، لكون الحكومة العراقية لم تعد تجد في بقاء أمثال هؤلاء اليهود الراغبين في الهجرة إلى “إسرائيل” إلا مصدر قلق وأذىً لمصالح العراق وشعبه. فكان عدد من تبقى من اليهود العراقيين بعد هذه الموجة الأخيرة من الهجرة لايتجاوز الخمس عشرة ألف نسمة.

وقد تَسَبَّبَت مغادرة اليهود العراقيّين البلاد إلى فلسطين خلال الفترة بين عامي 1947 و1951م في خروج عشرة ملايين (10،000،000) دينار عراقي إلى خارج العراق، ممّا تَسَبَّبَ في أزمة ماليّة وتجاريّة حادّة في البلاد، ولكنّها كانت أزمة عابرة. ذلك أنّه، بالرغم عن الدور الريادي والبارز الذي لعبته الجالية اليهودية في المجالات الإقتصادية والمهنية والثقافية في العراق ولعدة أجيال، والتي كان من أبرزها الخبرات والمهن والوكالات الأجنبية، فإن هجرة 90% من هذه الجالية من البلاد، وفي غضون أربعة سنوات فقط، لم يسبب الأزمة التي يمكن أن يتوقعها المرء في مثل هذه الظروف، إذ ما لبثت سائر طوائف المجتمع العراقي، المسلمون منهم والمسيحيون، أن ملأوا الفراغ الذي تركه اليهود وراءهم، وعلى كل الصعد. وقد تَسَبَّبَت كل هذه الأحداث المتصلة بقضية اليهود العراقيين في إثارة موجات ساخنة من الجدل في جميع الأوساط السياسية والإعلامية في العراق، سواء على الصعيد الرسمي أم الشعبي، منذ أول ظهور لهذه المشكلة في أوائل عام 1947، وحتى هذا العام، فآنبرى الصحافيون والنواب والسياسيون العراقيون يبدون آراءهم في الصحف والمجالس العامة والخاصة، وفي تحليل أسباب المشكلة والإجتهاد في طرح الحلول المناسبة لها. وكان ردّ فعل “إسرائيل” تجاه صدور هذا القرار هو قيام الحكومة ال "إسرائيليّة" فوراً بالإحتجاج لدى الحكومتين الأميريكيّة والبريطانيّة، مطالبة إيّاهما بالضغط على الحكومة العراقيّة لإقناعها بإلغاء قرار التجميد هذا، ولكنّ الحكومتين الأميريكيّة والبريطانيّة رفضتا هذا الطلب ال "إسرائيلي"، وذلك في ردّهما عليه في السابع والعشرين من الشهر، موضحتين بأنّ السماح للهيود العراقيّين الذين سيغادرون العراق نهائيّاً بآصطحاب أموالهم معهم إلى خارج العراق، سيعني خروج 14 مليون دينار عراقي من البلد، وهو مبلغ يعادل نصف الميزانيّة السنويّة للدولة العراقيّة، كما أنّ “إسرائيل” نفسها متّهمة بالإستيلاء على ممتلكات المواطنين العرب في فلسطين. عندها، قامت الحكومة ال "إسرائيليّة" بطرح قيمة أملاك اليهود العراقيّين المجمّدة من قائمة التعويضات المطلوبة من الحكومة ال "إسرائيليّة" للاجئين الفلسطينيّين.

وبنهاية عام 1951م، بلغ عدد اليهود العراقيّين الّذين غادروا العراق نهائيّاً إلى فلسطين تسعة وثمانون ألفاً وثمانية وثمانون (89،088) شخصاً. وفي العام التالي، 1952م، بلغ عدد اليهود العراقيّين الّذين غادروا العراق نهائيّاً إلى فلسطين تسعمائة وواحد وستّون (961) شخصاً. وفي العام الّذي يليه، 1953م، عدد اليهود العراقيّين الّذين غادروا العراق نهائيّاً إلى فلسطين أربعمائة وثلاثة عشر (413) شخصا، ليبلغ بذلك مجموع اليهود العراقيّين الّذين غادروا العراق نهائيّاً إلى فلسطين منذ عام 1948 مائة أربعاً وعشرين ألف وستّمائة وثمانية وثلاثين (124،638) يهوديّاً.

وقد تشكّلت، خلال عام 1955 في “إسرائيل”، لجنة من المحامين اليهود من أصل عراقي لدراسة الدعوات التي أقامها عدد من اليهود العراقيين في “إسرائيل” الذين كانوا ما زالت لهم أملاك في العراق، للمطالبة بتعويضات من الحكومة العراقيّة عن الأضرار التي لحقت بهم وبأملاكهم من جراء "آضطرارهم" لمغادرة العراق.

وأثناء التداولات والتحريات التي أجرتها هذه اللجنة مع المدعين والشهود في “إسرائيل”، أسرّ أحد هؤلاء المحامين إلى اليهودي العراقي في “إسرائيل”، نعيم خلاصجي-جلعادي، (طالباً إليه عدم ذكر إسمه)، بأن الفحوصات المخبريّة التي أجرتها دائرة الجنائيات العراقيّة في مطلع الخمسينيات حول المناشير المعادية للأميريكان التي عثر عليها بعد إلقاء المتفجرات على مركز المعلومات الأميريكي في بغداد في شهر آذار (مارس) من عام 1950، تم نسخها على نفس آلة ال "ستانسيل" (النسخ) التي آستعملت في نسخ المناشير التي وزعتها الصهيونية على اليهود في بغداد خلال نفس تلك الفترة. (و كان خلاصجي-جلعادي من اليهود العراقيين الشباب الناشطين في الحركة الصهيونية في العراق حتى آعتقاله من قبل السلطات العراقيّة عام 1947، حيث حكم عليه بالإعدام شنقاً حتى الموت، عندما كان له من العمر 17 عاماً فقط، ولكنه تمكن من الهرب من السجن، ومن ثم إلى “إسرائيل”، خلال عام 1949، كما ورد في الباب الخامس من هذا الكتاب).


الموقف الشعبي والإعلامي

في صيف عام 1934، إندلعت ثورة شعبيّة في فلسطين ضد الهجرة اليهودية والإعتداءات الصهيونية على العرب، وضدّ الإحتلال البريطاني للبلاد. وقامت على إثر ذلك مضاهرات شعبيّة وحزبيّة في عدد من مدن العراق تضامناً مع الشعب الفلسطيني. ففي الموصل، نظّمت مجموعة من الشباب القومي، مضاهرات شعبيّة حاشدة للإحتجاج على ما كان الشعب الفلسطيني يتعرّض له، ومطالبة الحكومة العراقية بالتدخل إلى جانب الفلسطينيين.

وقد تزامنت هذه الثورة مع وصول الحزب النازي، العام الماضي 1933، إلى سدّة الحكم في ألمانيا، وذلك عن طريق الإنتخابات. ولكنّ هذا الحزب، بزعامة أدولف هتلر، الذي أصبح، نتيجة هذه الإنتخابات، مستشاراً لألمانيا، سرعان ما أبدى نزعات آستبداديّة، وتصاعدت نبرة خطابه القوميّة المتطرّفة، لتطال الشيوعيّين واليهود والمؤسّسات الدينيّة المسيحيّة في البلاد. وكان زعيم الحزب الفاشي الإيطالي، بنيتو موسوليني، قد وصل إلى السلطة هو أيضاً بالطريقة الدستورية، عندما دعاه ملك إيطاليا لتشكيل حكومة برئاسته عام 1922، ولكنّ حزبه هو الآخر آستولى على السلطة المطلقة بالقوة، وذلك عام 1926. وقد بدأت تأثيرات العقيدة القوميّة المتطرّفة التي بني عليها هذان النظامان، النازي في ألمانيا، والفاشي في إيطاليا، بالتسرّب إلى صفوف وأفكار الشباب القومي في أنحاء العالم العربي، وبخاصّة العراق، لما كانت تمثّله للشباب القومي العربي من نموذج يَعِدُ بالنجاح في التغلّب على قوى الإستعمار التقليديّة الكبرى في العالم، والتي كانت خلال هذه الفترة متجسّدة في بريطانيا وفرنسا، ولما كانا يمثّلانه من تحدّ للصهيونيّة العالميّة، التي كانت قد بدأت بشنّ عدوانها على فلسطين وأهلها بوتيرة متصاعدة منذ صدور وعد بالفُر البريطاني لليهود عام 1917.

وفي التاسع عشر من شهر نيسان (إبريل) من عام 1936، إندلعت في فلسطين مجدّداً موجات عارمة من الإضرابات وأعمال العنف والتمرّد ضد الهجرة اليهودية إلى البلاد، وضدّ العدوان الذي كانت عصابات المهاجرين الصهاينة تشنّه على الأهالي. وقد آتّسمت الثورة، الّتي آستمرّت أكثر من 6 أشهر، بمواقف بطوليّة وآستشهاديّة، ممّا دعى الحكومة البريطانية إلى دعوة الحكومات العربية للتوسّط لإيقافها، كما شكّلت بريطانيا لجنة لدراسة الوضع، برئاسة اللورد پيل Lord Peel. وكان من بين المشاركين في ثورة عام 1936 المشهودة هذه في فلسطين المفكّر والشاعر والمناضل الفلسطيني المعروف عبد الرحيم محمود، الّذي التجأ في نهاية الثورة (بعد قمعها من قبل السلطات البريطانيّة في فلسطين) إلى العراق، حيث مكث هناك حتّى شهر حزيران (يونية) من عام 1941، بعد فشل حركة رشيد عالي الكيلاني هناك، الّتي كان محمود من المشاركين فيها، (مع الشاعر والمناضل الفسلطيني الآخر، برهان الدين العبوشي).

في هذه ألأثناء، كانت الحرب الأهليّة الإسبانيّة بين الشيوعيّين والقوميّين الإسبان قد آندلعت، لتستمرّ 3 أعوام، حيث آنتهت عام 1939 بآنتصار التيّار القومي المتطرّف، والمعادي، ضمناً، للصهيونيّة، على التيّار الشيوعي. وكان هذا التيّار القومي اليميني المتطرّف الجديد في إسبانيا قد تبلور من جرّاء هذه الحرب الأهليّة، وهو التيّار الذي عرف تنظيمه العسكري الشبه-فاشي ب"كتائب الشباب"، والذي كان بقيادة الجنرال فرانكوGeneral Franco. وقد تحالف هذا التيّار الكتائبي الإسباني مع نظام حكم بَنيتو موسوليني الفاشيستي في إيطاليا، الذي كان هو الآخر معادياً للصهيونيّة والشيوعيّة وللمؤسّسات الدينيّة المسيحيّة. وبدوره، قام نظام موسوليني الفاشيستي هذا بإنشاء تحالف خاص مع النظام النازي في ألمانيا، الّذي كان عدوّ الشيوعيّة كما كان عدوّ اليهود الصهاينة اللدود، حيث قام الطرفان بتأسيس ما عرف بمحور أوروبا-برلينThe Euope-Berlin Axis، ممّا أعطى للحركات القوميّة المتطرّفة والمعادية للصهيونيّة وللشيوعيّة في أوروبا دعماً مادّيّاً وإعلاميّاً وسياسيّاً جديداً ليس داخل أوروبا فحسب، بل في كلّ أرجاء العالم، وخصوصاً بين الشباب السياسي التوجّه في أرجاء العالم الثالث، الذي كان قد عانى الأمرّين من نير الإستعمار البريطاني والفرنسي ولمدّة قرون طوال.

وقد كان لهذا التطوّر القومي المتطرّف في أوروبا مغزىً إضافيٌّ خاص بالنسبة للعرب، المعنيّين بشكل متزايد بما كان يحدث في فلسطين والذين كانوا يشعرون بالقلق الشديد ممّا تحمله الهجرات العدوانيّة اليهوديّة إلى فلسطين، ومن حركات الإستيطان والهجمات الصهيونيّة على سكان فلسطين العرب، ما تحمله كل هذه التطوّرات من نذائر شؤوم على المنطقة كلّها. لذا، فقد شكّل العنصر المعادي الصهيونيّة في هذه التيّارات الألمانيّة-الإيطاليّة-الإسبانيّة القوميّة الجديدة عامل آهتمام وجذب شديد للشباب والساسة والمثقّفين في أرجاء العالم العربي. وقد تناقلت الصحف والإذاعات العربيّة أخبار هذه التطوّرات القوميّة المعادية للصهيونية والشيوعية في أوروبا، وأصبحت إنجازاتها ونجاحاتها من أهم أحاديث مجالس الشباب والساسة والمثقّفين في العراق خلال هذه الفترة. وكان من آثار هذا الزخم الجديد بين العناصر ذات الإهتمام السياسي القومي والشباب المتعطّش للثقافة السياسيّة المعاصرة والأخبار العالميّة في العراق، تشكيل حركة "الفتوّة"، وهو تنظيم شبابي شبه سياسي وعسكري، يشبه، في أهدافه وأساليبه وخطابه، إلى حدّ ما، هذه النماذج الأوروبيّة الثلاث المذكورة. وقد أسّس حركة الفتوّة هذه رئيس الوزراء ياسين الهاشمي بالتشاور مع نائب رئيس أركان الجيش اللواء بكر صدقي، وساهم في التنظير لها وتنفيذها فريق من القوميين العراقيين، المعجبين بهذه النماذج القوميّة الأوروبّيّة، وفي مقدّمتهم سامي شوكت والأستاذ ساطع الحصري. وكان سامي شوكت عيّن مديراً عامّاً للمعارف، وأخذ يدعو الشباب من طلبة العراق إلى القتال والإستشهاد في سبيل العروبة. وكان ساطع الحصري شخصية تعليمية، أصله من مدينة حلب في سوريا، عيّن في أواخر الدولة العثمانية مديراً للتعليم العام في أسطنبول.

وقد أفرزت كل هذه التطوّرات موجات من التوتّرات المتصاعدة في علاقات اليهود العراقييّن بسائر مواطنيهم، الذين بدأوا، وبتأثير ما كان يحدث في فلسطين، وكذلك بتأثير ردود الفعل القوميّة المذكورة لهذه الأحداث، بإعادة النظر في تصوّراتهم لمواطنيهم اليهود وفي مواقفهم منهم. وقد تسبّب هذا كلّه في صدامات لسانيّة وعاطفيّة وجسديّة بين بعض اليهود وآخرين من مواطنيهم، وبدأت هذه الموجات التوتّريّة بالتنقّل في أرجاء المجتمع، لتطول في بعض الحالات، العلاقات الإجتماعيّة والفرديّة بين اليهود العراقيّين ومواطنيهم من غير اليهود، رغم كون كلّ هذه العلاقات راسخة في القِدَم.

وفي الرابع عشر من شهر كانون الثاني (يناير) من عام 1938، إجتمع في القاهرة رئيس الوزراء العراقي الأسبق، والذي كان حاليّاً وزير الخارجيّة، نوري السعيد، مع السياسي الفلسطيني عوني عبدالهادي والسوري الدكتور عبدالرحمن الشهبندر للتباحث حول مشروع نوري المُقتَرَح بتوحيد العراق وأمارة شرق الأردن وفلسطين تحت عرش الملك غازي، ملك العراق، مقابل أن تُحدَّد نسبة الهجرة اليهودية وتُضمن الإمتيازات الضرورية للأقلية اليهودية، بحيث يسمح لمليوني يهودي إضافي بالإقامة في هذه الدولة العربية الموحَّدة، وهو آقتراح آتفقت الأطراف المجتمعة على تبنّيه. وفي اليوم التالي، قام نوري السعيد بالإجتماع بالسفير البريطاني في بغداد هندل جيمز Hindle James وعرض عليه هذا الإقتراح، ولكنهما آتفقا على تعديل البند المتعلق بالهجرة اليهودية، بحيث لا يوضع حد عددي لها، وإنما يستبدل ذلك بتحديد النسبة، فوضع لها سقف لايتعدى الخمسين بالمائة من مجموع سكان فلسطين. ولكنّ الصحافة العراقيّة شنّت، بعد ثلاثة (3) أيّام، أي في السابع عشر من شهر كانون الثاني هذا، حملة آنتقادات واسعة ضد مشروع نوري السعيد هذا، حيث كانت ترى بأن من شأنه أن "يوسّع نطاق الحركة الصهيونية". ومن جهتها، رفضت الحكومة البريطانية هذا المشروع، ووصمت نوري السعيد بأنه "متطرّف" وأن مقترحاته "غير عملية".

بعد ذلك بعشر سنوات، وفي الثالث من شهر أيّار (مايو) من عام 1948، هاجمت جريدة اليقظة البغداديّة ما وصفته بال"شرور الثلاثة"، والّتي عدّدتها الجريدة على أنّها الشيوعيّة، والصهيونيّة، والديانة اليهوديّة، كما هاجمت كلّ من "يحاول التمييز بين الصهيونيّة والعقيدة اليهوديّة". وبعد ذلك بأربعة (4) أيّام، أي، في السابع من شهر أيّار هذا، عادت الجريدة لتتّهم اليهود بأنّهم كانوا "وراء إضراب عمّال مصافي النفط، في وقت كانت الحرب العربيّة- الصهيونيّة في فلسطين قائمة". وفي عددها الصادر في السادس عشر من الشهر ذاته، أعربت الصحيفة عن تأييدها لفرض الأحكام العرفيّة "كإجراءات ضروريّة للتخلّص من الطابور الخامس للعدوّ داخل العراق".

منذ صدور قرار الأمم المتّحدة الداعي إلى تقسيم فلسطين في أواخر عام 1947، قام نوّاب معارضون، ومن بينهم نوّاب الحزب الوطني الديموقراطي، وتنظيمات شعبيّة ومؤسّسات إعلاميّة بالدعوة إلى تأييد آشتراك العراق في الحملة العسكريّة على “إسرائيل”، ومقاومة المشروع الصهيوني في فلسطين.

وفي الخامس عشر من شهر أيّار (مايو) من العام التالي، 1948م، أعلنت المنظمات الصهيونية والوكالة اليهودية في فلسطين قيام دولة يهودية مستقلة على الجزء الذي خصّصته الأمم المتحدة لليهود في فلسطين، بإسم دولة "إسرائيل". ويُعتبر السابع عشر من شهر أيار هو اليوم الرسمي لميلاد هذه الدولة. وبعد عشرة دقائق فقط من الإعلان عن قيام هذه الدولة، إعترفت بها الولايات المتّحدة الأميريكيّة، وتبعها بعد ذلك بفترة قصيرة الإتّحاد السوفييتي. وفي العراق، خرجت مضاهرات شعبية وحزبية واسعة غاضبة تندد بهذا الحدث، وتدعو لقتال الصهاينة وآستعادة فلسطين، بينما قامت الحكومة العراقية بإرسال قوات عراقية إلى فلسطين، حيث دارت معارك طاحنة في أرجاء البلاد، أبلى الجيش العراقي فيها بلاء متميزاً، خصوصاً حول جنين ونابلس وطولكرم. وكان من بين أبرز القادة العراقيين الذين أبلوا في هذه المعارك أحسن البلاء آمر اللواء عمر علي وغازي الداغستاني. وفور إعلان قيام الدولة اليهودية في فلسطين، قامت الحكومة العراقية بإغلاق أنبوب النفط الذي كان يغذي مصفاة حيفا.

وفي اليوم التالي، السادس عشر من شهر أيّار هذا، كتبت جريدة اليقظة البغداديّة مقالة تؤيّد فرض الأحكام العرفيّة "كإجراءات ضروريّة للتخلّص من الطابور الخامس للعدوّ داخل العراق". وبعد هزيمة الجيوش العربيّة في فلسطين، دعت الجريدة، في عددها الصادر الثالث والعشرين من الشهر، لمقاطعة المتاجر اليهوديّة في العراق "لتحرير الشعب من العبوديّة الإقتصاديّة الّتي فرضتها الأقلّيّة اليهوديّة عليه". وفي العشرين من الشهر التالي حزيران (يونية)، وبعد أن قامت العصابات الصهيونيّة في فلسطين بدفع الجيوش العربيّة إلى ما وراء خطوط التقسيم الّتي فرضتها الأمم المتّحدة، كتبت الجريدة مقالة تقول: "العين بالعين، والسنّ بالسنّ، والباديء أظلم".

بعد مضاهرة صهيونيّة ضدّ الحكومة العراقيّة أمام مبنى القنصليّة العراقيّة في نيويورك، قامت وزارة الخارجيّة العراقيّة بإرسال رسالة للحكومتين البريطانيّة والأميريكيّة بتاريخ الثامن من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من العام التالي، 1949، أعربت لهما فيها بأنّها تعتبر هذه المضاهرة "أمراً خطيراً"، بالنظر لما سيترتّب عليها من "تبعات وردود أفعال في داخل العراق"، ولذا، فإنّ الحكومة العراقيّة قد طلبت إلى الصحف ودور الإذاعة العراقيّة "الإحجام عن الإشارة لهذا الخبر".

خلال عام 1949م هذا، نشر محمّد حديد، وهو أحد قادة الحزب الوطني الديموقراطي، ردّاً على مقالة فاروقي في جريدة بهارات حياتي الهنديّة، والّتي تصدر باللّغة الإنكليزيّة في بومباي، حول معاهدة بورتسمُث البريطانيّة-العراقيّة. وأشار حديد في ردّه إلى جملة من الأمور، من بينها أنّ الشعب العراقي "يكره الأميريكان أكثر من كراهيّته للإنكليز"، نظراً لمساندة الأميريكان للعمليّة الصهيونيّة في فلسطين.

في عددها الصادر بتاريخ العشرين من شهر كانون الأوّل (ديسمبر) من عام 1951م، كتبت جريدة الأوقات العراقيّة الصادرة باللغة الإنكليزيّة عن محاكمة المتورّطين في العمليّات الإرهابيّة الصهيونيّة في بغداد، حيث ذكرت أنّ الوثائق الّتي تمّ العثور عليها بحوزة المتورّطين قُرِئت في قاعة المحكمة. وقد كشفت هذه الوثائق عن الجانب التنظيمي للحركة الصهيونيّة في العراق، وأنّ ثلاثمائة (300) من المراهقين اليهود الّذين كانت أعمارهم تتراوح بين الثالثة عشرة (13) والثامنة عشرة (18) عاماً كان قد تمّ تدريبهم تدريباً عسكريّاً من قبل النشطاء الصهاينة سرّاً في العراق. كما قريء دفتر الملاحظات الّذي كان يخصّ أحد المتّهمين، والّذي ذكر فيه أنّ "الدعاية المضادّة الّتي قام بها بعض اليهود العراقيّين لتشجيع سائر اليهود العراقيّين على البقاء في العراق، وعدم الهجرة إلى فلسطين، قد أُحبِطت". وفور الإعلان عن هذه الإكتشافات والتحقيقات والمحاكمات، قامت أجهزة الإعلام الصهيونيّة في دول الغرب بآتّهام الحكومة العراقيّة ب"الحكم ظلماً"، على هؤلاء المتّهمين، مدّعية بأنّ "المتورّطين الحقيقيّين هم من الإخوان المسلمين"، ولكنّ أجهزة المخابرات البريطانيّة والأميريكيّة، والسفيرين الأميريكي والبريطاني في بغداد، الّذين حضروا بعض مجريات التحقيق والمحاكمات أو آطّلعوا على حيثيّاتها، كانوا متّفقين فيما بينهم "مائة بالمائة بنزاهة وعدالة المحاكمات الّتي جرت في العراق"، وبأنّ "المتّهمين الصهاينة والإسرائيليّين كانوا هم فعلاً المسئولين عن كلّ هذه الجرائم الإرهابيّة".

في الحادي عشر من شهر أيّار (مايو) من عام 1953، ألقى رئيس الوزراء البريطاني وِنستُن تشِرتشِل خطاباً في مجلس العموم البريطاني أكَّد فيه بأنه يفخر بإنه كان "من أشد المؤيدين لقيام الدولة اليهودية في فلسطين" وأنه "يتشرف بكونه صهيونيا". كما دعى تشِرتشِل في خطابه هذا إلى بقاء دولة “إسرائيل”، مقابل "الصلح مع العرب". وقد أثار تصريح تشِرتشِل هذا استياء واسعاً في العالم العربي، وأثار بصورة خاصة غضب النواب العراقيين، ومن بينهم برهان الدين باش أعيان، الذي وصف التصريح المذكور في جلسة المجلس النيابي المنعقدة في اليوم التالي للتصريح (أي يوم 12/5/1953) بأنه "خيبة مرة للساسة العرب الذين يدافعون عن حسن نية تشِرتشِل وبريطانيا"، واستطرد باش أعيان معرباً عن رأيه بأن القواعد العسكرية الأجنبية في الشرق الأوسط غير ضرورية للدفاع عن المنطقة، بقدر ما هي ضرورية للإحتلال وتهديد السلام العالمي. وأما دعوة تشِرتشِل إلى العرب للتصالح مع الكيان الصهيوني، فقد اعتبرها باش أعيان "خطوة مُخَفِّفة"، لأنها تستند إلى التهديد، وإلى "حقوق موهومة" يدَّعيها تشِرتشِل، كونها مناقضة لأبسط قواعد العدالة الإنسانية، ومخالفة لمواثيق هيئة الأمم.

في أواخر شهر كانون الأوّل (ديسمبر) من عام 1954، قام الدكتور فاضل الجمالي، رئيس وزراء العراق الذي آستقال قبل 5 أشهر، بإرسال سلسلة من المقالات التوعويّة إلى أمّهات الصحف الأميريكيّة، حول مصلحة الولايات المتّحدة الأميريكيّة في تسليح العراق، لكنّ أيّاً من هذه المقالات لم ينشر.

وفي الثالث عشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1956، قام رئيس الوزراء نوري السعيد بتوزيع مذكرة دعى فيها إلى "إزالة “إسرائيل”".

وفي الثامن عشر من الشهر التالي، كانون الأول (ديسمبر) من عام 1956 هذا، ألقى كل من نوري السعيد ووزير الخارجيّة برهان الدين باش أعيان خطاباً مطولاً من دار الإذاعة العراقيّة في بغداد. وقد استمر خطاب نوري السعيد ساعتين، آستهله بقوله أن الأمة العربيّة "تمر اليوم في دور لم تشهد دوراً أكثر منه تعقيداً"، وأن "آجتياز هذا الدور بنجاح يتطلب الكثير من الصبر والحكمة والمزيد من التعاون والتظافر بين جميع أفراد الأمة العربيّة". وقد بيّن نوري مخاطر الصهيونية على الوطن العربي. ثم تطرَّق إلى التحدث بإسهاب عن الوضع في العراق منذ الإنتداب وحتى الإستقلال، موضِّحاً: "لقد جعلنا أمر إلغاء المعاهدة العراقيّة-البريطانيّة والتخلص مما فيها من قيود مطلباً وطنياً لايختلف فيه إثنان، وعملنا، حكومة وشعباً، على تحقيق هذا الهدف بلا توان". و أوضح نوري فوائد “ميثاق بغداد” للعراق ودول الجوار وسائر الأمة العربيّة، بما فيها فلسطين. مختَتِماً خطابه هذا قائلاً: "إني أدعو إخواني العرب في جميع أقطارهم إلى التبصّر والتروي في الأمور، والتحلي بالشجاعة للأخذ بناصية الحق، ومكافحة الكذب والتضليل". ومن طرفه، آنتقد باش أعيان في خطابه "الدعايات التي تّبُثُّها كل من تل أبيب وموسكو ودمشق والقاهرة" ضد "ميثاق بغداد"، والتي آعتبرها "دعايات مغرضة، من شأنها التهجم على العراق والتدخل في شئونه"، موضِّحاً مقدّمة ونص "ميثاق بغداد"، وكيف أن كل هذه الدعايات "حاولت طمس وتشويه ما قامت به دول الميثاق من خدمات للقضايا العربيّة"، مستشهداً بقرارات مؤتمر الميثاق الأخير في العاصمة الإيرانيّة طهران، والتي آعترفت بريطانيا بأنها "كانت من أهم العوامل التي حملتها على وقف النار في عدوانها الثلاثي على السويس". وآستطرد بباش أعيان في خطابه قائلاً: "في آعتقادي، إن الخلاف حول الميثاق يُمَثِّل خلافاً بين كتلتين، كتلة عربيّة-إسلامية، وكتلة صهيونية-شيوعية"، لذا، فإن تنازل العراق عن الميثاق سيرقى إلى "إخضاع السياسة العربيّة لتوجيهات الصهيونية والشيوعية".

في أواخر شهر أيّار (مايو) من العام التالي، 1957م، كتب نوري مقالة في مجلّة لايف LIFE الأميريكيّة تحتوي على جملة من الإنتقادات، منها آنتقاده لدور الولايات المتّحدة الأميريكيّة في العدوان الثلاثي على قناة السويس في مصر في خريف العام الماضي 1956، ومشروع آيزنهاور، وقرار الأمم المتّحدة بتقسيم فلسطين عام 1947، وسياسات الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وتداعيات التدخّلات الأميريكيّة في الشرق الأوسط منذ عام 1956. ومن جملة ما ذكره نوري في مقالته هذه حول قضيّة فلسطين هو أنّه، بينما كان "يتفهّم ضيق صدر الأميريكيان بتصلّب العرب تجاه “إسرائيل”، فإنّ القادة العرب هم أيضاً قد طفح بهم الكيل من العُمى الّذي يعاني منه الأميريكيان في نظرتهم إلى “إسرائيل”". ثمّ تطرّق نوري في مقالته هذه إلى "الطغيان المزدوج" الّذي طالما شغل ذهنه، وهما “إسرائيل” والشيوعيّة، موضّحاً بأنّه، "فيما يتعلّق بالشعب العربي، فإنّ الخطر الإسرائيلي هو الأكبر بين هذين الخطرين". وفي الرابع والعشرين من الشهر التالي حزيران (يونية)، أفصح نوري للسفير الأمريكي في بغداد، والديمار گالمان Waldemar Gallman، عن استغرابه من تأخّر نشر المقالة، قائلاً: "هل يا ترى سبب التأخّر في النشر هو ضغوط صهيانة نيويورك ؟"، مُعرِباً عن قلقه من أن يتَسَبَّبَ التأخير في النشر في التخفيف من التأثير من وقع المقالة على القاريء. وقد طلب نوري من السفير غالمان القيام بالإتّصال بوزير الخارجيّة الأميريكي جون فوستر دلس ليطلب إليه "التدخّل للإسراع في النشر". وقد لبّى غالمان طلب نوري بالإتّصال بالوزير دُلِس، ولكنّ غالمان يقول في كتابه "عراق نوري السعيد" بأنّه لم يسمع شيئاً عن هذه المقالة فيما بعد، ولكنّ مجلّة لايف هذه نشرت، في عددها الصادر بتاريخ 18\8\1959، (أي بعد أكثر من عام من آنقلاب 14 تمّوز 1958 في العراق والّذي قتل فيه نوري) نشرت ما أسمته ب"آخر وصيّة لرئيس وزراء العراق"، إشتملت، ولكن باختصار شدبد، على المواد المذكورة أعلاه.

الهامش

  1. ^ الجزء الأول
  2. ^ تميم منصور (2015-12-22). "النشاط الصهيوني في العراق 1914- 1950 (4)". صوت العروبة.
  3. ^ تميم منصور (2015-12-28). "النشاط الصهيوني في العراق 1914- 1950 (5)". صوت العروبة.