فيضان النيل 2016

شبكة مرجان الاخبارية

رفض تقديم فروض الولاء و الطاعة هذا العام: النيل يكتب تفاصيل ثورته نقوش علي جدار التاريخ

مستنداً علي خلفية الاخبار و التقارير و بيانات غرف الطواريء ووزارة الموارد المائية قمت برفقة الاستاذ مهند الدرديري – مدير تحرير شبكة مرجان الاخبارية – بجولة علي بعض المناطق المهددة بفيضان النيل داخل ولاية الخرطوم. جولة استمرت زهاء الساعات الست لتوثيق ما يجري من علي الارض. توثيق اعلي نسب قراءات للنيل علي مر تاريخ السودان. لحظات تستحق التوثيق من اجل نقل المعرفة و التجربة.

تقرير: حمدي صلاح الدين

اكدت كل التقارير الرسمية وغير الرسمية ان النيل و منذ بدايات الثلث الاول من اغسطس الجاري بلغت مناسيبه مبلغاً لم تشهدها البلاد منذ اكثر من مائة عام و هو وضع استثنائي استدعي اطلاق التحذيرات لقاطني الضفاف و ساكني الجزر. تحذيرات ظلت تطوق معصم نشرات الاخبار في الفضائيات السودانية و الاذاعات و الصحافة الورقية.

البدايات: بدت ارهاصات مناسيب النيل وشكلها منذ اواخر يوليو حيث حذرت منظومات مجتمع مدني من امطار غزيرة هذا العام في الهضبة الاثيوبية مما يؤثر تاثيراً مباشراً علي مناسيب النيل الازرق الذي ينبع من بحيرة تانا بالهضبة الاثيوبية و يشق الاراضي السودانية حتي يلتقي بالنيل الابيض عند منطقة المقرن ليتجها معاً شمالاً تحت مسمي (نهر النيل). والنيل الازرق عنيف في حركته وههو يغذي النيل الرئيسي بحوالي 80% من مياهه اما العشرين الاخري فهي من نصيب الابيض الذي يبدو هادئاً متكاسلاً في حركته ويفقد غالبية مياهه في منطقة السدود جنوبي السودان الجديد. اذن تطورات الازرق هي التي تقض مضاجع الدفاع المدني و المتطوعين والاهالي علي حد سواء فالازرق جامح قوي لا يبقي ولا يذر في احايين كثيرة. الارهاصات تلك عززتها تقارير من منظومات مجتمع مدني افريقية اكدت نشاط خريفي غير مسبوق علي حزام افريقي يمر من الشرق الي الغرب في وسط افريقيا في شكل نصف قوس.

معدلات امطار عالية : هطلت امطار غزيرة هذا العام علي كل ولايات السودان الثماني عشرة حيث اكد الاستاذ احمد محمد ادم – مفوض العون الانساني – ان معدلات امطار هذا العام فاقت كل التوقعات وتعتبر اعلي معدلات امطار منذ 105 عام.

سنار تغرق : بدايات فيضان النيل بصورة حقيقة شهدتها ولاية سنار و تحديداً عند منطقة (كركوج) بمحلية (السوكي) فقد حاصر النيل 35 قرية وتهدم جراء ذلك 600 منزل وفقدت سنار الفي فدان زراعي خرجت من الموسم بفعل الفيضان الذي اجتاح المنطقة. ولاية سنار من الولايات الثلاثة الاكثر تضرراً من خريف هذا العام بعد كسلا و الجزيرة وتبقي مهددة بتواصل الفيضان عليها حيث لازالت المناسيب في حالة ارتفاع في كل المحابس والقري محاصرة بالمياه حتي لحظة كتابة هذا التقرير.

الشرق علي سطح صفيح ساخن : عانت كسلا و القضارف من ثلاثية ( الامطار الغزيرة و السيول و الفيضانات) الشيء الذي جعل الولايتين في طليعة الولايات المتضررة من حيث الخسائر في الارواح والممتلكات العامة ووصلت الذروة بعد ان انقطع الطريق الحيوي الذي يربط الشرق بالخرطوم مرتين خلال عشرة ايام. انقطاع الطريق الحيوي عند جسر القدمبلية سبب ربكة كبيرة في اروقة ادارات الطرق و الجسور الاتحادية و الولائية. جهود كبيرة بذلتها ادارات الطرق والجسور لاعادة كبري القدمبلية للعمل في نفس اليوم الا ان الحل يظل حلاً مؤقتاً فيتوجب علي القضارف التي تعد من اغني ولايات السودان يتوجب عليها الاهتمام اكثر مع الحكومة المركزية في انشاء كبري القدمبلية بمواصفات عالية فانهيار الكبري يعقد من حسابات الصدار والوارد ويقطع بقية البلاد عن الشرق الذي تظهر اهميته بصورة كبيرة في حركة الصادر والوارد

نهر النيل و الشمالية، مساحة الاحتياط اكبر: قبل حوالي عشر سنوات لم تكن الولاية الشمالية تتذوق طعم الامطار ولا رائحة السيول ولا هدير الفيضان فالولاية التي يكتنفها مناخ شبه صحراوي لم تكن تتوقع ان يفيض عليها النيل و تتدفق عليها السيول و تملأ جنباتها الامطار الغزيرة حتي تسقط اعمدة الكهرباء وينقطع التيار الكهربائي ليومين كاملين كما حدث في دنقلا بدايات خريف هذا العام. مساء الاحد الماضي ذكر ناطق باسم الولاية لقناة الشروق ان بين جزرالولاية العشرين وبين مرحلة (الغمر الكلي للجزر) حوالي عشرة سنتميترات فقط واكد المتحدث ان الولاية لن تتردد في اخلاء الجزر حال وصول النيل (المرحلة الحرجة). و بالامس القريب ناشد اهالي جزيرة مقاصر الحكومتين الاتحادية و الولائية بضرورة توفير معينات واليات لفيضان محتمل. اذن نهر النيل و الشمالية في قمة (المعمعة) فالنيل القادم من تانا تمر مياهه عبر كل المحابس لتصل الي نهر النيل والشمالية كاخر محطات داخل الحدود السودانية اذن فالشمالية تمتلك خاصية (المزيد من الوقت من اجل التصرف) فمن محبس الديم تستطيع الولاية الشمالية ان تقرأ علاقتها مع الفيضان خلال ايام سبعة.

دارفور وكردفان، سيول مدمرة : تعددت الخسائر في ولايات دارفور وكردفان بسبب الامطار الغزيرة والسيول التي تجري مخلفة وراءها اثار كبيرة علي المناطق التي تمر بها و عزلت السيول ثماني محليات بجنوب دارفور وقطعت شبكة الكهرباء بمحلية تلس وجرفت السيول كبري (ام بربتا) الذي يربط المحليات الثماني. وقد ظهرت فيديوهات و صورر علي شبكات التواصل الاجتماعي توضح حجم الضرر وعنف حركة السيول في ولايات دارفور و كردفان.

الجزيرة الاكثر تضرراً : ظلت ولاية الجزيرة تحبس انفاسها منذ الثلاثين من يوليو الماضي ومناسيب النيل توالي الارتفاع يوماً بعد يوم. غالبية مدن الجزيرة الرئيسية تطل علي الازرق العاتي الذي بدا مخيفاً هذا العام. الجزيرة هي الاكثر تضرراً حتي الان بحسب احصاءات رسمية حيث توفي 25 شخصاً من ولاية الجزيرة فقط و اصيب 35 بينما سقطت 5 الاف غرفة نصفها انهياراً كاملاً اضافة الي 188 مؤسسة حكومية والاف الفدادين الزراعية التي خرجت من الموسم الزراعي هذا العام. كل هذه الخسائر ولازالت مناسيب النيل توالي الارتفاع في كل الاحباس حتي لحظة كتابة هذا التقرير.

أرقام غير مسبوقة في الخسائر :

152 حالة وفاة (14 في الخرطوم و25 في الجزيرة) و اكثر من 25 الف اسرة بلا مأوي والاف المنازل المنهارة كلياً وضعفها من المنهارة جزئياً و مئات المؤسسات الحكومية و اكثر من 55 قرية وجزيرة في عداد المناطق المهددة تهديداً مباشراً بفيضان النيل اضافة الي عشرات الاحياء التي تطل علي الازرق من جانبيه. وضع استثنائي في ارقام الخسائر والبيانات تشير الي ان نهاية اغسطس هي ميس الامان. صحافة الخرطوم اليوم حملت عنواناً يشير الي تضرر 160 الف شخصاً من السيول و الفيضانات حتي لحظة كتابة هذا التقرير.

الجديد الثورة و الباقير :

فجر الاربعاء هاج الفيضان اهالي الجديد الثورة و الباقير وغمر غالبية الاحياء ووصل حتي طريق الخرطوم مدني الذي يبعد حوالي اثنين كيلو ونصف من النيل في وضعه الطبيعي. واشتكي مواطنون لقناة الشروق من عدم وجود السلطات المحلية لمساندتهم في هذه الكارثة بالجوالات والاليات واقامة التروس وقال مواطنون انهم اضطروا الي شراء قلابات تراب باربعمائة الف جنيه من اجل تدعيم تروس المنازل في ظل غياب كامل للسلطات المحلية التي يبدو ان الكارثة اكبر من امكانياتها.

النيل خارج مجراه : كل تلك الفقرات تدور في رأسي وانا احمل اوراقي برفقة زميلي الاستاذ مهند الدرديري وذلك بعد ان اتفقنا علي القيام بجولة علي الارض داخل بعض مناطق ولاية الخرطوم المهددة بفيضان محتمل. هذه الجولة جاءت بعد ان شاهدنا بام اعيننا الارتفاع الواضح والمخيف وتمدد النيل خارج مجراه صباح الاربعاء.

بداية الجولة : بدأنا بشارع النيل عند نقطة برج الاتصالات وبالصدفة قابلنا مجموعة من رجالات الدفاع المدني بقيادة العميد عطا الذي اكد انهم يقومون بعملية تمتين لكل الجسور تحسباً لارتفاع المناسيب في كل المحابس. وبالفعل شاهدنا قوات الدفاع المدني في عدة نقاط في شارع النيل مع الاليات والجوالات وهم يقومون بتدعيم التروس ومحاصرة ما خرج من مياه في نقطة او نقطتين هنا او هناك. قبالة جامعة الرباط من جهة شارع النيل بدا النيل وكانه في طريقه لمداعبة الطريق العام حيث وصل حتي الممشي الفرعي واكد مراقبون ان وصول النيل هذه النقطه طبيعي في اوقات الذروة الا ان الوضع بدا مخيفاً عند البعض بسبب تكرار بيانات ارتفاع المناسيب في كل الاحباس بصورة يومية. وعند هذه النقطة (نقطة جامعة الرابط) حضر معتمد الخرطوم الفريق ابوشنب الذي يبدو انه هو الاخر تحسس خطورة وصول النيل هذه النقطة.

(انسان) ضد (الطبيعة) : مهما بذل من جهود من الدولة ممثلة في قواتها النظامية ومن متطوعين و اهالي فكفة الصراع غير متكافئة (انسان ضد الطبيعة) لطف الله فقط هو المنجي والملاذ و المتكأ.

توتي، ترسوا البحر صددوا : وصلنا توتي وبدا لي من علي البعد عدم وجود اي حالات استنفار مما يشير الي استقرار في الاوضاع رغم ان النيل حاول مداعبة الاحياء اكثر من ثلاث مرات خلال الايام العشرة الماضية الا ان التدخل السريع انقذ الجزيرة التي يعتز بها اهلها ايما اعتزاز وظلوا وعلي الدوام يرفضون مغادرتها ايام الفيضان رغم نداءات الدفاع المدني المتكررة. توتي التي تغني لابنائها (عجبوني الليلة جوا ترسوا البحر صددوا) بدت مطمئنة تماماً فلا تجمعات حول الترس علي طوله ولا تجمهرللمواطنين ولا اي مظهر من مظاهر الانزعاج علي المحيا.

بعض من استطلعناهم في توتي من كبار السن اكدوا انهم لم يروا النيل بهذه الزمجرة وهذا العنف طوال السنين الماضية (ولا حتي في 46) اضاف احد كبار السن. حديثهم هذا ذكرني بحديث ابناء منطقة كركوج الذين هاتفتهم اول ايام الفيضان واكدوا وقتها انهم لم يروا النيل بهذا الاندفاع وهذا الارتفاع وهذه الزمجرة.

(الابيض) يغار من اخيه (الازرق): يبدو ان النيل الابيض الموسوم بالهدوء قد غار من اهتمام الناس بالنيل الازرق فبدا مزمجراً هو الاخر عند منطقة الفتيحاب و تسربل خارج مجراه حتي وصل التروس التي كان يبعد منها بعدة كيلومترات. الاوضاع في الفتيحاب مطمئنة جداً ولم يحدث اي خروج للنيل.

المحابس العليا، ارتفاع مستمر : ظل محبس الديم وكل المحابس التي تليه في حالة ارتفاع مستمر منذ اوائل اغسطس وحتي لحظة كتابة هذا التقرير وهو وضع اسثنائي. محبس الديم هو المؤشر الذي تقرأ به جهات الاختصاص حركة النيل وبالتالي من قراءات محبس الديم تقوم الجهات المختصة بتقدير الزمن الذي ستصل فيه المياه الي المحبس الذي يليه وهكذا حتي تمر كمية المياه الواردة من الهضبة الداخلة الي محبس الديم الي اخر محبس وتطلق ادارات الدفاع المدني وغرف الطواريء تحذيراتها من الفيضان من قراءات المحابس العليا.

خطورة الوضع في الخرطوم: الوضع في الخرطوم قد يزداد تعقيداً حال هطول امطار غزيرة في الخرطوم او البطانة او كردفان ومن ثم تتدفق السيول الي الخرطوم عبر شرق النيل (للقادمة من البطانة) و عبر غرب ام درمان (للقادمة من كردفان). هذه السيول مع الارتفاع المتوالي لمناسيب النيل ستتسبب في مشكلة ارتداد المياه من النيل الي الاحياء وهو ما يزيد من نسب تهدم المباني وتردي الوضع البيئي وانتشار الاوبئة وقطوعات الكهرباء والمياه.حيث ان الاحياء المتاخمة للنيل في الخرطوم عددها كبير وكثافتها السكانية عالية جداً عكس الولايات التي قد لا تتضرر كثيراً بفعل السيول مع ارتفاع مناسيب النيل فغالبية ضرر الولايات من الامطار الغزيرة وبعض السيول.

الدفاع المدني والمتطوعون، همة لا تفتر وعزم لا يلين : ظلت قوات الدفاع المدني في حالة انعقاد دائم عبر لجانها المختلفة وظلت تتابع حركة النيل عبر نقاط ارتكاز متعددة منتشرة علي طول النيل لاحكام السيطرة و التدخل السريع حال قرر النيل الخروج الي الشارع. كما ظل متوعو نفير وبقية مجموعات العمل الطوعي في حالة استنفار تام نقل للمساعدات والمؤن الغذائية الي كل جزء متضرر في الولايات.

سلاح المهندسين علي الخط :

لعب سلاح المهندسين دوراً كبيراً في تلافي اثار الامطار الغزيرة التي هطلت السبت قبل الماضي والتي صحبتها سيول ناحية شرق النيل و اكد سلاح المهندسين وقتذاك جاهزيته للتدخل في اي لحظة حال وصول النيل (المرحلة الحرجة).