البريديون

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أصل تسميتهم

يقول " المُنجِد في الأعلام واللغة " (6) : (( البريدي : إسم لثلاثة إخوة كان أبوهم صاحب البريد في البصرة. لعبوا دورا خطيراً على أيام المُقتَدِر وخُلفائه ( أي الخلفاء الذين جاءوا بعده ). حاربهم ابن رائق " أمير الأمراء " دون جدوى. حاربوا معز الدولة البويهي فطردهم من البصرة. أكبرهم أبو عبد الله أحمد ( توفي في 333 هجرية - 945 م ) وكان عاملا على الأهواز فجمع ثروةً طائلة في وزارة إبن مُقلة. إغتالَ أخاه أبا يوسف يعقوب سنة 943 م. أما الأخ الثالث أبو الحسين فقد أُعدِمَ في بغداد سنة 945 م )).

فهل هناك من صلة بين هؤلاء البريديين الثلاثة وأحد وزراء الخليفة الراضي بالله المُسمّى " أبو عبد الرحمن بن محمد البريدي " (7) ؟؟ ثم يذكر المسعودي (8) في معرض من قال في شعر القصائد المقصورة : ((... منهم أبو القاسم علي بن محمد بن داود بن فهم التنوخي الإنطاكي، وهو في وقتنا هذا - وهو سنة 332 هجرية - بالبصرة في جملة البريديين ...)).

لقد إستمرت ثورات وعصيانات البريديين قرابة الأربعين عاماً وتمردوا وشقَّوا عصا الطاعة على ستة من خلفاء بني العباس وهم المقتدر والقاهر والراضي والمتقي والمستكفي ثم المطيع لله. بدأوا أول عصيانهم في زمن الخليفة المُقتدر ( 295 - 320 هجرية ) وإستمرت حروبهم مع جيوش الخلافة حتى أيام الخليفة المُطيع لله ( 334 - 363 هجرية ) تشبُّ حيناً وتخفتُ أحيانا.

فما سبب هذه الثورات وإلى أي أمر كانوا يطمحون وهل كان لديهم مشروع واضح وبرنامج يتحركون في ضوئه ؟؟ وكيف إستطاعوا أن يجمعوا حولهم جموعا غفيرةً من الناس مكّنـتهم من السيطرة على البصرة ومن بسط نفوذهم حتى واسط بل ودخولهم الحضرة في بغداد نفسها، الأمر الذي أدى إلى خروج الخليفة المتقي عنها ومعه قائده إبن رائق ؟؟ لم أجدْ أجوبةً على هذه الأسئلة فيما لديَّ من مصادر محدودة. فهل كانوا قرامطة أو كانوا مع القرامطة ؟؟.

لقد ذكر المسعودي (9) خبر دخول (صاحب البحرين ) البصرة في أول يوم من المحرّم سنة 301 هجرية في خلافة المقتدر. فهل كانوا يُنسِّقون مع صاحب البحرين القرمطي أو لا علاقة لهم به ؟؟ غير أنَّ صاحب مروج الذهب (2) يقول إنَّ جيش السلطان ( الخليفة المتقي ) الذي زحف لقتال البريديين في البصرة كان يضمُّ نفراً من القرامطة. القرامطة، أو نفرٌ منهم، إذن كانوا يقاتلون البريديين. هل كانوا من أصحاب الداعي الحسني الذي إنشق على مركز الخلافة وإستولى على طبرستان ردحاً من الزمن قبل مصرعه هناك ؟؟

سأنقلُ حرفياً ما قال المسعودي (2) حول أمر البريديين زمن الخليفة المتقي لله : (( وإشتدَّ أمرُ البريديين بالبصرة ومنعوا السفن أنْ تصعد وعظُمَ جيشهم وكثُرَتْ رجالهم وصار لهم جيشان : جيش في الماء ... وجيش في البر عظيم. وإصطنعوا الرجال وبذلوا الرغائب فإنضاف إليهم حجرية السلطان وغلمانه. وسار جيشُ السلطان الأتراك والديلم والجبل ونفرٌ من القرامطة وكلُ ذلك مع توزون... فإنحدرَ توزون إلى واسط لحرب البريديين وكانوا ملكوا واسط وتغلبوا عليها، فكانت بينهم سجالا والمتقي لله لا أمرٌ له ولا نهي )).

توزون التركي يقاتل البريديين في واسط والمتقي خليفة بغداد لا حول له ولا قوة فيطلب النجدة من آل حمدان ناصر الدولة وأخيه سيف الدولة اللذين دخلا بغداد بعد مقتل إبن رائق ( سنة 330 هجرية ) وإستوليا على المُلك ثم قاتلا البريديين.

يخرج المتقي إلى الموصل ( لبني حمدان ) فيترك توزون أمر محاربة البريديين في واسط ويعود إلى بغداد ومنها إلى بني حمدان في الموصل. ثم تقع الواقعة بين توزون وبين جيش بني حمدان في عكبرا وتكون الحرب عليهم. (( فرجع - توزون - إلى بغداد ثم أجمعوا - بنو حمدان - له ورجعوا إليه فتركهم حتى قربوا إلى بغداد فخرج عليهم فلقيهم فهزمهم بعد مواقعات كانت بينهم. وسار وراءهم حتى دخل الموصل وخرج منها إلى مدينة بَلَد فصالحوه على مال حملوه إليه فرجع إلى بغداد وهو مستظهرٌ بمن معه من الأتراك والجبل والديلم وكمال العُدّة والكراع )). واضح من هذا الكلام أن توزون التركي كان هو الآمر الناهي في بغداد وما كان الخليفة المتقي إلاّ دُمية صغيرة بين يديه. وبعد أن أزاح بالموت بنو حمدان إبن رائق أصبح توزون التركي منافسهم الأكبر في السيطرة على كلٍ من بغداد وخليفتها الضعيف المغلوب على أمره فكانت الحروب سجالا بينهم. لم ينسَ توزونُ التركيُّ طلبَ الخليفةِ حمايةَ بني حمدان له ومكوثه بين ظهرانيهم، فدبر له مكيدة لا أخلاقية كبيرة وكال له الوعود والعهود وشهادة الشهود أن لا يمسه بسوء إنْ هو فارق بني حمدان وقفل إلى بغداد راجعاً.

حذّره بنو حمدان ونصحوه أن لا يصدق وعود وعهود توزون وأنه سيفتك به لكن الخليفة أبى أن يأخذ بنصيحتهم وصدّق كلام توزون (( فإنحدر المتقي في الفرات فتلقاه أبو جعفر بن شيرزاد كاتب توزون بأحسن لقاء وأقام الأتراك له، ومضى في إنحداره حتى دخل النهر المعروف بنهر عيسى، وسار إلى الضيعة المعروفة بالسندية على شاطيء هذا النهر فتلقاه توزون هنالك وترجّلَ له ومشى بين يديه... حتى وافى إلى المضرب الذي كان ضربه له على الشط من نهر عيسى وذلك على شوط من مدينة السلام فأقام هناك. وأنفذ - توزون - رُسُلاً إلى دار طاهر ليُحضِرَ المستكفي، فلما حصل المستكفي في المضرب قبض على المتقي ونهب جميع ما كان معه... وأُحضِر المستكفي فويع له وكُحِّلَ المتقي فصاح وصاح النساء والخدمُ لصياحه...)). يتركُ توزون الحرب مع البريديين في واسط وينصرفُ للحرب مع بني حمدان في الموصل، مسقط رأس إبن رائق الموصلي.

إذا كان بنو حمدان خصوماً لإبن رائق ومنافسيه على لقب ( أمير العراق ) فتخلصوا منه إغتيالا، فكيف تُرى كانت علاقة إبن رائق الموصلي العراقي بتوزون التركي ؟؟ سجلُّ إبن رائق السياسي والعسكري لم يعرف إلا الولاء المطلق لخلفاء بغداد الذين خدمهم قائداً عسكريا مقداماً : الراضي والمتقي. ثمان سنوات من التفاني في خدمة بغداد ولا سيما في حروبه مع جيوش الإخشيديين سواء على أرض الشام أو في عريش مصر.


طه حسين وابن رائق

ذكر طه حسين ابن رائق الموصلي في كتابه (( من تأريخ الأدب العربي / مع المتنبي / العصر العباسي الثاني / الجزء الثالث )) (10) سبع مراتٍ إذا لم يَخُني الحساب. ذَكرهُ ذِكرا عابراً في سياق بحثه وتقصيه لحياة وأسفار وأشعار أبي الطيّب المتنبي في فترة تقلّبه ما بين مدن بلاد الشام المختلفة مادحاً هذا أو ذاك من الرجال. لم يتعرضْ طه حسين لأية تفصيلات تخص حياة أبي بَكْرٍ محمد بن رائق المَوْصِلي. لذلك تبقى أمورٌ كثيرة غامضة أحاطت بسيرة حياة هذا الرجل الذي ظلمه فقتله بنو حمدان وأهمله التأريخ فلم يفسح له المؤرخون المكان والذِكرالذي يستحق. جاء ذكرُ محمدٍ بن رائق في كتاب طه حسين على الصفحات 65، 111، 115، 130، 138، 141، وأخيراً على الصفحة 173. فعلى سبيل المثال قال طه حسين على الصفحة 111 وقد بلغ المتنبي الخامسةَ والعشرين من العمر، أي في عام 328 الهجري ما يلي:

  ... في هذا الوقت إضطرب الأمرُ بين العباسيين والإخشيديين. وأقبل ابن رائق على قسمٍ عظيمٍ من سوريا الجنوبية. وجعل ابن رائق على حربه في طَبَريّة بدر بن عمّار الأسدي.  

وفي الصفحة 115 جاء ذِكْرُ ابن رائق على الصورة التالية:

  ... فقد يُخيّلُ إليَّ، بل أكادُ أُرجّحُ أنَّ المتنبي إتخذ هذا الرجل - يقصد هارون بن عبد العزيز الأَوراجي الكاتب الذي كان يذهب مذهب التصوّف - وسيلةً إلى بدر بن عمّار. من يدري ! لعله كان يريدُ أنْ يتخذَ بدر بن عمّار وسيلةً إلى مولاه ابن رائق.  

على الصفحة 141 قال طه حسين :

  ... فهذا إبن رائق في أواسط سنة تسع وعشرين وثلاثمائة قد تركَ الشام وعاد إلى بغداد، تركها ومعه بدر بن عمّار. ... على أنَّ سنة ثلاثين وثلاثمائة لا تكاد تتقدم حتى يُقتل إبن رائق، يقتله ناصر الدولة أخو سيف الدولة الحمداني. هناك ينهض الإخشيد لإسترجاع الشام...  

هذه هي أهم المواضع التي ذكر فيها طه حسين القائدَ العسكري إبن رائق. وهي في أحسن أحوالها معلومات شحيحة متواضعة لا تُغني ولا تكفي مؤونة الباحث. والرجل معذور، لإنه كان معنياً بالدرجة الأولى بالأدب وخاصة بالمتنبي رجلا وشاعراً، أو شاعراً ثم رجلا. فإلى أين يتجه الباحث في محاولاته لتقصّي تأريخ حياة القائد العسكري العراقي إبن رائق ؟ أجل، إلى أين ؟؟ ومن الذي تخصص من الباحثين والمؤرخين في تأريخ الحقبة الزمنية القصيرة الممتدة ما بين عام 322 وعام 330 الهجريين ( زمن خلافة الراضي وأوائل سنيِّ المُتّقي ) ؟

الهوامش

  1. ديوان المتنبي ( الصفحات 139 - 142 ) . دار بيروت للطباعة والنشر. 1980
  2. المسعودي "معادن الذهب والجوهر " الجزء الرابع ( الصفحة 247 ). دار الأندلس. بيروت. الطبعة الرابعة 1981.
  3. المصدر الثاني / الصفحة 280.
  4. المصدر الثاني / الصفحة 287.
  5. المصدر الثاني / الصفحات 288 - 289.
  6. المُنجِد في الأعلام واللغة / الطبعة الثانية والعشرون. دار المشرق، بيروت 1975.
  7. المصدر الثاني / الصفحة 231.
  8. المصدر الثاني / الصفحة 229.
  9. المصدر الثاني / الصفحة 217.
  10. طه حسين ( تأريخ الأدب العربي ) / العصر العباسي الثاني. الجزء الثالث. دار العلم للملايين. بيروت، الطبعة الثالثة 1980.