پيير بيل

(تم التحويل من Pierre Bayle)

پيير بيل (Pierre Bayle ؛ بالفرنسية: [bɛl]؛ عاش 18 نوفمبر 164728 ديسمبر 1706)، هو فيلسوف، وكاتب ومعجمي فرنسي. لكونه هيوگنو فقد فر إلى الجمهورية الهولندية في 1681 بسبب الاضطهاد الديني في فرنسا. اشتهر بعمله المعجم التاريخي والنقدي Dictionnaire Historique et Critique، والذي بدأ في نشره في 1697.[3] كان بيل مدافعاً بارزاً عن التسامح الديني وكان لفلسفته المتشككة أثر كبير على النمو والتطور اللاحقين لعصر التنوير الأوروپي. ويُنظر إلى بيل كسابق الموسوعيون Encyclopédistes في منتصف القرن الثامن عشر.

Pierre Bayle
Pierre Bayle by Louis Ferdinand Elle.jpg
وُلِدَ(1647-11-18)18 نوفمبر 1647
توفي28 ديسمبر 1706(1706-12-28) (aged 59)
العصرفلسفة القرن السابع عشر
المنطقةالفلسفة الغربية
المدرسةالشك الفلسفي
الأفكار البارزة
المعضلة الثلاثية الشكوكية لبيل[1][2]
الأدب الفرنسي
بالتصنيف
تاريخ الأدب الفرنسي

العصور الوسطى
القرن السادس عشر - القرن السابع عشر
القرن الثامن عشر -القرن التاسع عشر
القرن العشرون - المعاصر

كتـّاب الفرنسية

قائمة زمنية
كتـّاب حسب تصنيفهم
روائيون - كتاب مسرحيات
شعراء - كتاب مقالات
كتاب القصة القصيرة

بوابة فرنسا
بوابة الأدب
 ع  ن  ت


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

سيرته

كان "أبو التنوير" ابن قسيس من الهيوگنو يعمل في مدينة كارلا-لى-كومت (والتي سُميت لاحقاً كارلا-بيل تكريماً له) في مقاطعة فوا في سفح الپرانس، حيث قضي بيير هناك الاثنين والعشرين عاماً الأولى من عمره، يتعلم اليونانية واللاتينية والكلڤنية.

وكان شاباً رقيق الشعور سريع التأثر. وفي 1669 أرسل إلى الكلية. وفي 1669 اليسوعية في تولوز ليتلقى أحسن تعليم كلاسيكي يمكن أن توفره له أسرته ومواردها، فأحب أساتذته حباً جماً، وسرعان ما تحول إلى الكثلثكة في حماسة بلغت به إلى درجة محاولته تحويل أبيه وأخيه إليها. فاحتملاه في صبر وجلد، وبعد ذلك بسبعة عشر شهراً عاد إلى مذهب أبيه. ولكنه بات الآن هرطيقاً مرتداً. فكان عرضة لملاحقة الكنيسة الكاثوليكية له. فأرسله أبوه حماية له منها، إلى الجامعة الكلفنية في جنيف (1670)، أملاً في أن يلتحق بيير بخدمة الكنيسة البروتستانتية وهناك على أية حال وقع بيل على مؤلفات ديكارت، وبدأ يتسرب إلى نفسه الشك في كل أشكال المسيحية.

وبعد استكمال دراسته أقام في جنيف وروان وباريس مشتغلاً بالتدريس، ثم ارتقى إلى أستاذ للفلسفة في معهد الهيجونوت في سيدان (1675). ولكن المعهد أغلق في 1681 بأمر من لويس الرابع عشر كجزء من حرب الاستنزاف ضد مرسوم نانت، ووجد بيير له ملجأ في روتردام، والتحق بوظيفة أستاذ للتاريخ والفلسفة في "المدرسة الكبيرة"، أكاديمية البلدية. وكان من أوائل المفكرين المهاجرين الكثيرين الذين اتخذوا من الجمهورية الهولندية في ذاك الزمان قلعة للفكر المستقل. وكان راتبه ضئيلاً، ولكنه قنع بالعيش البسيط ما دام في مقدوره الحصول على الكتب. ولم يتزوج قط، مؤثراً المكتبة على الزوجة. ولم يكن غير مدرك لمفاتن النساء وأفضالهن، وربما شكر لأية سيدة فاضلة كريم عنايتها به، ولكنه عانى طوال حياته من الصداع، ومن "صداع نصفي" أو انقباض في الصدر واكتئاب يلازمه، ولا ريب في أنه تردد في إشراك قرينة له فيما يعانيه من علل وأمراض. ومهما يكن من أمر فقد كانت تمر به لحظات ينزع فيها إلى السخرية، ذلك أنه عندما حاول الأب ميمبورگ اليسوعي الفرنسي في كتابه "تاريخ الكلفنية" أن يبرهن على أن القساوسة الكاثوليك كانوا قد قبلوا التحول إلى البروتستانتية رغبة في الزواج، تساءل بيل: كيف يمكن أن يكون هذا، "فأية محنة أكبر من الزواج؟(12)".

وعرض بيل كتاب ميمبورگ في مجلد من الرسائل ظهر في 1682. وعجب كيف يتسنى لرجل التزم التزاماً قوياً بمذهب معين، أن يكتب تاريخاً صادقاً نزيهاً غير متحيز. كيف يمكن أن يوثق في مؤرخ مثل ميمبورج نعت معاملة لويس الرابع عشر لهيجونوت (قبل 1682) بأنها معاملة "عادلة رقيقة كريمة؟" ووجه الخطاب إلى لويس الرابع عشر، فكتب من هولندا التي كانت فرنسا قد اجتاحتها حديثاً بشكل وحشي أثيم، متسائلاً: أي حق لملك في فرض مذهبه الديني على رعاياه؟ وإذا كان له هذا الحق، لكان للأباطرة الرومان ما يبرر اضطهادهم المسيحية. وذهب بيل إلى أن الضمير هو وحده الذي يحكم عقيدة المرء. ورد ميمبورج على ذلك رداً حاسماً بالحصول على أمر من لويس الرابع عشر بإحراق أية نسخة توجد في فرنسا من كتاب بيل بواسطة السلطات المختصة.

وفي العام نفسه، 1682، أصدر بيل أول أعماله الهامة "آراء شتى حول المذنب" وهو النجم المذنب الذي كان قد عبر السماء في ديسمبر 1680. وتولى الفزع أوربا بأسرها لهذا النجم الذي بدا أن النار في ذنبه تنذر بإحراق العالم. أننا إذا رجعنا إلى الوراء لنشارك ذاك العصر خوفه وجزعه-حين فسر الكاثوليك والبروتستانت على السواء هذه الظاهرة بأنها نذر إلهية، واعتقدوا أن الله سيرسل صاعقة من السماء على الأرض الخاطئة الآثمة في أية لحظة، فإننا عندئذ فقط نستطيع أن ندرك مدى الرعب الذي انتاب الناس عند ظهور هذا اللهب على غير انتظار، أو أن نقدر مدى الشجاعة والحكمة في تعليقات بيل عليه. إن العلامة ملتون نفسه كان قد قال حديثاً "أن النجم المذنب ينشر من شعره المروع الطاعون والحرب"(13). أن بيل أسس بحثه على الدراسات الحديثة التي أجراها الفلكيون (ولكن لم يكن مذنب هالي 1682 قد ظهر بعد)، ومن ثم أكد لقرائه أن النجوم المذنبة تتحرك في السموات طبقاً لقوانين ثابتة وليس لها أي علاقة بشقاء البشر أو سعادتهم. ورأى لانتشار الخرافات وإلحاحها على عقول الناس. "أن الذي يقفو زلات العباد ملتمساً أسبابها لن ينتهي من ذلك أبداً(14)". ونبذ الإيمان بكل المعجزات إلا ما ورد منها في العهد الجديد "الإنجيل"، (ولولا هذا الاستثناء، لما سمح بطبع الكتاب في هولندا). "في الفلسفة الصحيحة، ليست الطبيعة إلا الله نفسه، يعمل وفق قوانين معينة استنها سبحانه وتعالى بمحض إرادته. ومن ثم فإن أعمال الطبيعة هي من آثار قدرة الله وقوته مثل المعجزات سواء بسواء، كما أن هذه العمال تدل على وجود قدرة عظمى مثل تلك التي تدل عليها المعجزات. وأن خلق إنسان وفق قوانين التناسل الطبيعية، لا يقل صعوبة عن قيامة إنسان من بين الأموات (معجزة المسيح)(15).

وانتقل بيل في جرأة إلى واحدة من أكثر مسائل التاريخ تعقيداً: هل يمكن أن يكون هناك علم أخلاق طبيعي-هل يمكن الاحتفاظ بقانون أخلاقي دون عون من معتقد خارق للطبيعة؟ هل أدى الإلحاد إلى إفساد الأخلاق؟ يقول بيل: إذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن نستنتج من الجريمة والفساد وسوء الخلق السائد في أوربا أن معظم المسيحيون ملحدون في قرارة أنفسهم. أن اليهود والمسلمين والمسيحيين والكفار يختلفون في عقائدهم الدينية، لا في أفعالهم وتصرفاتهم. وظاهر أن المعتقد الديني-والأفكار بصفة عامة-ليس لها إلا تأثير ضئيل على السلوك، فهذا السلوك ينبع من الرغبات والانفعالات، وهي عادة أقوى من المعتقدات. وأي تأثير كان لتعاليم المسيح على مفهوم الأوربيين للشجاعة والشرف؟-ذلك المفهوم الذي أختص بأعظم المديح والثناء الإنسان الذي يثأر في عنف وقوة للإساءة والأذى، والذي يبرع في فنون الحرب باختراع ما لا يحصى من الآلات حتى يكون الحصار أشد فتكاً وإرهاباً وإزعاجاً. أن الكفار يتعلمون منا أن مجتمعاً من الملحدين قد لا يكون أسوأ خلقاً من مجتمع من المسيحيين. ليس الذي يحمل معظمنا على التمام جادة الصواب والنظام هو الخشية من الجحيم، وهذا أمر بعيد غير يقيني، قدر خوفنا من رجل الشرطة ومن القانون، ومن إدانة المجتمع لنا. ومن العار الذي يلحق بنا، ومن الجلاد، خل بيننا وبين هذه العوائق تعم الفوضى فإذا تمسكت بها لأمكن أنه يقوم مجتمع من الملحدين والحق أنه قد يضم رجالاً كثيرين على درجة رفيعة من الشرف ونساء كثيرات طاهرات عفيفات(17). وإنا لنسمع عن نماذج من هؤلاء الملحدين في الأزمنة القديمة، مثل إپيقور وپليني الأكبر وپليني الأصغر، وفي العصور الحديثة مثل ميشل دي لوپيتال وسپينوزا، (أما انحطاط أخلاق الفرد العادي عما هي عليه إذا لم تكمل الديانة القانون، فتلك مسألة لم يتعرض لها بيل).

 
شاهد تذكاري لمقابر الوالون في المقبرة العامة في كروسويك. بينهم، پيير بيل.

ونشر موضوع "النجم المذنب" غفلاً من اسم المؤلف. واتخذ بيل نفس الحيطة حين افتتح واحدة من أكبر الدوريات في ذلك العصر: "أنباء جمهورية الأدب". وظهر العدد الأول منها في مائة وأربع صفحات، في أمستردام في مارس 1684 وعرضت المجلة أن تزود قراءها بكل التطورات الهامة في الأدب والعلوم والفلسفة والبحوث والكشوف والتاريخ الرسمي. ومبلغ علمنا أن بيل نفسه كتب محتويات المجلة شهراً بعد شهر لمدة ثلاثة أعوام. وقد ندرك مبلغ الجهد الذي استلزمه هذا العمل. وسرعان ما أصبح استعراضه للكتب ذخيرة قوية في دنيا الأدب. وفي 1685 جمع أطراف شجاعته وأهلن أنه المؤلف. وبعد ذلك بعامين تدهورت صحته فترك تحرير المجلة لآخرين غيره.


التسامح

وفي تلك الأثناء وقع أربعة من أسرة بيل فريسة اضطهاد الهيگونوت في فرنسا. وكنتيجة مباشرة أو غير مباشرة لعنف اضطهاد القوات الفرنسية للبروتستانت، ماتت أمه في 1681، ومات أبوه في 1685، وفي نفس العام سجن أخوه ثم قضى نحبه نتيجة للتعذيب والقسوة. وبعد ذلك بستة أيام ألغى مرسوم نانت. وصعق بيل لهذه التطورات، ولم يكن له ، مثل ڤولتير، من سلاح غير قلمه، وفي 1686 تحدى الطغاة المستبدين بإحدى الروائع في أدب التسامح الديني. وكان عنوان هذه الرسالة "تعليق فلسفي على كلمات يسوع المسيح": "أخرج إلى الطرق والسياجات وألزمهم بالدخول." (لوقا 14-23).

وكان هؤلاء الطغاة الوحشيون قد التمسوا سنداً لإجراءاتهم التعسفية في القصة التي رواها المسيح عن الرجل الذي قال لعهده، حين لم تلب ضيوفه دعوته إلى عشاء عظيم أعده لهم "أخرج عاجلاً إلى شوارع المدينة وأزقتها، وأدخل إلى هنا المساكين والجدع. والعرج والعمي.... وألزمهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي." (إنجيل لوقا-14: 16-23). ولم يجد بيل مشقة في إيضاح أن هذا الكلام ليس له علاقة بإرغام الناس على أتباع دين أو مذهب واحد، بل العكس، وجدنا فرض نعتقد ديني موحد قد خضب نصف أوربا بالدماء، وأن تباين المذاهب الدينية في الدولة حال دون وصول أحدهما إلى درجة من القوة تمكنه من الاضطهاد. وفضلاً عن هذا: من منا يثق بأنه على حق إلى حد يستند إليه في إيذاء من يخالفونه؟ واستنكر بيل اضطهاد البروتستانت للكاثوليك، والمسيحيين لغير المسيحيين، والعكس بالعكس سواء بسواء. وعلى النقيض من لوك، اقترح بيل أن تمتد حرية العبادة أو اللاعبادة إلى اليهود والمسلمين والمفكرين الأحرار. ونسي ما ذهب إليه من قبل من أن الملحدين يحتمل أن يكونوا مواطنين صالحين مثل المسيحيين، فنصح بعدم التسامح مع الطوائف التي لا تؤمن بالعناية الإلهية وبوجود إله يحاسب ويعاقب، فإن هؤلاء لا تطهر من نفوسهم خشية الله ومن ثم قد يجعلون من الصعب تطبيق القانون(19). أما بالنسبة للآخرين فلا يجوز التسامح مع المتعصبين منهم. فهل يجوز لدولة بروتستانتية أن تتسامح في أن تقوم فيها كاثوليكية دافعت عن التعصب على اعتبار أن الكثلكة وحدها هي العقيدة الحقة الصحيحة؟. ورأى بيل أن الكاثوليك في مثل هذه الحالات-"يجب أن يسلبوا سلطة إلحاق الأذى والضرر بغيرهم... ومع ذلك فأما لا أقر تعرضهم ممارستهم لديانتهم، ولا أقر حرمانهم من اللجوء إلى القانون(20).

ولم يكن البروتستانت أكثر ارتياحاً من الكاثوليك لبرنامج التسامح هذا، من ذلك أن پيير جوريو-الذي كان صديق بيل وزميله في العمل في سيدان، وكان الآن راعياً لأبرشية كلفنية في روتردام-هاجمه في بحث بعنوان: "حقوق السيدين في أمور الدين-الضمير والأمير-. (1687) وذهب جوريو إلى هدم نظرية عدم الاهتمام بالأديان، وفكرة التسامح العام والشامل، معارضاً كتاباً بعنوان "تعليقات فلسفية". واتفق مع البابوات في أن للحكام أو الملوك الحق في القضاء على أية عقيدة زائفة، وقد روعه بخاصة التسامح مع اليهود والمسلمين والسوسنيين والوثنيين. وفي 1691 أهاب جوريو بعمد مدينة روتردام أن يفصلوا بيل من عمله، فرفضوا. ولكن في 1693 جاءت الانتخابات بهيئة حكام جديدة، وجدد جوريو حملته متهماً بيل بالإلحاد، فطرد مكن وظيفته، فقال الفيلسوف "اللهم أنقذنا من محكمة التفتيش البروتستانتية، فلن تنقضي خمس أو ست سنوات حتى تشتد وطأتها إلى درجة يتطلع الناس معها إلى عودة محاكم التفتيش الكاثوليكية(21).

وسرعان ما أسترد بيل هدوء نفسه وعاد إلى طبيعته، فتكيف مع الظروف، وكان له كل العزاء والسلوى أنه استطاع أن يخصص كل ساعات عمله لإنجاز "قاموس" العصر الذي كان قد شرع في تأليفه فعلاً. وراض نفسه على العيش على مدخراته، وعلى بعض مكافآت شرفية من ناشري كتبه. وتلقى عروضاً بالرعاية من سفير فرنسا في هولندا ومن ثلاثة من النبلاء الإنجليز يحملون لقب أرل، ولكنه رفض في لطف وكياسة، بل أنه رفض مائتي جنيه عرضها عليه إرل شروسبري نظير إهداء القاموس إليه. وكان له أصدقاء، ولكنه لم يكن له من وسائل اللهو والتسلية إلا القليل. "لم أهتم بالملاهي العامة أو الألعاب أو الرحلات الريفية... أو غيرهما من سباب الترفيه والمتعة، ولم أضيع وقتي فيها ولا في المهام المنزلية، ولم أطمع قط في منصب... إني أجد كل الحلاوة والراحة في الدراسات التي شغلت نفسي بها، وهي كل متعتي وبهجتي إني سأغني لنفسي وللموزيات (ربات الشعر والفنون والعلوم(22)".

وهكذا قبع هادئاً في حجرته يعمل أربع عشرة ساعة في اليوم، يضيف صحيفة إلى صحيفة في المجلدات الغريبة التي أصبحت منبع "الاستنارة". وظهر المجلدان الضخمان في 2600 صحيفة في روتردام في 1697 تحت اسم "قاموس تاريخي نقدي"، ولم يكن معجم مفردات، بل دراسة نقدية للأشخاص والأماكن والآراء، وفي التاريخ والجغرافيا وعلم الأساطير واللاهوت والأخلاق والأدب والفلسفة وصاح وهو يدفع بالتجارب النهائية إلى المطبعة "سبق السيف العذل" وكان هذا العمل مقامرة ثقيلة بالحياة وبالحرية. لأنه أحتوى على هرطقات أكثر مما ضم أي كتاب آخر في هذا القرن، وربما أكثر من حفيده، "موسوعة" ديدرو ودالمبرت (1751).

وكان بيل قد بدأ وأمامه هدف محدود هو تصحيح الأخطاء وسد النقص في "القاموس التاريخي الكبير" الذي كان موريري قد أصدره في 1674 من وجهة النظر الكاثوليكية التقليدية، ولكن الهدف اتسع مع تقدم العمل. ولم يزعم قط أنه كتب دائرة معارف، فلم يتعرض لشيء ليس لديه ما يقول عنه. ومن ثم يتضمن "القاموس" أية مقالات عن شيشرون، بيكون، مونتاني، جاليليو، هوراس، نيوتن، توماس مور، وأغفل العلم والفن إلى حد كبير، ومن ناحية أخرى كانت هناك مقالات عن الأفذاذ غير البارزين مثل أكيڤا، وأورييل دا كوستا، وإيزاك أبرابانل. ولم تخصص المساحات الكبيرة طبقاً للأهمية التاريخية، بل تبعاً لرغبة وهوى بيل نفسه، وعلى هذا فإن ارزم الذي خصص له موربري صحيفة واحدة، أفرد له بيل خمس عشرة صحيفة، كما أفرد لأبلار ثمان عشرة. وكان الترتيب أبجدياً، ولكنه أشبه بترتيب التلمود، وكانت الحقائق الأساسية مثبتة في النص، ولكن في كثير من الأحيان أضاف بيل حاشية في حروف صغيرة، أطلق فيها لنفسه العنان للدخول "في متاهة من البراهين والمناقشات.. بل في بعض الأحيان مجموعة كبيرة من تأملات فلسفية". وفي وسط هذه الحروف الصغيرة الدقيقة ستر بيل هرطقاته عن النظرة العامة. وأثبت مراجعه في الهوامش، وهذه في جملتها تنبوء عن سعة إطلاع ودرس يندر أن تتسع لهما حياة فرد. وتضمنت بعض الحواشي التي كتبها بيل بعض النوادر المكشوفة البعيدة عن الاحتشام، أملاً في أن يزيد هذا من مبيعات الكتاب. ولكن لا ريب في أنه وجد فيها هي نفسها متعة لشخصه وهو وحيد عاكف على الدرس والبحث. وأولع القراء مقدرين شاكرين، بأسلوبه اللاذع الأنيق المتجول بين أبواب المعرفة، وعرضه الماكر لنقاط الضعف في المذاهب الدينية السائدة، واعترافاته الصريحة الجريئة بالعقيدة الكلفنية الصحيحة. وبيعت الطبعة الأصلية وعددها ألف نسخة عن آخرها في أربعة أشهر.

وكانت طريقة بيل هي أن يوازن بين المراجع، ويتتبع الحقائق ويشرح الآراء المعارضة والمتناقضة، وكان يتمشى مع العقل إلى آخر الشوط حتى إذا لم تلتئم النتائج التي يتوصل إليها مع العقيدة الصحيحة أو أساءت إليها نبذ النتائج في تقي وورع. انحيازاً إلى جانب الأسفار المقدسة والإيمان. وتساءل جوريو غاضباً "إذا عرضت عبارة أو لفظة تؤيد الإيمان ضد العقل. فهل لها أن تحمل الناس على التخلي عن الاعتراضات التي قال بيل بأنه لا سبيل إلى دحضها(23)". وفيما عدا هذا فإن ترتيب القاموس هزيل. وتندرج بعض أبحاثه الكبرى تحت موضوعات تافهة أو عناوين مضللة. "أنا لا أستطيع أن أطيل التأمل في موضوع واحد بانتظام شديد، فأنا مولع أشد الولع بالتغيير، وغالباً ما أتحول عن الموضوع، وأقفز إلى مواضع قد يكون من الصعب تلمس الخروج منها(24). وكانت المناقشة عادة مهذبة متواضعة بعيدة عن التزمت ودية، ومهما يكن من أمر، فإن بيل كان من حين لآخر، لاذعاً حاد اللسان، ومن ذلك أن مقاله عن القديس أوغسطين لم يغفر للكلفني العظيم طول انصرافه عن العفة ولاهوته الكئيب وتعصبه الديني. وأعلن بيل ارتضاءه الكتاب المقدس على أنه كلمة الله، ولكنه أشار في خبث إلى أنه يجدر بنا ألا نؤمن إطلاقاً ببعض قصص المعجزات إلا إذا صدرت عن شخصية ممتازة. ووضع بعض الأساطير الوثنية-إبتلاع الحوت لهركيوليز مثلاً-جنباً إلى جنب مع القصص المماثلة في الكتاب المقدس، ثم ترك القارئ في حيرة: لماذا نرفض قصة ونقبل أخرى. وفي واحدة من أشهر مقالاته أنكر مذابح الملك داود وخياناته واغتصابه للنساء. وترك القارئ يعجب ويتساءل: لماذا يمجد المسيحيون مثل هذا الوغد المتوج بأنه من أجداد المسيح.

ووجد بيل أنه من الأيسر عليه أن يبتلع يونس والحوت معاً (أن يصدق القصة) عن أن يقبل سقوط آدم وحواء. كيف يتسنى لرب قدير أن يخلقهما وهو يعلم سلفاً أنهما سيلطخان الجنس البشري كله بخطيئتهما الأولى ويلحقان به من البؤس والشقاء ما لا يحصى ولا يقدر:

إذا كان الإنسان مخلوقاً من أصل غاية الطيبة، بالغ القداسة، قديراً غاية القدرة، فهل يمكن أن يتعرض للأمراض، للحر والبرد، للجوع والعطش، للألم والحزن؟ وهل يمكن أن يكون لديه مثل هذه النزعات السيئة الكثيرة؟ وهل للقداسة الكاملة أن تنتج مخلوقاً مجرماً؟ وهل لهذا الخير التام أن ينجب مخلوقاً تعساً؟ هلا يتسنى لهذه القدرة؟ مع الخير الذي لا حدود له، أن تزود خلقها بأفضل الأشياء في وفرة وسخاء وتباعد بينه وبين كل عدوان أو إزعاج وإساءة(25)؟.

أن إله سفر التكوين أما أن يكون قاسياً أو ذا قدرة محدودة. وعلى هذا شرح بيل في كثير من التعاطف والقوة مفهوم المانوية من الهين، للخير والشر (النور والظلام) يتصارعان للسيطرة على العالم وعلى الناس. وبما أن "البابويين والبروتستانت متفقون على أن قلة ضئيلة من الناس هي التي تنجو من العقاب السرمدي "فقد يبدو أن الشيطان سيكسب المعركة ضد المسيح، وفوق ذلك، فإن انتصاراته أبدية لأن رجال اللاهوت يؤكدون لنا أنه لا منجاة من النار. وحيث أنه عناك، أو سيكون هناك، في الجحيم عدد من الأنفس أكبر مما هو في الجنة، "فإن الذين في الجحيم سيلعنون دوماً اسم الرب، فإن المخلوقات التي تكره الرب ستكون أكثر ممن يحبونه:. وانتهي بيل، في خبث، إلى القول "ينبغي ألا نركن إلى المانوية حتى نقر أولاً مبدأ الرفع من شأن الإيمان والعقيدة والانتقاص من قدر العقل(26).

وعبرت مقالة بيل عن "بيرهو" عن الشكوك في التثليث، "لأن الشيئين اللذين لا يختلفان عن ثالث، لا يفترق الواحد منهما عن الآخر(27). أما بالنسبة لتحويل الخبز والنبيذ-لا يمكن أن ودمه، فإن أحوال المادة-ومن ثم ظهور الخبز والنبيذ-لا يمكن أن توجد بدون المادة التي تعدل منها(28). وبالنسبة لتراث كل الناس في خطيئة آدم وحواء، يقول بيل: "ما دام المخلوق غير موجود فلا يمكن لأن يكون شريكاً في عمل خاطئ(29). ولكنه وضع كل هذه الشكوك على ألسنة آخرين غيره، ثم استنكرها هو باسم الدين. واقتبس بيل "باعتبار أن هذا من أشد ما قال المارقون زيفاً" أن "الدين ليس إلا مجرد بدعة من عمل الإنسان، ابتدعها الملوك ليلزموا رعاياهم بالطاعة والإذعان لهم(30). وفي المقال الذي كتبه عن سبينوزا تعمد أن يتهم اليهودي الذي يعتنق مذهب وحدة الوجود بالإلحاد، ومع ذلك فإنه لا بد أنه عثر عند هذا الفيلسوف على شيء يسحر لبه ويستوقف نظره، لأن هذا أطول مقال في القاموس. وزعم بيل أنه يؤكد لرجال اللاهوت من جديد أن كل هذه الشكوك التي أوردها في كتابه لا تهدم العقيدة الدينية-لأن هذه مسائل فوق مستوى عقول الناس(31).

وذهب فاجويه إلى أن بيل "ملحد بغير جدال(32) ولكن قد يكون أكثر إنصافاً أن ندرجه في عداد الشكاكين، وأنه كان كذلك يشك في مذهب الشك. ومن حيث أن الصفات الثانوية للحس ذاتية إلى حد كبي، فإن العالم الموضوعي (الخارجي) يختلف كل الاختلاف عما يبدو لنا. "إن الطبيعة المطلقة للأشياء غير معروفة لنا، وكل ما نعرفه هو بعض علاقات بعضها ببعض(33). وفي 2600 صحيفة من الاستنتاج والحجج والبراهين اعترف بضعف العقل، فإن العقل، مثل الحواس التي يعتمد عليها، قد يخدعنا. لأنه غالباً ما يتغشاه الانفعال. والرغبة والهوى، لا العقل، هما اللذان يحددان سلوكنا. فالعقل يمكن أن يعلمنا أن نشك ولكنه قليلاً ما يحركنا للعمل.

إن أسباب الشك مشكوك فيها هي الأخرى. ومن ثم يجب على الإنسان أن يشك فيما إذا كان ينبغي له أن يشك. أية فوضى. وأي عذاب للذهن... إن عقلنا يؤدي بنا إلى أن نتيه ونهيم على وجوهنا على غير هدى. لأنه حين يكشف عن أكبر قدر من حدة الذهن والدقة، يلقي بنا في الهاوية... أن العقل البشري أداة هدم، لا أداة بناء، إنه لا يصلح إلا ليبدأ الشك، ويجول وينتقل هنا وهناك ليديم الصراع(34).

وبناء على هذا أشار بيل على الفلاسفة ألا يقيموا للفلسفة وزناً كبيراً، ونصح المصلحين بالا يتوقعوا كثيراً من الإصلاح. وحيث أنه واضح أن الطبيعة الإنسانية هي هي على مر القرون، فإنها بفعل الجشع وحب المشاكسة والشهوة الجنسية، ستظل تثير من المشاكل ما يفسد المجتمعات ويؤدي إلى فناء أية مدينة فاضلة (يوتوبيا) في مهدها. أن الناس لا يتعلمون من التاريخ، وكل جيل يتمخض عن نفس الأهواء والأوهام الخادعة والجرائم. ومن ثم فإن الديموقراطية خطأ في التقدير قدر ما هي حقيقية، فالسماح للدهماء المشغولين المضللين المتهورين باختيار الحكام ورسم السياسة هو انتحار للدولة. وأي نوع من الملكية أمر ضروري، حتى في ظل أشكال ديموقراطية(35). والتقدم أيضاً وهم وخداع، إننا خطأ نحسب الحركة تقدماً، ولكن يحتمل أنها مجرد تذبذب(36). أن خير ما نأمل فيه، هو حكومة يمكنها، على الرغم من أنها مزودة برجال شيمتهم الفساد ويعوزهم الكمال، أن تسن لنا من القوانين ما يكفل لنا أن نزرع حدائقنا في أمان وننصرف إلى دراستنا وهوياتنا في هدوء وسلام.

ولم يستمتع بيل بمثل هذا الهدوء في السنوات التسع التي بقيت له في حياته، وحين انتقل قراؤه من متن الكتاب إلى حواشيه المطبوعة بحروف صغيرة جداً ثارت موجة من الاستياء بينهم. ودعا مجلس كنيسة والون في روتردام بيل -وهو عضو في مجمعها- للمثول أمامه ليرد على الاتهامات الموجهة إليه بأن قاموسه تضمن "تعبيرات ومسائل غير لائقة، وكثيراً جداً من الاقتباسات الفاجرة، وملاحظات عدائية عن الإلحاد وأبيقور، وبخاصة مقالات كريهة مثيرة للاعتراض على داود وبيرهو والمانويين. ووعد بيل "بمزيد من التأمل في مذهب المانوية حتى إذا عثر على أية ردود، أو أمده قساوسة المجلس بشيء منها، فإنه "يسعده أن يضعها في أحسن صيغة ممكنة(37)". وفي الطبعة الثانية من القاموس (1702) أعاد كتابة المقال الوارد عن داود وخفف من حدته. ولم يهدأ روع جوريو، وجدد الحملة على بيل، وشن عليه في 1706 هجوماً عنيفاً تحت عنوان "اتهام فيلسوف روتردام ومهاجمته وإدانته".

وانهارت صحة بيل بعد هذه الطبعة الثانية. وعانى مثل سبينوزا من السل. وفي تلك السنوات لازمه السعال بشكل دائم تقريباً، وانتابته الحمى الراجعة، وزاد الصداع من اكتئابه وجزعه. واقتنع بالا أمل في البرء من علته، استسلم للموت، وزاد اعتكافه في حجرته، واشتغل ليل نهار في إعداد رده على ناقديه. وفي 27 ديسمبر 1706 أرسل الصيغة النهائية إلى المطبعة. وفي صباح اليوم التالي وجده أصدقاؤه ميتاً في فراشه.

أثره

وانتشر تأثيره طوال القرن الثامن عشر. وأعيد طبع قاموسه عدة مرات، حتى أصبح مصدر ابتهاج خفي لآلاف العقول الثائرة. وما وافى علم 1750 حتى كان القاموس قد طبع تسع مرات باللغة الفرنسية، وثلاث مرات بالإنجليزية ومرة بالألمانية. وحاول المعجبون به في روتردام أن يقيموا له تمثالاً إلى جوار تمثال ارزم، وأغروا الناشرين بطبع المقال الأصلي عن داود. وعلى مدى عشر سنين من وفاته كان الطلاب يقفون صفوفاً في مكتبة مازاران في باريس حتى يأتي دورهم في قراءة القاموس(39). وجاء في تقرير عن المكتبات الخاصة أن الطلب عليه كان أكثر من كلب أي كتاب آخر(40). وقد أحس بتأثيره كل مفكر ذي شأن تقريباً. وكان معظم كتاب لايبنتز "الفلسفة الإلهية" أو تبرير حكمة العدالة الإلهية في وجود الشر، محاولة صريحة للرد على بيل. كذلك نبع منه كتابات لسنج عن تحرير العقل ودفاعه عن التسامح-ويحتمل أن فردريك الأكبر استمد تشككه أصلاً من بيل، لا فولتير، وأطلق على القاموس "عصارة الإحساس السليم"(41). واقتنى أربع مجموعات منه في مكتبته، وأشرف على إصدار طبعة رخيصة موجزة منه في مجلدين ليجذب عدداً أكبر من القراء(42). وكان تأثير بيل على شافتسبري ولوك أخف، وعرفه كلاهما في هولندا، وسار لوك في "رسالة التسامح" (1689) على خطى بيل في "التعليقات" (1686).

ولكن أعظم تأثير لبيل كان بطبيعة الحال على فلاسفة الاستنارة وكان فطامهم على القاموس. ومن الجائز أن مونتسكيو وڤولتير أخذا عنه أسلوب الاستشهاد بالمقارنات والنقد الآسيوي للنظم الأوربية. ولم تكن "دائرة المعارف" (1715)، كما حكم فاجويه "مجرد طبعة منقحة مزيدة قليلاً من قاموس بيل(43). ولكن كثيراً من وجهة نظرها وآرائها التوجيهية نبعت من هذين المجلدين، كما أن المقال الذي كتب في دائرة المعارف عن التسامح كثيراً ما أحال القارئ على قاموس بيل على اعتبار أنه "وفى الموضوع حقه". كما أن ديدرو أعترف في صراحته المعهودة، بفضل بيل عليه، وحياه بأنه "أعظم شارح مهيب لمذهب الشك في العصور القديمة والحديثة معاً(44). أما ڤولتير فكأن بيل ولد من جديد، مع رئتين أصح ومزيد من النشاط والطاقة والسنين والثراء والذكاء. وأطلق بحق على "القاموس الفلسفي" أنه ترديد لقاموس بيل. وكثيراً ما اختلف قرد فرني الفاتن عن بيل، مثال ذلك أن فولتير ذهب إلى أن الدين كان قد ساعد على تشجيع الأخلاق ورعايتها، وأنه لو أن بيل كان لديه خمسمائة أو ستمائة فلاح ليحكمهم. ولما تردد في أن هناك إلهاً يعاقب ويكافئ(46)، ولكنه اعتبر بيل "أعظم منطيق جدلي ألف(47)" وجملة القول. كانت فلسفة فرنسا في القرن الثامن عشر هي بيل في تكاثر متفجر. إن القرن السابع عشر بدأ، بهوبز وسبينوزا، وبيل وفونتنيل، الحرب الطويلة المريرة بين المسيحية والفلسفة، تلك الحرب التي بلغت ذروتها في سقوط الباستيل وعيد آلهة العقل.

المصادر

  1. ^ Dale Jacquette, David Hume's Critique of Infinity, Brill, pp. 22–23, 25–28
  2. ^ "Bayle's trilemma". Academic Dictionaries and Encyclopedias. Retrieved 14 July 2020.
  3. ^ خطأ استشهاد: وسم <ref> غير صحيح؛ لا نص تم توفيره للمراجع المسماة EB1911
  • Elisabeth Labrousse, Pierre Bayle (La Haye: M. Nijhoff, 1963)
  • Elisabeth Labrousse, Bayle, trans. Denys Potts (Oxford: Oxford University Press, 1983)

وصلات خارجية