فيض الخاطر (10 أجزاء)

فيض الخواطر 10 أجزاء هي مجموعة من المقالات الأدبية والاجتماعية التي كتبها أحمد أمين نشرت بعضها في مجلة «الرسالة» وبعضها في مجلة «الهلال»

وبعضها لم ينشر في هذه ولا تلك. استحسنت أن أجمعها في كتاب؛ لا لأنها بدائع أو روائع؛ ولا لأن الناس ألحُّوا عليَّ في جمعها،

فيض الخاطر الجزء الاول بصيغة PDF
فيض الخاطر الجزء الاول بصيغة PDF

فنزلت على حكمهم، وائتمرت بأمرهم؛ ولا لأنها ستفتح في الأدب فتحًا جديدًا لا عهد للناس به؛ ولكن لأنها قِطَعٌ من نفسي أحرص عليها حرصي على الحياة، » عن المؤلف


نبذة عن المؤلف :

أحمد أمين إبراهيم الطباخ ولد أحمد أمين في القاهرة عام ١٨٨٦م وتوفى عام 1954 ويعتبر أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين،

وأحد أبرز من دعوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر المعاصر جلال أمين.

ومن أبرز أعماله إلى جانب "فيض الخاطر " كل من فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام أو مايعرف بالموسوعة الإسلامية


اقتباسات من الاجزاء العشرة

فيض الخاطر (الجزء الأول)

تاريخ الصدور 1938

*****

كل شيء سهل واضح قابل للفهم، قابل للتفسير عند الجهلاء وأنصاف العلماء.

**حلقة مفقودة

تلك الحلقة هي طائفة من العلماء جمعوا بين الثقافة العربية الإسلامية العميقة، والثقافة الأوربية العلمية الدقيقة؛ وهؤلاء يعوزنا الكثير منهم، ولا يتسنى لنا أن ننهض إلا بهم، ولا نسلك الطريق إلا على ضوئهم

*****

صوتان لا بد أن يرتفعا في كل أمة ويجب أن يتوازنا حتى لا يطغى أحدهما على الآخر: صوت يبين عيوب الأمة في رفق وهوادة، ويستحث على التخلص منها والتحرر من قيودها، وصوت يُظهر محاسنها ويشجع على الاحتفاظ بها والاستزادة منها. والصوتان معًا إذا اعتدلا كونا موسيقى جميلة منسقة تحدو الأمة إلى السير إلى الأمام دائمًا؛ هي موسيقى الجيش تبعث الرجاء والأمل، وتمني بالنصر والظفر؛ فإن بغى أحد الصوتين على الآخر كانت موسيقى مضطربة تهوش النفس وتدعو إلى الفوضى والارتباك؛ وإذا كان «الدور» في الموسيقى يكون منسجمًا كله، ويشذ أحد أصواته لحظة فيكون «نشازًا» يخدش السمع ويجرح النفس، فما ظنك «بدور» كله «نشاز»؟

*****

يظن الناس أن النظافة غالية، وأنها مرتبطة بالغنى، وهذا خطأ بين، فكم من غني قذر، ومن فقير نظيف؛ والأمر يتوقف على تعود النظافة أكثر مما يتوقف على المال، فليست النظافة أن تلبس أغلى اللباس، وأن تأكل أفخم الطعام، وإنما النظافة أن تلبس نظيفًا ولو كان أحقر الثياب، وأن تأكل نظيفًا ولو كان أحقر الطعام.

هذه بديهيات أولية، ولكنا مع الأسف مضطرون أن نقولها.

*****

سر هذا الشقاء كله طغيان جانب المادة على جانب الروح. سر هذا كله أن المدنية الحديثة عجزت عن أن تنظر إلى الإنسان كوحدة على الرغم من أنها قربت بطرق المواصلات والمعاملات بين أجزاء العالم.

*****

فكر في أكثر شرور هذا العالم، وكلما بدأ سبب فأرجعه إلى علته الأولى، تصل أخيرًا إلى أن علة العلل ضيق هذا النظر في جعل الأمة لا الإنسانية هي الوحدة؛ فالتسلح، والحروب الماضية، والحروب المستقبلة، وكثرة العاطلين، وغلاء الأسعار، والخصومات بين الأحزاب، والخصومات بين الأمم، وعدم وجود المال الكافي للإصلاح الاجتماعي، سببه كله هذه النظرة الضيقة، نظرة الساسة المستبدين إلى أمتهم، يؤيدهم من وراء ستار رجال الأموال والأعمال، وحتى الرجال الذين كانوا موضع الأمل في إعزاز جانب الروح، وهم رجال الدين أصبحوا — كذلك — رجال سلطة.

*****

أهم دلائل الرقي النظر إلى ثروة الأمة، ومقدار ما يُنفَق منها على «الصالح العام» من مدارس ومصانع ومساجد ومتنزهات وحدائق وماء وإنارة ونحو ذلك. ولست أعني النظر إلى كمية ما يصرف فحسب، ولكني أعني أيضًا كيفية الإنفاق، وهل أنفق هذا القدر في أحسن السبل، وهل هناك وجه آخر خير منه؟ كذلك لستُ أعني ما ينفق في ذلك من ميزانية الحكومة فقط، ولكني أعني أيضًا مقدار شعور الأفراد في هذا الباب. ومقدار ما يتبرعون به من أموالهم لهذا الصالح العام؛ فليست ثروة الأمة مقصورة على ميزانية الحكومة، ولكنها تشمل ثمرة الأفراد؛ فالأمة التي لا يشعر أغنياؤها بواجب في أموالهم لفقرائها، أو يشعرون شعورًا ضعيفًا لا يقوى على استخراج المال من جيوبهم، أمة منحطة إذا قيست بغيرها من الأمم التي كثرت فيها المدارس والأندية والمستشفيات والجمعيات الخيرية من مال أغنيائها.


فيض الخاطر (الجزء الثاني)

تاريخ الصدور 1940

في العصر العباسي طغيان أدب المعدة على أدب الروح؛ هذا البارودي — رحمه الله — اختار لثلاثين شاعرًا من خيرة شعراء الدولة العباسية، أمثال بشار وأبي نواس وأبي تمام والبحتري وابن الرومي وابن المعتز، واختار لهم في فنون آدابهم المختلفة، من مديح ورثاء وأدب ونسيب وهجاء وزهد، وكانت مختاراته في أربعة أجزاء كبار، فكان ما اختاره من المديح ٢٤١٨٥ بيتًا، ومن الأدب ١٦٩٧ بيتًا، ومن الغزل ٤٦١٦، ومن الهجاء ١٢٢٩، ومن الوصف ٣٩٩٣، ومن الزهد ٤٧٣ بيتًا. ونظرة واحدة إلى هذا الإحصاء تدهشنا أشد الدهش، إذ يتبين لنا طغيان أدب المعدة، وهو المديح والهجاء، على أدب الروح طغيانًا كبيرًا.

*****

أن مستودع الذخائر للأمة، قلب المرأة، قلب المرأة

****

أسماء بنت أبي بكر التي قالت لابنها عبد الله : يا بني لا ترضى الدنية. فإن الموت لا بد منه. فلما قال لها: إني أخاف أن يمثَّل بي، قالت: إن الكبش إذا ذبح لا يؤلمه السلخ.

*****

دير «سانت كاترين» الذي بناه جوستنيان سنة ٥٣٠م في حضن جبل موسى أو جبل سينا الذي ورد ذكره في التوراة، وأمده جوستنيان بمئة من الرومان ومئة من المصريين بنسائهم وأولادهم ليقيموا حول الدير، يحمونه من عدوان من حلوهم، وليخدموا الرهبان فيه، وقد تناسل هؤلاء وتكاثروا، وأخضعتهم الصحراء لبدواتها وعروبتها وإسلامها، فتبدَّوا وتعرَّبوا وأسلموا، ولا يزال نسلهم حول الدير إلى الآن، يختلط فيهم أثر الرومان بأثر «العربان».

*****

العالم الآن في مأتم كبير، ضحاياه أمم لا أفراد، وصرعاه ممالك وعروش، ومبادئ وحريات، ودمار في الأنفس والأموال، وخراب في كل مكان؛ والأمم التي لم تكتوِ بنيران الحروب إلى الآن، مكتوية بعذاب الانتظار، وتوشك أن تدرك النار أُخراها كما أدركت أُولاها. تضع كل أمّة يدها على صدرها واجفة من مصيرها؛ والناس كلهم في عَمَاء، لا يدرون إلى أين ينتهون، كأنهم يمثلون يوم الفزع الأكبر وما صَوَّرته الديان عند قيام الساعة.

إن الخيال ليعجز عن أن يتصوّر حقيقة ما يحدث في العالم الآن من كوارث، فقد غطيت الأرض بالأشلاء، وصبغت بالدماء؛ وجاء دور العلم يقدم للإنسانية أقصى ما يستطيع من شر، كما قدم لها في السلم أقصى ما يستطيع من خير؛ وهرعت الملايين من مكامنها تتطلب الملجأ وتسير على غير هدى، وتشتت الأسر لا يعرف بعضها مصير بعض، إلى ما لا يُحصى من أهوال

*****

ذكروا أن ملكًا من ملوك العجم كان معروفًا ببعد الغوْر، ويقظة الفطنة، وحسن السياسة، وكان إذا أراد محاربة ملك من الملوك وجَّه إليه من يبحث عن أخباره وأخبار رعيته قبل أن يُظْهر محاربته … فكان يقول لعيونه: انظروا (١) هل ترد على الملك أخبار رعيته على حقائقها، أم يخدعه عنها المُهْدي ذلك إليه. (٢) وانظروا إلى الغنيّ في أي صنف هو من رعيته. أفيمن اشتد أنفُه وقل شرهه أم فيمن قلَّ أنَفُه واشتد شرهه؟ (٣) وانظروا في أي صنف رعيته القُوَّام بأمره، أمِن مَنْ نظر ليومه وغده أم شغله يومه عن غده؟ فإن قيل له: لا يُخدع عن أخباره، والغني فيمن قل شرهه واشتد أنفه، والقوام بأمره من نظر ليومه وغده. قال: اشتغلوا عنه بغيره. وإن قيل له ضد ذلك. قال: نارٌ كامنة تنتظر موقدًا، وأضغانٌ مزمَّلة تنتظر مخرجًا، اقصدوا له.

*****

أخذ الغرب يتقدم شيئًا فشيئًا، والشرق واقف على ما كان عليه منذ الحروب الصليبية، بل تراجع إلى الوراء شيئًا فشيئًا بفساد حكامه وانتشار الجهل والفقر بين أبنائه

*****

للحرب أسباب عدة يستطيع أن يحصيها السياسي والاقتصادي، ولكني أرى أن من أهم أسبابها المسلمين.

ذلك أنهم أصبحوا في العصر الحديث «غنيمة أوروبا» تتقسمهم وتتوزعهم، ويُرضي بعضهم بعضًا على حسابهم

*****

كبر سبب لذلك في نظري أن الحياة فن، والسرور كسائر شئون الحياة فن؛ فمن عرف كيف ينتفع بالفن استغله واستفاد منه وحظِي به، ومن لم يعرفه لم يعرف أن يستغله وشقي به.

أول درس يجب أن يتعلم في فن السرور «قوة الاحتمال»، فأكبر أسباب الشقاء رخاوة النفس وانزعاجها العظيم للشيء الحقير؛ فما إن يصاب المرء بالتافه من الأمر حتى تراه حَرِجَ الصدر، لهيف القلب، كاسف الوجه، ناكس البصر، تتناجى الهموم في صدره، وتقض مضجعه، وتؤرق جفنه، وهي وأكثر منها إذا حدثت لمن هو أقوى احتمالًا، لم يلق لها بالًا، ولم تحرك منه نفسًا، ونام ملء جفونه رضيَّ البال فارغ الصدر

*****

وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري: «خذ الناس بالعربية، فإنه يزيد في العقل ويثبت المروءة»، وسئل آخر عن المروءة فقال: «أَلَّا تفعل في السر ما تستحيي منه في العلانية». وقال عبد الله بن عمر: «إنَّا معشر قريش لا نعد الحلم والجود سؤددًا، ونعد العفاف وإصلاح المال مروءة»، وروى العتبي عن أبيه أنه قال: «لا تتم مروءة الرجل إلا بخمس: أن يكون عالمًا صادقًا عاقلًا ذا بيان مستغنيًا عن الناس».


فيض الخاطر (الجزء الثالث)

تاريخ الصدور 1942

العلم وتأسيس الحياة على العلم» هو المبدأ الذي يجب أن يكون شعار الأمم التي تريد النهوض، وهو المفتاح الذي نفتح به أبواب الحياة، وهو المصباح الذي نبصر في ضوئه كل عيوب الحاضر.

*****

إن طغيان العلم على الروح والعقل على القلب هو وجه الضعف في المدنية الحديثة، ولا أمل في صلاحها إلا بتعديل عناصرها وحياة قلبها، إذ ذاك تنظر إلى الإنسانية لا إلى القومية، وإلى العدل والحق لا إلى الجنس، وإلى خير العالم كله لا إلى خير جزء منه، وهذا اللون هو لون المدنية المنتظر.

ولعل هذه الحرب بويلاتها تسلم إلى هذه النتيجة، فيعدل الأساس، ويعرف العلم حدوده والقلب حدوده، ويحيا الدين كما حيى العلم، وتزدهر الروح كما ازدهر العقل، ويتسلم زمام الأمم أقواها قلبًا وأحياها ضميرًا، لا أشدها دعابة وأكثرها تهويشًا.

*****

ورأى أن النقد في مصر لا يستساغ ولا يباح، والناقد معرض لأنواع من الاضطهاد والعذاب.

****

أن هذه الكوارث الإنسانية ليست إلا نتيجة لتعفن النظم الحاضرة، وبناء نظم أرقى لإنتاج إنسان أسمى، وما العلم والنظم والحكومات إلا أدوات لرقي الإنسان ومظاهر لحالته الاجتماعية، يرقى فيرقيها، وترقى فترقيه،

*****

قرأت في «فتاوى ابن تيمية» فوجدت فيها من الفوائد التاريخية ما لم أجده في كتب التاريخ نفسها.

*****

فمن المحال أن تعيش أمة على الأدب القديم وحده، أو على أدب العصور الوسطى فقط، وإلا كانت كالتاجر يعيش على تصفح دفاتره القديمة فحسب، وهذا علامة الإفلاس.

****

لا يزال الإسلام منيعًا ما اشتد السلطان، وليست شدة السلطان قتلًا بالسيف، ولا ضربًا بالسوط، ولكن قضاء بالحق، وأخذ بالعدل

سعيد بن سويد

*****

أعتقد كل الاعتقاد أن نظرة الغرب إلى الشرق

أن الشرق يجب أن يكون ضعيفًا حتى يسهل استغلاله، وجاهلًا حتى لا يعرف حقوقه، ومنهمكًا في شهواته حتى لا يفيق إلى نفسه،

أطلب أن يتناسى قادة كل أمة الخلافات الشخصية بينهم، ويجتمعوا ويتشاوروا في مستقبلهم، ويضعوا الخطط التي يكسبون بها من ظروفهم الحاضرة، فليس يكفي تدبير الغذاء وضبط الأسعار، إنما لا بد من حصر ما نشكو منه


فيض الخاطر (الجزء الرابع)

تاريخ الصدور 1943

أن النظرة الاقتصادية وحدها أدت إلى حياة جافة بائسه

*****

قصة

شابًّا قص على سيدة برنامجه في يومه، فقال: «إني إذا استيقظت صباحًا أذاكر «أجرومية» اللغة البرتغالية في أثناء حلقي ذقني، ثم أقرأ ساعة في اللغة الإسبانية قبل إفطاري، فإذا أفطرت ترددت بين القراءة والكتابة إلى الغداء.».

واستمر يقص عليها كيف يقضي نهاره وجزءًا من ليله بين قراءة وكتابة وأكل وحديث وألعاب رياضية إلى أن ينام؛ وهكذا دواليك.

أنصتت السيدة إلى حديث الشاب حتى أتمه، وصمتت برهة ثم قالت: هذا كله حسن يا صديقي، ولكن قل لي: متى تفكر؟

وكان صمت، وكانت حيرة في الجواب.

*****

القارئ الخالق هو الذي يقرأ الصفحة أو الجملة فيولدها، ويشعر أنه تفتحت له منها آفاق للتفكير كأنه يطل منها على العالم، يدرك وجوه الشبه بين الأفكار ووجوه الخلاف، يدرك وجوه الفروق الدقيقة بين ما يظنه الناس متشابهًا، ووجوه الشبه الدقيقة فيما يظنه الناس متخالفًا.

القارئ الصادق يأبى أن يجعل عقله مستودعًا للأشياء المتناقضة، ثم يتركها كما هي متناقضة؛ إنما يعمل فكره ليكون مما في عقله وحدة متجانسة، بعد أن يطرد منه ما لا ينسجم مع هذه الوحدة، يصفف أفكاره في نظام كما يصفف التاجر اللبق سلعته، ويستبعد منها الزيف كما يستبعده التاجر الأمين.

القارئ الناقد هو الذي إذا قرأ فهم، فإذا فهم قوَّم، فإذا قوَّم احتفظ بالصحيح واستبعد الزائف، فإذا احتفظ بالصحيح فكر في العلاقة بينه وبين ما سبق له ادخاره في ذهنه، ثم كوَّن من ذلك كله وحدة متجانسة ينظر من خلالها إلى العالم، ويصدر بها حكمه على الأشياء.

*****

ما للعلم غاية يدركها الراغب، ولا نهاية يقف عندها الطالب، هو أكثر من أن يُحصر وأوسع، من أن يُجمع

أسامة بن منقذ

****

الالحاد ما بعد الحرب

وتوقع متنبئون آخرون من الكُتَّاب عكس ذلك تمامًا.

قالوا: إن هذا التخريب في العالم الذي لا حد له، والضحايا بالملايين، والويلات تصب على المحاربين وغير المحاربين، والأيتام الذين فرق الموت بينهم وبين آبائهم، والمصائب التي لا يحصيها عد، ولا تقف عند شكل دون شكل، كل هذه ستثير الشكوك في نفوس الناس فيصرخون من أعماق نفوسهم: «أين رحمة الله؟» وأين حبه لخلقه؟ وأين الحكم العادل الذي يحكم به عباده؟

ستهز هذه الأمثلة وأمثالها نفوس الناس فينكرون عقلًا مدبرًا، وتقدمًا مستمرًا، وحاكمًا يُوجه العالم لغاية، وستبعث في النفوس الشك الذي يُسلم إلى الإلحاد، وسيزيدون إمعانًا في المادية، وسينصرف الجيل الجديد من الشبان

ان منشأ الغلط في تصور الله على هذا النحو هو تشخيصه، وإسباغ صفات عليه تشبه صفاتنا، ونسبة عواطف إليه تشبه عواطفنا: من حب وكره وفرح وحزن ورحمة وانتقام، نعم قد وردت هذه الألفاظ في كتب الأديان، ولكن ألجأها إلى ذلك قصور لغة الإنسان وعجزها عجزًا تامًّا عن أن تصف ما لا يشبه الإنسان ومن ليس كمثله شيء، فالله ليس مشخصًا ولا هو إنسان، ولا له عواطف الإنسان، ولا يُحب ويكره بالمعاني التي يشعر بها الإنسان، فإذا قلنا: إنه يسمع ويرى فلسنا نعني أن له حواس كحواسنا؛ وإذا قلنا: يُحب ويكره، ويرحم وينقم، فلسنا نُريد أنه يعتريه انفعال كانفعالنا، ولكن هي اللغة العاجزة، واللغة المحدودة بحدود الإنسان.

وبعدُ؛ فلماذا لا تكون النبوءة أن هذه الحرب بويلاتها تعمم في الإنسان هذه الآراء، فيعدل من نفسه حسب القوانين العامة التي بثها الله في العالم حتى يلائم بينه وبينها، وينسجم معها، ويشعر بالعقوبة الطبيعية فيتجنب إحداث الجرائم، ويُغير ما بنفسه من غرور بالقوة، واعتماد على المادة بعد أن تبين الفشل في الاعتماد عليها؛ ويُصحح تصوره لله حسبما أشرنا، فيرى أن الموت إن كان يبعث الحياة فهو خير، وأن العقوبة إذا أصلحت الجاني فهي رحمة وهي حب.

*****

الشهرة حظ كحظ المال، غني جاهل، وفقير عاقل، وما ينهال انهيالًا على من لا يستحق، وقد لا نعرف السبب، ومحروم بائس ولديه كل أسباب الغنى؛ كذلك الشهرة، مشهور لا نعرف لشهرته علة، ومغمور يستحق كل شهرة

*****

قصة قرأتها اليوم، وهي أن عالمًا كان يفخر أمام فيلسوف هندي بما تقدمَه العالم وما اخترعه من مخترعات؛ فقال ذلك الحكيم: نعم أيها العالم، إنكم استطعتم أن تجولوا في السماء كالطير، وأن تسبحوا تحت الماء كالسمك، ولكنكم لم تستطيعوا أن تسيروا على وجه الأرض في أمن وطمأنينة كالحيوان.

فلو قلل من شوط العقل في برامج المدرسة وأخذ شيء من نشاطه الكثير في تربية القلب لكان العالم أسعد، وهذا ما نُشاهده كل يوم، فمتعلم لا قلب له شر على الأمة ألف مرة من جاهل له قلب


فيض الخاطر (الجزء الخامس)

تاريخ الصدور 1944

توالي الاستبداد والظلم على العالم الإسلامي من القرن الرابع الهجري إلا في فترات قصيرة، فالعسف ومصادرة الأموال، وكسب المال من طريق الملق والمدح، وإشباع شهوة الحكام، كل هذا هو ملخص تاريخ المسلمين، وكل هذا يضعف الشخصية، ويجعلها شخصية ذليلة مقلدة لا مبتكرة.

*****

قد غزا الغرب الشرق مسلحًا بالعلم الواسع في شتى نواحيه، في السياسة والاجتماع والاقتصاد، وبنفسية الشعوب وجغرافية العالم وتاريخه، ومسلحًا بالأدوات الحديثة في الحروب برًا وبحرًا، وبالأساليب الحربية على آخر طراز، ومسلحًا برؤوس الأموال تمده بها الحكومات والشركات، ومسلحًا برجال العلم ينزلون مع الجيش يدرسون وينقبون عن الزراعة والصناعة والحضارة القديمة والفن وما إلى ذلك.

وحيثما غزا الغرب قطرًا فسرعان ما يبث فيه أسباب حضارته من سكك حديدية تمد، وبريد ينظم، وزراعة تصلح، ومالية تضبط، وهو المشرف على كل ذلك يسخرها كما يشاء حسبما يشاء؛ ولا يكتفي بنشر حضارته المادية بل ينشر حضارته العلمية والأدبية، فالمدارس الوطنية تدرس لغته وآدابه وفنونه وعلومه، وهذه تزاحم الثقافة القديمة للبلاد شيئًا فشيئًا، والعادات الغربية تكتسح العادات القديمة، وعلى الإجمال تنبث المدنية الغربية في البلاد المفتوحة بخيرها وشرها


فيض الخاطر (الجزء السادس)

تاريخ الصدور 1946

عندي أن السبب في انتشار الحزن والتشاؤم يرجع إلى الحياة الاجتماعية ونظمها وتاريخها؛ فالشرق منذ مئات السنين رازح تحت أثقال ظلم الحكام، سلبٌ ونهب واستئثار بطيبات العيش، وإسراف في الترف يقابله إغراق في فقر الشعب، وسطوةٌ تقتل النفس وتحملها على المذلة والملق، ومناظر مخزية من ضياع عدلٍ بالرشوة والمحاباة وتقديم غير الكفء وإهمال الكفء، وتسلُّط على الفلاحين والطبقات العاملة، وأخذ كسبهم لتزيين قصور أغنيائهم، وتركهم في بؤسهم لا يكادون يجدون ما يأكلون.

*****

لقد ورثنا إرثًا بغيضًا من العصور الماضية، وهو ترك الحكام وشأنهم يفعلون ما يشاءون وحسابهم عند ربهم؛ وهو أثرٌ من آثار العقيدة بأن الحُكْم فريضة القدر، إن شاء رحمَ الشعب فهيَّأ له حكومة عادلة، وإن شاء قهره فهيَّأ له حكومة ظالمة، والقدر يفعل ما يشاء بلا حساب. وكلُّ ما يُعرف من قوانين القدر أنه إذا كان الشعب صالحًا يؤدِّي الفرائض الدينية كما أُمِرَ هيَّأ الله له حكومة عادلة، وأما إذا ارتكب الخطايا عوقب بحكومة ظالمة

*****

م تعد الصومعة ولا الدير موطن البطولة، إنما موطنها ميدان العمل؛ فمكافحة الملاريا أفضل عند الله من ألف صلاة تزيد عن الفرض، وتنوير الشعب بحقوقه وواجباته خيرٌ من الصوم الدائم، وتحسين حال الصناع والعمال والفلاح أقرب إلى الله من الرهبنة!!

وأصبحنا نفهم الزكاة بمعنى أوسع، فليست الزكاة واجبةً على الأغنياء في أموالهم فقط، وإنما هي واجبة أيضًا على العالِم في علمه والفنان في فنه، والقادر في قدرته، والموهوب في مواهبه، كلٌّ عليه زكاة يؤديها لخدمة المجتمع.

وأولُ واجبٍ يطالَب به الناس كافةً إقامةُ الحكومة الصالحة العادلة التي ترعى حقوق الشعب.

تسألني: وكيف يستطيع الشعب القيام بذلك؟ أقول: إن الحكومة الظالمة لا تستطيع البقاء في منصبها يومًا واحدًا إذا صرخ الشعب كله صرخة واحدة صاعدة من قلبٍ يشعر بالظلم؛ صرخها الكناس في الشارع، والعامل في المعمل، والصحفي في صحيفته، والنائب في برلمانه.

قد يُرزق الشعب الجاهل الغافل بحاكم عادل، ولكن شأنه في ذلك شأن الرجل غير المستحق كسب ورقةً في «اليانصيب»، إنما الضمان الحقيقي للعدالة المستمرة هي تنبه الشعب ويقظته ورقابته وشجاعته.

*****

ما هو المطلوب من الادباء العرب

إن مجتمعاتنا مملوءة بالشرور الاجتماعية من عيشة أكثر الناس عيشة تافهة سخيفة، وليس الناس هم المسئولين عن سوء وضعهم وسوء حياتهم بقدر ما هو مسئول عنها أولو أمرهم، والقابضون على زمام التصرف في شئونهم، فلاح بائس، وصانع مسكين، وزوجية تَعِسة، وفقر ومرض، واستعدادات ضائعة، وكفايات لا تجد من يوجهها، وأطفال لا تجد من يربيها، وأغلبية لا تجد ضرورات العيش، ونفوس مستعدة لا تجد من يرقيها، وعقول صالحة لا تجد من يفتِّحها، ومئات ومئات أمثال هذه المآسي تنتظر من الأدب أن يعالجها ويشرحها ويُحللها، ولا يقتصر على إجادة وصف ما هو كائن بل يرسم ما ينبغي أن يكون في روايته التي يضعها، وشعره الذي يصوغه، وقَصصه الذي يحكيه، ومقالاته الفنية التي يحررها، ولا يكون ذلك حتى يخرج الأديب عن عزلته وينغمس في الحياة الواقعية ويكتوي بنارها. وعلى الجملة يصبح عندنا أدباء هم قادة الرأي العام يبصِّرونه بموقفه ويُطلعونه على مزاياه وعيوبه، ويحركونه لغرض نبيل يتسامى إليه — بل هم إذ ذاك يكونون خيرًا من المصلحين الاجتماعيين العلميِّين؛ لأن هؤلاء علماء يبحثون عن الحقائق، والأدباء فوق ذلك يُلهبون بفنهم العواطف، ففائدتهم أقوى وأثرهم أبلغ بما يبعثون من حرارة الفن، وتهييج النفوس للخلاص من الشر والوصول السريع إلى الخير. إنهم يثيرون عاطفة الكراهية للموجود، وعاطفة الطموح للكمال، وهم بذلك يُضيئون للناس حياتهم التعسة التي يعيشونها، وينيرون السبيل لحياة أسمى يعملون للوصول إليها.

*****

نحو سبعين مليونًا يتكلمون العربية في الأقطار الشرقية، فمعنى هذا أن تسعةً وستين مليونًا فأكثر من الشعوب العربية لا يتغذون غذاءً عقليًّا بالكتب والمجلات، ولا يصل إليهم شيء من الأدب في قليل ولا كثير.

وهذه النتيجة مرعبة مفزعة، وهي المقياس الحقيقي للشعوب، وليس هناك أمة حية على وجه الأرض الآن تشقى نصف هذا الشقاء ولا رُبعه؛ فالروايات والكتب الأدبية المناسبة تصل إلى آذان الفلاح في حقله، والصانع في مصنعه.

(ملاحظة تاريخ صدور الكتاب عام 1946)

*****

والحياة فن، وفن يُتعلم، ولخيرٌ للإنسان أن يَجد في وضع الأزهار والرياحين والحب في حياته من أن يجدَّ في تكديس المال في جيبه أو في مصرفه. ما الحياة إذا وُجِّهت كل الجهود فيها لجمع المال، ولم يوجَّه أيُّ جهد لترقية جانب الجمال والرحمة والحب فيها؟

*****

تعاقب الظلم على الشعوب من زمنٍ قديم حتى سلبها حريتها، وهل تبسم النفس إلا للحرية، وهل تنقبض إلا من الاستبداد؟!

*****

الظلم الهرمي

هوليس وليد اليوم ولا أمس، ولكنه وليد قرونٍ وقرون من عهد أن كان مثل هذا الكناس يجر أحجار الأهرام ويرفعها، وعليه مثل هذا الملاحظ يلسعه بالعصا إذا تهاون في عمله أو استراح من كده، وقد تمثل في القرون الوسطى في الأيوبيين والمماليك يوم صوَّروا ما كانوا يلقون من عنت في الحكايات المنسوبة إلى ظلم قراقوش وأمثاله. وتمثل في العصور الحديثة بما كان يفعله المديرون الأتراك في المراكز والقرى، فهم يظلمون ويستبدون بالمأمورين، ويثأر هؤلاء المأمورون لأنفسهم من العُمَد، والعُمَد من مشايخ البلد، ومشايخ البلد من الأهالي. صورة واحدة ورواية واحدة تُمثَّل في أعلى طبقة، ثم يعاد تمثيلها طبقةً بعد طبقة إلى أن تصل إلى مثل هذا العامل وهذا الكناس

ن الدرس الصحيح الذي يجب أن يتعلمه كل فرد في الأمة - من الطفل في المدرسة إلى الموظف في المصلحة، إلى الفلاح في الحقل، إلى العامل، في المصنع إلى الوزير في الوزارة، إلى رئيس الوزراء في الدولة — هو أن يكون الإنسان نافعًا للحياة، خادمًا بما يستطيع للأمة، محترِمًا لأخيه الإنسان. فلا وضيع ولا شريف، ولا رفيع ولا حقير، وأن يعتقد ويعمل على أن كل الناس سواء في حقوق الإنسانية

لن تفلح أمةٌ حتى يتغلغل في أعماق نفسها أن هذا الكناس وأكبر رئيسٍ سواء في الحقوق والواجبات.

*****

إن خير دولة أو خير حكومة هي التي تضع كل فرد من أفراد الأمة في خير مكان يليق به حسب استعداده، ويستطيع أن يُظهر فيه مواهبه

أفلاطون


فيض الخاطر (الجزء السابع)

تاريخ الصدور 1947

ن أهم أسسه حفظ التوازن بين القوى المتنافرة في الأمة، وتوجيهها كلها للمصلحة العامة، ومن أهم أسسه إشعار الأمة بقوة حكومتها وثبات مركزها وشدتها إذا اقتضى الحال، وبتّها السريع لا ترددها، وإلا سقطت من أعين الشعب وسادت فيه الفوضى. ومن أهم أسسه العناية بآمال الأمة الأدبية كالعناية بمنافعها المادية، ثم الحذر كل الحذر من الزعماء الطامعين في الحكم، الذين يلونون شهوتهم بلون المصلحة العامة، فيقسمون الأمة ويفرقونها، فتذهب قوتها وتتحول إلى قوى متشادة يذهب بعضها بعضًا، ينصرفون إلى وضع العراقيل للحكومة وتنصرف الحكومة لإبطال دسائسهم، ثم تضيع مصالح الأمة بين هؤلاء وهؤلاء

*****

فإن كنت عاقلًا فوفر على نفسك الجدل فيما لا طائل تحته، واقتصد من وقتك وثوران نفسك، فإن من أهم الأسباب في خلق الأرض واسعة والسماء فسيحة أن نهرب حيث نشاء من الجدل العقيم.


فيض الخاطر (الجزء الثامن)

تاريخ الصدور1950

إن الحياة الحقة هي ما تجاوبت مع العناصر المكونة للإنسان، وللإنسان جسم يحتاج إلى مادة تغذيه، وفيه عقل يحتاج إلى تفكير منطقي في حقائق الأشياء، وفيه فوق ذلك كله عاطفة تحتاج إلى جمال يغذيها وينميها ويرقيها، ولئن كانت الحياة المادية والحياة العقلية جافة باردة، فالحياة العاطفية ناعمة دافئة تبعث السرور والبهجة، والغبطة والسعادة

*****

مفهوم الانسان البطل والقدوة

أن يكون مصدر خير كبير لقومه، فإن اتسعت بطولته وزادت قيمته كان مصدر خير للإنسانية كلها، يستوي في ذلك أن يكون نوع بطولته سياسيًّا كتحرير أمته، أو اقتصاديًّا كإغنائها، أو علميًّا كأن ينبغ في علم من العلوم نبوغًا ظاهرًا أو يتغلب على داء يفتك بالإنسانية، أو فنانًا كبيرًا يسعد الناس بفنه من شعر أو أدب أو موسيقى أو تصوير، أو فيلسوفًا كبيرًا يكشف من حقائق الكون ما كان مجهولًا، أو نحو ذلك، فكل هذه الأشياء منابع للبطولة.

وأن ألا يأتي من الأعمال في حياته ما يفسد عظمته أو بطولته، فالنابغة إذا كان وطنيًّا كبيرًا، أو اقتصاديًّا كبيرًا، أو عالمًا كبيرًا، أو فيلسوفًا كبيرًا، ثم أتى بما يدل على خسته أو نذالته لم يصح أن يسمى بطلًا، و«بيكون» الذي قيل إنه: «أكبر فيلسوف وأخس إنسان» يصح أن يسمى فيلسوفًا، وأن يسمى نابغة، ولكنه لا يصح أن يسمى بطلًا؛ لأنه فقد منزلة القدوة وفقد الاحترام والإجلال، ولا بد للبطل أن يكون مثلًا يُحتذى ونورًا به يُهتدى

****

لقد رأيت عيب قومي: إنهم ينظرون إلى ماضيهم أكثر مما ينظرون إلى حاضرهم

*****

كان الرحَّال المسعودي وابن جبير وابن بطوطة وأشباههم يتنقلون في المملكة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها كأنهم يتنقلون في وطنهم لا يحسون شيئًا من الصعوبة إلا من ناحية اللغة فإذا سهلت اللغة سهل كل شيء

*****

من مزايا الحضارة الغربية: الاعتماد في كل مرافق الحياة على العلم: في التربية، في الزراعة، في الصناعة، في السياسة، في الإصلاح … إلخ … لا على الخرافات والأوهام والتقاليد، وهذا جميل، ومن مزاياها: الجد في اكتشاف قوانين الطبيعة واستخدامها في الصناعات ونحوها، ومن مزاياها: تفتح العقل ومرونته واستعداده لقبول كل ما يرى خيره، ونبذ كل ما يرى شره.

فمدنية الغرب غير مؤسسة على دين، وإنما هي مؤسسة على العلم والتجربة والاختبار ومحدودة بحدود المادة، فليس هناك مانع من أخذ المدنية الغربية المادية، وصبغها صبغة روحانية إسلامية

*****

فالمدنية التي تؤسس على المادة وحدها، كالفرد يعتني بجسمه فقط، وكذلك المدنية المؤسسة على المادة والعقل وحدهما، إنها تكون مدنية جافة؛ كالمنظر الجميل الجامد الذي لا روح فيه؛ ولعل هذا هو باب النقص في المدنية الحديثة؛ إذ جعلها ترقى ماديًّا فتنتج من الصناعات ما تنتج، وترقى عقليًّا فتنتج من العلوم والمعارف ما تنتج، ولكنها شقية معذبة بفقدان الروح، وإلا فما هذا العذاب في احتمال ويلات حرب، وفزع من وقوع حرب؟ إن النوازع إذا اضطربت صدر عنها انفعالات مضطربة.

****

إن المقادير تيسر أحيانًا ما لا تيسره التدابير

****

حكون أن المهدي أراد أن يغزو أهل الشام لخطأ ارتكبوه، فقال له «ابن خريم»: يا أمير المؤمنين، عليك بالعفو والتجاوز عن المسيء، فلأن تطيعك العرب طاعة محبة؛ خير لك من أن تطيعك طاعة خوف

*****

الغرب لا يؤمن إلا بالقوة — إذ دلته التجربة تلو التجربة على أن كل أمة من أمم العالم الإسلامي تكتفي بالحجج العقلية لا يسمع لقولها، ولا يلتفت لمطلبها؛ حتى إذا لجأت إلى القوة دعيت للتفاهم

للقوة

مظاهر متعددة وأساليب مختلفة، فنشر العدل في البلاد قوة كقوة السلاح، والاتحاد بين الزعماء وطبقات الشعوب قوة كقوة الدبابات، والإلحاح في طلب الحقوق كاملة غير منقوصة دون المساومة قوة كقوة الطائرات والغواصات، وهكذا كل ضرب من ضروب نشر الحكم الصالح في البلاد، واتحاد الزعماء، ومراعاة المصلحة العامة لا الخاصة، قوة معنوية لا تقل شأنًا عن جميع ضروب القوة المادية.

*****

إن من أهم وظائف الأدب نقل المشاعر ونقل الأفكار؛ فالأديب لا يغني لنفسه، ولكنه يغني للناس، فإذا سجل كل شطحاته كان مغنيًا لنفسه، وباعد بينه وبين الناس، وكان خيرًا له ألا ينشر ما يكتب، وأن يغني في حجرته الخاصة.

*****

المدنية الغربية والشرق الاوسط

والمدنية الحديثة الآن تظهر العطف على الشرق، وتدعي أنه يؤلمها أن تراه متأخرًا، وتعلن أنها مستعدة للأخذ بيده والنهوض به، وأنها على استعداد أن تمده بالإخصائيين من رجال الزراعة والاقتصاد والمال؛ ليبحثوا حالته وينتشلوه من ورطته، ويعينوه بالأموال إذا اقتضى الحال؛ ولكن في الوقت نفسه، يرى أهل هذه المدنية ما تفعل فرنسا في المغرب من خنق للحرية، وحجر على التعليم، ومقاومة كل حركة وطنية بالقنابل والمدافع والطيارات، ويؤيدون ما يفعل الصهيونيون بالمسلمين من اغتصاب ديارهم، وتشريد مئات الألوف من سكانها، وتركهم يتضورون جوعًا، ويتحملون أشد أنواع العذاب؛ من قسوة البرد، ولهيب الحر، ثم لا تأخذهم رحمة، ولا يتحرك قلبهم لعطف، فكيف يعطفون عليهم في الأولى، ويعلنون أنهم يضعون الخطط للأخذ بيدهم، ومد يد المساعدة لهم، وينكلون بهم في الأخرى حتى كأنهم يريدون القضاء عليهم، ومحوهم من على وجه الأرض؟! أليست هذه متناقضات؟!

الحق أنهم في سلوكهم في الشرق يعيثون مع الذئب ويبكون مع الراعي، ويتظاهرون بالعطف ويضمرون البغض، ويعلنون المعونة ويبطنون الاستغلال، ولم يتحركوا حركتهم الأخيرة بدعوى الأخذ بيد الشعوب المتأخرة؛ إلا خوفًا من روسيا، وخوفًا من أن يؤدي سوء الحالة الاجتماعية في الشرق إلى إفساح المجال للمذهب الشيوعي، ولولا خوفهم على أنفسهم ما فكروا في الشرق إلا لاستغلاله ولا أمدوه بشيء إلا ليأخذوا منه أكثر مما أعطوا، أما الإنسانية أو الإخاء أو العطف على البائس الفقير أو تعليم العالمِ الجاهلَ أو مساعدة القويِّ الضعيفَ أو نحو ذلك من المعاني السامية؛ فآخر ما يمكن أن تفكر فيه المدنية الحديثة.

وتقرر هيئة الأمم مبادئ سامية في حقوق الإنسان ومساعدة كل أمة تريد أن تحكم نفسها، فإذا هبت أمة شرقية للمطالبة بتطبيق هذه القواعد سدت الهيئة آذانها وكأنها لم تصدر قرارًا ولم تضع مبادئ، بل إن الفعل الواحد قد تفعله روسيا فتقوم عليها الأمم الديموقراطية معنفة مشهرة، ثم تقدم على مثله أمة ديموقراطية، فلا نقد، ولا تعنيف، ولا تشهير، وكأن القضية الواحدة يحكم فيها بالنظر إلى من ارتكبها، فإن كان مرتكبها أسود كانت جريمة كبيرة، وإن كان أبيض لم تعدّ جريمة.

****

فلما انحط شأن المسلمين — بما توالى عليهم من ظلم الحكام وفساد الحكم، وتملك زمام المسلمين من ليسوا مسلمين إلا بالاسم، وطال عليهم الأمد في ذلك — فقدوا عزتهم، وفقدوا تقويم حاضرهم، وأصبحوا لا يملكون إلا افتخارًا بالماضي وأملًا مشوهًا في الحياة الأخرى، واستخدم هؤلاء الحكام الظلمة علماء الدين في أن يبثوا بين العامةِ الزهادةَ في الحاضر، واحتقار الدنيا وشئونها والهرب منها، وتوجيه كل رغباتهم وآمالهم وسعادتهم إلى الحياة الأخرى، ولتكن الدنيا بعد ذلك ما تكون، لا بأس من قضائها في شقاء أو فقر أو بؤس، فهي قصيرة الأمد، وكانت هذه كلها دعوة ماكرة من ظلمة الحكام؛ ليستأثروا بالسلطان والجاه والغني والثروة، وغفلة من العلماء الذين تحمسوا لهذه الدعوة في سذاجة، أو خداعًا بعرض من الدنيا قليل.

*****

وقد يقال: إن مزاج الشرق تركيبي، ومزاج الغرب تحليلي، فازدهرت الحكمة في الشرق؛ حيث المزاج التركيبي، وازدهرت الفلسفة في الغرب؛ حيث المزاج التحليلي؛ ولكن التهجم في تعيين خصائص للأجناس أو للأقطار في منتهى الخطورة، ويجب أن يعالج بكثير من الحذر.


فيض الخاطر (الجزء التاسع)

تاريخ صدور الكتاب 1954

****

إني كنت أقول دائمًا: إن الرجل الطيب عرضة للشر في هذا العالم

برنارد  شو قالها عندم علم بقتل غاندي

***

إن العالم لا يصح إلا إذا تعادلت فيه يده وقلبه وعقله، فإذا اختل توازنه فيها زاد شقاؤه، وليس له علاج إلا أن يبحث عن منهج تتعادل به هذه القوى الثلاث ثم يسير عليه.

*****

الأديب مسئول عن مجتمعه، أكثر من مسئولية الحاكم؛ لأن الأديب أقدر على الاتصال بنفس الشعب، وأقدر على تحريك مشاعره، وهو يحس بمقدار خدمته للشعب، وإحساسه بالمسئولية أمام الشعب.

لو استعرضنا الأدباء العرب الأقدمين لرأينا قليلًا منهم من تحمل المسئولية، وهل تحمَّلها أبو نواس وهو الغارق في شهوته، وأبو تمام والبحتري، وهما يشعران أكثر ما يكون للملوك والأمراء، أو المتنبي وهو يجري وراء مال أو ضيعة، أو ابن سكّرة والحجاج، وهما ماجنان لا تهمهما إلا النكتة، يضحكان بها الناس، أو الشيخ علي الليثي، والسيد علي أبو النصر وهما يسيران في فلك الخديوي إسماعيل حيثما سار، أو غيرهم أو غيرهم


فيض الخاطر (الجزء العاشر)

صدر هذا الكتاب عام ١٩٥٦