جوردانو برونو

جوردانو برونو Giordano Bruno ، أو المعروف أيضاً بنولانو أو برونو دي نولا (1548 في نولا ـ 17 فبراير 1600 في روما) كـان دارس ديني و فيلسوف إيطالي حكم علية بالهرطقة من الكنيسة الكاثولوكية.

جوردانو برونو
Giordano Bruno Campo dei Fiori.jpg
وُلِدَ1548
نولا, كامپانيا، مملكة ناپولي (أثناء السيطرة الاسپانية)
توفي17 فبراير, 1600
روما، الدويلات البابوية، إيطاليا الحالية
العصرفلسفة النهضة
المنطقةفلسفة غربية
المدرسةفلسفة، الكون، والذاكرة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حياته

 
تصوير منحوت في الخشب لأحد أجهزة التذكير التي ابتكرها جوردانو برونو وهي أقل تعقيداً

ولد في مدينة نولا بمملكة نابولي في 1548 عند ولادتة اعطي اسم فيليبو برونو والده (جوفاني برونو) محارب عسكري ، سافر إلى نابولي في سن الحادي عشرة ليدرس تريفيوم و في سن الخامسة عشرة انضم إلى الرهبان الدومنيكان ولـُقـِّب جيوردانو هناك.


الرهبنة

دخل دير الدومنيكان في نابلي. وفيه وجد مكتبة عظيمة غنية، لا بكتب اللاهوت فحسب، بل كذلك بالكتب اليونانية واللاتينية القديمة، عن أفلاطون وأرسطو، بل حتى عن مؤلفين عرب وعبرانيين كانت قد ترجمت إلى اللاتينية. وتعلقت طبيعته الشاعرية على الفرو بالأساطير الوثنية التي رسخت في فكره لوقت طويل بعد تبخر اللاهوت المسيحي. وافتتن بمذهب ديمقريتس الذي تابعه أبيقور، وبسطه كوبرنيكس في صورة رائعة. وقرأ كتب المفكرين المسلمين ابن سينا وابن رشد، والفيلسوف اليهودي ابن جابيرول. وتسرب إلى نفسه شيء من التصوف العبراني، مختلطاً بأفكار ديونسيوس الزائفة وأفكار برناردينو تلزيو عن اتحاد الأضداد في الطبيعة وفي الله، كما تسرب إليه كذلك شيء من فكرة نيقولا من كوزا عن كون لا نهائي ليس له مركز أو محيط، تنفخ فيه الحياة روح واحدة. وأعجب بالتصوف الطبي الثائر عند باراسلسوس وبالرمزية الروحية، وبوسائل تقوية الذاكرة عند ريموندلي، وبفلسفة كورنيليوس أجريبا الغامضة. وعمل كل هذا على تشكيل برونو كما أشعل فيه النار البغض لأرسطو وللفلسفة النصرانية في العصور الوسطى (السكولاستية) ولتوماس أكويناس. ولكن برونو كان في دير الدومنيكان وتوماس أكويناس هو رائد الفكر عندهم.

ولم يكن بد من أن يزعج الراهب الشاب رؤساءه بالاعتراضات والأسئلة والنظريات. أضف إلى ذلك أن حماسة الجنس كانت تضطرم بين جنبيه، واعترف فيما بعد بأن كل ثلوج القوقاز ما كانت لتنقع غلته أو تطفئ شهوته، وأن ثمة علاقة دقيقة بين يقظة الجنس ويقظة العقل. وفي 1572 رسم كاهناً، ولكن الشكوك ظلت تثور بين جوانحه وتلهبه خفية. كيف يمكن أن يكون هناك ثلاثة في واحد هو الله سبحانه وتعالى؟ كيف يتسنى لكاهن مهما كانت مرتبته أن يحول الخبز والخمر إلى جسد يسوع المسيح ودمه؟ وبعد رسامته، عنفه رؤساؤه مرتين تعنيفاً رسمياً. وفي 1576، بعد أن قضى أحد عشر عاماً من الرهبنة، فر فجأة من الدير، وتوارى عن الأنظار لبعض الوقت في روما. وخلع رداء الرهبنة، وعاد إلى اسمه الذي عمد به، والتمس الأمان والتستر في الاشتغال بالتعليم في مدرسة للبنين في نولي بالقرب من جنوه. ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.


وهكذا بدأت ست عشرة سنة من التجوال، سرى فيها القلق والأرق في جسمه جنباً إلى جنب مع التردد والتذبذب في عقله. وبعد أربعة أشهر قضاها في نولي، انتقل إلى سافونا، ثم إلى تورين، وإلى البندقية ثم إلى بادوا. وعاد فارتدى ثانية ثوب الراهب الدومنيكاني ليحظى بكرم الوفادة في الأديار. ثم سار إلى برسكيا، وإلى برجامو، وعبر جبال الألب إلى شامبري حيث أستقبله وأطعمه دير الدومنيكان. ثم إلى ليون، ومنها إلى جنيف. وهناك في معقل الكلفنية جرد نفسه من ثوب الرهبنة مرة أخرى، وهناك قضى شهرين في هدوء لا يلتئم مع مزاجه، يكسب قوته بتصحيح المخطوطات والتجارب للطبع ومن بين هذه، كان نقده الخاص لمحاضرة ألقاها أحد رجال الدين الكلفنيين في جامعة جنيف. وأشار فيه برونو إلى عشرين خطأ في هذه المحاضرة. وألقى القبض على طابع النقد وحكم عليه بغرامة، أما برونو فاستدعي للمحاكمة أمام محكمة الكنيسة، فقدم اعتذاراً وصفحوا عنه. وتولاه اليأس والقنوط حين ألفى نفسه يهرب مكن شراك رقابة ليقع في براثن أخرى، فغادر جنيف وعاد إلى ليون ومنها إلى تولوز، حيث ظهر ظل عابر من التسامح في صراع الكاثوليك مع الهيجونوت، وفي تدفق اليهود المرتدين ارتداداً يسيراً من أسبانيا والبرتغال. وربما حدث أثناء إقامته (1581)، أن نشر فرانسوا سانكي في تولوز، رسالته الشكوكية "المعرفة الكريمة.... ليس ثمة شيء معروف"، وحاضر برونو لمدة ثمانية عشر شهراً في رسالة أرسطو "الروح". ولأسباب غير معروفة، وربما من أجل شهرة أوسع وأعظم، رحل برونو إلى باريس.

الحياة الفلسفية

وكان برونو قد أحرز شهرة، لا بوصفه فيلسوفاً فحسب، بل كذلك بوصفه خبيراً في فن تقوية الذاكرة. وأرسل هنري الثالث في طلبه واستولى على الأسرار السحرية من ذاكرة طيبة. وسر الملك من دروس برونو وعينه مدرساً في الكوليج دي فرانس. واحتمل برونو في هدوء لمدة عامين، ولكنه في 1582 نشر رواية هزلية (كوميدية) تحت عنوان "حامل المشعل" يهجو فيها هجواً لاذعاً، الرهبان والأساتذة والمتحذلقين... ولندع المقدمة تتحدث: سترون، في فوضى مشوشة، نتفاً عن النشالين، وألواناً من الزيف والخداع، ومغامرات الأوغاد، كما ترون الاشمئزاز الطريف.

والحلوى. المرة، والقرارات الحمقاء، والإيمان الخاطئ والآمال المشلولة، والصدقات الشحيحة.... والنساء القويات الشكيمة (الرجوليات) والرجال المخنثين.... وحب الذهب (المال) في كل مكان. ومن ثم الحميات الربعية (الراجعة)، والسرطانات الروحية، والأفكار الهزلية، والحماقات المتسلطة.... والمعرفة المتقدمة، والعمل المثمر، والصناعة الهادفة. وفي إيجاز، سترون في الرواية، أمناً تافهاً، وقدراً ضئيلاً من الجمال، ولن تروا شيئاً طيباً أو حسناً.

ووقع على الرواية: "برونو النولي، المتخرج في أكاديمية تسمى الإزعاج"(16). وفي مارس 1583 قصد إنجلترا وكان هنري الثالث أكثر استعداداً للتوصية به خيراً لدى الآخرين منه للاحتفاظ بخدماته لديه(17)، فزوده بخطابات يقدمه فيها للسفير الفرنسي في لندن، ميشيل دي كاستلنو، سيردي لاموفيسير، وهنا بدأت أسعد اللحظات في حياة برونو. حيث أقام في قصر السفير عامين يأكل ويشرب، متحرراً من أية نفقة أو ضرورة اقتصاديةأسعد اللحظات في حياة برونو. حيث أقام في قصر ، وهنا أيضاً كتب بعضاً من أهم مؤلفاته، كما وجد ملجأ من العواصف التي يثيرها خلقه وشخصيته، وكان يخفف عنه مناظراته ومجادلاته مع رجل متسامح عرك الدنيا، وعرف أنه من الأفضل ألا ينظر إلى الميتافيزيقا بعين الجد. وفي هذا البيت التقى برونو بسير فيليب سدني، وأرلي لبستر، وجون فلوريو، وإدموند سبنسر، وجبراييل هاريف وغيرهم من ألمع العقول في إنجلترا في عصر إليزابث. إن أحاديث برونو مع هؤلاء الرجال زودته بالأسس التي بنى عليها "معرض آرائه"، وحظي بمقابلة الملكة نفسها، وأمتدحها في عبارات أخذتها عليه محكمة التفتيش فيما بعد.


وفي 1583 طلب من جامعة أكسفورد أن أذن له في إلقاء المحاضرات في قاعاتها، ووصف بهذه المناسبة، مؤهلاته في لغة باعدت إلى الأبد بينه وبين وصفه بالتواضع(18)، وحصل على الترخيص، فتحدث عن خلود الروح، وعن "الكرة السماوية المكبرة إلى خمسة أمثالها" أي عن نظرية كوبرنيكس في الكواكب. وتحداه وضايقه بالأسئلة كثير من بينهم رئيس كلية لنكولن، كما يروي برونو بطريقته الخاصة:

هلا عرفت كيف استطاعوا أن يردوا على حججه (برونو)؟ وكيف أنه لخمسة عشرة مرة، وبخمسة عشرة قياساً منطلقاً، ضيق الخناق على "الدكتور" المسكين الذي صدروه، لهذه المناسبة الرهيبة، بوصفه رئيساً للأكاديمية، حتى وقف حائراً كعصفور في قفص؟ وهلا علمت بأية فظاظة وأية غلظة تصرف هذا الخنزير، وبالصبر والروح الإنسانية اللتين تذرع بهما من أثبت أنه حقاً مولود في نابلي وأنه نشأ في ظل سماء أكرم وأرحب؟ وهلا عرفت كيف أنهوا محاضراته العامة(19)؟ وأطلق برونو على أكسفورد فيما بعد اسم "أرملة التعليم الصحيح"، "مجموعة من الجهل المتحذلق العنيد والوقاحة، امتزجت بفظاظة خرقاء يمكن أن ينفذ معها صبر أيوب(20)".

ولكن فيلسوفنا لم يكن "أيوب". وكتب كتابة رائعة عن النجوم، ووجد من بين أهل الأرض أغبياء إلى حد لا يطاق. وأحس بأن عرضه الفلسفي لفلك كوبرنيكس كان خطوة طيبة في سبيل فهمه، وأنه كان "ناقداً لاذعاً(21)" لكل من رفضوا آراءه. ولو أن فلوريو ألفاه، بعد أن هدأ روعه "وديعاً لطيفاً(22)" وكان غروره امتحاناً لأصدقائه، مثل الريح في شراعه. وخلع على نفسه ألقاباً فخمة: "دكتور في اللاهوت الأكثر تطوراً، أستاذ في الحكمة الخالصة غير الضارة(23)". وكان يتمتع بخيال النابوليتاني المتقد وفصاحته المثيرة، وحيثما ذهب كانت شمس الجنوب تجعل الدم يغلي في عروقه، "إني لأرهق نفسي وأعذبها وأقهرها، حباً في الحكمة الحقة، وغيرة على التأمل الصادق"(24).

وفي أواخر عام 1585 عاد إلى باريس، في أثر السفير الذي استدعي إليها. وحاضر في السوربون مثيراً عداوة أنصار أرسطو، كما هي العادة. وأغرته حروب العصبة ضد هنري الثالث بأن يختبر الجامعات الألمانية، فتسجل في جامعة ماربرج، ولكنه رفض إلقاء المحاضرات، وعرض برئيس الجامعة وقصد إلى وتنبرج، وقضى عامين يحاضر في جامعة لوتر، ولدى مغادرته لها عبر عن شكره في خطاب محلق ودع فيه الجامعة. ولكن لاهوت رجال الإصلاح لم يرقه، فالتمس رعاية رودلف الثاني في پراگ. وظنه الإمبراطور رجلا غريب الأطوار، ولكنه منحه 300 ثيلر، وأذن له بالتدريس في جامعة هلمستد في برونزويك. وبقي سعيداً في عمله لعدة أشهر، اتهمه بعدها رئيس الكنيسة اللوثرية وأصدر قراراً بحرمانه من الكنيسة(25). ولسنا نعرف جوهر الحقيقة فيما جرى، ولكن برونو رحل إلى فرانكفورت وزيورخ ثم إلى فرانكفورت ثانية (1590-1591) حيث استقر به المقام لينشر مؤلفاته اللاتينية.

وفي تلك الأثناء-قبل إيداعه السجن بأمر محكمة التفتيش بعام واحد-كانت فلسفته قد اكتملت، ولو أنها لم تصل قط إلى مرتبة الوضوح والترابط. أننا عند النظر في أهم مؤلفات برونو لتصدمنا العنوانات التي وضعها في صيغة مقتضبة. ويغلب عليها أن تكون شاعرية مبهمة، تنذرنا بألا نتوقع فلسفة منهجية متماسكة، بل هي على الأرجح أفكار خيالية صالحة وانجذابات صوفية أو نشوات. وقل أن نجد في أي مؤلف آخر، اللهم إلا رابليه، هذا الخليط من النعوت والألقاب والمجازات البلاغية والرموز والخرافات والنزوات والفكاهات، والكلام المنمق والتوافه والتمجيد والسخرية وخفة الدم، مكدسة بعضها فوق بعض، في فوضى من المبادئ والأفكار الثاقبة والفرضيات.

لقد ورث برونو براعة الكتاب المسرحيين الإيطاليين والمرح الصاخب المؤذي لدى الشعراء الإيطاليين الذين يحشون قصائدهم بألفاظ إيطالية إلى جانب ألفاظ من لغة أو لغات أخرى، كما ورث هجاء برني وأرتينو اللاذع. وإذا كان المقصود بالفلسفة: القدرة على رؤية الأشياء رؤية هادئة وفقاً لعلاقتها الصحيحة وأهميتها بالنسبية، والتحفظ أو التقييد المعقول المنطقي، والقدرة على الإحاطة بكل الجوانب، والتسامح مع كل وجهات النظر المخالفة، فإن برونو، على هذا الأساس ليس فيلسوفاً، بل أنه محارب أو مصارع، يصم أذنيه ويغشي عينيه، ليكلا تصرفه الأخطار المحدقة عن هدفه-الذي كان قبل ظهور فولتير بقرنين من الزمان-محو عار الاضطهاد وظلمته فثمة مرارة أشد من فولتير في برونو في تهكمه للمعالجة اللاهوتية المثالية للإيمان الغافل الخالي من التفكير:

إني لأقول وأكرر القول بأنه ليس ثمة مرآة توضع أمام أعين البشر، خير من الحمارية أو الحمار ليكشف بشكل أوضح عن واجب هذا الإنسان الذي.. يفتش عن ثواب يوم الحساب.. ومن ناحية أخرى، ليس ثمة شيء أشد فعالية في تردينا في هاوية الجحيم من التأملات الفلسفية والعقلانية التي تنبع من الحواس... وتنمو وتنضج في العقل البشري المتطور. فحاولوا إذن أن تكونوا حميراً، يأيها الرجال، ويأيها الذين أنتم بالفعل حمير، وادرسوا حتى تسيروا من حسن إلى أحسن، وتحققوا هذه الغاية والمكانة اللتين لا يمكن الوصول إليهما بالمعرفة والجهود مهما عظمت، بل بالإيمان، واللتين لا يحول دونهما الجهل والأخطاء مهما كانت جسيمة ولكن يحول دونهما الكفر. وإذا كنتم بمثل هذا السلوك مقيدين في سجل الحياة فلسوف تحظون ببركة الكنيسة "المحاربة"، وبمجد الكنيسة "المنتصرة"، التي "يعيش فيها "الله" ويحكم في كل العصور.. آمين(26).


أفكاره

 
نحت خشبي من "Articuli centum et sexaginta adversus huius tempestatis mathematicos atque philosophos," پراگ 1588

.

في مجال العلم أيّد نظرية كوبرنيكوس ونظرية جاليليو في مجال علم الفلك ، وأنّ الأرض مجرد كوكب يدور حول الشمس ، وهو ما جعل الكنيسة تأخذ منه موقفـًا مُعاديًا. ولكن موقف الكنيسة المُعادى تضاعف بسبب دوره في الفلسفة ، خاصة بعد أنْ كتب أنّ أى إصلاح ديني لابد يأتى من خارج إطار العقيدة المسيحية السائدة في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت ، وأنّ سلام البشرية لن يتحقق إلاّ باعتناق ديانة مصر القديمة. وفي سنة 1584 أصدر برونو محاوراته الإيطالية بعنوان (الكون اللانهائى) ومحاوراته الأخرى بعنوان "طرد الوحش المنتصر" وكتب من أرّخوا لحياته أنه كان يقصد بالوحش "بابوية روما وبداية الاصلاح الديني" وفى هذا الكتاب دعا لإحياء ديانة مصر القديمة في مرحلتها الهرمسية القائمة على وحدة الوجود وعلى نظرية الحلول ، وتبيّن أنه كان على اطلاع بتاريخ الحضارة المصرية (رغم أنّ حل رموز اللغة المصرية القديمة لم يكن قد ظهر بعد) ولكنه اعتمد على ما كتبه المؤرخون والرحالة الذين زاروا مصر وعاشوا فيها وكتبوا عنها مثل هيرودوت وسترابون وغيرهما ، وبالتالي تعرّف على الفلسفة المصرية ، ومنها تعرّف على منظومة (الأسرار) في الديانة المصرية، وهي (وحدة الكون) وهو الأمر الذى ظلّ مجهولا بالنسبة لفقهاء أكسفورد "المُـتحذلقين الذين لم يُـدركوا أنّ ديانة مصر القديمة قد وعتْ كل الأسرار الإلهية والطبيعية".[1]

من النقط الرئيسية في نظريته هي علم الكون الفيزيائي حيث كان يعتقد برونو بأن الكون لا نهائي، اعتمد على الملايين من الكواكب و المجرات ووجد كواكب أخرى عليها حياة ذكية و بان الارض كوكب في الكون و ليست مركز الكون.وأن الأرض تشبه القمر والكواكب السيارة وأن الكواكب تدور حول محاورها ومنها الأرض ايضا وفى الوقت نفسه توقع وجود كواكب جديدة أخرى بل وعوالم جديدة أيضا.

أن رؤية برونو للكون رؤية جمالية في أصلها، وهي تقدير عميق يتسم بالتعجب والدهشة من كون لا نهائي ساطع براق. ولكنها كذلك محاولة فلسفية لتكييف الفكر البشري مع كون يشكل فيه كوكبنا الذي نعيش عليه جزءاً غاية في الصغر من اتساع لا يمكن إدراك مداه. أن الأرض ليست مركز العالم، وكذلك الشمس ليست مركزاً له، وفيما وراء العالم الذي نراه (ولم يكن هناك تلسكوب حين كتب برونو) عوالم أخرى (كما أوضح التلسكوب بعد ذلك بقليل وفيما وراء هذه العوالم الأخرى توجد عوالم أخرى أيضاً كما أثبت التلسكوب بعد تحسينه)، وهكذا إلى ما نهاية، إننا لا نستطيع أن ندرك نهاية أو بداية. وبدلاً من النجوم "الثابتة" كما ظن كوبرنيكس أنها ثابتة، فإنها تغير مواقعها على الدوام، وحتى في السموات كل الأشياء تجري. والفضاء والزمن والحركة كلها أمور نسبية. وليس هناك مركز ولا محيط، ولا ارتفاع وانخفاض. وتختلف نفس الحركة عند رؤيتها من أماكن أو نجوم مختلفة. ولما كان الزمن هو مقياس الحركة، فإن الزمن نسبي كذلك، وربما كان هناك نجوم كثيرة تسكنها كائنات حية ذكية. فهل مات المسيح من أجلهم كذلك؟ على أنه في هذا الاتساع الذي لا نهاية له، هناك بقاء ثابت للمادة، وولاء دائم محيد عنه القانون.

ولما كان الكون لا نهائياً، لا يمكن أن يكون هناك "لا نهائيان"، فإذن يكون "الله" اللانهائي والكون اللانهائي شيئاً واحداً (وهنا قول سبينوزا "الله أو المادة أو الطبيعة")، ليس هناك "مدبر أول" كما قال أرسطو، بل هناك حركة أو طاقة متأصلة في كل جزء من هذا الكل. وليس الله عقلاً خارجياً.... والأجدر به أن يكون القاعدة الداخلية للحركة، وهي طبيعته وروحه(27). والطبيعة هي العقل الخارجي الإلهي، على أن هذا العقل ليس موجوداً في "سماء عليا" بل هو موجود في كل جزء من جزيئات الواقع.

إن العالم يتألف من عناصر دقيقة جداً ومن وحدات لا تقبل الانقسام من القوة، ومن حياة، ومن عقل بدائي (وهنا كان برونو همزة الوصل بين لوكريشيوس وليبنتز) ولكل جزء صغير فرديته القائمة بذاتها وعقله الخاص به، ومع ذلك فإن حريته لا تعني التحرر من القانون، ولكنها تعني (كما قال سبينوزا) سلوكه وفق قانونه وطبيعته المتأصلتين الخاصتين به. وهناك في الطبيعة قاعدة التقدم والتطور،، بمعنى أن كل جزء يكافح من أجل التطور والنمو. (Entelechia أرسطو).

وهناك في الطبيعة أضداد، وقوى متعارضة، ومتناقضات. ولكن عمل الكون بأسره في "مشيئة الله" تتوافق كل المتضادات وتختفي. كذلك فأن الحركتان المتباينة للكواكب هي التي تحدث الانسجام في السموات، ووراء التنوع المحير الساحر في الطبيعة توجد هناك وحدة أروع وأشد عجباً، تظهر فيها كل الأجزاء وكأنها أعضاء في كائن واحد. "أنها وحدة تسحرني، فأنا بقوة هذه الوحدة حر ولو كنت مستعبداً، سعيد في غمرة الحزن، غني في حمأة الفقر، حي حتى في الموت"(28) (إني، ولو إني خاضع للقانون، أعبر عن طبيعتي الخاصة، وبرغم أني أقاسي فإني أجد عزاء في التحقق من أن "شر" الجزء يصبح غير ذي معنى في المشهد العام للكل). ومن ثم تكون معرفة الوحدة الأسمى هي هدف العلم والفلسفة، وهي الدواء الشافي للعقل. (الحب العقلي "لله" عند سبينوزا).

إن هذه الخلاصة البسيطة لفلسفة برونو تهمل ومضاته وجنونه البطولي، وهي تنطوي على اتصال وتماسك في تفكيره مغايرين له كل المغايرة، لأنها تحتوي على متناقضات وتوكيدات جازمة، وعلى فيض من التقلبات، لا تتفق إلا مع المذهلات الكونية. وثمة مجموعة أخرى من أفكاره يمكن أن تسلكه في عداد المتصوفة المجوس. أنه تحدث عن المزايا الخاصة بكثير من الكواكب، فذهب إلى أن الأشخاص الذين يولدون "تحت تأثير" الزهرة ينزعون إلى الحب والبلاغة والهدوء والسلام، أما الذين يولدون "تحت تأثير" المريخ فيميلون إلى النزاع والبغض. وآمن بالخصائص الخفية للأشياء والأرقام، وأن الأمراض قد تكون عفاريت، ويمكن علاجها في بعض الحالات بلمسة ملك أو لعاب ابن سابع(29).

وفي عام 1586 أصدر برونو كتابًا بعنوان (مائة وعشرون وصية للرد على المشّـائين) والكتاب كما ذكر من أرّخوا لحياة برونو "كله هدم لفلسفة أرسطو".

التحقيق معه أمام محكمة التفتيش

كما أنّ جمود الكنيسة في ذلك العصر وخوفها من كل جديد ، هو الذى دفعها لتحريم نظرية كوبرنيكوس عن دوران الأرض وكواكب المجموعة الشمسية حول محوها وحول الشمس ، ومن بعد قوانين كوبرنيكوس جاءتْ قوانين كبلر (1571- 1630) وأهمها أنّ مدارات الكواكب حول الشمس بيضاوية وليست دائرية ، وأنّ مربع زمن دوران الكواكب يتناسب مع مكعب المحور الأكبر للمدار، وكذلك قوانين جاليليو في الأجسام الساقطة وفى الحركة وفى القصور الذاتى ، واثباته لقوانين كوبر نيكوس ، التى قالت الكنيسة عنها أنها (كافرة) وفى اثبات دوران الأرض والمجموعة الشمسية حول الشمس ، بينما كانت الكنيسة تكتفى في معارفها الفلكية بنصوص سِفر التكوين وغيره في العهد القديم ، وبعلم الفلك كما ورثته عن أرسطو وبطليموس.

وبسبب دفاع جوردانو برونو عن تلك النظريات العلمية ، ورفضه لما جاء في العهد القديم ، دخل دائرة المحظورات لأنه ينتهى إلى القول بألوهية الإنسان ((ذلك القول الذى أودى بكثيرين من المتصوفة إلى التهلكة ، مثل الحلاج الذى قال ((لو أنّ ذرة من قلبى سقطتْ على الجحيم لأطفأته ، ولو أنّ ذرة من قلبى سقطت على الجنة لأنارتها)).

وفي كتب برونو التى أصدرها في انجلترا وأهمها (طرد الوحش المنتصر) و(عشاء أربعاء الرماد) تمجيد لديانة مصر القديمة ، ففى الكتاب الأول بحث أمر حرب العقائد الدينية والأوضاع الاجتماعية والسياسية وعلاقة الفرد بالدولة. وقال إنّ الدولة في حاجة إلى الدين لكى يسلس قيادة الشعب ، والعاقل من يقبل عادات البلد الذى يعيش فيه. بينما ركــّز برونو على أنه لابد من التسامح ومن حرية التعبير. والوحش المنتصر عنده هو أرسطو وعبيده من أساتذة المنطق الصورى وفقهاء اللاهوت المسيحى الذين جمّدوا الفكر الدينى المسيحى بعقل المُعلم الأول (أرسطو) وكان الحل عند برونو هو العودة إلى ديانة مصر القديمة.[1]

كما شنّ برونو حملة ضد التعصب الدينى والحروب الدينية ، خاصة بين الكاثوليك في اضطهادهم للبروتستانت ، وضراوة البروتستانت في اضطهادهم للكاثوليك ، لذلك دافع عن (الدولة القومية) واستقلالها عن سلطان الكنيسة الرومانية. وبعد أنْ ظلّ برونو في السجن لمدة ثمانى سنوات ، وبعد أنْ طالت محاكمته قال القس الجزويتى (روبيرتو بيللارمين) أنّ برونو زنديق ، فحكمتْ عليه محكمة التفتيش بالزندقة ، فصدرعليه الحكم بالكفر، وسلمته الكنيسة للسلطات المدنية لاعدامه ، فأحرقته حيًا في ميدان كامبو دى فيورى في 17 فبراير 1600.

وكان همه الأخير أنه كان يؤمل، في حال عودته إلى إيطاليا واستجواب محكمة التفتيش له، في أنه يستطيع أن يقتبس بعض قطع رشيدة من مؤلفاته يخدع بها الكنيسة فتحسبه ابنها البار. وربما راوده الأمل في أن إيطاليا لم تكن قد سمعت بكتابه الذي نشره في إنجلترا "طرد الحيوان المنتصر". والذي كان يمكن أن يفسر الحيوان الذي طرد فيه على أنه الكاثوليكية أو المسيحية أو المبادئ الدينية عامة(30). ولا بد أنه تاقت نفسه إلى إيطاليا وإلا كيف نفسر لهفته على قبول دعوة جوفاني موسنيجو للقدوم إلى البندقية معلماً له وضيفاً عليه؟ وكان موسنيجو سليل أسرة من ألمع أسرات البندقية، وكان كاثوليكياً ورعاً، ولكنه كان مهتماً بالقوى الخفية، وقد أبلغوه أن برونو كان على علم تام بفروع السحر، وأنه يختزن في ذاكرته القوية الكثير من الخفايا والأسرار. وكانت محكمة التفتيش قد أعلنت منذ أمد طويل أن برونو خارج على القانون ويجب القبض عليه في أول فرصة، ولكن البندقية اشتهرت بحماية أمثال هؤلاء الخارجين على القانون، متحدية بذلك محكمة التفتيش. وعلى ذلك سارع برونو إلى مغادرة فرانكفورت في أواخر 1591 وشق طريقه عبر الألب إلى إيطاليا.

وأعد له موسنيجو مسكناً وتلقى عنه دروساً في تقوية الذاكرة. ولكن تقدم التلميذ كان بطيئاً وظن أن معلمه قد حجب عنه بعض تقاليد السحر الخفية كما أنه في نفس الوقت ارتعد فزعاً من الهرطقات التي تمثلت في الفيلسوف الثرثار القليل الحذر، وسأل موسنيجو كاهن الاعتراف إذا كان يجب عليه أن يبلغ محكمة التفتيش عن برونو، فنصحه الكاهن بالتريث حتى يتثبت من حقيقة برونو بشكل أدق. وامتثل موسنيجو لمشورة الكاهن، ولكن عندما

أعلن برونو عن عزمه على العودة إلى فرانكفورت، أبلغ موسنيجو المحكمة وفي 23 مايو 1592 وجد برونو فسه نزيلاً في سجن المحكمة في البندقية. وأوضح موسنيجو أنه "تصرف وفق ما أملاه عليه ضميره، وبأمر من كاهن الاعتراف(31). وأبلغ المتحققين أن برونو كان يعارض كل الأديان، ولو أن الكثلكة كانت أحبها إلى نفسه، ولكنه أنكر التثليث وتجسد المسيح وتحول القربان، وأنه اتهم المسيح والرسل بتضليل الناس وخداعهم بالمعجزات المزعومة، وأنه قال بأن كل الأخوة أو رجال الدين والرهبان حمير دنسوا الأرض بنفاقهم وريائهم وجشعهم وحياتهم المملوءة بالشرور، وأن الفلسفة يجب أن تحل محل الديانة، وأن الانغماس في "الملذات الدنيوية" ليس خطيئة وأنه، أي برونو، أشبع شهواته قدر ما سنحت له الفرص، وأن برونو كان قد قال له "أنه استمتع بالنساء كثيراً، ولو أنه لم يبلغ بعد عدد نساء سليمان.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حرقه حياً

وحققت المحكمة مع السجين على مهل، من مايو إلى سبتمبر 1592 ودفع بأنه كان قد كتب ما كتب بوصفه فيلسوفاً، وأنه كان يستفيد من تمييز بمبوناتزي بن "الحقين" أنه يجوز للإنسان أن يناقش، بوصفه فيلسوفاً، نظريات قبلها بوصفه كاثوليكياً. وصرح بما يساوره من شكوك في موضوع التثليث. واعترف بأنه مذنب في أخطاء كثيرة، وأبدى ندمه عليها، وتضرع إلى المحكمة وهي تعرف سقامه وعيوبه، أن تعيده إلى أحضان الكنيسة الأم وأن تزوده بما يلائمه من علاج، وأن تستعمل معه الرأفة(34). ولم تستجب المحكمة إلى شيء من هذا وأعادته إلى زنزانته لمدة شهرين آخرين وفي 30 يوليه حققوا معه مرة ثانية، واستمعوا إلى اعترافه وطلبه الرأفة وأعادوه مرة ثانية إلى السجن. وفي سبتمبر طلبت محكمة التفتيش في روما من البندقية إرسال السجين إليها. فاعترضت حكومة البندقية، ولكن المحكمة أوضحت أن برونو من مواطني نابلي، لا البندقية. ووافق السناتو على تسليمه. وفي 27 فبراير 1593 تم ترحيله إلى روما.

وكان جزءاً من إجراءات محكمة التفتيش أن تترك السجين يقبع مكتئباً حزيناً في السجن لفترات طويلة قبل التحقيق وفي أثنائه وبعده. وكادت تنقضي سنة كاملة قبل أن يمثل برونو أمام محكمة روما في ديسمبر 1593، وحققوا معه، أو قل عذبوه بالتحقيق، ثانية، في إبريل ومايو وسبتمبر وديسمبر 1594. واجتمعت المحكمة مرتين في يناير 1595 لتدرس الأوراق. وتقول أوراق المحاكمة أنه في مارس 1595 وإبريل 1596 "مثل برونو أمام كبار الكرادلة، وأنهم زاروه في زنزانته. واستمعوا له وسألوه عما يمكن أن يكون في حاجة إليه(35)"، وفي ديسمبر 1596 استمعوا إلى شكواه "من الطعام". وفي مارس 1597 استدعي للمثول بين يدي المحققين الذين "استمعوا مرة أخرى إلى ما يحتاج إليه. ولم تعرف ماذا كان يحتاج إليه، ولكن النداءات المتكررة توحي بمصاعب يتعذر وصفها، ليس من بينها هذا التسويف الطويل، المفروض أن الهدف منه هو تحطيم الروح الجياشة إلى حد الإذلال المهذب للنفس. وانقضى عام آخر، وفي ديسمبر 1598 سمح له بورق وقلم، وفي 14 يناير 1599 استدعي مرة أخرى، وتليت عليه ثمان مسائل هرطيقية مأخوذة من كتبه. وطلبوا إليه أن يشجبها علناً، فدافع عن وجهة نظره ولكنه وافق على قبول حكم البابا في المسائل سالفة الذكر. وفي 4فبراير قرر كليمنت الثامن وهيئة محكمة التفتيش أن هذه المقتبسات هرطيقية صريحة. ولم يرد في أوراق المحاكمة ذكر لآراء برونو في نظريات كوبرنيكس، بل أن الهرطقة انصبت على التجسيد والتثليث. وسمح له بأربعين يوماً أخرى للاعتراف بأخطائه.

واستمعوا له مرة أخرى في 18 فبراير، ثم في إبريل وسبتمبر ونوفمبر. وفي 21 ديسمبر أعلن أنه لن يتراجع. وفي 20 يناير 1600 قدم إلى البابا مذكرة يدعي فيها أن المسائل الواردة في الاتهام اقتبست من مظانها بشكل خاطئ، ويعرض أن يتولى الدفاع عنها أمام رجال الدين، ويقول مرة أخرى أنه يرتضي حكم البابا. وبناء على ذلك، كما تقول سجلات المحاكمة "أصدر قداسة البابا كليمنت الثامن أمراً باتخاذ الإجراءات النهائية في القضية.... وبالنطق بالحكم، وبإحالة الأخ المدعو جوردانوس إلى المحكمة المدنية". وفي 8 فبراير استدعى المحققون برونو، وكرروا على مسامعه الاتهامات الموجهة إليه، وأبلغوه أنهم أمهلوه ثمانية أعوام ليراجع موقفه ويبدي الندم، وأنه وافق على حكم البابا في أمر مروقه عن الدين، وأن البابا قرر أنه مارق، وأن المتهم لا يزال مصراً على هرطقته، "سائراً في غيه، عنيداً، مكابراً" ومن ثم صدر الحكم بإحالته إلى المحكمة المدنية.... إلى حاكم روما، الحاضر هنا الآن ليقرر العقوبة التي تستحقها "ولو أننا نرجو جادين أن يخفف من صرامة القوانين، بالنسبة لما تعانيه من آلام، وألا يكون جزاؤك الإعدام أو بتر الأعضاء". ووقع على الحكم ثمانية كرادلة، من بينهم بللارمين. ويقول كسبار سكيوبيوس-وهو عالم ألماني تحول حديثاً إلى الكثلكة ثم أقام في روما-أن برونو، عندما تُلي عليه الحكم، قال لقضاته: "ربما كنتم يا من نطقتم الحكم بإعدامي، أشد جزعاً وخشية مني أنا الذي تلقيته"(36).

ونقل برونو على الفور إلى سجن مجني. وفي 19 فبراير، وهو لا يزال مصراً على موقفه، جرد من ثيابه وربط لسانه، وشد إلى خازوق من الحديد فوق ركام ممن الحطب في "بيازا كامبو دى فيوري" وأحرق حياً على مشهد من جمع غفير متعظ، وكان في الثانية والخمسين من العمر، وفي 1889، أقيم له في نفس المكان، تمثال؛ جمعت له التبرعات من مختلف أركان الدنيا.

الكوزمولوجيا

 
Illuminated illustration of the Ptolemaic geocentric conception of the Universe.

كان يحلم بتأسيس دين عالمى ((يُـزيل حزازات التعصب بين البشر، ويضع حدًا للمذابح والحروب الدينية. وكان هذا الدين العالمى عنده هو إحياء الديانة المصرية القديمة ، في مرحلة عناقها مع الفيثاغورية والأفلاطونية (القديمة نسبة إلى أفلاطون) والأفلاطونية الحديثة (نسبة إلى أفلوطين المصرى) ، أى ديانة (هرمس) وكان من بين أقوال أفلوطين ((يجب أنْ تأتى الآلهة إلىّ ، لا أنْ أذهب أنا إليها)) وكان تعليق العالم مارتن برنال على هذه الجملة ((يبدو واضحًا أنّ هذا النموذج الفكرى يتجاوز مبدأ المساواة ين الإنسان والإله إلى محاولة الإنسان السيطرة على الإله. حتى أنه يمكن القول بشكل من الأشكال أنّ الإنسان هو الذى يصنع الإله)) (أثينا السوداء- مجموعة مترجمين- المجلس الأعلى للثقافة- المشروع القومى للترجمة- رقم 16- عام 97- ص252) ومع ملاحظة أنّ هرمس (الإله اليونانى) هو مرشد الأرواح في العالم السفلى ، وهو الإله المصرى تحوت الذى علم الأرواح كيف ترتقى بنفسها لتتعرّف على المقدسات (المصدر السابق- ص 285) وأنّ هرمس مثلث العظمة كان أول من أنشأ الحروف الهيروغليفية "وأصبح بذلك أب الفلسفة المصرية وراعيها، وكان هو أول المصريين وأقدمهم ، ومنه تعلم كل من: أورفيوس، لينوس، وفيثاغورث وأفلاطون، يودوكسوس، بارمينيدس، ميليسوس، هوميروس ويوريبديس" ونظرًا لأنّ برونو أشاد بديانة مصر القديمة، فقد كان غرض الكنيسة من تقديمه قربانـًا ((هو حماية الكنيسة من تحدٍ مباشر، ذلك أنّ الاهتمام الكاثوليكي بمصر كان من القوة بحيث لم يكن من الممكن كبح جماحه. وأصبحتْ مصر القديمة هاجسًا قويًا عند واحد من أكبر الشخصيات الفكرية والثقافية أثرًا في روما في القرن السابع عشر، هو أثناسيوس كيرشر الجزويتي الألماني ، ولم يكن لديه شك في الأقدمية البالغة لهرمس مثلث العظمة)) (المصدر السابق- ص294)[1]

كتب د. لويس عوض في تأريخه لحياة برونو ((حاول بعض فقهاء المسيحية الأوائل أنْ يوفــّـقوا بين الأفلاطونية القديمة والأفلاطونية الحديثة من جهة ، وبين العقيدة المسيحية من جهة أخرى ، فقد كانت الصفوة المثقفة تنظر إلى المسيحية على أنها دين الموت والحياة الآخرة ، ولا تليق إلاّ بالعبيد والبسطاء المُعذبين في الأرض ، وعلى أنها ديانة مُعادية للثقافة وللحضارة والفكر والفنون والآداب وكل نشاط دنيوى ، فاتجهتْ الصفوة المثقفة إلى ابتكار عقائد توفــّـق بين أخلاق المسيحية وثقافة القدماء ، وكان أهم هذه العقائد : الرواقية والأفلاطونية/ المسيحية والغنوصية)) (ثورة الفكر في عصر النهضة- مركز الأهرام للترجمة والنشر- عام 87- ص 258) وكتب أنّ برونو رفض مبدأ الخلق من العدم ، وذهب إلى أنّ الذات الإلهية تتجلى بذاتها في الكون وكائناته كما قال في كتابه (عشاء أربعاء الرماد) وأنّ برونو كتب ((ونحن نـُقرّر المبدأ القائل بعدم البحث عن الألوهية بعيدًا عنا ، لأننا لا نملكها بالقرب منا ، بل لأننا نملكها في داخلنا)) وأضاف د. لويس عوض ((لهذا نجد أنّ جوردانو برونو ببناء فلسفته على الهرمسية أو الغنوصية ، كان يفكر خارج الاطار المسيحي التقليدى ، وأنه يوم احراقه عرضوا عليه الصليب ليُـقـبّـله ، على عادة الكاثوليك إذا حضرتهم الوفاة ، فأشاح عنه بوجهه. وقد شهد أحد السجناء معه أنه سمعه يقول أنّ : الصليب في حقيقته رمز مقدس عند قدماء المصريين (عنخ ، مفتاح الحياة) وأنّ الصليب الذى صُـلب عليه المسيح شيىء مُغاير للصليب الذى نراه على المذبح في الكنائس ، فهذا الذى نراه في حقيقته الصليب المنحوت أو المنقوش على صدر الربة إيزيس في مصر القديمة ، وأنّ المسيحيين سرقوه من المصريين)) وحين سألتْ محكمة التفتيش برونو عن هذا القول أيّـده ولم ينكره وأضاف ((أظن أنى قرأتُ في مارسيليو فينتشينو أنّ فضيلة هذه العلامة وقداستها (يقصد الصليب) أقدم بكثير من زمن تجسد المسيح ، وأنها كانت معروفة في زمن ازدهار الديانة المصرية وأنّ هذه العلامة كانت على صدر سرابيس ، أى أوزيريس أبيس)) (ص260).[1]

مؤلفاته

 
محاكمة جوردانو برونو أمام محكمة التفتيش الرومانية. نقش بارز برونزي، في كامپو دى فيوري، روما.

ألف برونو كتاب A ceia da terça-feira de cinzas كتاب احدث ضجة كبيرة و تم حرقة من الكنيسة الكاثوليكية.

 
تمثال لبرونو أقيم في المكان الذي أُعدِم فيه، كامپو دى فيوري في روما.
  • De umbris idearum (Paris, 1582)
  • Cantus Circaeus (1582)
  • De compendiosa architectura (1582)
  • Candelaio (The Torchbearer or The Candle Bearer, 1582; play)
  • Ars reminiscendi (1583)
  • Explicatio triginta sigillorum (1583)
  • Sigillus sigillorum (1583)
  • La Cena de le Ceneri (The Ash Wednesday Supper, 1584)
  • De la causa, principio, et uno (1584)
  • De l'infinito universo et mondi (On the Infinite Universe and Worlds, 1584)
  • Spaccio de la Bestia Trionfante (The Expulsion of the Triumphant Beast, London, 1584)
  • Cabala del cavallo Pegaseo–Asino Cillenico (1585)
  • De gli heroici furori (1585)
  • Figuratio Aristotelici Physici auditus (1585)
  • Dialogi duo de Fabricii Mordentis Salernitani (1586)
  • Idiota triumphans (1586)
  • De somni interpretatione (1586)
  • Animadversiones circa lampadem lullianam (1586)
  • Lampas triginta statuarum (1586)
  • Centum et viginti articuli de natura et mundo adversus peripateticos (1586)
  • Delampade combinatoria Lulliana (1587)
  • De progressu et lampade venatoria logicorum (1587)
  • Oratio valedictoria (1588)
  • Camoeracensis Acrotismus (1588)
  • De specierum scrutinio (1588)
  • Articuli centum et sexaginta adversus huius tempestatismathematicos atque Philosophos (1588)
  • Oratio consolatoria (1589)
  • De vinculis in genere (1591)
  • De triplici minimo et mensura (1591)
  • De monade numero et figura (Frankfurt, 1591)
  • De innumerabilibus, immenso, et infigurabili (1591)
  • De imaginum, signorum et idearum compositione (1591)
  • Summa terminorum metaphisicorum (1595)
  • Artificium perorandi (1612)
  • Jordani Bruni Nolani opera latine conscripta, Dritter Band (1962) / curantibus F. Tocco et H. Vitelli

ذكراه

بعد 350 سنة من وفاة برونو، فإنّ المفكر المصري سلامة موسى كتب أنه تعرف على المفكر المصرى كامل غبريال باشا سنة 1935 الذى درس اللغة القبطية واللغة المصرية القديمة. وكان يُـشجّعنى على دراستهما ((ومازلتُ أذكر الأثر النفسى في صديقى كامل غبريال باشا ، فإنه لتعلقه بلغة المصريين القدماء صدّ عن المسيحية باعتبارها ديانة أجنبية طردتْ الديانة المصرية القومية. وكان كثيرًا ما يعقد المُـقارنات بين عقائد الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل) وبين عقائد المصريين القدماء ، ليُـقنعنى بأفضلية الثانية على الأولى من حيث الأخلاق السامية والقيم البشرية العالية)) (مجلة الكاتب المصرى – يوليو 1947 – مقال بعنوان : فلسفة للحياة وديانة للضمير) وهكذا يتبيّن أنّ شعلة التنوير تمتد من جيل لجيل وتنتقل من وطن إلى وطن.[1]

ملاحظات

 
The earlier of the two Bruno portraits, first published in 1715 in Germany, more than a century after his death.

انظر ايضا

الهامش

  1. ^ أ ب ت ث ج طلعت رضوان (2014-12-19). "خطاب التنوير (2)". الحوار المتمدن.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المصادر

  • Blackwell, Richard J. (1998). Cause, Principle and Unity: And Essays on Magic by Giordano Bruno. Cambridge University Press. ISBN 0-521-59658-0. {{cite book}}: Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)
  • Couliana, Ioan P. (1987). Eros and Magic in the Renaissance. University of Chicago Press. ISBN 0-226-12315-4.
  • Gatti, Hilary (2002). Giordano Bruno and Renaissance Science. Cornell University Press. ISBN 0-8014-8785-4.
  • Kessler, John (1900). Giordano Bruno: The Forgotten Philosopher. Rationalist Association.
  • McIntyre, J. Lewis (1997). Giordano Bruno. Kessinger Publishing. ISBN 1-564-59141-7.
  • Mendoza, Ramon G. (1995). The Acentric Labyrinth. Giordano Bruno's Prelude to Contemporary Cosmology. Element Books Ltd. ISBN 1852306408.
  • Rowland, Ingrid D. (2008). Giordano Bruno: Philosopher/Heretic. Farrar, Straus, and Giroux. ISBN 0-809-09524-6.
  • Saiber, Arielle (2005). Giordano Bruno and the Geometry of Language. Ashgate. ISBN 0-754-63321-7.
  • Singer, Dorothea (1950). Giordano Bruno: His Life and Thought, With Annotated Translation of His Work - On the Infinite Universe and Worlds. Schuman. ISBN 1-11731-419-7.
  • White, Michael (2002). The Pope & the Heretic. New York: William Morrow. ISBN 0060186267.
  • Yates, Frances (1964). Giordano Bruno and the Hermetic Tradition. University of Chicago Press. ISBN 0226950077.
  • Michel, Paul Henri (1962) The Cosmology of Giordano Bruno. Translated by R.E.W. Maddison. Paris: Hermann; London: Methuen; Ithaca, New York: Cornell. ISBN 0801405092
  • The Cabala of Pegasus by Giordano Bruno, ISBN 0300092172
  • Giordano Bruno, Paul Oskar Kristeller, Collier's Encyclopedia, Vol 4, 1987 ed., pg. 634
  • Il processo di Giordano Bruno, Luigi Firpo, 1993
  • Giordano Bruno,Il primo libro della Clavis Magna, ovvero, Il trattato sull'intelligenza artificiale, a cura di Claudio D'Antonio, Di Renzo Editore.
  • Giordano Bruno,Il secondo libro della Clavis Magna, ovvero, Il Sigillo dei Sigilli, a cura di Claudio D'Antonio, Di Renzo Editore.
  • Giordano Bruno, Il terzo libro della Clavis Magna, ovvero, La logica per immagini, a cura di Claudio D'Antonio, Di Renzo Editore
  • Giordano Bruno, Il quarto libro della Clavis Magna, ovvero, L'arte di inventare con Trenta Statue, a cura di Claudio D'Antonio, Di Renzo Editore
  • Giordano Bruno L'incantesimo di Circe, a cura di Claudio D'Antonio, Di Renzo Editore
  • Guido del Giudice, WWW Giordano Bruno, Marotta & Cafiero Editori, 2001 ISBN 8888234012
  • Giordano Bruno, De Umbris Idearum, a cura di Claudio D'Antonio, Di Renzo Editore
  • Guido del Giudice, La coincidenza degli opposti, Di Renzo Editore, ISBN 8883231104 , 2005 (seconda edizione accresciuta con il saggio Bruno, Rabelais e Apollonio di Tiana, Di Renzo Editore, Roma 2006 ISBN 8883231481)
  • Giordano Bruno, Due Orazioni: Oratio Valedictoria - Oratio Consolatoria, a cura di Guido del Giudice, Di Renzo Editore, 2007 ISBN 8883231740
  • Giordano Bruno, La disputa di Cambrai. Camoeracensis Acrotismus, a cura di Guido del Giudice, Di Renzo Editore, 2008 ISBN 8883231996

BOMBASSARO, Luiz Carlos . Im Schatten der Diana. Die Jagdmetapher im Werk von Giordano Bruno. Frankfurt am Main: Peter Lang Verlag, 2002


وصلات خارجيــة