مستخدم:سعيد سيد

== (صفات الفن التشكيلي المصرى في الاغتراب) واغتيال الفنان التشكيلى قدرى عبد القادر ==

   موسى الخميسي/ الولايات المتحدةا

أفرزت الحالة المصرية جملة من المعطيات ترافقت في مجالات وقطاعات وآفاق وتصورات مختلفة الأبعاد والمضامين، ولعل المدخل الأهم الذي أفرزته قد تمثل واضحا في صلب مسألة الهوية التي أضحت بدورها شديدة الحضور في جملة التداعيات التي نعيشها في عالم اليوم. وقد تجلت هذه الخاصية في علاقة المثقف بشكل عام والسلطة المصرية ، وحملت معها إشكالية تاريخية واجتماعية وأخلاقية كبيرة كانت ولفترة استمرت اكثر من ثلاثين عاما موضوع التنافر والتأزم والقطيعة، بعد ان أصر النظام الفاشي في مصر، بتغيير عقول الناس ونظام تفكيرهم والدخول في تفاصيل حياتهم اليومية، وقيمهم الجمالية، أي خلق شعب آخر على مزاجهم ومتماش مع اعتقادهم، فتحولت السلطة الى قدر الهي لا يمكن رده، فتفننوا خلال سنوات تجربتهم في تركيب قطع غيار لجسم غريب تشكلت منه ظاهرة الإرهاب بكل دمويتها، كما جرت عملية تزوير كبيرة للماضي والحاضر، وتعين على الجميع ان يشهدوا هتكا ثقافيا شاملا واسقط النظام هذه الصيغ على البعد البصري الذي جعل من مصر معرضا لتماثيل الرئيس ونصبه ولوحات تمجيده وهو يتقمص مختلف شخصيات التاريخ العربي الإسلامي. فتمت عملية تشذيب الرصيد التشكيلي المصرى المرموق لجعله مرآة لذوق رأس النظام وقناعاته بمكانته التاريخية. وكان من الطبيعي ان يكون أول ضحايا هذا النظام المثقفين المصريين الذين عانوا مرارة المنفى وكأنه قد كتب عليهم الانتقال من مكان الى آخر على امتداد الكرة الأرضية تكفيرا عن جريمة التفكير الحر والإبداع الجسور والمخالفة التي تؤكد الحضور. لقد ظلت مصر مادة مغرية للعديد من الفنانين المغتربين ، كساحر مفعم بالأساطير وملاذ للإلهام، كما انه اصبح للعديد من هؤلاء الفنانين مكانا لحلم أول، استوطن اللوحات بفعل أسطورته المكانية والزمانية، بجمالياته وفواجعه، بانتصاراته وانكسارا ته. انه الموطن الأول، والمكان الملتبس وحاضن الطفولة الأولى، والبراءات الأولى، انه الصورة الحاضرة ابدا بوضوح تفصيلاتها، ورسوخ جذورها الممتدة عميقا في تربة الروح، حتى أصبحت عند البعض بمثابة الهوية التي يطمئن على نفسه من خلال الاحتفاظ بها قريبا من صدره. فقد فتح داء الحنين عند هؤلاء ليجعله كل منهم دافعا في الأعماق يستوطن القلب ويسعى لاكتشافه مرة أخرى واعادته كمادة مبدعة في الروح والجسد والعين والعقل والذاكرة، فغاص البعض في تجربة البحث عن الميثولوجيا، وآخر رحل نابشا في الاجتماعي، وثالث في مفردات الحنين اليومي من خلال التفاصيل والأشياء، من حارات ومساءات وامكنة للطفولة، الى آخرين حاولوا الاختلاف بالتبعية والانبهار بتجربات عدد كبير واسماء لامعة من فناني الأوطان الجديدة ، حيث وجدوا في ظاهرة العولمة وعاء تتحرك وتتفاعل فيه جميع الثقافات، وهي سائرة بفرض نفوذها وبنودها لسحق الهويات الثقافية الأخرى. الفنان التشكيلى المصرى قدرى عبد القادر الذى تم اغتياله واغتيال كل فرصة سنحت للخروج ,الفنان المزود بهالات من الرؤية تعتمت ألوانها يوما بعد آخر، اصبح الوطن هاجسه الذي يغلي في داخله، ينزع على الدوام نحو إعادة صياغة وطنه وفق متخيله الشخصي، بجرأة تقنية ودقة في التوزيع مع تقصي الكمال الشكلي والمبالغة في التعبير عن المشاعر، مستعيدا التجربات الفنية لجيل الرواد في الأربعينات والأجيال الفنية المتميزة التي ظهرت في الستينات والسبعينات من القرن الماضي ، حيث هاجر معظم هؤلاء الى شتى أنحاء العالم، وظلوا يمثلون الانطلاقة الفنية التي سحبت تأثيراتها بوضوح على التيارات الفنية اللاحقة بالداخل والخارج ، من خلال محاولاتهم المتميزة والمنهج الذي اتبعوه في أساليبهم والذي كان مهتما بالظواهر والوقائع المرئية، وبتجسيد رغباتهم لاعادة بناء فضاء لوحة تشكيلية على أسس جديدة ومتينة. كان دور هؤلاء، يتسم بالريادة المعاصرة، لا يكترث بالنظم المتعارف عليها في اللوحة التشكيلية حتى ذلك الوقت. جيل الستينات والسبعينات كان قادرا على اتباع طرق غير معهودة من قبل في عموم الساحة العربية في فن الرسم ، مبنية على أنماط جديدة في الرؤية، مثلت فسحات جيدة وايجابية من التأمل لم تتوقف عند أسلوب فني محدد، بل تلتقي فيها مختلف التيارات الفنية على تناقضاتها ( التعبيرية، الواقعية، السريالية، الاتجاهات التجريدية.. الخ) وظلت معارفهم مهيمنة على رؤيتهم الفنية، كما ظل الشك بالقيم التقليدية هو الانطباع السائد، وهو ما انعكس على الحالات النفسية التي انعكست بدورها على الفنان نفسه الذي ظل طيلة هذه السنوات الطويلة حاملا اعتقادا متشائما، قاد البعض الى اليأس والشعور بعبثية الوجود والأمل في الخلاص لاجل العودة الى الوطن. لقد أحس هؤلاء بعذابات المنفى إبداعيا واستفادوا من أجوائه ومناخاته ومفارقاته في عملية الإنتاج الفني واسواق العرض وعمليات الانتشار، . وعلى رغم ذلك فان ما عكسه بعضهم في تقديم نتاجاتهمم يوضح اثر البصمات والأجواء المختلفة التي أثرت بشكل او بآخر عليهم، فاستثمر بعضهم المنفى في إطلاق ملكاته الإبداعية والتعبير عن المواضيع التي اختارها للعديد من أعماله، مستغلا حرية التعبير والعرض ورحابة صدر المشاهدين الجدد واصحاب الغاليريات. فوائد جلى منحتها المنافي للفنان المصرى، وتقف في مقدمتها الاستزادة المعرفية والاحتكاك بالثقافات المختلفة والمتعددة، إضافة الى التقاليد التاريخية العريقة لفنون هذه البلدان التي نمت وتطورت، فأنضجت تجربات إبداعية جديدة للفنان، ومنحته سعة الإدراك في صوغ السؤال الحر، المنطلق في شتى مناحي الحياة والوجود. لقد أسبغت ثقافات هذه البلدان أيضا على مادة وعطاءات الفنان المصرى، نكهة لا تتسم بالمحلية الصرفة كما كان الحال من قبل، بل أصبحت قابلة لعبور مدن ودول وقارات، ابتغاء في الامتزاج بالثقافات والفنون العالمية. ومن هنا فان الفنان المصرى المبدع المنفي المزود بهذه الرؤية التي بدأت بالاتساع الممتزج بملامح كونية مكتسبة من خلال عملية التواصل مع إبداعات الشعوب الأخرى، وجد في الثقافة المكتسبة ، إمكانية معالجة المدى التشكيلي والأحجام دون اللجوء الى وسائل إيهامية. ومن اجل تحقيق ذلك لجأ بعضهم الى توسيع التجربة الحسية والتعامل بمرونة عالية مع الأشياء التي تحيطهم، مجتمع وبيئة وافراد. ان ظاهرة الفن المصرى المهاجر أضيفت أليها ظواهر اكثر غموضا والتباسا في افتقار المعلومات، والنقص الحاد في المعرفة، وطغيان المنابر الرسمية كراعية وحاضنة لعدد معين من هذه النشاطات، مهملة المغاير والمختلف، وفارضة سيادة التعتيم على إنجازات الآخر، في ظل نظام بطريركي، يقوم على وسائل القمع والإبادة، تعتقل فيه الحريات الشخصية وتقمع وتغيب الشروط الإنسانية. وقد برز سؤال الهوية في الثقافة التشكيلية على ضوء ظروف التشتت الاستثنائية التي شهدتها الساحة التشكيلية المصريه بعد ان توزع العديد من الفنانين التشكيليين المصريين في منافي متباعدة، وهو ما ساهم في إضعاف المعرفة النقدية والتوثيقية بالنتاجات الجمالية ومتغيراتها الحيوية لعدد غير قليل من هؤلاء الفنانين. من ناحية ثانية فاننا ندرك ان الكتابة عن الفن أمر شائك ويمتلك صعوبات كثيرة ، تتمثل بافتقار الدور النقدي والدور الهام الذي يلعبه النقد في التفاعل مع الحركة الإبداعية، اذ لايمكن تصور إبداعا مؤثرا بدون إسهامات نقدية واعية وفاعلة، الا ان التناقض ما بين المعنى اللغوي والبصري، ولدته المسافة الممتدة ما بين بنية اللغة وبنية الصورة، وتظل اللغة في حالات كثيرة عاجزة أمام آنية المشهد، والطريقة المباشرة لحضور الصورة. ان غياب الحس العلمي والأكاديمي في قراءة الظواهر التشكيلية المختلفة، وسيطرة الرؤى الوافدة، جعل العمل التشكيلي من دون غطاء نظري جدي، الأمر الذي احدث التباسات كثيرة في العملية الإبداعية ذاتها،أفرزت أشكال هزيلة للكتابة عن الفن ترتبط أساسا بوسائل الإعلام، الأمر الذي لعب دورا سلبيا انعكس على حركة الإبداع، ونمت العديد من الظواهر، مثل المصلحة الشخصية ، والمحاباة، والكتابات المتعجلة، وغياب المعايير الموضوعية، على حساب الموهبة الحقيقية وعلى عملية النقد والنقاد، فتحولت عملية النقد من تجربة حية وإبداعية الى عمليات وصفية تمتلك نفس المواصفات النقدية للعمل الأدبي. فالعمل الفني هو عمل ثقافي له فكره ولغته التشكيلية التي تختلف عن المعنى اللغوي التقليدي، والجانب البصري له قواعده ومفرداته وخلفيته التاريخية. ويعلم العديد من المتخصصين بان اللغة الأدبية ظلت ولفترات طويلة عاجزة أمام تفسير وحضور العمل التشكيلي، وخلقت وصفات نقدية جاهزة كانت تتصف بالجمود، وبنت نفسها على ادعاءات معرفية غير موضوعية وغير دقيقة، على حساب الموهبة الحقيقية والفهم النظري المطلوب، مما جعل الإنجاز الجمالي فنا بدون مراجع نظرية وبدون مراجعات نقدية، وبالتالي اغتراب الفن البصري عن الوعي السائد، كما ظل العمل التشكيلي المصرى في بلدان الاغتراب، مفتقرا الى المحرك الجوهري الداخلي، النظري والتطبيقي، المتمثل بالرصد والمتابعة والتقييم الذي يستلزم تفاعلا جديا مع الحركة الإبداعية في الداخل ومواكبتها بكل اتجاهاتها وأساليبها، فالنقد الفني هو ظاهرة أساسية حضارية تلازم الإنجاز الفني او تسبقه في أحيان كثيرة كمؤثر نقدي مستقبلي. لقد وقع الفن التشكيلي المصرى ضحية لظاهرة الخصام بينه وبين جمهوره المحلي والعالمي،كما ان هناك انقطاعا من قبل اغلب المثقفين المصريين تجاه الفن التشكيلي، وهذا يعني ان هذا الفن معزول عن نسيج الحركة الثقافية والفنية الراهنة، اذ ان عددا كبيرا من المثقفين المصريين في الخارج ، تعاملوا مع الفنون التشكيلية بوصفها زوائد هامشية لا تحتل مكانة مركزية في تكوينهم او اهتماماتهم، وكان لها التأثير الكبير على غياب متابعة الظاهرة التشكيليةالمصرية والعربية المحلية والعالمية، فأصبحت حالة الفن التشكيلي المصرى في الخارج بمثابة صورة صادقة لواقع الثقافة المصرية التي تشوهها ظاهرتي الضيق والانحسار، واصبح من الصعب تحديد هويته، لانه امتلك هويات متعددة بعد ان اكتشف صانعوه هنا وهناك تجرباتهم الجمالية التي تخطت الحدود التقليدية التي كان متعارف عليها من قبل. . ظاهرة الإرهاب وآلياته التي تأصلت في إطار النظرة الاستبدادية للمشهد الرسمي، أصبحت النصوص الجديدة التي سخرها جيش من المبدعين المصريين في المنفى في أعمالهم الإبداعية، فقلق الفنان، وجروحه والآمه والخسائر والأوجاع التي أصابته ، جعلته يتأرجح بين فضائين لثقافتين مختلفتين، بين ما تحمله مخيلته، وبين مناخات جديدة، فالزم نفسه برؤية سياسية، تمثلت بمطالبه بالحرية والديمقراطية وإدانة القمع، فتقدم الموضوع السياسي على رؤيته الفنية، واصبح يدور في لوحته ولفترات طويلة حول الإشكالية العنيفة التي مارستها مؤسسات النظام الفاشي على زمنه الجديد، لقد ظلت اللوحة تتقصى آثار العنف وتناميه في الوطن وانعكاساته في الإبداع التعبيري، فأصبحت هذه الظاهرة مركزا للانطلاق لمحركات التغيير والتبدل وطرح العديد من الاسئلة، حتى صار بعض الفنانين يكتشف انتصاره على الموت والعنف والقلق بالتوثيق، لتلمس الأمان في عملية الصراع التي عاشها في منفاه، كما ان هذه الظاهرة أصبحت شارات للتوحش في سحنة المنجز التشكيلي المصرى بدلا من التحرر.