تسويات الحرب العالمية الأولى في البلقان

تسويات الحرب العالمية الأولى في البلقان

لم يكن توقيع الهدنة في منتصف نوفمبر 1918 علامة على دخول بلاد البلقان في مرحلة من اللسام والإستقرار، ذلك أن اليونان وتركيا لم تتوصلا إلى تسوية خلافاتهما حتى 1922, ورومانيا كانت قد غزت المجر في 1919, وظلت قوات يوجوسلافية تدخل أراضي النمسا أكثر من مرة في عدة مناسبات مختلفة حتى عام 1921. وأكثر من هذا فإن معظم بلاد البقلان واجهت تغييرات أساسية وفورية بعد الحرب إضطرت شعوبها لضبط أحوالهم وأفكارهم مع علاقات سياسية جديدة فرضت نفسها عليهم. وتتلخص هذه التغييرات في تكوين دولة لسلاف الجنوب, وتأسيس رومانيا الكبرى, وطرد اليونانيينت من آسيا الصغرى, والثورة في الإمبراطورية العثمانية, وأخيراً تكوين حكومة ألبانية مستقرة. وسوف يركز هذا الفصل على معالجة تلك القضايا أكثر من مناقشة معاهدات الصلح نفسها ولكن علينا في البداية أن ذنكر الأسس التي تم التوصل على أساسها لمعاهدات الصلح.

من متابعة تاريخ بلاد البلقان خلال القرن التاسع عشر حيث كانت للقوى الكبرى دوراً في التحكم في سياسات تلك البلاد سوف نجد ان تلك القوى نفسها هي التي إنفردت بترتيب معاهدات الصلح دون أن يكون لدول البلقان الصغيرة دوراً مؤثراً إلا قليلاً. ويلاحظ أن القوميات القوية في البلقان خضعت لقيود شديدة وقاسية في تحركاتها حتى لا تحقق طموحاتها القومية, بل لقد دخلت في دائرة التقسيم فيما بينها وكان عليها مواجهة الأحوال في أوروبا آنذاك بشكل واقعي وكثير منها أوجدته سياسات البلاد الصغرى. ومن التغييرات أيضاً أن ثلاثة دول كبرى لم تحضر مؤتمر الصلح وهي المانيا والنمسا وروسيا, فقد تم إستبعاد المانيا بإعتبارها دولة مهزومة وكان موقف فريداً في نوعه في الدلوماسية الأوروبية, وإمبراطورية النمسا والمجر تحللت إلى دولتين على أسس قومية خلال الأسابيع الأخيرة من الحرب, وأما روسيا التي كانت قد أصبحت تحت حكم البلاشفة إعتبرت عنصراً ثورياً خطيراً وكانت قوى الحلفاء تقوم بعمليات عسكرية على أراضيها ساعة قيام الثورة. وهكذا أصبحت التسويات مسئولية إنجلترا وفرنسا و إيطاليا بشكل أساسي وكذا الولايات المتحدة الأمريكية اليت كانت مشاركاً جديداً وكبيراً في شؤون أوروبا آنذاك.

والحق أن السياسيين الذين وقع على عاتقهم صياغة معاهدات الصلح كانوا مقيدين بإتفاقيات معينة سابقة أهمها غالباً تلك المعاهدات السرية بين أطراف معينة وكانت جميعها تسبب الضيق الشديد للذين كان عليهم التوقيع. كذلك سيطر علىالمناخ كيفية إستعادة التوازن بين القوى الأوروبية الذي أصبح يتأرجح بعد هزيمة دول الوسط ومناخ ثورة البلاشفة في روسيا, فضلاً عن إعتبارات اخرى برزت على المسرح السياسي عند نهاية الحرب يتعين وضعها في الحسبان, ذلك أن أوروبا بعد الحرب كانت في حالة ثورة فروسيا أصبحت تحكمها حكومة شيوعية وأصبحت مركزاً للدعاية الثورية وبعد إستيلاء البلاشفة على الحكم أعلنوا تبرؤهم من المعاهدات السرية التي أبرمها القيصر بل ونشروها في الصحف, وأعلنوا أن ثورتهم تقف إلى جانب "سلام الشعوب", وليست لها "إدعاءات تطالب بها أو تعويضات", كذلك فعلت الأحزاب الإشتاركية الديموقراطية القوية في أوروبا. وكان الرئيس الأكريكي ودورو ويلسون قد ذكر بعض تلك الإعتبارات في مبادئه الأربعة عشر التي أعلنها في الثامن من يناير 1918, وأعلن تأييد بلاده لحق تقرير المصير. وكانت مثل هذه المبادئ المثالية تتناقض بطبيعة الحال تناقضاً حاداً مع بنود المعاهدات السرية التي وضعت مصير شعوب كثيرة للمقايضة والتبادل. وبإختصار كان على الذين يصنعون معاهدات السلام أو يرتبونها أن يقرروا ما إذا كانوا سوف يلتزمون بتحالفات الحرب السرية أو الوقوف إلى جانب المبادئ التي أعلنوها على الناس.

وهكذا وأثناء مفاوضات الصلح أثيرت قاعدتان للتفاوض على أساسهما كل منهما تتناقض مع الأخرى ألا وهما المعاهدات السرية ومبدأ حق تقرير المصير للشعوبو وبطبيعة الحال كانت كل دولة تميل إلى مساندة القاعدة التي تحقق مصالحها. فبينما كانت الدول المنتصرة الصغيرة تفضل الوقوف إلى جانب المعاهدات السرية وإلى جانب السياسات التي من شأنها توسيع أمانيها الإقليمية إلى أقصى درجة ممكنة’ كانت الدولة المهزومة والرئيس الأمريكي أحياناً يدافعون عن مبدأ حق تقرير المصير ومبدأ العدالة. ورغم أن الصرب وهي صغيرة منتصرة إلا أنها تبرأت من معاهدة لندن السرية, أما فرنسا وإنجلترا وهما قوتان عظيمتان غريبتان فكانتا معنيتان بإستعادة توازن القوى وتحقيق ذلك بمختلف الوسائل. لكن فرنسا كانت تبذل جهودها لكي تسفر تسويات الصلح عن بناء جبهة منالقوى المنتصرة في شرق أوروبا تحل محل روسيا الحليف السابق وذلك لتخويف المانيا وكبح جماحها. وتطلعت رومانيا ودولة سلاف الجنوب إلى أن يكون لهما مكانة مهمة في هذا التنسيق الفرنسي الجديد. أما إنجلترا فكانت على النقيض من فرنسا ترغب في إستعادة التوازن من خلال وضع تسويات مناسبة والعودة بأوروبا إلى الأوضاع العادية رغم أن سياستها قامت على أساس عدة مساومات فضلاً عن أن ساسة إنجلترا الذين كانوا على دراية بالتاريخ لم تكن لديهم رغبة في أن يروا فرنسا تظهر وكأنها القوة العظمى المهيمنة في القارة الأوربية.

وفي التسويات النهائية وجدنا أن دولتين بلقانيتين وهما يوجوسلافيا ورومانيا حققتا مكاسب هائلة على حين خسرت كل من بلغاريا وتركيا الجديدة واليونان خسراناً مبيناً, ورجعت ألبانيا إلى أحوالها التي كانت عليها قبل الحرب, وسوف نناقش مصير تلك الدول جميعها في ذلك السياق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تكوين مملكة الصرب والكروات والسلوڤين

كان إعلان قيام مملكة الصرب والكروات والسلوڤين في ديسمبر 1918 محصلة مناقشات طويلة تمت خلال الحرب والتطورات التي حدثت في سياسات الصرب. والحاصل أن باشيك وبتأييد من الوصي على العرش كان غير متحمس لإقامة دولة يوجوسلافية كما سبق ن شرحنا ذلك, بل إن الحكومة الصربية في المنفى في جزيرة كورفو أصبحت عرضة للتأثير الخارجي وبعد سقوط قيصر روسيا السند الكبير للصرب وجد باشيك أن الضغط الداخلي والخارجي للتفاهم مع "اللجنة اليوجوسلافية" أقوى من أن يقاومه. ولهذا ففي يوليو 1917 إلتزمت حكومة الصرب طبقاً لإعلان كورفو ولأول مرة بالعمل منأجل توحيد الصرب والكروات والسلوفينيين في دولة واحدة على أن تكون ملكية دستورية تحكمها أسرة كاراديورديفتش, وعلى أن تقوم جمعية منتخبة إنتخاباً حراً مباشراً بصايغة مشروع دستور ينص على الإعتراف بكل المعتقدات الدينية القائمة, وأن تكون الأبجدية السيريلية واللاتينية على قدم المساواة, ومنح الحكم المحلي دوراً أساسياَ. وقد صادقت على هذا الدستور لجنة الجبل الأسود في باريس وهي مجموعة من اللاجئين السياسيين هناك شبيهة بتلك التي كونها سلاف الجنوب تحت حكم النمسا. وآنذاك لم يكن الأمر قد إستقر على شكل الدولة الجديدة أو المملكة بينا، تكون دولة واحدة أم دولة فيدرالية الطابع.

وفي البداية أحرز المفاوضون تقدماً ضئيلاً بشأن تنفيذ البرنامج المشترك, وفي هذا الخصوص علينا أن نتذكر أن إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية قد أعلنت بوضوح في مطلع 1918 أثناء محاولة التفاوض مع النمسا لتوقيع صلح منفرد أنها لا تسعى لتفكيك إمبراطورية النمسا والمجر. وأما الصرب في محاولة منها لأخذ البوسنة والهرسك قام باشيك رئيس حكومتها بالتنبية على سفيره لدى واشنطون للبحث في إمكانية تحقيق هذا الهدف. وعندما علمت "لجنة يوجوسلاف" بذلك التحرك نشبت أزمة بين صفوف سلاف الجنوب. ولكن وفي أبريل 1918 عندماأصبح واضحاً أنه لن يتم توقيع صلح منفرد مع النمسا قام الحلفاء بتغيير سياساتهم.

من ناحية أخرى طرأ تغيير له مغزاه في الموقف الإيطالي, ففي أبريل 1918 عقد "مؤتمر القوميات المقهورة" إجتماعاً في روما إنتهى بالمناداة بتقطيع أوصال إمبراطورية النمسا والمجر. وفي أثناء الإجتماع قام الدكتر آندريا توريه Torre رئيس وفد البرلمان الإيطالي في المؤتمر بتوقيع "ميثاق روما" مع آنتيه ترومبيتش رئيس لجنة يوجوسلاف بالإعتراف بشرعية أهداف اليوجوسلاف. غير أن هذا الميثاق الذي تم إبرامه بمعرفة رئيس وزراء إيطاليا أورلاند V.E.Orlando كان ضد رغبات وزير خارجيته البارون سيدني سونينو Sonnino الذي إستمر في الشهور التالية يعارض هذا التصور اليوجوسلافي وعمل على عرقلة إعتراف الحلفاء به. ولكن وبحلول سبتمبر (1918) لم يكن أمامه إلا الإعتراف بأنه لا يمكن الحيلولة دون إتمام وحدة سلاف الجنوب وعزم في الوقت نفسه على أن يضمن لإيطاليا تنفيذ مواد معاهدة لندن.

وفي الوقت الذي كانت العدوات في طريقها إلى الزوال وقعت تطورات موازية في البلاد التابعة للنمساو ففي نهاية أكتوبر 1918 قام زعماء الكروات والسلوفينيين الذين لم يخرجوا من بلادهم أثناء الحرب بتكوين حكومة ثورية بإسم"المجلس القومي" Narodno Vijece لزغرب الذي أعلن وحدة الصربيين والكروات والسلوفينيين الخاضعين للنمسا. وكان هذا المجلس هو ثالث المنظمات التي تتميز عن كل من حكومة الصرب ولجنة اليوجوسلافية المكونة خارج البلاد في المنفى.وسرعان ما حاز على تأييد شعبي وأصبح خلال شهر واحد يمثل حكومة سلاف إمبراطورية النمسا والمجر في الجنوب والتي وافقت بمقتضى تصويت أجرته للإنضمام للصرب والجبل الأسود لتكوين مملكة سلاف الجنوب الجديدة. وفي أول ديسمبر وفي إحتفال مهيب وفي بلجراد دعا مندوبو هذا المجلس الأمير الكسندر الوصي على العرش لإعلان الوحدة. وقد شارك في هذا الإجراء قيادات من الجبل الأسود حيث تكونت لجنة مماثلة في مدينة سيتنيه Cetinje وافقت على الإنضمام لدولة سلاف الجنوب المزمع إقامتها ضد معارضة نيقولا القوية الذي كان قد أصبح ملكاً على الجبل الأسود في 1910.

غير أن ساسة اليوجوسلاف من كل الجنسيات وتحت ضغط الأحداث الجارية وإنتهازاً للحظة حماسية ركزوا جهودهم على الوحدة وهي قضية أساسية, والحصول على إعتراف القوى الدولية. وآنذاك لم يكن هؤلاء قد حسموا أولاً مسألة شكل الوحدة الجديدة قبل ان يتم تحقيقها, ذلك أن مسألة الحدود كانت لا أولوية على شكل النظام السياسي الداخلي للدولة الجديدة التي أعلنت في ديسمبر 1918 خاصة وأنه لم يكن لها حدود متفق عليها, وبمجرد إعلان الدولة الجديدة كان للحدود أولوية كبرى وكانت أكثر المجادلات إثارة تلك التي تمت مع إيطاليا التي كانت آنذاك تود تنفيذ ما إتفق عليه في معاهدة لندن منا، يكون لها وضع سيادي في البحر الإدرياتي.

ولقد تركز صراع اليوجوسلاف معغ إيطاليا حول ثلاث مناطق: دلماشيا, وإستريا, وميناءها تريستا, وميناء فييوم Fiume, وكانت معاهدة لندن قد وعدت إيطاليا بالحصول على دلماشيا وإستريا دون فييوم مع أن أغلبية سكانهما من السلاف وخاصة دلماشيا والجزر التابعة لها حيث يشكل سلاف الجنوب 95% من سكانها فيما عدا مدينة زارا Zara التي فيها أغلبية إيطالية. وفي إستريا يشكل السلاف 80% ولهم الأغلبية في الريف. لكن ميناء تريستا أغلبيته من الإيطاليين, وكذا في مدينة بولا Pola (بولا Pula). أما فييوم وهي الميناء الطبيعي الوحيد للإقليم فسكانه تاريخياً منالكروات ولكن يضم أغلبية ملحوظة من الإيطاليين والمجريين.

وفي المناقشات التي دارت بشأن مصير تلك المناطق أقامت إيطاليا حجتها على أساس معاهدة لندن, أما الولايات المتحدة فرغم أنها كانت تقف إلى جانب الحدود العرقية بين قوميات البلقان, إلا أن فرنسا وإنجلترا لم تكونا على إستعداد للتنصل من المعاهدات السرية التي تفيد كل منهما, ومن ثم كان سعيهما لإحترام المعاهدات بدلاً من الدخول في مساومات من جديد. ولقد تم إنهاء حالة اليوجوسلاف على أساس المبدأ القومي تماماً وأحقية السكان السلاف في تلك المناطق بوضوح وضد إدعاءات الغير. ولقد جاء التأييد الرئيسي لحكومة بلجراد من الرئيس الأمريكي ولسن ففي مؤتمر الصلح أخذ موقفاً ضد ما كان يعتقده حيث نراه يسمح لإيطاليا بأخذ كل ترنتينو وجنوب التيرول التي تقيم فيها أقلية ألمانية عددها 250 ألف نسمة, وكان ينتظر منإيطاليا مقابل هذا الموقف أن تتنازل بشأن حدود دولة اليوجوسلاف الجديدة. وكان معظم المراقبين قد رأوا في "فكرة ولسون" حلاً عادلاً رغم أن الحدود المقترحة تمنح إيطاليا حوالي ثلاثة أرباع إستريا التي يسكنها 370 ألف يوجوسلافي ووافقت بلجراد على هذه التسوية لكن إيطاليا رفضت. وعلى هذا عندما رجع ولسون إلى بلاده ضعف وضع اليوجوسلاف ضعفاً ملحوظاً. أما مصير فييوم فقد أخذ جانباً كبيراً منالمناقشات في المؤتمر ثم فوجئ الجميع بأنالشاعر الإيطالي جابرييل أنونزيو D'Annuzio إحتل المدينة في حركة دامية وأعلن نفسه دكتاتوراً في 12 ديسمبر 1919.

على أن التسوية الأخيرة لهذا الأمر كانت تعكس مطالب إيطاليا أكثر من مطالب اليوجوسلاف ففي سبتمبر 1920 وافقت إيطاليا على تحليها عن إدعاءاتها في دلماشيا وتأييدها لقيام دولة ألبانية مستقلة بحدود 1913 في مقابل الحصول على كل من إستريا وميناء فييوم ومدينة زارا وبعض جزر دلماشيا. ووافقت بلجراد رغم أن التسوية المقترحة من إيطاليا بشأن إستريا كانت تعني التخلي عن عدد كبير من اليوجوسلاف ووضعهم تحت حكم إيطاليا. وفي تلك الأثناء إعترفت القوى الكبرى بما فيها إيطاليا بمملكة الصرب والكروات والسلوفينيين كدولة لليوجوسلاف وهو الأسم الذي ظلت تعرف به حتى عام 1912.

كان الموضوع الثاني مثار الجدل حول الحدود في مؤتمر الصلح ما يتعلق بدولة النمسا الجديدة, وقد تركزت حول إقليم كلاجنفورت :lagenfurt شمال جبال كارافنكن Karawanken وحسم الأمر عن رطيق إجراء إستفتاء شعبي حصلت عليه النمسا بمقتضاه على الإقليم وحصلت بلجراد على ضاحيتين من ضواحي إستريا وهما ماريبور Medjumurje . كما حدث صراع مشابه مع المجر حول أجزاء من بارانيا Baranja, وباشكا Backa, وبانات Banat تقيم فيها أغلبية صربية وقد ساعد إحتلال جيش الصرب لتلك المناطق حصول اليوجوسلاف على أغلب مطالبهم ولكن في بانات واجه الصرب معارضة من المجر ورومانيا, إذ كانت رومانيا تود أن ضم كل إقليم بانات حتى نهر تشيزا التي وعدت بها في معاهدة بوخارست 1916 حيث أوضحت أن الإقليم غير قابل للتقسيم إقتصادياً وسياسياً بإعتباره وحدة واحدة. أما اليوجوسلاف فكان من رأيهم تقسيم الإقليم على الأساس العرقي وقد تم الأخذ بهذا الرأي. وهكذا تم رسم الحدود التي خسرت رومانيا بمقتضاها أقلية يوجوسلافية قوامها 65 ألف نسمة وخسرت بلجراد مجموعة قوامها 75 ألف رومانياً.

ومن ناحيةأخرى رغبت حكومة يوجوسلافيا الحصول على مكاسب مشابهة على حدودها مع بلغاريا تحدد على أساس عسكري وإستراتيجي وليس على أساس عرقي. وإنحصرت مطالبها في أن يكون نهر ستروما هو الحدود بهدف تأمين سيطرتها على ممر دراجومان Dragoman وأخذ مدينة فيدين, وبكلمات أخرى كانت يوجوسلافيا تتطلع إلى ضم أقاليم إلى الشرق وراء خط تقسيم المياه الطبيعي, والتي كانت تمثل حدودها السابقة حيث السكان بلغار دون منازع.ولم يكن أحد من القوى الأخرى ليسمح بتحقيق تلك المطالب الشرهة لكن اليوجوسلاف أخذوا أربعة مناطق بارزة إستراتيجياً وهي: نيجوتين Negtin, وتسارابيا Tsaribord, وفرنيه Vranje, ووادي ستروميكا Strumica وظلت حدود اليونان وألبانيا كما كانت عليه في عام 1913.

لقد تزامنت معركة المفاوضات مع الصراع الذي نشب حول الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه الحكومة في الدولة الجديدة ذلك أن هذه الدولة أصبحت تضم مجموعتين قوميتين رئيسيتين ألا وهما اكروات والصرب, ولكل منهما تجربة تاريخية مختلفة عن الأخرى في مجال التطور السياسي. فالصرب كما رأينا وفي سبيل إنجاز برنامجها القومي حاربت مرتين الأولى ضد الدولة العثمانية والثانية ضد النمسا ونجحت في تكوين دولة واحدة مركزية على النمط الفرنسي في مطلع القرن التاسع عشر, وكان قادة الصرب يعتبرون الدولة السلافية الجديدة (يوجوسلافيا) ببساطة قمة نهاية الأحداث الكثيرة التي تقود إلى الوحدة القومية,وكانوا يرون أنه ليس هناك ما يدعو لأن يتكيف شركاؤهم الجدد (الكروات) مع مؤسساتهم ومعتقداتهم السياسية. أما الكروات فكانوا على عكس الصرب عاشوا خلال تاريخهم في إطار علاقة فيدرالية مع شعوب أخرى ووسط إطار سياسي أكبر, وكان إتحادهم مع المجر في العصور الوسطى ثم مع حكم أسرة الهاسبورج (النمسا) فيما بعد قد حافظ على حقوقهم الذاتية حتى عام 1914 ومن ثم فقد اصر زعماؤهم على إستمرار تلك التقاليد وبالتالي وقفوا إلى جانب إقامة نظام فيدرالي يصبحون فيه شركاء على قدم المساواة ليس فقط مع الصرب بل مع السلوفينيين الذين كانوا من نفس الرأي.

كان إعلان كورفو الذي سبقت الإشارة إلى الدعوة إلى جمعية تأسيسية لوضع الدستور لكن الأزمة مع إيطاليا جالت دون ذلك. والذي حدث أنه في ديسمبر 1918 تشكلت حكومة إنتقالية من كل المجموعات السياسية وكل الأقاليم في الوقت الذي كانت الإستعدادات تجري للإنتخابات العامة. وقد إشتركت فيها خمسة عشر مجموعة سياسية وتمت في نوفمبر 1920 لإختيار 419 عضواً, وأسفرت عن فوز 91 عضواً من الحزب الراديكالي, و92 من الحزب الديموقراطي. والحقيقة ان الحزب الراديكالي كان إستمرار للحزب الحاكم في الصرب قبل الحرب والذي أصبح يؤيده يعض من صرب النمسا. أما الحزب الديموقراطي فقد تأسس في 1919 من أعضاء من التحالف الكرواتي-الصربي الذي يضم راديكاليون صربيون وليبراليون سلوفينيون وآخرون, وكان هو الحزب اليوجوسلافي الوحيد الذي كان يؤيد إقامة حكومة مركزية. وهناك حزبان آخران ظهراً في تلك الإنتخابات بقوة ملحوظة وهما حزب الفلاحين الكروات الذي نال 50 مقعداً والحزب الشيوعي الذي نال 58 مقعداً. ولقد نال حزب الفلاحين بزعامة ستيبان راديتش Stjepan Radic تأييد غالبية الفلاحين الكروات وكان يؤيد يشدة إقامة حكم ذاتي للكروات, بل إن بعض قادته كانوا يفضلون إستقلال الكروات إستقلالاً تاماً. أما الشيوعيون الذين كانوا يمثلون الشيوعيون الذين كانوا يمثلون كل أقسام البلاد فلم يحصلوا على أصوات الناخبين في الأماكن الفقيرة في كل من الجبل الأسود ومقدونيا.

وقبل أن تجتمع الجمعية الوطنية المنتخبة إنسحب حزب الفلاحين إحتجاجاً على التصويت التي تم إقرارها, وإتخذت الحكومة إجراءات ضد الشيوعيون في أعقاب جدال حول عدد من القضايا السياسية والإقتصادية. وهكذا لم يشترك في المناقشات إلا 342 عضواً من أصل 419 عضواً. وتم تقديم كثير من مسودات لوضع دستور غير أن المشروع الذي تقدمت به الحكومة كان يستند جملة وتفصيلاً إلى دستور الصرب فيماعدا بعض التغيرات الخاصة بأمور الدين. وينص المشروع على إقامة حكومة مركزية, وأن تكون الملكية دستورية, وحق التصويت العام للذكور, وأن يكون الإقتراع سرياً, وأن يتم تقسيم البلاد إلى عدة دوائر وأقسام. أما المسودات التي قدمتها الأحزاب الأخرى فكانت مختلفة إختلافاً بيناً عن مشروع الحكومة. على أن النفوذ الرئيسي في الجمعية كان يمثله سڤتوزار پريبيچڤچ Svetozar Pribicevic الصربي والزعيم السابق للتحالف الكرواتي-الصربي الذي أصبح في الحزب الديموقراطي, ولأنه كان مؤمناً قومياً بفكرة يوجوسلافيا واحدة فإنه كان يود إنهاء التقسيمات التاريخية القديمة وكان يؤيده في هذا الإتجاه باشيك الذي لم يكن يفضل الشكل الوحدوي فقط بل كان يود تكوين حكومة مستقرة باسرع وقت ممكن. كما ان الحزبين الراديكالي والديموقراطي وهما أقوى الأحزاب في الجمعية كانا يؤيدان أيضاً هذا الهدف. وفي يونية 1921 غشترك 258 عضواً في التصويت الأخير نظراً لإنسحاب الكروات ورجال اللاهوت السلوفينيين والشيوعيين وليس فقط حزب الفلاحين. وأخيراً تمت الموافقة على مشروع الدستور بواقع 223 صوتاً يمثلون أساساً كل من الديموقراطيين والراديكاليين وأيضاً نواب البوسنة المسلمين. وهكذا تلقت الدولة الجديدة بمقتضى هذا الدستور حكومة غاية في المركزية كانت في الواقع عبارة عن إستمرار لنظام الحكم في الصرب ولعل الإضطراب والفوضى التي عانت منه في السنوات التالية كان يعود في جانب كبير منه إلى طبيعة ذلك الدستور الذي تم إقراره.


رومانيا الكبرى

إذا كانت المناقشات حول رسم حدود يوجوسلافيا صعبة وطويلة فإن مسألة حدود رومانيا أثارت جدلاً كبيراً وواسعاً أكثر مما أثارته حدود يوجوسلافيا, وفي هذا الخصوص علينا أن نتذكر أن رومانيا إنضمت إلى الحلفاء في عام 1916 مقابل وعد بحصولها على إقليمي ترانسلفاينيا وبانات, لكن بعد هزيمتها في الحرب إضطرت لتوقيع صلح منفرد مع دول الوسط. وما لبثت أن دخلت الحرب مرة أخرى في العاشر من نوفمبر 1918 بعد أسبوع من إستسلام النمسا وقبل يوم واحد من إستسلام المانيا. وفي تلك الأثناء أقدم فرديناند ملك رومانيا على طرد رئيس وزرائه مرجيلون الموالي لألمانيا كما سبقت الإشارة وإستدعي في 21 ديسمبر براشيانو رئيس الحكومة السابق الذي عزم على ضمان تنفيذ شروط إتفاقية 1916 ؤغم إخلال الحكومة السابقة بشروطها بمجرد عقدها صلح منفرد. على أن برشيانو لم يكن ينوي أخذ ترانسلفانيا وبوكوفينا وبانات فقط, بل كان يأمل في الحصول على بسارابيا ومعظم دوبروديا, وأن يعامل الحلفاء بلاده على قدم المساواة أثناء مفاوضات الصلح.

لقد كان براشيانو يتكلم من موقع حيث كان الجيش الروماني يحتل كثيراً من البلاد التي يطالب بها, والحلفاء منقسمون على أنفسهم تجاه تلك المطالب, فضلاً عن أن الثورة الروسية-وهذا له أهميته القصوى- أضافت عنصراً جديداً فس مشهد أوروبا الشرقية, ذلك أن الأمر لم يعد يقتصر على إستيلاء البلاشفة على الحكم في روسيا بل لقد تولت الحكم في المجر حكومة شيوعية بزعامة بيلا كون Bela Kun مما أثار رعب الحلفاء وتخوفهم من أن هذه الموجة الثورية سوف تساعد رومانيا في مطالبهم في كل من المجر وبساربيا. وأكثر نم هذا فإن "لجان القومية الأراضي" في بعض الأقاليم كانت تؤيد التوحد مع المملكة الأم شأن حالة "اليوجوسلافية". وفي هذا الخصوص كان أعظم المشاهد تأثيراً ما حدث في "ألبا إيوليا" في أول ديسمبر 1918 حين أعلن مئات الآلاف من الرومانيين الترانسلفيين في إجتماع عام عن رغبتهم في الإنضمام إلى رومانيا. وصدرت إعلانات مماثلة في بوكوفينا من قبل في 28 نوفمبر, وفي بسارابيا في العاشر من ديسمبر, وفي يناير 1919 إتخذ الألمان-السكسون نفس القرار, وكان الجيش الروماني يحتل كل هذه الأماكن.

والحقيقة أن الحصول على إقليمي بانات وترانسلفانيا كان أقصى جائزة يحلم بها براشيانو لبلاده وقد سبقت الإشارة إلى وضع رومانيا في بانات التي كان سكانها حوالي مليون ونصف نسمة منهم طبقاً للإحصاءات الرومانية 600 ألف روماني, 358 ألف ألماني, 358 ألف صربي, 240 ألف مجري. وقد أعربت رومانيا عن رغبتها في المحافظة على وحدة الإقليم وتذرعت بأن الألمان الذين يعيشون فيه يفضلون حكم رومانيا على حكم يوجوسلافيا. وعلى هذا إقترح براشيانو ‘جراء غستفتاء عام بين السكان, لكن الحلفاء لم يكونوا يريدون تعريض بلجراد (العاصمة المقترحة ليوجوسلافيا) لمصير غامض في حالة حصول رومانيا على كل إقليم بانات. ومن ناحية أخرى كانت قوات الصرب تحتل ضاحية تورونتال Torontal وسكانها من الصربيين وسوف يكون من الصعب إخراجهم منا, ولكل هذه الإعتبارات إعتمد الحلفاء خطة التقسيم.

والحق إن مشكلة الترانسلفانيين لم تجد حلاً منصفاص لها وكانت التوسيات الأخيرة في معاهدة تريانو Trianon (أحد معاهدات تسويات الحرب العالمية الأولى وكانت معها المجر) قد غنتهت بترك مليوني مجري في بلاد رومانيا وكانت تلك النهاية ترجع غلى أن المجيين كانوا يتركزون في شرق وسط ترانسلفانيا المحاطة بشرقي وجنوب جبال كارباثيا وغابات بيهور Bihor, وأما سكان غرب تلك المنطقة فكانوا يخضعون لرومانيا, وبهذا أنعزلت المجموعة الرئيسية من المجريين عن بلادها. ورغم أن حكومة المجر لم تكن ترغب في التخلي عن الشعوب التي تحكمها إلا أن أكث رالمناقشات سخونة تلك التي تناولت الأماكن في الغرب حيث يعيش الرومانيون والمجريون معاً على إمتداد مدن آراد Arad, وأوراديا Oradea (ناجيفاراد Nagyvard), وكاري Carei (ناجيكارولي Nagykaroly), وساتو ماري Satu mare والتي تربط بينها جميعاً خط سك حديدية من يسيطر عليه يتحكم في إقتصاديات المنطقة, وتلك المدن كانت مجرية بشكل عام لكن الريف المحيط بها كان روماني الطابع, وعلى هذا أصبح من المحتمل أن إيجاد مناطق متاخمة عرقياً قد تشطر خط السكك الحديدية هذا أصبح من المحتمل أن إيجاد مناطق متاخمة عرقياً قد تشطر خط السكك الحديدية هذا في عدة أماكن.

غير أن خطط براشيانو كانت تتجاوز مسألة التوصل إلى إتفاق بشأن مناطق تخوم عرقية, إذ كان يسعى إلى أن يكون حد نهر تشيزا الذي منحت رومانيا إياه بمثابة الجزء الشرقي للمجر. لكن هذا المطلب وإقتراحات أخرى كانت من وجهة نظر الحلفاء تمثل عبئاً ثقيلاً عليه. على حين كان برشيانو يعتقد أن الحلفاء لم يقدروه حق قدره, وأن بلاده رومانيا ينبغي أن تكافا على دورها في إنقاذ تسالونيكتو وفي تهدئة الأوضاع في فيردو Verdua, وإيقاف خطر البلشفية.

ورغم ما يمكن توجيهه من إنتقادات لمطالب براشيانو إلا أ، حكومته كانت تتمتع بميزة نسبية في مفاوضات الصلح بسبب موقف الحلفاء تجاه التهديد الشيوعي الظاهر. ومن ذلك أنه عندما إستولى الثوريون على الحكم في بودابست بزعامة بيلا كون في مارس 1919 بادر براشيانو فوراً بإرسال فرقة عسكرية للمجر إحتلتها في الرابع من أغسطس (1919), وحينئذ أعلن براشيانو أن جيشه "حما الحضارة الأوروبية من موجة البلشفية المدمرة", وإستحسن الحلفاء قمع حكومة بيلا كون لم يستحسنوا الإجراءات التي قامت بها رومانيا فيما بعد وخاصة عندما طلبت تعويضاً يتلخص في أن تتنازل المجر عن حوالي نصف مراكبها النهريةو ونصف عربات قطارات خط السكك الحديديةو وحوالي ثلث ثروتها ومصانعها و35 ألف علربة محملة بالغلال. وقد إحتج الحلفاء على هذه المطالب بشدة لدرجة أن المندوب الأمريكي في مفاوضات الصلح إقترح إرسال قوات بحرية لكبح جماح الرومانيين.

أما براشيانو فقد تشابكت لديه شخصياً مسألة حدود المجر مع مسألة معاملة الأقليات ولما كان واضحاً أن الحدود الجديدة المقترحة قد يترتب عليها وجود أقليات داخل كل من رومانيا والمجر وفي كل بلد من بلاد البلقان فقد طلب الحلفاء من حكومات تلك البلاد التوقيع على معاهدات يتعهد فيها كل منها بإحترام الحقوق السايسية والحريات الشخصية للأقليات. غير أن يوجوسلافيا ورومانيا إعترضتا على هذه التعهدات من حيث المبدأ لأنها تبدد سيادة كل منهما خاصة وأن الدول الكبرى لن تقبل شروطاً مماثلة. وقد تولى براشيانو في رومانيا قيادة المعارضة لهذه الترتيبات وفي سبتمبر إستقال من منصبه, وخلفه الجترال آرثر فايتويانو Vaitoianu أحد معاونيه المخلصين ثم أجريت الإنتخابات في نوفمبر حيث هزم الحزب الليبرالي وفاز الحزب القومي الترانسلفاني وهو حزب جديد, وكذا أحزاب الفلاحين من القوى السياسية في المملكة القديمة. وفي الشهر نفسه أرسل الحلفاء إنذار لحكومة رومانيا بالجلاء عن المجر إلى الحدود المتفق عليها, والتوقيع على تعهد حقوق الأقليات, والتقدم بطلب التعويضات إلى لجنة من الحلفاء لبحثها, وإذا لم تستجب إلى هذه الشروط فسوف تقطع العلاقات معها. ورغم اللهجة الخشنة في الإنذار إلا أن الحلفاء لم يتصرفوا بشكل فوري ذلك أنه في ديسمبر 1919 قام الملك فرديناند بتعيين ألكسندر فايدا-فويفود Vaida-Voievod رئيساً للوزراء وهو ترانسلفاني ومن ثم رأى الحلفاء إيداء حسن النية للرجل الجديد وتسهيل مهمته حيث بدا لهم انه لديه إستعداداً للتفاهمز

ورغم أن فايدا-فويفود وافق متمنعاً على معاهدة حقوق الأقليات إلا أنه ولأسباب تتعلق بالسياسة الداخلية تردد في الإنسحاب من المجر وظل الأمر كذلك حتى نجح لويد جورج (رئيس وزراء إنجلترا) في كسر جمود الموقف حين إقترح أن يعترف الحلفاء بإستيلاء رومانيا على بساربيا بعد أن تسحب قواتها من المجر, وهو ما حدث فعلاً في مارس 1920 أثناء حكومة ألكسندر آفريشكو. وهكذا تخلت رومانيا عن إدعاءاتها في الأراضي المحازية لنهر تشيزا ولكنها حصلت على مناطق نخوم خط آراد-أوراديا-ساتو ماريه. وفي الوقت نفسه إقتسمت إقليم مارموريس Maramures مع تشيكوسلوفاكيا حيث كان نصيبها الثلث الجنوبي من الإقليم الذي يسكنه رومانيون وكذلك مدينة ساتو ماريه.

كما حصلت رومانيا على تسوية مرضية في مكانين آخرين وهما بوكوفينا وبسارابيا وكان الحلفاء قد وعدوها في معاهدة بوخارست 1916 بالحصول على ثلثي إقليم بوكوفينا الذي تسكنه أغلبية رومانية, وأما الثلث الآخر بسكانه الروثينيين Ruthenian فيذهب إلى روسيا, ولكن فور ثورة البلاشفة طالبت رومانيا بكل الإقليم وأسرعت بإحتلاله. ورغم إعترضات الولايات المتحدة القوية, إلا أن رومانيا حصلت على معظم الإقليم وأخذت بولندا جزء من شماله.

أما بسارابيا فكانت كما سبقت الإشارة إقليماً مثار إختلاف شديد بن رومانيا وروسيا حيث كانت شأن ترانسلفانيا تشتمل على عناصر رومانية متطرفة في قومتيها. وخلال مفاضاوضات رومانيا مع دول الوسط وقبل أن تتفاوض مع الحلفاء, كانت بسارابيا هي الجائزة الوحيدة التي يمكن أن تحصل عليها من دول الوسط الثلاث مقابل الحياد أو أن تقتسمها فيما بينها. غير أن ثورة البلاشفة في نوفمبر 1917 أوقعت بسارابيا في فوضى عامة ومن ثم طلب القوميين الرومانيون في الإقليم من خلال مجلس حكمهم المعروف بإسم "مجلس الأرض" Sfat Tarii من رومانيا حمايتهم من تدخل البلاشفة والأوكرانيين. وعلى هذا بادرت رومانيا بإحتلال بسارابيا وعقدت في القوت نفسه هدنة مع دول الوسط, وبهذا إكتسبت مسألة بسارابيا أهمية كبيرة في مفاوضات الصلح. وكانت معاهدة بوخارست في مارس 1918 قد سمحت برومانيا بإحتلال بسارابيا, وفي ديسمبر 1918 وافق "مجلس الأرض" على إتحاد بسارابيا مع رومانيا في وحدة كاملة. ورغم ذلك فإن الحلفاء وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية لم يتحمسوا للنظر في الموضوع, وكل ما هنالك أنهم أعربوا عن شكوكهم حول طبيعة "مجلس الأرض" في تمثيل روماني الإقليم, وكذا حول دور جيش رومانيا في إتخاذ ذلك القرار. كما لم يتحمسوا لتناول مسألة بسارابيا التي كانت إقليمياً روسيا حتى ثورة البلاشفة رغم أن الرومانيين كانوا يمثلون 60% من سكانها. وأخيراًوكما رأينا إرتبطت مشكلة بسارابيا مع موضوع المجر, وفي يناير 1920 وافق الحلفاء على منح رومانيا كل الأراضي المتنازع عليها.

وهكذا أصبح بإمكان رومانيا تحقيق أقصى أمانيها عن طريق دبلوماسييها الذين إستغلوا المخاوف من ثورة البلاشفة حيث إستولت على كل تراانسلفانيا وبسارابيا وهو أمر كان غير ممكن عام 1912 أثناء حروب البلقان, ومستحيل تماماً في القرن التاسع عشر. وبهذا الإستيلاء أصبحت الأقليات في رومانيا الجديدة تمثل 30% فقط ولو أنها أصبحت تمثل مشكلة في مستقبل الأيام. وكان على حكام رومانيا والحال كذلك أن يقرروا السياسة التي سوف يتبعونها في علاقاتهم بالإقليمين الجديدين (بسارابيا وترانسلفانيا) وكل منهما له تاريخ وتقاليد مختلفة عن الآخر مثلما كان على الصرب أن تحدد علاقاتها بعد الحرب. ولم يكن أمام رومانيا إلا تطبيق نظامها السياسي على الإقليمين مثلما فعلت الصرب في البلاد التي ضمتها. غير أن أسوأ رد فعل حدث نتيجة لتلك السياسة جاء من ترانسلفانياو ففي التصويت الذي جرى في ألبا آيوليا في ديسمبر 1918 بشأن الوحدة مع رومانيا لم يعتبر قادة ترانسلفانيا أن الوحدة تمر دون شروطو إذ كانوا يأملون في أن يحصلوا من رومانيا مقابل الوحدة ما لم يحصلوا عليه من المجر عندما كانوا تحت سيطرتها, ومن ثم طالبوا بضمانات قوية لحقوق كل القوميات والأديان في ترانسلفانيا, وكذا الحقوق المدنية كحرية الصحف وحرية تكوين الجمعيات والروابط وإستخدام لغاتهم المحلية في الإدارة والتعليم والقضاء. كما طلبوا بالسماح بإقامة حكم محلي ريثما يتم تكوين جمعية تأسيسية تشريعية. وقد إختارت الجمعية مجلس إدارة ومجلس وزراء من خمسة وزيراً برئاسة يوليوس مانيو Maniu الذي بدا آنذاك كأقوى سياسي ترانسلفاني وقد أبرق إلى رومانيا معلناً الموافقة على الوحدة معها وفي الشهر نفسه إنضمت شخصيات ترانسلفانية إلى حكومة رومانيا مثل فايدا-فويفود.

على كل حال ففي نوفمبر 1919 جرت إنتخابات للجمعية التشريعية في رومانيا وربما كانت أول إنتخابات حرة جرت هناك وكانت نتيجتها صدمة لحزب براشيانو الليبرالي الذي حصل فقط على 93 مقعداً من أصل 244 مقعداً, وذهبت الأغلبية إلى الحزب القومي الذي يرأسه مانيو, وفايدا-فويفود الذي تحالف مع أحزاب الفلاحين القائمة في رومانيا من قبل. ورغم كراهية الملك (فرديناند) للتحزب مع براشيانو كما سبق أن رأينا, إلا أنه قام بتعيين فايدا رئيساً للوزراء لكن سرعان ما حل محله الجنرال آفريشكو في مارس 1920, وأجريت إنتخابات جديدة في مايو حيث بدا أن سياسات رومانيا عادت إلى قواعدها التقليدية السابقة فالحزب الليبرالي عاد إلى التقليد القديم القائل بأن المجموعة التي في الحكم تكسب الإنتخابات فنراه يحصل على 209 مقعداً من 319. وآنذاك كان قد تم إلغاء "مجلس الأرض" في ترانسلفانيا. وفي ديسمبر 1921 ترك الجنرال آفريشكو الحكومة وخلفه في يناير 1922 براشيانو وبهذا سيطر الحزب الليبرالي على سياسات رومانيا حتى عام 1928.

وفي الإنتخابات التي أجريت في مارس 1922 زادت مقاعد الحزب الليبرالي إلى 260 مقعداً وقدمت الجمعية الجديدة التي أصبحت تحت سيطرته مسودة دستور أقل شأناً بكثير من دستور 1866. ولقد بدت الروح المركزية لدى الحكومة في النص في الدستور على أن رومانيا "دولة متحدة وغير منقسمة", وإحتفظ الملك بسلطات مطلقة. وظل تنظيم الحكومة دون تغيير كما كان قبل الوحدة.

وآنذاك ظهرت أعراض رد الفعل القوي تجاه الأوضاع السياسية الجديدة وخاصة من ناحية ترانسلفانيا. والحاصل أن الحكومة المركزية في بوخارست أدارت شؤون الأقليم الجديدة بواسطة مسئولين من الممكلة القديمة, كما ظل الجيش والوظائف الإدارية العليا والمناصب الدبلوماسية في يد أهالي ولاشيا ومولدافيا (أصل رومانيا). وقد بدت مشاعر عدم الرضا أثناء حفل تتويج الملك فرديناند في أكتوبر 1922 في ألبا إيوليا, إذ لم يحضره الحزب القومي أقوى ألأحزاب في ترانسلفانيا, وأيضاً قادة زعماء الأقاليم الجديدة الذين كانوا مسئولين عن تحقيق الوحدة. وكما حدث في يوجوسلافيا أصبح تقرير سياسات رومانيا في يد الحكومة المركزية والأقاليم الأكثر تقدمية.

بلغاريا

تجدر الإشارة إلى أن بلغاريا والدولة العثمانية من بين كل الدول التي عرضنا لها كانتا في الجانب الخاسر من حيث نتائج الحرب, ولم يكن أمامها إلا الخضوع لشروط قاسية وخشنة. والحاصل أن قادتها كما سبقت الإشارة كانوا منقسمين فيما يتعلق بالدخول للحرب وفي يونية 1918 إضطر ملكها فريدناند تحت الضغط الشعبي إلى طرد رادوسلافوف Radoslavov رئيس الحكومة, وفي سبتمبر أفرج عن ألكسندر ستامبوليسكي Stambolisky زعيم حركة الإصلاح الزراعي من السجن، الذي سرعان ما أصبح في خلال أسبوع من خروجه من السجن زعيماً لحركة ثورية أعلنت الجمهورية في بلغاريا. ورغم أن الجيش تمكن من سحق هذه الحركة بسهولة إلا أن الملك فرديناند أرغم في الرابع من أكتوبر 1918 على التنازل عن العرش لإبنه بوريس الثالث Boris وذهب ومعه رادوسلافوف إلى منفاهما في ألمانيا, وتكونت حكومة إئتلافية دامت حوالي ثمانية أشهر من كل من الديموقراطيين, والمصلحين الزراعيين, والإشتراكيين, والليبراليين, والمحافظين, ثم أجريت الإنتخابات في أغسطس 1919 حصل فيها المصلحون الذي قام بالتوقيع على أقسى شروط بالغة العقوبة يمكن أن تكون في معاهدة صلح.

وبمقتضى شروط تلك المعاهدة خسرت بلغاريا أربعة مناطق إستراتيجية راحت ليوجوسلافيا رغم أن سكانها بلغار, وهو الأمر الذي ناقشاه سلفاً. وكان قرار الحلفاء بمنح غرب تراقيا لليونان وحرمان بلغاريا من مخرج على بحر إيجه مبني على إعتبارات إستراتيجية مشابهة في مقدمتها الرغبة في إبقاء دولة معادية سابقاً (أي بلغاريا) بعيداً عن المضايق العثمانية وهي منطقة تشتمل على خليط سكاني من الأتراك والبلغار واليونانيين ولا يتمتع أحدهم فيها بأغلبية مطلقة. وعلى هذا كان وجود بحري عند ددياجاتش Dedeagatch أكثر أهمية لإقتصاد بلغاريا عن اليونانيين الذين لديهم قولة وتسالونيكا. ومن باب تخفيف شدة الموقف على بلغاريا ووافقت حكومة اليونان على أن تستخدم بلغاريا أحد موانيء بحر إيجه دون رسوم لكن بلغاريا رفضت العرض وفضلت أن تبقى المسألة مفتوحة ولم توافق على أن تخسر المنطقة.

ولم تقتصر معاقبة بلغاريا على ذلك النحو بل لقد فرضت عليها شروط غاية في القسوة عند توقيع المعاهدات النهائية, إذ تقرر أن تدفع غرامة قدرها 450 مليوم دولار على مدى 38 عاماً, وهكذا تقرر تخفيض جيشها وفرق الجندرمة وحرس الحدود إلى 33 ألف فرد, ولو أنه شرط يمكن التحايل عليه بطريقة أو بأخرى. وعلى هذا ينبغي افشارة إلى أن شروط هذا الصلح القاسي العنيف لم تكن مقبلولة فمثلاً إقترح المندوبون الأمركييون في المشاورات الأولى أن تتنازل رومانيا لبلغاريا عن الأراضي جنوب دوبروديا التي تقيم فيها أغلبية بلغارية. غير أن براشيانو رئيس حكومة رومانيا لم يكن الرجل السياسي الذي يفرط في أرض. وقد ظل البلغاريون في السنوات التالية يشعرون بمرارة شديدة من نتائج حرب البلقان الثانية والحرب العالمية الأولى, وبالتالي كان من الممكن أن ينتهزوا أي فرصة في الشؤون الدولية تمكنهم من تعديل الوضع الذي إنتهوا إليه.

اليونان والدولة العثمانية: الجمهورية التركية

رغم إختلاف وضع كل من بلاد اليونان والدولة العثمانية إلا أن مصيرهما بعد إنتهاء الحرب كان متشابكاً بدرجة كبيرة. وفي البداية بدا أن الدولةالعثمانية سوف تواجه مستقبلاً بائساً ويائساً لأن قواتها العسكرية لم تهزم فقط في سوريا (ثورة الشريف حسين في يونية 1916) بل لأن أسطول للحلفاء تمكن من المرور عبر الدردنيل ورابط قبالة إستانبول في نوفمبر 1918, ثم حدثت الإهانة الأخيرة في فبراير 1919 عندما سار قائد القوة الفرنسية في شوارع إستانبول على ظهر جواد أبيض قدمته له الجالية اليونانية، وفي مايو 1919 بدأت القوات اليونانية تنزل في الأناضول.

وعندما بدأ الحلفاء في صياغة شروط الصلح مع الدولة العثمانية وضعوا في إعتبارهم أربع معاهدات سرية كانت قد أبرمت بين إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وروسيا إستهدفت تقسيم الدولة العثمانية فيما بينها. ففي 1915 وافقت فرنسا وإنجلترا على أن تحصل روسيا على إستانبول, وكذا شواطئ شمالي البوسفور والدردنيل عند نهاية الحرب في الوقت الذي وعدت معاهدة لندن إيطاليا بالحصول على أضاليا وهي الجزء الجنوبي الغربي من شبه جزيرة الأناضول. وفي 1916 إتفقت إنجلترا وفرنسا على تقسيم بلاد المشرق العربي فيما بينهما بمقتضى إتفاقية سايكس-بيكو، حيث يصبح بإمكان روسيا الإستيلاء على أرمينيا. وأخيراً أكد إتفاق سانت جان دي مارينيه St.Jean de Maurienne المبرم في 1917 على حق إيطاليا في أضاليا فضلاً عن إعطائها أزمير التي كانت تقطنها أغلبية يونانية. والحق أنه إذا ما قدر لتلك الإتفاقيات أن تنفذ فإن هذا يعني تقليص الدولة العثمانية في منطقة شمال وشمال غرب شبه جزيرة الأناضول، ووضع أراضي يسكنها المسلمون الأتراك في أيدي دول أوروبية.

على أن مثل تلك الإتفاقيات وإتفاقيات أخرى تتعلق بمناطق أخرى كان من الصعب تنفيذها ولكن بقيام ثورة البلاشفة التي فضحت إتفاقيات روسيا القيصرية السرية مع الحلفاء وأنكرتها جعل الحلفاء في حل من إلتزاماتهم تجاه روسيا ولكن ظلت الإتفاقيات المتناقضة فيما بينهم قائمة. فإيطاليا كانت عازمة على أخذ أضاليا وأزمير رغم أن أزمير وما جاورها من أراض يسكنها يونانيون يربو عددهم على المليون فضلاً عن ان اليونان أحد الحلفاء. وفي تلك الأثناء كان فنزيلوس رئيس حكومة اليونان مقتنع بأن الوقت قد حان لتحقيق الحد الأقصى من برنامجه "الفكرة الكبرى" من حيث السيطرة على الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط عند الأناضول. وبمقتضى ولائه الظاهر لقضية الحلفاء في الحرب وإستثماره للموقف حصل على موافقة إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية على إنزال قوات يونانية في أزمير في مايو 1919. ولم يكن الحلفاء يرغبون فقط في دعم موقف اليونان بل لقد كانوا بحاجة للقوات اليونانية لقمع المعارضة التركية في الأناضول. وفي كلمات أخرى وحيث أن دول الحلفاء لم تكن لديها قوات تحت أيديهم بسبب طلب الناخبين بإلغاء التجنيد والتعبئة العسكرية فقد وافقوا أن تقوم اليونان بفرض شروط الصلح على الأمبراطورية العثمانية, وفي القوت الذي كانت فيه قوات فرنسية وإيطالية تحتل أجزاء من الأناضول، واعلنت دولة أرمنيا المستقلة.

على كل حال ففي أغسطس 1920 أرغم السلطان العثماني محمد السادس على توقيع معاهدة سيفر Sevres وكانت بنودها غاية في القسوة, فبلاد المشرق العربي أخذتها إنجلترا وفرنسا, وأرمينيا أصبحت في طريقها للإستقلال, واليونان أخذت أراضي شرقي تراقيا أي شمال الدردنيل وبحر مرمرة وإستانبول فضلاً عن إدارتها لأقليم أزمير لمدة خمس سنوات يجري في نهايتها إستفتاء حول مصير الإقليم لم يكن من الصعب التكهن بنتيجته. كما كوفئت اليونان أيضاً بالحصول على جزيرتي تندوس وإمبروز Imbros ولها أهميتها الإستراتيجية. كما تم التأكيد على سيطرة إيطاليا على جزر الدوديكانيز, وتقرر تدويل المضايق, وإحتفظت الدولة العثماينة بإستانبول وما بقي من الأناضول ويلاحظ أن هذه التسوية لم تؤد إلى تفكيك الدولة العثمانية فقط بل لقد كانت تعني تفتيت العرقية التركية بين أكثر من مكان. والحق أن الدولة العثمانية قبلت مضطرة التخلي عن الجزء العربي من إمبراطوريتها لكنها لم تقبل التخلي عن الأراضي الأخرى وخاصة تلك التي تقرر منحها لليونان مما أثار مشاعر قومية حادة, ذلك أنه في حالة تنفيذ معاهدة سيفر فسوف تنقطع صلة تركيا ببحر إيجه وتصبح إستانبول محاطة بأراضي تحت سيادة اليونان. على هذا أدت معاهدة سيفر وكذا إحتلال اليونان للأراضي المشار إليها إلى نمو تيار ثوري بين الأتراك إنتهى بالإطاحة بالسلطة العثماينة وتأسيس الجمهوريةالتركية.

كان من حظ الحركة القومية التركية وجود مصطفى كمال الذي يعتبر أحد رجال السياسة الموهوبين في ذلك الزمان, ففي أثناء الحرب أبلى بلاءً حسناً وأثبت مهارته العسكرية وكان القائد العسكري العثماني الوحيد الذي حقق إنتصارات في حملته على الدردنيل وضد روسيا. وبعد إنتهاء الحرب كان قد أدرك عقم الحكومة العثمانية وإحباطاتها المتوالية ومن ثم بدأ ينظم حركة مقاومة سرية ضد السلطان وضد القوى التي تحتل أراضي بلاده. ولكنه في البداية لم يجد تشجيعاً ملحوظاً من الأتراك الذين كان معظمهم لا يزال متمسكاً بالولاء للسلطان-الخليفة. لكن سرعان ما تبدل الموقف نتيجة إستمرار المقاومة ضد اليونانيين ولو بشكل متقطع في تراقيا وخاصة بعد نزول قوة بحرية يونانية في ازمير في مايو 1919. ولم تكتف اليونان بإحتلال الأراضي التي خصصتها لها معاهدة سيفر, بل لقد بدأت في التوغل في الأراضي التركية ذاتها. ورغم أن الجيش التركي كان منهكاً ومتعباً من الحروب المتواصلة منذ 1911, إلا أن كثرة من العسكريين إصطفوا بجانب مصطفى كمال الذي قام مركزاً للعمليات في آن واحد خاصة وأن أتباعه نجحوا في السيطرة على البرلمان في إنتخابات 1919 لكنه لم يشأ أن يتحدى علناً السلطان العثماني الذي كان لا يزال في قبضته سلطات كثيرة. ولكن بمجرد إعلان شروط معاهدة سيفر ثارت عاصفة من السخط والتذمر في جميع أنحاء البلاد, وإنزعجت إنجلترا من أن هذه العاصفة قد تمنع السلطان من قبول المعاهدة, ولهذا وحتى تضمن تنفيذها وتخرس أتباع مصطفى كمال شجعت اليونان على التقدم داخل الأراضي التركية, ومن ثم إحتلت قواتها مدينة بورصة بالأناضول في يوليو ووصلت إلى بحر مرمرة، كما إحتلت أدريانويل شمال إستانبول. وفي العاشر من أغسطس إستسلم السلطان ووافق على شروط الصلح وبهذه الخطوة أصبح مصطفى كمال هو الزعيم الحقيقي للبلاد.

ولقد جاء قرار اليونان بالقيام بعمليات حربية في الأناضول نتيجة للموقف السياسي المعقد الذي كانت فيه بسبب إستمرا الصراعات التي كانت قائمة خلال سنوات الحرب. وعندما إنتهت الحرب أصبحت في حالة أفضل فهي في جانب الحلفاء المنتصرين وإنهزم أعداؤها الأساسيين بلغاريا والدولةالعثمانية, فكانت تنتظر أن تكافاً بضم أراضي لها وخاصة جنوبي ألبانيا. وعلى هذه ذهب فينزيلوس رئيس الحكومة إلى باريس لحضور مؤتمر الصلح في فرساي وظل هناك عامين لكي يحصل على ضمانات لسياساته. ورغم أنه تمكن من التأثير على الحلفاء لنصرة قضيته إلا أن قوته الإنتخابية في لباده تلاشت خاصة وقد جرف بلاده إلى مخاطر المعارك في الأناضول مع الأتراك. رغم أنه كان في البداية ومعه قادة الجيش يعارض الإقدام على تلك المعارك دون إشتراك قوات من جيوش الحلفاء, إلا أنه تصرف في النهاية ضد كل هذه المحاذير وخلافاً لنصائح العسكريين وإستجاب لدعوة إنجلترا بدعوى تحقيق طموحات قومية في آسيا الصغرى.

على أن المغامرات العسكرية لرئيس حكومة اليونان فنزيلوس لم تكن مفهومة فهماً كاملاً داخل بلاده, فاليونانيون مثلاً كانوا يؤيدون إحتلال أزمير ولكنهم لم يؤيدوا الحملات التوسعية الأخرى داخل الأناضول. ولأن الحرب أتعبتهم وأنهكتهم فقد طالبوا بإنهاء التعبئة العسكرية وعودة عساكرهم وعددهم 300 ألف عسكري. ومن ناحية أخرى كان أنصار الملك في إنتقاد دائم ومتواصل لفنزيلوس وسياساته, ولم يكن بإمكان الرجل وهو في باريس أن يشرح أهدافه لناخبيه ولأبناء بلده. وفجأة وعلى حين غرة وقعت البلاد في أزمة دستورية عندما مات ألكسندر في أكتوبر 1920 متأثراً من عضة قرد, وإنتقل العرش لأخيه الأصغر الأمير باول Paul الذي رفض مقولة أن أباه الملك السابق قسطنطين لم يتنازل عن العرش وقد نتج عن ذلك إجراء إنتخابات برلمانية في ديسمبر 1920 كانت بمثابة الإستفتاء على عودة الملك قسطنطين الذي يمثل الوجه العكسي لسياسة فينزيلوس رئيس الحكومة.

والحاصل أن أنصار الملك السابق قطسنطين قاموا بحملة نشطة لصالحه إنتهت بهزيمة فينزيلوس هزيمة نكراء, فلم ينجح في الإنتخابات,ولم يحصل حزبه الليبرالي إلا على 120 مقعداً من اصل 370 رغم أن أنصاره من خارج الحزب حصلوا على 2% من إجمالي الأصوات. ولقد شعر الرجل وهو الفخور بنفسه بالإهانة الشديدة ومن ثم غادر البلاد بعد ثلاثة أيام من الإنتخابات, وبعد شهر عاد قسطنطين إلى أثينا ظافراً منتصراً. على أن تغيير الحكومة لم يكن يعني التخلي عن سياسة فينزيلوس تجاه تركيا, ذلك أن العناصر الملكية التي كانت تعارض تلك السياسة وتنتقدها وجدت نفسها في غمار موجة من الحماس عمت البلاد بأمل تحقيق "الفكرة الكبرى" عن طريق سحق العدو التركي بشكل نهائي.

وعلى هذا وفي 1921 شنت القوات اليونانية في الأناضول حملة أخرى على القوات التركية التي أخذت في التقهقر تدريجياً إلى الداخل وإستدرجت وراءها الجيش اليوناني إلى أعماق الأناضول في منطقة معادية لا يمر فيها إلا خط سكة حديد مفرد وخطوط إتصال أخرى ممتدة. وفي 24 أغسطس قرر مصطفى كمال بصفته المسئول عن العمليات التركية أن يحشد قواته بطول ضفة نهر سقاريا وسط الأناضول حيث ظل اليونانيون يهاجمون القلاع التركية على النهر لمدة أسبوعين, ودارت معركة وحشية خسر فيها الطرفان نصف قواتهما وأخيراً إضطرت القوات اليونانية إلى الإنسحاب في 16 سبتمبر (1921).

على أن إنتصار الجيش التركي على الغزاة اليونانيين جعل من مصطفى كمال بطلاً مركزياً عظيماً وأهم شخصية سياسية دون متنازع في البلاد, وأصبحت السلطة الحقيقية معه وأتباعه في أنقرة التي أصبحت العاصمة القومية ولم تعد في يد السلطان في إستانبول. وأكثر من هذا أنه قاد حملة دبلوماسية ماهرة إنتهت بإيقاع الشقاق بين الدول العظمى بحيث تحركت إنجلترا واليونان بمفردها لفرض شروط معاهدة سيفر. كما نجح في عقد إتفاق عسكري مع حكومة البلاشفة في روسيا في أبريل 192. وفي أكتوبر تمكن من قمع دولة أرمينيا المستقلة التي كانت قد أعلنت من قبل, وأقدم على عقد معاهدة صلح مع روسيا أرجع بمقتضاها باطوم للروس, وإحتفظ بكل من قارص وأردهان التي كانت روسيا قد إستولت عليهما في 1878 بمقتضى معاهدة برلين. وبهذا الإتفاق نجح مصطفى كمال في تأمين الجبهة الشرقية, وفي مارس 1921 نجح في إقناع إيطاليا بالجلاء عن جنوب غربي الأناضول في مقابل تقديم إمتيازات إقتصادية.

وإستمر مصطفى كمال في إحراز نجاحات دبلوماسية بعد إنتصاره في معركة سقاريا ففي أكتوبر 1921 خرجت القوات الفرنسية من إقليم كليكا في مقابل إمتيازات إقتصادية. بحلول أكتوبر 1921 كانت كل من إيطاليا وفرنسا وروسيا قد عقدت إتفاقيات مع مصطفى كمال وليس مع السلطان العثماني الذي لم يعد يؤيده إلا إنجلترا واليونان. ولم يعد أمام مصطفى كمال من عقبة أخيرة إلا الجيش اليوناني في الأناضول الذي كان مدعوماً بوجود قوات إنجليزية في إستانبول.

وفي أغسطس 1922 شن مصطفى كمال حملة على القوات اليونانية بالأناضول إتسمت بدرجة فائقة من التنظيم والتنسيق وإنتهت بإنهيارا يأساً وإنهاكاً. وفي التاسع من سبتمبر تمكن الجيش التركي من دخول أزمير, وفي الرابع عشر من سبتمبر أطلقت نيران المدافع على تلك المدينة الغنية لإخافة اليونانيين ثم إتجهت الأنظار إلى شرق تراقيا وكانت إنجلترا قد أخفقت في مساعيها لإقناع إيطاليا وفرنسا بالدفاع عن تلك المنطقة. وبإخفاق الحلفاء في فرض معاهدة سيفر إستعادة القوات التركية سيطرتها على كل من شرق تراقيا وإستانبول والمضايق. وفي أول أكتوبر 1922 أعلن البرلمان التركي إنهاء نظام السلطنة ولم يجد السلطان محمد السادس إلا الفرار من البلاد على ظهر بارجة حربية إنجليزية. وأصبحت معاهدة سيفر في حكم العدم, وأصبح المناخ مهيئاً لعقد إتفاقية جديدة مع مندوبين أتراك أحرزت قواتهم نصراً عظيماً.

وعلى هذا بدأت مفاوضات جديدة في سويسرا في نوفمبر 1922 إنتهت بمعاهدة لوزان في يوليو 1923 وبمقتضاها إستعادت تركيا ممتلكاتها في الأناضول وشرق تراقيا والمضايق وجزيرتي تندوس وإمبروز, ولم تفرض عليها تعويضات بل لقد ألغيت الإمتيازات التي كانت مثار كثير من المشكلات للإمبراطورية العثمانية. وتركزت معظم المناقشات أثناء التفاوض حول المضايق حيث نجحت إنجلترا في التوصل إلى تسوية في صالحها رغم جهود السوفييت والأتراك حيث تقرر ألا تكون المضايق منطقة عسكرية, وأن يكون المرور فيها متاحاً لكل أنواع السفن والمراكب إلا إذا أصبحت تركيا في حالة حرب, ولا يسمح لأي دولة بإرسال مراكب إلى البحر الأسود تزيد حمولتها على مراكب روسيا التي هي اضخم قوة بحرية هناك بإستثناء إنجلترا وفرنسا اللتان أصبح لهما حق إدخال مراكب ذات حمولة مضاعفة لحمولة المراكب السوفيتية.

وفي 29 أكتوبر 1923 أعلنت الجمهورية التركية وإنتخب مصطفى كمال رئيساً لها وإنتقلت العاصمة بصفة دائمة إلى أنقرة. وفي أبريل 1924 تم وضع دستور جديد قرر أن السلطة الأساسية في الدولة في يد الجمعية التشريعية التي إنتخب أعضاؤها إنتخاباً عاماً من الذكور فقط, وإختارت الجمعية الرئيس اذلي إختار بدوره مجلس للوزراء, وأصبح مصطفى كمال هو الشخصية المهيمنة على المشهد السياسي خلال السنوات التالية.

أما الخاسر الحقيقي في معارك الأناضول فكان اليونانيين إذ إنتهى الأمر بإجلائهم من عدة مناطق كانوا يقيمون فيها على مدى ألفين وخمسمائة عاماً. ومن ناحية أخرى أدى إحتراق أزمير إلى هروب كثير من اليونانيين إلى أثينا وإضطرت الحكومة اليونانية إلى تشكيل لجنة من عسكريين وسياسيين لتحديد المسئول عن تلك الكارثة القومية. وعندما طالبت تلك اللجنة من قسطنطين التنازل عن العرش إنسحب من المسرح لصالح إبنه الذي تولى العرش بإسم جورج الثاني في سبتمبر 1922. كما تشكلت لجنة أخرى للتحقيق في كارثة الأناضول إنتهت بإتهام ثمانية وزراء ومستشارون عسكريون قدموا للمحاكمة حيث ثبت أنهم مذنبون. وفي 28 نوفمبر أعدم القائد العام للجيش وخمسة وزراء رومياً بالرصاص وكان إجراء غاية في القسوة صدم مشاعر كل من اليونانيين والأوروبيين.

وكان من نتيجة الهزيمة العسكرية لليونان والغليان الداخلي أن ضعف موقف المفاوض اليوناني في لوزان ولم يقتصر المر على فقدانها بلاداً كثيرة تحت سيطرتها بل لقد فرض عليها توقيع معاهدة لتبادل السكان بينها وبين تركيا حيث تقرر طرد كل من اليونانيين فيما عدا غرب تراقيا على الهجرة إلى تركيا. ولقد تأثر بهذه الإجراءات حوالي مليون ونصف مليون يوناني وأربعمائة ألف مسلم معظمهم أتراك فضلاً عن بعض اليونانيين وأقليات عرقية أخرى, وكان حلاً خشناً ومتطرفاً والأول من نوعه في التاريخ الحديث, وإن كانت له ميزة واحدة لليونان تمثلت في إستيطان كثير من يوناني في الأناضول في مقدوينا التي حصلت عليها اليونان في التسويات وما زال بعضهم يحمل سمات يونانية.

ورغم أن اليونان فقدت أغلبيتها العرقية في غرب الأناضول إلا أنه يجب ألا ننسى أنها إستولت على غرب تراقيا من بلغاريا وتلك هي الإيجابية الوحيدة التي خرجت بها من الحرب, ذلك أنها أصبحت عاجزة عن التمسك بغدعاءاتها في جنوبي ألبانيا بسبب عدم تأييد الحلفاء لها حيث قرروا إعادة دولة ألبانيا المستقلة إلى الوجود بحدودها التي كانت عليها قبل الحرب.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ألبانيا

تاريخ ألبانيا
 

كانت ألبانيا، مثل باقي بلاد البلقان، قد واجهت أوضاعاً صعبة عند نهاية الحرب العظمى فقد كانت مهددة دائماً بتقسيمها بين جيرانها, وتوقف مصيرها على قرارات الدول الكبرى. وفي هذا الخصوص ينبغي أن نتذكر أن ألبانيا أصبحت دولة مستقلة عام 1913 فقط ومنذ ذلك التاريخ واجهت إضطرابات وإنشقاقات سياسية داخلية إنتهت بإسقاط الحكومة وطرد أول حاكم لها وليام الفايدي William of Wied في 1914, وعادت البلاد إلى الحالة التي كانت عليها لقرون طويلة, وأصبح كل إقليم وكل جماعة وكل قبيلة تسعى لحماية مصالحها الخاصة, ولم يتخذ أي منهم موقفاً موحداً ضد التدخل الأجنبي. وإنتهت اليونان والصرب والجبل الأسود الموقف لتستعيد كل منها الأراضي التي ضمنت لألبانيا من كل منها عام 1913, حيث سارعت اليونان بإحتلال جنوبي ألبانيا بموافقة الحلفاء وعلى أساس أنها سوف تتركها فيما بعد, إلا أن اليونان أعربت عن عدم إلتزامها بهذا الرأي. وأكثر من هذا أنه في عام 1916 تم إنتخاب نواب منالمنطقة (جنوبي ألبانيا) لبرلمان اليوناني يعد ضمها رسمياً لليونان أصرت على أنها تلك منطقة يونانية غرقياً. وقد إستندت في ذلك على أن هناك يونانيون يعيشون فيها, بل إن الألبان أنفسهم كانوا يعتبرون يونانيين لأنهم يتعلمون في المدارس اليونانية إذا كان أرثوذكس, أو يعرفون اللغة اليونانية, وهي سياسة إتبعتها اليونان في إقليم مقدونيا.

كما تصرف الصرب والجبل الأسود بطريقة مشابهة لما قامت به اليونان تجاه ألبانيا حيث قامت بإحتلال شمال نهر درين Drim في 1914-1915 لإيجاد مخرج لهما على البحر الإدرياتي. وفي تلك الأثناء تحركت إيطاليا هي الأخرى لتضع يدها على المناطق التي ترى أنها من حقوقها حيث إحتلت جزيرة سازينو وميناء فلوره في أكتوبر-ديسمبر 1914. ورغم أن الصرب والجبل الأسود خرجتا من المناطق الألبانية التي إحتلتهما أمام ضغط دول الوسط آنذاك إلا أنهما كانا يأملان في غعادة ضمها في حالة إنتصار الحفاء.

ويلاحظ أن تفكيك ألبانيا على ذلك النحو كان قد تقرر في معاهدة لندن 1915 بين الحلفاء حيث تحصل إيطاليا على جزيرة سازينو وميناء فلور وما حوله, وإذا ما أخذت إيطاليا ترنتينو وإستريا ودلماشيا تأخذ اليونان جنوبي ألبانيا وتقتسم الصرب والجبل الأسود معاً شمالي ألبانيا, وتنشئ اليونان والصرب منطقة حدود مشتركة غرب بحيرة أوهريد تخترق إقاليم ألبانيا المضمومة, ويصبح الجزء الأوسط منها حكومة ذاتية وليست دولة مستقلة وتتولى إيطاليا تمثيل مصالحها في الشؤون الخارجية.

وخلال المفاوضات الطويلة في مؤتمر الصلح في فرساي حول الحدود بين إيطاليا ويوجوسلافيا تم تقرير مصير ألبانيا بشكل نهائي حيث وافقت إيطاليا على أن تتخلى عن إدعاءاتها في ألبانيا فيما عدا جزيرة سازينو وميناء فلوره وفي مقابل الحصول على ميناء فيومه. وكان هذا يعني بعبارة أخرى أن ميناء فيومه الذي يبلغ سكانه 46391 نسمة منهم 24212 إيطالياً أكثر أهمية لإيطاليا من الإستيلاء على ألبانيا اليت يبغ سكانها 800 ألف نسمة. ويلاحظ أن الرئيس الأمريكي ولسن كان وحده يحارب أثناء المفاوضات ضد تطبيق معاهدة لندن الخاصة بتقسيم ألبانيا ولم تكن بلاده طرفاً فيها. وفي المفاوضات أيضاً إتبعت كل من اليونان والصرب سياستهما التقليدية فيما عدا أن اليونان كان يمكن أن تتفق مع إيطاليا, ولكن الصرب عارضت بشدة إيجاد حكومة ألبانية ما تكون تحت سيطرة إيطاليا.

وعندما أدرك الألبان الخطر اذلي يحيق ببلادهم قرروا التحرك السياسي, وعقدت مجموعة مرموقة من شخصياتهم مؤتمراً قومياً في يناير 1920 إنتهى في مارس بالدعوة إلى عقد "جمعية قومية تشريعية في تيرانا", وهناك تشكل مجلس وصاية على العرش, وتشكل الجيش, وفي الوقت نفسه تم تنظيم الألبان المهاجرين في بلاد أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية لربطهم بقضية الوطن الأم, وفد منهم إلى باريس حيث مؤتمر الصلح لعرض قضية إستعادة وحدة بلادهم وإنقاذهم من التقسيم, ومرة أخرى كانت الولايات المتحدة في مؤتمر الصلح أكثر الأعضاء تحمساً لقضية الألبان.

على أن قرار الحلفاء الأخير بشأن إعادة ألبانيا إلى وجود نتيجة المناقشات الطويلة حول مسومة إيطاليا بشأن أن تأخذ مينلء فييوميه مقابل أن تتنازل عن كامل إدعاءاتها في ألبانيا. وهكذا وفي أغسطس 1920 أعلن وزير خارجية إيطاليا الكونت كارلو سفورزا Sgroza إعادة ألبانيا بحدودها التي كانت عليها عام 1913 بما فيها جزيرة سازينو وميناء فلور, وبعدها غادر الجيش الإيطالي ألبانيا. غير أن اليونان والصرب كانتا غير راغبين في التخلي عن نفوذهما في المنطقة رغم موافقتهما الرسمية على ذلك الحل, ومن ثم وجدنا أن الصرب في 1921 تساند ثورة ميرديتي Mirdite التي إندلعت في شمال ألبانيا ولم ترجع عن هذا إلا تحت ضغط الحلفاء. وأما اليونان فقد تخلت عن إحتلالها لجنوبي ألبانيا إضطراراً بعد أن أصبحت ضعيفة بخروجها من الأناضول. وهكذا وبحلول عام 1922 كانت ألبانيا قد أصبحت خالية من النفوذ الأجنبي وهو وضع إستمر حتى 1925 حين أعادت إيطاليا نفوذها في المنطقة من جديد.

وفي تلك الأثناء كانت ألبانيا قد بدأت في تنظيم حكومتها وقد قادتها مشروع دستور جديد في مؤتمر لوشنيه Lushnje في يناير 1920 بدلاً من يأخذوا بالنصوص التي تمت صياغتها عام 1914. وقررت الجمعية التشريعية التي تتكون من 56 عضواً أن تكون الدولة ملكية دستورية, وأن يتولى "المجلس الأعلى للدولة" وظائف الملك إلى أن يتم إختياره, وكان المجلس يتكون من أربعة أشخاص أوصياء على العرش إثنان منهم من المسلمين أحدهما من الالطريقة البكتاشية السنية الصوفية, والآخران من المسيحيين أحدهما أرثوذكسي والآخر كاثوليكي. ولمساعدة هذا المجلس تقرر تعيين مجلس وزراء يكون مسئولاً ليس أمام مجلس الوصاية وإنما أمام مجلس الشيوخ المكون من 37 عضواً والذي أعطيت له السلطة الرئيسية في البلاد. كما تشكلت جمعية وطنية من حيث المبدأ لم تحدد صلاحياتها وعدد أعضائها إلا في عام 1922. وفي أبريل 1921 أجريت الإنتخابات, وفي 1922 تم تعديل دستور لوشنيه, وتم تحديد عدد أعضاء الجمعية الوطنية ب 78 عضواً يتم إنتخابهم لمدة أربع سنوات بمعرفة كل المواطنين الذكور. ثم إتخذت إجراءات أكثر فاعلية لتقوية السلطة التشرعية على حساب مجلس الوصاية وفي هذا الإطار تم تشكيل نظام قضائي مستقل.

على كل حال ففي اثناء فترة الحكم الدستوري تكونت أحزاب سياسية حول مصالح محددة دون نضج فكري, فمثلاً كان مؤتمر لوشنيه تحت سيطرة سليمان بك دلفينا Delvina وكان أنصاره الذين يطلق عليهم الليبراليون يسعون للتخلص من الألبان الذين كانوا يعملون سابقاً في الإدارة العثمانية وكان هؤلاء يمثلون مصالح كبار الأراضي الزراعية المحافظين وعلى صلة وثيقة بهم. وبعد إنتخابات 1921 نشأت أحزاب أخرى منها الحزب الديموقراطي الذي كونه الأسقف فان نولي Fan Noli, ولويجي كوراجوقي Luigi Guarkuqi, والحزب الشعبي بزعامة صفي فلاماشي Sefi V;amashi, وأشرف فراشيري Eshref Frasheri. وكان رجال تلك الأحزاب جميعاً يفضلون الإصلاح الإقتصادي والإجتماعي والسياسي وإدخال نظم المؤسسات الغربية إلى بلادهم وجاءت المعارضة التي واجهتهم بشكل رئيسي من "المحافظين" بقيادة شفقت فرلااشي Shefqet Verlaci, وأحمد زوغو Zogu الذين وقفوا إلى جانب مصالح كبار ملاك الأراضي الزراعية وكبار رجال الدين ورفضت من ثم الإصلاح الزراعي.

وسرعان ما إتضحت أوجه نقص الخبرة السياسية في الدولة الجديدة التي برهنت على إستحالة المحافظة على إستقرار الحكم. وهكذا وفي يونية 1924 تزعم الأسقف نولي ثورة تم قمعها بثورة مضادة قام بها الجناح المحافظ بقيادة أحمد زوغو بمساعدة من يوجوسلافيا, وفي 1925 أصبح زوغو رئيساً للبلاد, وبادر بوضع دستور جديد, وفي 1928 أصبح ملكاً, واصبحت البلاد تخضع لنظام ملكي دكتاتوري بحماية إيطالية.

المصادر

  • عاصم الدسوقي (2007). تفكيك اوروپا العثمانية. القاهرة، مصر: دار الثقافة الجديدة. {{cite book}}: Cite has empty unknown parameter: |coauthors= (help)